اختلاف أرسطو وديكارت في تفسير الظواهر

هذه المقالة هي الجزء 3 من 9 في سلسلة محطات مهمة عن الثورة العلمية

اختلاف أرسطو وديكارت في تفسير الظواهر

تم استبدال مصطلحات معينة استخدمها أرسطو وأتباعه لوصف الطبيعة بنظريات جديدة وأدت تلك الأفكار لثورة علمية حقيقية تستند إلى فلسفة علمية جديدة. ومن ذلك المنظور، سنلقي نظرة في هذا المقال على اختلاف أرسطو وديكارت في تفسير الظواهر بشكل دقيق ومن خلال النصوص.

اختلاف أرسطو وديكارت

يصف النصان التاليان نفس الظاهرة وهي احتراق قطعة من الخشب، كتبهما أرسطو وديكارت. وكما ناقشنا سابقًا، حاول ديكارت استبدال الفلسفة الطبيعية الأرسطية، لأنه اعتبر الأرسطية عائقًا حقيقيًا أمام تقدم العلم، لما أضفته من غموض وأقحمت الروح لتفسير الأشكال الجوهرية.

أثناء قراءة النص، يرجى التفكير في إجابة السؤالين التاليين:
1. ما هي تركيبة الخشب؟ وكيف توصف عملية الاحتراق في النصين؟
2. هل أمكنك تمييز خصائص الفلسفة الأرسطية والفلسفة الميكانيكية الديكارتية؟

أرسطو والعناصر الأربعة

“يبقى أن نتحدث عن ماهية الأجسام التي تخضع للتوالد والتجدد، ولماذا. نظرًا لأن المعرفة في كل حالة تعتمد على ما هو تأسيسي، والعناصر هي المكونات الأساسية للأجسام، يجب أن نعرف أي من هذه الأجسام هو العنصر ولماذا. وبعد ذلك ما هو عدد العناصر وخصائصهم. ستكون الإجابة واضحة إذا شرحنا أولاً نوع مادة العنصر.

العنصر هو الجسم الذي يمكن تحليل الأجسام الأخرى فيه، ويحتمل أن يكون موجود فيها، في أي منها وهو أمر لا يزال محل نزاع. العناصر نفسها غير قابلة للتقسيم إلى أجسام مختلفة في الشكل. هذا ما قد نعنيه بالعناصر.

الآن إذا كان ما وصفناه عنصرًا، فمن الواضح أنه لا بد من وجود مثل هذه الأجسام. فاللحم والخشب وجميع الأجسام المماثلة الأخرى قد تحتوي على عناصر الأرض والنار، حيث يرى المرء هذه العناصر تنضح منها. ومن ناحية أخرى، لا يبدو (أمامنا في الوضع الطبيعي) أن اللحم أو الخشب يحتوي على النار ولا يصح أن نفترض خلوها منها. وبالمثل، حتى لو كان هناك جسم جوهري واحد، فلن يحتويهم. لأنه على الرغم من أنه سيكون إما لحمًا أو عظمًا أو أي شيء آخر، فهو لا يظهر في الحال. أنه يحتوي على إمكانية التحول، ويبقى السؤال، كيف تظهر هذه الإمكانية؟”

أرسطو، كتاب السماوات 3 في أعمال أرسطو، المجلد. 1 ، مطبعة جامعة برينستون ، ص. 494-495. [1]
احتراق الخشب يبرز اختلاف أرسطو وديكارت في تفسير الظواهر

تفسير أرسطو

كتب أرسطو “كتاب عن السماوات” عام 350 قبل الميلاد، وهو الكتاب الكوني الرئيسي. يناقش أرسطو في “كتاب عن السماوات” فكرة العناصر الأربعة، والتي تتكون منها جميع الأشياء الفرعية (كل الأشياء التي تقع تحت مجال القمر)؛ والأثير، والمادة الكاملة التي تتكون منها الأجرام السماوية (الأجسام الموجودة فوق القمر). يرى أرسطو أن الأشياء الدنيوية تبقى عرضة للتغيير، فهي قابلة للتلف وسريعة الزوال. بينما الأجرام السماوية أبدية وغير قابلة للتلف.

الأشياء الفردية -وفقًا لأرسطو- تتكون من مادة وشكل. فالمادة عند أرسطو تتكون من أربعة عناصر وهي الأرض، والماء، والهواء، والنار، وهي ظاهرة في الأشياء بقوة. أثناء عملية الحرق مثلاً، يتحلل الخشب إلى رماد الأرض ونار.

يستنتج أرسطو أن الخشب مصنوع من النار، أما الأرض فمتماسكة على شكل خشب. وبالتالي، فإن عملية الحرق بالنسبة لأرسطو ليست سوى تحلل الأجسام الفردية إلى العناصر المكونة لها وهو مجرد فقدان شكل.

ديكارت والميكانيكية

“أعرف نوعين فقط من الأجسام في العالم تحمل الضوء بداخلها، وهي النجوم والنار. ولأن النجوم بلا شك أبعد على المعرفة البشرية من النار، يجب أن نحاول شرح ما نلاحظه في النار أولًا.

عندما يحترق الخشب أو بعض المواد الأخرى المماثلة، يمكننا رؤية تحرك الأجزاء الدقيقة من الخشب بالعين المجردة. تفصل النار الأجزاء الدقيقة عن بعضها البعض، وبالتالي تتحول تلك الأجزاء الدقيقة إلى نار وهواء ودخان، ويبقى جزء خشن كرماد.

قد يتخيل آخرون -إن أرادوا- أن شكل النار ونوعية الحرارة وعملية الاحتراق أشياء مختلفة تمامًا في الخشب. أما أنا فأخشى الافتراض عن طريق الخطأ أن هناك أي شيء أكثر مما هو موجود أمام عيني في الخشب. يجب أن يكون كل ما يظهر أمامي بالضرورة كامن داخل الخشب. لذا فسأقتصر على تصوري لحركة أجزائه. لأنك قد تكون قادرًا على إشعال النار والتدفئة باستخدام الحطب، ويمكنك حرقه بقدر ما تريد، ولكن إن كنت لا تفترض أن بعض أجزائه تتحرك وتنفصل عن بعضها، فلا يمكن تخيله يخضع لأي تغيير.

من ناحية أخرى، إذا أزلت النار، فقد أزلت الحرارة، وحينها ستحافظ على الخشب من الاحتراق. إذن، تمنحني الحرارة بعض القوة التي تدفع أجزاء الخشب الدقيقة في حركة عنيفة وتفصلها عن الأجزاء الخشنة. ضع في اعتبارك أن هذه القوة وحدها ستكون قادرة على إحداث جميع التغييرات نفسها التي نلاحظها في الخشب عند الاحتراق.”

رينيه ديكارت، العالم، الفصل. 2، في كتابات ديكارت الفلسفية، المجلد. 1، مطبعة جامعة كامبريدج، ص. 83. [2]

تفسير ديكارت


“الآن بما أنه لا يمكن تصور كيف يمكن لجسم ما أن يحرك آخر إلا من خلال حركته الخاصة، يمكنني أن أستنتج أن ذلك اللهب الذي ينهش الخشب يتكون من أجزاء دقيقة تتحرك بشكل مستقل عن بعضها البعض بحركة عنيفة وسريعة للغاية. بينما تتحرك تلك الجسيمات بهذه الطريقة، يدفعون أجزاء الجسم التي يلمسونها ويحركون الجسيمات التي لا تقاومها.

يتحرك اللهب بشكل فردي، لأنه على الرغم من أن جسيماته تعمل معًا لإحداث تأثير واحد، إلا أننا نرى أن كل جسيم منهم يعمل من تلقاء نفسه على الأجسام التي يلمسها.

أقول، أيضًا، أن حركة جزيئات اللهب سريعة جدًا وعنيفة جدًا، لأنهم دقيقون جدًا لدرجة أننا لا نستطيع تمييزهم بالعين المجردة. وبالتالي لن يكون لدى تلك الجسيمات القوة التي يتعين عليها التأثير بها على الأجسام الأخرى إذا كانت سرعة لم تعوض عن قلة حجمها.

رينيه ديكارت، العالم، الفصل. 2، في كتابات ديكارت الفلسفية، المجلد. 1، مطبعة جامعة كامبريدج، ص. 83. [2]

كتب ديكارت كتاب العالم بين 1629 و 1633م بالفرنسية، بعنوان Trait du monde et de la lumiere، ونشره عام 1664. يناقش ديكارت موضوعات مختلفة، من الميتافيزيقا إلى الطبيعة والبيولوجيا، ويكشف فيه عن فلسفته الميكانيكية.

تأصيل ديكارتي

يتبنى ديكارت نظرية المادة الجسيمية. فيصف ديكارت هنا عملية الاحتراق كنتيجة لحركة الجسيمات. يتحلل الخشب أثناء عملية الاحتراق إلى أجزاء صغيرة من الرماد والدخان والنار والهواء.

انتقد ديكارت في كتاباته فكرة أرسطو بأن الحرارة أو النار موجودة في المادة. يرى ديكارت أن الاحتراق يحدث عندما تدفع جزيئات النار جزيئات الخشب. يحدث الأمر بطريقة سريعة وعنيفة، مما يؤدي إلى ظهور تنظيم جديد.

رأينا سابقًا أن الفلسفة المدرسية تعرضت للنقد، وكانت هناك محاولات لاستبدالها. كان التمييز الأرسطي بين المادة والشكل من أكبر المشاكل في الفلسفة الحديثة المبكرة. تم استبدال هذا التمييز بفكرة أن المادة تتكون من جسيمات صغيرة جدًا، تتفاعل مع بعضها البعض وفقًا لقوانين الطبيعة. افترض هذا التحول الانتقال من إطار كانت فيه الملاحظة الخارجية الشكلية كافية لوصف الطبيعة وظواهرها إلى إطار كان فيه البنية الداخلية للمادة وجسيماتها والتفاعل الميكانيكي بينها هي الأساس.

بالنسبة للنوع الثاني من التفاسير، لم تكن الملاحظة البسيطة كافية. وسنناقش سويًا الطريقة التي تعامل بها أوائل علماء الثورة العلمية الحديثة مع تلك المشكلة المتمثلة في الوصول إلى البنية الداخلية للمادة واكتشاف قوانين الطبيعة.

المصادر
[1] أرسطو، كتاب السماوات 3 في أعمال أرسطو، المجلد. 1 ، مطبعة جامعة برينستون ، ص. 494-495.
[2] رينيه ديكارت، العالم، الفصل. 2، في كتابات ديكارت الفلسفية، المجلد. 1، مطبعة جامعة كامبريدج، ص. 83.
[3] Futurelearn, scientific revolution, University of Groningen

كيف هدم ديكارت الفكر الأرسطي؟

هذه المقالة هي الجزء 4 من 9 في سلسلة محطات مهمة عن الثورة العلمية

وفقًا لما قاله ديكارت، فإن تصور السكولائيين أمثال فرانسيكو سواريز تحديدًا هو ما جعل مبدأ “الشكل الجوهري” أكثر إشكالية مما كان عليه بالفعل. إذا كانت الأشكال الجوهرية مثل الأرواح، فهذا لم يكن ليحدث إلا لأن المدرسيين قد تصوروا الطبيعة بطريقة مجسمة للغاية عن طريق وضع الروح بمثابة المبدأ حتى في المواد غير الحية مثل الماء! [1] إذن، كيف هدم ديكارت الفكر الأرسطي ؟

“الجسيمية -corpuscularianism”

حسب ديكارت، تتكون كل الأجسام من أجزاء دقيقة من المادة أو الجسيمات. تفتقر هذه الجسيمات إلى أي نوع من المحركات وجميعها في حد ذاتها غير فاعلة بالمرة. تتحرك الجسيمات فقط نتيجة الاصطدام بجسم آخر، والطريقة التي تحدد سرعة واتجاهات هذه الحركة هي عبارة عن عدد قليل من قوانين الحركة البسيطة.

نتيجة لهذه الحركة الموجهة بالقانون، تلتصق بعض الجسيمات ببعضها البعض وتشكل بنى معقدة مستقرة. هذه الهياكل المعقدة المستقرة هي الأجسام التي نراها من حولنا. [2]

“كل جزء فردي من المادة يظل دائمًا في نفس الحالة -الموضع- طالما لم يجبره الاصطدام بغيره من الأجزاء على تغيير تلك الحالة. هذا يعني أنه إذا كان للجزء حجم ما، فلن يصبح أصغر أبدًا ما لم يقسمه الآخرون. إذا كان مستديرًا أو مربعًا، فلن يغير هذا الشكل أبدًا ما لم يجبره الآخرون على ذلك.

إذا استقر في مكان ما، فلن يغادر ذلك المكان أبدًا ما لم يطرده الآخرون. وإذا تحرك، فستستمر حركته دائمًا بنفس القوة حتى يوقفه الآخرون أو يؤخرونه.”

(ديكارت، العالم، ترجمة جيه كوتينجهام وآخرون)

تعرف هذه الفكرة باسم “الجسيمية – corpuscularianism”. وقد اندمجت الجسيمية الديكارتية مع فكرة أخرى دمرتا مبدأ الشكل الجوهري تمامًا.

الجسيمية والآلية، المزيج المدمر لمبدأ الشكل الجوهري

بالإضافة إلى الجسيمية، تقول الفكرة الأخرى بأن الخصائص الفيزيائية للأجسام هي نتيجة التكوين الداخلي لجزيئاتها. يُنظر إلى الجسم وفقًا للطريقة التي تترتب بها جزيئاته، ويتحرك ويتصرف بالطريقة التي يتصرف بها بسبب التفاعل الميكانيكي بين جزيئاته، وتُعرف هذه الفكرة “بالآلية – mechanism”.

هذا المزيج من الجسيمية والآلية طرد الأرواح من الأجسام شر طردة. أصبح تكوين الأجسام نتيجة لحركة الجسيمات التي يوجهها القانون. فأجزاء الساعة تتحرك نتيجة للتفاعل الميكانيكي بين أجزائها المادية.

لم ينظر ديكارت وحده هذه النظرة الميكانيكية للعالم، ولكن اعتقد بها آخرون مثل الكيميائي روبرت بويل والأعضاء الأوائل الآخرين لما يسمى بالجمعية الملكية لتحسين المعرفة الطبيعية، والتي تأسست عام 1660م.

تعريف الجسيمية والآلية

  • الجسيمية: هي الفرضية القائلة بأن الأجسام تتكون من أجزاء دقيقة من المادة، أو “جسيمات”.
  • الآلية: هي الفرضية القائلة بأن خصائص الجسم وسلوكه يمكن حسابها وفق التفاعل الميكانيكي بين أجزائه المادية.

شرح لو جراند -تلميذ ديكارت- لفكرته

يتمثل نقد لو جراند في الأساس للنموذج الأرسطي في أنه لم يسبق لأحد أن رأى شكلاً أو يعرف بالضبط ما هو الشكل الجوهري. إن القول بأن الخصائص الفيزيائية للجسم تنبع من شكله، ليس مفيدًا على الإطلاق. إنه يعني أن الخصائص الفيزيائية للجسم تنبع من شيء غير معروف.

اعتقد Le Grand أنه يمكن وصف جميع الأجسام بأنها آلات، تنبع خواصها الفيزيائية من التفاعل الميكانيكي بين أجزائها المادية وحركتها مثل ديكارت وهو ما استخدمه لو جراند بالفعل في تفسير الظواهر المختلفة. [3]

تفسير أنطوان لو جراند لاحتراق الخشب وتحوله إلى رماد

رفض أنطوان لو غراند (1694) تفسير تحول الخشب إلى رماد بأنه ظهور مادة جديدة، لكنه اعتقد أن الأجزاء المادية للخشب امتزجت من جديد نتيجة للاحتراق، لتظهر هذه الأجزاء كرماد وليس كخشب.

اختلف تحليل Le Grand بشكل واضح عن التحليلات الأرسطية التقليدية، حيث نظروا إلى تحول الخشب إلى رماد على أنه حالة تغيير جوهري، أي عملية تختفي فيها مادة من الوجود لتظهر مادة أخرى.

تابع آخرون تطوير النموذج الديكارتي ومخالفة المنهج الأرسطي أمثال نيقولاس مالبرانش وبويل وغيرهم. [1]

بالنسبة لكثير من الناس، قدّم هذا المزيج من الجسيمية والآلية نوعًا من الطبيعة الواضحة الأقل غموضًا مما قدمته الأرسطية. ومع ذلك، فقد حمل النموذج الجديد مشكلاته الخاصة أيضًا.

المصادر
[1] Futurelearn, scientific revolution, University of Groningen
[2] كتاب كتابات فلسفية لرينيه ديكارت
[3] Stanford Encyclopedia of philosophy

Exit mobile version