لماذا تفضل أدمغتنا المحتوي الورقي عن المحتوي الرقمي؟

يستخدم القُراء الكبار اليوم أجهزة الكمبيوتر على نطاق واسع لسنوات عديدة. ومع ذلك، عندما يحتاج المرء إلى دراسة نص ما بشكل شامل، لا يزال هناك تفضيل قوي تجاه المحتوى الورقي عن المحتوى الرقمي المباشر من شاشة الكمبيوتر. يمكن للمرء أن يفترض أن هذا التردد هو مسألة تجربة. ومع ذلك، حتى مستخدمي الكمبيوتر ذوي الخبرة العالية ما زالوا يفضلون الطباعة. و في دراسة استقصائية أجريت عام 2011 لطلاب الدراسات العليا في جامعة تايوان الوطنية، ظهر اتجاه مفاجئ، حيث أفاد غالبية هؤلاء الطلاب أنهم عادة ما يتصفحون بضع فقرات فقط من موضوع ما عبر الإنترنت قبل طباعة النص بأكمله لقراءة أعمق.

منذ تسعينات القرن العشرين، و يشتعل سجال بين مدرستين فكريتين حول موضوع النصوص الإلكترونية. الأول يرى أن الورق أفضل بكثير ولن يتم استبداله بالشاشات أبدًا. و يتم دعم هذه الحجة في كثير من الأحيان بالإشارة إما إلى نوع سيناريوهات القراءة التي قد يكون من الصعب (وقتها)، إن لم يكن من المستحيل، دعمها بشكل مقبول بالنص الإلكتروني، على سبيل المثال، قراءة صحيفة على الشاطئ أو مجلة على السرير، أو الصفات اللمسية الفريدة للورق. أما المدرسة الثانية ففضلت استخدام النص الإلكتروني، مشيرة إلى سهولة التخزين والاسترجاع، وتوفير الموارد الطبيعية كحوافز رئيسية. وتري وفقًا لهذا المنظور، سيحل النص الإلكتروني قريبًا محل الورق، وفي وقت قصير سنقرأ جميعًا من الشاشات كنوع من العادة.

منذ ذلك الحين، تعمقت موجة من الأبحاث في الفروق الدقيقة بين القراءة على الورق مقابل الشاشات. لقد استكشفت أكثر من مائة دراسة، تشمل علم النفس وعلوم الكمبيوتر وعلوم المكتبات والمعلومات، هذه الاختلافات. و تشير النتائج باستمرار إلى أن القراءة على الشاشات تبطئنا وتعيق قدرتنا على الاحتفاظ بالمعلومات. ومع ذلك، مع التقدم في تكنولوجيا الشاشات، تكشف الأبحاث عن صورة أكثر دقة. على الرغم من هذه التطورات، تشير الدراسات الاستقصائية الأخيرة إلى أن الورق يظل الوسيلة المفضلة لمهام القراءة المركزة.

كيف يفسر الدماغ اللغة المكتوبة؟

لعلك تساءلت يوما، كيف يمكن لأدمغتنا تحويل خليط من التمايلات الموجودة على صفحة إلى عالم من المعرفة؟ إن فك رموز اللغة المكتوبة إنجازًا رائعًا يتم تنسيقه بواسطة شبكة معقدة في دماغنا، تقع بشكل أساسي في النصف الأيسر من الدماغ.

تبدأ الرحلة في القبو البصري، وهو مكان عميق في الجزء الخلفي من دماغك يسمى الفص القذاليoccipital lobe“. هنا، يتم التعرف على الحروف والكلمات لأول مرة. بعد ذلك، ينتقل التحقيق إلى تقاطع حرج حيث يلتقي الفص الصدغيTemporal lobe” والقذالي. هذا هو التلفيف الزاويangular gyrus“، وحدة فك التشفير الرئيسية للدماغ. هنا، يتم تحويل الحروف المكتوبة إلى الأصوات المقابلة لها بناءً على معرفتك بالصوتيات وقواعد التهجئة. تتجه الحالة الآن إلى منطقة بروكا “Broca’s area“، وهي منطقة تقع في الجزء الأمامي من دماغك. تشبه منطقة بروكا مكتبة عقلية عملاقة، مليئة بالتعريفات وتاريخ عدد لا يحصى من الكلمات. حيث تساعد على تنشيط المعرفة المخزنة بالكلمات ومعانيها.

وأخيرًا، تتجمع القطع معًا في منطقة فيرنيك “Wernicke’s area“، وهي جزء حيوي آخر من الفص الصدغي. وتعتبر منطقة Wernicke هي العقل المدبر، و الذي يجمع كل شيء معًا. فهو يأخذ الأصوات والمعاني من مكتبة بروكا، إلى جانب معلومات حول بنية الجملة (مثل القواعد)، ويبني صورة كاملة لما تحاول الرسالة قوله.[1]

هل نولد قارئين مفضلين المحتوى الورقي عن المحتوى الرقمي ؟

على عكس القدرات المعرفية الأخرى، القراءة ليست شيئًا نولد به. وذلك لأن الكتابة هي اختراع حديث نسبياً في تاريخ البشرية التطوري، ظهر حوالي عام 4000 قبل الميلاد. ونتيجة لذلك، يجب على أدمغتنا أن تتكيف مع الدوائر العصبية الموجودة للتعامل مع هذه المهارة الجديدة أثناء الطفولة. يتم تجميع هذه الدائرة المبتكرة معًا من مناطق مختلفة من الأنسجة العصبية في الدماغ المخصصة بالفعل لوظائف أخرى، مثل الكلام والتنسيق الحركي والرؤية.

إن أدمغتنا متعددة الاستخدامات بشكل لا يصدق، فهي قادرة على تكييف الشبكات العصبية الموجودة لخدمة أغراض جديدة. مثلما تتخصص مناطق معينة في الدماغ في التعرف على الأشياء، مما يسمح لنا بالتمييز الفوري بين التفاحة والبرتقالة بناءً على سماتها المميزة وتصنيفهما على أنهما فاكهة، فإن أدمغتنا تتكيف أيضًا مع مهمة القراءة والكتابة. عندما نتعلم القراءة، نبدأ في التعرف على الحروف بناءً على ترتيباتها الفريدة من الخطوط والمنحنيات والمساحات – وهي عملية تتضمن مدخلات بصرية وملموسة. وفي دراسة أجريت على أطفال في سن الخامسة، وجد <ستانيسلاس ديهين> من جامعة هارفارد أن دوائر القراءة تنشط عندما يكتب الأطفال الحروف باليد، بدلا من كتابتها على لوحة المفاتيح. وبالمثل، عند قراءة النصوص المعقدة، حيث يحاكي الدماغ حركات الكتابة حرفًا تلو الآخر، حتى في غياب حركات اليد الفعلية.[2]

طبوغرافيا وخرائط ذهنية للنصوص

اقترح كلا من <ستيفن باين> و <ويليم ريدر> في دراسة نشرت عام 2006 في مجلة “International Journal of Human-Computer Studies” أنه في العديد من سياقات استخدام النص، يحتاج الأشخاص إلى استشارة التمثيل العقلي للتخطيط بين محتوى المستندات وبنيتها. و لقد قاموا بإعداد ثلاث تجارب تبحث في بناء واستخدام مثل هذه “الخرائط الهيكلية” أو ” الخرائط الذهنية”. في كل تجربة، قرأ الأشخاص نصوصًا متعددة عبر الإنترنت حول نفس الموضوع، ثم بحثوا عن أجزاء محددة من المعلومات في تلك النصوص. وتمت مقارنة أداء البحث مع الأشخاص الذين لم يقرؤوا النصوص.[3]

كان الأشخاص الذين قرأوا نصوصًا متعددة، إلى حد ما، قادرين على تذكر مكان وجود المعلومات في النصوص كما هو موضح في المواقع التي بحثوا فيها لأول مرة أو عدد الصفحات المفتوحة أثناء البحث. وجدوا أيضًا أن قُرَاء النصوص المتعددة كانوا قادرين على العثور على الحقائق في تلك النصوص بشكل أسرع من الأشخاص الذين لم يقرؤوا النصوص، وأن هذا التسريع لم يكن تأثيرًا بسيطًا للقراءة الأسرع أثناء البحث عن الحقائق أو معرفة أكبر بالموضوع العام.

حدثت هذه التأثيرات العرضية للقراءة سواء تم تحذير المشاركين قبل القراءة أم لا بأنهم سيضطرون لاحقًا إلى البحث في النصوص ولن يتعرضوا للخطر بسبب التحولات في مظهر النص (عمود مزدوج إلى عمود واحد) التي عطلت مواضع الحقائق على الصفحات. وتم الاستنتاج بأن القراء يقومون تلقائيًا ببناء خرائط ذهنية لنصوص إلكترونية متعددة، حتى عندما يركز هدف قراءتهم على تجريد المعنى عبر المصادر. و من المحتمل أن تلعب الخرائط الهيكلية دورًا حيويًا في العديد من جوانب استخدام النص، مثل إعادة القراءة وتحديث المعرفة.

ولنجعل الاستنتاج أكثر بساطة. تخيل غابة خضراء ذات مسار متعرج. أثناء التنزه سيرًا على الأقدام، ستلاحظ وجود مزرعة حمراء نابضة بالحياة على حدود رأس المسار، يليها جبل شاهق. وبالمثل، عندما تنغمس في رواية مثل رواية “كبرياء وتحامل” ل<جين أوستن>، يمكنك أن تتذكر بوضوح توبيخ السيد <دارسي> ل<إليزابيث> أثناء الرقص، المحفور في الزاوية اليسرى السفلية من الصفحة اليسرى في الفصل الثاني.

و على عكس النص الرقمي، توفر الكتب المادية تضاريس مميزة تساعد في تكوين الذاكرة وهو ما يدعي ب “Haptic attributes“. يقدم الكتاب المفتوح نفسه كمشهد طبيعي يحتوي على حقلين بارزين – الصفحات اليمنى واليسرى – وثمانية زوايا إرشادية. يتيح لك هذا التخطيط الملموس التركيز على صفحة واحدة دون إغفال السياق العام. ويمكنك أيضًا الشعور بسمك الصفحات التي قلبتها، والتمييز بين المقروءة وغير المقروءة. إن تقليب الصفحات يشبه ترك أثر من آثار الأقدام، فكل صفحة علامة على طول رحلتك الأدبية. هذا السجل المادي للتقدم لا يسهل التنقل فحسب، بل يعزز أيضًا تكوين خريطة ذهنية متماسكة لمحتوى الكتاب. قد يدفع ذلك عقولنا مباشرة لتفضيل المحتوى الورقي عن المحتوى الرقمي على الفور.

يتجاوز العقل البشري مجرد معالجة الحروف الفردية كأشياء مادية. فهو يتمتع بقدرة رائعة على إدراك النص ككل، على غرار المشهد البصري. أثناء انشغالنا بقراءة مقطع ما، نقوم في نفس الوقت ببناء تمثيل ذهني له. على الرغم من أن الطبيعة الدقيقة لهذه التمثيلات لا تزال بعيدة المنال، إلا أن بعض الباحثين يعتقدون أنها تشبه الخرائط الذهنية التي ننشئها للتنقل في المساحات المادية، مثل المناظر الطبيعية مع الجبال والممرات أو البيئات الداخلية مثل الشقق والمكاتب.[3]

التنافر Haptic dissonance

تعتمد أدمغتنا بشكل كبير على اللمس (haptics) لفهم العالم. عندما نقرأ كتابًا ماديًا، فإن ملمس الورق، والوزن في أيدينا، وقلب الصفحة المُرضي، كلها تعمل معًا لخلق تجربة متعددة الحواس. وهذا يعزز ما نقرأه ويساعدنا في بناء صورة ذهنية أقوى للقصة. لكن الأجهزة الرقمية غالبا ما تفتقر إلى هذه العناصر اللمسية. يمكن أن تتعارض الشاشة الزجاجية الناعمة والصنابير الصامتة مع الصور التي نحاول بناءها في أذهاننا، مما يؤدي إلى انفصال – التنافر اللمسي ” Haptic dissonance“. هذا ليس مجرد إزعاج بسيط. حيث تشير الدراسات إلى أن التنافر اللمسي يمكن أن يعيق في الواقع فهمنا للقراءة والاستمتاع بها، خاصة عندما يتعلق الأمر بالقصص التي تعتمد بشكل كبير على التفاصيل الحسية.[4] يزيد هذا التنافر من تفضيلنا المحتوى الورقي عن المحتوى الرقمي بالطبع.

وقد بين كلا من <كريشنا> و<مورين> (2008) بالتحقيق في تأثير التوجه اللمسي الفردي على تقييم المنتج. وبشكل أكثر دقة، قاموا بتحليل تقييم المياه المعدنية، المقدمة في أكواب أو زجاجات ذات جودة عالية أو منخفضة الجودة. ووجدوا أن عبوة المنتج أو حاوية التقديم يمكن أن يكون لها تأثير على أحكام جودة المياه. وأوضحوا أن نفس المحتوى، الذي يتم تسليمه في عبوة ذات لمسيات مختلفة، يمكن تقييمه بشكل غير متساوٍ من قبل العملاء. [5]

إجهاد وبطء في الفهم

تجربة مانجن

تشير الدراسات، مثل تلك التي أجراها <مانجن> وزملاؤه في جامعة ستافنجر النرويجية، إلى أن هذا التنافر اللمسي، وعدم التطابق بين إدراكنا البصري واللمسي، يمكن أن يعيق فهم القراءة. في دراستهم، طُلب من طلاب المدارس الثانوية قراءة نص سردي وتفسيري، نصفه على الورق ونصفه الآخر على ملفات PDF. وكان أداء أولئك الذين قرأوا على الورق أفضل، ربما لأنهم تمكنوا بسهولة من التنقل في النص بأكمله، وإنشاء خريطة ذهنية تساعد على الفهم.[6]

كما يوضح مانجن، “إن سهولة العثور على البداية والنهاية وكل شيء بينهما، بالإضافة إلى اتصالك المستمر بمسارك وتقدمك من خلال النص، قد يسمح لك بطريقة أو بأخرى بالاقتصاد في جهودك المعرفية واستثمار ما تبذله من جهد في تقوية قدرتك على الفهم.”

تجربة فيستلوند

في إحدى الدراسات التي أجراها الباحث <فيستلوند> من جامعة كارلستاد بالسويد، كان أداء المشاركين الذين أجروا الاختبار على الكمبيوتر أسوأ وأفادوا أنهم شعروا بالتوتر والتعب أكثر من أولئك الذين أجروا نفس الاختبار على الورق.

حيث تم إعطاء 82 متطوعًا اختبارًا لفهم القراءة على جهاز كمبيوتر، إما بصفحات مرقمة أو بالتمرير المستمر. ثم قام الباحثون بتقييم انتباههم وذاكرتهم العاملة، وهي القدرات العقلية التي تسمح لنا بتخزين المعلومات ومعالجتها بشكل مؤقت. وكان على المتطوعين إغلاق النوافذ المنبثقة بسرعة أو تذكر الأرقام الوامضة. ومن المثير للاهتمام، أنه في حين كان الأداء في اختبار القراءة نفسه متشابهًا بين المجموعتين، فإن أولئك الذين مرروا النص غير المرقم كان أداؤهم أسوأ في مهام الانتباه والذاكرة العاملة. و يعتقد <فيستلوند> أن التمرير، الذي يتطلب اهتمامًا مركزًا على كل من النص وإجراء التمرير، يستنزف موارد عقلية أكثر من الإجراءات الأبسط والأكثر تلقائية المتمثلة في قلب الصفحة أو النقر. كلما زاد تحويل الاهتمام إلى التنقل، قل ما تبقى للفهم.[7]

تأثير استبدال الورق بالشاشات فى سن مبكر

إن الدراسات الحديثة تشير إلى أن استبدال الورق بالشاشات في سن مبكرة قد يكون له آثار ضارة لا ينبغي إغفالها. ففي دراسة أجريت عام 2012 في مركز “كوني” في نيويورك، الذي شمل 32 زوجًا من الآباء والأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين 3 إلى 6 سنوات، أن الأطفال الذين قرأوا قصصًا من الكتب الورقية كان لديهم تذكر أفضل للتفاصيل مقارنة بأولئك الذين استمعوا إلى نفس القصص من الكتب الإلكترونية التفاعلية مع الرسوم المتحركة. لقد أدت عوامل التشتيت الناتجة عن هذه الميزات الرقمية إلى تحويل انتباه الأطفال بعيدًا عن السرد ونحو الجهاز نفسه. وقد أيدت دراسة استقصائية لاحقة أجريت على 1226 من الآباء هذه النتيجة، حيث أشارت الأغلبية إلى أنهم وأطفالهم يفضلون الكتب المطبوعة على الكتب الإلكترونية عند القراءة معًا. وذلك لعد اضطرارهم على إيقاف قراءتهم الحوارية المعتادة مرارا وتكرارا لمنع أطفالهم من إضاعة الوقت في اللعب بالأزرار، الأمرالذي كان يؤدي إلى انقطاع سلسلة أفكارهم في سرد الحكاية.

المصادر

1-Psychologically speaking: your brain on writing

2-Universal brain systems for recognizing word shapes and handwriting gestures during reading

3-Constructing structure maps of multiple on-line texts

4-The development of haptic abilities in very young infants: From perception to cognition

5-INVESTIGATING THE ACCEPTANCE OF ELECTRONIC BOOKS – THE IMPACT OF HAPTIC DISSONANCE ON INNOVATION ADOPTIO

6-Reading linear texts on paper versus computer screen: Effects on reading

7-Experimental studies of human-computer interaction : working memory and mental workload in complex cognition

ويلارد ليبي وثورة التأريخ بالكربون المشع

في عام 1946، اقترح العالم الفيزيائي ويلارد ليبي “Willard Libby” طريقة مبتكرة لتأريخ المواد العضوية عن طريق قياس محتواها من الكربون-14. الكربون-14 هو نظير مشع للكربون تم اكتشافه حديثًا حينها. و توفر هذه الطريقة، المعروفة باسم التأريخ بالكربون المشع، تقديرات موضوعية لعمر الأجسام المعتمدة على الكربون والتي نشأت من كائنات حية. إن “ثورة الكربون المشع” التي أصبحت ممكنة بفضل اكتشاف ليبي أفادت بشكل كبير مجالات علم الآثار والجيولوجيا. إذ سمحت للممارسين بتطوير تسلسلات تاريخية أكثر دقة عبر الجغرافيا والثقافات. فما هي تلك التقنية؟

من هو ويلارد ليبي؟

ولد “ليبي” في جراند فالي، كولورادو، في أمريكا في 17 ديسمبر 1908. درس الكيمياء في جامعة كاليفورنيا، بيركلي، وحصل على درجة البكالوريوس في عام 1931 والدكتوراه في عام 1933. وفي عام 1941، حصل ليبي على زمالة غوغنهايم، لكن خططه تعطلت بسبب دخول الولايات المتحدة في الحرب العالمية الثانية. ذهب ليبي إلى جامعة كولومبيا، حيث عمل على إنتاج اليورانيوم المخصب لبرنامج الأسلحة الذرية في البلاد.

عندما انتهت الحرب، أصبح ليبي أستاذًا في قسم الكيمياء ومعهد الدراسات النووية (معهد إنريكو فيرمي الآن) بجامعة شيكاغو. وهنا طور نظريته وطريقته في التأريخ بالكربون المشع، والتي فاز على إثرها بجائزة نوبل في الكيمياء عام 1960.
غادر ليبي شيكاغو عام 1954 بعد تعيينه مفوضًا لهيئة الطاقة الذرية الأمريكية. وفي عام 1959، عاد للتدريس في جامعة كاليفورنيا، لوس أنجلوس، حيث بقي حتى تقاعده في عام 1976. وتوفي ليبي في عام 1980 عن عمر يناهز 71 عامًا.

ويلارد ليبي

قصة اكتشاف التأريخ بالكربون المشع

إن التأريخ بالكربون المشع تقنية تعتمد على اضمحلال نظير الكربون-14 لتقدير عمر المواد العضوية. حيث تستخدم لتأريخ مواد مثل الخشب والجلود، ويصل عمرها إلى 58,000 – 62,000 سنة. اكتشفها العالم الفيزيائي “ويلارد ليبي” عام 1949. بدأ ليبي، أستاذ الكيمياء في جامعة شيكاغو، البحث الذي قاده إلى التأريخ بالكربون المشع في عام 1945. وقد استوحى أفكاره من الفيزيائي “سيرج كورف” من جامعة نيويورك، الذي اكتشف في عام 1939 أن النيوترونات يتم إنتاجها أثناء قصف الغلاف الجوي بالأشعة الكونية. وتوقع “كورف” أن التفاعل بين هذه النيوترونات والنيتروجين-14، الذي يسود الغلاف الجوي، سينتج الكربون-14، والذي يسمى أيضًا الكربون المشع.

دورة الكربون

أدرك ليبي بذكائه أن الكربون-14 في الغلاف الجوي سوف يجد طريقه إلى المادة الحية، والتي ستكون بالتالي موسومة بالنظائر المشعة. من الناحية النظرية، إذا تمكن المرء من اكتشاف كمية الكربون-14 في جسم ما، فيمكن تحديد عمر ذلك الجسم باستخدام نصف عمر النظير، أو معدل اضمحلاله. [1] في عام 1946، اقترح ليبي هذه الفكرة الرائدة في مجلة Physical Review.[2]

تحليل توازن الكربون

ركز مفهوم التأريخ بالكربون المشع على قياس محتوى الكربون في الأجسام العضوية. ولكن من أجل إثبات الفكرة، كان على ليبي أن يفهم نظام الكربون في الأرض. سيكون التأريخ بالكربون المشع أكثر نجاحًا إذا كان هناك عاملان مهمان صحيحان: أن تركيز الكربون-14 في الغلاف الجوي كان ثابتًا لآلاف السنين. وأن الكربون-14 يتحرك بسهولة عبر الغلاف الجوي والمحيط الحيوي والمحيطات والخزانات الأخرى في الغلاف الجوي في عملية تعرف باسم “دورة الكربون“. وفي غياب أي بيانات تاريخية تتعلق بكثافة الإشعاع الكوني، افترض ليبي ببساطة أنه كان ثابتًا. لقد رأى أن حالة التوازن يجب أن تكون موجودة حيث يكون معدل إنتاج الكربون-14 مساوياً لمعدل اضمحلاله، والذي يعود تاريخه إلى آلاف السنين. (لحسن حظه، ثبت فيما بعد أن هذا صحيح بشكل عام).

وبالنسبة للعامل الثاني، سيكون من الضروري تقدير الكمية الإجمالية للكربون-14ومقارنتها بجميع نظائر الكربون الأخرى. واستنادًا إلى تقدير “كورف” بأنه يتم إنتاج نيوترونين فقط في الثانية لكل سنتيمتر مربع من سطح الأرض، يشكل كل منهما ذرة كربون-14. فخَلُصَ ليبي إلي أن النسبة هي ذرة كربون-14 فقط لكل 1012 ذرة كربون على الأرض.

كانت مهمة ليبي التالية هي دراسة حركة الكربون خلال دورة الكربون. في النظام الذي يتم فيه تبادل الكربون-14 بسهولة طوال الدورة، يجب أن تكون نسبة الكربون-14 إلى نظائر الكربون الأخرى هي نفسها في الكائن الحي كما في الغلاف الجوي. ومع ذلك، فإن معدلات حركة الكربون طوال الدورة لم تكن معروفة آنذاك. قام ليبي وطالب الدراسات العليا “إرنست أندرسون” بحساب اختلاط الكربون عبر هذه الخزانات المختلفة، خاصة في المحيطات، التي تشكل أكبر خزان. تنبأت نتائجهم بتوزيع الكربون-14 عبر خصائص دورة الكربون وشجعت ليبي على الاعتقاد بأن التأريخ بالكربون المشع سيكون ناجحًا. [3]

خصائص الكربون-14 ونظائره

الكربون-14 هو نظير مشع للكربون، حيث تحتوي نواته على 6 بروتونات و 8 نيوترونات. يوجد هذا النظير بشكل طبيعي في المواد العضوية مثل الأشجار والأخشاب القديمة. ويوجد ثلاثة نظائر طبيعية للكربون على سطح الأرض: 99% منها كربون-12، و1% كربون-13، وكمية ضئيلة جدًا من الكربون-14، تقريبًا 1 جزء في التريليون (0.0000000001%) في الغلاف الجوي.

تم اكتشاف الكربون-14 لأول مرة في عام 1940 على يد “مارتن كامين” و”صامويل روبن”، اللذين قاما بإنشائه بشكل مصطنع باستخدام معجل السيكلوترون في مختبر الإشعاع بجامعة كاليفورنيا في بيركلي. أثبتت الأبحاث الإضافية التي أجراها ليبي وآخرون أن نصف عمر الكربون-14 يبلغ 5,568 عامًا، مما يوفر عاملاً أساسيًا آخر في مفهوم ليبي. لكن لم يتمكن أحد وقتها من اكتشاف الكربون-14 في الطبيعة. في هذه المرحلة، كانت تنبؤات كورف وليبي حول الكربون المشع نظرية بالكامل. من أجل إثبات مفهومه عن التأريخ بالكربون المشع، كان ليبي بحاجة إلى تأكيد وجود الكربون-14 الطبيعي، وهو تحدٍ كبير بالنظر إلى الأدوات المتاحة آنذاك.

في ذلك الوقت، لم تكن هناك أي أداة للكشف عن الإشعاع (مثل عداد جيجر) حساسة بما يكفي للكشف عن الكمية الصغيرة من الكربون-14 التي تطلبتها تجارب ليبي. تواصل ليبي مع “أريستيد فون جروس” من شركة Houdry Process Corporation الذي كان قادرًا على تقديم عينة من الميثان تم إثرائها بالكربون-14 والتي يمكن اكتشافها بواسطة الأدوات الموجودة. و باستخدام هذه العينة وعداد جيجر العادي، أثبت ليبي وأندرسون وجود الكربون-14 الموجود بشكل طبيعي، وهو ما يتوافق مع التركيز الذي تنبأ به كورف.

نجحت هذه الطريقة، لكنها كانت بطيئة ومكلفة. ولحسن الحظ، طورت مجموعة ليبي بديلاً. لقد أحاطوا غرفة العينة بنظام عدادات جيجر التي تمت معايرتها للكشف عن الإشعاع الخلفي الموجود في جميع أنحاء البيئة والقضاء عليه. وقد أطلق على التجمع اسم “مكافحة الصدفة” “anti-coincidence counter.”. وعندما تم دمجه مع درع سميك يعمل على تقليل إشعاع الخلفية بشكل أكبر وطريقة جديدة لتقليل العينات إلى كربون نقي للاختبار، أثبت النظام أنه حساس بشكل مناسب. وأخيرا، كان لدى ليبي طريقة لوضع مفهومه موضع التنفيذ.

عداد مكافحة الصدفة لويلارد ليبي

اختبار التأريخ بالكربون المشع

يعتمد مفهوم التأريخ بالكربون المشع على افتراض جاهز مفاده أنه بمجرد موت الكائن الحي، فإنه سينقطع عن دورة الكربون، وبالتالي يتم إنشاء كبسولة زمنية مع تناقص ثابت في عدد الكربون-14 بداخله. سيكون للكائنات الحية من اليوم نفس كمية الكربون-14 الموجودة في الغلاف الجوي، في حين أن المصادر القديمة للغاية التي كانت حية ذات يوم، مثل طبقات الفحم أو النفط، لن يتبقى منها شيء. بالنسبة للأشياء العضوية ذات الأعمار المتوسطة – بين بضعة قرون وعدة آلاف من السنين – يمكن تقدير العمر عن طريق قياس كمية الكربون-14 الموجودة في العينة ومقارنتها بنصف العمر المعروف للكربون-14.

ولاختبار هذه التقنية، طبقت مجموعة ليبي عدادًا مضادًا للمصادفة على عينات كانت أعمارها معروفة بالفعل. من بين الأشياء الأولى التي تم اختبارها كانت عينات من الخشب الأحمر وأشجار التنوب، والتي تم معرفة عمرها من خلال حساب دورات نموها السنوية. كما قاموا بأخذ عينات من القطع الأثرية من المتاحف مثل قطعة من الخشب من القارب الجنائزي للفرعون المصري سنوسرت الثالث، وهي قطعة عُرف عمرها من خلال سجل وفاة صاحبها.

و في عام 1949، نشر ليبي وأرنولد النتائج التي توصلا إليها في مجلة العلوم، مقدمين ما يعرف باسم “منحنى المعارف” “Curve of Knowns”. يقارن هذا الرسم البياني العمر المعروف للقطع الأثرية مع العمر المقدر كما هو محدد بواسطة طريقة التأريخ بالكربون المشع. وأظهرت أن جميع نتائج ليبي تقع ضمن نطاق إحصائي ضيق للأعمار المعروفة، مما يثبت نجاح التأريخ بالكربون المشع.

منحني المعارف لويلارد ليبي

كيفية قياس تركيزات الكربون-14

اليوم، هناك طريقتان أساسيتان لقياس تركيزات الكربون-14 في العينات وهي:

القياس الإشعاعي : حيث تقوم بحساب معدل اضمحلال الذرات الفردية في العينة باستخدام عداد الغاز المتناسب (أحد أشكال عداد جيجر) “gas proportional counter” أو عداد الومضات السائل “liquid scintillation counter”.

أما الطريقة الثانية، فهي القيام بإجراء تحليل نظائري كامل في مطياف الكتلة المسرع “Accelerator Mass Spectrometer(AMS)“.

يعد قياس الإشعاع  رخيصًا نسبيًا (حوالي 300 دولار/عينة)، ويستغرق حوالي شهر للحصول على إحصائيات مرضية، ويتطلب حوالي 100 جرام. وتعد طريقة جيدة لحساب متوسط المواد المكونة من مواد من مختلف الأعمار (رواسب البحيرات وما إلى ذلك). أما التحليل النظائري الكامل مكلفًا نسبيًا (حوالي 600 دولار/عينة أو أكثر اعتمادًا على وقت الإعداد المطلوب. ويرجع ذلك إلي أن أجهزة قياس الطيف الكتلي باهظة الثمن، حيث تبلغ قيمتها ملايين الدولارات، ولا يوجد بها سوى عدد قليل من المرافق)، ويستغرق حوالي أسبوع، ويتطلب حوالي جرام فقط. وتعد طريقة جيدة لتأريخ عينات معينة، إبرة صنوبر على سبيل المثال، عندما تحتوي العينة على مواد دخيلة أصغر سنا.

Accelerator Mass Spectrometer

و يتم استخدام معايير معايرة (calibration standards) مختلفة لقياسات النشاط الإشعاعي. ومن الأنواع الشائعة المستخدمة حاليًا هو حمض الأكساليك II، والذي تم استخلاصه من محصول دبس البنجر الفرنسي عام 1977. حيث تقوم المعامل بتأريخ هذا للتأكد من حصولهم جميعًا على نفس الإجابة. و يتضمن إعداد العينات (وهي عملية تتطلب مهارة وعمالة مكثفة) استخلاص الكربون في صورة ثاني أكسيد الكربون، وتنقيته، ثم تحويله إلى مركب عضوي مثل البنزين أو التولوين الذي يسهل التعامل معه وقد تختلف تلك الطرق من معمل إلي معمل.

تشمل المواد التي تم تأريخها بالكربون المشع منذ بداية هذه الطريقة ما يلي:

• الفحم، الخشب، الأغصان، البذور، الخث، حبوب اللقاح، الراتنجات.

• العظام والأصداف والشعاب المرجانية.

• الشعر، الجلد، بقايا الدم.

•بحيرة الطين والتربة والماء.

• الفخار، واللوحات الجدارية، والأقمشة، والورق، والرق.

ويجب أن تحتوي جميعها على الأقل على بعض الكربون من أصل عضوي. لسوء الحظ, ليس كل شيء سهلاً حتى الآن. فعلي سبيل المثال، لا تحتوي عظمة ساق الماموث الصوفي الموجودة في “جابريولا” على ما يكفي من الكولاجين لتحليل الكربون-14.

عظمة ساق الماموث الصوفي

ثورة الكربون المشع

كان لإدخال التأريخ بالكربون المشع  تأثير هائل على كل من علم الآثار والجيولوجيا. وهو تأثير يشار إليه غالبًا باسم “ثورة الكربون المشع”. فقبل بحث ليبي، كان على الباحثين في هذه المجالات الاعتماد على طرق تأريخ نسبية فقط، مثل مقارنة طبقات الموقع الذي تم العثور فيه على القطع الأثرية، على افتراض أن طبقات الموقع تم وضعها بتسلسل زمني. إن المقارنة النسبية تقوم ببساطة بترتيب الأحداث دون قياس عددي دقيق. على النقيض من ذلك، قدم التأريخ بالكربون المشع أول طريقة للتأريخ الموضوعي، وهي القدرة على ربط تواريخ رقمية تقريبية بالبقايا العضوية.

ساعدت هذه الطريقة في دحض العديد من المعتقدات السابقة، بما في ذلك فكرة أن الحضارة نشأت في أوروبا وانتشرت في جميع أنحاء العالم. كما ساهم عمل ليبي بشكل كبير في الجيولوجيا. وباستخدام عينات خشبية من الأشجار التي كانت مدفونة تحت الجليد الجليدي، أثبت ليبي أن آخر طبقة جليدية في شمال أمريكا الشمالية انحسرت منذ 10 آلاف إلى 12 ألف عام، وليس 25 ألف عام كما قدر الجيولوجيون سابقًا.

عندما قدم ليبي لأول مرة التأريخ بالكربون المشع للجمهور، قدر بكل تواضع أن هذه الطريقة ربما كانت قادرة على قياس أعمار تصل إلى 20 ألف سنة. ومع التقدم اللاحق في تكنولوجيا الكشف عن الكربون-14، يمكن لهذه الطريقة الآن أن تؤرخ بشكل موثوق مواد عمرها يصل إلى 50 ألف سنة.

المصادر

1-Radioactive decay

2-Radiocarbon Dating

3-Willard Libby and Radiocarbon Dating

لغز أشعة جاما المميتة المتسللة بين الغيوم!

تطلق العواصف الرعدية عصفات قوية من أشعة جاما علي شكل انفجارات قوية يقاس طولها بالملليِ ثانية وتسمي ومضات أشعة جاما الأرضية. [1] وتنتج هذه الانفجارات أيضا أشعة من الإلكترونات وحتي من المادة المضادة التي تستطيع السير نصف الطريق حول الكرة الأرضية. إن جميع التفسيرات المقترحة تتضمن مجالات كهربائية قوية مطلقة للإلكترونات مندفعة بقوة إلي داخل السحب الرعدية، ولكن لايوجد تفسير يفسر تماما الطاقات المنحدرة عموديا لأشعة جاما. ولكن، ربما تحل هذا اللغز المهمات الفضائية الموجهة حديثًا والطائرات البحثية، إضافة إلى بحثها عما إذا كانت الومضات تعرض رحلات خطوط الطيران لأخطار إشعاعية.

هل سبق أن رأيت وميضًا من الضوء الأزرق اللامع في السماء أثناء عاصفة رعدية؟ إذا كان الأمر كذلك، فأنت قد حضرت دفقة مماثلة من أشعة جاما الأرضية. أشعة جاما هي شكل من أشكال الإشعاع الكهرومغناطيسي لها طاقة عالية جدًا. عادة ما يتم إنتاجها من مصادر خارج الأرض، مثل انفجارات المستعر الأعظم أو أشعة الشمس. ولكن في الواقع، يمكن أيضًا إنتاجها داخل الغلاف الجوي للأرض أثناء العواصف الرعدية.

ومضات أشعة جاما الأرضية هي أحداث قصيرة العمر للغاية، تستمر عادةً لبضع مللي ثانية فقط. إنها قوية جدًا أيضًا، حيث يمكن أن تصل طاقتها إلى مليارات الإلكترون فولت. فما الذي يسبب ومضات أشعة جاما الأرضية؟ لا يزال العلماء غير متأكدين من الإجابة، ولكن هناك عدد من النظريات المحتملة. إذن، فما هي أهمية ومضات أشعة جاما الأرضية؟ لا تزال العلوم تدرس هذه الظاهرة، ولكن هناك عددًا من الإمكانات المحتملة أيضًا. على سبيل المثال، يمكن استخدام ومضات أشعة جاما الأرضية لدراسة كيفية عمل العواصف الرعدية، ويمكن أن تساعدنا أيضًا على فهم المزيد عن الإشعاع الكوني.

في السنوات الأخيرة، بذلت الجهود لدراسة ومضات أشعة جاما الأرضية بشكل أكبر. وتم إطلاق العديد من المهمات الفضائية لدراسة هذه الظاهرة، كما تم تطوير تقنيات جديدة للكشف عن ومضات أشعة جاما الأرضية. ومع استمرار البحث في ومضات أشعة جاما الأرضية، نتعلم المزيد عن هذه الظاهرة الغريبة والمذهلة. فهل أنت مستعد لمعرفة المزيد عن ومضات أشعة جاما الأرضية؟

رصد محير بالقرب من الأرض

في عام 1991، أدرك “فيشمان” من مركز ناسا مارشال لرحلات الفضاء، بواسطة المرصد الجديد “كومبتون” أن هناك شيئا غريبا يحدث. المرصد كومبتون المطلق إلي مدار الكرة الأرضية من سفينة الفضاء أتلانتس مصمم للكشف عن أشعة جاما المنبعثة من الأجسام الفيزيائية الفلكية البعيدة. كتلك التي تنبعث من النجوم النيترونية وبقايا النجم المستعر. وقد نجح المرصد بالفعل في تسجيل انفجارات ساطعة طولها ملِلي ثانية من أشعة جاما، ولكن هذه المرة -على غير العادة- تأتي الآشعة من الأسفل، أي من الأرض، وليست من الفضاء الخارجي!

مثلت تلك الحادثة صدمة لعلماء الفيزياء الفلكية. فلقد اعتقد علماء الفيزياء الفلكية أن الظواهر الغريبة مثل التوهجات الشمسية والثقوب السوداء والنجوم المتفجرة تسرع الإلكترونات وغيرها من الجسيمات إلي طاقات عالية للغاية. ومن ثم تستطيع هذه الجسيمات الفائقة الشحن بث أشعة جاما، وهي الفوتونات الأكثر طاقة في الطبيعة. وفي الأحداث الفيزيائية الفلكية، تتسارع الجزيئات خلال الحركة الحرة -أو الحرة تقريبا- في الفراغ. فكيف إذن, تستطيع الجزيئات في الغلاف الجوي للأرض من فعل الشئ نفسه ؟ [3]

قادت البيانات الأولية إلي الاعتقاد مبدئيا أن ما يدعى بومضات أشعة جاما الأرضية قد نشأت على ارتفاع 40 ميلا فوق السحب. والمدهش أنها تنبعث على ارتفاع أقل من مكان نشأتها بكثير بواسطة التفريغ الكهربائي داخل السحب الرعدية المتنوعة. وخلال ذلك، تسعى الكثير من النظريات المتطورة إلى تفسير أشعة جاما الأرضية تلك بما يتوافق مع المشاهدات. فمرة بعد أخري، تكشف التجارب عن طاقات كان يستحيل من قبل تخيل وجودها في الغلاف الجوي. وحتي المادة المضادة حققت ظهورا مفاجئا.

الشروع في وضع أولي التصورات

ظاهرة سبرايتس ( عفاريت البرق) Sprites

في البداية، تساءل العلماء عما إذا كانت لأشعة جاما علاقة بأعجوبة أخرى من عجائب الغلاف الجوي المكتشفة قبل سنوات قليلة فقط. إذ التقطت الكاميرات الموجهة فوق السحب الرعدية صورا ضوئية لومضات قصيرة لامعة من الضوء الأحمر على ارتفاع 50 ميلا فوق سطح الأرض وعلى مسافة عدة أميال، وكانت هذه الصور وكأنها لقنديل بحر عملاق. هي ليست قنديلًا بالطبع ولكن تفريغ كهربي، وسمي هذا التفريغ الكهربي المذهل تسمية غريبة وهي “سبرايتس” sprites العفاريت، ولأن سبرايتس تصل تقريبا إلى حدود الفضاء، فيبدو الأمر مقنعا أنها ربما هي من أطلق أشعة جاما، التي قد يراها مسبار ما يدور حول الأرض كمرصد كومبتون. [2]

بعد وقت قصير، قام الفيزيائيون النظريون بأولى المحاولات لشرح كيف يمكن لسبرايتس إنتاج أشعة جاما المرتبطة بالفضاء. ويعتقد أن سبرايتس هي عبارة عن تأثيرات جانبية للبرق الطبيعي الحادث في السحب على ارتفاع منخفض جدا. والبرق هو عبارة عن قناة موصلة كهربائيا، تفتح مؤقتا في الهواء، الذي يكون عازلا كهربائيا في تلك الحالة. وتحمل الصاعقة الإلكترونات بين مناطق الغلاف الجوي أو بين الغلاف الجوي والأرض، ويحدث هذا بسبب عدم اتزان الشحنات الكهربائية التي تنطلق بواسطة المجالات الكهربائية الناتجة، والتي يزيد فرق جهدها على 100 مليون فولت.

تصور جيوريفتش لومضات جاما بواسطة السحب الرعدية

إن الاندفاع العنيف للإلكترونات يعيد الاتزان الكهربائي جزئيا، مثلما يحدث عندما نشد سجادة من أحد أطرافها، فإنه غالبا ما يؤدي إلى نتوء باتجاه معاكس فى مكان آخر. أي أنه غالبا ما ينبثق عن التفريغ الكهربائي داخل السحب مجال كهربائي فى مكان آخر، بما فى ذلك سطح الأرض. حيث يمكن أن يؤدي لاحقا إلي برق صاعد من أسفل الغلاف الأيوني للأرض حيث قد تنشأ سبرايتس.

في عام 1992 استطاع “جيوريفيتش” من معهد ليبديف الفيزيائي فى موسكو ومعاونوه أن يبينوا أن المجالات الكهربائية الثانوية بالقرب من الغلاف الأيوني للأرض يمكن أن تنتج كما هائلا من الإلكترونات عالية الطاقة، والتي عند اصطدامها بالذرات، تنطلق منها فوتونات أشعة إكس ذات الطاقة العالية، بالإضافة إلى أشعة جاما، بالتوهج الأحمر المميز لظاهرة سبرايتس.

هذه الآلية التي جري افتراضها مستنتجة من قبل العالم “ويلسون” في عام 1920 الحائز على جائزة نوبل. وعند الطاقات الصغيرة، تتصرف الإلكترونات المندفعة كالبحارة المخمورين، حيث تتدافع من جزئ إلي آخر فاقدة طاقتها مع كل تصادم. أما عند الطاقات العالية، فتسير الإلكترونات فى خط مستقيم، مكتسبة طاقة عالية من المجال الكهربائي، مما يقلل من تأثير أي تصادم فى اضطراب مسارها وهكذا. و تختلف هذه النتيجة مع خبراتنا اليومية، حيث كلما أسرعنا فى الحركة، زادت معاناتنا مع القوة العكسية، تماما مثل ما يعانيه سائق دراجة بسبب مقاومة الهواء. [4]

تستطيع تلك الإلكترونات الهاربة التسارع إلي سرعة الضوء تقريبا وتسير إلي أميال قبل توقفها بدلا من المسافة الصغيرة التي يتحركها الإلكترون عادة فى الهواء. وقد أرجع فريق “جيوريفيتش” إلى أن اصطدام الإلكترون الهارب بجزيء الغاز فى الهواء، يمكنه من تحرير إلكترون آخر، ويتسارع هذا الإلكترون. والنتيجة تشبه تفاعل متسلسل، حيث تندفع الإلكترونات عالية الطاقة بشكل هائل وتتزايد لوغاريتميا مع المسافة المقطوعة فتقطع مسافات بعيدة مع امتداد المجال الكهربائي. وتأثير الاندفاع الهائل للإلكترونات طبقا لحسابات “جيوريفيتش”، من الممكن أن يزيد إنتاج أشعة إكس وأشعة جاما بمقادير مضاعفة. ويبدو هذا التصور لبرهة مقبولا بشدة بسبب قدرته على توحيد ظاهرتين جويتين منفصلتين، وهما ومضات أشعة جاما وظاهرة السبرايتس. ولكن كما سوف نري، اتضح أن الواقع أكثر تعقيدا.

مزاعم ربط أشعة جاما بظاهرة سبرايتس

خلال السنوات العديدة اللاحقة ابتداء من عام 1996، ظهرت العديد من الفرضيات الدقيقة للنظرية التي تصورت سبرايتس كاندفاعات هائلة من الإلكترونات منتجة أشعة جاما. ودليل واحد هو الذي دعم هذا النموذج الشبحي، وهو طيف الطاقة لأشعة جاما. فأشعة جاما ذات الطاقة العالية تسير مسافات أبعد في الهواء أكثر من الأشعة الأقل طاقة، ومن ثم فهي الأكثر احتمالا لفعل ذلك في الفضاء. وبحساب عدد فوتونات أشعة جاما التي تصل إلى سفينة الفضاء عند كل مستوى طاقة، يستطيع العلماء استنتاج ارتفاع مصدرها. وقد أشارت أولى اختبارات الطاقة لأشعة جاما، كما جرى رصدها بواسطة المرصد CGRO، إلى وجود مصدر على ارتفاع عال جدا، وهذا متناسق مع ظاهرة سبرايتس، ولكن في عام 2003، أخذت الأحداث منحى غير متوقع!

فخلال العمل في موقع أبحاث البرق في فلوريدا وقياس الانبعاثات من أشعة إكس التي تصل الأرض من برق الصاروخ المنطلق، اكتشف “وَير” -فيزيائي فلكي وأستاذ في معهد فلوريدا للتقانة- ومعاونوه ومضة لامعة من أشعة جاما تخرج من سحابة رعدية، ثم غمرت المنطقة من حولهم. هذا الوميض المسجل على الأجهزة شابه تماما إحدى ومضات أشعة جاما الأرضية التي اعتقد الجميع أنها نشأت عن مكان أكثر بعدًا، وذلك لأن الأشعة لها الطاقة نفسها والفترة الزمنية ذاتها، وهي نحو 0.3 مللي ثانية.

اعتقد الجميع أن هذه الومضات آتية من ارتفاعات عالية يتعذر رؤيتها من الأرض. وقد أوحى التشابه أنه ربما تكون الصواعق البرقية في داخل السحب الرعدية من المصادر المباشرة لأشعة جاما الواصلة إلى المرصد CGRO، ولكن في الوقت نفسه بدت الفكرة ضربا من الهوس. إذ يتعين أن يكون الضوء شديدا للغاية للحصول على أشعة جاما كافية للخروج إلى الفضاء عبر كل الغلاف الجوي.

مصور التحليل الطيفي RHESSI ودحض الادعاء

بعد وقت قصير، استطاعت تطورات أخرى إبطال المزاعم المرتبطة بين سبرايتس وأشعة جاما. ففي عام 2002 أطلقت ناسا NASA مصور التحليل الطيفي الشمسي العالي الطاقة RHESSI لدراسة أشعة إكس وأشعة جاما من الشمس، ولكن مجسات الجرمانيوم الكبيرة الخاصة بالمرصد RHESSI كانت ممتازة لقياس أشعة جاما القادمة من الغلاف الجوي بكفاءة عالية. وقام “سميث” -فيزيائي فلكي في جامعة كاليفورنيا ضمن فريق المرصد RHESS- بتوظيف “أ.لوبيز” التي كانت حينئذ طالبة في المرحلة الجامعية الأولى بجامعة كاليفورنيا، لتنظر في سيل البيانات المسجلة من قبل المرصد RHESSI لسنوات، بحثا عن أي دليل لأشعة جاما المنبعثة من ارتفاعات منخفضة من الأرض.

وفي هذا الوقت، كان يُعتقد أن ومضات أشعة جاما الأرضية نادرة جدا، ولكن كان الحظ حليف لوپیز التي صادفت اكتشافا نفيسا. كان المرصد RHESSI يسجل ومضة مرة كل بضعة أيام أكثر بعشر مرات من المعدل الذي جرى رصده من قبل المرصد CGRO. لقد قاس المرصد RHESSI طاقات فوتونات أشعة جاما في كل ومضة بشكل أفضل بكثير مما فعله مرصد CGRO. ويبدو طيف أشعة جاما الضوئي مماثلا تماما لما هو متوقع من الإلكترونات الهاربة. وبمقارنة تلك القياسات بالقياسات النظرية المتوقعة، استُنتِج أن أشعة جاما مرت عبر الكثير من الهواء، ومن ثم يجب أن تكون قد نشأت عن ارتفاع  تقريبي يتراوح بين تسعة أميال وثلاثة عشر ميلا، وهي مسافة مساوية تماما لأعالي العواصف الرعدية ولكنها أقل بكثير من ارتفاع الخمسين ميلا حيث توجد ظاهرة سبرايتس.

تجمعت سريعا أدلة مستقلة إضافية تؤيد منشـأ الارتفاع المنخفض لأشعة جاما. وأوضحت القياسات الإشعاعية التي أجريت بواسطة “کومر” -من جامعة ديوك- للبرق المرتبط ببعض سجلات المرصد RHESSI أن هذه الومضات البرقية أضعف بكثير مما يتطلب لعمل ظاهرة سبرايتس. وتبدو خريطة المرصد RHESSI لومضات أشعة جاما حول العالم مشابهة تماما للبرق الطبيعي، الذي يتركز في المناطق الاستوائية وأقل بكثير من محاولات مقاربتها بخريطة ظاهرة سبرايتس، التي تتجمع غالبًا على ارتفاعات أعلى من السهول العظمى بالولايات المتحدة الأمريكية.

حجة تعيد الشكوك

بقيت حجة واحدة لتفضيل ظاهرة سبرايتس كمنشأ، وهي أن طيف الطاقة طبقا لأرصاد CGRO يشير إلى مصدر عالي الارتفاع. يتفق ذلك أكثر مع ظاهرة سبرايتس عن العواصف الرعدية. فقد بدأ الكثيرون في الاعتقاد بأن من المحتمل وجود نوعين من ومضات أشعة جاما، منخفضة وعالية الارتفاع، ولكن التأكيد النهائي لفكرة سبرايتس جاءت عندما أدركنا أن ومضات أشعة جاما الأرضية كانت أكثر إضاءة مما كان يعتقد سابقا.

في الواقع، أثناء العمل فيما بعد مع طالب دراسات عليا  “جريفينستيت” في عام 2008، وجد أن هذه الومضات كانت شديدة السطوع حتى إن المرصد CGRO كان معمى جزئيا بسببها، ولم يستطع قياس الشدة الكلية الحقيقية لها. هذا التشبع أثّر أيضا في المرصد RHESSI ولكن بدرجة أقل. وعندما أعاد الباحثون في جامعة بيركن بالنرويج تحليل البيانات في عام 2010، وجدوا أن بعد أخذ تشبع أجهزة الرصد في الاعتبار، قد جعل النتائج متوافقة مع المصادر الأقل ارتفاعًا. وبعد أقل من سنتين، هبط الارتفاع المزعوم في البيانات المسجلة لومضات جاما أكثر من 30 ميلا. [6]

مسببات المادة المضادة

إذا كانت سبرايتس ليست هي المسؤولة عن إنتاج ومضات أشعة كاما، فمن المسؤول إذن؟ وهل العملية لا تزال تتضمن الاندفاعات العنيفة للإلكترونات الهاربة؟ لقد ثبت في النهاية أن طريقة الاندفاعات العنيفة للإلكترونات، كما تمت صياغتها وتصويرها بواسطة “جيوريفيتش” ومعاونيه، مع أنها شديدة الطاقة لتفعل أي شيء مع سبرايتس، لكنها ليست قوية لدرجة تكفي لتوليد الإضاءات الكبيرة المرئية بواسطة المرصد RHESSI أو عن طريق التحليلات الجديدة لبيانات المرصد CGRO. كما أن الحسابات التي أجريت من قبل “وَير” قد أوضحت أن طريقة الاندفاعات الشديدة للإلكترونات العالية الطاقة جدا تستطيع إطلاق طاقة أكبر بتريليونات المرات أكثر مما نتصور. وتستطيع عمل الشيء نفسه داخل سحابة رعدية، والمذهل أن هذه الطريقة تتضمن وبكل تأكيد إنتاج الكثير من المادة المضادة.

وإذا كان المجال الكهربائي داخل السحب الرعدية قويا بالقدر الكافي، فإن الإلكترونات الهاربة – المفترض تكونها بطريقة ما – تتسارع إلى سرعة الضوء تقريبا، فعندما تلتقي الذرات في جزيئات الهواء، فسوف تبعث أشعة جاما. وبالتبعية، فإن فوتونات أشعة جاما تستطيع التصادم بنوى الذرات لإنتاج زوج من الجزيئات: إلكترونات ومضاداتها التوائم “بوزيترونات“. فالبوزيترونات سوف تندفع أيضا، مكتسبة طاقة المجال الكهربائي. ولكن بينما تندفع الإلكترونات إلى الأعلى فإن البوزيترونات التي تحوي شحنة معاكسة سوف تندفع إلى الأسفل. وعندما تصل البوزيترونات إلى أسفل المجال الكهربائي، سوف تصطدم بذرات الهواء فتنتج منها إلكترونات جديدة تندفع إلى الأعلى مرة أخرى.

آلية الاسترجاع النسبي للتفريغ الكهربائي

 بهذه الطريقة، فإن الإلكترونات الصاعدة سوف تنتج بوزيترونات متجهة إلى الأسفل والتي بالتبعية سوف تنتج إلكترونات أكثر صعودا إلى الأعلى وهكذا. وإذا كان اندفاع واحد للإلكترونات يؤدي إلى إنتاج العديد منها، فإن التفريغ الكهربائي سوف ينتشر سريعا فوق مساحة واسعة للسحابة الرعدية، تصل في اتساعها إلى أميال عديدة. والأعداد المتنبأ بها بهذا النموذج – يسمى نموذج التفريغ الكهربائي الاسترجاعي النسبي – تتلاءم تماما مع الشدة والفترة الزمنية وطيف الطاقة لأشعة جاما، كما جرى رصدها بالمرصدين CGRO و RHESSI.

يشبه الاسترجاع  الإيجابي من البوزيترونات الصوت المزعج الذي نحصل عليه عند الإمساك بالميكروفون من فوق سماعة. وهذا المنطق هو وراء تفسير آخر محتمل وإن لم يجر التحقق منه رياضياتيا بشكل كامل بعد، وهو أن هذه الومضات من أشعة جاما هى النسخة الأكثر طاقة من أشعة إكس المنبعثة بواسطة البرق عند اقترابه من الأرض.

لسنوات عديدة، قام الباحثون في معهد فلوريدا ومعهد نيومكسيكو للتعدين والتقانة بقياس أشعة إكس هذه، سواء تلك الناتجة من البرق الذي ينبعث صناعيًا من إطلاق الصواريخ أو من البرق الطبيعي الذي يضرب الأرض. وقد أوضحت أفلام أشعة إكس من كاميرا أشعة إكس السريعة في ولاية فلوريدا أن الانفجارات تنبثق من قمة قناة البرق خلال سريانها من السحب إلى الأرض. ويعتقد معظم العلماء أن أشعة إكس تتولد عن طريق الإلكترونات الهاربة، المعجلة بواسطة المجالات الكهربائية القوية أمام البرق. وربما لأسباب لم تعرف بعد، فإن البرق الذي يتحرك في المجال الكهربائي داخل السحب الرعدية يقوم بوظيفة أفضل لإنتاج هذه الإلكترونات الهاربة. إذا صحت هذه الفكرة، فإن الومضات المرصودة من سفينة فضاء على بعد مئات الأميال ربما تكون مجرد نوع – مكبر ببعض الطرق غير المعروفة بعد – من أشعة إكس المتولدة من البرق والتي جري رؤيتها على الأرض بواسطة مجسات على بعد مئات الأقدام من الصاعقة.

اكتشاف من الصحراء الكبري علي حين غرة

مع نهاية عام 2005 كان “سميث” ومعاونوه واثقين من أن معظم ومضات أشعه جاما الأرضية تنشأ من داخل أو قريبا من أعالي السحب الرعدية، بغض النظر عما إذا كانت المادة المضادة أو سهام البرق المقوى متضمنة معها. وقبل أن يتقبلوا هذا الطرح بشغف، ظهر شيء وضع فهمهم محل تساؤل من جديد. إذ أن إحدى الظواهر المرصودة من المرصد RHESSI كانت دويا شديدا في وسط الصحراء الكبرى في أواسط إفريقيا Sahara Desert في يوم مشمس ومن دون سحب رعدية في المشهد!

قضي “سميث” وطلبته شهورا يناضلون على تفسير هذا الحدث. تشكلت السحب الرعدية هذا اليوم بالفعل، ولكن ليس في المكان الذي كانت تبحث فيه السفينة الفضائية. كانت السحب الرعدية على بعد آلاف الأميال إلى الجنوب، على الأفق من المرصد RHESSI. ولكن يجب أن تسير أشعة جاما لهذه السحب كجميع أشكال الضوء في خط مستقيم، لكنها لم تصل إلى السفينة الفضائية.

ومن ناحية أخرى، يجب أن تسير الجسيمات المشحونة مثل الإلكترونات طبيعيا في مسارات منحنية ملتفة حلزونيا حول الخطوط المنحنية للمجال المغنطيسي للأرض. وقد كانت العواصف الرعدية موجودة تماما على الطرف الآخر لخط المجال المغنطيسي المار بالسفينة الفضائية، وتستطيع الإلكترونات التي وصلت إلى ارتفاعات عالية جدا السير حول الكوكب والاصطدام في مجسات المرصد RHESSI، مكونة في هذه العملية أشعة جاما. ومع ذلك،  يبدو من المستحيل على الإلكترونات المتحررة داخل سحابة رعدية عمل ذلك خلال الكثير من الأميال في الغلاف الجوي إلى هذا الارتفاع في الفضاء حيث تسير حول خطوط المجال. وقد بدت تلك الملاحظة الجديدة بأنها تحتاج إلى مصدر عالي الارتفاع.

تيليسكوب فيرمي

وفي عام 2011 لاحظ تليسكوب فيرمي FERMI الفضائي لأشعة جاما العديد من هذه الأشعة التي تدور حول الكوكب محققا بذلك اكتشافا مذهلا، وهو أن جزءا كبيرا من الأشعة يتكون من بوزيترونات. وهكذا فإنه يبدو أن الظواهر الجوية لا تستطيع فقط إطلاق إلكترونات وأشعة جاما إلى الفضاء وإنما أيضا جزيئات المادة المضادة. وبإدراك متأخر، كان يجب أن يُتوقع رؤية هذه البوزيترونات نظرا لمدى طاقة أشعة جاما. ومع ذلك إذا أخذنا بعين الاعتبار كم هو غريب ملاحظة المادة المضادة في الطبيعة، فإن ما اكتشفه تليسكوب فيرمي كان مذهلا. [5]

إن تفسير مشاهدات الصحراء الكبرى، الذي أدركه فريق “سميث” عاجلا، لم يكن أن أشعة جاما قد جاءت من ارتفاع عال، وإنما على الأرجح أنها نتجت داخل السحب الرعدية بأعداد هائلة أكثر مما كان متوقعا. واصطدم البعض المتجه منها إلى الفضاء بجزيئات الهواء العَرَضية على ارتفاع يتجاوز الـ25 ميلا تقريبا منتجة أزواجا  ثانوية من الإلكترونات والبوزيترونات التي تركب عندئذ خطوط المجال المغنطيسي حول الأرض. وفي المرة القادمة عندما ترى سحابة رعدية طويلة، توقف لتتذكر أنها قادرة على أن تطلق إلى الفضاء جزيئات عالية الطاقة يمكن كشفها على الجانب الآخر من الكوكب.

الطيران مباشرة داخل السحب الرعدية

 إن الحسابات الأولية توضح أنه إذا ما حدث أن اصطدمت رحلة خطوط طيران مباشرة بإلكترونات عالية الطاقة وأشعة جاما داخل عاصفة رعدية، فإن الركاب وأعضاء طاقم الطائرة – من دون الشعور بأي شيء – من الممكن أن يتلقوا جرعة إشعاعية في جزء من الثانية تصل إلى الجرعة الإشعاعية الطبيعية التي يمكن أن يتعرض لها المرء طوال حياته. لكن من الأخبار الحسنة أننا لا نحتاج إلى تحذير الطيارين للبقاء بعيدا عن العواصف الرعدية، لأنهم يفعلون ذلك بالفعل. فالعواصف الرعدية هي أماكن يكون الوجود فيها شديد الخطورة سواءًا في وجود أشعة جاما أو غيابها.

إلى حد ما، استكملت دراسة ومضات أشعة جاما الأرضية عمل “بنجامين فرانكلين”، الذي يزعم أنه أرسل طائرة ورقية إلى سحابة رعدية لرؤية مدى إمكانية توصيلها للكهرباء. ومن ثم أوضح فرانكلين منذ قرون أن البرق هو عبارة عن تفريغ كهربائي، والمفاجأة أنه وبعد قرنين ونصف من تجربته للطائرة الورقية، لا يزال لدى العلماء فهم غير كامل، ليس فقط حول كيفية تكوّن ومضات أشعة جاما بواسطة السحب الرعدية بل وحتى تكون البرق البسيط.

المصادر

1- GAMMA Rays

2-Sprite (Lightning)

3-Discovery of Intense Gamma-Ray Flashes of Atmospheric Origin

4-Runaway Breakdown and the Mysteries of Lightning

5-Electron-Positron beams from terrestrial lightning observed with Fermi GBM

6-Thunderclouds Make Gamma Rays—and Shoot Out Antimatter, Too

Show affiliations

هل يمتلك الفراغ كتلة؟

علي جزيرة سردينيا -والتي تعد أكثر المناطق استقرارًا في البحر الأبيض المتوسط إلى عمق 110 أمتار تحت الأرض- يقودنا الظلام الدامس عبر نفق ضيق نحو غرفة حيث تسجل أجهزة قياس الزلازل الحركات الدقيقة للأرض المحيطة. ويظهر على الجانب الأيسر من هذا النفق كهف. حيث اختاره الفيزيائيون لإنشاء تجربة أرخميدس التي تتطلب عزلة شديدة عن البيئة الخارجية للتحقيق في أسوأ تنبؤ نظري في تاريخ الفيزياء – مقدار الطاقة في الفضاء الفارغ الذي يملأ الكون. أو بالمعنى الأصح، لقياس كتلة الفراغ ، فما هي تجربة أرخميدس؟ ولماذا سميت بتلك الاسم؟ وما الهدف منها؟

ما هو الفراغ؟

الفراغ في الفيزياء هو مفهوم مهم يُشير إلى المنطقة التي تفتقر إلى المادة. يمكن وصف الفراغ ببساطة على أنه المنطقة الخالية تمامًا من المادة والذرات. على الرغم من أن الفراغ قد يبدو فارغًا تمامًا بالنسبة لنا، إلا أنه يحمل مفاهيم معقدة وأثر كبير على العلوم الفيزيائية. و هناك نوعان رئيسيان من الفراغ في الفيزياء:

1. الفراغ الكلاسيكي

 يعتبر الفراغ الكلاسيكي هو الفراغ الذي نتخيله بشكل عام، حيث يُفترض أنه ليس فيه أي شيء. ومع ذلك، في الفيزياء الكلاسيكية، تمثل الفكرة الأساسية للفراغ الكلاسيكي الفراغ الذي يحتوي على مجموعة من الحقول المتعلقة بالمجالات الفيزيائية مثل الجاذبية والكهرومغناطيسية. هذه الحقول تكون موجودة حتى في الفراغ الكلاسيكي ويمكن أن تنتقل عبره.

2. الفراغ الكمومي

 في الفيزياء الكمومية، ندرك أن الفراغ ليس بالضرورة خاليًا من أي شيء. بالعكس، الفراغ الكمومي يمكن أن يكون مليئاً بتذبذبات وجسيمات صغيرة تنشأ على مستوى الكم. هذه التذبذبات والجسيمات الظاهرية تسمى “الجسيمات الافتراضية”، وتنشأ بموجب مبدأ عدم اليقين. في الفراغ الكمومي، يمكن للجسيمات الافتراضية أن تظهر وتختفي دون سبب ظاهر، وهذا ما يعكس مبدأ عدم اليقين في الفيزياء الكمومية. [1]

بالإضافة إلى الفراغ الكمومي والكلاسيكي، هناك العديد من النظريات والمفاهيم الأخرى التي تتعلق بالفراغ في الفيزياء مثل مفهوم الطاقة المظلمة والفراغ الفضائي في نظرية النسبية الخاصة والعامة. يجد العلماء أن الفراغ هو مفهوم معقد يمكن أن يؤثر على الكون ويشكل جزءًا مهمًا من البحث والاستكشاف في الفيزياء الحديثة.

الجسيمات الافتراضية والتذبذبات الكمومية

لنتخيل الفراغ كما لو أنه ليس فعلا فارغًا بالمعنى التقليدي الذي نستخدمه في حياتنا اليومية. ولكنه بيئة دقيقة مليئة بالنشاط والحركة على المستوى الأدنى. في هذا الفراغ الكمومي، ينشأ اهتزاز وحركة دائمة لجسيمات صغيرة جداً تعرف بـ “الجسيمات الافتراضية”، والتي يفترض وجودها بناءً على مبادئ الفيزياء الكمومية. فلو كنت تراقب هذا الجو الكمومي بعين مكبرة، ستلاحظ وجود حركة مستمرة لهذه الجسيمات الافتراضية. لكن عندما تحاول أن تلتقط إحداها أو تقيس موقعها أو سرعتها بدقة، ستجد نفسك في مواجهة مفهوم عدم اليقين الكمومي. هذا يعني أنه لا يمكنك أبدًا معرفة مكانها بدقة تامة في أي لحظة معينة، فقد تكون هنا أو هناك أو في أي مكان آخر في نفس الوقت!

 يمكن للباحثين حساب طاقة الفراغ بطريقتين. حيث يمكنهم استخدام معادلات ألبرت أينشتاين في النسبية العامة لحساب مقدار الطاقة اللازمة لتفسير حقيقة أن الكون يتوسع بمعدل متسارع. ويمكنهم أيضًا العمل من الأسفل إلى الأعلى، باستخدام نظرية المجال الكمي للتنبؤ بالقيمة بناءً على كتل جميع “الجسيمات الافتراضية” التي يمكن أن تنشأ لفترة وجيزة ثم تختفي في الفضاء “الفارغ”. تٌنتج هاتان الطريقتان أرقامًا تختلف بأكثر من 120 مرة (1 متبوعًا بـ 120 صفرًا). حيث يعتبر هذا تناقض سخيف إلى حد محرج وله آثار مهمة على فهمنا لتوسع الكون، وحتى مصيره النهائي. ولمعرفة أين يكمن الخطأ، يقوم العلماء بنقل غرفة مفرغة أسطوانية يبلغ طولها مترين ومعدات أخرى إلى منجم قديم في سردينيا، حيث يحاولون إنشاء فراغ خاص بهم ووزن “اللاشيء”_ كتلة الفراغ _ بداخله.

كيف يؤثر مبدأ عدم اليقين على فهمنا للعالم الصغير؟

ينص المبدأ على أنه لا يمكنك تحديد موضع الجسيم وسرعته في نفس الوقت بأي دقة. فكلما زادت دقة معرفتك لقيمة واحدة، قلّت قدرتك على معرفة القيمة الأخرى. وينطبق هذا المبدأ أيضًا على قياسات أخرى، مثل تلك التي تتضمن الطاقة والوقت. وهذا يعني أن الطبيعة يمكنها “استعارة” الطاقة لفترة زمنية قصيرة للغاية. هذه التغيرات في الطاقة، والمعروفة باسم تقلبات الفراغ Vacuum fluctuation، غالبا ما تأخذ شكل جسيمات افتراضية، والتي يمكن أن تظهر من العدم وتختفي مرة أخرى على الفور. [2]

يجب أن تحترم تقلبات الفراغ بعض القواعد. على سبيل المثال، لا يمكن لشحنة كهربائية واحدة أن تظهر فجأة في حالة عدم وجودها (فهذا من شأنه أن ينتهك قانون حفظ الطاقة). وهذا يعني أن الجسيمات المتعادلة كهربائيًا مثل الفوتونات فقط هي التي يمكنها الخروج من الفراغ من تلقاء نفسها. يجب أن تظهر الجسيمات المشحونة كهربائيًا مقترنة بمطابقاتها المضادة للجسيمات. على سبيل المثال، يمكن للإلكترون أن يظهر مع البوزيترون ذي الشحنة الموجبة؛ حيث تلغي الشحنتان بعضهما البعض للحفاظ على الشحنة الإجمالية صفر. والنتيجة هي أن الفراغ يمتلئ بشكل مستمر بتيار من الجسيمات قصيرة العمر.

تأثير كازيمير

وحتى لو لم نتمكن من التقاط هذه الجسيمات الافتراضية في أجهزة الكشف، فإن وجودها قابل للقياس. أحد الأمثلة على ذلك هو “تأثير كازيمير”، الذي تنبأ به الفيزيائي الهولندي هندريك كازيمير في عام 1948. ووفقا لحساباته، يجب أن تتجاذب لوحتان معدنيتان موجهتان ناحية بعضهما البعض في الفراغ، حتى من دون الأخذ في الاعتبار قوة الجاذبية الطفيفة التي يمارسها كل منهما على الآخر. ويرجع سبب ذلك التجاذب إلي الجسيمات الافتراضية.

إن وجود الصفائح يفرض حدودًا معينة يمكن أن تخرج عندها الجسيمات الافتراضية من الفراغ. فعلى سبيل المثال، لا يمكن للفوتونات (جسيمات الضوء) ذات طاقات معينة أن تظهر بين الألواح. وذلك لأن الصفائح المعدنية تعمل كالمرايا التي تعكس الفوتونات ذهابًا وإيابًا. وبالتالي، ستنتهي الفوتونات ذات الأطوال الموجية المحددة بتداخل قيعان الموجات مع قمم الموجات، مما يؤدي إلى إلغاء نفسها بشكل فعال. وسيتم تضخيم الأطوال الموجية الأخرى إذا تداخلت قمتي موجيتين. والنتيجة هي تفضيل طاقات معينة، وقمع طاقات أخرى كما لو أن تلك الفوتونات لم تكن موجودة أبدًا. وهذا يعني أن الجسيمات الافتراضية التي لها قيم طاقة معينة هي فقط التي يمكنها التواجد بين الصفائح. ولكن خارجها، يمكن لأي جسيمات افتراضية أن تظهر. [3]

والنتيجة هي أن هناك احتمالات أقل -وبالتالي عدد أقل من الجسيمات الافتراضية – بين الصفائح مقارنة بما حولها. و تمارس الوفرة النسبية للجسيمات في الخارج ضغطًا على الصفائح، مما يؤدي إلى ضغطها معًا. وهذا التأثير، رغم غرابته، قابل للقياس. وأكد الفيزيائي ستيفن لامورو هذه الظاهرة تجريبيا في جامعة واشنطن في عام 1997، بعد مرور 50 عاما تقريبا على تنبؤ كازيمير. ويأمل الفيزيائيون الآن في استخدام تأثير كازيمير لقياس كتلة الفراغ.

ولهذه الطاقة عواقب مهمة على الكون ككل. تخبرنا النسبية العامة أن الطاقة (على سبيل المثال، في شكل كتلة) تؤدي إلى انحناء الزمكان. وهذا يعني أن الجسيمات الافتراضية، التي تغير طاقة الفراغ لفترة قصيرة، لها تأثير على شكل الكون وتطوره. و عندما أصبح هذا الارتباط واضحًا لأول مرة، أمل علماء الكونيات أن يحل لغزًا كبيرًا في مجالهم، وهو قيمة الثابت الكوني، وهي طريقة أخرى لوصف طاقة و كتلة الفراغ في الفضاء.

تأثير الطاقة الفراغية على القوانين الكونية

الثابت الكوني

نشر أينشتاين نظريته النسبية العامة في عام 1915، لكنه سرعان ما أدرك أن لديه مشكلة. يبدو أن النظرية تتنبأ بتوسع الكون. لكن علماء الفلك في ذلك الوقت اعتقدوا أن كوننا كان ساكنًا، أي أن الفضاء له حجم ثابت وغير متغير. وبعد ثلاث سنوات من نشر النظرية، وجد أينشتاين أنه يستطيع إضافة مصطلح يسمى الثابت الكوني إلى معادلاته دون تغيير القوانين الأساسية للفيزياء. وبالنظر إلى القيمة الصحيحة، فإن هذا المصطلح سيضمن عدم توسع الكون أو انكماشه.

ومع ذلك، في عشرينيات القرن الماضي، استخدم عالم الفلك إدوين هابل أكبر تلسكوب في ذلك الوقت، تلسكوب هوكر في مرصد ماونت ويلسون في كاليفورنيا، لملاحظة أنه كلما كانت المجرة بعيدة عن الأرض، بدا أنها تنحسر بشكل أسرع. وكشف هذا الاتجاه أن الفضاء كان في الواقع يتوسع. وتجاهل حينها أينشتاين الثابت الكوني، ووصفه بأنه “حماقة”.

وبعد أكثر من نصف قرن، حدث تطور آخر. فمن خلال مراقبة المستعرات العظمي البعيدة، أثبت فريقان من الباحثين بشكل مستقل أن الكون لا يتوسع فحسب، بل إنه يفعل ذلك بمعدل متسارع. القوة التي تدفع الفضاء بعيدًا سُميت منذ ذلك الحين بالطاقة المظلمة. إنها بمثابة نوع من النظير للجاذبية، حيث تمنع جميع الأجسام الضخمة من الانهيار في نهاية المطاف في مكان واحد. ووفقا للتنبؤات النظرية، تمثل الطاقة المظلمة حوالي 68% من إجمالي الطاقة في الفضاء. عند هذه النقطة، عاد الثابت الكوني إلى الساحة كتفسير محتمل لهذا الشكل الغامض من الطاقة. ويعتقد أن الثابت الكوني بدوره يحصل على طاقته من الفراغ. [4]

في البداية، كان المجتمع العلمي سعيدًا، إذ بدا أن ثابت النسبية العامة هو نتيجة لطاقة الجسيمات الافتراضية في الفضاء الفارغ. لكن الفرحة لم تدم طويلا. عندما أجرى العلماء الحسابات، تبين أن طاقة الفراغ المستندة إلى نظرية المجال الكمي أكبر بكثير ( أكبر 120 مرة من حيث الحجم ) من قيمة الثابت الكوني المستمدة من قياس توسع الكون. وأفضل طريقة لحل هذا التناقض هي قياس الطاقة الموجودة في الفراغ مباشرة، عن طريق تقييم كتلة الفراغ . أي وزن الجسيمات الافتراضية.

تجربة أرخميدس لقياس طاقة الفراغ

ليست فراغ كما كان يعتقد

إذا كانت طاقة الفراغ المستمدة من نظرية الكم صحيحة، فلا بد أن هناك شيئًا ما يكبح تأثيرات هذه الطاقة على توسع الفضاء. لو كانت هذه القيمة هي القوة الحقيقية للطاقة المظلمة، لكان الفضاء يتضخم بشكل أسرع بكثير. ومن ناحية أخرى، إذا كانت القيمة المستمدة من علم الكونيات صحيحة، فإن الفيزيائيين يبالغون إلى حد كبير في تقدير مقدار الطاقة التي تساهم بها الجسيمات الافتراضية في الفراغ.

إن وجود تقلبات الفراغ والجسيمات الافتراضية قد تم قبوله على نطاق واسع على الأقل منذ ظهور تأثير كازيمير. كما أن القوة المتوقعة لنظرية الكم بالنسبة للتقلبات لا يمكن أن تختفي تمامًا، لأن التجارب المعملية تؤكد النظرية بدقة كبيرة. ولكن هل من الممكن أن الجسيمات الافتراضية لا تنجذب فعليًا بالطريقة التي نفكر بها، وبالتالي لا تؤثر على كتلة الفراغ كما نتوقع؟

حتى الآن لم يتم إجراء قياسات مباشرة لكيفية تصرف الجسيمات الافتراضية فيما يتعلق بالجاذبية. واقترح بعض العلماء أنها قد تتفاعل مع الجاذبية بشكل مختلف عن المادة العادية. على سبيل المثال، في عام 1996، قام الفيزيائيان ألكسندر كاجانوفيتش وإدواردو غندلمان من جامعة بن غوريون بوضع نموذج نظري لا يكون لتقلبات الفراغ فيه أي تأثير جاذبية. قد يكون هذا هو الحال إذا كانت هناك أبعاد إضافية تتجاوز الأبعاد الثلاثة المعتادة للمكان وواحدًا للزمان التي نعرفها. قد تؤدي هذه الأبعاد الخفية إلى تعديل سلوك الجاذبية على مقاييس صغيرة جدًا. ومع ذلك، لا يمكن تفسير الاختلافات الكتلية في النوى الذرية لعناصر مثل الألومنيوم والبلاتين إلا إذا ساهمت تقلبات كمية معينة _ كتلة الفراغ _ في وزنها. ولهذا السبب فإن العديد من علماء الفيزياء مقتنعون بأن الجسيمات الافتراضية تتفاعل مع الجاذبية تمامًا كما تفعل الجسيمات العادية. [5]

مخطط تجربة أرخميدس

للتحقق من أن الجسيمات الافتراضية تتفاعل مع الجاذبية مثل المادة العادية، يريد أعضاء فريق أرخميدس استخدام تأثير كازيمير لقياس كتلة الفراغ بميزان شعاع بسيط. سيوضع الميزان داخل حجرة مفرغة من الهواء، وهي عبارة عن حاوية أسطوانية تحتوي على “لا شيء”. وسيتم وضعها في عدة طبقات من العزل لإبقائها شديدة البرودة ومحمية من البيئة الخارجية. وهذه الطبقات، بدورها، ستستقر عميقًا داخل كهف سردينيا، لتحمي الجهاز الدقيق من كل تأثير محتمل للعالم الموجود فوق الأرض. هذه الحواجز ضرورية لأن العلماء يبحثون عن إشارة دقيقة، وهي الحركة الطفيفة للميزان عند تشغيل تأثير كازيمير، مما يؤدي إلى تغيير وزن مادة العينة عن طريق تغيير عدد الجسيمات الافتراضية بداخلها. [6]

في عام 1929، تساءل الفيزيائي ريتشارد تولمان عما إذا كان من الممكن وزن أشكال معينة من الطاقة (وركز على الحرارة). وبعد سبعة عقود فكر كالوني ( قائد مشروع أرخميدس) في دفع الفكرة إلى الأمام. بعد قراءة ورقة فنية كتبها الفيزيائي الراحل ستيفن واينبرغ. حيث تصور طريقة لقياس كتلة الفراغ باستخدام مبدأ أرخميدس، الذي ينص على أنه عندما يكون الجسم مغمورًا في السائل، فإنه يتعرض لقوة طفو لأعلى تساوي وزن السائل. إذا كانت الجسيمات الافتراضية لها وزن، فإن تجويف الصفائح المعدنية في الفراغ يجب أن يواجه قوة طفو. ويقوم التجويف بشكل أساسي بإزاحة الفراغ العادي، بجسيماته الافتراضية الوفيرة، بفراغ أخف يحتوي على عدد أقل من الجسيمات الافتراضية. وبالتالي فإن تحديد قوة الطفو، التي تعتمد على كثافة الجسيمات الافتراضية، سيكشف عن وزنها!

ولقياس هذه القوة داخل الأنبوب المفرغ، علق الباحثون عينتين مصنوعتين من مواد مختلفة من ميزان يبلغ طوله مترين وعرضه 1.50 متر، ويحفزون تأثير كازيمير داخل واحدة. و للقيام بذلك، قاموا بتسخين كلتا المادتين على فترات منتظمة بحوالي أربع درجات مئوية ثم تبريدهما مرة أخرى. يعد هذا الاختلاف في درجة الحرارة كافيًا لواحدة من العينات للتبديل ذهابًا وإيابًا بين مرحلة التوصيل الفائق (عندما تتدفق الكهرباء بحرية داخل المادة) ومرحلة عازلة (عندما لا يمكن للكهرباء التدفق بسهولة). أما المادة الأخرى فتظل دائمًا عازلًا.

مع تغير الموصلية في العينة الأولى، فإنها تعمل مثل النموذج الكلاسيكي المكون من لوحتين (تأثير كازيمير السابق ذكره)، ويختلف عدد الجسيمات الافتراضية المحتملة داخلها. وبالتالي فإن قوة الطفو تزداد وتنخفض بشكل دوري على الوزن الأول. من المفترض أن يؤدي هذا الاختلاف إلى تأرجح الميزان على فترات منتظمة، مثل الأرجوحة التي يجلس عليها طفلان.

أثناء التخطيط للتجربة، كان العلماء بحاجة إلى العثور على مادة مناسبة يمكن تسخينها وتبريدها بشكل منتظم وسريع، وتظهر تأثير كازيمير قويًا. وبعد النظر في عدة خيارات، اختار الفريق بلورات فائقة التوصيل تسمى النحاسات Cuprates. والعينات الناتجة عبارة عن أقراص يبلغ قطرها حوالي 10 سنتيمترات ولا يزيد سمكها عن عدة ملليمترات. حتى الآن، لم يثبت أحد أن تأثير كازيمير يعمل في الموصلات الفائقة ذات درجة الحرارة العالية، لكن العلماء يراهنون على ذلك.

قام الباحثون بضبط الميزان بحيث يتم تعليقه بحرية في الفضاء داخل حجرته المفرغة، والتي سوف تبرد الجهاز بأكمله إلى أقل من 90 كلفن (أقل بقليل من -180 درجة مئوية). سيتم تعبئة الغرفة نفسها في حاويتين معدنيتين أكبر – علبة مملوءة بالنيتروجين السائل، داخل حاوية أخرى خالية من الهواء، والتي تعمل مثل (الترمس). ويبلغ ارتفاع الهيكل بأكمله حوالي ثلاثة أمتار وعرضه وعمقه ويزن عدة أطنان.

تكنولوجيا متقدمة للكشف عن القوة الصغيرة

بدأ كالوني العمل مع زملائه في عام 2002 لتطوير نموذج نظري لحساب قوة الطفو لمختلف النماذج التجريبية. ووجدوا أن القوة في تجربة واقعية ستكون حوالي 10-16 نيوتن. إن قياس مثل هذه القوة الصغيرة يشبه محاولة وزن الحمض النووي في الخلية. في الواقع، يمكن للتكنولوجيا المستخدمة في أجهزة كشف موجات الجاذبية اليوم، والتي رصدت هدفها لأول مرة في عام 2015، أن تساعد في الكشف عن إشارات الجاذبية الصغيرة التي تبحث عنها تجربة أرخميدس. شارك كالوني نفسه في بناء كاشف موجات الجاذبية الإيطالي VIRGO.

ولكي تكون تجربة أرخميدس قادرة على اكتشاف الانحرافات الصغيرة التي تسعى إليها، فإنها ستستخدم نظامين ليزر يشتركان في بعض أوجه التشابه مع إعدادات الليزر والمرايا داخل كاشفات موجات الجاذبية. الأول يقسم شعاع الليزر إلى قسمين عن طريق توجيهه من خلال مقسم الشعاع إلى طرفي المقياس، حيث ينعكسان بواسطة المرايا المرفقة. ثم يتم إعادة تجميع الحزم بواسطة المزيد من المرايا وتنتقل إلى الكاشف. إذا كان الشعاع متوازنًا، فإن الشعاعين سيسافران بنفس المسافة  تمامًا. إذا كانت الذراع مائلة قليلاً في اتجاه واحد، فإن الحزم ستغطي مسافات مختلفة. في هذه الحالة، ستلتقي قمم وقيعان موجات شعاع الليزر في جهاز القياس بطريقة متداخلة، مما ينتج عنه شدة مختلفة Different intensities. ويمكن لهذا النظام اكتشاف حتى أصغر الانحرافات عن التوازن.

تقوم مجموعة ثانية من أجهزة الليزر بقياس اتجاه الميل إذا كانت هناك حركة كبيرة. إن النموذج الأولي المبسط للتجربة، والذي يتم إجراؤه في درجة حرارة الغرفة، حساس بالفعل بشكل ملحوظ، وهو ما يبشر بالخير لأداء جهاز أرخميدس النهائي. ولكن حتى مع أنظمة القياس المتطورة هذه، فإن تنفيذ التجربة سيكون صعبًا ولحماية التوازن من العالم الخارجي، احتاج الفيزيائيون إلى موقع به أقل قدر ممكن من النشاط الزلزالي، ومن هنا جاءت سردينيا. الجزيرة لديها مزايا أخرى، فهي ليست مكتظة بالسكان، مما يبقي الضوضاء التي يسببها الإنسان منخفضة. كما أن لديها أكثر من 250 منجمًا مهجورًا، لم يعد الكثير منها قيد الاستخدام، وهو أمر جذاب نظرًا لوجود عدد أقل من الاهتزازات تحت الأرض ولأن درجة الحرارة داخل المنجم مستقرة بشكل خاص.

تم الانتهاء مؤخرًا من الإصدار النهائي لإعداد الميزان وشحنه إلى سردينيا. توجد غرفة الفراغ في موقع الاختبار، لكن غلافيها الخارجيين لا يزالان قيد الإنتاج. عندما يصل الغلافان، سيصبح الكهف جاهزًا، وسينقل العلماء النموذج بأكمله إلى هذه الغرفة المظلمة الموجودة تحت الأرض، ويبدأون في كشف النقاب عن مقدار كتلة الفراغ.

المصادر

1-Virtual Particles
2-Vacuum Fluctuations of Energy Density can lead to the observed Cosmological Constant
3-Science and technology of the Casimir effect
4-A new generation takes on cosmological effect
5-Relativity versus quantum mechanics: the battle for the universe
6-?How Much Does ‘Nothing’ Weigh

لم حازت النقاط الكمومية على جائزة نوبل للكيمياء لعام 2023؟

تخيل بلورة نانوية صغيرة جدًا لدرجة أنها تتصرف مثل الذرة. هذا ما حصل بسببه كل من مونجي جي. باوندي، ولويس إي. بروس، وأليكسي إيكيموف على جائزة نوبل في الكيمياء لعام 2023. إذ اكتشف الثلاثي فئة من هذه الأعاجيب الدقيقة، المعروفة الآن باسم “النقاط الكمومية”، وقد حصلوا على الجائزة عن تطويرهم طريقة دقيقة لتركيبها. فما هي النقاط الكمومية؟

نبذة موجزة عن النقاط الكمومية

تسمى النقاط الكمومية أحيانًا بالذرات الاصطناعية، فهي عبارة عن بلورات نانوية دقيقة مصنوعة من السيليكون ومواد شبه موصلة أخرى. يبلغ عرض النقطة الكمومية بضعة نانومترات فقط، وهي صغيرة بما يكفي لإظهار خصائص كمومية تمامًا كما تفعل الذرات الفردية، على الرغم من أن حجمها يصل إلى مائة أو بضعة آلاف من الذرات. ونظرًا لإمكانية احتجاز الإلكترونات عند مستويات معينة من الطاقة داخلها، فإن البلورات النانوية قادرة على أن تبعث أطوال موجية معينة من الضوء. ومن خلال التحكم في حجم الجسيمات، يستطيع الباحثون برمجة اللون الدقيق الذي ستومض به النقاط الكمومية عند تحفيزها.

أوضح هاينر لينكه، عضو لجنة نوبل للكيمياء وأستاذ فيزياء النانو، أن ميكانيكا الكم تتنبأ بأنه إذا أخذت إلكترونًا وضغطته في مساحة صغيرة، فسيتم ضغط الدالة الموجية للإلكترون. وكلما صغرت المساحة، زادت طاقة الإلكترون، مما يعني أنه يمكن أن يعطي المزيد من الطاقة للفوتون.

في جوهر الأمر، يحدد حجم النقطة الكمومية اللون الذي ستتلون هي به. وتلمع الجسيمات الصغيرة باللون الأزرق، بينما تلمع الجسيمات الأكبر باللونين الأصفر والأحمر.[1]

سباق تجاه عالم النانو

لفترة طويلة، اعتقد الناس أنه من المستحيل تصغير الجسيمات لهذه الدرجة، لكن الفائزين هذا العام نجحوا في ذلك. ففي عام 1981 في معهد فافيلوف الحكومي للبصريات في الاتحاد السوفييتي، كان إيكيموف أول شخص ينجح في ذلك من خلال إضافة النحاس والكلور إلى الزجاج. وقد أظهر كلوريد النحاس قدرة على التشكّل في هيئة بلورات نانوية على يدي إيكيموف، وبدا لون الزجاج مرتبط بحجم الجزيئات.

وفي عام 1983، في مختبرات بيل، كشف بروس ثاني أسرار هذه الجسيمات، التي طفت بحريّة في محلول سائل أثناء تجاربه على استخدام الضوء لتحفيز التفاعلات الكيميائية. وقد لاحظ بروس، أن الحجم يغير الخصائص البصرية للجسيمات النانوية. أثارت هذه الخاصية الكثير من الاهتمام! ولم تغب الفائدة الإلكترونية الضوئية المحتملة لمثل هذه الجسيمات عن خبراء التكنولوجيا، الذين حذوا حذو مارك ريد من جامعة ييل في الإشارة إليها باسم “نقاط كمومية”. لكن على مدار العقد التالي، ناضل الباحثون للتحكم بدقة في حجم وجودة هذه الجسيمات.

وفي عام 1993، اخترع باويندي طريقة كيميائية بارعة لصنع جسيمات نانوية مثالية. لقد كان قادرًا على التحكم في اللحظة الزمنية المحددة التي تتشكل فيها البلورات. ثم تمكن من التحكم في إيقاف واستئناف نمو حجم تلك البلورات. وقد أكسبت اكتشافاته النقاط الكمومية فوائد كبيرة على نطاق واسع في مجموعة متنوعة من التطبيقات.

نموذج الصندوق ذو البئر الجهدي اللانهائي

على مدى العقود الماضية، عندما أصبحت أجهزة أشباه الموصلات أصغر حجمًا، استاء الفيزيائيون بشكل متزايد من ميكانيكا الكم. وعلى وجه الخصوص، يبدو أن بعض الأفكار البسيطة حول الذرات والجزيئات تفسر الخصائص التي تبدو غريبة لأجهزة أشباه الموصلات المصنعة صناعيًا. أحد هذه الأجهزة هو هيكل “النقطة الكمومية”. هذا الهيكل هو في الأساس صندوق صغير يحتوي على عدد صغير قابل للزيادة والنقصان من الإلكترونات. بسبب صغر حجمه وطاقته المنخفضة، يمكن لصندوق الإلكترونات هذا أن يحمل خصائص ذرية. على سبيل المثال، تغيير عدد الإلكترونات في النقطة الكمومية بواحد يكلف طاقة محدودة وقابلة للقياس، وهي مماثلة لطاقة التأين للذرة.

ولشرح ما المقصود بالسابق علينا شرح مايسمي ب الجسيم داخل صندوق ذو بئر جهدي لا نهائي” أو “Confined motion: particle in a box”. هو مفهوم يستخدم في ميكانيكا الكم لوصف حركة جسيم داخل مجال محصور ضيق ومحاط بحائط غير قابل للنفاذ. ويستخدم هذا النموذج لشرح الفارق بين ميكانيكا الكم والميكانيكا الكلاسيكية. حيث تتناسب الأولى مع الأنظمة الكمومية متناهية الصغر، مثل الذرات والجسيمات الأساسية. في حين تنطبق الثانية على الأشياء الكبيرة.

في النظم التقليدية، يمكن للجسيم الحركة بأي سرعة داخل الصندوق، واحتمال وجوده في أي مكان داخله متساوٍ. ولكن عندما يكون الصندوق متناهي الصغر بأبعاد نانومترية، تصبح التأثيرات الكمومية مهمة، وتحدد تصرفات الجسيم. ويبدأ الجسيم في اتخاذ مستويات طاقة معينة داخل الصندوق.

تكوين النظام وشروطه

في هذا السياق، نتحدث عن جسيم مثل الإلكترون. هذا الجسيم يمكن أن يكون محاصرًا داخل منطقة معينة ومحددة تسمى “صندوق”. هذا الصندوق يكون ذا أبعاد محددة، مثل مربع أو مستطيل. و يتألف النظام من نموذج بئر أحادي الأبعاد ويحتوي على جسيم يتحرك بحرية. على سبيل المثال، يمكن أن نتخيل الإلكترون محبوسًا بين جدران ذات جهدين عاليين و يمكن التنقل بينهما.

في الرسم التوضيحي، يُمثل الجدران بوضوح بوجود حائطين، أحدهما عند الموقع x=0 والآخر عند الموقع x=L، والحائطان متوازيان. يفترض هذا النموذج أنه لا توجد قوى داخل الصندوق تؤثر على الجسيم، مثل قوة الجاذبية أو المجال الكهرومغناطيسي، وأن عرض الصندوق هو L. و بما أن الجهد خارج الصندوق كبير لا نهائي، فإن الجسيم لا يمكنه مغادرة الصندوق. وبناءً على ذلك، سيتحرك الجسيم داخل الصندوق بسرعة ثابتة v وقد يصطدم بالجدران وينعكس دون فقدان أي جزء من طاقته.

لغز الإلكترون

الآن، لنتخيل أننا نراقب الإلكترون داخل الصندوق ونقوم بقياس طاقته، هنا سنكتشف شيئًا مدهشًا! الإلكترون لا يمكنه أن يأخذ أي قيمة حُرة للطاقة. بالأحرى، يمكنه فقط أخذ بعض القيم المعينة والمحددة للطاقة. هذا يعني أنه عندما نقوم بقياس طاقة الإلكترون في الصندوق، سنجد أن الإلكترون يمكنه أن يمتلك قيم معينة فقط، مثل 1 و 2 و 3 وهكذا. ولا يمكن للإلكترون في هذه الحالة أن يأخذ أي قيمة طاقة بين هذه القيم، مثل 1.5 أو 1.9. أي أن القيم محددة Quantized وليست متصلة، و هذا ما يسمى بـ “تقانات الطاقة المتجانسة” في ظاهرة الجسيم في صندوق.

بناءً على ذلك، يتخذ الجسيم مواضع محددة داخل الصندوق. حيث يكون عرض الصندوق L مساويًا لمضاعفات نصف طول الموجة، مما يؤدي إلى انعكاس الموجة على الجدران بحيث تتشكل موجة ثابتة. أما إذا كانت L ليست مضاعفة لنصف طول الموجة، فعند انعكاس الموجة، ستتداخل الموجات بشكل هدّام وتتلاشى. هذه نتيجة من نتائج ميكانيكا الكم، حيث يتخذ الجسيم داخل الصندوق مستويات طاقة معينة تعتمد على عدد رئيسي n.

بسبب وجود الجسيم داخل صندوق ذو جهد محدد، يكون لزامًا عليه اتخاذ حالات معينة مرتبطة بعدد صحيح n. وعلى ذلك، يكون للجسيم القدرة فقط على اعتماد مجموعة محددة من الطاقات تعتمد على القيم المحددة لـ n. فإذا أثير الجسيم – مثلما يحدث للإلكترون عند إثارته في الذرة عن طريق امتصاصه لطاقة من الخارج – فإن الإلكترون يقفز من مستوي طاقة الموجود فيه إلى مستوى طاقة أعلى، فيما يسمى قفزة كمومية. وعندما يقفز الإلكترون من مستوى طاقة عالي إلى مستوى طاقة منخفض فإنه يطلق الطاقة الزائدة في شكل فوتون له طاقة موجية محددة (لون محدد). وهذا يظهر لنا كيف تتصرف الجسيمات على مستوى النانومتر في عالم الكمومية، حيث يكون لها قيم معينة ومحددة للطاقة. وتلك الدوال الموجية والطاقات المحددة تلعب دورًا مهمًا في فهم النقاط الكمومية أو Quantum dots.

ما هي النقاط الكمومية أو Quantum Dots؟

إنها جسيمات نانوية من صنع الإنسان صغيرة جدًا بحيث تخضع خصائصها لميكانيكا الكم السابق ذكرها. فمن الممكن اعتبار النقط الكمية بأنها مثل تلك الصناديق ذو البئر الجهدي السابق وصفها. وبناءًا على حجم الصندوق، لا ينبعث منها سوى أطوال موجية محددة تبعًا لإثارتها. وتشمل هذه الخصائص انبعاث الضوء، حيث يعتمد الطول الموجي للضوء المنبعث فقط على حجم الجسيمات. وتمتلك الإلكترونات الموجودة في الجسيمات الأكبر طاقة أقل فتبعث ضوءًا أحمر، في حين أن الإلكترونات الموجودة في الجسيمات الأصغر لديها طاقة أكبر، فتصدر ضوءًا أزرق.

لويس بروس وسحر الألوان الكمية

اكتشف لويس بروس هذا التباين اللوني أثناء عمله في مختبرات بيل في الولايات المتحدة. حيث استهدف بروس إجراء تفاعلات كيميائية باستخدام الطاقة الشمسية. ولتحقيق ذلك، لجأ بروس لجزيئات كبريتيد الكادميوم، التي يمكنها التقاط الضوء، ومن ثم استخدم طاقته لتحفيز التفاعلات.

وضع بروس الجسيمات في محلول ليجعلها صغيرة جدًا، فتعطيه مساحة أكبر لإحداث التفاعلات الكيميائية فيها. وأثناء عمله على هذه الجسيمات الصغيرة، لاحظ بروس شيئًا غريبًا! لقد تغيرت الخصائص البصرية للجسيمات بعد أن تركها على طاولة المختبر لفترة من الوقت! خمن بروس أن نمو الجسيمات قد يكون السبب، ولتأكيد شكوكه، أنتج جسيمات كبريتيد الكادميوم التي يبلغ قطرها حوالي 4.5 نانومتر فقط. بعد ذلك، قارن بروس الخصائص البصرية لهذه الجسيمات المصنوعة حديثًا مع تلك الخاصة بالجسيمات الأكبر حجمًا، والتي يبلغ قطرها حوالي 12.5 نانومتر. امتصت الجسيمات الأكبر الضوء بنفس الأطوال الموجية التي يمتصها كبريتيد الكادميوم عمومًا. لكن الجسيمات الأصغر كان لها امتصاص تحول نحو اللون الأزرق.

أدرك بروس حينها أنه لاحظ تأثيرًا كمّيًا يعتمد على الحجم، فنشر اكتشافه في عام 1983. ثم بدأ في فحص الجزيئات المصنوعة من مجموعة من المواد الأخرى، وكان النمط هو نفسه. فكلما كانت الجسيمات أصغر، كلما كان الضوء الذي تمتصه أكثر زرقة.

يمكن للباحثين أن يحددوا بدقة لون الضوء الذي سينبعث من النقاط الكمومية ببساطة عن طريق تنظيم حجمها. وهذا يوفر ميزة كبيرة مقارنة باستخدام الأنواع الأخرى من جزيئات الفلوروسنت، والتي تتطلب نوعًا جديدًا من الجزيئات لكل لون مميز. ولا تقتصر هذه الميزة في إمكانية التحكم على لون النقاط الكمومية فحسب. فبجانب إمكانية ضبط حجم الجسيمات النانوية، يمكن للباحثين أيضًا ضبط تأثيراتها الكهربائية والضوئية والمغناطيسية. كل ذلك بالإضافة إلى خصائصها الفيزيائية مثل نقطة انصهارها أو كيفية تأثيرها على التفاعلات الكيميائية. [3]

كيف جعل عمل باوندي النقاط الكمومية عملية؟

في عام 1993، طوّر باوندي وفريقه في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا طريقة لإنتاج النقاط الكمومية بشكل أكثر دقة وبجودة أعلى مما كان ممكنا. لقد وجدوا طريقة لتنمية البلورات النانوية في لحظة عن طريق حقن سلائفها الكيميائية في مذيب شديد الحرارة. كما تمكن الباحثون من إيقاف نمو البلورات بشكل فوري عن طريق خفض درجة حرارة المذيب، مما أدى إلى تكوين “بذور” بلورية متناهية الصغر. ومن خلال إعادة تسخين المحلول ببطء، تمكنوا من تنظيم عملية نمو البلورات النانوية. أنتجت طريقتهم بلورات بالحجم المطلوب، وكانت قابلة للتكيف مع أنظمة مختلفة.

فيم تستخدم النقاط الكمومية؟

بعد مرور ثلاثين عامًا، أصبحت النقاط الكمومية الآن جزءًا مهمًا من مجموعة أدوات تكنولوجيا النانو، وهي موجودة اليوم في عدد من المنتجات التجارية.

يتم استخدام الخصائص المضيئة للنقاط الكمومية في شاشات الكمبيوتر والتلفزيون بناءً على تقنية QLED، حيث يرمز حرف Q إلى النقطة الكمومية Quantum dots. في هذه الشاشات، يتم توليد الضوء الأزرق باستخدام “الدايودات الموفرة للطاقة” والتي تم منح جائزة نوبل في الفيزياء لعام 2014 عنها بالفعل. وتستخدم النقاط الكمومية لتغيير لون بعض الضوء الأزرق، وتحويله إلى اللون الأحمر أو الأخضر. هذه القدرة على التحكم قادرة على إنتاج الألوان الأساسية الثلاثة للضوء RGB (الأحمر والأخضر والأزرق) المطلوبة في شاشة التلفزيون.

يمكن أيضًا استخدام الضوء الصادر عن النقاط الكمومية في الكيمياء الحيوية والطب. حيث يربط علماء الكيمياء الحيوية النقاط الكمومية بالجزيئات الحيوية لرسم خريطة للخلايا والأعضاء. كما بدأ الأطباء في دراسة إمكانية استخدام النقاط الكمومية لتتبع أنسجة الورم في الجسم.

يستخدم الكيميائيون بدلاً من ذلك الخصائص التحفيزية للنقاط الكمومية لدفع التفاعلات الكيميائية. وبالتالي فإن النقاط الكمومية تحقق فائدة عظيمة للبشرية، وقد بدأنا للتو في استكشاف إمكاناتها. ويعتقد الباحثون أن النقاط الكمومية يمكن أن تساهم في المستقبل في الإلكترونيات المرنة، وأجهزة الاستشعار الصغيرة، والخلايا الشمسية الأقل حجما، وربما الاتصالات الكمومية المشفرة. هناك شيء واحد مؤكد، وهو أنه لا يزال هناك الكثير لنتعلمه عن الظواهر الكمومية المذهلة.

المصادر:

1-Nobel Prize
2-Particle in a box
3-Quanta Magazine

كيمياء النيتروجين و خصائصه الفريدة لصناعة الأسمدة النيتروجينية

تعتبر الأسمدة النيتروجينية من العناصر الغذائية الأساسية التي تلعب دورًا حاسمًا في تحسين نمو النباتات وإنتاج المحاصيل الزراعية. حيث يساعد النيتروجين في تطوير الأوراق والسيقان. و تُستخدم بشكل واسع في الزراعة لتحقيق إنتاجية أفضل وجودة عالية للمحاصيل. و يتم توفير النيتروجين عادة من خلال الأسمدة النيتروجينية. يعد تحديد الكميات المناسبة لاستخدام هذه العناصر الغذائية أمرًا حاسمًا لضمان نمو نباتات صحية وزيادة الإنتاج الزراعي. سنتكلم في هذا الموضوع  حول فوائد وتطبيقات استخدام النيتروجين في عملية التسميد بالإضافة إلي ظواهر و تطبيقات مهمة لهذا العنصر .

الخصائص الكيميائية للنيتروجين

يوجد النيتروجين فى المجموعة ال 15 من الجدول الدوري. ويرمز إلي النيتروجين ب (N) وعدده الذري 7. ويحدد العدد الذري عدد البروتونات داخل النواة. و يوجد عادة علي شكل غاز لارائحة له ولا لون. ويكون في أغلب الأحيان خاملاً ( غير قابل للتفاعل). وعنصر النيتروجين المستقل هو غاز مكون من جزيئات النيتروجين المكونة من ذرتي نيتروجين مترابطتين. ويطلق علي هذا النوع من الجزيئات اسم جزيئات “ثنائية الذرة”. والصيغة الكيميائية للنيتروجين ثنائي الذرة هي (N2) ويمثل غاز النيتروجين (80%) من حجم الغلاف الجوي. ويعد رابع الغازات انتشاراً فى الكون. كما أن النيتروجين عنصر مهم بالنسبة للكائنات الحية. إذ يوجد فى كافة الأنسجة الحية. وتضم المركبات العامة التي تحتوي علي النيتروجين كل من النشادر (NH3) وحمض النيتريك (HNO3) والسيانيد والأحماض الأمينية. إن العنصر الوحيد الذي يتفاعل معه عند درجة حرارة الغرفة هو الليثيوم. الذي يشكل نيتريد الليثيوم (Li3N). كما يتفاعل الماغنيسيوم مباشرة مع النيتروجين, ولكن عند الاحتراق.[1]

اكتشاف النيتروجين

عرف الإنسان مركبات النيتروجين قبل أن يعرف النيتروجين كعنصر بفترة طويلة، وذلك حين استخدم نترات الصوديوم أو البوتاسيوم فى صنع البارود. فقد تم انتاج البارود للمرة الأولى في الصين في القرن التاسع. ثم استخدمت نترات البوتاسيوم كسماد. لقد عرف الخيميائيون ( الكيميائيون الأوائل) فى العصور الوسطي مركبات النيتروجين معرفة جيدة. كما جري تحضير حمض النيتريك صناعياً، والمعروف باسم حمض النيتريك المركز، في الشرق الأوسط  حوالي عام (800 ميلادي). واكتشف الخيميائيون خلال فترة قصيرة بأن حمض النيتريك يمكن مزجه مع حمض الهيدروكلوريك لتكوين مايعرف ب ” الماء الملكي”، وهو عبارة عن حمض يستطيع إذابة الذهب.

اكتشف عنصر النيتروجين كيميائي اسكتلندي يدعي “دانيال رذرفورد” (1749-1819) فى عام (1772). ثم تابع كيميائيون آخرون مسيرته العلمية، حيث أشار الكيميائي الفرنسي  ” أنطون لافوازيه” فى عام (1776) بأ، هذا الغاز كان عبارة عن عنصر.[5]

النيتروجين و التسميد الزراعي

عملية تثبيت النيتروجين من الغلاف الجوي

يشكل النيتروجين بمفرده أكبر كمية من مكونات الهواء. إذ تقدر كتلة النيتروجين فى الغلاف الجويب (4000 تريليون طن). يتوافر النيتروجين فى الغلاف الجوي بنسبة تبلغ أربع أضعاف كمية الأكسجين، لكن كمية الأكسجين على الأرض تزيد عن النيتروجين بحوالي (10000 مرة). فالأكسجين يعد مركباً أساسياً من المركبات التي تتكون منها اليابسة، ولا، النيتروجين لايشكل شبكة بلورية مستقرة( بنية ذات قوام منتظم) فإنه نادراً مايدخل فى تركيب الصخور والمعادن الطبيعية. وهذا هو أحد الأسباب التي تجعل النيتروجين أكثر تركيزاً من الأكسجين فى الغلاف الجوي. أما السبب الآخر، فهو أن النيتروجين مستقر جداً فى الغلاف الجوي، خلافاً للأكسجين، ولا يشارك فى العديد من التفاعلات الكيميائية. ونتيجة لذلك، يتراكم النيرتوجين فى الغلاف الجوي بكميات أكثر من الأكسجين.

إن عملية تثبيت النيتروجين يتم بواسطتها اتحاد النيتروجين الموجود في الغلاف الجوي مع عناصر أخري بطريقة تسهل امتصاصه من قبل النباتات. ويتم تثبيت النيتروجين بصورة رئيسية عن طريق النباتات البقلية، مثل الفول والبرسيم، لكن تثبيته أيضاً يتم بواسطة البرق. لقد طورت بعض أشكال البكتيريا آلية استطاعت بواسطتها إزالة غاز النيتروجين الموجود في الهواء وتحويله إلي بروتين عن طريق تثبيت النيتروجين. وتستفيد العديد من أنواع البكتيريا من العلاقة الوثيقة مع النباتات التي تحتاج إلي النيتروجين. وتساعد هذه النباتات علي إثراء التربة بالنيتروجين الزائد القابل للذوبان. توصف عملية تثبيت النيتروجين بواسطة البكتيريا من خلال تفاعل النيتروجين مع الفورمالدهيد (CH2O) والماء وأيونات الهيدروجين (H+) لتكوين ثاني أكسيد الكربون (CO2) وأيونات النشادر (NH4+) .[2]

عملية هابر وإنتاج السماد

يستخدم النشادر غير المائي كسماد في أنحاء مختلفة من العالم. ويتم إنتاج النشادر بواسطة عملية تسمي ” عملية هابر”. إذ يتم إنتاج مايزيد عن (500 مليون طن) سنوياً من السماد بهذه الطريقة. وتتلخص تلك العملية فى التفاعل الذي يتم بين النيتروجين والهيدروجين لإناتج النشادر. حيث نال الكيميائي الألماني( فريتز هابر) براءة اختراع هذا النظام فى عام (1908). وتستخدم تلك الطريقة فى انتاج النشادر الغير مائي ونترات النشادر واليوريا التي تدخل فى صناعة الأسمدة. ويحدث هذا التفاعل بمساعدة عامل حفاز ” الحديد”  تحت ضغط يعادل (200 مرة) درجة الضغط الجوي، ودرجة حرارة  تتراوح بين (450_ 500 درجة سيليزية). أما ناتج التفاعل فلا يتجاوز ( 10 _ 20%) ويصل التفاعل إلي حالة التوازن، لكنه يظل مستمراً طوال إزالة الناتج وإضافة المتفاعلات.[3]

مركبات نيتروجينية

يمكن اعتبار النشادر أكثر مركبات النيتروجين أهمية. ويستخدم النشادر كغذاء بالنسبة للنباتات، حيث يتحد مع جزيئات الكربون العضوي لتكوين مركبات كيميائية تعرف باسم الأمينات. يمكن أن تتجمع هذه الأمينات لتكون حمض النشادر، الذي يعد من المركبات الحيوية بالنسبة للكائنات الحية. وبالإضافة إلي ذلك، يشكل النيتروجين أكاسيد أخري مختلفة مع الأكسجين. وهناك نوع من هذه الأكاسيد يسمي أكاسيد النيتروز (N2O). وهو عبارة عن مادة مخدرة معروفة باسم ” غاز الضحك” . كما يتشكل أول أكاسيد النيتروجين (NO) وثاني أكسيد النيتروجين (NO2) عندما يحدث احتراق الهيدروكربونات فى الهواء تحت ضغط مرتفع. ويتم إنتاج الأكاسيد النيتروجينية داخل محركات الإحتراق الداخلي. أما في الغلاف الجوي، فتشكل هذه الأكاسيد النيتروجينية ما يعرف بالضباب الدخانى، وهو شكل من أشكال ضباب الغلاف الجوي الناتج عن تفاعل ضوءالشمس مع الملوثات. ويتصف نوعان آخران من المركبات التي تتكون من النيتروجين والأكسجين، هما ثالث أكسيد النيتروجين المزدوج (N2O3) وخامس أكسيد النيتروجين بخاصية عد الاستقرار وقابلية الانفجار.

إن أكاسيد النيتروجين التي تتشكل فى محركات الاحتراق الداخلي لاتسبب حدوث الضباب الدخاني فحسب، بل تتفاعل أيضاً مع بخار الماء فى الغلاف الجوي وتنتج حمض النيترك وحمض النيتروز. وتذوب الأحماض الغازية في ماء المطر وتشكل ترسبات حمضية يطلق عليها الأمطار الحمضية. ويمكن أن تسرع الأمطار الحمضية من أثر العوامل الجوية على الصخور، بما في ذلك الصخور والحجارة المستخدمة فى المباني والمنحوتات.[4]

النيتروجين السائل

بالإضافة إلي دور النيتروجين الحيوي في عملية الزراعة، فلا يمكننا إغفال أحد أهم تطبيقاته وهو النيتروجين السائل. يطلق علي دراسة درجات الحرارة المنخفضة جداً اسم “التبريد الفائق”. يمكن تنفيذ التبريد الفائق بواسطة الغازات السائلة، ومن أهم الغازات المستخدمة لهذا الغرض هو النيتروجين السائل الذي يتم استخدامه فى العديد من التطبيقات المفيدة. ففي المجال الطبي، يستخدم النيتروجين السائل لتجميد مساحات من الجلد من أجل معالجة سرطانات الجلد . كما يستعمل أيضاً فى عمليات تجميد الدم البشري والحيوانات المنوية والأجنة كي يعاد إستخدامها في فترات زمنية لاحقة. ويستخدم في الصناعات الغذائية في عمليات التجميد السريع، وعند زوال تجميد الطعام بهذه الطريقة، لاتتكاثر فيه البكتيريا لأن النيتروجين يحل محل الأكسجين الموجود في الطعام. يمكن كذلك ضخ النيتروجين السائل في آبار النفط من أجل زيادة الضغط في أسفل تلك الآبار، مما يؤدى إلي اندفاع النفط نحو السطح.

المصادر:

1-Nitrogen properties

2-Nitrogen Fixation

3-Haber process

4-Acidic rain

5-Nitrogen Discovery

كيف استخدمت الموصلية الفائقة في صناعة المجسات الفوتونية ؟

تعمل عيوننا كمجسات للضوء شديدة الحساسية، حيث تعينان شدة الأشعة الساقطة عليهما ولونها وانتشارها في الفضاء. وتمتلك شبكية العين البشرية من (البكسلات) أكثر مما تمتلكه آلة تصوير رقمية. ففي الشبكية نحو ستة ملايين من الخلايا المخروطية التي تتحسس باللون وأكثر من 100 مليون من الخلايا الأسطوانية المسؤولة عن الرؤيا في الظلام. والعيون حساسة جداً، حيث أن خلية واحدة أسطوانية معتادة على الظلام يمكن أن تطلق إشارة إلي الدماغ عند امتصاصها جسيما واحداً من جسيمات الضوء (فوتوناً). والفوتون هو أصغر وحدة كمومية من موجة كهرومغناطيسية. وتلزم ست فقط من إشارات الفوتون الواحد لكي يري الدماغ ومضة. لكن العيون وآلات التصوير التجارية بعيدة عن أن تكون مثالية للعديد من المهمات. لأنها لا تستطيع أن تكشف سوى تلك الفوتونات التي تقع تردداتها في المدي المرئي الضيق. وأكثر من ذلك فإن قدراتها اللونية لا تتضمن قياس التردد المضبوط  لكل فوتون. ومن هنا أتى احتياجنا الكبير لمجسات فوتونية علمية وصناعية قادرة على كشف المجالات الكهرومغناطيسية التي تقع خارج مدي الضوء المرئي. نريد مجسات فوتونية قادرة على التقاط عوالم الأشعة تحت الحمراء والموجات الميكروية، حيث الترددات منخفضة (الأطوال الموجية طويلة، والطاقة منخفضة).

يفتقر العلماء بصورة خاصة، بالنسبة إلي الأطوال الموجية المرئية والأطول منها، إلي أجهزة قادرة علي رؤية فوتون منفرد وعلي تمييز تردده، ومن ثم طاقته بأي دقة كانت. حيث إن تعيين تردد الفوتونات يفتح الباب أمام ثروة من المعلومات حول المادة المصدرة لهذه الفوتونات. إن كشف الفوتونات بابتكار مجسات أساسها الموصلية الفائقة، بإمكانها القيام بمثل تلك القياسات الدقيقة وبأمور أخرى غير عادية. إذ أن هذه الأدوات الجديدة تحسن حساسية القياسات على مدى الطيف الكهرومغناطيسي من الموجات الراديوية إلي الضوء المرئي إلي أشعة جاما تحسينا مذهلا.

هشاشة الموصلات الفائقة ودورها في صناعة مجسات فوتونية

من الغريب أن تكون خاصية التوصيلية الفائقة التي نتج عن استخدامها في تطبيقات مثل نقل القدرة الكهربائية، هي بالضبط الميزة التي احتاجها العلماء لصناعة مجسات للفوتونات. فالموصلية الفائقة التي هي سريان التيار الكهربي من دون مقاومة، وتنشأ حين ترتبط الإلكترونات فى مادة مناسبة بعضها ببعض لتشكل ما يسمي أزواج كوبر Cooper pairs.

تسري أزواج كوبر عندئذ كمائع فائق. وهناك تأثير ميكانيكي كمومي مفاده أن الموصلية الفائقة لا تحدث فى المادة إلا حين تُبَرد هذه المادة إلي درجة حرارة منخفضة جداً، وتدعي حرارة التحول الحرجة لتلك المادة. وتبريد المادة ينقص اهتزاز ذراتها. فإذا ارتفعت درجة الحرارة فوق حرارة العتبة (Threshold)، أبعدت الطاقة الحرارية للتصادمات الإهتزازية الإلكترونين الشريكين في أزواج كوبر أحدهما عن الآخر. وأزالت بذلك الموصلية الفائقة. وبسبب هذه الحساسية للحرارة لا بد من تبريد العديد من الموصلات الفائقة إلي درجات قليلة فقط فوق الصفر المطلق ( درجة 0 كلفن تساوي 273.15-). وتحتاج بعض الأنواع إلي درجات حرارة منخفضة لا تتجاوز أجزاء قليلة من المئة من الكلفن.

هشاشة مفيدة

ولكن هشاشة الموصلية الفائقة بحد ذاتها هي الصفة التي تجعلها مناسبة بصورة مثالية للاستخدام فى المجسات الحساسة. وتعتمد مجسات الفوتونات فائقة الموصلية علي مقدرة طاقة فوتون منفرد علي تمزيق الآلاف من أزواج كوبر. عندئذ يمكن قياس التغير في حالة الموصلية الفائقة بعدة طرق بهدف الكشف عن الطاقة التي أعطاها الفوتون أي لصناعة المجسات الفوتونية. ولما كانت طاقة الفوتون متناسبة مع تردده، فإن هذا القياس يدل علي تردد الفوتون. وهذا هو المفتاح للحصول على معلومات عن الجسم الذي أتى الفوتون منه. [1]

تعمل المجسات شبه الموصلة العاملة عند درجة الحرارة العادية، مثل الأجهزة ذات الشحنات المقترنة Charged-coupled devices الموجودة في آلة تصوير رقمية، بواسطة تشويش حالة كمومية في المادة. ففي حالة الجهاز CCD، يصدم فوتون الضوء المرئي إلكترونا فيخرجه من نطاق طاقة في بلورة شبه موصلة. ولكن الإلكترونات مرتبطة ارتباطا قويا فى هذه النطاقات، لدرجة أن كل فوتون لا يحرر عادة سوي إلكترونا واحد. وهذا التحرير قليل جداً لدرجة أنه لا يكفي لتحديد تردد الفوتون. ونتيجة لذلك لا يستطيع الجهاز CCD تعيين لون الفوتون مباشرة. أما الآلات الرقمية فتشكل صوراً ملونة باستخدامها مجموعة مرشحات، أحدهما أحمر والآخر أخضر والثالث أزرق، ولا تمرر سوى الفوتونات التي تقع تردداتها في هذه المجالات. وعلي النقيض من ذلك، فإن بإمكان فوتون مرئي واحد فصل الآلاف من أزواج كوبر فى الموصل الفائق. ويتيح تكوين آلاف الإثارات قياس الطاقة قياسا دقيقا.

أنواع المجسات الفوتونية فائقة التوصيل

تصنف المجسات التي تعمل علي تحسس تمزق الموصلية الفائقة فى صنفين رئيسيين. النوع الحراري الذي يبرد حتي درجة حرارته الانتقالية بالضبط، وعندها لا يكون إلا جزئيا في حالة الموصلية الفائقة وتكون الإثارات الحرارية علي وشك أن تخرب الموصلية الفائقة كليا. وأي طاقة تُودَع فى الموصل الفائق ترفع درجة حرارته وتسبب ارتفاع مقاومته الكهربائية ارتفاعا ملموسا. أما النوع الأخر، المجسات الفاصلة للأزواج Pair-breaking فهو علي العكس من ذلك، إذ يُبَرد إلى درجة حرارة أخفض من درجة حرارة الانتقال ويكون فى حالة الموصلية الفائقة كليا. ويقيس هذا المجس عدد أزواج كوبر التي تحطمت عند إيداع الطاقة فيه.[2]

المجسات ذات الحافة الانتقالية (TES)

يعتمد النوع الحراري من المجسات الفوتونية علي حقيقة أن المقاومة الكهربائية للموصل الفائق ترتفع بشكل حاد من الصفر إلي قيمتها الاعتيادية فى المدى الضيق جداً من درجة الحرارة الذي تتحول فيه المادة من حالتها فائقة الموصلية إلي حالتها العادية. ويتيح التغير الفجائي فى المقاومة للموصل الفائق أن يعمل عمل ميزان حرارة بالغ الحساسية. ويدعي المجس الذي يستخدم الانتقال الطوري الفائق الموصلية بهذه الطريقة مجساً ذا حافة انتقالية Transition-edge sensor. وحين يمتص المجس TES فوتوناً، تتحول طاقة الفوتون إلي طاقة حرارية ترفع درجة الحرارة ومن ثم تزيد مقاومة المادة بصورة متناسبة مع الطاقة المودعة. ويمكن تبعا للمادة التي تمتص الفوتونات، أن يٌستخدم المجس TES مثل مقياس طيف لقياس طاقة الأشعة السينية وأشعة جاما أو مثل عداد فوتونات عند الأطوال الموجية تحت الحمراء أو حتى المرئية.[3]

تم تطوير أوائل المجسات TES فى الأربعينيات لكنها لم تكن عملية. وكانت المشكلة في أن مدى الانتقال إلي الموصلية الفائقة غالبا ما يكون أقل من جزء من ألف من الدرجة. ولذلك كان من الصعب إبقاء درجة حرارة الجهاز ضمن هذا المدى. وفى عام 1993، تم اكتشاف حيلة بسيطة أمكنت من حل هذه المشكلة. وهي تطبيق جهد كهربي ثابت، وهي تقنية تدعى انحياز الفلطية Voltage biasing. يؤدي الجهد المطبق إلي مرور تيار كهربي عبر المجس TES، وهو ما يرفع درجة حرارته للتسخين. وعند ارتفاع درجة حرارة الانتقال ترتفع المقاومة، و ينقص التيار الكهربي ويتوقف التسخين. وهكذا يعمل التسخين الذاتي ارتجاع Feedback سالب، فيبقي درجة حرارة الغشاء ضمن مجاله الانتقالي. كما أن الارتجاع السلبي يسرع استجابة المجسات. وقد أدي إدخال انحياز الفلطية إلي نمو هائل فى تطوير المجسات الفوتونية TES فى العالم كله.

مجسات الوصلة النفقية فائقة الموصلية Superconducting tunnel junctions

لا يمكن للمجسات الفاصلة لأزواج كوبر أن تعتمد علي التغير فى المقاومة الكهربائية لكي تعطي إشارة امتصاص فوتون. فبخلاف المجس الحراري، يحطم الفوتون الوارد أزواج كوبر ويُكَوِن أشباه جسيمات يمكن اعتبارها بمثابة إلكترونات حرة فى مادة أخري فائقة الموصلية. ويكون عدد أشباه الجسيمات الناتجة متناسبةً مع طاقة الفوتون. ولكن لما كان المجس مبرداً إلي ما دون درجة حرارته الانتقالية بكثير، فلا يزال ثمة بحر من أزواج كوبر السليمة. ولذا تبقي المقاومة الكهربية معدومة. وينبغي أن يحتفظ المجس الفاصل للأزواج بقدرته علي التمييز بين أزواج كوبر وأشباه الجسيمات.

إن أحد الأجهزة القادرة علي القيام بتلك المهمة هو الوصلة النفقية الفائقة الموصلية Superconducting tunnel junctions، المؤلفة من غشائين فائقي الموصلية تفصلهما طبقة رقيقة من مادة عازلة. فإذا كان العازل رقيقا لدرجة كافية (نحو 2 نانومتر)، أمكن للإلكترونات أن تعبر من أحد جانبي الحاجز إلي الجانب الآخر بواسطة خاصية تعرف بالعبور النفقي الكمومي quantum-mechanical tunneling. ويؤدي تطبيق مجال مغناطيسي صغير إلي منع أزواج كوبر من العبور النفقي عبر الوصلة فلا يستطيع العبور إلا أشباه الجسيمات. بعد ذلك يمكن تطبيق جهد كهربي علي الجهاز، فلا يمر تيار إلا حين يمتص أحد الغشائين فائقي التوصيلية فوتوناً يولِد أشباه جسيمات. وتكون نبضة التيار الناتجة متناسبة مع عدد أشباه الجسيمات المستحدثة وإذاً مع طاقة الفوتون وتردده.[4][5]

تطبيقات المجسات فائقة الموصلية

إن المجسات فائقة الموصلية المتاحة اليوم أكثر حساسية 100 إلي 1000 مرة من المجسات العادية التي تعمل عند درجة حرارة الغرفة. وهذه الأجهزة تحسن القياسات فى مدي واسع من المجالات.

منع انتشار الأسلحة النووية والدفاع الوطني

إن إحدي الأولويات الدولية هي مراقبة انتشار المواد النووية التي يمكن أن تستخدم فى هجوم يقوم بيه إرهابيون. وتحتوي المواد النووية على نظائر غير مستقرة تصدر أشعة السينية وأشعة جاما. وتوفر الطاقات المميزة لهذه الفوتونات بصمة تكشف عن ماهية تلك النظائر الموجودة. ولكن لسوء الحظ تصدر بعض النظائر الموجودة فى تطبيقات شرعية وعادية هي الأخرى أشعة جاما ذات طاقات شبيهة بتلك التي تصدرها مواد تستخدم في الأسلحة النووية. وهذا يؤدي إلى تحديد ملتبس وتحذيرات مزيفة. فعلى سبيل المثال، تتمثل الطاقة المميزة لليورانيوم العالي التخصيب فى أشعة جاما ذات طاقة 185.7 كيلو إلكترون فولت الصادرة من يورانيوم 235. لكن أشعة جاما هذه لها نفس الطاقة تقريبا التي تصدر عن الراديوم 226 الموجودة فى الطين فى الحاويات المخصصة للقطط وفى مواد أخري. وهذا يجعل التمييز بين الاثنتين صعبا جدا.

وقد تم تطوير مجسات من قبل مختبر لوس ألاموس الوطني لأشعة جاما مبنية علي أساس تقانة TES وتتمتع بقدرة تمييز طاقية تفوق أكثر من عشر مرات تلك التي للمجسات العادية. إذ تستطيع تلك المجسات فصل عدد أكبر من الخطوط فى أطياف أشعة جاما المعقدة للمواد النووية. وتستطيع التفريق بين اليورانيوم والراديوم والقضاء علي التحذيرات الزائفة.

الكوسمولوجيا (علم الكون)

في السنوات الأخيرة، أتت بعض أهم الاكتشافات حول فهمنا للكون من قياس اشعاع الخلفية الكونية من الموجات الميكروية Cosmic microwave background (CMB). فالفوتونات فى الخلفية الكونية هي صورة لحظية للكون بعد نحو 400000 سنة من الانفجار الأعظم. وهذا بسبب مرور معظم الفوتونات عبر الكون أثناء ال 13 بليون سنة الماضية من دون أي تغير، وأحدثت الموجات الصوتية في بلازما الكون المبكر نماذج إشعاع خلفية CMB يراها الفلكيون اليوم. وقد أظهرت قياسات تلك النماذج، أن 5% من الكون الحالي فقط يتألف من المادة والطاقة العاديتين المألوفتين بالنسبة لنا. وأن نحو 22% هي مادة خفية Dark matter و73% هي حقل غامض يعرف بالطاقة الخفية Dark energy. وقد ساعدت المجسات فائقة الموصلية العلماء علي الوصول إلي طاقات لا يمكن الوصول إليها أبدا بالتجارب الأرضية.

صارت المجسات الفائقة بالإضافة إلي ما تم ذكره من تطبيقات، تستخدم أيضا فى السنكروترونات للتحليل الكيميائي للمعادن في البروتينات وفي عينات أخري. كما ساعدت أيضًا في الكشف الفعال عن بوليمرات بيولوجية كبيرة من شظايا ال DNA، واكتشاف الأدوية وتحليل المركبات الطبيعية. بالإضافة إلي عد الفوتونات عند أطوال موجية تحت الحمراء، المستخدم في الاتصالات.

المصادر

1- Low Temperature particle detectors|
2-Superconducting nanowire single-photon detector
3-Transition-edge sensor
4-Quantum Tunneling
5-Superconducting tunnel junction

سحر الكيمياء في عالم مصر القديمة, اكتشافات مازالت تدهشنا

من بين جميع العلوم، الكيمياء هي أكثر العلوم التي يرتبط بها المصريون القدماء ارتباطًا وثيقًا. حتى إن إحدى المدارس الفكرية تنسب كلمة كيمياء إلى الإسم المصري لمصر القديمة”kemet”، الذي نقله الكيميائيون اليونانيون والعرب. و التي تعني “الأرض السوداء”، وتصف لون التربة السوداء الخصبة التي تترسب سنويًا من نهر النيل. و ليس من قبيل المصادفة أن يكون هذا هو الاسم و الاعتراف بأن المصريين كانوا أفضل الكيميائيين في العالم القديم حتى الإغريق اعترفوا بذلك. إن الاستخدام المصري للكيمياء أُعتُقِدَ بأنه “أسطوري علمي”. فلقد اعتقدوا، على سبيل المثال، أن المواد تمتلك جوهرًا أو انبعاثًا لآلهة مختلفة مثل المغنتيت حيث ربطوه بالإله حورس. وكان يُعتقد أن ملح النطرون مع أوزوريس وراتنجات الأشجار هي دموع الآلهة. استخدمت الكيمياء على نطاق واسع، لكن ارتباطها بالطقوس الدينية كان محوريًا، حيث عمل علماء المعادن والعطور والصباغون خارج المعابد، وفقًا لقواعد الطقوس. مما أدى هذا إلى السرية المحيطة بمعرفتهم الكيميائية. فكيف كان المصريون القدماء بتلك البراعة في الكيمياء؟ وهل كانت انجازاتهم مجرد “تجربة وخطأ” أم أكثر تعقيدا مما نعتقد؟

تقنيات في صناعة الألوان والأصباغ

يعتبر تخليق المواد هي  جوهر الكيمياء وهو مايميز الكيميائي الماهر. وكان المصريون القدماء أول حضارة تصنع صبغة غير عضوية، وهي الأزرق المصري. كان هذا جزءًا من رغبتهم في تقليد الأحجار الكريمة التي ارتبطوا بها مع الآلهة، ولا سيما اللازورد، وهو معدن سيليكات الألومنيوم الأزرق النادر المحتوي على اللازوريت، والذي اعتقدوا أنه يشكل شَعْر الإله. من عام 2500 قبل الميلاد، بدأوا في تصنيع الصبغ الأزرق رباعي سيليكات الكالسيوم والنحاس (CaO.CuO.4SiO2). و أعيد تصنيعها في العصر الروماني، قبل أن تضيع التكنولوجيا. ثم أعيد اكتشافها فقط في القرن التاسع عشر.

و بالنظر إلى الكيمياء التي ينطوي عليها الأمر، لا يمكنك إلا أن تقدر مهاراتهم. حيث تم محاولة تحضير القليل من الأزرق المصري, واحتاج الأمر إلي وجود جو مؤكسد, ومحفز ومواد خام _مثل السيليكا والجير والنحاس_ إلي التسخين مع مادة البوراكس “Borax” للحصول علي ذلك اللون. وذلك مع الأخذ فى الاعتبار قياس العناصر المتكافأة للمنتج النهائي, ممايشير إلي أن الكيميائيين المصريين كانوا قادرين علي تعديل ظروف أفرانهم ومعدل التبريد لتكوين صبغات خضراء بديلة عن عمد أيضاً. إن اللون الأزرق المصري، وهو أول صبغة اصطناعية، تم صنعها منذ 3000 عام قبل الميلاد، و تركيبتها الكيميائية هي CaCuSi4O10، أو CaO3CuO34SiO2، وهي عبارة عن سيليكات نحاس الكالسيوم. تم إنتاجها عن طريق تسخين رمال الكوارتز ومركب نحاسي و CaCO3 وكمية صغيرة من القلويات (رماد النبات أو النطرون) معاً إلى 800-1000درجة مئوية لعدة ساعات ، وخلال هذه الفترة يحدث التفاعل التالي:[1]

Cu2CO3(OH)2+8SiO2 +2CaCO3= 2CaCuSi4O10+3CO2 +H2O

واعتمادًا على كيفية طحن هذه الكريستالات الناتجة عن التفاعل، ينتج مجموعة من الألوان الزرقاء. حيث يعطى المسحوق الناعم لون أزرق سماوي فاتح والحبوب الخشنة تعطي ألوانًا زرقاء أغمق.

عُرف عن القدماء المصريين في العالم القديم بأنهم صباغون ممتازون. لقد عرفوا الموردينتس “Mordents” وهي مواد تستخدم لربط الصبغة بالقماش. وقد استخدموا “حجر الشب” أو مايمسي بال “Alum” لذلك الغرض . و غالبًا ما يحتوي حجر الشب_ وهو ملح كبريتات البوتاسيوم الألومنيوم_ على شوائب من الحديد، مما قد يؤدي إلى ظهور لون غير مرغوب فيه في عملية الصباغة. مما يبدو من المحتمل أنه في العصور القديمة تمت تنقية الشب عن طريق عمليات إعادة التبلور”Recrystallization”.

إلى جانب الصبغات المعدنية، استخدم المصريون صبغات نباتية مثل الفوة ، القرطم ، والألكانيت للون الأحمر، ونبات وسمة الصباغين للأزرق. ولحاء شجرة الرمان للأصفر. و يحتوي المستخلص الأحمر من نبات الفوة على الإيزارين، الذي تم اكتشافه على الأقمشة الحمراء الموجودة في مقبرة توت عنخ آمون.

 وجاء اللون النيلي أو الأزرق من نبتة النيلي أو من نبات وسمة الصباغين. حيث يُهرس النبات في الماء ويُترك للخليط ليتخمر، وبعد ذلك يتشكل راسب أزرق من “الإنديجوتين”. ويتم تجفيفه ثم استخدامه علي هذا الشكل. ثم بعد ذلك يتم اختزال الأنديجوتين إلى مركب عديم اللون قابل للذوبان عن طريق المعالجة الكيميائية على سبيل المثال، العسل أو الجير، ثم يُغمر النسيج في المحلول ويُترك ليجف. وعن طريق الأكسدة بالهواء أثناء عملية التجفيف يظهر اللون .

كانت الصبغة الأكثر قيمة في العصور القديمة هي اللون الأرجواني الصوري” Tyrian purple”. هذه الصبغة هي “ديبروموينديجوتين”. حيث حصل القدماء عليها من سلائف “precursors” شبه عديمة اللون من غدد المحار التي يحصدوها من البحر الأبيض المتوسط. وينشأ اللون الأرجواني عندما يجف القماش المعالج في الشمس.

كيمياء البحث عن الحياة الأبدية

كانت مهارات التحنيط لدى المصريين في أوجها خلال فترة حكمه في الأسرة الثامنة عشر. حيث تم العثور علي مجموعة واسعة من المواد العضوية _من أصل حيواني ونباتي_ المرتبطة بالتحنيط علي جثث الممياوات. على الرغم من أن التحنيط المبكر كان يُنظر إليه في البداية على أنه مجرد جفاف ناجم عن الصحراء المصرية الحارة والجافة. و اعتمدت هذه العملية، المستخدمة للحفاظ على الجسم للآخرة، على تجفيف الأنسجة لمقاومة التعفن. و تطورت من بداية بسيطة إلى عملية معقدة. حيث يقول هيرودوت، أن الجسم بعد إزالة المخ وبعض الأعضاء الداخلية، تتم تغطيته بالنطرون لمدة 70 يومًا لتجفيف الأنسجة. وتم استخدام النطرون كعامل تجفيف وخَلُص إلي أنه تم استخدامه في الحالة الجافة وليس كسوائل. وأن الفترة المثلي للجفاف هي 30-40 يومًا. تم استخدام الراتينج المصهور أيضًا كعامل تحنيط. و مكنت التحسينات الفنية خلال الأسرة التاسعة عشرة من الاحتفاظ بلون الجلد الطبيعي كما يظهر في مومياء رمسيس الثاني.

وقد اكتشف العالم “باكلي” أدلة أكثر تعقيدا على التحنيط. ففي وقت مبكر من أواخر العصر الحجري الحديث قبل العصر الفرعوني، منذ أكثر من 6000 عام، وجد أنهم يستخدمون بالفعل المنتجات الطبيعية، وراتنجات الأشجار، والمنتجات النباتية التي لها خصائص مضادة للبكتيريا والفطريات ومبيدات الحشرات إلى حد ما. مما يؤدي إلي حماية ممتازة لكامل الجسم في هذا الوقت.[2]

إن ظن الأغلبية في تحنيط توت عنخ آمون أنه من المحتمل أن قد تم تحنيطه في محلول النطرون بالطريقة السابق ذكرها. و لكن تم ذكر فكرة مضادة لهذا في عام 1914 من قبل الكيميائي ألفريد لوكاس، الذي عمل مع كارتر_مكتشف مقبرة توت عنخ آمون_ والذي كان معروفًا باسم شيرلوك هولمز في علم المصريات. حيث أوضح تحليله للمومياء بقعًا من كلوريد الصوديوم والكبريتات على الجلد، ولكن بدون أي أثر للكربونات. لقد حيره هذا الأمر وخَلُصَ في النهاية إلى أن النطرون لم يستخدم على الإطلاق. ولكن باكلي اعتقد أن هذا سيكون سمة من سمات حل تلك الأحجية. وهو أن ليس لديك الكربونات والبيكربونات لأنهما قد تم دمجهما مع الأنسجة.

إن ارتفاع درجة القلوية “High PH” فى المحاليل، من شأنه أن يوقف البكتيريا عن مسارها، عن طريق منع وظيفة الإنزيم. مما يساعد المحلول أن ينتشر بشكل أعمق في الأنسجة ويغير بنية الكولاجين، ربما عن طريق الارتباط الكاتيوني ببقايا البروتين الكربوكسيلي، مما يوفر مزيدًا من الحفظ الكامل. ومن ثم سيظل الجسم يحتوي على كمية كبيرة من الأنسجة والماء بداخله.

و من تجارب التحنيط التي أجراها باكلي، بما في ذلك على جسم الإنسان المتبرع به، خَلُصَ إلى أنه عندما يتم إجراء العملية بعناية شديدة، فإن النتيجة ستكون حفظًا مثاليًا تقريبًا. فعندما يدخلون القبر ، يبدون تمامًا كما كانوا على قيد الحياة، وكأنهم نائمون.  إن تلك العملية أظهرت مستوى عالٍ من التعقيد والتحكم وهو استخدام الراتنجات العضوية من مجموعة متنوعة من المصادر. بالإضافة إلى استخدام هذه الخلائط كوسيلة لعزل الماء. حيث تشير الدلائل إلى أنه تم تطبيقها أيضًا على الأجسام قبل استخدام النطرون. وذلك بسبب الطبيعة الكاوية للكربونات والبيكربونات، فإذا لم تقم بتطبيق هذه الطبقة العضوية، فإنها سوف تبيض الجلد باللون الأبيض. ولكن إذا وضعت مادة الحاجز العضوي هذه أولاً ثم وضعتها في محلول النطرون، فإن ما تحصل عليه بعد ذلك هو حفظ ممتاز للون البشرة.

سر خلطات مستحضرات التجميل

من أهم ألغاز الكيمياء المصرية القديمة، اكتشاف أصباغ الرصاص الاصطناعية المستخدمة في مكياج الكحل الذي كان يرتديه المصريون القدماء. ويعود تاريخه إلى عام 2000 قبل الميلاد. وقد نُشر في عام 1999، التحليلات الكيميائية التي أجراها “فيليب والتر” في متحف اللوفر في باريس. حيث أظهرت أن المركبات المحفوظة جيدًا الموجودة في مجموعة اللوفر لأواني المكياج المصرية القديمة، تضمنت أصباغًا طبيعية (galena (PbS و cerussite (PbCO3). ولكن أيضًا اللوريونيت (Pb(OH)Cl) ومسحوق الفوسجينيت الأبيض (Pb2Cl2CO3)، و نادرًا ما يتم العثور على كلاهما بشكل طبيعي ومن غير المحتمل أن يكونا نتاج تحلل لأي شيء موجود. ومن ثم استنتج والتر أن هذه الأصباغ يجب أن تكون صنعت صناعياً، باستخدام ما نسميه اليوم الكيمياء الرطبة “Wet chemistry”.

و استنادًا إلى الوصفات الرومانية اللاحقة، جرب والتر طريقة لإنتاج الفوسجينيت. لقد استخدم معدن “الليثارج” _(PbO)_ المطحون بالملح وخلطها في الماء وفي بعض الحالات كربونات الصوديوم. ثم قام بتحييد المحلول القلوي الناتج (تصف الوصفة الرومانية صب المحلول واستبدال الماء كل يوم للتحكم في الرقم الهيدروجيني) وبعد عدة أسابيع وجد إما مادة اللوريونيت أو الفوسجينيت، مع بلورات ذات حجم مماثل لتلك الموجودة في العينات المصرية. و يشير هذا إلى أنه ربما كان لديهم بعض المعرفة بالتحكم في الأس الهيدروجيني والمحاليل المُثَبتَة “Buffering solutions” وبعض الكيمياء الكمية الأساسية.

تم تأكيد عمل والتر منذ ذلك الحين من قبل عدة مجموعات بحثية. ففي عام 2018 ، استخدمت “لوسيل بيك” ، من مختبر قياس الكربون 14 بجامعة باريس ساكلاي، التأريخ بالكربون المشع لإثبات أن عينات المكياج المصرية القديمة تضمنت مركبات اصطناعية. و من العينات التي تم اختبارها، تم تأكيد إحداها على أنها مستحضرات تجميل اصطناعية، مصنوعة من نفس مركب الفوسجينيت الذي اكتشفه والتر ومٌؤَرخ في الفترة من 1763 إلى 1216 قبل الميلاد.

كانت لوسيل بيك قادرةً أيضًا على تحديد تاريخ الوعاء الخشبي بالكربون (إلى 1514-1412 قبل الميلاد ، في عهد أمنحتب الثالث) الذي كان يحتوي على المكياج. و لقد حصلوا على علاقة ارتباط جيدة جدًا بين نتائج الصندوق الخشبي ونتائج عينات المكياج. لذلك في هذه الحالة، فإنه دليل مباشر على أن مستحضرات التجميل هذه تم إنتاجها بشكل مصطنع في ذلك الوقت. و قد يكون هذا أقدم دليل على استخدام الكيمياء الرطبة لإنتاج مستحضرات التجميل، على الرغم من أن واحدة فقط من العينات كانت اصطناعية، إلا أنها تبدو نادرة. اختبر بيك أيضًا بعض العينات من المتحف البريطاني ولم يعثر حتى الآن على أي مستحضرات تجميل اصطناعية.

جاء المزيد من الأدلة على وجود الفوسجينيت الاصطناعي من فريق من معمل أبحاث الآثار في جامعة أكسفورد في المملكة المتحدة، وتم أخذ عينات من 11 حاوية كحل في متحف بيتري بجامعة لندن. لقد أجروا مجموعة واسعة من التحليلات الكيميائية لإلتقاط كل من المكونات غير العضوية والعضوية. ووجدوا أيضًا مركبات الرصاص التي من المحتمل أن تكون قد تم تصنيعها. ووجدوا تنوعًا أكبر بكثير من التحليل الحديث السابق، بما في ذلك أشياء مثل المعادن التي تحتوي على المنغنيز والنحاس. بالإضافة أيضًا إلي مكونات لا تحدث معًا بشكل طبيعي، لذلك كانت هناك نية متعمدة في صياغاتهم. في عام 2010، اقترح فريق فرنسي بما في ذلك والتر، أن تركيبات الكحل التي صنعها المصريون القدماء ربما تكون قد صيغت لخصائصهم الطبية. حيث أظهروا أن أيونات Pb2+ يمكنها أن تثير استجابة معينة من الإجهاد التأكسدي في خلايا الجلد التي يمكن أن تحفز الاستجابة المناعية.

فن تشكيل المعادن من ذهب توت عنخ آمون إلي تقنيات التلحيم

أظهر المصريون القدماء أيضًا مهارة فنية هائلة في صناعة المعادن. وعلي الرغم من عدم تمكنهم أبدًا من صهر الحديد- الحديد الوحيد الذي كان لديهم كان نيزكيًا ويسمى بشكل مناسب “معدن السماء”- لكنهم كانوا أساتذة في صناعة النحاس والفضة والذهب. أنتجوا أشياء مثل القناع الذهبي لتوت عنخ آمون، المصنوع من سبائك الذهب عيار 23 قيراطًا، مع عيون كوارتز وسبج ولازورد مرصع. إحدى التقنيات التي تثير إعجاب هي طريقة اللحام، والمعروفة باسم اللحام الصلب الكيميائي، والتي تظهر في تصنيع المجوهرات الذهبية. حيث يتم استخدام ملح النحاس المسحوق مثل الملكيت (كربونات النحاس) ، و يتم لصقها في مكانها. و عند تسخين الملحين معًا (الذهب والنحاس)، ينتج عن ذلك انخفاض في درجة انصهار الذهب في الحال. وهذا ما كان يجعل سبائك النحاس والذهب مميزة لتشكيل اللحام. مرة أخري، انها كيمياء!.

ان مجال الحديث عن الكيمياء في مصر القديمة واسع وما تم ذكره ماهي الا مقتطفات من فيض علمهم الذي مازال يحير العلماء. و لا يُعرف سوى القليل نسبيًا عن معاملهم ومعداتهم. حيث يوجد في عدد من المعابد المصرية غرف تسمى المعامل. وهي غرفة محفورة فيها وصفات العطور وهناك أيضًا وصفات تستحضر عمليات الصباغة، ولا سيما في معبد دندرة. و في العصر الفرعوني، من شبه المؤكد أنه لم يكن هناك أي من الأواني الزجاجية التي قد نربطها بالمختبر. حيث لم يصل نفخ الزجاج إلى مصر حتى الإمبراطورية الرومانية.

كما أن الافتقار إلى النصوص الكيميائية جعلنا نفتقر إلى المعلومات حول كيفية نظر المصريين إلى العالم المادي وما إذا كان لديهم أي إطار نظري لوصف طبيعة المادة. و غالبًا ما يُنسب هذا النوع من التفكير إلى الإغريق، مثل ديموقريطوس الذي توصل إلى فكرة الذرة حوالي عام 400 قبل الميلاد. حيث أرجع بعض العلماء إلي أن هذا التركيز على التفكير الفلسفي قد يكون بسبب نقص الإغريق النسبي في الموارد الطبيعية والمواد التي منعتهم من تطوير المهارات العملية والتجريبية للمصريين. و من المحتمل أن الكثير من العلوم التي تعتبر الآن نتاجًا للثقافة اليونانية قد تم نقلها من مصر. مثل جميع أنواع الوصفات، وكيفية صنع اللؤلؤ الصناعي أو الأحجار الكريمة الاصطناعية، فهذه وصفات أقدم بكثير ترجع إلى التقاليد المصرية.

المصادر

1-Chemistry in the Time of the Pharaohs

2-Unwrapping ancient Egyptian chemistry

المواد الزجاجية السبينية

يمكن إزاحة الوسخ أو كنسه تحت البساط، بيد أنه يقتضي الاهتمام به عاجلا أم آجلا. أما “الوسخ” في العلوم الفيزيائية فيمكن أن يكون اضطرابا في البنية، أو شوائب في المواد، أو تعارضا بين تفاعلات. فالوسخ يفسد الترتيب. إذ يستطيع قدر كاف من العشوائية وعدم الكمال واللانسجام أن يخرب التناظرات الأصيلة التي تسهل الوصف الفيزيائي إلى أبعد الحدود. وقد ترِكَ الوسخ طوال معظم تاريخ الفيزياء جانبا. ودرس الفيزيائيون بدلا منه النظم المرتبة كالبلورات التامة. إلا أنهم بحلول أوائل السبعينات شعروا بأنهم ملزمون بمواجهة خلل في الإنتظام. وبدأ الوسخ الذي قد تراكم فى أروقة العلم يتحلل. ولقد كانت دراسة المواد الزجاجية السبينية (Spin glasses)  إحدى أنجح المحاولات لفهم تلك النظم المضطربة. إن النماذج الرياضية لهذه المواد هي طرز أولية لمسائل معقدة في علم الحاسوب والكيمياء الحيوية وغيرها من العلوم. فما هي تلك المواد؟ وكيف نشأت؟

ماهي المواد الزجاجية السبينية؟

حالة الطاقة المنخفضة  أو The Ground State.

في البداية لنتفق على أن كل الأنظم تميل إلي الاستقرار وإلى الوصول إلى حالة ذات طاقة دنيا. فعند إحداث اضطراب ما بين ذرات المادة كرفع درجة حرارة _إلى درجة الحرارة الحرجة (Critical Temperature)_ قد تعانى تلك المادة انتقالا طوريا من حالة إلى حالة.[1] وبرفع ذلك المؤثر وانخفاض درجة الحرارة تتخذ الذرات ترتيبا يضمن لها أقل طاقة. [2]

إذا نظرت إل المواد الصلبة كملح الطعام مثلا، تجد أن ذرات الصوديوم والكلوريد يتخذان في الفراغ شكلا بلوريا منتظما يضمن لهم طاقة أقل واستقرارا أكثر، وكذا كل أشكال المواد الصلبة. وعلى النقيض الآخر، نجد بأن السوائل تفتقر إلى هذا الترتيب وتتحرك ذراتها أو جزيئاتها بصورة غير منتظمة وتأخذ أشكال الحاوية الموضوعة فيها. أما في حالة الزجاج، فنجد أنه ينتمي إلي فئة خاصة من المواد الصلبة غير البلورية. أي أنه صلب في درجات الحرارة العادية، غير أنه يفتقر إلى الترتيب البلوري المنتظم كالسوائل.

ومن الممكن اعتبار الزجاج السبيني في بنيته مماثلا لبنية الزجاج. فهو قد يتكون من بعض ذرات الحديد المبعثرة في شبيكة من ذرات النحاس، إلا أن خواصه معقدة جدا، وأحيانا تكون غير قابلة على نحو مضجر للتنبؤ بها. و”السبين” هنا هو السبين الميكانيكي الكمومي للإلكترونات الذي تنشأ عنه المغناطيسية.[3] أما ما نقصد ب”مادة زجاجية” فقد يخيل للقارئ للوهلة الأولى لحظة قراءة ذلك المصطلح، أن لفظة “زجاجية” تشير إلى صفة الزجاج الذي نراه في حياتنا اليومية. ولكنها تشير إلى حالة لوصف النظم المضطربة أو المتسخة كما ذكرنا سابقا. إذ هو خلل في انتظام توجهات السبينات وتفاعلاتها. إن الخصائص المثيرة للاهتمام العائدة للزجاج السبيني، وكذا ديناميكاتها ودرجة تعقيدها هي كلها ناشئة عن تفاعلات مغناطيسية بين ذراتها. فبعض الذرات تتصرف كما لو كانت قضبانا مغناطيسية، فتولد حقولا مغناطيسية وتخضع لحقول مغناطيسية. ولكي نفهم مالمقصود بذلك علينا إيضاح بعض المفاهيم المتعلقة بالخواص المغناطيسية أولا.

الخاصية المغناطيسية الحديدية (ferromagnetism)  والخاصية المغناطيسية الحديدية المضادة (Antiferromagnetism)

من المعروف أن ذرات الحديد تتميز بسلوك مغناطيسي. فعند تعرضه لحقل مغناطيسي خارجي، تسعى ذراته للاصطفاف في اتجاه محدد. ويعلل هذا الاصطفاف خواص الحديد المغناطيسية القوية، ولهذا فإنه يسمى ( المغنيطيسية الحديدية) (Ferromagnetism)  رغم أنه موجود أيضا في الكوبالت والنيكل ومواد أخري كثيرة.[4] وتنتج المغنيطيسية الحديدية من الطبيعة الميكانيكية الكمومية للإلكترونات الداخلية لهذا المعدن، حيث تجعل من المحبذ طاقيا للعزوم المغناطيسية الخاصة بالذرات المتجاورة أن تكون متوازية.

وبعبارة أخرى، إذا كان العزمان المغناطيسيان لذرتين متجاورتين ذواتي مغناطيسية حديدية يشيران إلى اتجاه واحد، فإنه لابد من بذل طاقة لقلب أحد العزمين المغناطيسيين إلى الإتجاه المعاكس. وعلى النقيض، إذا كان العزمان ذا اتجاهين متعاكسين تتحرر طاقة حين جعلهما متوازيين. ومن ثم تكون الطاقة المغناطيسية الكلية ذات قيمة صغرى إذا ما اتجهت العزوم المغناطيسية لجميع الذرات في اتجاه واحد.

إن إضافة طاقة حرارية لمادة الحديد يمكن أن يؤثر على اصطفاف السبينات. [5] فإذا سخِّن حديد نقي إلى درجات حرارة عالية فإن الطاقة الحرارية تتغلب علي التفاعلات المغناطيسية الحديدية. بحيث يتغير اتجاه كل عزم مغناطيسي من لحظة إلى أخري عشوائيا. ويمكن لصورة فتوغرافية لذرات الحديد أن تبين لنا أن عدد العزوم المغناطيسية المتجهة إلى الأعلي يساوي وسطيا العدد المتجه إلى الأسفل. كذلك الحال فيما يتعلق باليمين واليسار، وبالأمام والخلف. ويكون المجموع المتجه لجميع العزوم المغناطيسية، أو التمغنط الصافي صفرا. ويعرف الحديد في هذا الطور بأنه مادة (موافقة التمغنط) (Paramagnetic). وحين تخفض درجة حرارة الحديد، تصبح التفاعلات بين العزوم المغناطيسية هي الغالبة. ومن ثم تسعى العزوم إلى الاصطفاف فى حالة ذات طاقة دنيا. فتصطف في اتجاه واحد.

وبالمقابل يسود في أنواع أخرى من المواد ضرب مختلف من الترتيب في حالاتها منخفضة الطاقة. فذرات الكروم المتجاورة مثلاً تسعى لصف عزومها المغناطيسية في اتجاهات متعاكسة. فإذا ما اتجهت إحدى الذرات إلى أعلى اتجه عزم الذرة المجاورة إلى أسفل. ولما كان هذا السلوك مضادا لسلوك الحديد سميت هذه الخاصية ب ( المغنيطيسية الحديدية المضادة) (Antiferromagnetism) .

وتبدي المواد الزجاجية السبينية، على نحو لافت للنظر، خواص مغنيطيسية حديدية ومغنطيسية حديدية مضادة معاً. فمثلا، إذا مزجت بضعة أجزاء من الحديد ب 100 جزء من النحاس. فإن ذرات الحديد، التي تتفاعل عادة على نحو مغناطيسي حديدي، تستطيع الآن التفاعل على نحو مغناطيسي حديدي مضاد أيضا. وتسمي هذه العملية بالإشابة المغناطيسية (Alloy). وهو ما تحدثنا عنه في بداية المقال بالنظم المتسخه. فبإحداث قليل من الإشابة يمكنك الحصول على اضطراب فى النظام.

نجد أن إلكترونات التوصيل، التي تتحرك بحرية خلال النحاس، هناك سبين (spin) يتأثر بذرة الحديد المضافة علي نحو غريب بعض الشئ. وعلي مسافة معينة نجد أن ذرة الحديد قد أثرت علي اسبينات إلكترونات التوصيل لتوازي سبينها الخاص. ولكن علي مسافة أبعد قليلا تكون اسبينات الإلكترونات معاكسة لسبين ذرة الحديد. ثم علي مسافة أكثر بعدا تكون السبينات موازية، وهلم جرا.

إن نتيجة هذا السلوك المزدوج هي أنه يمكن لذرة ذات سبين معين ألا تكون قادرة على التوجه بحيث تحقق تفاعلها مع كل الذرات الأخرى في المواد الزجاجية السبينية. ولنتخيل ثلاث ذرات من الحديد موزعة عشوائيا في شبيكة من النحاس. فالذرة الأولي تتفاعل مع الثانية علي نحو مغناطيسي حديدي مضاد. في حين يكون التفاعلان بين الأولى والثالثة، وبين الثانية والثالثة مغناطيسيين حديدين. وليس هناك ثمة سبيل لتحقيق كل التفاعلات في وقت واحد. فإذا كان كان سبين الذرة الأولى متجها إلي أعلي مثلا، وجب أن يتجه سبين الثانية إلي أسفل. أما الثالثة فيفترض أن توجه سبينها في نفس اتجاه كل من الأولى ( السبين إلي الأعلي) والثانية ( السبين إلي الأسفل) . وإن أي ترتيتب سوف يخل بواحد من التفاعلات علي الأقل. ويسمي النظام الذي لايمكن تحقيق كل تفاعلاته في آن واحد (محبطا) (Frustrated).

إن إحدي نتائج الإحباط أو ال Frustration  هو إمكان وجود حالات كثيرة منخفضة الطاقة للمادة الزجاجية السبينية. [6] كما هو موضح بالشكل. إن البحث عن حالة منخفضة الطاقة من تلك الحالات يتطلب التسخين والتبريد_ أي الإحماء_ مشابها للصعود والهبوط. فإذا كانت درجة الحرارة منخفضة جدا، فإن النظام سيبقي في واد ضحل زمنا طويلا جداً. وبرفع درجة الحرارة يتاح للنظام مزيد من الطاقة للاستكشاف، إذا جاز التعبير. وفي وسع سبيناته أن تنقلب بسهولة، ومن ثم يزداد احتمال تملصه من الأودية الضحلة (طاقة أقل) ( كما هو موضح بالشكل)، ويستطيع محاولة تجريب كثير من التشكيلات السبينية المحتملة أكثر من سواها، التي يمكن أن يكون لبعضها طاقة أخفض من طاقة الحالة الإبتدائية.

وعلي هذا فإن ثمة خوارزمية بسيطة لإيجاد حالة منخفضة الطاقة نسبياً لزجاج سبيني، هي بمحاكاة درجة حرارة عالية (عندما يستطيع النظام، من حيث المبدأ أن يجرب أي حالة) ثم تبريد النظام ببطء بحيث يستقر في حالة أقل طاقة. فإذا علق مؤقتاً في مرحلة مبكرة، في واد عالي الموقع، فإنه يبقي لديه مع ذلك فرصة جيدة للانسحاب إلي أقرب ممر للبحث عن واد أعمق ( طاقة أقل). وبعد عدة دورات من التسخين والتبريد تصبح الخوارزمية ذات احتمال كبير لإعطاء حل جيد_ أي حالة منخفضة الطاقة_ ولو أن فرصة إيجاد الحل الأفضل مصادفة في ذلك الفضاء الضخم ضئيلة إلي أبعد حد.

طور جديد من المواد أم مجرد قطعة مغناطيس

إن التحول من سائل إلي بلورة، أو من مادة موافقة التمغنط إلي مادة حديدية التمغنط، عند انخفاض درجة الحرارة هو انتقال طوري حقيقي. ذلك أن الحالات الناشئة تحتفظ بترتيب متميز طوال المدة التي يحافظ أثنائها علي درجة الحرارة. ومن جهة أخري، فإنه حتي لو بدا أن الزجاج العادي يمثل طوراً جديدا فإنه، أساسا سائل: فهو يسيل بمعدل بطئ مذهل بحيث يبدو صلباً.

وبالمثل يمكن للمواد الزجاجية السبينية أن تكون طوراً متميزاً من مادة ذات ترتيب مغناطيسي، أو اصطفاف سبيني يدوم طوال المدة التي يحافظ أثنائها علي درجة الحرارة المنخفضة. ومن ناحية أخري، يمكنها أن تكون مواد متوافقة التمغنط تباطأت خواصها الديناميكية كثيرا بحيث تبدو أنها لاتكوِن سوي (طور ساكن) Static phase. ولو لوحظ أن سبينات مادة زجاجية سبينية، محفوظة في درجة حرارة منخفضة تغير توجهها، لاستطاع المرء أن يستنتج أنها مجرد مغناطيس من مادة موافقة التمغنط (Paramagnetic).

بالنظر إلي الصورة الموضحة، نري أن الزجاج السبيني يحافظ على صورته أطول فترة ممكنة من الزمن بانخفاض درجة الحرارة. فهو عالق في إحدي الأودية الضحلة التي عندها تتسم سبيناتها بخواص ديناميكية بطيئة للغاية وهو ما يشبه خواص الزجاج العادي. أما علي النقيض الآخر، فنري في حالة الحديد أنه بانخفاض درجة الحرارة فيتحول من طور المادة متوافقة المغناطيسية إلي طور المغناطيسية الحديدية بمعدل سريع للغاية.

ومن هنا نخلص أن مكونات الزجاج السبيني هي:

  1. وجود إحباط نتيجة قيود هندسية في الشكل أو اضطراب في النظام كالشوائب.
  2. درجة حرارة منخفضة لاتاحة الفرصة للوقوع في واد ضحل (طاقة أقل).
  3. خواص ديناميكية بطيئة تجعله تجعله معلق في أحد اأودية الضحلة لمدة طويلة.

تطبيقات الزجاج السبيني

دراسة طيات البروتينات Protein Folding

باستخدام نماذج الزجاج السبيني في الكيمياء الحيوية، يمكن للباحثين فهم وتحليل طيات البروتينات. فمن الممكن اعتبار المجموعات الأمينية المكونة للبروتينات كالسبينات (أو كقضبان المغناطيس كما أشرنا) في الزجاج السبيني. وبدوران تلك المجموعات يمكن اكتشاف ماهو الشكل الذي يضمن أقل للطاقة للبروتين ككل و أكثر استقرارا. وتمكننا نماذج الزجاج السبيني من فهم كيف طورت الخلايا من الآليات التي تمكنها من التغلب علي عملية الإحباط في دوران البروتينات, لتنتج لنا أشكالاً أكثر استقرارا. وعلي النقيض، فإن أي خلل في طيات البروتينات قد تنتج أشكالاً من الممكن أن تؤدي إلي أمراض.

المصادر

1- Critical Temperature

2-Energy Minimization

3-Quantum Spin

4-Ferromagnetism

5-The Science of magnets and temperature

6-Frustration and ground-state degeneracy in spin glasses

المسرع الخطي LCLS للأشعة السينية، من فكرة سلاح نظري لميكروسكوب لا سابق له

ظلت ليزرات الأشعة السينية مدة طويلة مادة خصبة للخيال العلمي. ولم يبدأ أول جهاز منها بالعمل لغرض علمي إلا قبل اثني عشرة سنة، وذلك في جامعة ستانفورد باعتبارها مرفقا تابعا لمكتب العلوم في وزارة الطاقة الأمريكية. ويستمد هذا الجهاز، المعروف باسم منبع الضوء المترابط للمسرع الخطي (LCLS) طاقته من أطول مسرع جسيمات خطي في العالم، في مختبر المسرع الوطني SLAC. وقدي جري بواسطته تكوين حالات غريبة للمادة لم تحصل في أي مكان أخر من الكون، وذلك بتعريض الذرات والجزيئات والجوامد لنبضات أشعة سينية ذات شدة عالية. فماهو هذا الجهاز؟ وما هي خصائصه؟

ألية عمل الأشعة السينية

إذا وضعنا ذرة أو جزيئا أو حبيبة غبار في وجه أقوى ليزر للأشعة السينية في العالم، فإنه لن يكون أمامها أي فرصة للنجاة. إذ تصل درجة حرارة تلك المادة المضاءة بالليزر إلى أعلى من مليون “كلفن” كما في حالة الشمس. وذلك في غضون أقل من جزء واحد من تريليون جزء من الثانية. وعلى سبيل المثال، تفقد ذرات النيون الخاضعة لمثل هذه الظروف الاستثنائية جميع إلكتروناتها العشرة سريعا وبمجرد خسارتها لغلافها الإلكتروني الواقي تنفجر مبتعدة عن الذرات المجاورة. ويمثل مسار حطامها مشهدا فاتنا جدا للفيزيائيين.

إن ما يجعل هذه العملية مدهشة هو أن ضوء الليزر يطرد إلكترونات الذرة من الداخل إلى الخارج. لكن الإلكترونات, التي تحيط بنواة الذرة على شكل طبقات مدارية شبيهة بطبقات البصل، لا تتفاعل جميعا بتجانس مع حزمة الأشعة السينية. لأن الطبقات الخارجية شفافة تقريبا لهذه الأشعة. ولذا فإن الطبقة الداخلية هي التي تقع تحت وطأة الإشعاع، تماما كما تسخْن القهوة في الفنجان الموضوع في فرن موجات ميكروية قبل الفنجان بمدة طويلة_ كما يتضح فى الشكل المقابل. فإن الأشعة السينية تقوم بطرد إلكترونات المدار الداخلي K _. وينطلق الإلكترونان الموجودان في تلك الطبقة إلى الخارج مخلفين وراءهما حيزا فارغا فتغدو الذرة جوفاء. وخلال بضع فيمتوثوان، تمتص إلكترونات أخرى إلى الداخل لتحل محل الإلكترونات المفقودة. وتتكرر دورة تكوين التجويف الداخلي وملء الفراغ حتى لا يتبقى أي إلكترون حول الذرة. وتحدث هذه العملية في الجزيئات وفي المادة الصلبة أيضا.[1]

لكن تلك الحالة الغريبة لا تدوم إلا بضع فيمتوثوان.  وفي الجوامد، تتفكك المادة إلى حالة متأينة, أي إلى بلازما كثيفة وساخنة لا توجد عادة إلا في ظروف استثنائية من مثل تفاعلات الاندماج النووي أو في مراكز الكواكب الضخمة. وعلى كوكب الأرض لا مثيل للحالة المتطرفة الخاطفة التي تنشأ عند تفاعل الذرة مع حزمة ليزر الاشعة السينية.

إحياء المسرع الخطي LCLS وفتح أفاق جديدة

 في الواقع استمد أول ليزر أشعة سينية طاقته من اختبار لقنبلة نووية تحت الأرض. فقد صنع ذلك الليزر من أجل مشروع سري اسمه إكسكاليبر Excalibur. ونفذه مختبر <لورنس ليفرمور> القومي. وكان ذلك الجهاز واحد من مكونات مبادرة الدفاع الاستراتيجي التي أطلقها الرئيس الأمريكي الأسبق <رونالد ريكان> والمسماة بحرب النجوم في ثمانينات القرن الماضي. حيث كان الغرض منها أن تعمل على إسقاط الصواريخ والأقمار الصناعية.[2]

إن الليزر المعروف بمنبع الضوء المترابط في المسرّع الخطي(LCLS) الموجود في مركز مسرّع ستانفورد الخطي (SLAC). يوقظ ذكريات منظومات “حرب‏ النجوم” المضادة للصواريخ تلك.[3] فقد قامت جامعة ستانفورد ببنائه كأطول مسرع إلكترونات في العالم. ويبلغ طول ذلك المسرع ثلاثة كيلومترات، ويبدو من الفضاء كإبرة موجهة إلي قلب الحرم الجامعي. إن ذلك المسرع الخطي مدين في نشأته للعديد من الإكتشافات وجوائز نوبل التى أبقت الولايات المتحدة فى طليعة فيزياء الجسيمات الأولية طوال عقود من الزمن. ومنذ إعادة إناطة مهام جديدة في الشهر 2009/10. غدت بالنسبة إلى فيزياء الذرة والبلازما والكيمياء وفيزياء المادة الكثيفة وعلم الأحياء، ما يمثله المصادم الهادروني الكبير (LHC). ويمكن لنبضات الأشعة السينية لمنبع الضوء المترابط LCLS أن تكون بالغة القصر ( بضع فيمتوثوان) إلي حد أنها تجعل الذرات تبدو جامدة. وهذا ما يمكن الفيزيائيين من رؤية التفاعلات الكيميائية أثناء حدوثها. وتلك النبضات شديدة السطوع أيضا، ولذا تسمح بتصوير البروتينات والجزيئات الحيوية الأخرى التي كانت دراستها شديدة الصعوبة.

ظلال الذرات وتصوير المسافات الضئيلة

يدمج ليزر الأشعة السينية أداتين من الأدوات الرئيسية التي يستعملها فيزيائيون اليوم التجريبيون. وهما منابع ضوء السنكروترونات Synchrotrons والليزرات الفائقة السرعة Ultrafast Lasers. أما السنكروترونات، فهي مسرعات مضمارية الشكل تدور الإلكترونات ضمنها وتصدر أشعة سينية تلج أجهزة قياس موضوعة حول محيط الآلة على هيئة دولاب ذي قضبان منبثقة من مركزه. وتستعمل أشعة السنكروترون السينية لدراسة أعماق الذرات والجزيئات والنُظم النانوية. فضوء الأشعة السينية مثالي لهذا الغرض، لأن أطوال موجاته من مقاس الذرة. [4] ولذا تولد الذرات ظلالا ضمن حزمة الاشعة السينية. وإضافة إلى ذلك، يمكن تعديل الأشعة السينية بحيث ترى أنواعا معينة من الذرات. كذرات الحديد فقط مثلا، وتبين مكان تموضعها ضمن الجسم الصلب أو ضمن جزيء كبير كجزيئات الهيمو جلويين (الحديد هو المسؤول عن اللون الآحمر للدم).

لكن ما تعجز عنه الأشعة السينية هو اقتفاء أثر الحركة الذرية ضمن الجزيء أو الجسم الصلب. فكل ما نراه حينئذ هو غشاوة باهتة. لأن النبضات ليست قصيرة ولا ساطعة بقدر كاف. ولا يمكن للسنكروترون تصوير الجزيئات إلا إذا كانت مصطفة على هيئة بلورات، حيث تقوم قوى موضعية بإبقاء الملايين منها في صفوف منتظمة.

وفيما يخص الليزرات، فإن ضوءها أشد سطوعا بكثير من الضوء العادي لأنه ضوء مترابط. إن الحقل الكهرومغناطيسي في الليزر ليس متموجا كسطح البحر الهائج، بل يهتز بنعومة وانتظام متحكم فيهما. ويعني الترابط ان الليزرات تستطيع تركيز طاقة هائلة ضمن بقعة صغيرة. وأنه يمكن إشعالها وإطفاؤها في برهة قصيرة من رتبة الفيمتوثانية.

التباين بين الأشعة السينية والليزرات العادية

وتعمل الليزرات العادية عند أطوال موجات الضوء المرئي والضوء القريب منه. وتلك أطوال أكبر بألف مرة من أطوال الموجات الضرورية لتمييز الذرات إفراديا. وعلى غرار رادار الطقس الذي يستطيع رؤية عاصفة مطرية دون تمييز قطرات المطر،  فإن الليزرات العادية تستطيع رؤية مجموعة متحركة من الذرات دون تمييزها إفراديا. فمن أجل تكوين ظل حاد للجسم المرصود يجب أن يكون طول موجة الضوء صغيرا ومن رتبة مقاس ذلك الجسم على الأقل. ولذا نحتاج إلى ليزر أشعة سينية. وباختصار يتغلب ليزر الأشعة السينية على الصعوبات والسلبيات التي تمثلها الأدوات الشائعة لتصوير المادة عند المقاسات الشديدة الضآلة. لكن صنع جهاز من هذا النوع ليس بالمهمة السهلة.

بدت فكرة بناء ليزر أشعة سينية غريبة في وقت من الأوقات.  باعتبار أن صنع أي ليزر أمر بالغ الصعوبة بحد ذأته. فالليزرات العادية تنجح في عملها لأن الذرات تشبه البطاريات الصغيرة. فهي تمتص مقادير قليلة من الطاقة وتخزنها ثم تصدرها على شكل فوتونات، أى جسيمات ضوء. وهي تحرر طاقتها تلفائيا عادة, إلا أن <أينشتاين> كان قد اكتشف فى بداية القرن العشرين طريقة لقدح تحريرها من خلال عملية تسمى الاإصدار المحرض Simulated emission. وإذا جعلتَ الذرة تمتص مقدارا معينا من الطاقة, ثم قذفتها بفوتون يمتلك مقدارا مماثلا من الطاقة، أصدرت الذرة الطاقة الممتصة ، مولدة نسخة من الفوتون. وينطلق الفوتونان (الأصلي والمستنسخ) ليحفزا تحرير طاقة من زوج من الذرات الأخري، ويتكرر ذلك مراكما جيشا مستنسخا في تفاعل متسلسل أسي. والنتيجة هى حزم ليزرية.

لكن حتي عندما تكون الظروف ملائمة، فإن الذرات لاتستنسخ فوتونات دائما. فاحتمال إصدار ذرة معينة لفوتون عند قذفها بفوتون آخر، قليل. وثمة فرصة أكبر لها لتحرير طاقتها قبل حدوث ذلك. وتتغلب الليزرات العادية على هذه المحدودية بضخ طاقة تملأ الذرات، مع استعمال مرايا ترسل الضوء المستنسخ جيئة وذهابا ليتلتقط فوتونات جديدة.

أما في ليزر الأشعة السينية، فيغدو تحقيق كل خطوة من هذه العملية أشد صعوية بكثير. ففوتون الأشعة السينية يمكن أن يمتلك طاقة أكبر بألف مرة مما يمتلكه الفوتون المرئي. لذا على كل ذرة أن تمتص طاقة أكبر بالف مرة. ولا تحتفظ الذرات بطاقاتها مدة طويلة. إضافة إلى أنه من الصعب الحصول على مرايا عاكسة للأشعة السينية. وعلى الرغم من أن هذه العوائق ليست جوهرية، فإن ثمة حاجة إلى طاقة هائلة لتكوين الظروف الليزرية.

أجزاء المسرع الخطي وآلية عمله

يعد منبع الضوء المترابط LCLS أقرب شئ تصنعه البشرية لمدفع سفينة فضاء ليزري ويستمد هذا الجهاز طاقته من مسرع جسيمات خطي. وهو نسخة مضخمة من المدفع الإلكتروني المستعمل في جهاز التليفزيون القديم الذي يطلق إلكترونات بسرعات قريبة من سرعة الضوء والمموج هو أساس هذا الاإختراع. إذ يجعل اللكترونات تسلك مسارا منعرجا. وكلما غيرت الإلكترونات اتجاهها في، أصدرت إشعاعا يتألف في هذه الحالة من أشعة سينية. ونظرا لأن الإلكترونات تتحرك بسرعة قريبة من سرعة الأشعة السينية التي تصدرها، فإن هذه العملية تغذي نفسها وتنتج حزمة استثنائية بشدتها ونقائها.[5]

مكونات الجهاز:

  1. ليزر التشغيل: يولد ليزر التشغيل نبضات ضوء فوق بنفسجي تقتلع نبضات من الإلكترونات من المهبط.
  2. المسرع: تسرع الحقول الكهربية الإلكترونات لتصبح طاقاتها 12 بليون إلكترون فولت. ويستعمل في منبع الضوء المترابط LCLS هذا كيلو متر واحد من الطول الإجمالي للمسرع SLAC. أي ثلثه فقط.
  3. ضاغط الحزمة 1: تدخل النبضات الإلكترونية ممرا منحنيا ذا شكل “S” مخفف يقوم بتسوية نسق الإلكترونات ذات الطاقات المتباينة.
  4. ضاغط الحزمة2: بعد جولة من التسارع. تدخل النبضات ضاغطا آخر أطول من الضاغط الأول. لأن طاقة الإلكترونات الآن أكبر.
  5. ردهة النقل: تقوم المغانط هنا بتكبير أو تصغير النبضات.
  6. ردهة المموج: تسبب مجموعة مغانط ذات قطبييات متناوبة حركة متعرجة للإلكترونات، محرضة إياها علي توليد حزمة أشعة سينية ليزرية.
  7. استخلاص الجزمة: يسحب مغنطيس قوي الإلكترونات ويدع الأشعة السينية تكمل طريقها.
  8. محطة منبع الضوء التجريبية: تقوم الأشعة السينية بعملها. حيث تضرب المادة وتقوم بمهمة التصوير.

المصادر:

1- Interaction of X-ray with Atoms

2-Excalibur Project

3- LCLS Overview II SLAC

4-Synchrotron

5-The Ultimate X-ray Machine

كيف اخترع العلم عباءة الإخفاء السحرية ؟

فئة ثورية من المواد ذات خصائص غير موجودة في الطبيعة تدفع حدود ما اعتقدنا أنه غير ممكن. تخيل عالماً تتحدى فيه تلك المواد القوانين التقليدية للفيزياء، حيث ينحني الضوء حول الأشياء كما لو كانت شفافة. وكأننا نتحدث عن طاقية الإخفاء أو عباءة الإخفاء السحرية من الأفلام! لكن للفيزياء يد في تحويل الخيال إلى واقع. وتفتح المواد الخارقة عالماً من الاحتمالات اللانهائية، من إنشاء أجهزة تصوير فائقة الدقة إلى تطوير تقنيات إخفاء مستقبلية. فما هي تلك المواد؟

ماهي الميتاماتيريالز Metamaterials أو المواد الخارقة؟

كلمة “ميتا” هي كلمة يونانية وتعني “فوق” أو “خارج”. وقد أطلق هذا الوصف على تلك المواد المُهَندسة التي تتيح لنا التحرك خارج الطرق التقليدية التي تتفاعل بها الموجات والمادة، مما يخلق تقنيات يبدو فيها الضوء والصوت كما لو كانا يعصيان القواعد التقليدية.[1] ولعلك سمعت عن “رداء الإخفاء” الذي يعتبر المثال الرئيسي لهذا النوع الجديد من المواد، وهو عبارة عن طلاء يمكنه إخفاء الأجسام بشكل واضح. وقد قامت عدة فرق بحثية حول العالم بتصميم وإنتاج ذلك الطلاء الذي يمكنه إعادة توجيه الموجات الضوئية التي تصطدم به، بطريقة تمنع بشكل فعال انعكاس الضوء عن الجسم فلا يصل إلى عيوننا. وعلى الرغم من أن هذه الاختراعات ما زالت محدودة وبعيدة عما رأيناه في أفلام هاري بوتر، إلا أنها تتفاعل مع الضوء بطريقة تبدو كالسحر.

من الزجاج الملون إلى الضوء المحكم والقطبية المدهشة!

لقرون عديدة، سعى العلماء للسيطرة على خصائص الضوء والصوت أثناء تفاعلهما مع حواسنا البشرية. ومن النجاحات المبكرة في هذا السعي هو اختراع الزجاج الملون. حيث تعلم الرومان القدماء والمصريون كيفية إذابة الأملاح المعدنية في الزجاج لتلوينه. وتمتص الجسيمات الدقيقة من المعادن المتناثرة في الزجاج ألوان محددة وتسمح بمرور ألوان أخرى، مما يخلق ألوانًا زاهية في تحف نعجب بها حتى اليوم. وفي القرن السابع عشر، أدرك «إسحاق نيوتن» و«روبرت هوك» أن لون ولمعان بعض الكائنات يتم خلقه بواسطة أنماط نانومترية على سطح أجسامهم، وهو مثال آخر على كيفية قدرة المواد الخارقة على خلق تأثيرات بصرية مدهشة.[2]

إن العيون البشرية ممتازة في اكتشاف خاصيتين أساسيتين للضوء، وهما كثافته (سطوعه) وطول موجته (لونه). أما الخاصية الثالثة وهي الأهم للضوء، هي قطبيته، التي تصف المسار الذي تتبعه حقوله الكهرومغناطيسية في الفضاء عبر زمن ما. وعلى الرغم من عدم قدرة البشر على تمييز قطبية واحدة عن أخرى بأعيننا، إلا أن هناك العديد من أنواع الحيوانات تمتلك حساسية للقطبية، مما يسمح لها برؤية المزيد وتوجيه أنفسها بشكل أفضل في محيطها.

وفي أواخر القرن التاسع عشر، بعد بضع سنوات من اكتشاف «جيمس كليرك ماكسويل» للمعادلات الكهرومغناطيسية، بنى «جاجاديش تشاندرا بوس» أول مثال لما يمكن أن نسميه مادة خارقة. حيث أحضر جاجاديش ألياف من نبات «الجوت»، و قام بلوي تلك الألياف، ورتبها في تشكيلات منتظمة يدويًا. ثم سلّط ضوء أحادي القطبية، حيث تتذبذب حقول الضوء المغناطيسية والكهربية على طول خطوط مستقيمة علي تلك الألياف. لاحظ «تشاندرا» أن قطبية الضوء الصادر قد أديرت بزاوية معينة بعد انتشارها وتفاعلها مع تلك الألياف. ولأول مرة، بدا أنه من الممكن تصميم مادة اصطناعية للتحكم في الضوء بطرق لم يسبق لها مثيل.

ثورة علم التمويه

اكتشاف الانكسار السالب

يمكن تتبع عصر المواد الخارقة الحديث بالعودة إلى عام 2000. عندما قام كلا من الفيزيائيين« ديفيد آر. سميث» من جامعة ديوك و«شيلدون شولتز» من جامعة كاليفورنيا، سان دييغو، وزملاؤهم بإنشاء مادة لم يُر مثيلاً لها من قبل، وهي مادة ذات معامل انكسار سالب! لكن ماذا نقصد بمادة ذات معامل انكسار سالب؟

عندما يمر شعاع الضوء من وسط إلى آخر -من الهواء إلى الزجاج على سبيل المثال- تتغير سرعته، مما يتسبب في انحناء الشعاع، أو “انكساره”. والفرق في معامل الانكسار بين المادتين هو الذي يحدد زاوية هذا الانحناء. وتعتبر ظاهرة الانكسار هي أساس معظم الأجهزة البصرية الحديثة، بما في ذلك العدسات والشاشات، وتفسر لماذا يبدو القلم في كوب الماء مكسورًا.


بالنسبة لجميع المواد الطبيعية المعروفة، فإن معامل الانكسار إيجابي. وهذا يعني أن الضوء ينحني دائمًا على نفس جانب الحدود، بزاوية أكبر أو أصغر من الحدود وفقًا لتغير المٌعَامِل. على العكس من ذلك، فإن الضوء الداخل إلى وسط ذو معامل انكسار سالب سينحني للوراء، مما يخلق تأثيرات بصرية غير متوقعة، مثل ظهور القلم  يميل في الاتجاه الخطأ.

افترض العلماء لزمن طويل أنه من المستحيل العثور على مادة تدعم الانكسار السالب، واعتبر البعض أن ذلك سينتهك المبادئ الفيزيائية الأساسية. ومع ذلك، عندما قام شولتز وسميث وزملاؤه بتجميع حلقات وأسلاك نحاسية صغيرة على قواعد دوائر مكدسة (مكونة من طبقات فوق بعضها البعض)، أظهروا أن شعاع الميكروويف الذي يمر عبر هذه المادة يخضع للانكسار السالب. هذه الخطوة المبتكرة أتاحت للمواد الخارقة إمكانية توفير مجموعة أوسع من معاملات الانكسار من تلك التي توفرها الطبيعة.

ثورة في علم التمويه

بعد هذا الانجاز العلمي الأولي، أصبح هناك قدر كبير من الأبحاث العلمية التي تهدف إلي إنشاء مواد خارقة تعمل على إخفاء الأشياء. حيث قام كلا من «نادر إنجيتا» و«أندريه أولو» من جامعة بنسلفانيا، بتصميم غطاء أو عباءة من المواد الخارقة تتسبب في إلغاء موجات الضوء المرتدة عن الغطاء. وبغض النظر عن الاتجاه الذي أتت منه، فعندما تضرب الموجة الغطاء سيتم إعادة توجيهها بطريقة تلغي الموجة المتناثرة بواسطة الجسم داخل الغطاء. نتيجة لذلك، سيكون الجسم المغطى مستحيل الكشف عنه عن طريق الإضاءة الخارجية.

تم إنتاج عباءات ثلاثية الأبعاد يمكنها تقليل موجات الراديو المنتشرة بشكل كبير، مما يجعل الجسم صعب الكشف على الرادار. ولذلك استخداماته العسكرية. ويمكن لتقنيات التخفي الموجودة إخفاء الأشياء عن الرادار عن طريق امتصاص اصطدام الأمواج، ولكن العباءات الخارقة أفضل بكثير. وذلك لأنها لا تقمع فقط الأمواج المنعكسة، بل تعيد توجيه الموجات الواردة للقضاء على التشتت. وامتدت تلك التطبيقات إلي إخفاء الموجات الصوتية، مما يخلق تمويه للأشياء، لا تستطيع الكشف عنها بواسطة أجهزة السونار. بالإضافة إلي صنع عباءات لكبح الموجات الحرارية والزلزالية. [3]

مقايضة بين الحجم وسرعة الضوء

لايزال هناك طريق طويل لتقطعه هذه العباءات لتصل لتلك المصورة في الأفلام. تسمح طاقية الإخفاء أو عباءة الإخفاء للخلفية متعددة الأطوال الموجية خلفها بالظهور بالكامل (أي اختفاء كامل للعباءة ورؤية كاملة لما ورائها). لكن عباءاتنا الواقعية محدودة إما بأحجام صغيرة أو بمدي ضيق للأطوال الموجية تعمل عندها. ويكمن التحدي الأساسي في المنافسة ضد مبدأ “السببية”، والذي ينص علي عدم إمكانية انتقال أي معلومات أسرع من الضوء فى الفضاء. أي أنه لو أردت تحقيق الشفافية الكاملة، فإن على الضوء الذي يمر من العباءة ألا يتفاعل معها أو يتغير. ومن ثم فمن المستحيل أن تحصل علي كل الضوء الآتى من خلف العباءة (أي تصبح شفافة كاملةً كما لو كانت تنتقل عبر الجسم دون إبطائها). وبناءً على ذلك، لا يمكننا منع التشتت بشكل تام بأكثر من طول موجي واحد (لون واحد من الضوء). بل حتى لو قمنا بتحفيز شفافية جزئية فقط (أي رؤية جزئية لما وراء العباءة أو الشيء المغطي) ، فإننا نواجه مفاضلة شديدة بين الحجم الكبير الذي يمكن أن يكون عليه الكائن المٌغَطي وعدد ألوان الضوء التي يمكننا إخفاءها من أجلها. [4]

لا يزال إخفاء جسم كبير بأطوال موجية مرئية بعيد المنال. ولكن يمكننا استخدام المواد الخارقة للأجسام الأصغر والأطوال الموجية الأطول. مما يفتح فرص مثيرة للرادار، والاتصالات اللاسلكية التي يمكن أن تستفيد من تلك التقنيات لتحسين جودة الاشارات والتقليل من التداخل. بالإضافة إلي أجهزة الاستشعار عالية الدقة التي تتطلب قياسات دقيقة دون التأثر بالاضطرابات المحيطة بها أثناء تشغيلها. وإضافة إلي فرص إخفاء أنواع أخرى من الموجات، مثل الصوت. والذي له قيود أقل نظَرًا لسرعته البطيئة مقارنة بالضوء، مما يسمح لنا بالتحكم به.

إن الرحلة إلى عالم المواد الخارقة وحجب الأشياء هي مغامرة مستمرة، مليئة بالإمكانيات المذهلة والوعد بمستقبل تصبح فيه الأمور غير العادية أمرًا شائعًا. و هي شهادة على رغبة الإنسان في دفع حدود ما هو ممكن.

المصادر:

1-3D metamaterials II Nature Reviews Physics
2-Structural Color II Bird academy
3-Heat cloaks hide objects in 3D II Physics World
4-How Far Away Are Active Invisibility Cloaks II Popular Mechanics
5-Symmetry II Wikipedia
6-Trick Light II Scientific American Magazine

ما هي عملية الاستمطار وكيف يمكن التحكم بها؟

سعى الإنسان عبر التاريخ وربما عصور ما قبل التاريخ إلى تعديل الطقس بمجموعة متنوعة من الوسائل. استخدمت العديد من القبائل البدائية أطباء سحرة أو رجال طب لجلب السحب والأمطار خلال فترات الجفاف، ولإبعاد سحب المطر أثناء فترات الفيضانات. و ترجع الجهود ” العلمية” الجدية للاستمطار إلي منتصف القرن التاسع عشر حين كان الناس يجربون كل شيء كإطلاق نيران المدافع، أو إشعال الحرائق في الغابات للتأثير في السحب كي تمطر. ففي عام 1894 جرب أهال من نبراسكا فى الولايات المتحدة وضع حد لقحط شديد عن طريق تفجير عشرة براميل مليئة بالبارود. وكمثال على الغموض العلمي، لوحظ أن السماء أمطرت إثر ذلك رذاذا خفيفا لم تكن له أي فائدة، ولكنه كان يكفي فقط على تشجيع الناس على الاستمرار بالمحاولة واستنباط سبل جديدة. فما هي عملية الاستمطار ؟ وكيف يمكن التحكم بها؟

سحب بلا أمطار

تحتوى السحب المنتفخة على كمية كبيرة من الماء. حتي إن سحابة صغيرة منها قد يصل حجمها إلى 750 كيلومترا مكعبا. وإذا ما تصورت وجود نصف غرام من الماء في المتر المكعب من هذه السحابة، فإن تلك الكرات البخارية في الغلاف الجوي تظهر كأنها بحيرات سابحة في السماء. ولكنها قد لاتجود إلا بقطرات قليلة قبل أن تختفي وراء الأفق. ولكن إذا حالفنا الحظ أو تصرفنا بذكاء لمعالجة تلك المشكلة, فيمكننا وضع اليد على تلك الكمية التي تسبح فى الجو علي الدوام والتي تقدر بنحو 0.04% من المياه العذبة فى العالم. وقد أدي هذا الي حث الحكومات فى بعض الدول الي تزويد الغلاف الجوي بأيونات لاعتصار مزيد من الرطوبة منه. فعلي سبيل المثال، تنشر الحكومة الصينية جيشا للطقس من 48 ألف شخص وتزودهم ب 50 طائرة و 7 آلاف راجمة صواريخ و 7 آلاف مدفع من أجل انتزاع المزيد من الأمطار.

المبدأ وراء علم الاستمطار

إن السحب التي تأتي منها الأمطار تحتوى على قطيرات ماء بحجم الميكرون, حيث تكون حرارتها دون درجة التجمد. ولكنها لم تتحول بعد إلى جليد لأنها تفتقر إلى نوى ضرورية لكي تتجمع حولها. لنقل إنها بحاجة إلى جسيمات غبارية بالحجم المناسب تماما. وهذه القطيرات خفيفة بحيث تبقيها التيارات الصاعدة عالقة في الجو. وإذا جرى توفير نوى مناسبة فإن القطيرات تندمج وتأخذ شكل كريات صغيرة من الجليد سرعان ما تتحول إلى غيث عندما تتساقط مخترقة الجو الدافئ. وقد اخترع هذه التقانة «فونيكوت» [العالم في مجال الغلاف الجوي بمختبر البحوث التابع الشركة جنرال إلكتريك'” بنيويورك] فى عام 1946. حيث استخدم فونيكوت يوديد الفضة كبذور والتى تحاكي بنيته الجزيئية تلك الموجودة في بلورات الجليد. ففي سحابة باردة يعمل يوديد الفضة على جذب الماء للالتصاق به. ويقوم يوديد الفضة بهذه المهمة نظريا وحتى عمليا: إذ صرح طيارون أن بإمكانهم مشاهدة السحب وهي تتغير عندما ترشق بهذه المواد الكيميائية. [1][2]

قياس الفاعلية

لقد استحدثت العديد من التقنيات لقياس فاعلية عملية الاستمطار ولاسيما خلال السنوات العشر الأخيرة. ففي ثمانيات القرن الماضي استخدم «رادار دوبلر- Doppler Radar» الذى مَكنَ العلماء لأول مرة من رؤية تركيزات المياه ضمن إحدى السحب. تللك الآلة التي تنشئ تلك البقع الخضراء على خرائط الطقس التي نشاهدها على شاشة التلفاز.[3] وفي عام 2000 أحرز الرادار الثنائي الاستقطاب الذي يصدر إشارات موجية على كل من محوري الإحداثيات تقدما كبيرا. حيث أصبح بإمكانك أن تعرف ما إذا كانت السحابة تحتوي على مطر وأن ترى حجم وشكل قطرات المطر.[4] ومع حصولنا على بيانات أفضل, ازدادت قوة الحواسيب وقدراتها على تحليل هذه البيانات وقدرتها على إحداث نماذج افتراضية. حيث يمكنك إنشاء سحابة إفتراضية وتقوم بحقنها بيويد فضة افتراضي, ثم تلاحظ ما الذي سيحدث.

رحلة إلي أعماق السحب

لنفترض أنك أحد الطيارين المسئولين عن إطلاق أنابيب يوديد الفضة وتم استدعائك للقيام بتلك المهمة. كل ما عليك هو التوجه إلي المنطقة الأنسب من العاصفة وهي منطقة “التدفق”. تلك المنطقة هي القناة التي يرتفع فيها الهواء الدافئ والرطب ضمن العاصفة، ويؤدي هذا الهواء دور الوقود لها. وهي عبارة عن «حوالق شبحية- Ghostly tendrils» من الرطوبة مندفعة بسرعة نحو السماء. و يحمل التدفق يوديد الفضة على بعد 2000 قدم داخل السحابة حيث توجد المياه فائقة البرودة و التي ينبغي أن يصل إليها متسببا في تشكل أولي لبلورات الجليد.

ويستهدف الطيارون التدفق نظرا لكونهم لا يستطيعون الطيران داخل السحابة، فبإمكان الرياح العنيفة داخلها تمزيق الطائرة. وعوضا عن ذلك يدور الطيار حول النقطة المناسبة مطلقا عددا من الأنابيب مستخدما التدفق فى نقل الدخان الحامل ليوديد الفضة إلي داخل السحابة. وأحيانا تكفي طلقة واحدة لتحقيق الهدف وفي أحيان أخرى يتطلب الأمر إطلاق ما يصل إلى 50 طلقة. أما المدة التى يتطلبها تزويد السحابة بخطوط الفضة، فهى تتراوح بين 10 إلى 15 دقيقة. إن زراعة البذور لايحدث قطرات فحسب, فبإمكانه أيضا تغيير بنية السحب إلى بنية عمودية طويلة. الأمر الذي يجعلها أقوي في توليد المطر.[5][2]

المصادر:

1- Cloud Seeding| Wikipedia

2-Cloud Seeding – A Review| Al-Bayan Center for Planning and Studies

3-Doppler Radar| National Weather Service

4-Dual Polarization Radar| National Weather Service

5-Eight States Are Seeding Clouds to Overcome Megadrought| Scientific American

Exit mobile version