ما هي الحداثة وماذا نعني بالحركة الحداثية؟

مع نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، ظهرت حركة فنية وأدبية انفصلت عما سبقها من الأشكال التقليدية في كافة الفنون. وخلقت توجهاتُها الجديدة تغييراتٍ جذرية في كيفية تصوير الحياة. طالت هذه التغييرات جوانب الموسيقى والفن والهندسة المعمارية وغيرها من المجالات الفكرية. وتميزت هذه الحركة برفضها لكل ما سبقها من حركات لأنها لم تعد تستطيع التعبير عن المجتمع المعاصر بدقّة وصدق من منظور مؤسسيها. وأصبحت هذه الحركة تعرف بالحداثة أو الحداثية (modernism). وأعطت اسمها للعصر الذي تطورت فيه، إذ سادت أكثر الأمر في الفترة التي تلت الحرب العالمية الأولى وتقريباً حتى منتصف القرن العشرين [1].

ولدى العودة إلى أصل التسمية modernism، نجد أنها مشتقة من الكلمة اللاتينية modo والتي تعني “الآن”. وتمثل هذه الحركة ثورة على ما رسّخه القرن التاسع عشر من مبادئ الوطنية والحكمة الثقافية المطلقة. وكانت تلك المبادئ، خاصة في عصر الملكية فيكتوريا في إنكلترا، مبنية على أسس تقليدية، وانعكست على الفن والهندسة المعمارية والأدب والإيمان الديني والتنظيم الاجتماعي والحياة اليومية. لكن كل ذلك بات قديمًا باليًا في عصر الحداثة الصناعي [2].

الوصول إلى عصر الحداثة

الحركات السابقة

كان تأثير الحرب العالمية الأولى كبيراً في تمايز عصر الحداثة وتبلور أفكاره. فقد أثرت نتائج الحرب المدمرة وأهوالها على المفكرين وجعلتهم يعيدون النظر في الوجود الذي كانوا يظنون أنه مستقرٌ وهادف. وكان لهذه النظرة الجديدة بذور خصبة وضعها مفكرو نهاية القرن التاسع عشر كداروين وماركس ونيتشه وفرويد. ويمثل هؤلاء أعلاماً في مجالاتهم المختلفة بأفكارهم الثورية التي هزت مبادئ سابقة كانت ثابتة في أذهان الناس [3].

عند العودة بالزمن إلى الوراء قليلًا، بدت المرحلة المبكرة من عصر التنوير (Enlightenment) في القرن السابع عشر وإلى الثورة الفرنسية والصناعية في القرن الثامن عشر فترة سيادة للمنطق في العلوم المختلفة، واكتشاف العوالم الجديدة، وتسخير الطبيعة ومواردها لخدمة البشر ومتطلباتهم. واستطاعت النخبة من المفكرين والفنانين – عموماً – إيجاد توازن بين الإيمان بالله من المنظور الديني، وما توصلت إليه العلوم المختلفة من نظريات جديدة [3].

ثم أتى العصر الرومانسي (Romanticism) الذي تلى الثورة الفرنسية وسيطر على جزء كبير من القرن التاسع عشر ليولي اهتماماً أكبر للعواطف على حساب المنطق، وليقدّس الفرد على حساب الجماعة. وكان هذا نتيجة للتغيرات السياسية التي أعطت للشعب قوة أكبر في اختيار قادتهم [3].

ثم كان للمذهبين الواقعي والطبيعي بعض الأفكار المختلفة التي رفضت مثاليات الرومانسية وتفضيلها للفرد. فركزت الواقعية (Realism) على تمثيل الواقع في الفنون كما هو فعلاً، بعيداً عن المثاليات في نقل التجارب وتصوير الشخصيات البشرية. في حين لجأت الطبيعانية (Naturalism) إلى مراقبة أثر العوامل البيئية والاجتماعية والوراثية على الأفراد، ودراسة الطبيعة البشرية دراسة موضوعية بمبادئ علمية [3].

الأسس الفكرية للحداثة

عندما أتى عصر الحداثة، كان التركيز الأكبر على الغوص في أعماق التجارب والشخصيات البشرية بعد إدراك أن ما تم تصويره سابقاً لم يتجاوز السطح الظاهر للحقيقة. ويعود الفضل في هذا لدراسات سيغموند فرويد (1856-1939) في التحليل النفسي. إذ تحدث فرويد عن اللاوعي البشري وما يخبئه من مكنونات قد تظهر في الأحلام على سبيل المثال. ثم لا ننسى نظرية التطور التي فجرها تشارلز داروين (1809-1882) وما قدمه من أفكار الاصطفاء الطبيعي. فقد تحدى بها المعتقدات الدينية السائدة آنذاك، والتي كانت تنص على تفوق البشر على غيرهم من المخلوقات. أما بالنسبة لفريدريك نيتشه (1844-1900) فقد عبر بفلسفته عن شكوكه ورفضه للتعاليم الدينية المسيحية التي كانت راسخة عند الناس. إذ رأى أنها تستغل الضعفاء والمتواضعين بحجة النعيم المنشود. وهذا ما نجده أيضاً لدى كارل ماركس (1818-1883) ولكن في سياق مختلف قليلاً. فقد عبر عن رفضه لهيمنة الرأسمالية، ورفع راية الطبقة العاملة على أنها الطبقة المسحوقة التي يستغلها الأغنياء لتلبية خدماتهم [3].

كل هذه الأفكار التي غزت نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العرشين شكّلت أساساً قوياً لثورة المفكرين على ما كان يُعتقد أنه مبادئ ثابتة فيما مضى. وزاد على ذلك حالة الاضطراب والفوضى التي خلقتها الحرب العالمية الأولى في المجتمعات عموماً وفي الأرواح الثكلى التي خلفتها. فقد قوضت الحرب ما كان قد بقي من آثار للأفكار السابقة لها [3].

الإطار الزمني لعصر الحداثة

إذاً، انبثقت حركة الحداثة في زمن اضطرابات مجتمعية شديدة نتجت بشكل أساسي عن التحول الصناعي والتحديث والحرب العالمية الأولى (1914-1918) [1]. وأدت الحرب إلى تحطيم مبدأ التقدم لدى العديد من معاصريها، فكيف ذلك؟

نتج عن هذه تفكيك المُثل التي سادت في عصر التنوير، والتي كانت تتنبأ أن التكنولوجيا الحديثة ستحقق التقدم للبشرية بما تنطوي عليه من تطور يحسّن المجتمع والحياة. إلا أن الحرب العالمية الأولى حطمت هذا المبدئ لأنها استخدمت التكنولوجيا الحديثة في إحداث الدمار الشامل للبشرية. وكانت نتيجة الحرب إحباطاً وخيبة أمل على مستوى المجتمعات، مع تشاؤم عميق من الطبيعة البشرية. وهذا ما خلق لدى تيارات الفنون والأدب نزعة ثورية انفصلت عن المثاليات التي سبقتها، ونادت – كما ذُكر سابقاً – بالتأكيد على تمثيل التجربة الشخصية للواقع دوناً عن الواقعية الموضوعية. وتجسد خيبة الأمل هذه بقصيدة “الأرض اليباب – The Waste Land” للشاعر الأمريكي تي. إس. إليوت (T. S. Eliot) التي نشرها عام في 1922 [1].

أما من ناحية التطوير الصناعي، كان العالم الغربي يحصد ثمار الثورة الصناعية كالسيارات والطائرات والمذياع ويسخّرها في الحياة اليومية. ومثلت هذه الابتكارات تحديات لما هو ممكن في المجتمع، إذ شهد الناس آنذاك أن الآلة قادرة على تحويل المجتمع بكليّته. إلا أن هذا التحول الصناعي وما نتج عنه من توسع حضري أدى إلى خلق فوارق اقتصادية واجتماعية بين الناس، وتعزيز ما كان موجوداً منها بالأصل. وهذا ما ولّد شعوراً بالضياع والخيبة لدى كثيرين. وانعكس هذا الشعور في مجالات فنية مختلفة وأدى إلى ظهور جوانب جديدة في الدراسات الفكرية [1].

سمات الحداثة

كانت حركة الحداثة تنادي بإعادة النظر في جوانب الوجود كافة، بدءاً من الجوانب التجارية ووصولاً إلى الفلسفية. حيث كان الهدف اكتشاف العوامل التي كانت تعيق التقدم وتبديلها بأخرى جديدة وتقدمية تؤدي إلى النتيجة نفسها. وكان مناصرو هذه الحركة يؤمنون بأن رفضهم للتقاليد سيمكّنهم من اكتشاف طرق جديدة بالكامل لصناعة الفنون. وفي الوقت نفسه سعوا إلى إجبار الجمهور على التشكيك بمبادئهم ومفاهيمهم التي كانوا يؤمنون بها. وكان التأكيد حينها على التعبير والتجريب والراديكالية في الممارسات المطبقة في مختلف الميادين، بطريقة تباغت الجمهور وتشعرهم بالاغتراب عما يشاهدوه أو يسمعوه. ومن الأمثلة على هذا، الميول السريالية في الفن (surrealism)، واللالحنية في الموسيقى (atonality)، وتيار الوعي في الأدب (stream of consciousness) [2].

إذاً، تضم حركة الحداثة تحت مظلتها طيفاً واسعاً من المجالات الفكرية. كما تتمثل سماتها الكثيرة في العديد من الأعمال في تلك المجالات، ولو بنسب متفاوتة. مثلاً، نذكر من هذه السمات الإدراك الواعي للانفصال القاطع عن التقاليد، واتباع التجريب في أساليب جديدة، وإدخال محتويات كانت سابقاً مهمشة أو محرمة. ونتج عن هذا التبني لأفكار التغيير هوسٌ بكل ما هو جديد، وتأكيدٌ على أهمية التجربة الشخصية وأن الفهم الحقيقي للتجارب يتفوق على تصويرها بشكل موضوعي. ويضاف إلى تلك السمات البحث في أشكال جديدة للذاتية بهدف التعبير عنها وتمثيلها في الفنون.

تحدّت أفكار الحداثة ما سبقها من أساليب متبعة في البحث في العلم والدين والفلسفة. وكان كل هذا يتم بروح ناقدة تسعى لنسف الحضارة الغربية وإعادة خلقها. ولكن تنوع الأعمال التي تصنف أنها من عصر الحداثة وتشعب مجالاتها يجعل من الصعب ذكر مثال واحد كتجسيد لكافة مبادئها [4]. وبهذا كانت حركة الحداثة نقلة نوعية في التاريخ البشري، وحركت عجلة الفكر بطرق جديدة واتجاهات لم يسبق لها مثيل.

المصادر

  1. Modernism: Definition, Examples & Movement | StudySmarter
  2. Modernism – By Movement / School – The Basics of Philosophy (philosophybasics.com)
  3. Backgrounds to Modernism (utexas.edu)
  4. Modernism – Routledge Encyclopedia of Philosophy

ما هي الشخصية المنفتحة Extroverted وما صفات أصحابها؟

ما هي الشخصية المنفتحة Extroverted وما صفات أصحابها؟

تعرف جمعية علم النفس الأمريكية الشخصية المنفتحة أو المنطلقة (extroverted) على أنها النوع الذي تكون فيه اهتمامات الفرد وطاقاته متجهة نحو العالم الخارجي المتمثل بالأشخاص والأشياء، بدلاً عن العالم الداخلي المؤلف من التجارب الذاتية. وتتمثل الشخصية المنفتحة بسلسلة من المواقف والسلوكيات تعكس سمات صاحبها [1].

أنماط الشخصية عند كارل يونغ

في كتاب Psychological Types (1921)، تحدث عالم النفس السويسري كارل يونغ (Carl Jung) عن أنماط الشخصية المختلفة وما يميزها عن بعضها. وميز بين الشخصية المنفتحة (extroverted) والشخصية الانطوائية (introverted). كما ميز بين وظائف نفسية أربعة يستخدمها المرء في طريقة تعامله مع العالم، أو على الأقل يستخدم إحداها. وهذه الوظائف هي التفكير (thinking) والمشاعر (feeling) والحس (sensation) والحدس (intuition). وبالنتيجة، يؤدي التقاء الوظيفة/الوظائف التي يتبناها الفرد مع نمط شخصيته – إن كان منفتحاً أو انطوائياً – إلى ظهور أنواع شخصيات أكثر وفقاً لميول أصحابها وطريقة استخدامهم للوظائف [2].

بالنسبة للاختلاف بين الشخصيتين الانطوائية والمنفتحة، يعود هذا إلى اختلاف موقف الشخص من الحياة. فكما قلنا سابقاً، تتركز اهتمامات ذوي الشخصية المنفتحة إلى الخارج والأفراد والأشياء التي يضمها العالم المحيط، مما يعني اختلاف رد فعل الشخص المعني للحياة حسب نمط شخصيته. يعزو يونغ الفرق بين نمطي الشخصية إلى الاختلاف بتوجه الليبيدو لدى الشخص، أو طاقته النفسية [3].

يمكن الاطلاع على الفرق بين مفهوم الليبيدو عند سيغموند فرويد (Sigmund Freud) وعند يونغ من هنا. وباختصار، يعرّف يونغ الليبيدو بأنه الطاقة النفسية التي تحرك الأفراد من خلال مجالات متعددة، منها روحية وإبداعية وفكرية.

سمات الشخصية المنفتحة

يتمتع أًحاب الشخصية المنفتحة برغبتهم بإقامة العلاقات الاجتماعية والتفاعل مع الناس، لأن هذا ما يشحنهم بالطاقة. وعادة ما يكونون محبوبين لدى أقرانهم. يرغب هؤلاء بجذب الانتباه أينما ذهبوا، كما يكون لديهم العديد من الأصدقاء. وفي مجال العمل، عادة ما يستمتعون بالعمل الجماعي، ويفضلون التواصل بالكلام بدلاً من الكتابة [4].

وبالعودة إلى الوظائف النفسية التي شرحها يونغ، يتميز أصحاب الشخصية المنفتحة باستخدامهم لها كما يلي. يعتبر التفكير لديهم وسيلة لاتخاذ القرارات، وعلى عكس الانطوائيين، يميلون إلى الحقائق أكثر من الأفكار المجردة. وفي وظيفة المشاعر، يهتم الأشخاص المنفتحون بالعلاقات الشخصية والانسجام مع المحيط، مما يجعل من السهل عليهم أن يعيشوا حياة عائلية واجتماعية. بالنسبة لوظيفة الحس، فلا تبدو عميقة هنا، إذ يميل الأشخاص من هذا النوع إلى عيش التجارب التي يمرون بها باللحظة التي تأتي بها وكما هي، لا أكثر ولا أقل. وعادة ما يتسمون بالهدوء والقليل من العقلانية، ويسعون للوصول إلى مواقع تمكّنهم من الحصول على القوة والفاعلية. وأخيراً، في وظيفة الحدس، لا يحب هؤلاء الأشخاص الأشياء المألوفة والآمنة، ويتمتعون بقدرتهم على خلق الأمل في المواقف الميؤوس منها. لكن عندما يخطئ حدسهم، من المحتمل أن يقودوا الآخرين إلى مشاكل كبيرة [2].

ويبرع أصحاب الشخصية المنفتحة في مهن محددة كأن يصبحوا سياسيين ودبلوماسيين وعلماء ووزراء وقياديين. ونذكر من المنفتحين الذين تركوا أثرهم في العالم ليوناردو دافينشي وهو العالم والرسام الإيطالي من عصر النهضة، وبيل كلينتون الرئيس الأمريكي الأسبق، ومارغريت تاتشر رئيسة وزراء بريطانيا في الثمانينيات، وماري أنطوانيت ملكة فرنسا قبل الثورة الفرنسية، ومارتن لوثر كينغ المناضل الحقوقي [5، 6].

ماذا يعني أن تكون ذو شخصية منفتحة؟

تبين بعض الأبحاث ارتباط هذا النوع من الشخصية بنتائج إيجابية في الحياة. حيث يتصف أولئك الأشخاص بأنهم أكثر سعادة ونجاحاً، ويزيد احتمال تسلمهم مناصب قيادية أكثر من أقرانهم الانطوائيين. كما أن معاناتهم مع الصحة العقلية غالباً ما تكون أقل من غيرهم.

ولكن هذا لا يعني أن هذا النوع هو الأفضل! غالباً ما يركز الأفراد من كل نوع على سماتهم الإيجابية، ولكن هذا لا ينفي وجود سمات سلبية لدى كل من الشخصية المنفتحة والانطوائية. ويرى بعض الباحثين أن الأشخاص المتوازنين (ambivert) الذين يقعون في المنتصف تقريباً ويتمتعون بسمات من كلا الطرفين هم الأفضل بشكل عام [7].

هل من الممكن تغيير نوع الشخصية؟

قد يرغب العديد من الناس بتغيير شخصياتهم، إما عن طريق اكتساب المزيد من السمات الإيجابية أو التقليل من السلبية. وترى بعض الأبحاث أن هذا التغيير ليس مستحيلاً، لكنه يتطلب عملاً ومتابعة. في دراسة حديثة، استطاع المشاركون تحسين سماتهم المنفتحة واستقرارهم العاطفي ودرجة تقبلهم لدى الغير، لكن بعد بذل مجهود كبير لعدة أشهر [7].

المصادر

  1. APA
  2. Philosophy Lander Edu
  3. Psychological Types – Carl Jung
  4. Simply Psychology
  5. Time
  6. Ranker
  7. Psychology Today

ما هي الفلسفة اللا إنجابية ومبرراتها؟

الفلسفة اللا إنجابية ومبرراتها

يمكن تعريف الفلسفة اللا إنجابية على أنها الفكرة التي تنادي بوجوب عدم ولادة الكائنات البشرية والكائنات الحية. وهذا المذهب الفلسفي يقوم على أسسٍ ومبادئ وأفكار تبرر الدعوة إلى عدم إنجاب الأطفال وتصنيفه على أنه فعل لا أخلاقي. وتختلف عن عدم الإنجاب الطوعي لأنه عبارة نمط حياة يختاره المرء لأسباب تكون في غالب الأحيان شخصية، وليس دعوة عامة [1].

تعود أفكار رفض الولادة إلى زمن بعيد، ويمكن إيجاد بذورها عند الإغريق القدماء. كما أثرت تلك الأفكار على الأدب والفلسفة الأوروبية حتى يومنا هذا. سنستعرض في هذا المقال الأسباب المختلفة لدعاة اللا إنجابية ومبادئهم، كما سنطرح وجهات نظر جدلية لهذه الفلسفة [pdf].

مبررات اللا إنجابية

يمكن تصنيف مبررات مناهضي الإنجاب حسب موقفين اثنين، أولهما خيري للبشر والثاني كاره للبشر [2].

الموقف الخيري للبشر

يؤكد الموقف الخيري للبشر (Philanthropic) على محبة البشر والثقة بهم، ويركز على فكرة الأذى الواقع على أولئك الذين يأتون إلى الوجود. وينادي هؤلاء بأن الإنجاب يجب أن يكون غير مسموح في كل الحالات ومع كل الاعتبارات. يستند هذا الموقف على أكثر من حجة وجدلية طرحها عدد من الفلاسفة [2].

عدم التماثل

تحدث الفيلسوف ديفيد بيناتار (David Benatar) حول فكرة عدم التماثل (asymmetry) بين المتعة والألم، والتي شرحها في كتابه من الأفضل ألا تكون موجودًا: ضرر الوجود (Better Never to Have Been: The Harm of Coming into Existence) (2006). في هذا الكتاب، يؤكد بيناتار أن عملية الإنجاب دائماً ما تنطوي على ضرر أو أذى يلحق بمن يأتي إلى الوجود. ويوسّع نقاشه إلى أبعد من دائرة البشر، فيرى أن كافة المخلوقات التي تشعر أو تدرك بما حولها تعيش حالة من الأذى عندما تأتي إلى الوجود. وبما أن هذا الأذى أمر محتم، من الأفضل ألا يأتي أحد إلى هذا الوجود منعاً للضرر، خاصة وأن عدم إنجابهم لن يتسبب بضرر لأيّ كان. وقد دعم بيناتار طرحه هذا بحجة عدم التماثل بين فكرتي الوجود وعدم الوجود، وكل من الألم والمتعة المنطويان عليهما.

ويمكن تلخيص فكرته بأن غياب الألم هو أمر جيد، حتى وإن لم يشعر أحدٌ بهذا الأمر الجيد، ولكن غياب المتعة هو ليس أمراً سيئاً طالما أنها لا تُسلب من أحد. ويشرح بيناتار هذه الفكرة وفق الجدولين التاليين:

العلاقة الأولى تمثل فكرة الوجود وتبعاتها من ألم ومتعة:

سيناريو الإنجاب

العلاقة الثانية تمثل فكرة عدم الوجود وتبعاتها من ألم ومتعة:

سيناريو اللا إنجاب

وما يصل إليه بيناتار هنا أن فكرة حصول الإنسان على المتعة من حياته لا تعني أن الوجود هو أفضل من عدمه. وعند عدم قدوم الإنسان إلى الوجود، لن يكون هنالك من يفتقد هذه المتعة، وبالتالي فإن غيابها ليس أمراً سيئاً. كما يعتبر بيناتار أن من يرى نفسه سعيداً في الوجود ولا يعتبر نفسه ضحية أذى أو ضرر هو واهم. ويفسر تقييم الناس الإيجابي لحياتهم على أنه ناتج عن مظاهر نفسية معينة لا عن نوعية الحياة الحقيقية [2].

فرض الوجود على البشر

من الطروحات الأخرى التي قدمها اللا إنجابيون المؤمنون بخيرية البشر أنه يستحيل الحصول على موافقة أحد على خلقه. وبالتالي فإن الإنجاب ينطوي بالضرورة على خلق ضحايا واستغلال الأطفال الرضع للحصول في النهاية على أشخاص بالغين راشدين. أي أن الأذى الواقع على الفرد القادم إلى الوجود هو أذى كبير ولم تتم الموافقة عليه، وبالتالي من يود الإنجاب لن يكون قد حصل على موافقة مفترضة من صاحب الشأن في هذا الفعل. بالمقابل، عند عدم إحضار شخص إلى الوجود، لن يكون هناك من يتعرض للأذى؛ لن يكون هناك أي شيء [2].

والخلاصة أن الجدلية التي تحمل راية خير البشر تقوم على مبدأ أنه بسبب الأذى الواقع على الفرد عند إحضاره للوجود، يعتبر الأنجاب تصرفاً خاطئاً بكل الأحوال وفي كل الظروف.

الموقف الكاره للبشر

يتمثل الموقف الثاني المناصر للإنجابية بجدلية كارهة للبشر (Misanthropic). وعلى عكس الآراء الخيرة للبشر، تركز هذه الفكرة على الأذى الذي يسببه البشر عند خلقهم. وترى أنه من غير المسموح، في أغلب الحالات، إنجاب البشر. أو على الأقل يجب أن يكون هذا غير مسموح في ظل الوضع الحالي الذي يتم فيه الإنجاب. مجدداً، يظهر اسم الفيلسوف ديفيد بيناتار في هذا النقاش. ويطرح فكرته في إطار النقاش التالي:

الجدلية الكارهة للبشر

ويعدد هذا المبدأ أنواع الأذى الذي يتسبب به البشر بعد إنجابهم. فمنه ما يتمثل بأذى للبشر الآخرين، ويأتي بالمرتبة الأولى بقتل البشر لبعضهم. كما يمكن أن يأتي على هيئة اغتصاب واعتداء واستعباد وتعذيب. ولا يتوقف على هذا، بل يمتد ليشمل الكذب والسرقة والغش والخيانة، وغير ذلك. ومن النادر تحقيق العدالة حتى عند السعي وراءها، والأمثلة على هذا كثيرة [2].

يتسبب البشر أيضاً بأذى للحيوانات بأنواع وأشكال متعددة ولا يمكن حصرها. فمعظم البشر ليسوا بنباتيين (vegetarian) أو خضريين (vegan)، وهذا ما يجعلهم شركاء ضمنيين للعذاب الذي يقع على الحيوانات بسبب البشر. يضاف إلى هذا التجارب التي تقع على الحيوانات لأغراض العلم، والأذى المتعمد لمجرد التسلية، وغير ذلك. وبنفس السياق، لا يمكن تجاهل الأذى الذي يحدثه البشر للبيئة، والأمثلة عديدة من التلوث والمشاكل المناخية التي تتسبب بها المصانع والنشاطات البشرية. ومع التضخم السكاني على مستوى العالم، من المستحيل خفض حدة الأثر السلبي الناتج على البيئة.

وبهذا يتلخص نقاش كارهي البشر حول عدم الإنجاب بأهميته لتفادي الضرر الذي يسببه البشر عند وجودهم على عدة أصعدة.

وجهات نظر مختلفة عن الفلسفة اللا إنجابية

تختلف الآراء من هذه الفلسفة باختلاف العقائد والمبادئ. وقد تكون المجموعات المتدينة من أكثر الرافضين لها، وخاصة عندما يتعلق الأمر بالديانات التوحيدية. حيث يحمل المؤمنون بها فكرة أن الوجود بطبيعته هو أمر جيد. ولا يخلو رد اللا إنجابيين هنا من الإشارة إلى العذاب الذي تنطوي عليه حياة البشر بالمجمل. كما يطرحون التساؤل التالي: إذا كان الوجود أمراً جيداً بحد ذاته، لماذا لا يسعى من يؤمن بهذه الفكرة إلى إنجاب أكبر عدد من الأطفال إذاً؟ [2]

بالطبع لا تخلو الفلسفة من الجدل والنقاش، وأحياناً تنبع التساؤلات من قلب الفكرة الأساسية. فهنا مثلاً، إذا تبنى البشر فلسفة اللا إنجابية، ستكون النتيجة انقراض الجنس البشري طوعاً. وهذا يعني أن البشر الموجودون حالياً – أي من يفترض أنهم سيطبقون عدم الإنجاب – سيكونون الجيل الأخير. سيتناقص عدد من تبقى موجوداً بالتدريج، وتزداد الصعوبة على القلة التي ستبقى حتى النهاية. وتتمثل المشكلة هنا في النظر إلى الأذى الذي سيقع على آخر أفراد الجنس البشري – في حال تطبيق اللا إنجابية – وهل هذا الأذى هو فعلاً أقل من الأذى الناتج عن الوجود؟ بالنسبة للفيلسوف بيناتار ومن يتفق معه، يبدو أنهم يؤمنون بأن عذاب الوجود يفوق بشدة العذاب الذي سيتحمله آخر البشر في مسيرة اللا إنجاب. وعليه، يتمسكون بتوصياتهم بالانقراض الطوعي للجنس البشري [2].

المصادر

What is anti-natalism

Anit-Natalism – Internet Encyclopedia of Philosophy

عدم الإنجاب الطوعي واللا إنجابية والفرق بينهما

عدم الإنجاب الطوعي واللا إنجابية والفرق بينهما

يعد عدم الإنجاب الطوعي (voluntary childlessness) من المواضيع المثيرة للجدل في علم النفس وعلم الاجتماع والدراسات المتعلقة بالأسرة. وتكمن حساسية هذا الموضوع من النظرة السائدة في كثير من المجتمعات حول فكرة إنجاب الأطفال، حيث يعتبر هذا الأمر تتويجاً للعلاقة بين الرجل والمرأة. كما يمثل رمزاً للحب غير المشروط والتضحية اللذين يقدمهما الوالدان لأبنائهما كما حصلا عليهما من والديهما سابقاً.

أهمية الإنجاب عبر الزمن والوصمة المرتبطة بالعقم

ترجع المواقف السلبية تجاه عدم إنجاب الأطفال إلى حضارات إنسانية قديمة كالإغريق والرومان وأهل ما بين النهرين وغيرهم. وعادة ما كان ينظر إلى المرأة العاقر على أنها مسحورة أو ممسوسة من الشياطين، أو حلت عليها لعنة من نوع ما حرمتها من نعمة الأطفال. بالمقابل، لا يعتبر الرجل الطرف الملام في حالة العقم، وكان من الشائع لدى الكثير من الشعوب أن تقدم المرأة العاقر لزوجها إحدى الجواري أو الخادمات كي ينجب منها أطفالاً [1].

ويعد وجود آلهة للخصوبة لدى الكثير من الشعوب – إن لم يكن لديها جميعها – دليلاً قاطعاً على مدى اهتمامهم بهذه الفكرة، وحرصهم على تقديم الصلوات والقرابين للآلهة كي تذهب عنهم “لعنة” العقم. مثلاً، يذكر التاريخ أنه عند شعب ليتوانيا القديم، كانت المرأة العاقر تقدم لإلهة الخصوبة دجاجة بيضاء كذبيحة في سبيل أن تحمل وتلد. وحتى بعد انتشار الديانة المسيحية، كانت النسوة يلجأن إلى تكريس القداديس والصلوات كي ينعم عليهن الله بنعمة الإنجاب [1].

كما أن بعض القوانين القديمة تدخلت في حل مشكلة العقم، ونجد هذا لدى الباليين والآشوريين والمصريين مثلاً. فقد نصت بعض من قوانين هذه الحضارات على حق الرجل في طلاق زوجته إذا كانت عاقراً. كما ورد في شريعة حمورابي (1750 ق.م.) أنه على المرأة العاقر أن تقدم لزوجها إحدى خادماتها كي ينجب منها أطفالاً. وعندما يتم ذلك، تقوم الزوجة على رعاية الأطفال وتربيتهم كأنها أمهم، في حين تُعتق الخادمة مقابل هذه الخدمة التي قدمتها لسيدها [1].

حتى في العصر الحديث، لا يزال عدم الإنجاب من المسائل الإشكالية التي قد تؤرق الزوجين وتهز صورتهما الاجتماعية. ونرى بدائل عديدة عن الإنجاب الطبيعي قد يلجأ لها الزوجان اللذان منعتهما مشاكل صحية من هذا. فهناك من يقوم بالتبني، أو استخدام رحم بديل، وهناك من يلجأ إلى التلقيح الاصطناعي الذي يكون إما من الزوجين نفسهما أو من متبرعين [1].

تطور مفهوم عدم الإنجاب والانتقال إلى حالة عدم الإنجاب الطوعي

قد يكون عدم الإنجاب حالة مرضية ناتجة عن مشاكل صحية لدى المرأة أو الرجل. وكما ذكرنا في الفقرة السابقة، كانت تقدم القرابين والأضاحي للتخلص من هذا المرض أو اللعنة. في هذه الحالة يكون عدم الإنجاب إجبارياً ومفروضاً نتيجة ظروف معينة. ولكن ماذا إن لم يكن ناتجاً عن العقم؟ ماذا إن لم يكن هنالك عقم أصلاً؟

في الواقع، توجد حالة سائدة بين بعض الأشخاص يكون فيها عدم الإنجاب طوعياً أو اختيارياً. ومع أن دراسة هذه الفئة الديموغرافية لا تزال محدودة بعض الشيء، بدأ الاهتمام بها يتزايد، خصوصاً مع اتساع المجال لظهورها والتعريف بها، بل وتقديم الدعم لها، عبر وسائل التواصل الاجتماعي وعن طريق الإنترنت عموماً [2].

 وقد وجدت إحصائيات في عدد من الدول المتقدمة أن نسبة حالة عدم الإنجاب هي في تزايد، ولكن يصعب التمييز في هذه الفئة من السكان بين الحالات الطوعية وتلك الإجبارية. بالمجمل، ورد في دراسة نشرت في مجلة (دراسات في مجال الأمومة – Studies in the Maternal) أن نسبة هذه الفئة من السكان تتراوح بين 15 و25 بالمئة في عدد من الدول المتقدمة. ومع تزايد الميل في هذا التوجه، بات الاهتمام الأكاديمي يتسع لتحليل البيانات المتعلقة بعدم الإنجاب الطوعي من جوانب اجتماعية ونفسية وطبية وشخصية وتاريخية، وحتى نسوية. ويتركز البحث هنا في نسبة السكان عديمي الأطفال، والأسباب الكامنة وراء هذه الحالة، إضافة إلى النتائج المترتبة عليها على الأصعدة الاجتماعية والنفسية [2].

الأسباب الكامنة وراء عدم الإنجاب الطوعي

حاولت بعض الدراسات الاستقصائية البحث في دوافع البالغين الذين لا يودون الإنجاب. وقد تعددت النتائج التي انتهوا لها، ويمكن تلخيصها كما يلي.

تمثل الرغبة بالحرية من تحمل مسؤولية الأطفال أحد أكثر الأسباب شيوعاً ويشترك فيها كل من الرجال والنساء. فهناك من يولي كثيراً من الاهتمام للسفر والتنقل دون روابط أو قيود، ويرى في وجود الأطفال حائلاً دون التمتع بهذه الحرية [2، 3].

ويفسر البعض عدم رغبتهم بأن يصبحوا آباءً بأنهم لا يرتاحون في التعامل مع الأطفال. ومع أن أصحاب هذا التفكير من الرجال هم أكثر من النساء، صرحت بعض النساء بشكل واضح أنهن لا يحببن الأطفال. من جهة أخرى، تميل النسبة لصالح النساء عند الحديث عن الأسباب المتعلقة بالتقدم المهني والتطور الشخصي. إذ ترى العديد من الشابات أن إنجاب الأطفال قد يكون سبباً في توقف حياتهن المهنية وعائقاً أمام إنجازاتهن. لذا يفضلن عدم الإنجاب والمضي قدماً في مسيرة التطوير الذاتي [2، 3].

ولدى التفكير بحياة الشريكين معاً، يرى بعض الأزواج أن عدم إنجاب الأطفال يبشر بعلاقة أكثر سعادة وراحة. كما يمكن لهذا أن يؤمن لهما راحة مادية ويوفر الكثير من المصاريف، الأمر الذي ينعكس إيجاباً على حياتهما المشتركة [2، 3].

ويعزو البعض هذا الخيار إلى مشاكل نفسية كانوا قد عانوا منها في صغرهم. ويتمثل ذلك في تجارب سلبية مع الأهل، مما أثر على صاحب العلاقة وجعله غير قادر على تربية الأطفال بالطريقة الصحيحة التي لم يكن قد حظي بها أصلاً. أو قد يكون نتيجة تجارب اجتماعية غير ناجحة، ولّدت لدى الأشخاص البالغين شكوكاً حول مقدرتهم على أن يصبحوا آباءً [2، 3].

ثم توجد أسبابٌ أكبر من الأفراد المعنيين قد تلعب دوراً في قرارهم بعدم الإنجاب. حيث وجدت بعض الاستقصاءات أن هنالك من الأزواج من يبدي قلقاً حول موضوع التضخم السكاني. وهذا يدفعهم إلى عدم المشاركة في تفاقم هذه المشكلة. أو قد يكون السبب هو القلق من الظروف السيئة على مستوى العالم عموماً، والخوف من توريط الأطفال في الحياة على كوكب يعج بالمشاكل [2، 3].

الفرق بين عدم الإنجاب الطوعي واللا إنجابية

إذاً، يمثل عدم الإنجاب الطوعي نمط حياة يتبناه المرء بكامل إرادته، بناءً على أسباب متعددة.

ولكن يوجد توجه فلسفي يشرح سبب هذا النمط، أو على وجه الدقة، ينادي به ويدعمه. يسمى هذا المنحى “اللا إنجابية – anti-natalism”، وهو موقف فلسفي يصنف عملية الإنجاب على أنها خاطئة أخلاقياً، وعليه لا ينبغي للبشر أن يتكاثروا. كما يعمم بعض أنصار اللا إنجابية نظرتهم السلبية للإنجاب حتى على الأجناس غير البشرية [4].

تتعدد الأسباب وراء هذا الموقف السلبي من التكاثر، لكن تتفق جميعها على نظرتها السوداوية حيال استمرار الجنس البشري على الأرض. فمثلاً، يرى معظم أنصار اللا إنجابية أن انقراض البشر هو أمر محتوم، وأنه من الأفضل للبشرية أن تنقرض بأسرع وقت ممكن. كما ينطلق هؤلاء من فكرة أن الموت هو أمر محزن ولا مفر منه، فالمرء يحزن لدى فقد محبيه. لكن الطريقة الأمثل لوقف موت البشر هي ببساطة عدم إنجابهم. إضافة لهذا، يرى اللا إنجابيون أن الحياة البشرية هي حياة معاناة وتعاسة، ومن أضمن الطرق للقضاء على العذاب في الحياة هي ألّا نعمل على استمرارها بمزيد من الأفراد البشريين [4].

كما توجد بعض التساؤلات حول أخلاقية فعل الإنجاب فيما يتعلق بموافقة الطرفين المعنيين؛ أي الأهل والأطفال. فعندما يختار البالغون إنجاب الأطفال، يقومون بالحكم على مصير شخص آخر لا يد له في هذا القرار؛ أي الطفل. ويطرح الكثير من الأطفال، أو حتى البالغين، هذا السؤال على والديهم: “لماذا أنجبتموني؟ أنا لم أطلب أن أولد!” وهذا أمر صحيح فعلاً، ويتمسك به مناصرو اللا إنجابية كذريعة لانتقاد عملية الإنجاب بالمبدأ [4].

ردود الفعل تجاه عدم الإنجاب الطوعي

الردود الإيجابية

وضحت إحدى الدراسات ردود أفعال مختلفة تجاه موقف بعض البالغين بعدم إنجاب الأطفال. وقد تباين ذلك بين مواقف داعمة للفكرة وأخرى رافضة لها. حيث كان أغلب الداعمين من فئة الشباب الذين يظهرون فهماً لهذا الموقف الذي قد يختاره أقرانهم. بالمقابل، أظهر بعض الكبار في السن، وخاصة من أفراد عائلة الأشخاص المعنيين، مشاعر حزن أو قلق حيال هذا الخيار. فهو لا يتناسب مع العقلية والمبادئ التي تربوا عليها [2، 3].

أما عن رأي الشريك، فقد أظهرت المقابلات التي أجرتها هذه الدراسة أن عدم الرغبة بالإنجاب كانت في بعض الحالات سبباً بارتباط الشريكين. وفي حالات أخرى، كانت هذه الرغبة شرطاً للارتباط ولم تكن لتنجح العلاقة لولا تحققه [2، 3].

كما وجد باحثون في دراسة أخرى ارتفاع نسبة الرضا في العلاقة التي لا إنجاب فيها، وانخفاض نسبة الطلاق بين الأزواج ممن لم ينجبوا مقابل الأزواج الذين لديهم أطفال دون سن الـ 16 عاماً. ولدى المقارنة بين أزواج كبار في السن، تبين أن التوتر الذي يعانيه الآباء هو أكبر من الموجود لدى غير الآباء. أي يتميز نمط الحياة الذي يكون فيه عدم الإنجاب اختيارياً بانعكاسات إيجابية على الحياة المشتركة للطرفين [3].

الردود السلبية

بالمقابل، لا تخلو النتائج وردود الفعل من مظاهر سلبية. فقد صرح بعض الأزواج أنه رغم تلقيهم للدعم من عائلاتهم وأصدقائهم، واجهوا تعليقات وانتقادات من أشخاص غرباء كلياً أو تربطهم علاقة سطحية. ويميل توجيه الانتقاد أو التساؤلات عن عدم الإنجاب إلى النساء أكثر من الرجال. بل على العكس، صرح بعض الرجال الذين لم ينجبوا أنهم يلقون مديحاً من أقرانهم. حيث ينظر إليهم أنهم يعيشون حياة تتسم بالحرية وعدم الالتزام. وهذا ما يثبت أن النظرة القديمة التي تربط كينونة المرأة بالإنجاب لا تزال موجودة ولو على بشكل أقل انتشاراً. وترى النساء في هذا ظلماً وانتهاكاً لخصوصيتهن [، 3].

أما على الصعيد الصحي، فقد وجدت بعض الدراسات ارتفاع نسبة الوفيات بسرطان الثدي لدى النساء اللواتي لم يسبق لهن الإنجاب. ومع الأسف، تؤكد أبحاث طبية ارتفاع احتمال الإصابة بسرطان الثدي بالتزامن حالة عدم الإنجاب أو التأخر بذلك لما بعد سن الثلاثين. وتستخدم هذه الحجة من قبل المجتمع في إقناع النساء بالإنجاب، إضافة إلى تسليط الضوء على أهمية وجود الأبناء لتقديم المساعدة لوالديهم في شيخوختهم. وهذا يؤكد وجود بقايا العقليات القديمة التي تصم عدم الإنجاب على أنه فعل سلبي، خاصة عندما يتعلق بالمرأة [3].

اقرأ أيضاً: هل سيتمكن الأطفال من النمو في الرحم الاصطناعي؟

المصادر

  1. Childlessness: Concept Analysis
  2. Research Gate
  3. Voluntary Childlessness
  4. Anti-natalism

فوائد القرفة وتأثيراتها المتعددة

فوائد القرفة وتأثيراتها المتعددة

تعتبر القرفة (cinnamon) من أشهر التوابل المستخدمة في مختلف المطابخ حول العالم. وتتعدد فوائد القرفة على اختلاف أنواعها، كما أنها تأتي من اللحاء الداخلي لأشجار دائمة الخضرة تدعى أشجار القرفة، وهي من الفصيلة الغارية. أما عن أكثرها شيوعاً واستخداماً في الوصفات والمنتجات الغذائية، فيمكن الحديث عن نوعين أساسيين، وهما القرفة السيلانية (Ceylon cinnamon) وقرفة كاسيا (Cassia cinnamon) [1].

أنواع القرفة

تستخرج قرفة كاسيا، التي تعرف أيضاً بالقرفة الصينية (Chinese cinnamon)، من لحاء شجرة قرفة كاسيا التي يعود أصلها إلى جنوب الصين. ولهذا النوع أقسام فرعية تنمو في شرق آسيا وجنوبها. يميل لون القرفة الصينية إلى البني المحمر الغامق، في حين تكون أعوادها أثخن وبنيتها أقسى من شقيقتها السيلانية [2].

تعتبر كاسيا من النوع الأقل جودة، لهذا فإن سعرها أرخص، ويتنشر استهلاكها تجارياً في كافة أنحاء العالم. حيث أن أغلب القرفة التي نجدها في المحلات هي من نوع كاسيا. وقد استُخدمت منذ زمن طويل في الصين، بلدها الأصلي، في الطبخ والطب التقليدي [2].

أما قرفة سيلان، فهي النوع الأغلى ثمناً، وتعرف أيضاً باسم القرفة الحقيقية (true cinnamon). يعود منشؤها إلى دولة سريلانكا (المسماة سيلان سابقاً)، كما تنمو في الأجزاء الجنوبية في الهند. ويأتي هذا النوع من اللحاء الداخلي لشجرة القرفة الحقيقية. يطغى على أعوادها اللون البني، وتتميز بجودتها التي تستمدها من تعدد الطبقات الرقيقة فيها. ونظراً لارتفاع سعرها، لا تنتشر بكثرة في المحلات التجارية. لكن نكهتها أكثر حلاوة واعتدالاً من قرفة كاسيا، فتلك الأخيرة تتسم بقوة طعمها وحدته [2].

كيفية استهلاك القرفة

في كلنا الحالتين، يتم نزع لحاء الشجرة الداخلي وتجفيفه حتى يتجعد، فيأخذ شكل أعواد ملتفة على بعضها (quills). وعند استهلاك القرفة، يمكن طحن هذه الأعواد واستخدام مسحوقها كباقي التوابل، وخاصة مع الحلويات. كما يشيع أيضاً شرب منقوعها بعد ترك الأعواد لفترة في الماء وثم غليها [2].

ومن المفيد أيضاً استخدام زيت القرفة، حيث تأتي بعض الخصائص المميزة من الزيت الأساسي، والمركبات التي يضمها وخاصة مركب السينامالديهيد (cinnamaldehyde). ويتعبر هذا المركب مصدر نكهة القرفة ورائحتها العطرة، بالإضافة إلى كونه مسؤولاً عن العديد من فوائدها الصحية [2].

فوائد القرفة

إذاً، ينطوي مشروب القرفة أو مسحوقها أو حتى منقوعها على فوائد عديدة لجسم الإنسان. ولا تقتصر فوائد القرفة على خسارة الوزن كما هو معروف عنها، بل تساعد أيضاً في دعم عدد من وظائف الجسم وتعزيز عمل بعض الأعضاء الداخلية.

فوائد القرفة لمرض السكري

تساعد القرفة على ضبط مستوى السكر في الدم. وقد خلصت مراجعة لـ 16 دراسة أجريت على علاج مرض السكري إلى نتائج مبشرة لاستخدام مسحوق القرفة السيلانية كمتمم علاجي. حيث بينت التجارب المخبرية على الحيوانات أنه يمكن لهذا النوع أن يخفض مستوى السكر المرتفع في الدم ويزيد من الحساسية للأنسولين [3]. ومع أن الأبحاث في هذا النوع على اقتصرت أبحاث مخبرية على الحيوانات، لكن بالنسبة لقرفة كاسيا، فقد أجريت العديد من الدراسات على أشخاص يعانون من مرض السكري من النمط الثاني. ووجدت الدراسة انخفاض مستويات الغلوكوز في البلازما مع جرعة من قرفة كاسيا بين 1-6 جرام يومياً ولعدة أشهر [4].

ويعود هذا لأن القرفة تفيد في محاكاة آثار هرمون الأنسولين في الجسم، مما يساعد في نقل الغلوكوز إلى الخلايا. كما يمكن أن تزيد من الحساسية للأنسولين وبالتالي رفع فعاليته في امتصاص السكر من قبل الخلايا. وهذا يساعد مرضى السكري كما وجدت دراسة أجريت على 7 رجال، كانت نتيجتها أن ارتفعت الحساسية للأنسولين مباشرة بعد استهلاك القرفة، ودام هذا الأثر لمدة 12 ساعة على الأقل [5]. وفي دراسة أخرى خضع لها 8 رجال، ثبتت فعالية استخدام متممات القرفة في زيادة الحساسية للأنسولين بعد أسبوعين من المواظبة عليها. وحالما تم قطع هذه المتممات، انعكست النتائج الإيجابية [6].

العناصر الغذائية

كما تكمن أهمية القرفة في احتوائها على عناصر غذائية كالكالسيوم والمغنيزيوم والبوتاسيوم. حيث يساهم البوتاسيوم في التقليل من أثر الصوديوم على ضغط الدم وينظم ضربات القلب، كما يعزز عمل الخلايا العصبية. أما المنغنيزيوم والكالسيوم، فيعملان معاً للحفاظ على صحة ضربات القلب، ويعتبران معدنان أساسيان لدعم صحة الهيكل العظمي، ومنع ترقق العظام [7].

بالإضافة إلى هذه العناصر، تحتوي ملعقة واحدة من القرفة المطحونة على 1.4 جرام من الألياف [8]، ومع وجود الكالسيوم، يؤدي اجتماعهما إلى القضاء على الأملاح الصفراوية. وبالنتيجة يقوم الجسم بتكسير الكوليسترول لإنتاج أملاح صفراوية جديدة مما يساهم في خفض مستوى الكوليسترول وعلاج مشاكل ارتفاعه [9]. ويضاف إلى ما سبق وجود عنصر الحديد الضروري لخلايا الدم الحمراء ودعم المناعة في الجسم والمساهمة في عملية الاستقلاب [10].

آثار القرفة الإيجابية

أجريت اختبارات على المواد الكيميائية النباتية الموجودة في القرفة، وتبين أنها تحتوي على خصائص مضادة للالتهابات ومضادات أكسدة. ولهذه الأخيرة دور مهم في تحييد الشوارد الحرة التي تسبب الإجهاد التأكسدي عند زيادتها. أي أن تناول القرفة يعمل على تخفيف الإجهاد على الخلايا عندما يكون توازن الشوارد الحرة مختلاً في الجسم [10].

وثبت أيضاً أن القرفة تتمتع بوجود مضادات حيوية، وهي من آثار مركب السينامالديهيد. فبالإضافة إلى أنه يمنحها الرائحة والنكهة المميزة، فهو مصدر جيد للمضادات التي تعمل على محاربة نمو بعض من أنواع البكتيريا والفيروسات والفطريات [7]. وهذا ما يساعد في علاج العديد من الأمراض كحالات البرد والسعال، والتخفيف من إضرابات الجهاز التنفسي كاحتقان الأنف. على سبيل المثال، يساهم خليط من العسل والقرفة في علاج الرشح والسعال المصاحب له بسرعة، وتخفيف ألم التهاب الحلق. ويضاف إلى ذلك بعض الآثار الإيجابية الأخرى المتمثلة بتهدئة أعراض التهابات المفاصل وتصلب العضلات [11].

وكما هو معروف لدى معظم محبي القرفة، فإن شربها يمنح الجسم شعوراً بالدفء ويساهم في التنحيف. إذ تساعد على إنقاص الوزن المرافق لمتلازمة التمثيل الغذائي. ويعود الفضل في هذا أيضاً إلى مركب السينامالديهيد الذي يحفز عملية الاستقلاب، مما يؤدي إلى حرق السعرات الحرارية. وقد وجدت دراسة أجراها باحثون في الصين وأمريكا أن هذا المركب ينشط عملية التوليد الحراري من خلال زيادة معدل الاستقلاب. بالنتيجة، يتم حرق الدهون في الجسم وفقدان الوزن الزائد، مما يفسر فعالية استهلاك القرفة للقضاء على السمنة [12].

كما تشير دراسة أجريت على 76 شابة أن تناول القرفة يخفف من الأعراض المرافقة لعسر الطمث. حيث كان من ضمن الملاحظات بعد إجراء التجربة انخفاض حدة ألم تقلصات الدورة الشهرية وتخفيف الشعور بالغثيان [13].

أضرار القرفة

مع كل الفوائد التي تتمتع بها القرفة بأشكالها المطحونة والمنقوعة والمغلية، لا تخلو هذه المادة الطبيعية من آثار جانبية سلبية. حيث تعد القرفة، وخاصة نوع كاسيا، مصدراً غنياً لمركب الكومارين (coumarin). ومع أنه لا يؤثر بشكل خطير على الجسم عند تناوله بكميات بسيطة، تقريباً بمعدل 0.1 ميلي جرام مقابل كل كيلو غرام من وزن الجسم. إلا أن ملعقة واحدة من القرفة تكفي لتجاوز هذا المعدل، إذ تحتوي هذه الكمية تقريباً على 7 إلى 18 ميلي جرام من مادة الكومارين. ويتمثل خطر الكومارين بأنه قد يؤدي إلى الإصابة ببعض الأورام السرطانية في الكبد والرئتين والكليتين [14].

وحتى مركب السينامالديهيد ذو التأثيرات الجيدة لا يخلو من بعض الجوانب سلبية. قد تكون أخف خطورة من آثار الكومارين، ولكنها تنطوي على بعض الضرر. ومنها الإصابة بتقرحات في الفم، إذ من الممكن أن يحفز رد فعل تحسسي عند استهلاكه بإفراط. وتجب هنا استشارة الطبيب خاصة عند حدوث انتفاخ في الفم وانتشار بقع بيضاء [14].

بالنتيجة، للقرفة فوائد صحية متنوعة تتراوح من إنقاص الوزن إلى تحسين عملية الاستقلاب وهضم الطعام. كما أنها مصدر جيد لمضادات الالتهاب والأكسدة والمضادات الحيوية. ولكن يجب الحرص عند استخدامها وعدم الإفراط في تناولها لاحتوائها على مركب الكومارين، وتفادياً لما له من آثار سلبية.

اقرأ أيضاً: فوائد اليانسون، فوائد النعناع

المصادر

  1. GI Society
  2. Ceylon vs Cassia
  3. Research 1
  4. Research 2
  5. Research 3
  6. Research 4
  7. WebMed
  8. WebMed
  9. Gayot
  10. Simply Supplements
  11. Healthkart
  12. Just vitamins
  13. Research 5
  14. Side effects

نظرية وظائف اللغة

هذه المقالة هي الجزء 7 من 7 في سلسلة مقدمة في نظريات اكتساب اللغة

نظرية وظائف اللغة

ترى نظرية وظائف اللغة أن للغة وظائف محددة تقود الأطفال إلى تعلمها للقيام بهذه الوظائف. فالطفل يتعلم لغته الأم في الوقت نفسه الذي يتعلم فيه عن العالم من حوله. ولهذا، تكون اللغة جزءاً من القواعد الثقافية التي تساعد الأطفال على أن يكونوا جزءاً من مجتمعهم، ولا يقتصر هدفها على التواصل فحسب [1].

وقد شرح هذه الوظائف اللغوي البريطاني “مايكل هاليداي – Michael Halliday” في عام 1975. وركز على فكرة أن الأطفال يبدؤون بالتواصل واكتساب اللغة قبل أن يبدؤوا بالكلام. وبناء على ملاحظاته لابنه وكيفية تعلمه للغة الأم، نشر أوراقاً بحثية شرح فيها ارتباط اللغة بالثقافة ككل، ووسع مفهوم وظائفها ليشمل مجالات أبعد من التواصل، وأطلق عليها اسم الوظائف النمائية (developmental functions) [1].

أساس نظرية وظائف اللغة:

يمكن شرح فكرة هاليداي بأن تطور اللغة لدى الأطفال هو عبارة عن إتقانهم للوظائف اللغوية وتعلمهم كيفية إضفاء المعنى. أي أن الطفل يتعلم استخدامات اللغة وإمكان المعاني المرتبطة بها (تفعيل المعاني). وبناء عليه، يرى هاليداي أن الكلمات والتراكيب والأصوات التي تتألف منها اللغة هي عبارة عن تطبيق للمعاني المحتملة المرتبطة بها، وأن تعلم الطفل للغته الأم ينطوي على التعرف على أنماط سلوك وطرق تفكير جديدة [2].

فتطور اللغة لدى الطفل هي عملية تنشئة اجتماعية، لأنها القناة الرئيسية التي ينقل البالغون من خلالها إلى الطفل كل أنماط الحياة، ويتعلم عبرها أن يتصرف كأي فرد في المجتمع الذي يعيش فيه ويتبنى ثقافته وأفكاره ومعتقداته وقيمه. تتم هذه العملية بشكل غير مباشر من خلال تجارب يعيشها الطفل في أحداث متنوعة، ولو كانت صغيرة. ويلعب البالغون دوراً في توجيه السلوك ومراقبته خلال هذه التجارب، مما يساعد الطفل على بناء علاقاته [2].

يتعمد هاليداي استخدام مصطلح “تعلم” بدلاً من “اكتساب“، لأنه يرى أن اللغة تتركب لدى الطفل عن طريق التفاعل. وعلى عكس تفسير النظرية الفطرية، لا تعتبر اللغة هنا بأنها موجودة في الأصل وبانتظار أن يتم اكتسابها. بل إن ما يكتسبه الطفل هو إمكان المعنى (meaning potential) الذي تشكله مكونات اللغة [3].

مراحل تعلم اللغة وفق نظرية وظائف اللغة

يتحدث هاليداي عن ثلاث مراحل يمر بها الطفل في رحلته لتعلم اللغة. تنطوي المرحلة الأولى منها على نظام اللغة الأول الذي يتكون لدى الطفل، فيما تمثل المرحلة الثانية العبور من نظام الطفل إلى لغة البالغين. وأخيراً، تأتي المرحلة الثالثة التي تكون لغة البالغين قد تبلورت بها [3].

المرحلة الأولى

في المرحلة الأولى، يكون الهدف من تعلم اللغة الاستفادة من وظائفها النمائية أو الدقيقة (micro functions) لتحقيق أغراض معينة للطفل. وتتعقد هذه الوظائف السبعة مع تقدم الطفل بالعمر وازدياد كل من وعيه واحتياجاته، كما أنها تحدد الخيارات المتاحة للتعلم، والتراكيب التي تساعد على إعمال هذه الخيارات وتفعيلها [4]. أما عن الوظائف السبعة، فهي كالتالي:

النفعية (instrumental): تدل هذه الوظيفة على استخدام اللغة لتلبية حاجات محددة كالطعام أو الشراب أو الراحة. وعادة ما تضم أسماءً وكلمات مجردة.

التنظيمية (regulatory): تتمثل هذه الوظيفة باستخدام اللغة للتأثير على سلوك الآخرين، إما عن طريق الإقناع أو الطلب أو حتى الأوامر.

التفاعلية (interactional): وتستخدم لتطوير العلاقات مع الآخرين وتسهيل عملية التواصل. وقد تحمل عبارات مثل “شكراً”.

الشخصية (personal): يصبح الهدف عند إدراك هذه الوظيفة استخدام اللغة للتعبير عن الآراء الشخصية والمواقف والمشاعر الخاصة بالمتكلم.

التمثيلية / الإعلامية (representational / informative): أما هنا، فيتطور اعتماد الطفل على اللغة لتصبح وسيلة لتبادل المعلومات مع الآخرين. إذ يصبح الطفل قادراً على طرح أسئلة تؤدي إجاباتها إلى تفاعلات لغوية.

الاستكشافية (heuristic): يتمثل الهدف من اللغة هنا بالاستكشاف والتعلم عن طريق طرح أسئلة وإعطاء تعليقات. وتختلف عن الوظيفة الإعلامية من ناحية أنه لا يتم تبادل معلومات هنا، بل يكون الطفل مستكشفاً ومتلقياً لما هو جديد.

التخيلية (imaginative): تتجسد هذه الوظيفة في الغالب أثناء اللعب والأنشطة الترفيهية التي يقوم بها الطفل. حيث يستخدم اللغة للحديث عن قصص ينسجها ومواضيع يتخيلها [4].

مع نهاية المرحلة الأولى، يكون الأطفال قادرين على استخدام اللغة وفق وظائفها السبعة المختلفة. لكن هذا لا يعني أن مفرداتهم تكون قد اكتملت أو أن تراكيبهم تنوعت. بل يتألف نظامهم اللغوي من مجموعة أصوات ونبرات، لكنها لا ترقى لمستوى المفردات المتمايزة أو الصيغ القواعدية. بالنتيجة، في المرحلة الأولى لتعلمهم اللغة، يدرك الأطفال جيداً ما يمكن أن يفعلوه باللغة، لكنهم لا يستطيعون استخدامها كالكبار بعد [4].

المرحلة الثانية

في المرحلة الثانية، تزداد مفردات الطفل بسرعة وتتسع قدرته على الانخراط بحوارات أطول. وتصبح ألفاظه متعددة المهام، كما أن النظام اللغوي يتطور من كونه ذو وظائف دقيقة إلى وظائف كلية (macro functions). حيث يستطيع الطفل، وهو الآن بعمر عامين تقريباً، أن يستعمل اللغة بأكثر من وظيفة من تلك التي تعلمها في المرحلة الأولى، وفي وقت واحد [4].

المرحلة الثالثة

في المرحلة الثالثة، أي بالوصول إلى لغة البالغين، يتعلم الطفل أن اللغة تستخدم بنطاق أوسع، ويتمكن عندها من ربط مجموعة كلمات وألفاظ مع بعضها. وهنا يتجاوز هدف اللغة وظائفها الأساسية، فتصبح الوظائف ذات أبعاد أكبر (meta functions). أي يمكن للطفل أن يبدأ بتفسير العالم من حوله واختباره بشكل أكبر. كما يصبح قادراً على تكوين علاقات متشعبة من خلال المحادثات واستخدام اللغة للإبقاء على التفاعل بين المتحدث والمستمع. كما يمكن له أن يفهم نصوصاً أو إصدارات لغوية معينة ضمن سياقاتها [4].

إذاً، تحدث هاليداي عن وظائف أساسية لتعلم اللغة هي التي تشجع الأطفال على تعلمها. وتمر هذه العملية بعدة مراحل حتى تتطور إلى لغة البالغين.

المصادر

  1. Halliday – Study Smart
  2. Child Language Development
  3. Misinterpreted
  4. My Tutor

تاج محل وأبرز فصول حكايته

تاج محل وأبرز فصول حكايته

بناء مهيب يكسوه الرخام الأبيض الذي شبهه شعراء المغول بضوء الفجر وبالغيوم، وتحيط به حدائق تمتد على مساحة 170,000 متر مربع. لكنه ليس قلعة للاستجمام أو قصراً للاسترخاء، بل هو ضريح إحدى ملكات المغول التي عشقها زوجها ولم يطق صبراً على رحيلها. فكرّمها بهذا الصرح الذي خلد به ذكراها، حتى بعد مضي أكثر من ثلاثة قرون من الزمن. إنه تاج محل الذي يمثل أحد عجائب العالم السبع الجديدة، وأبرز المعالم السياحية في الهند، ودرة معمارية جمعت أنماط تصميم مختلفة [1].

موقع تاج محل

يقع تاج محل في ولاية أتر برديش (Uttar Pradesh) في شمال الهند، وتحديداً في مدينة أغرا (Agra) على الضفة اليمنى لنهر يامونا (Yamuna River). ولم يكن اختيار هذا الموقع بالصدفة، فقد فكر شاه جهان – الإمبراطور المغولي الذي أمر ببنائه – ملياً حتى وقع اختياره على هذا الموقع الذي يمكن له رؤيته من قصره في قلعة أغرا [2].

إمبراطور المغول والسبب وراء بناء تاج محل

كان شهاب الدين محمد الإمبراطور الخامس للمغول في الهند، وقد لقبه والده باسم “شاه جهان” ويعني “ملك الدنيا” [3]. وشاه جهان هو صاحب فكرة بناء هذا الضريح الكبير تخليداً لذكرى زوجته ممتاز محل. فعلى الرغم من تعدد زوجاته، كان ملك المغول مولعاً بممتاز – زوجته الثالثة – وقد حطم موتها فؤاده. فاستحال شعر رأسه ولحيته أبيض كالثلج في غضون بضعة أشهر [4].

ومن الجدير بالذكر أن ممتاز محال هي ابنة أخ نور جهان، وهي الزوجة المفضلة لوالد شاه جهان. اسمها أرجمند بانو بيجم، ووالدها آصف خان، أحد نبلاء بلاد فارس. لقبها زوجها شاه جهان بممتاز محل، ويعني هذا الاسم “حلية القصر المحببة”. كان زواجهما سعيداً وكانت تساعد السلطان في أمور الإدارة [5]. لكنها فارقت الحياة بعد ولادة ابنهما الثالث عشر، وكانت قد أخذت من زوجها وعداً بأن يشيد ضريحاً لها ويزوره في ذكرى وفاتها [4].

وبالفعل، قرر شاه جهان في عام 1631، بعد أن خرج من حالة حزنه وكآبته على فقدها، أن يشيد هذا البناء. حيث يعكس جماله وتناظره ودقة صنعته الجمال الأخاذ لصاحبة الذكرى والحب الكبير الذي كان يحمله زوجها في قلبه [4].

تشييد الضريح

يمثل تاج محل نموذجاً عن العمارة المغولية بسماته الهندية والإسلامية والفارسية. ويعتمد هذا النمط المعماري على رمزية محتويات البناء ومكوناته. وقد كان الهدف من تصميم تاج محل أن يمثل بيتاً لممتاز على الأرض يعكس بيتها في الجنة. فينطبع كامل المجمع بأجزائه المختلفة بهذه الفكرة، بالإضافة إلى وجود مفاهيم ثانوية أخرى تبرز من خلال التصميم. كما تتفاعل كافة أجزائه من أبنية وزخارف ومواد بناء وتخطيط هندسي. ويمتد هذا التفاعل من الأجزاء المحسوسة ليصل إلى الجوانب المجردة كالدينية والشعرية والفكرية [6].

تمتد الرمزية إلى مواد البناء المستخدمة وألوانها. فقد كان الهدف من إدخال الرخام الأبيض في البناء هو ارتباط الحجارة البيضاء ببيوت طبقة الكهنة لدى الهنود. وبالتوازي، كانت الحجارة الحمراء مرتبطة بطبقة المحاربين الهندية، ولهذا السبب استخدمت الحجارة الرملية الحمراء. ومن خلال استعمالهم لهذا الترميز في مواد البناء، كان المغول يتماهون مع الطبقتين الاجتماعيتين الحاكمتين عند الهنود، وبهذا رسخوا أنفسهم كحكام للهند وفق التقاليد الهندية [6].

استمر العمل على بناء الضريح لأكثر من عشرين عاماً، وكان المهندس المعماري الرئيسي المشرف على العمل الأستاذ أحمد لاهوري. وهو مهندس من أصول فارسية. كما عمل أكثر من 20 ألف عامل من الهند وإيران وآسيا الوسطى، من بنائين ونحاتين ودهانين وخطاطين وحرفيين [7، 8].

أقسام تاج محل

ينقسم كامل مجمع تاج محل إلى أكثر من مبنى وجزء، وتحيط به حديقة واسعة وتزينها نوافير وبحرات مائية.

الضريح الأساسي

يقع الضريح الرخامي الأبيض على قاعدة مربعة، ويتألف من بناء متناظر تعلوه قبة مزينة. أما مدخله فقد صمم على الطراز الفارسي الذي يتميز ببوابته المقنطرة [9]. تشكل القبة المركزية فوق القبر أكثر الأجزاء وضوحاً. حيث يضفي عليها الرخام الأبيض طابعاً ملفتاً للنظر على الفور، بالإضافة إلى ارتفاعها على القاعدة الأسطوانية، الأمر الذي يجعلها أكثر بروزاً. وتزين قمة القبة بزخرفة على شكل زهرة اللوتس مما يزيد من ارتفاعها. كما تحيط بها أربع قبب أصغر، تساعد على إبرازها وتوجيه تركيز الناظر إليها. وتتشارك معها بالزخرفة المذهبة التي تشبه زهرة اللوتس [10].

ينعكس التناظر المعماري في البناء بوجود أربع مآذن محيطة بقاعدة الهيكل الرئيسي. ويتعزز التناظر في أبراج المآذن بوجود شرفتين تحيطان بكل برج، وتقسمانه إلى ثلاثة أجزاء متساوية بالطول [10].

ضريح تاج محل والمآذن المحيطة به

الأبنية المحيطة

شيد إلى جانبي الضريح مبنيان متطابقان، وهما المسجد من جهة الغرب وغرفة الاستراحة أو غرفة الضيوف من جهة الشرق. ينقسم حرم المسجد إلى ثلاث مساحات على نمط الطراز السائد في المساجد المغولية في ذلك الوقت. وترتفع فوق كل مساحة منها قبة مسقوفة. أما غرفة الاستراحة فتشكل نسخة مطابقة للمسجد، ويخلق تطابقهما توازناً في التناظر الثنائي للبناء ككل. وكان الهدف الرئيسي لبنائها إيواء الزوار الذين كانوا يتوافدون في كل ذكرى سنوية لوفاة الأميرة ممتاز محل إحياءً للمناسبة [11].

يوجد أمام كل من المسجد وغرفة الضيوف منصة كبيرة ترتفع عن سطح أرض الحديقة المحيطة، مما يجعل المنطقة التي تصل بين المنصة والضريح أشبه بمساحة مستطيلة غائرة. وتوجد أمام المسجد بحيرة ماء تخدم أغراض الشعائر الدينية للمصلين، وتحديداً الوضوء قبل الصلاة. أما البحيرة أمام غرفة الضيوف، فهي صورة مقابلة لتلك الموجودة في المسجد للحفاظ على التناظر، وليس لها غرض محدد [11].

مسجد تاج محل

الحدائق

اقتبس المغول مفهوم حدائق الجنة من الفرس، وقد كان هذا أول تعبير معماري للإمبراطورية الجديدة في الهند. ويتجسد هذا الفن في حدائق تاج محل [12].

تقسم الحديقة المربعة بممرين رئيسيين إلى أربعة أقسام متساوية. وبدوره، يعبر من كل قسم ممرات فرعية تقسمه أيضاً إلى أرباع أصغر، مما يشكل بالمجمل ست عشر قسماً فرعياً. ويحيط الحديقة بأكملها ممر للمشي ويتفرع عنه ممرات تتقاطع مع تلك الموجودة في الداخل. وتمثل هذه الأنماط الهندسية سمات الزخرفة المعمارية المغولية في بداياتها. ولكن تم استبدالها بزخارف نباتية كتلك التي تزين الضريح. في حين اقتصرت الأشكال الهندسية على تزيين الأرضيات [12].

عند تقاطع الممرات في المركز، ترتفع منصة من الرخام الأبيض وتضم حوضاً مائياً للزينة. يوجد في هذا الحوض خمس نوافير؛ واحدة في كل زاوية وواحدة في المنتصف. ويعد انعكاس الضريح على صفحة الماء من أكثر الصور المميزة لتاج محل، فهي تعمق فكرة التناظر المعماري. وقد تم استجرار الماء إلى الحديقة من نهر يامونا المجاور عبر قنوات مائية ومنها توزعت في أنابيب إلى كامل الحديقة [12].

حديقة تاج محل

أهمية تاج محل

أدرج تاج محل على قائمة التراث العالمي في عام 1983 لأنه يمثل ” أفضل جوهرة في الفن الإسلامي في الهند إحدى أبرز تُحف التراث البشري التي هي محطّ إعجاب العالم بأسره” حسب موقع منظمة اليونسكو. علاوة على ذلك، أعلن في عام 2007 عن فوزه ضمن مبادرة عجائب العالم السبعة الجديدة [1، 7].

وتعد زيارة هذا المعلم من أساسيات السياحة في الهند. إذ يستقطب بين 7 و8 مليون سائح كل عام. كما يتوجب على السياح أن يترجلوا في مواقف السيارات، حيث يمكنهم عبور البوابة إما مشياً أو باستخدام الحافلة الكهربائية [13].

اقرأ أيضاً: برج إيفل وكل ما تحتاج معرفته عنه

المصادر

  1. New 7 Wonders of the World
  2. Taj Mahal
  3. Shah Jahan
  4. Story
  5. Mumtaz Mahal
  6. Architecture
  7. UNESCO
  8. History
  9. Interior
  10. Exterior
  11. Outlying Buildings
  12. Gardens
  13. Tourism

النظرية التفاعلية في اكتساب اللغة

هذه المقالة هي الجزء 6 من 7 في سلسلة مقدمة في نظريات اكتساب اللغة

النظرية التفاعلية في اكتساب اللغة

ترى النظرية التفاعلية (Interactionist Theory) أن عملية اكتساب اللغة تحدث في سياق تفاعلي. حيث تؤكد على أهمية المدخلات اللغوية (language inputs) التي يتلقاها الأطفال من مقدمي الرعاية حولهم. ومع أن التفاعلية تؤمن بالاستعداد الجيني لدى البشر لتعلم اللغة – وهذه من أبرز نقاط النظرية الفطرية – لكنها تذهب أيضاً إلى التأكيد على أهمية البيئة الاجتماعية في هذه العملية – وهذا ما يذكر بالنظرية السلوكية. أي أن النظرية التفاعلية تمثل حلاً وسطاً للنقاش حول ما إذا كانت اللغة هي أمراً طبيعياً أم مكتسباً. ولكن ما يميزها هو تأكيدها على أهمية التفاعل مع الأشخاص الآخرين كعامل أساسي في اكتساب اللغة وتطويرها [1].

أساس النظرية التفاعلية

يعود أصل النظرية التفاعلية إلى عالم النفس السوفييتي فيغوتسكي (Vygotsky) الذي أرسى أصولها عندما طور النظرية الاجتماعية الثقافية في النمو. يرى فيغوتسكي أن تطور الإنسان هو عملية تتم بواسطة المجتمع، ويكتسب من خلالها الأطفال قيمهم ومعتقداتهم الثقافية عبر الحوارات الجماعية مع أفراد ذوي معرفة أوسع منهم [2].

فعلى خلاف بياجيه الذي أكد على أن نمو الطفل يسبق مرحلة التعلم، يناقش فيغوتسكي أن التعلم هو أحد الجوانب الضرورية والعالمية لعملية النمو التي يطور الطفل عبرها وظائف محددة ثقافياً ونفسياً. وبعبارة أخرى، فإن التعلم يأتي قبل النمو، ويوجه ميول الطفل حسب الثقافة السائدة [2].

التفاعلية واكتساب اللغة

كان عالم النفس الأمريكي “برونر – Bruner” أول من اقترح أن الأطفال بحاجة إلى تفاعل مباشر مع الكبار ليحققوا الطلاقة اللغوية. حيث يعتبر أن سلوك البالغين اللغوي عندما يتحدثون مع الأطفال، أو كما يعرف باسم الخطاب الموجه للأطفال (child-directed speech – CDS)، هو نمط معدل للغة يدعم عملية اكتسابها. وأطلق على هذا الدعم اسم السقالات (scaffolding). كما تحدث برونر عن نظام دعم اكتساب اللغة (Language Acquisition Support System – LASS) كرد على جهاز اكتساب اللغة (LAD) الذي تحدث عنه تشومسكي في النظرية الفطرية [3].

إذاً توجد ثلاث نقاط ركز عليها برونر في تطوير نظريته، وهي عوامل أساسية في اكتساب الطفل للغة وفق النظرية التفاعلية.

الخطاب الموجه للأطفال

يشير هذا المصطلح إلى الطريقة التي يتحدث بها مقدمو الرعاية والبالغون مع الأطفال. ومن المعتقد أنها تعزز التواصل مع الطفل عن طريق مساعدته بالتعرف على الأصوات والمقاطع والكلمات والجمل. كما أن طبيعة هذا الكلام البطيئة، والنبرة التي يستخدمها الكبار وتميل إلى التغم، تساهم في جذب انتباه الطفل [1].

يتسم هذا الحديث بكونه لغة بسيطة ومباشرة ليتم فهمه بسهولة، ويتحقق هذا بتضييق نطاق المفردات وتبسيط الصيغ القواعدية المستخدمة. يميل الكبار أيضاً إلى تكرار الأسئلة والعبارات التي يوجهونها إلى الطفل، إضافة إلى الوقوف لفترات أطول وأكثر بدلاً من الحديث بسرعة [1].

السقالات

استخدم برونر مصطلح السقالات لشرح دور مقدمي الرعاية في تنمية اللغة لدى الأطفال. واعتمد في هذا على أفكار فيغوتسكي التي تؤكد على حاجة الأطفال لوجود شخص آخر ذو معرفة أكبر كي يتسنى لهم تطوير معارفهم ومهاراتهم [1].

يمكن تلخيص نظرية برونر عن السقالات بأن المتعلمين يقومون بفعل التعلم لا عن طريق المذاكرة والحفظ. بل يعتمدون على التجربة والخطأ. حيث يشرح برونر أن الأطفال يحتاجون إلى المساعدة من المعلمين والبالغين في مسيرتهم لتعلم مفاهيم جديدة. وتكون المساعدة على شكل دعم فعال. في البداية، يعتمد الأطفال على هذا الدعم المقدم من الكبار. لكن مع الوقت يصبحون أكثر استقلالاً في تفكيرهم ويكتسبون مهارات ومعارف جديدة. وبالتالي، ينخفض مستوى اعتمادهم على الغير. وهذا يشبه السقالات التي تدعم عملية البناء، والتي تتم إزالتها عندما يكتمل العمل [3].

وعليه، تعرف الطريقة التي يدعم الأهل بها أطفالهم باستخدام الحديث الخاص بالسقالات لأنها تدعم عملية اكتساب اللغة وتحقق التفاعل الضروري لإتمامها. ومع الوقت، يتناقص استخدام الكبار للخطاب الموجه للأطفال مع تطور اللغة المكتسبة لديهم [1].

نظام دعم اكتساب اللغة

يقوم الكبار بدفع تطور لغة الأطفال عبر آلية السقالات الداعمة، وتتم هذه العملية عبر نظام أسماه برونر نظام دعم اكتساب اللغة. في الواقع، يوافق برونر مع طرح تشومسكي لفكرة جهاز اكتساب اللغة (LAD)، ولكنه يؤكد في الوقت ذاته أن للسياق الاجتماعي، وسلوك الأهل على وجه الخصوص، أثر كبير على تطور اللغة. ويطلق على هذا الدور للبيئة المحيطة اسم نظام دعم اكتساب اللغة، وهو ما يحتاجه جهاز اكتساب اللغة لدعم عملية تطوير اللغة لدى الأطفال [4].

ويتمثل الدعم الذي يزوده هذا النظام بتعديل اللغة كي تناسب الطفل، إضافة إلى أنشطة التعلم التعاوني. ومن هذه الأنشطة القراءة المشتركة التي يستخدم فيها الكبار الصور ويربطونها مع مفردات ذات صلة ليتعلمها الطفل. كما يعمل الأهل على تشجيع الطفل على الكلام وتقديم الملاحظات من خلال التفاعل. وخلال حديثهم، يعطي الأهل أمثلة ليقلدها الطفل، ويوظفون الألعاب التفاعلية في ممارسة اللغة [1].

توفر هذه التفاعلات الاجتماعية بيئة سقالات تساعد الأطفال في صياغة كلماتهم الأولى، ثم تدفع تطور اللغة لديهم أكثر مع الوقت [4].

مواطن ضعف النظرية التفاعلية

وجد بعض الباحثين أن البيانات التي تدعم النظرية التفاعلية هي بيانات منحازة، بمعنى أنها تمثل فئة معينة من الأفراد، وتحديداً العائلات الغربية ذات البشرة البيضاء ومن الطبقة المتوسطة. وهذا يعكس عدم إمكانية تطبيق نظرية التفاعل بين أطفال والآباء على مجتمعات وثقافات أخرى يسلك فيها الأهل نهجاً مختلفاً في الحديث مع أبنائهم. ولكن على الرغم من ذلك، يكتسب أطفال تلك المجتمعات اللغة بطلاقة [1].

أي أن استخدام الحديث المباشر مع الأطفال هو أمر مهم، ولكن نظراً لأنه ليس سائداً في كل المجتمعات، لا يتعبر أساسياً في اكتساب اللغة. حيث يمر الأطفال الذين لا يسمعون هذا النوع من الكلام بمراحل اكتساب اللغة نفسها ويصلون إلى الطلاقة [5].

المصادر

  1. Interactionist Theory – Study Smart
  2. Simply Psychology
  3. Scaffolding of Learning
  4. LASS
  5. Theories of language acquisition

البيانو ومسيرة تطوره

البيانو ومسيرة تطوره

في أوائل القرن الثامن عشر (حوالي عام 1700) طور الإيطالي بارتولوميو كريستوفوري (Bartolomeo Cristofori) ما يعرف الآن باسم البيانو. ولكن لا يمكن القول إن هذه الآلة لم تكن موجودة قبل ذلك، بل إن لها أسلافاً من آلات موسيقية بأنواع وآليات عمل مختلفة. فإذا ما أردنا أن نتعرف على البيانو، لا بدّ من العودة في التاريخ إلى ما قبل القرن الثامن عشر، والبحث في أنواع الآلات المختلفة والتطورات التي طرأت عليها، حتى وصلنا إلى هذه النتيجة الرقيقة العذبة المسماة بيانو [1].

الآلات الموسيقية التي انحدر منها البيانو

تصنف الآلات الموسيقية في ثلاث مجموعات حسب آلية إصدارها للصوت. فهناك الآلات الوترية (string instruments)، والآلات الهوائية أو النفخية (wind instrumetns)، والآلات الإيقاعية (percussion instruments)، وتوجد أيضاً آلات المفاتيح (keyboard instruments) [1].

يمكن تعقب سلف البيانو إلى أكثر من آلة موسيقية، مثل الكلافيكورد (clavichord)، والهاربسكورد أو البيان القيثاري (harpsichord)، والدولسيمر أو السانتور (dulcimer) [1].

وعند العودة أكثر في التاريخ، يمكن الوصول إلى أن البيانو انحدر من آلة المونوكورد (monochord)، حيث يصدر الصوت الموسيقي نتيجة اهتزاز الأوتار داخله، ولهذا يعتبر أنه آلة وترية [1].

لكن يندرج البيانو كذلك ضمن مجموعة الآلات الإيقاعية، لأن حركة الأوتار واهتزازها ناتجة عن ضربها بمطارق داخلية. وبهذا تكون آلية عمله شبيهة بالدولسيمر، الذي يعتمد كذلك على طرق الأوتار بمطرقة صغيرة. فالدولسيمر يمثل أحد أسلاف البيانو المباشرين [1].

وكتصنيف آخر، يقع البيانو في عائلة آلات المفاتيح، وتعود هذه العائلة إلى آلة الأورغن التي تعمل عن طريق إرسال دفعات هوائية عبر أنابيب لإصدار الأصوات. وقد طور الحرفيون المختصون آلة الأورغن وأضافوا لها بعض التحسينات حتى وصلوا إلى آلة الكلافيكورد في القرن الرابع عشر. وكانت هذه إحدى الخطوات في الطريق إلى آلة البيانو لاحقاً [1].

ومع الزمن، في القرن السادس عشر، اختُرعت آلة الهاربسكورد في إيطاليا، وانتشرت لاحقاً إلى فرنسا وألمانيا وبريطانيا. ويقوم مبدأ هذه الآلة على الضغط على مفاتيح للتحكم بأوتاد خشبية تنقر على أوتار متصلة بها. وتشبه آلية العمل بين الأوتار واللوحة تلك الموجودة في البيانو والتي تطورت عنها لاحقاً [1].

الصوت الرقيق

إذاً، مر تطور البيانو بمراحل عديدة حتى وصل إلى شكله الحالي، لذلك لا يمكن القول تماماً أن الإيطالي بارتولوميو كريستوفوري هو من “اخترع” هذه الآلة. ولكنه عمل على تعديل أسلافها، وتحديداً الهاربسكورد. فقد كان غير راضٍ عن عدم قدرة العازف على التحكم بقوة الصوت الصادر عن الهاربسكورد، وينسب له تعديل آلية العمل واستخدام المطارق في بداية القرن الثامن عشر. وقد أُطلق على هذه الآلة الجديدة بدايةً اسم “الهاربسكورد الذي يعزف أصواتاً رقيقة (piano) وقوية (forte)”، أي أن كلمة “بيانو” تعني “الرقيق” بالإيطالية! [1].

آلية العمل

عندما يضغط العازف على المفتاح، تتحرك مطرقة داخلية وتضرب على الأوتار من الأسفل. ولكن الصوت الصادر عن هذا هو صوت رقيق [2].

تدعم الأوتار من إحدى الجهات جسور صغيرة تكون معلقة بأجهزة الأداء، وتنتقل الاهتزازات من الأوتار إلى الأجهزة عبر هذه الجسور. وبالنتيجة يخرج صوت قوي من اهتزاز الهواء بفعل أجهزة الأداء [2].

تصميم البيانو

لم يتغير شكل البيانو وهيكله كثيراً عما سبقه من الآلات الموسيقية التي تطور عنها، حيث بقيت لوحة المفاتيح والصندوق والمطارق والأوتار والدواسات من الأجزاء الرئيسية [3].

الأجزاء الأساسية

أولاً لوحة المفاتيح (keyboard)، وهي الجزء الظاهر والذي تتم فيه عملية التفاعل بين الآلة والعازف. تتألف لوحة المفاتيح القياسية من 88 مفتاحاً بالمجمل. ومن الواضح للناظر أن هذه المفاتيح تنقسم إلى مجموعتين. المجموعة الأولى هي المفاتيح البيضاء أو الطبيعية، وعددها 52. سميت بالطبيعية لأن العلامات الموسيقية (notes) التي تعطيها تكون طبيعية، أي ليست حادة أو مسطحة. أما المفاتيح السوداء، وهي 36 مفتاحاً، فتكون أقصر من أخواتها البيضاء، وتعطي علامات حادة أو مسطحة [3].

القسم الثاني هو الصندوق والغطاء (case and lid). وهو الصندوق الذي يحتوي الآلة بأكملها. على الرغم من سهولة تمييز شكله على الفور، قد يختلف الصندوق بعض الشيء بين نوع وآخر. كما يمكن أن يختلف حجمه وتأثير رفع الغطاء على الصوت الموسيقي [3].

ثالثاً، تأتي المطارق والأوتار (hammers and strings) وهي الأجزاء الجوهرية التي تقوم بالعمل. تقع المطارق والأوتار داخل الصندوق وتحت الغطاء، وتكون الأوتار متصلة بالمطارق. عند النقر على المفاتيح، يصبح المفتاح النقطة الأساسية التي تحرك المطارق وتؤثر على الأوتار. أما الأوتار، فهي مربوطة ومضبوطة لتعطي صوتاً أو علامة موسيقية محددة [3].

المثبط (damper) هو المكون الرابع في هذه الآلة المنسجمة، ويهدف إلى الحفاظ على التناغم في الصوت ومنع اختلاط الأصوات الصادرة عن مختلف العلامات الموسيقية. حيث تتمثل وظيفته بالتقاط الوتر وإيقافه عن الاهتزاز بعد أداء وظيفته، وبهذا يبقى كل صوت محافظاً على استقلاله عن بقية الأصوات. يتموضع المثبط فوق الأوتار، ويقوم بمهمته بعد أن يرفع العازف إصبعه عن المفتاح، إلا إذا كان العازف يستخدم الدواسات الموجودة في قاعدة البيانو [3].

إذاً وصلنا إلى الدواسات (pedals)، وهي الجزء الخامس. عادة ما يكون هنالك دواستان أو ثلاث حسب النوع، وهي مثبتة في القاعدة خارج الصندوق، في المكان أسفل قدم العازف. وينطوي دورها على إنشاء علامة موسيقية معينة، أو الحفاظ على علامة موجودة في اللحن، أو إيقاف الاهتزاز لإنهاء علامة صادرة عن أحد المفاتيح [3].

أنواع البيانو

تقسم آلات البيانو إلى ثلاث مجموعات رئيسية، تتفرع بدورها إلى مجموعات أصغر. وهذه المجموعات الرئيسية هي القائم أو العمودي (upright piano)، والكبير (grand piano)، والرقمي (digital piano) [4].

البيانو القائم

سمي بهذا الاسم لأن الأوتار تكون متوضعة بشكل عمودي مع الأرض. وبناء على هذا، يجب أن تضرب المطارق بشكل أفقي حتى تصيب الأوتار العمودية [4].

تختلف آلية العمل في المرحلة بين الضغط على الأزرار وضرب المطارق للأوتار عن تلك الموجودة في البيانو الكبير، لذا قد يبدو العزف مختلفاً بعض الشيء. كما أن الأوتار أقصر وأجهزة الأداء أصغر [4].

البيانو القائم

البيانو الكبير

يعد هذا النوع أكبر الأنواع وأغلاها. وتكون أجهزة الأداء فيه أفقية مما يفتح مجالاً لاستخدام أوتار أطول. وبما أن توضع الأوتار أفقي، يختلف عمله عن النوع القائم ذو الأوتار العمودية [4].

يمكن لهذا النوع أن يعزف بشكل أسرع ويوفر قدرة أكبر على التحكم لأن المطارق تود إلى وضعها بفعل الجاذبية [4].

البيانو الكبير

البيانو الرقمي

تختلف آلية عمل البيانو الرقمي عن تلك الموجودة في القائم أو الكبير مع أن الصوت الصادر عنه يبدو مشابهاً. فبدلاً من تقوم المطارق بالضرب على الأوتار، يؤدي ضغط المفاتيح إلى تشغيل حساس، وهذا ما ينتج عنه إطلاق صوت بيانو مسجل من مجموعة مكبرات صوت [4].

ويضم هذا النوع مجموعات متعددة من التسجيلات أو النماذج لكل علامة موسيقية، كما يمكن أن يتغير مستوى الصوت حسب قوة الضغط التي يطبقها العازف [4].

البيانو الرقمي

أشهر العازفين

عند ذكر آلة البيانو، سرعان ما يتبادر إلى الذهن أسماء لامعة كالألماني بيتهوفن والنمساوي موزارت من القرن الثامن عشر، والبولندي شوبان من القرن التاسع عشر، وغيرهم من الأسماء الكثيرة التي يصعب حصرها. لنستمع إلى هذه المقطوعة التي تصنف من أشهر ما أبدعه بيتهوفن “من أجل إليزا” (Für Elise).

اقرأ أيضاً: تاريخ الموسيقى

المصادر

  1. Yamaha – The Origins of the Piano
  2. Yamaha – The Sound-Producing Mechanism
  3. Anatomy of a Piano
  4. Merriam Music

فوائد اليانسون واستخداماته المتعددة

فوائد اليانسون واستخداماته المتعددة

تتعدد فوائد اليانسون ويشيع استخدامه في كثيرٍ من الوصفات العلاجية والغذائية. فهو من الأعشاب الطبيعية التي ينصح بها الطب الشعبي. إذ يمكن استخدام ثمار اليانسون (بذوره) وزيته، وفي بعض الأحيان جذوره وأوراقه [1].

واليانسون نباتٌ عطري طبي من الفصيلة الخيمية، ويُزرع في منطقة البحر الأبيض المتوسط. يكثر استعمال اليانسون في الطبخ لإضفاء النكهة إلى بعض أنواع الأطعمة والمشروبات والحلويات. كما يستخدم في صناعة معطرات الفم. وتضاف رائحته لتعطير مستحضرات النظافة والتجميل كالصابون والكريمات والعطورات [2].

فوائد اليانسون

اليانسون والجهاز الهضمي

والبداية مع الجهاز الهضمي، إذ تتعدد فوائد اليانسون المتعلقة بصحة الجهاز الهضمي وعملية الاستقلاب.

على الرغم من أن استهلاك اليانسون يكون بكميات قليلة نسبياً، إلا أنه يحتوي على كمية جيدة من العناصر الغذائية المهمة. إذ إن بذور اليانسون غنية بالحديد الذي يعد ذا أهمية بالغة في إنتاج خلايا الدم. كما أنه يحتوي على كمية قليلة من المنغنيز، وهو من المعادن الأساسية لجسم الإنسان، حيث يعمل كمضاد أكسدة ويساعد في عملية التمثيل الغذائي (الاستقلاب) والنمو [3].

كما تفيد بعض الأبحاث أن بذور اليانسون تساعد في الوقاية من قرحة المعدة وتخفف الأعراض المرتبطة بها. وعلى الرغم من أن الأبحاث في هذا السياق لازالت محدودة، لكن توجد بعض التجارب التي أجريت على الحيوانات وأظهرت أن اليانسون يساعد على التخفيف من إفراز الأحماض المعدية، الأمر الذي يقي من القرحة [3].

ومن الاستعمالات الأخرى لليانسون فيما يتعلق بصحة الجهاز الهضمي هو استخدامه في التخفيف من الإمساك. فوفق دراسة نُشرت في مجلة BMC للطب البديل على 20 شخصاً يعانون من الإمساك المزمن، كان لمزيج الأعشاب الحاوي على اليانسون أثر أكثر فعالية من العلاج الوهمي (placebo) في معالجة الإمساك نتيجة آثاراها الملينة [2].

وفي هذا السياق، يساعد يشرب اليانسون في حالات عسر الهضم. كما أن له تأثيراً إيجابياً على متلازمة القولون العصبي التي تصيب الأمعاء الغليظة وتسبب آلاماً في المعدة. ويفيد كذلك في التخفيف من الغازات المعوية، إضافة إلى تعزيز الشهية [4] [1].

فوائد اليانسون للجلد

أظهرت بعض التجارب أن اليانسون يساعد على منع الالتهابات وإيقاف نمو الفطريات والبكتريا. ويعود سبب هذا لاحتواء بذور اليانسون على مركبات فيها مضادات ميكروبات فعالة مثل مركب الأنيثول [4].

كما أظهر زيت اليانسون نتائج إيجابية في محاربة سلالاتٍ فطريةٍ معينة تسبب أمراضاً جلدية. ويذهب البعض إلى استعمال اليانسون على الجلد مباشرةً لمعالجة القمل والجرب والصدفية. ومن الخصائص الأخرى لزيت اليانسون قدرته على محاربة حب الشباب عن طريقة تنظيفه للبشرة من المسام، وبالتالي يمنع حب الشباب من الظهور أصلاً [5].

فوائد اليانسون للجهاز التنفسي

يساعد شرب كوب شاي يحتوي على اليانسون ومواد أخرى على التقليل من السعال واضطرابات النوم لدى الأشخاص الذين يعانون من الربو التحسسي. وفي دراسة أجراها مجموعة خبراء من جامعتي “كاميرينو” و”لا سابينزا – روما” الإيطاليتين، أظهر زيت اليانسون فعالية في مساعدته على إفراز مادة مخاطية في الخلايا الظهارية التي تبطن الشعب الهوائية والقصبة. ويعود هذا لاحتوائه على نسبة عالية من مركب الأنيثول الذي يعمل كمنظف للحنجرة والقصبة وطارد للبلغم [6].

اليانسون والصحة النفسية

كما وجدت بعض الأبحاث التي أجريت على الفئران أن لبذور اليانسون خواصاً مضادة للاكتئاب، وكان لها نفس الأثر الموجود في الوصفات الطبية لعلاج الاكتئاب. وهذا ما تم اختباره على 120 شخصاً، حيث أعطي هؤلاء كبسولة تحتوي على 22 ملليغرام من زيت اليانسون ثلاث مرات يومياً. وكانت النتيجة تخفيف أعراض الاكتئاب الخفيف والمتوسط بشكل كبير مقارنة مع مجموعة ضابطة أخرى [3].

كما أظهرت دراسة أخرى أجريت على 107 نساءٍ أن تناول 3 غرامات من مسحوق بذور اليانسون ثلاث مرات يومياً يساعد على التخفيف من أعراض اكتئاب ما بعد الولادة [3].

فوائد اليانسون المرتبطة بالنساء

في إيران، أجرى قسم البحث في النباتات الطبية في شركة “طبيب دارو” للصناعات الدوائية دراسة على تأثير اليانسون على الاضطرابات التي تصيب النساء عموماً. وقد وجودوا أن زيت اليانسون يضم مركبي الأنيثول بنسبة عالية والإستراجول بتركيز منخفض، وهذا ما يجعله بديلاً مناسباً لعلاج بعض الأمراض، وتحديداً الاضطرابات النسائية [7].

فتركيبة اليانسون تضفي عليه خواصاً مسكنة للألم ومضادة للالتهاب. وهذا ما يساعد على التخفيف من آلام الدورة الشهرية. وفق التجربة، أعطيت مجموعة من الفتيات كبسولة تحتوي على مزيج من اليانسون والزعفران والكرفس، وكانت نسبة اليانسون هي الأكبر (75%). وقد حسنت هذه الكبسولة من أعراض عسر الطمث لما تحويه من خواص مضادة للتشنج [7].

إضافة لهذا، يستعمل اليانسون لمعالجة أعراض انقطاع الطمث لدى السيدات، إذ تساعد خواصه الأستروجينية على التخفيف من الهبات الساخنة المصاحبة لسن اليأس. وتساهم هذه الخواص الأستروجينية أيضاً في إدرار حليب الثدي، مما يعزز الرضاعة الطبيعية [7].

فوائد أخرى لليانسون

يساعد مركب الأنيثول الموجود في اليانسون على الحفاظ على توازن مستوى سكر الدم. حيث بينت التجارب التي أجريت على الجرذان أداء الأنيثول في خفض معدل السكر العالي من خلال تعديله لمستويات أنزيمات أساسية وتعزيزه لعمل خلايا البنكرياس المفرزة للأنسولين. ولكن يجب الانتباه إلى أن هذا الأثر كان نتيجة تجربة جرعة مركزة من الأنيثول، أي بنسبة أعلى كثيراً مما يوجد في جرعة عادية من بذور اليانسون. ويجب إجراء دراسات أكثر لتقييم آثار بذور اليانسون على مستوى السكر في جسم الإنسان [3].

أضرار اليانسون

يتحدث موقع المكتبة الأمريكية الوطنية للطب عن أبحاث درست تأثير إعطاء اليانسون للأطفال حديثي الولادة. إذ يعتمد الأهل على اليانسون في علاج مغص الأطفال، وهذا أمر تقليدي سائد في العديد من الثقافات. لكن الأبحاث المذكورة في الموقع والتي أجريت في مستشفى ميامي للأطفال أوضحت أنه قد يترتب على خلط أنواع عديدة من اليانسون نتائج خطيرة. عادة ما يتم هذا الخلط دون التصريح عنه على العبوة الحافظة، وقد يحتوي بعضاً من أنواع اليانسون الأخرى كاليانسون النجمي الياباني. كما تبين أن تقديم اليانسون للأطفال الرضع من أجل علاج المغص ليس بالأمر الإيجابي، حيث من الممكن أن ينطوي على حالات تسمم عصبية وهضمية [8].

كما ينبغي تجنب تناول اليانسون في حالات الحساسية للهرمونات، وخاصة الأستوجين. فمثلاً، عند الإصابة بسرطان الثدي أو الرحم، يؤدي التعرض للأستروجين إلى تفاقم المرض. فاليانسون يتمتع بخصائص أستروجينية قد تكون ذات آثار سلبية [1].

اقرأ أيضاً: فوائد نبات النعناع، فوائد القرفة

المصادر

  1. RxList
  2. Very Well Health
  3. Health Line
  4. Web MD
  5. Drugs
  6. Science Direct
  7. Science Direct – Pimpinella anisum
  8. Health Fully

النظرية المعرفية في اكتساب اللغة

هذه المقالة هي الجزء 5 من 7 في سلسلة مقدمة في نظريات اكتساب اللغة

النظرية المعرفية في اكتساب اللغة

تلخص النظرية المعرفية أو الإدراكية (Cognitive Theory) عملية اكتساب اللغة على أنها إحدى مظاهر النمو الفكري للطفل [1]. إذ يجب للطفل أن يدرك المفاهيم المحيطة به قبل أن يكتسب اللغة التي تعبر عن تلك المفاهيم. وقد عمل عالم النفس السويسري “بياجيه – Piaget” على فهم النمو المعرفي عند الأطفال من خلال مراقبة أطفاله الثلاثة وتدوين ملاحظاته بشكل يومي. كما قام بإجراء مقابلات ومراقبات إكلينيكية مع أطفال أكبر سناً باستطاعتهم فهم الأسئلة والخوض في حوارات [2].

أساس النظرية المعرفية

ترى نظرية بياجيه في النمو المعرفي أن ذكاء الطفل يتغير مع نموه. ولا يتمثل نمو الطفل المعرفي باكتساب المعارف فحسب، بل ينطوي أيضاً على تركيب نموذج عقلي عن العالم. وينتج هذا النموذج عن طريق التفاعل بين مقدرات الطفل الأصيلة وما يحدث في البيئة المحيطة به. وتتألف رحلة النمو المعرفي من أربع مراحل مختلفة يمر بها الطفل وتعكس مدى الزيادة في تعقد أفكاره مع التقدم بالعمر. إذاً، فإن النمو البيولوجي والنضج والتفاعل مع البيئة هي عوامل تحدد نمو الطفل المعرفي، وتنقله في المراحل التي تسير بترتيب معين. لكن بياجيه لم يربط تلك المراحل بأعمار محددة، بل من الممكن أن تتفاوت الأعمار التي ينتقل بها الأطفال من مرحلة إلى أخرى [2].

مراحل النمو المعرفي

أما عن هذه المراحل، فهي المرحلة الحسية الحركية (Sensorimotor stage)، ومرحلة ما قبل العمليات (Preoperational stage)، ومرحلة العمليات المحسوسة (Concrete operational stage)، ومرحلة العمليات المجردة (Formal operational stage) [2].

يعتقد بياجيه أنه لا يمكن للمعرفة أن تنبثق ببساطة من التجربة. بل يؤمن بوجود تراكيب قائمة أصلاً، وضرورية للمساعدة في فهم العالم. فالأطفال يولدون مجهزين بتركيب عقلي أساسي تبنى عليه المعارف الجديدة، ويمكن تحقيق النمو المعرفي العقلي عن طريق إدماج الأطر المفاهيمية البسيطة للمعرفة مع أطر بمستوى أعلى في كل مرحلة من مراحل النمو. ويسمي بياجيه هذه الأطر المفاهيمية بالسكيما (Schema) [3].

النمو المعرفي واكتساب اللغة

يبدأ الأطفال باكتساب اللغة في المرحلة الأولى التي يتطور فيها الإدراك الحسي والحركي. كما ذكرنا سابقاً، ينبغي أن يستوعب الطفل ما يحيط به من مفاهيم وأشياء قبل أن يكتسب اللغة للتعبير عنها. وفي هذه المرحلة، تتطور مجموعة من القدرات المعرفية وأهمها ديمومة الكائن (object permanence). وتكمن أهمية هذه القدرة أو الفهم بأنها تكون نتيجة تطور “سكيما” تمثيل الأشياء عقلياً حتى وإن لم تكن موجودة. أي يصبح بإمكان الطفل بعد عدة أشهر من المرحلة الأولى في النمو المعرفي أن يستوعب بقاء أغراضه أو ألعابه موجودة حتى وإن لم يكن يراها [2].

ولفهم ديمومة الكائن أهمية كبرى لأن الطفل يبدأ باستيعاب أن الأشياء هي أمور منفصلة ومستقلة بوجودها، ومن هنا يصبح بإمكان ربط تلك الأشياء بأسمائها واستخدام الكلمات للدلالة عليها [4].

 أي أن ظهور اللغة في هذه المرحلة يكون نتيجة إدراك الطفل لأهمية الكلمات في التعبير عن الأشياء والمشاعر [2]. ولكن لغة الطفل هنا تتميز بتمحورها حول ذاته، ويتمثل هدفها بالتواصل من أجل نفسه [3].

أما في مرحلة ما قبل العمليات، تشهد اللغة تقدماً سريعاً بسبب تطور السكيما العقلية لدى الطفل، والذي يسمح له بالتقاط عدد كبير من الكلمات الجديدة بسرعة. يصبح بوسع الأطفال هنا تركيب جمل بدائية بعض الشيء، وهذا يمثل انتقالاً من مرحلة الكلمة الواحدة [3].

ثم تأتي مرحلة العمليات المحسوسة، وتشهد تحولاً في طريقة تفكير الطفل التي تصبح أكثر منطقية، وتتوجه نحو أحداث ملموسة في البيئة المحيطة. كما يبدأ الطفل بالتفكير بحل المشكلات التي تواجهه. ينعكس هذا التطور في اللغة المكتسبة، والتي تصبح أكثر اجتماعية من كونها متمحورة حول الذات [3].

عند الوصول للمرحلة الأخيرة، وهي مرحلة العمليات المجردة، يكون استيعاب الشخص – الذي أصبح الآن بالغاً – قد تطور أكثر وأصبح يضم مفاهيم وأفكاراً مجردة. وبناء على هذا التطور تتغير اللغة لتلبي الحاجة للحديث عن مواضيع أخلاقية أو فلسفية [3].

مواطن ضعف النظرية المعرفية

تواجه النظرية المعرفية انتقادات تطال محدودية بعض جوانبها. فيلاحظ عالما النفس فيغوتسكي (Vygotsky) وبرونر (Bruner) أن بياجيه فشل في احتواء كافة الجوانب الثقافية والاجتماعية في تجاربه. حيث اقتصرت ملاحظاته على سياقات محددة ثقافياً. كما يرى هذان العالمان أن لبيئة الطفل الاجتماعية والأشخاص الراشدين من حوله دوراً مهماً في تطور قدراته المعرفية واكتسابه للغة. وعند الحديث عن رحلة النمو المعرفي، يرى فيغوتسكي وبرونر أن هذا التطور يحدث على شكل عملية واحدة مستمرة لا على شكل مراحل متعاقبة [3].

في النهاية، أجرى بياجيه أبحاثه ومراقباته لوحده، وكانت البيانات التي جمعها قائمة على تفسيره الشخصي للأحداث. أي أن منهجية البحث التي استخدمها تميل إلى كونها منحازة للتفسيرات الشخصية [2].

المصادر

  1. Theories of language acquisition
  2. Simply Psychology
  3. Cognitive Theory – Study Smart
  4. Very well mind

برج إيفل وكل ما تحتاج معرفته عنه

برج إيفل وكل ما تحتاج معرفته عنه

يمثل برج إيفل (Eiffel Tower – La Tour Eiffel) أحد أشهر المعالم السياحية في فرنسا والعالم. تربع لمدة أربعين عاماً على عرش أطول برج في العالم، ومنذ افتتاحه في عام 1889، لاقى نجاحاً منقطع النظير رغم كل الاعتراضات التي واجهت فكرة بنائه.

أين يقع برج إيفل؟

يا لسهولة هذا السؤال! ومن لا يعرف أن برج إيفل هو أبرز المعالم الفرنسية، والباريسية على وجه الخصوص؟ لكننا سنقرب عدسة الكاميرا أكثر لنتعرف على موقع هذا المَعلَم بالتحديد، ونلقي نظرة على المنطقة المحيطة به.

في الدائرة السابعة شمال غرب العاصمة الفرنسية، وعلى ضفة نهر السين (Seine)، ينتصب هذا البرج الذي كان فيما مضى أطول برج في العالم. تحيط به حدائق شامب دو مارس (Champ de Mars)، وتقابله على الضفة الأخرى للسين ساحة تروكاديرو (Trocadéro) التي تعد منطقة مميزة لالتقاط صور للبرج [1].

تاريخ برج إيفل

السبب وراء بنائه

عمل المهندس الفرنسي غوستاف إيفل (Gustave Eiffel) على تشييد البرج ليكون جزءاً من المعرض العالمي (Exposition Universelle) العاشر في باريس في عام 1889. وكان هذا العام يمثل الذكرى المئوية الأولى للثورة الفرنسية. ولهذه المناسبة، تم الإعلان في عام 1886 عن مسابقة تخص المعرض لتشييد برج حديدي بارتفاع 300 متر. وقد اختير مشروع غوستاف إيفل من بين 107 مشروعات أخرى. وعمل على تصميمه كل من المهندسين موريس كويشلين (Maurice Koechlin)، وإميل نوغوير (Emile Nouguier)، وستيفن سوفيستر (Stephen Sauvestre) الذين كانوا يعملون لدى شركة إيفل [2].

بدأت عملية التشييد في 1887 وانتهت في 1889. وعلى وجده الدقة، استمرت لمدة عامين وشهرين وخمسة أيام، وهذا ما عدَّ آنذاك إنجازاً معمارياً مهماً. أطلق على البرج بداية الأمر اسم “برج 300 متر”، واقد افتُتح رسمياً في 15 أيار/مايو من عام 1889، أول أيام المعرض. ولكن سرعان ما أصبح معروفاً باسم بانيه [2] [3].

في ذلك العام، استقبل المعرض العالمي ملايين الزوار. وكان عدد كبيرٌ منهم، تحديداً 1,953,122، قد أتوا لرؤية برج إيفل. وفي أول أسبوع له، وحتى قبل أن يتم تفعيل المصاعد، تسلق حوالي 30,000 زائراً إلى قمة البرج، باستخدام السلم الذي يتألف من 1,710 درجة. لقد كانت رؤية باريس من قمة أعلى برج في العالم أمراً مذهلاً في ذاك الوقت، ولم يمنع الارتفاع الشاهق أولئك الزوار من خوض هذه التجربة الفريدة [4].

المعرض العالمي في عام 1889

أعمال غوستاف إيفل

كانت شركة غوستاف إيفل مختصة ببناء الهياكل والأطر المعدنية، ويعود له الفضل في إنشاء العديد من الأعمال في أوروبا. ونذكر على سبيل المثال جسر غارابيت في فرنسا، ومحطة قطار بودابست في هنغاريا. ولكنه تجاوز حدود القارة الأوروبية ووصل إلى أمريكا. فقد شيد الهيكل المعدني لأحد أشهر النصب في العالم، وهو تمثال الحرية في نيويورك في الولايات المتحدة الأمريكية [5].

إذاً، تحيط ببرج إيفل معالم مميزة على عدة أصعدة، منها جغرافياً أي في نفس المنطقة المحيطة به، ومنها تاريخياً أي في فترات زمنية متقاربة. كما لا تخفى عبقرية صانعه على أحدٍ، مع كل المنشآت التي شيدها والإنجازات التي حققها. وتكمن أهمية برد إيفل أنه بات رمزاً للمهارة التقنية، وتمثيلاً للهندسة الفرنسية في أواخر القرن التاسع عشر، وصرحاً مميزاً للحقبة الصناعية. ولكن عند بنائه، كان من المقصود له أن يبقى مشيداً لمدة 20 عاماً فقط. إلا أن التجارب العلمية التي شجعها أطالت بعمره وجعلت له أهمية كبيرة تفوق مجال الجذب السياحي [6].

موقف الفن من الصرح المعماري

احتجاجات الفنانين على بناء برج إيفل

قبل تشييده، لم يلق برج إيفل شعبية كبيرة في المجتمع الفني. إذ إن برجاً حديدياً بارتفاع 300 متر لم يكن ليُعتبر فناً بالأصل، فهو نتيجة عمل مهندسين ومعماريين.

في 14 من شهر شباط/فبراير من عام 1887، وبعد أن بدأ تشييد البرج بالفعل عقب توقيع المهندس إيفل على اتفاقية مع الدولة ومدينة باريس مُنح بموجبها حقوق الموقع لمدة عشرين عاماً. وعندها، اشتعلت احتجاجات مجموعة من الفنانين على الصفحات الأولى لصحيفة “لو تيمبس” (Le Temps) التي كانت من أشهر الصحف آنذاك. وكان من ضمن الأربعين فناناً الذين وقعوا على الاحتجاج المؤلف الموسيقي شارل جونو (Charles Gounod)، والكاتب غي دو موباسان (Guy de Maupassant)، والفنانون ويليام بوغيرو (William Bouguereau) وإرنست ميسونييه (Ernest Meissonier). وحتى المهندس المعماري تشارلز غارنييه (Charles Garnier) الذي صمم أوبرا باريس اشترك بالاحتجاجات التي كانت تدافع عن “جمال مدينة باريس” [7].

وقد تمثلت المخاوف من أن يلوث تشييد هذا البرج “عديم الفائدة” – على حد تعبيرهم – قلب العاصمة، ويهدد تاريخها وفنها. وقد ذهبوا إلى حد الهجوم على المهندس إيفل ووصفه “بباني الآلات”، واتهام مشروعه بأنه سيجلب العار لمدينة باريس التي تخاطر بالتخلي عن جمالها مقابل قبحٍ لا يمكن إصلاحه. من ضمن احتجاجهم، شبّه أولئك الفنانون برج إيفل بمدخنة مصنع سوداء عملاقة تمتد على كامل المدينة مثل “بقعة حبر سوداء” [7].

كيف رد غوستاف إيفل؟

لم تكن آراء الفنانين المعارضة لتحبط من عزيمة المهندس إيفل. بل واجه احتجاجهم بالتأكيد على جمالية البرج. وذهب إلى مقارنته مع أهرامات مصر التي – إذا جردناها من قيمتها الفنية والتاريخية – تستحيل إلى كتل صناعية من التراب. وبهذا كان إيفل يحاول جذب الانتباه إلى الطبيعة المميزة لتصميم برجه. ساعد الدعم الرسمي الذي تلقاه المشروع في إكمال العمل بع رغم كل التحديات، ولم يخيب البرج أمل أحدٍ. بل أصبح بعد إتمامه رمزاً للتقدم التقني والصناعة، وإحدى علامات باريس المميزة التي تحمل عناصر جمالية جديدة [7].

تشييد البرج

عمل على تصميم البرج 50 مهندساً ومصمماً بالمجمل. وفي مرحلة البناء، بلغ عدد العمال المتواجدين في المصنع في بلدة لوفالوا-بيري 150، مقابل 150-300 عاملاً في موقع التشييد. استُخدم لبناء البرج 18,038 قطعةً معدنيةً و2,500,000 مسمار تثبيت (برشام). وقد بلغ وزن الحديد المستخدم 7,300 طن متري، واستهلك 60 طن متري من الطلاء [2].

تتركز قوائم البرج في قاعدة إسمنتية بعمق بضعة أمتار تحت مستوى الأرض. واستُخدم القيسون المنيع للماء في الأساسات من جهة نهر السين كي يتمكن العمال من العمل تحت مستوى الماء [2].

اختيار مادة البناء

اختار السيد إيفل لبناء برجه الحديد المطاوع المصهور في فرن التسويط (puddling iron) بدلاً من الاعتماد على الحجر كما كان حال الأبنية حتى منتصف القرن التاسع عشر. ويعود سبب الابتعاد عن الحجر إلى طول البناء الشاهق آنذاك، والذي كان سيجعل من استخدام الحجر أحد عوامل الخطورة. فكلما زاد الارتفاع، زاد وزن البناء معه. وستكون الأجزاء السفلية هي التي تحمل الأجزاء العلوية وتدعمها لدرجة قد تؤدي إلى التصدع وانهيار البناء [8].

في ذلك الوقت، كانت المعادن من المواد حديثة العهد في عمليات البناء والتشييد، إذ إن دراسة علم المعادن واستخدامها في الصناعة كانت في بداياتها. وكانت الاكتشافات الجديدة هي الطريقة المعتمدة لإثبات إمكانية استخدام المعادن في عمليات البناء [8].

لم يقع الاختيار على الفولاذ لأنه قاسٍ جداً بالنسبة لهيكل البرج الذي يتطلب المرونة بقدر ما يتطلب المقاومة. كما أن عملية تصنيع الفولاذ كانت باهظة في ذاك الوقت. ولم يصبح الفولاذ متوفراً للاستخدام إلى في القرن العشرين مع إدخال طرق الإنتاج الحديثة. ولذا كان لابد من الاعتماد على الحديد الذي تناسب خواصه من مرونة ومقاومة مشروع البرج. ومع أن إيفل كان يستخدم الحديد الصب في مشاريع الجسور الحديدية، كان قد درس الحديد المطاوع الناتج عن الصهر. ووقع اختياره عليه في بناء برجه ذي الـ 300 متر بسبب مقاومته بالمرتبة الأولى. كما أن خفة وزنه مقارنة بمواد البناء الأخرى تجعل بالإمكان تخفيف الدعائم في القاعدة [8].

ولكن كأغلب أنواع المعادن، يتعرض هذا الحديد للتمدد الحراري، أي تتغير أبعاده مع تغير درجات الحرارة. ويبلغ مقدار التمدد/التقلص 15 سم بين أكثر الأيام حرارة وأكثرها برودة [9].

طلاء برج إيفل

تساعد طبقات الطلاء المتعددة على حماية برج إيفل من التأكسد. وكان غوستاف إيفل قد أكد على أهمية الطلاء في كتابه “برج الـ 300 مترٍ” حيث ذكر أن الطلاء هو مادة جوهرية في الحفاظ على المعادن. وكلما كانت عملية الطلاء أكثر دقة، كلما زادت مدة بقاء البرج [10].

منذ إنشائه، أعيد طلاء البرج 19 مرة، بمتوسط مرة كل سبع سنوات. وقد اكتسى العديد من الألوان المختلف، من البني المحمر مروراً بالأصفر المائل إلى البني الفاتح والبني الكستنائي والبرونزي حالياً. كما أن اللون يكون أغمق في الأعلى لضمان أن يبدو البرج بلون واحد حتى الأعلى حيث تظهر سماء باريس خلفه [10].

يتم طلاء البرج بالطريقة التقليدية. حيث يستخدم العمال الطرق اليدوية التي كانت مستخدمة في زمن غوستاف إيفل. في البداية يقشرون طبقات الطلاء القديم الأكثر تآكلاً، ثم ينظفون مكانها، ويضعون مادة مضادة للصدأ، وبعدها تتم عملية الطلاء. تستمر عملية الطلاء لمدة تتراوح بين عام ونصف وأكثر من ثلاث سنوات أحياناً. إذ تؤخذ عوامل الطقس بعين الاعتبار. حيث يستحيل العمل في الأجواء شديدة البرودة، كما أن الطلاء لا يلتصق عندما يكون المعدن رطباً [10].

ما هو مصدر الحديد المستخدم في بناء برج إيفل؟

يواجه صانع برج إيفل اتهاماتٍ بسرقة الحديد المستخدم في الإنشاء من الجزائر، وتحديداً من منجمي زكار والروينة. ولكن لا يوجد دليل قاطع على هذا، ولذلك يبقى مصدر الحديد محل جدال. فحسب الموقع الرسمي لبرج إيفل، تم جلب حديد البناء من منطقة تعدين موجودة فيما هو الآن إقليم مورت وموزيل (Meurthe-et-Moselle). كما رد المؤرخ والباحث الجزائري محمد الصالح بوقشور على هذه الاتهامات ونفاها. حيث يشير إلى أن استثمار المنجمين المذكورين لم يبدأ حتى أعوام 1904 و1906 على الترتيب، في حين انتهى بناء البرج في عام 1889. كما يضيف أن شركة “مقطع الحديد” هي التي كانت تعمل في الجزائر في وقت إنشاء البرج، لكن لم يكن لديها ترخيص للعمل في هذين المنجمين. لذلك لا توجد أدلة كافية على أن حديد البرج قد سرق من الجزائر. لكن تبقى هذه الاتهامات نقطة غامضة في قصة بناء أحد أشهر الأبراج في العالم [8] [11].

أقسام برج إيفل

المصاعد

تضم المصاعد التي تعمل حالياً على برج إيفل اثنين من المصاعد الأصلية. وكان بناء المصعد في ذاك الوقت يعتبر إنجازاً كبيراً، خاصة وأن ارتفاعاً كهذا لم يكن له مثيل. ولكي يكون العمل متكاملاً، وضعت خمس مصاعد هيدروليكية على كل من الأعمدة الشمالي والجنوبي والشرقي والغربي، إضافة إلى مصعد هيدروليكي أيضاً بين الطابق الثاني والثالث. وقد سمحت هذه المصاعد للزوار أن يعيشوا تجربة البرج بالكامل ويتمتعوا بمنظر مدينة باريس [12].

المطاعم

ليس هذا فحسب، بل عند افتتاحه في عام 1889، كان البرج يضم أربعة مطاعم فخمة في الطابق الأول، يتسع واحدها لـ 500 شخص. طرأت عدة تعديلات على هذه المطاعم منذ إنشائها، والآن يعتبر مطعم جول فيرن في الطابق الثاني من أهم الوجهات لمحبي تذوق الطعام في باريس [13].

المختبر

ولكن الجزء الأهم الذي حافظ على بقاء البرج كل هذا الوقت هو المختبر العلمي الذي بناه إيفل. فقد كان الاتفاق أن يتم هدم البرج بعد عشرين عاماً، لكن التجارب العلمية التي قامت فيه كانت كفيلة بإطالة عمر بقائه. كان للمهندس إيفل مكتب في الطابق الثالث يقوم فيه بعمليات مراقبةٍ فلكية وفيزيولوجية. كما سمح للقيام بعدد من التجارب العلمية في مجال الأرصاد الجوية والفيزياء ومقاومة الهواء. في النهاية، نجح إيفل في إبقاء برجه قائماً بعد أن جعل منه لاقطاً هوائياً ضخماً للبث اللاسلكي، وسخره لأغراض الهندسة العسكرية. وبالفعل، كان لمحطة الإبراق اللاسلكي أو الإبراق عن طريق الراديو في البرج دور كبير في كشف العديد من مراسلات الأعداء في الحرب العالمية الأولى [14].

شروط زيارة البرج

والآن لنذهب بزيارة إلى البرج. يجب الانتباه إلى أن الحجز المسبق إلكترونياً يسمح بتجنب الطوابير الطويلة أمام مكتب الحجز. تتفاوت أسعار البطاقات حسب عمر الزائر وحسب الطابق الذي يرغب في زياراته، كما يختلف السعر باختلاف طريقة الصعود إن كانت على السلم أو باستخدام المصعد.

يمكن الصعود للطابق الثاني بإحدى الطريقتين، ولكن لا يمكن الوصول لقمة البرج دون استخدام المصعد، إما من الأرض، أو من الطابق الثاني. بالنسبة للأعمار، يعد الأطفال الصغار دون الرابعة من العمر الفئة الأكثر حظاً لأن بطاقات دخولهم للبرج مجانية. أما إذا كان مع الزوار حيوانات أليفة، فيمنع دخولها منعاً باتاً باستثناء الكلاب المرافقة للعميان. ويمنع أيضاً اصطحاب الحقائب الثقيلة إلى الداخل، في حين قد تجري مراقبة محتوى الحقائب والطرود والأمتعة التي تبقى مع أصحابها [15].

ولنختم بهذا الانفوجراف المبسط عن سبب بناء برج إيفل ومعلومات أخرى عنه.

معلومات عن برج إيفل

اقرأ أيضاً: تاريخ ناطحات السحاب

المصادر

  1. Landmarks of the World
  2. History of the Tower
  3. Eiffel Tower
  4. Universal Exhibition
  5. Gustave Eiffel
  6. Key Figures about the Tower
  7. The Artists
  8. Choice of Iron
  9. Purdue University
  10. Painting the Tower
  11. الجزيرة
  12. Lifts
  13. Restaurants
  14. Laboratory
  15. Prices & Timing

النظرية الفطرية في اكتساب اللغة

هذه المقالة هي الجزء 4 من 7 في سلسلة مقدمة في نظريات اكتساب اللغة

النظرية الفطرية في اكتساب اللغة

ترى النظرية الفطرية (Nativist Theory) أن قدرات البشر وعمليات التطور عندهم تكون موجودة منذ الولادة [1]. ولا يعد اكتساب اللغة استثناءً هنا. فحسب هذه النظرية، يولد البشر مع قدرة فطرية تمكّنهم من إنجاز عملية الاكتساب تلك. وقد حققت هذه النظرية ثورةً في مجال دراسة اكتساب اللغة لدى الأطفال بفضل العالم اللغوي الأمريكي نعوم تشومسكي (Chomsky) الذي يرى أن الأطفال يتعلمون لغتهم الأم دون الحاجة إلى تعليم رسمي. بل إن قدرتهم الفطرية هي التي تساعدهم على تنظيم قواعد اللغة، في حين يتمثل دور البشر الآخرين من حولهم في مساعدتهم بتفعيل هذه الموهبة [2].

أساس النظرية الفطرية

عند وصف اللغة بأنها ملكة فطرية، يقصد تشومسكي أن الأطفال يولدون مجهزين بمجموعة من القواعد حول اللغة في عقولهم. وقد أطلق على هذه المجموعة اسم النحو الكلي (Universal Grammar). تشكل هذه المجموعة الأساس الذي تُبنى عليه كافة اللغات البشرية. أي أنه وفقاً لتشومسكي، تشترك كافة اللغات بأساس واحد يكون موجوداً منذ الولادة. كما يرى في السهولة الكبيرة التي يتعلم بها الأطفال لغتهم الأم دليلاً يدعم فرضيته. إذ عند المقارنة، من شبه المستحيل أن يتعلم الأطفال الرياضيات أو ركوب الدراجة، مثلاً، بنفس الطريقة التي يتعلمون بها لغتهم [2].

النحو الكلي

ويعزو تشومسكي سهولة اكتساب اللغة الأم للنحو الكلي بناءً على عدة أسباب. أولاً، إن اللغة التي يتعرض لها الأطفال هي أبعد من أن تكون صحيحةً بالكامل. حيث أنه عندما يتحدث الكبار، يصدف أن يخطؤوا بالكلام أو يتلعثموا أو يقاطعوا بعضهم البعض. ولكن مع هذا، يتمكن الأطفال من اكتساب لغةٍ سليمة. بالإضافة لذلك، لا يقتصر اكتساب اللغة لدى الأطفال على نسخ ما يسمعونه من حولهم. بل يتعلمون أيضاً قواعد اللغة ويستخدمونها لإصدار جمل لم يسبق لهم أن سمعوها [2].

تقدم مجموعة النحو هذه عدداً محدداً من الاحتمالات الممكن استخدامها في اللغة. على سبيل المثال، توجد عدة طرق لترتيب الكلمات في الجملة، وجميعها مدرجة ضمن النحو الكلي. تتوزع هذه الطرق أو الأنماط المختلفة على لغات العالم. فنجد نمط “فاعل – فعل – مفعول به” في اللغات الإنكليزية والفرنسية والفيتنامية، كما يوجد ترتيب “فاعل – مفعول به – فعل” في اليابانية والتيبتية والكورية. ونرى ترتيب “فعل – فاعل – مفعول به” في الويلزية، أما ترتيب “فعل – مفعول به – فاعل” هو من قواعد اللغة الملغاشية [3].

وعليه، إن هذا العدد المحدد من الترتيبات هو جزء من النحو الكلي الذي يولد مع الأطفال، وعندما يبدؤون بالاستماع إلى أهلهم ومقدمي الرعاية، سيميز اللاوعي لديهم نوع اللغة التي يتعاملون معها. وبالنتيجة سيتم ضبط النحو والقواعد اللغوية وفقاً للصيغة الصحيحة. وهذا ما يسمى ضبط المعايير (setting the parameters). وكأن الطفل يُمنح مجموعة من الفرضيات عند ولادته، ويقوم بعد هذا بمطابقتها مع ما يسمعه من حوله. فالطفل لا يتلقى تعليماً مباشراً ورسمياً حول طريقة ترتيب الكلمات في الجملة، أو حول الكلمات التي تستخدم كفعل مثلاً. لكنه يدرك هذا بالفطرة التي تمكنه من التعامل مع المعلومات التي يتلقاها [3].

جهاز اكتساب اللغة

عند تفسير عملية اكتساب اللغة لدى الأطفال وطريقة اختيار القواعد الملائمة من مجموعة النحو الكلي، يتحدث تشومسكي عن جهاز اكتساب اللغة (Language Acquisition Device – LAD). وهو منطقة مفترضة من الدماغ تشرح كيف يمكن للأطفال أن يتعلموا اللغات بسرعة. إلا أنها ليست منطقة حقيقية يمكن رؤيتها عند التشريح، بل هي أقرب ما تكون إلى فكرة نظرية لتفسير اكتساب اللغة. حيث يشرح هذا الجهاز الطريقة التي يستخدم فيها الأطفال قدرتهم الفطرية لفهم اللغة وقواعدها [4]. ويفترض تشومسكي أن هذا الجهاز يتفعل عندما يسمع الطفل الكلام، وهو سمة بشرية لا تتواجد عند الحيوانات [5].

وقد عمل تشومسكي على تنقيح نظريته المتعلقة بجهاز اكتساب اللغة. فكان يعتقد أولاً أنه يضم مجموعة معارف محددة حول اللغة. ولكن فيما بعد، تطورت فكرة هذا الجهاز بأنها تمثل آلية عمل لاكتشاف قواعد اللغة أو استنتاجها [6].

مواطن ضعف النظرية الفطرية

كان عمل تشومسكي في مجال اللغة نظرياً، واهتمامه منصباً حول القواعد والنحو. ويتمثل قسم كبير من عمله بتفسيرات معقدة للقواعد النحوية. إلا أنه لم يتطرق في دراسته لأطفال حقيقيين. وتعتمد نظريته على تعرض الأطفال للغة في السياق المحيط بهم دون النظر في تفاعلهم مع الأطفال الآخرين أو مقدمي الرعاية. وعلاوة على ذلك، لا تشرح أبحاث تشومسكي الأسباب الكامنة وراء رغبة الطفل في الحديث أو ما يعرف بوظائف اللغة [7].

ولهذه الأسباب، قامت النظريات اللاحقة بالتركيز على الطرق التي يطور فيها الأطفال الحقيقيون اللغة لتلبية احتياجاتهم والتفاعل مع البيئة المحيطة، والتي تضم بشراً آخرين [7].

المصادر

  1. Encyclopedia of Child Behavior and Development
  2. Scientific Editing
  3. Noam Chomsky and Language Acquisition
  4. Study.com
  5. Nativist – Study Smart
  6. Chomsky – Study Smart
  7. Theories of language acquisition

النظرية السلوكية في اكتساب اللغة

هذه المقالة هي الجزء 3 من 7 في سلسلة مقدمة في نظريات اكتساب اللغة

النظرية السلوكية في اكتساب اللغة

تعد النظرية السلوكية (Behavioural Theory) إحدى نظريات علم النفس الخاصة بالتعلم. وتطرح فكرة أن تعلم جميع السلوكيات يتم عن طريق التفاعل مع البيئة في عملية تدعى الإشراط أو التكييف (conditioning) مع ظروف معينة محيطة بالشخص تسمى المحفزات. أي أن السلوك هو عبارة عن استجابة لتلك المحفزات [1]. وقد تم تطبيق هذه النظرية في علم اللغويات لتفسير عملية اكتساب اللغة الأم لدى الأطفال.

أساس النظرية السلوكية

يقوم المبدأ الأساسي للنظرية السلوكية على تحليلات السلوك البشري في التفاعلات التي تنطوي على استجابة محددة (response) لمحفز ما (stimulus)، والربط بين هذه الاستجابة وذاك المحفز. وكان عالم النفس الأمريكي إدوارد ثورندايك “Thorndike” أول من بحث في تفسير التعلم على أنه عملية خلق ارتباطات بين سلوك معين ونتائج هذا السلوك. كما طور عالم النفس الأمريكي ب. ف. سكينر “Skinner” نموذج الإشراط الإجرائي (operant conditioning) كجزء من نظرية التعلم القائمة على الاستجابة للمحفزات. حيث اعتبر سكينر أن التعلم بشكل عام هو عملية تأسيس عادات محددة، تنتج عن فعل التعزيز [2].

وعند البحث في الإشراط الإجرائي، تحدث سكينر عن نوعين من التعزيز يتلقاهما الشخص بناءً على سلوكه. فإما أن يتلقى تعزيزاً إيجابياً (positive reinforcement) عن طريق المكافأة (reward)، وهذا ما يثبّت السلوك محلّ الاهتمام. أو أنه يتلقى تعزيزاً سلبياً (negative reinforcement) عن طريق العقاب (punishment)، وهذا ما يحيّد السلوك غير المرغوب به [3].

السلوكية واكتساب اللغة

عند تطبيق السلوكية على عملية اكتساب اللغة، يقول سكينر أن الأطفال يعدلون استخدامهم للغة (أو يكيفوه!) كاستجابة للتعزيز. على سبيل المثال، قد يشعر الطفل بالجوع ويطلب الطعام باستخدام الكلمات المناسبة، كأن يقول “ماما، عشاء”. وهذا ما يؤدي إلى تعزيز إيجابي لهذا السلوك – المتمثل باستخدام اللغة – عن طريق إعطائه الطعام بالفعل، أو تلقيه للمديح والتشجيع من مقدم الرعاية. بالمقابل، عند استخدامه للغة بطريقة غير صحيحة، كأن يستعمل كلمات في السياق الخاطئ، سيتم تصحيحه، أو بأبسط الحالات تجاهله. وهذا ما يمثل تعزيزاً سلبياً ينتج عنه تهميش السلوك غير المرغوب، أي الاستخدام الخاطئ للغة. إضافة لهذا، يلتقط الأطفال اللكنات واللهجات العامية للغة من البيئة المحيطة. وهذا ما يدل على أن المحاكاة تلعب دوراً في اكتساب اللغة [3].

أما في مرحلة الدراسة، يصبح استخدام اللغة أكثر دقة وتعقيداً. ويمكن تفسير هذا بأن للمعلمين دوراً أكثر فعالية من دور مقدمي الرعاية في تصحيح الأخطاء لدى الأطفال. كما يرى بعض الباحثين أن تصحيح مقدمي الرعاية لأخطاء الأطفال هو تصحيح للمحتوى أكثر من تصحيح القواعد والتراكيب اللغوية. أي عندما ينطق الطفل بعبارة صحيحة من حيث المحتوى ولكنها خاطئة قواعدياً، سيتلقى تعزيزاً إيجابياً من مقدمي الرعاية بناءً على صحة حديثه. أما إذا حدث العكس، أي إذا استخدم الطفل لغة سليمة من ناحية القواعد ولكنها لا تنقل رسالة صحيحة المحتوى، فسيكون التعزيز سلبياً. فمقدمو الرعاية يهتمون بصحة الكلام وصدقه أكثر من دقته اللغوية. وتعتبر هذه من نقاط الضعف ضد النظرية السلوكية، حيث أن اللغة التي يسمعها الطفل ليست صحيحةً كل الوقت [3].

مواطن ضعف النظرية السلوكية

إذاً تواجه النظرية السلوكية انتقاداتٍ متعلقةً بمحدودية بعض أفكارها. كما ذُكر سابقاً، يصعب شرح كيفية اكتساب الأطفال للصيغ القواعدية في الوقت الذي لا يتلقون فيه تعزيزاً كافياً من هذه الناحية، أي قبل دخولهم للمدرسة. وأيضاً، يرى بعض الباحثين أن عملية التعزيز الإيجابي هي بطيئة مقارنة مع كمية المفردات التي يكتسبها الأطفال في سنوات اكتسابهم للغة. ثم إن النظرية السلوكية لا تشرح الاختلافات الفردية كتلك المرتبطة بمستوى الذكاء. وأخيراً، فإن الطبيعة المعقدة للعديد من جوانب اكتساب اللغة تجعل شرحها بطريقة الإشراط الإجرائي أمراً غير كافٍ [4].

المصادر

  1. Behaviorist Approach – Simply Psychology
  2. BEHAVIORIST THEORY AND LANGUAGE LEARNING – Dr Mehmet DEMİREZEN
  3. Behavioural Theory – Study Smart
  4. Behaviourist Theory of Language Acquisition

نظريات اكتساب اللغة

هذه المقالة هي الجزء 2 من 7 في سلسلة مقدمة في نظريات اكتساب اللغة

نظريات اكتساب اللغة

قبل الحديث عن نظريات اكتساب اللغة، لا بد أولاً من إعطاء فكرة عن هذه العملية وخواصها. يُعرّف اكتساب اللغة على أنه التطور التدريجي للمقدرة اللغوية لدى المتحدث. ويختلف اكتساب اللغة عن تعلمها بالنسبة للطريقة التي تتم من خلالها كل من هاتين العمليتين. وعند الحديث عن كيفية إتقان البشر للغتهم الأم منذ الصغر، فنحن نتحدث عن عملية اكتساب لا تتم بطريقة واعية ومخطط لها. بل تقوم على التأثر بالمحيط والتقاط اللغة من الناطقين بها مباشرة. وعليه تختلف عمليتا تعلم اللغة واكتسابها من ناحية طبيعة الخطوات التي تمران بها ومدى إدراك الفرد متعلم اللغة لما يحدث أو تحكمه به.

علم النفس اللغوي

يعد اكتساب اللغة من أبرز المحاور التي يجري البحث فيها ضمن علم اللغويات (linguistics). ولكن دراسته لا تقتصر على هذا العلم فحسب، إذ يمثل أيضاً أحد المواضيع المهمة في علم النفس (psychology). فينصب التركيز هناك على دراسة العمليات النفسية التي تمكّن البشر من إتقان اللغة واستخدامها. وعلى وجه الدقة، يسمى هذا القسم من علم النفس بعلم النفس اللغوي (psycholinguistics)، كما يطلق عليه أيضاً اسم علم اللغة النفسي. تنظر الأبحاث التي تجري تحت مظلة هذا العلم في تطور الحديث واللغة، وكيف يحدث فهم اللغة وإصدارها لدى الأفراد من مختلف الأعمار. ويعد اكتساب اللغة الأم، أي في مرحلة الطفولة، من أهم المحاور التي قامت حولها الكثير من النظريات والفرضيات [1].

اختلاف تفسير اكتساب اللغة

يفسر الباحثون عملية اكتساب اللغة لدى الأطفال بطرق مختلفة. وتتباين الأفكار المتعلقة بطبيعة المقدرة اللغوية لدى البشر، وبالعمر الأمثل لاكتساب اللغة. فيذهب البعض إلى أن اللغة أمر فطري يولد مع البشر ويتطور مع التقدم بالعمر. في حين يرفض آخرون هذا، ويعتبرون أن البيئة المحيطة هي العامل الأساسي في اكتساب البشر للغة. كما توجد فرضية تتعلق بالفترة العمرية التي ينجح فيها الأطفال بتطوير المقدرة اللغوية، وتسمى فرضية الفترة الحرجة (critical period hypothesis). باختصار، تقترح هذه الفرضية وجود فترة حرجة من عمر الإنسان يستطيع خلالها أن يتعلم لغةً معينةً ويتقنها كلغةٍ أمّ. تبدأ هذه المرحلة عند السنتين من العمر تقريباً، وتنتهي مع سن البلوغ. وبحسب هذه الفرضية، يصبح اكتساب اللغة أصعب بعد تجاوز هذه المرحلة، وتقل فرص النجاح، وهذا ما يفسر صعوبة تعلم اللغة لدى البالغين [2] [3].

حالة الطفلة “جيني” بالنسبة لنظريات اكتساب اللغة

يمكن توضيح الاختلاف في أفكار الباحثين حول تفسير عملية اكتساب اللغة عن طريق حالة طفلة أمريكية أطلق عليها اسم “جيني – Genie”. وقد كانت هذه الحالة – على غرابتها وقسوتها – موضوعاً مهماً في علوم اللغويات والنفس بشكل أساسي. في عام 1970، دخلت الطفلة جيني ذات 13 عاماً إلى أحد مشافي ولاية كاليفورنيا الأمريكية، بعد أن أنقذتها إحدى هيئات الخدمة الاجتماعية من والدها الذي كان يسيء معاملتها. فقد أمضت معظم حياتها مقيدة على كرسي في غرفة صغيرة مقفلة. ولم يكن مسموحاً لها بأن ترى أو تتواصل مع أي أحد، ما عدا والدتها التي كانت تدخل إلى غرفتها لبضع دقائق لا أكثر. بالنتيجة، وكما هو متوقع، لم يكن باستطاعة جيني استخدام اللغة عندما أُخرجت من عزلتها تلك. ولكن خلال فترة زمنية قصيرة، أصبح بإمكانها التجاوب مع حديث الآخرين وتقليد الأصوات والتواصل [4].

وقد كان لحالة جيني أثر كبير على دراسة اكتساب اللغة لدى الأطفال. فمن جهة، كانت لديها القدرة على تطوير الكلام واستخدام اللغة بعد تجاوزها عمر 13 عاماً. ولكن من جهة أخرى، كانت هذه القدرة بسيطةً، ولم تصل إلى مرحلة استخدام صيغٍ كلاميةٍ معقدةٍ قواعدياً. وهذا ما أثار تساؤل علماء النفس واللغويين على حد سواء، حيث أخذوا من حالة جيني وحرمانها فرصة لدراسة اكتساب اللغة لدى الأطفال، خاصة مع الأخذ بعين الاعتبار أنها كانت تعيش في بيئة لم يكن من المسموح فيه استخدام اللغة. ذلك الأمر حفز الجدال الأساسي، هل اللغة أمرٌ فطري أم أنها ناتجة عن التنشئة؟ هل نكتسب اللغة لأنها تولد معنا أو أنها تتطور لدينا بسبب وجودها في البيئة المحيطة بنا؟ كما أن حالة جيني كانت تدعم فرضية الفترة الحرجة لتعلم اللغة لدى الأطفال، وخاصة أنها لم تصل إلى مرحلة إتقان اللغة كلغة أم، حتى بعد إنقاذها والنجاح الخجول لمحاولات تعليمها الكلام والتواصل اللغوي [2].

نظريات اكتساب اللغة

إذاً، توجد العديد من النظريات التي تحاول تفسير طريقة اكتساب اللغة لدى الأطفال. منها ما يؤيد فكرة أن اللغة أمر فطري لدى البشر، تكون موجودة أصلاً، ثم تتطور. في حين تذهب نظريات أخرى إلى أن اللغة تنتج من المحيط وتتطور ضمنه. ولكن من الجدير بالذكر أن هذه النظريات ليست محض نظريات متناقضة، تحل إحداها محل الأخرى. بل تهدف كل نظرية منها إلى إغناء الفهم الكلي لفكرة اكتساب اللغة، ولكن عن طريق التأكيد على أحد الجوانب دوناً عن غيره في هذه العملية المعقدة. سنستعرض بعضاً من هذه النظريات بشكل عام، على أن يتم التوسع بكلٍ منها لاحقاً [5].

النظرية السلوكية في اكتساب اللغة

تعد النظرية السلوكية (Behavioural Theory) من أوائل نظريات اكتساب اللغة. ويعد عالم النفس الأمريكي “سكينر – Skinner” من أعلام السلوكية، وأحد أبرز الباحثين الذين يعزون تطور اللغة إلى تأثير البيئة المحيطة. وفقاً للسلوكية، يولد الأطفال مثل صفحة فارغة، دون أن يكون لديهم قدرة فطرية على تعلم اللغة. لكنهم يعتمدون في ذلك على التكيف مع البيئة المحيطة [6].

وفي تفسيره لاكتساب اللغة، يقترح سكينر أن الطفل يحاول تقليد والديه أو مقدمي الرعاية. وعندما ينجح بإصدار كلمات صحيحة، يقوم الكبار بتقديم الثناء أو المديح. وهذا ما يعزز محاولات الطفل الناجحة لإصدار اللغة الصحيحة، في حين ينسى المحاولات غير الناجحة التي لا يتم ترسيخها من المحيط [5].

النظرية الفطرية في اكتساب اللغة

من أبرز علماء اللغة الذين بحثوا في عملية الاكتساب وعملوا على تفسيرها هو الأمريكي “تشومسكي – Chomsky”. ويلمع اسم تشومسكي عند الحديث عن النظرية الفطرية (Nativist Theory) التي انتقد من خلالها سكينر والنظرية السلوكية. حيث يرى أن الأطفال لا يحصلون على مدخلات لغوية صحيحة بالقدر الكافي الذي يمكنهم من اكتساب اللغة السليمة. حيث أن الكبار من حولهم لا يستخدمون دائماً لغة صحيحة من ناحية القواعد أو التراكيب. كما أن الطفل لا يسمع إلا عدداً قليلاً من كلمات اللغة [5].

وعليه، تذهب النظرية الفطرية إلى أن الأطفال يولدون ولديهم مَلَكةٌ فطرية لاكتساب اللغة، الذي يحدث وفق عملية محددة بيولوجياً. يرى تشومسكي أن الدماغ تطور لدى الجنس البشري، وأصبحت داراته العصبية تحتوي على معلومات لغوية منذ الولادة. وتتحفز هذه القدرة الطبيعية على اكتساب اللغة عن طريق سماع الحديث الذي يستطيع عقل الطفل تفسيره نتيجة ما يحتويه أصلاً من قواعد وتراكيب. وهذا ما يطلق عليه في علم اللغة اسم “أداة اكتساب اللغة – Language Acquisition Device” [5].

النظرية المعرفية/الإدراكية في اكتساب اللغة

وضع عالم النفس السويسري “بياجيه – Piaget” اكتساب اللغة في إطار التطور العقلي أو المعرفي لدى الطفل، ويعد هذا من أهم مبادئ النظرية المعرفية أو الإدراكية (Cognitive Theory). حيث رأى أنه يجب للطفل أن يدرك المفاهيم التي يسمعها قبل أن يكون باستطاعته اكتساب لغة معينة تعبر عن تلك المفاهيم [5]. ويناقش بياجيه أنه لا يمكن للمعرفة أن تنبثق من مجرد التجربة العملية. بل ينبغي وجود تراكيب أو أنماط عقلية تساعد على فهم العالم. ويرى أن الأطفال يولدون ولديهم تركيب عقلي أساسي تبنى عليه المعرفة. ومع تطور إدراك الأطفال للعالم من حولهم، يصبح بمقدورهم اكتساب اللغة بشكل أكبر. على سبيل المثال، يشرح بياجيه أنه لا يمكن للأطفال استخدام زمن الماضي في حديهم أو إصداراتهم اللغوية ما لم يكونوا قد استوعبوا مفهوم الماضي وأدركوا دلالته [7].

النظرية التفاعلية في اكتساب اللغة

وفقاً للنظرية التفاعلية (Interactionist Theory)، يكمن الهدف من وجود اللغة في التواصل مع الآخرين، ولهذا لا يمكن تعلم اللغة إلا في سياق تفاعلي [5]. يعد عالم النفس الأمريكي “برونر – Bruner” من أبرز الأسماء التي أسهمت في النظرية التفاعلية وأول من ناقشها. حيث اقترح أن لدى الأطفال قدرة فطرية على تعلم اللغة، لكنهم بحاجة إلى تواصل وتفاعل مباشر مع الآخرين لتحقيق الطلاقة اللغوية الكاملة. أي أن مشاهدة التلفاز أو الاستماع للآخرين ليست كافية لاكتساب اللغة، بل لا بد للأطفال أن يتفاعلوا بشكل مباشر مع غيرهم كي يفهموا المواقف المختلفة الذي تستخدم اللغة ضمنها [8].

نظرية وظائف اللغة

تحدث اللغوي البريطاني “هاليداي – Halliday” عن سبع وظائف للغة (language functions) وتتدرج هذه الوظائف من ناحية التعقيد الذي يزداد مع تقدم الطفل بالعمر. يشرح هاليداي أنه مع تطور قدرة الأطفال على التعبير عن أنفسهم، تغدو حاجتهم للغة أكبر بصفتها رمزاً ثقافياً يساعدهم على أن يكونوا جزءاً من المجتمع. أي أنها ليست مجرد وسيلة للتواصل وحسب، بل إن تطور اللغة لدى الأطفال يتزامن مع تطور معرفتهم بالعالم من حولهم [9].

هل اكتسبت الطفلة جيني اللغة بعد عمر 13 عاماً؟

بالعودة إلى الطفلة جيني، كانت حالتها مجالاً لاختبار العديد من النظريات. فحتى مع عمرها المتقدم نسبياً، راقب الباحثون المراحل المعروفة لاكتساب اللغة لدى الأطفال. وبعد العمل معها، بدأت جيني تكتسب عدداً كبيراً من المفردات الجديدة. وقد كانت تمر فعلاً بالمراحل الأساسية التي يمر بها الأطفال، من مرحلة إصدار الكلمة الواحدة، إلى مرحلة الكلمتين، ثم الثلاث كلمات. ولكن لم يكن باستطاعتها تطبيق القواعد النحوية بفعالية، أو استخدام اللغة بطلاقة كاملة. وحتى عند تقدمها بالعمر وبلوغها سن الرشد، لم تنجح المحاولات في إكساب جيني “اللغة الأم” التي يمكن لها أن تتواصل عن طريقها. وقد دخلت قضيتها المعقدة تلك غياهب الكتمان نتيجة صعوبة وضعها وما ينطوي عليه من تعقيدات تتجاوز اهتمام علم اللغويات [2].

لكن مع كل الفرضيات والدراسات، يبقى البحث مفتوحاً في مجال علم النفس اللغوي لمحاولة الوصول إلى فهم أوسع لآلية اكتساب اللغة الأم لدى الأطفال.

المصادر

  1. Psycholinguistics – Science Direct
  2. Theories of Language Acquisition – Study Smart
  3. Critical Period – Study Smart
  4. George Yule, The Study of Language, 4th edition. Cambridge UP.
  5. Theories of Language Acquisition
  6. Behavioural Theory – Study Smart
  7. Cognitive Theory – Study Smart
  8. Interactionist Theory – Study Smart
  9. Halliday – Study Smart
Exit mobile version