ملخص كتاب أسس التفكير العلمي للدكتور زكي نجيب محمود

يتحدث الكاتب عن أهمية وضوح التفكير العلمي وتجنب اللبس بين المتشابهات للقارئ العام. يؤكد على تنوع مجالات النشاط الذهني للإنسان، مشيرًا إلى أن المنهج العلمي ليس الوحيد وأن هناك ميادين أخرى للنشاط الإنساني. كما يركز الكتاب فقط على المنهج العلمي، فيقول أن الملاءمة في كل ميدان تستند إلى خبرة الإنسان عبر تاريخه، مع تشديده على أهمية الالتزام بمنهج المجال المحدد مع إمكانية التعديل بناءً على التجارب والتطور.

الشعر والعلم

يستعرض الدكتور زكي نجيب محمود التصادم بين الشعر والعلم. حيث يظهر أنه لا يمكن لعالم الجيولوجيا أن يعترض على تصريح شاعر يتحدث عن تكوين الأرض بطريقة شعرية. ويقول أن لكل من الشعر والعلم ميزانًا خاصًا. حيث يقيم النقاد الأدبيون جودة الشعر، بينما يعتمد العلم على أصول المنهج العلمي.

يستعرض الكاتب تفاوت محتوى مجال التفكير العلمي ويقارن بين مستويات التجريد والتعميم، ويقدم مثالاً عن الأقلام. حيث يناقش قدرتنا على التعرف على القلم كشيء بشكل فردي معين، ولكن عندما نقوم بالتجريد وخلع الخصائص الجزئية كاللون والحجم، يبقى لدينا مفهوم فكري مجرد عن القلم.

يسلط الكاتب الضوء على أن هذا التجريد يبعدنا عن الواقع الحسي، مشيراً إلى أن العقل يلعب دورًا رئيسيًا في عملية الإدراك، حتى وإن كان مستندًا إلى الأقلام الجزئية في العالم المحسوس. كما يعتقد الكاتب أن الحقائق العلمية تتفاوت في درجات التجريد والتعميم، حيث تتنوع مستويات التجريد والتعميم بحسب نطاق الاستنباط الذهني للمفاهيم العلمية المختلفة.

علوم مختلفة

يستعرض الدكتور زكي نجيب محمود تنوع العلوم في مجالات مختلفة مثل الرياضة والطبيعة، مشيراً إلى وجود تسميات متنوعة مثل “علوم اجتماعية” أو “علوم إنسانية” لبعض الصنوف. يثير ذلك التنوع سؤالًا حول ما إذا كانت جميع هذه التنوعات في المجالات العلمية تتشارك في نمط فكري واحد يمكن تسميته بالتفكير العلمي أم لا.

وقفة عند التفكير الرياضي

يشير الكاتب إلى اتجاهات الأفراد نحو التفكير العلمي، حيث يلاحظ أن الانتباه يتجه غالبًا نحو التفكير الطبيعي التجريبي في مجال العلوم. ومع ذلك، يشير إلى وجود نوع آخر من التفكير يختلف جوهريًا عن منهج العلوم الطبيعية، وهو التفكير الرياضي. يستخدم مصطلح “الرياضة” هنا ليشمل الجبر والحساب والهندسة، مشيرًا إلى أن هذا النوع من التفكير يتبع نهجًا مميزًا يتمثل في السير من الفرضيات إلى النتائج بنفس الطريقة المستخدمة في العلوم الطبيعية.

وقفة عند التفكير التجريبي

يشدد الكاتب على أهمية التفكير الرياضي كنوع آخر من التفكير العلمي. ويرى أنه على الرغم من تركيز الانتباه على التفكير التجريبي الطبيعي في العلوم، إلا أن التفكير الرياضي له أهمية كبيرة في تاريخ الإنسان والتفكير العقلي. كما يقول بأن التفكير الرياضي يمتد جذوره إلى العصور القديمة، بينما ظهر التفكير العلمي التجريبي في وقت لاحق. يُشير الكاتب إلى أن الفكر اليوناني القديم كان يتبنى منهجًا رياضيًا في الفكر، حيث يستند إلى فرضيات، ويستخرج منها حقائق مستنتجة.

تحويل الكيف إلى كم

يقدم الكاتب تفسيرًا لمصطلحي “الكيف” و”الكم” في سياق الفكر الفلسفي، وفي تفاعلهما مع التفكير العلمي. ويشير إلى وجود مستويين لإدراك الإنسان لبيئته، حيث يعامل المستوى الأول بشكل يومي يعتمد على الحواس والأشياء الظاهرة الملموسة. بينما يتسم المستوى الثاني بالتعامل مع البحث العلمي والتفكير الكمي في علوم متقدمة. يوضح كيف يتم التعامل مع مصطلح “الماء” على مستوى الحياة اليومية، بينما يتفاعل معه في العلم بشكل تحليلي يفصل بين عناصره الكيميائية؛ وهذا يدل من وجهة نظره على دقة البحث والتفكير العلمي مقارنة بمستوى تعاملنا في الحياة العامة.

التفكير العلمي الموضوعي

يقدم الكاتب تفسيرًا للتقسيم بين “كيف” و”كم” في الفكر العلمي، حيث يركز على التفكير العلمي الذي يتناول الجوانب الكمية بشكل أساسي، ويحاول التخلص من الجوانب الكيفية. ويقوم بتوضيح التقسيم بين الصفات الأولية (الموضوعية) والثانوية (الذاتية). حيث يشير إلى أن الأولى تتعلق بصفات الأشياء بشكل موضوعي بمرور الوقت. بينما الثانية تعتمد على تفاعل الإنسان معها بشكل شخصي.

يبرز أهمية أن تكون القضايا العلمية المطروحة قابلة للتحقق بوسائل يمكن فهمها وتقييمها من قبل باحثين آخرين، مما يجعلها قضايا اجتماعية يجب أن تتبنى لغة ورموز معترف بها في المجال العلمي.

ولكن ماذا عن العلوم الإنسانية؟

في هذا الجزء، يروي الكاتب تجربته كأستاذ زائر في جامعة أمريكية خلال العام الجامعي 1953 – 1954. ويشير إلى تقليد الجامعة في استضافة رجال علم بارعين، فيتحدث عن زيارة “هنري مارجينو” الذي كان يهتم بفلسفة العلوم. ويسرد محاضرات “مارجينو” حول فلسفة العلوم الإنسانية، مقدمًا سؤالًا حول المنهج في هذا الميدان. يصف الكاتب لحظة صمت قصيرة قبل أن يبدأ بطرح أفكاره حيث يقترح أن التناول العلمي يمكن تطبيقه على كل ظاهرة تحت المشاهدة، سواء كانت إنسانية أو غيرها، مع إمكانية تطوير منهج خاص للظواهر التي تفوق إمكانيات المنهج الطبيعي.

العلم وحده لا يكفي

في هذا الجزء، يشبه الكاتب حياة الإنسان بقصر ذي غرف كثيرة، ويعبر عن تقصيره في استكشاف جميع جوانبها، متحدثًا عن الجانب الذي اختاره للتفكير العلمي، وهو غرفة العلم. يشدد على أنه في هذه الرحلة تم اختيار نافذة وباب محددين، الأولى تطل على الواقع الذي يمكن حسابه بالأرقام، والثاني يدخلهم إلى تلك الغرفة عبر المنهج العلمي. ويحذر القراء من إهمال أو تجاهل بعض الجوانب الإنسانية العميقة والمعقدة التي قد لا يكون التفكير العلمي قادرًا على إلقاء الضوء عليها، مثل العواطف والقيم.

يرى الكاتب أن غاية الإنسان تتمثل في أن يكون كائنًا حرًّا، ويتحقق ذلك من خلال العلم والوجدان. ويبرز دور العلم في فهم قوانين الطبيعة وتحقيق التفوق على قيودها، ويمكن للعلم أن يساهم في تحريرنا من قيود الزمان والمكان. بالإضافة إلى ذلك، يتحدث عن أهمية الوجدان والإيمان في تحطيم قيود الحاجة وتحقيق أشكال متنوعة من الحرية، مثل الإنفاق في سبيل الخير والترفّع عن الحاجات الضيقة. كما يقارن بين حرية العلم وحرية الوجدان، مشيرًا إلى أنهما يمثلان جوانب مهمة من الحرية التي تمكّن الإنسان من التفوق والتحرر.

فرانسيسكو سواريز ومحاولة تفسير أرسطية أخيرة

هذه المقالة هي الجزء 2 من 9 في سلسلة محطات مهمة عن الثورة العلمية

فرانسيسكو سواريز ومحاولة تفسير أرسطية أخيرة

تعلمنا سويًا في المقال السابق كيفية استخدام نموذج تحليل شكل المادة الأرسطي لفهم عمليات مثل تحويل اليرقة إلى فراشة. كما طبّقنا نموذج شكل المادة لتقديم تحليلات للظواهر الطبيعية الأخرى أيضًا. ورغم منطقية النموذج البادية للوهلة الأولى إلا أننا الآن في وضع يسمح لنا بتقييمه وتحديد بعض نقاط قوته وضعفه. فتعالوا بنا لنعرف كيف انتقد ديكارت الفكر الأرسطي؟

نقد الفكر الأرسطي، نقاط الضعف ونقاط القوة

نقاط قوة نموذج تحليل المادة الأرسطي

  • قد تقول إن إحدى السمات الجذابة لهذا النموذج هي أنه بسيط نسبيًا، أي يمكنه وصف مجموعة واسعة من العمليات الطبيعية، بدءًا من حرق الخشب أو تحول اليرقة إلى فراشة وتغير لون تفاحة متعفنة، بسهولة نسبيًا. فليس علينا سوى افتراض فقد أو اكتساب المادة شيئًا معينًا.
  • أيضًا، يتناغم النموذج مع الحدس القائل بأن بعض خصائص الجسم ضرورية له، في حين أن البعض الآخر مجرد خصائص عرضية. فيلتقط النموذج هذه الفكرة من خلال التمييز بين الأشكال الجوهرية التي تؤسس الخصائص الأساسية للأجسام، والأشكال العرضية التي تؤدي إلى خصائص عرضية متغيّرة.

نقاط ضعف نموذج تحليل المادة الأرسطي

  • إحدى نقاط الضعف المهمة لهذا النموذج هي غموضه التام. إن القول بأن الماء يتصرف كالماء بسبب شكله هو ادعاء ضبابي غير مفسّر. لجعل هذا الادعاء ملموسًا، سنحتاج إلى مزيد من التفسير لنوع شكل الجسم. بدون مثل هذه العملية، سيظل شكل الجسم نوعًا ما كـ “الصندوق الأسود” الذي يؤدي بطريقة ما إلى ظهور خصائصه الفيزيائية.

    ماذا لو قلنا بأن الماء يتصرف كالماء لأنه عبارة عن H2O، أي لأنه رابطة كيميائية بين ذرتين من الهيدروجين وذرة أكسجين واحدة، فقد أصبح لدينا تفسير ملموس للغاية. لقد فتحنا الصندوق الأسود ونظرنا بداخله وعرفنا الأسباب الحقيقية، أليس كذلك؟
  • قال النموذج الأرسطي أن تحول الخشب إلى رماد، يفقد مادة الخشب شكلها وتكتسب شكلًا آخر. لكن من أين يأتي هذا الشكل الجديد؟ لا يقدم النموذج إجابة واضحة على هذا السؤال، مما يضعف بشكل كبير من قوته التفسيرية.

    كان المدرسّون أنفسهم مدركين لهذه المشكلة، لكنهم لم يقدموا حلاً واضحًا مرضيًا.

في مقالنا الأخير، رأينا كيف تعامل مفكرو العصور الوسطى، مثل توما الأكويني، مع الأجساد من حيث المادة والشكل. سيطر نموذج التحليل الأرسطي هذا، على جامعات القرون الوسطى، أي منذ حوالي 1200 سنة ميلادية وما بعدها. لكن في القرن السابع عشر، تعرض النموذج لهجوم شرس من مفكرين مثل رينيه ديكارت وروبرت بويل.[1]

لماذا تعرض النموذج الأرسطي للهجوم؟

كان الهدف الرئيسي للنقد الحديث المبكر للفلسفة الطبيعية المدرسية هو فكرة الشكل الجوهري، وتوجهت إليها نيران الناقدين. فكما رأينا، كان الشكل الجوهري للجسد مبدأ رئيسي يصعب تفسيره. أصبح الشكل الجوهري هو المحدد لنوع الجسد الذي كان عليه، وجعله يتحرك ويتصرف بطرق معينة.

هكذا كان الماء هو الماء في هذا النموذج كنتيجة لشكله الجوهري. ونتيجة لهذا الشكل الجوهري، سيغلي الماء عند تسخينه ويبرد مرة أخرى بعد إزالة مصدر الحرارة. هكذا بلا أسباب سوى الشكل الجوهري، فهو بذاته يفسر كل شيء، ونحن لا نعرف عنه شيء تقريبًا.

بالإضافة إلى نقاط ضعف النموذج الأرسطي الممثلة في الغموض والحدسية، فقد استحق النموذج الهجوم كما يبدو.

ما قبل ديكارت

فرانسيسكو سواريز وتفسير الشكل الجوهري بالروح

على الرغم من بساطة الأمر من وجهة نظر السكولائيين حينها أمثال توما الإكويني، فقد وجد ديكارت صعوبة في رؤية ما يمكن أن تكون عليه هذه الأشكال الجوهرية. اعترف العديد من المدرسين بأن الأشكال الجوهرية لا يمكن رؤيتها أو ملاحظتها في حد ذاتها.

في القرن السادس عشر، حاول الكاهن اليسوعي الإسباني فرانسيسكو سواريز تسليط الضوء على هذا الوضع من خلال مقارنة الأشكال الجوهرية بأرواح البشر.

في البداية، فسر فرانسيسكو ظاهرة فقدان الحرارة وفقًا للشكل الجوهري. قال فرانسيسكو أن ما يدفع الماء الساخن لأن يبرد بعد إبعاد مصدر التسخين هو شكله الجوهري البارد بالأساس، لهذا يحاول الماء أن يعود لشكله الجوهري.

برودة الماء بعد تسخينه

اعتقد فرانسيسكو سواريز بأن الجسد البشري له روح توجهه من الداخل، وهكذا المواد الأخرى أيضًا، لها شكل جوهري يوجه سلوكهم وحركاتهم من الداخل. [2]

قيل عن أعمال وتفسيرات فرانسيسكو سواريز أنها مهدت وألهمت ديكارت وكانت حلقة وسطى بين الانتقال من الأرسطية إلى الثورة العلمية كما رأينا في تفسيره الأخير لبرودة الماء الساخن بعد فترة.

حاول فرانسيسكو سواريز إنقاذ السكولائية والأرسطية من عقلانية وتفسيرات وشغف معرفي وتفسيري لدى الكثيرين في عصره، فهل نجح؟ هذا ما سنعرفه في المقال التالي.

المصادر
[1] Futurelearn, scientific revolution, University of Groningen
[2] كتاب خلافات ميتافيزيقية لسواريز فرانسيسكو
[3] كتاب كتابات فلسفية لرينيه ديكارت
[4] Stanford Encyclopedia of philosophy



الأرسطية والفلسفة السكولائية، توما الإكويني نموذجًا

هذه المقالة هي الجزء 1 من 9 في سلسلة محطات مهمة عن الثورة العلمية

الأرسطية والفلسفة السكولائية، توما الإكويني نموذجًا

يريد الثوار التغيير، بل وقلب كل الأنظمة واستبدالها بأخرى جديدة. هكذا أراد الثوار الفرنسيون الإطاحة بالنظام الملكي واستبداله بالجمهورية. لذلك، إذا كنت ممن يعرفون بوجود ثورة علمية في القرن السابع عشر، وتود معرفة بدايات تلك الثورة العلمية بداية من توما الأكويني وحتى اكتمالها على الفكر الأرسطي، فهناك سؤالان نحتاج إلى طرحهما.

السؤال الأول هو، ما الذي أراد علماء القرن السابع عشر استبداله؟ والثاني، ما الذي أرادوا استبداله به؟

سننظر في أول هذه الأسئلة في هذا المقال. ما الذي أراد العلماء الأوائل استبداله؟

الإجابة المختصرة على هذا السؤال هي أنهم أرادوا استبدال “الفلسفة المدرسية” أو السكولائية. نعني بالفلسفة المدرسية هنا فلسفة مدارس أو جامعات العصور الوسطى.

الفلسفة المدرسية – الفلسفة السكولائية

تتضمن الفلسفة المدرسية مجموعة واسعة من التخصصات من المنطق والأخلاق إلى ما يسمى بـ “الفلسفة الطبيعية”، أو ما نسميه العلم. تابعت الفلسفة الطبيعية المدرسية السير على نهج المفكر اليوناني أرسطو. [1]

في العصور الوسطى، كان يُشار أحيانًا إلى أرسطو بـ”الفيلسوف”، وقد طور مفكرو العصور الوسطى مثل توما الأكويني أفكارهم الخاصة من خلال البناء على أفكار أرسطو.

دعونا نلقي نظرة فاحصة على الفلسفة الطبيعية الأرسطية التي هيمنت على جامعات العصور الوسطى. ربما تكون أفضل طريقة للقيام بذلك هي النظر إلى واحدة أو اثنتين من الظواهر الطبيعية والسؤال عن كيفية تحليلها لمفكر من العصور الوسطى مثل توما الأكويني. لذا أولاً وقبل كل شيء، فكّر في تحول اليرقة إلى فراشة.

تحول اليرقة إلى فراشة

الفلسفة المدرسية عند توما الأكويني

وفقًا لتوما الأكويني، نحن نتعامل هنا مع حالة أسماها “التغيير الجوهري”، وهي عملية تغيير حيث تتوقف مادة ما عن الوجود وتظهر مادة أخرى إلى الوجود، فعندما تتحول اليرقة إلى فراشة، تختفي اليرقة من الوجود ولكن تأتي الفراشة إليه. [2]

بمجرد ظهور الفراشة، لن تبقى على حالها أيضًا، ولكن ستتغير بعدة طرق أخرى. على سبيل المثال ستنمو الفراشة، وقد يتغير لونها، لكن هذه تغييرات أقل جذرية بكثير من تحوّل اليرقة إلى فراشة، فالتحول هنا بمثابة التغيير الجوهري عند توما الأكويني.

دعونا نقارن بين الحالتين. عندما تتحول اليرقة إلى فراشة، تختفي اليرقة من الوجود. لكن، عندما يتغير لون الفراشة، فإنها تنجو من هذا التغيير، ولا تختفي من الوجود، أليس كذلك؟

في الواقع، تغيّر اللون هو ما أطلق عليه الأكويني “تغيير عَرَضي”، حيث يحدث تغير في مستوى الخصائص العَرَضية. يمكن توضيح هذا التمييز بين التغيير العرضي والجوهري بشكل أكبر من حيث الأشكال العَرَضية والجوهرية.

التغيير العَرَضي والتغيير الجوهري عند توما الأكويني

وفقًا لتوما الأكويني، فإن الجسد الطبيعي جزء من المادة، تَكوّن بواسطة ما أسماه بـ “الشكل الجوهري”. [3] والشكل الجوهري للجسم هو المبدأ، وهو ما يجعله الجسم الذي هو عليه. الشكل الجوهري للجسم هو ما يجعله يتحرك ويتصرف بطرق مميزة. قد نلخص الأمر بأن الشكل الجوهري للجسم يشبه بشكل ما المُحرك الداخلي المتحكم في كل شيء.

اليرقة في مثالنا السابق هي جزء من المادة، والشكل الجوهري هو ما يكوّنها، مما يجعلها تبدو مثل يرقة، ورائحتها مثل يرقة، وتتحرك وتتصرف كيرقة. أُعيد تكوين هذا الجزء نفسه من المادة بشكل جوهري جديد، مما جعلها تبدو مثل الفراشة، ورائحتها مثل الفراشة، وتتحرك وتتصرف كالفراشة.

في الواقع، عندما أعيد تكوين نفس الجزء من المادة بهذه الطريقة، اختفت اليرقة من الوجود، ولكن ظهرت الفراشة بدلًا منها. فالفراشة لا تتحرك كاليرقة ولا تتصرف مثلها، ولكن أصبح لها محرك داخلي جديد بصفات جديدة.

يمكن إسقاط نفس التحليل على التغيير العرضي. عندما تظهر الفراشات للوجود، ستخضع كل مُركّب المادة والشكل الجوهري لمزيد من التغيرات التي أسماها الأكويني “الأشكال العرضية”.

تُمثل هذه النماذج العرضية الخصائص المؤقتة التي تمتلكها الفراشة في أي لحظة زمنية معينة. فهو يفسر حجم الفراشة ولونها وشكلها المحدد وفقًا لمبدأ الأشكال العرضية. عندما تتغير ألوان الفراشة من اللون الأزرق مثلًا إلى الأحمر، سيفسر الأكويني هذا التغيير بأنها تفقد شكلاً عرضيًا وتكتسب شكلًا عرضيًّا آخر.

مارس التفكير الأرسطي بنفسك

الآن، أنت أصبحت على دراية بمفهومين أساسيين للفلسفة الطبيعية الأرسطية وهما، المادة والشكل. وفقًا لهذه المفاهيم، يمكنك الآن محاولة صياغة تحليلات أرسطية للظواهر الطبيعية بنفسك.

فكر من حيث المادة والشكل في تحليلات لأحداث مثل حرق قطعة خشب وتحول تفاحة حمراء إلى بنية.

احتراق قطعة خشب

كيف ستفسر الحالات السابقة إن كنت أرسطيًّا؟

لقد قدمت للتو تحليلات أرسطية من حيث المادة والشكل بنفسك عندما فكرت في تحول قطعة من الخشب إلى رماد وتحول تفاحة حمراء إلى اللون البني.

سننظر بإيجاز في هاتين الحالتين ببعض التفصيل. عندما تتحول قطعة من الخشب إلى رماد، يقول الأرسطيون أن هذه عملية تتوقف فيها مادة (قطعة الخشب) عن الوجود، وتظهر مادة أخرى.

نحن نتعامل مع حالة تغيير جوهري. في التغيير الجوهري، يعاد تكوين المادة المختفية عبر مادة جديدة تظهر إلى الوجود. في هذه الحالة، تفقد قطعة الخشب الشكل الذي أعطاها الطبيعة الخشبية، وتكتسب شكل الرماد بدلاً من ذلك بصفات جديدة.

ثانيًا، عندما تتحول تفاحة حمراء إلى اللون البني. يتغير التفاح بالفعل، لكنه ينجو من العملية. التفاحة التي كانت حمراء في البداية هي نفسها التفاحة التي أصبحت بنية الآن. لذلك، نحن نتعامل مع حالة تغيير عرضي. في حالة التغيير العرضي، تحتفظ الأشياء بموادها وشكلها الجوهري. ومع ذلك، فهي تخضع لتغيير على مستوى الشكل العرضي فقط. في هذه الحالة، كان للتفاحة في البداية شكل عرضي جعلها حمراء، لكنها فقدت هذا الشكل مع مرور الوقت. ثم اكتسبت شكلاً عرضيًا آخر جعلها بنية اللون.

الثورة العلمية على الفكر الأرسطي

سيطر نموذج التحليل هذا للمادة والشكل على جامعات العصور الوسطى لعدة قرون. ومع ذلك، لم يرض أمثال رينيه ديكارت وروبرت بويل وقادة التنوير في القرن السابع عشر عنه، وهذا يثير سؤالين، أولاً، لماذا لم ينل هذا النموذج إعجابهم؟ وثانيًا، ما النموذج الذي رغبوا في استبدال المنهج الأرسطي به؟ وهو نفس السؤال الثاني الذي بدأنا به المقال، لكنه باق معنا لمقال آخر.

المصادر
[1] Britannica
[2] Internet Encyclopedia of Philosophy
[3] The Conversation

Exit mobile version