لم يدرس المعماريون التعلق المكاني وما أثر التعلق بالأماكن علينا؟

هذه المقالة هي الجزء 9 من 9 في سلسلة مقدمة في علم النفس البيئي

يتعلّق البشر بطبيعتهم بالأماكن. وفي إطار علم النفس البيئي، فإن «التعلق المكاني – Place Attachment»، هو الروابط الشعورية التي يشعر بها البشر تجاه الأماكن المختلفة. وتختلف الأماكن ومعانيها التي يتعلق بها البشر. فقد تكون بالغة الصغر كشجرة في حديقة اعتاد أحدهم أن يلعب حولها وهو طفل. أو حتى فكرة مجردة مثل مفهوم الوطن بالنسبة للاجئين أو المغتربين.

يهتم باحثو علم النفس البيئي بهذا التعلق، لأهميته تجاه جودة الحياة السكانية وصحتها. فالتعلق المكاني يتراوح بين المشاعر الإيجابية كالألفة والطمأنينة في حالة البيت، والمشاعر السلبية كالحزن أو الفقد في حال خسارة البيت. وقد تتسبب خسارة مكانٍ ما إلى إصابة المتعلّقين به بالجزع.

وقد ركزت نظريات التعلق المكاني على ما يكوّن ويحجّم من مشاعر التعلق المكاني، وكيف تتداخل مع مفاهيم كالانتماء والهوية المكانية. فمثلا، يدرس بعض الباحثين العلاقة بين شعور الناس بالانتماء إلى مكانٍ ما، ومدة بقائهم فيه.

نظريات التعلق المكاني

تحاول عدة نظريات تحديد مكونات التعلق المكاني. وإحدى هذه النظريات تحددها بثلاثية المكان-الشخص-العملية؛ أي أن المشاعر تجاه مكانٍ ما تتأثر بتجارب وتاريخ الأفراد والجماعات. وتعتمد على سمات المكان المحسوسة والرمزية، والسلوكيات التي حدثت فيه. في حين أن بعض النظريات الأخرى تضيف أبعادًا مختلفة، منها الروابط الأسرية والصداقات.

على أي حال، فإن مفهوم التعلق المكاني يشتمل على عدة مفاهيم أخرى تحته. مثل “الشعور بالمكان” أي تجربة المرء الشعورية في مكانٍ ما بناءً على رمزياته، و”الهوية المكانية” أي تضمين المكان في هوية الفرد أو الجماعة.

ويعتمد الباحثون حول مفهوم التعلّق المكاني أيضًا على مجالات فلسفية أخرى، مثل الفينومينولوجيا أو الظاهراتية. والفينومينولوجيا هي المجال الذي يحاول سبر أغوار التجربة البشرية، وفهم المعاني والرموز التي يتبنّاها البشر. ومن المعماريين المشهورين في هذا المجال، والذي له كتابات خاصة بمفهوم التعلق المكاني، المعماري الفنلندي “يوهاني بالازما”. ويرى يوهاني أن مفهوم البيت مرتبط ارتباطًا وثيقًا بمشاعر الألفة والطمأنينة والأمان التي نشعر بها ونحن أطفال. وتتكون تلك المشاعر بدورها من خلال شعورنا وإحساسنا بلحظات معينة، مثل لحظة وصولنا للبيت بعد يومٍ طويل.

تنويعات التعلق المكاني

يمكن للتعلق بالأماكن أيضًا أن يشتمل على مشاعر سلبية كما أسلفنا، وقد يحدث هذا لأسباب مختلفة. فربما يُدمّر مكان عزيز على الفرد، أو يتغير بشكل دائم. أو قد يكون مكان مهم ما مصدرًا لتجارب سعيدة ومريرة للفرد في الآن نفسه. وفي إحدى الدراسات على سكانِ قريةٍ تم تهجيرهم لبناء بحيرة صناعية، وجد الباحثون أن السكان لا زالوا يشعرون بالفقد بعد 40 عامًا من تهجيرهم.

التعلق المكاني منتجٌ اجتماعي بشكل كبير. فشعور المرء بالتعلق بحديقة أو ميدانٍ ما، قد يكون سببه فعاليات أو حوادث معينة مرتبطة بالثقافة الموجودة. كما أن مشاعره تجاه الأماكن المختلفة تعتمد على البنى الاجتماعية والثقافية التي يجدها فيه. فإذا تمكن فرد أو جماعة ما من تكوين شبكة علاقات قوية ومستقرة في مدينة جديدة، فغالبًا سيؤدي ذلك إلى إضفاء معانٍ حسنة على تلك المدينة. في حين أنه إذا تعرض للمضايقات أو العنصرية أو لم يتمكن من تكوين شبكة معارف، فغالبًا سيكوّن انطباعًا سلبيًا عنها.

اللامكانية

ومن تفرّعات دراسة التعلق المكاني أيضًا ما يسمى باللا-مكانية، أو غياب الانتماء المكاني «Placelessness». ويحمل هذا المصطلح معنيين؛ فقد يعني افتقار الأماكن المختلفة لهوية خاصة بها. قد يجعل هذا الافتقار من أماكن متباعدة متشابهة في الشكل والطبيعة، مما قد يفقد سكانها بأي شعور بتميزها. وهذا ينطبق مثلًا على المناطق “الحديثة” من المدن، والتي لا يبدو فيها أي أثر للطابع المحلّي. إذ يمكن لبعض الأحياء السكنية أو التجارية أن توجد في دبي، أو إسطنبول، أو لندن دون أن يشعر ساكنوها بأي فرق. كما قد يحمل هذا المصطلح معنى فقدان الأفراد لمشاعر التعلق بالأماكن بسبب كثرة التنقل. أو بسبب تجارب سلبية مرّوا بها تجاه الأماكن التي عاشوا فيها. ويرتبط هذا المفهوم الأخير بإشكاليات مثل: اندماج المهاجرين في بلدانهم الجديدة. أو شعور أبناء المهاجرين أو الأبناء مزدوجي الجنسيات بعدم الانتماء لبلدهم الأم، أو لبلدهم الذي هاجر أهلهم إليه. ولذلك، قد يفيد البحث في مثل هذه المجالات في تحديد سياسات الهجرة، والاندماج والعدالة الاجتماعية، ضمن عدة تطبيقات أخرى.

تطبيقات نظرية التعلق المكاني

في عالم متسارع الحركة والهجرة والتنقل، يصبح فهم تعقيدات تعلقنا بالأماكن المختلفة أكثر أهمية. وتشمل تطبيقات البحث حول التعلق المكانيّ دراسة التنقل والهجرة، والأزمات البيئية، والمشادّات بين الفئات المجتمعية المختلفة في بيئة واحدة، والتحديات التي تواجه التخطيط العمراني.

ففي مجال التنقل والحركة والعولمة، يساعدنا البحث حول مشاعر التعلق بالنتائج المترتبة عن كثرة التنقل أو التهجير. كما يمكّننا من تحليل الكيفية التي يتأقلم بها المهاجرون في بيئاتهم الجديدة. وكيف يمكن توفير بيئة آمنة وصحية لأقليات وأعراق مختلفة، لتتعايش فيما بينها وتشعر بالانتماء والتعلق بالأحياء التي يسكنونها. كل ذلك دون أن تفقد هوياتها أو تشعر بأنها في غيتو أو منفى.

كما يمكن للسياسيين ومسؤولي السياسات الوطنية أن يستفيدوا من نظريات التعلق المكاني، لفهم الاضطرابات التي تحدث عند وفود جماعةٍ ما إلى منطقة معينة. مثل وفود السكان السود إلى الأحياء البيضاء في جنوب إفريقيا. ففي مثل هذه الحالة، تلعب التغطية الإعلامية، والسرديات الوطنية دورًا في تأجيج أو تخفيف حدة الشعور بفقدان هوية الأماكن المختلفة.

أما في مجال التخطيط العمراني، فيتيح البحث في التعلق المكاني للسكان أدوات للتفاعل المجتمعي مع خطط التطوير والتخطيط. حيث يصبح للسكان رأيٌ في الخطط الحضرية يحفظ هوية الأماكن ورمزيتها. كما يمكن للإدارات الحضرية أن تستغل تلك الدراسات للحفاظ على منشآت أو أماكن معينة، كرموز ومعالم لها رمزيتها ومعانيها التي يتعلق الناس بها. كما يساعدنا البحث عن علاقة البشر ببيئتهم وتقييمهم لها على فهم ظواهر كشعور الناس بخطر الجرائم حتى لو انخفضت معدلاتها. شاركنا تجربتك في التعلق بالأماكن في التعليقات.

ما هو الإجهاد البيئي؟

هذه المقالة هي الجزء 6 من 9 في سلسلة مقدمة في علم النفس البيئي

في المقال السابق من هذه السلسلة قدّمنا لمفهوم جودة البيئة الحضرية، وكيف أنه مفهوم متعدد الأبعاد لتقييم المدن وجودة المعيشة فيها. التفاعلات البيئية-البشرية تأخذ أشكالًا متعددة ولدى البشر قدرة كبيرة على التأقلم مع بيئاتهم وظروفهم. ولكن التأقلم مع تحديات ومتطلبات البيئة مكلّف على المستوى النفسيّ، والظروف البيئية متدنية الجودة تتطلب أكثر مما قد يحتمل ذهن الفرد. اختلال التوازن بين المتطلبات البيئية وقدرات الإنسان على التجاوب معها هو ما يسمّى في علم النفس البيئي بالإجهاد البيئي. [1]

الضغوطات البيئية، أي العوامل البيئية التي تسبب هذا الإجهاد أو الضغط، يمكن أن تكون حادّة (مثل مستوى التلوث والغبار أثناء العلوق في نفق مروريّ) أو مزمنة (مثل السكن بالقرب من ازدحام مروري)، وهو النوع الأكثر خطرًا على البشر. [2] تميل الضغوط البيئية لأن تكون مزمنة في كثيرٍ من الأحيان لعدم مقدرة الأفراد على التخلص منها أو الابتعاد عنها (قد يكون من الصعب على الساكنين بجانب مطار أو تقاطع مزدحم الانتقال لمسكنٍ آخر على سبيل المثال).

مسببات الإجهاد البيئي

يواجه البشر الضغوطات البيئية (بالمعنى الواسع) على الدوام، وتشهد البيئات المدنية والحضرية ضغوطاتٍ بيئيةٍ أكبر بالطبع. وتعتبر أكثر 5 مُحهدات بيئية دراسةً هي الضوضاء، والازدحام، وتدني جودة المساكن، وتدني جودة الحي، والاكتظاظ السكاني.

الضوضاء

تعرّف الضوضاء بانها أصوات غير مرغوب بها، وتتصف عادةً بكونها صاخبة ومتكررة وطويلة الأمد. يلعب المكوّن النفسي من الصوت (أي كونه غير مرغوب فيها أو خارجًا عن السيطرة مثلًا) دورًا هامًا في اعتباره مصدرًا للضوضاء، كما سبق لنا الحديث في مقال سابق عن جودة البيئة الحضرية.

الضوضاء المزمنة قد تتسبب في التوتر الفسيولوجي وارتفاع ضغط الدم وأمراض القلب. كما أنها تؤثر سلبًا على التركيز والتحفيز؛ فطلاب المدارس الواقعة في أماكن صاخبة (بالقرب من المطارات مثلًا) يعانون من مستويات تركيز أضعف ومن فقدان الرغبة في العمل والدراسة.

الاكتظاظ

الاكتظاظ هو حالة نفسية تحدث حين يشعر المرء بأن عدد الناس الموجودين في بيئته أكثر مما يفضّل، وتتباين هذه الكثافة السكانية المفضلة بين الأفراد وتختلف باختلاف السياقات الاجتماعية والمكانية (سياق وجيز أو طويل الأمد، نوعية النشاط الحاصل، أو مدى عمومية المكان). يحدّ الاكتظاظ من القدرة على إدارة التفاعلات الاجتماعية.

بالإضافة إلى الآثار الفسيولوجية مثل ارتفاع الضغط والقصور الاجتماعي، فإن الاكتظاظ يؤدي إلى الاجهاد النفسي. فالأفراد الذين يشعرون بالاكتظاظ يعانون من القلق والعصبية والتوتر؛ وقد يصل الحال إلى الانعزال المجتمعي «Social Withdrawal»، ومن علاماتها الحدّ من التواصل البصري والتباعد الاجتماعي والعزوف عن اقامة المحادثات.

جودة المسكن

تواجد عوامل الضوضاء والاكتظاظ في البيوت والمساكن يؤثر سلبًا على جودتها. فالعيش وسط بيئة مكتظة سكانيًا ومليئة بالضوضاء كان له نفس التأثير الفسيولوجي من ارتفاع في نسب الضغط وأمراض القلب. ولكن انخفاض جودة المسكن يؤثر أيضًا على النمو العاطفي والسلوكي والذهني للأطفال كما للبالغين.

تحسين ظروف المعيشة والسكن بالمقابل تؤثر إيجابًا على مستويات السعادة والرضا المعيشي بين السكان. وفي المقال التالي سنعود إلى هذا التأثير أثناء حديثنا عن الارتباط المكانيّ.

جودة الأحياء السكنية

هناك العديد من العوامل المكانية التي تؤثر على جودة الأحياء السكنية وقد تتسبب في الإجهاد؛ مثل جودة الخدمات المتوفرة، وفرص التنزه، والازدحامات المرورية، وتوافر المواصلات، وانعدام الصيانة، وانعدام المراقبة البصرية (توافر أعين لترى وتلاحظ ما يجري بالشارع). تؤثر جودة الحي على شعور السكان بالرضا المعيشي والسعادة كما قد تؤثر عليهم بدنيًا وصحيًا. ومن المنطقي اعتبار الارتفاع الملاحظ في نسب التوتر والإجهاد لدى سكان الأحياء الفقيرة ناجمًا عن تعرضهم للمزيد من الضغوطات والموتّرات البيئية.

الازدحام المروري

تتسبب الازدحامات المرورية في نفس الآثار النفسية والصحيّة. كما أن دراسة سلوكيات السائقين تشير إلى أنه كلما ازداد وقت الازدحامات المرورية وزمن الوصول إلى الهدف، كلما ساءت التفاعلات والعلاقات الاجتماعية مع الأهل في البيت. وهذا ما يسمى بتأثير الامتداد «Spill-over Effect»، والذي أشرنا له سابقًا حيث يتسبب تراكم الموتّرات البيئية في سياقٍ ما بآثارٍ سلبية على سلوك وصحة الفرد في سياقٍ مختلف. يتسع الآن مدار البحث والدراسة بخصوص المرور والازدحامات مع توسع المدن ونموها حول العالم، ولأن الأوقات المقضية في المواصلات تزداد عالميًا. ففي أمريكا مثلًا يقضي المرء في المتوسط زمنًا في المواصلات أكثر مما يقضيه في الإجازات.

الآثار غير المباشرة للضغوطات البيئية

قد تتسبب الضغوطات البيئية بآثار صحية ونفسية أخرى بطرقٍ غير مباشرة. فعلى سبيل المثال، قد يؤدي ضعف الخدمات وانخفاض جودة الإدارة المحلية إلى عدم توافر محلات غذائية كبيرة توفّر منتجات طازجة وصحية للسكان ما يخل بنظامهم الغذائي والصحيّ. كما أن عدم توافر الخدمات المطلوبة في مسافة قريبة تجعل من الضروري الذهاب إلى أحياء ومناطق أبعد لإنجاز المهمات المنزلية الضرورية، ما يعني المزيد من الجهد والتوتر على المدى البعيد.

الإجهاد البيئي مفهوم مركب، من شقٍ مكانيّ فيزيائي وشقٍ اجتماعي\إداري؛ فتواجد متنزهات أو مرافق عامة لسكان حيٍ ما لا يعني بالضرورة قدرتهم على الاستفادة بها لممارسة الرياضة أو التسوق على سبيل المثال. فعوامل مثل انعدام الصيانة أو غياب الأمن قد تنفّر السكان من استخدام المرافق المتاحة حتى في حال تواجدها. في المقال التالي نتحدث عن البيئات العلاجية وشروط تحققها، وكيف يمكنها أن تحد من أضرار الموتّرات البيئية.

المصادر:
[1] Environmental Stress, in Environmental Psychology: an introduction; Lina Steg and Judith I. M. De Groot.
[2] للمزيد حول آثار التوتر والقلق المزمنين أنصح بكتاب Why Zebras Don't Get Ulcers، أو حوار روبرت سابولسكي حول الموضوع.

ما هي جودة البيئة الحضرية؟

هذه المقالة هي الجزء 5 من 9 في سلسلة مقدمة في علم النفس البيئي

تستقطب المدن الآن أعدادًا كبيرة من الناس الباحثين عن فرص أفضل للعمل والسكن وحتى للمرح. تعتبر جودة البيئة في المدن ذا أهمية لحياة أولئك الناس. وإذا نظرنا إلى الإسهامات العلمية في مجال الدراسات البيئية-البشرية نجد أن البحث في جودة البيئة الحضرية يكوّن صلب البحث في علم النفس البيئي والجزء الأكبر من الدراسات التجريبية والميدانية.

العديد من الظروف البيئية مثل الضوضاء والحرارة والتلوث الجوي والازدحام قد تكن مصادر ازعاج وقلق وتخفض جودة البيئة الحضرية؛ بينما يمكن لعوامل أخرى مثل البنى التحتية والمساحات الخضراء والمؤسسات الصحية والتعليمية رفع من جودتها.  جودة البيئة الحضرية «Urban Quality Environment»  إذن مفهوم متعدد الأبعاد.

عوامل الإجهاد البيئي

تُعرف العوامل البيئية المؤثرة سلبًا بالضغوطات البيئية. وتؤدي إلى الإجهاد البيئي «Environmental Stress»، تتسبب هذه الضغوطات في نتائج عدة، كالمشاكل الصحية والمشاعر السلبية والسلوكيات غير الاجتماعية.

ترتبط العوامل البيئية المحيطة بالأفراد بكيفية إدراكها، فتصبح تلك العوامل مصدرًا للإجهاد. إذا اعتبرها الفرد نشوزًا في بيئته على سبيل المثال. حيث يقوم الناس بتقييم الظروف المحيطة بهم على مستوى الحطورة والضرورة وإمكانية توقعها وإمكانية التحكم بها. ما يؤثر على شعورهم بالانزعاج منها أو اعتبارها مصدرًا للإجهاد والقلق. فعلى سبيل المثال، إذا اعتبر الفرد مصدرَ ضوضاءٍ ما (مثلًا أعمال صيانة للطريق أو صوت لعب أطفال في مسجد) غيرَ مهم أو خطرًا أو غير ضروري، فسيشعر بمستويات أعلى من الانزعاج والإجهاد بسببه عمّن ينظر إلى مصدر تلك الضوضاء بشكلٍ أكثر إيجابية (باعتبارها ضرورية ومؤقتة على سبيل المثال).

تعتبر مستويات التيقظ «Arousal» والاجهاد «Sensory Overload» أبرز آليات الاستجابة للمؤثرات البيئية السلبية. حسب قانون يركيس-دودسون، فالمستويات شديدة الانخفاض او الارتفاع من التيقظ تؤثر سلبًا على الأداء (بالشعور بالضجر في حالة الانخفاض والقلق في حالة الارتفاع)، بينما يكون الأداء مثيرًا ومثاليًا في مستويات متوسطة ومثلى من التيقظ البدني والعقلي.

في البيئات الحضرية يدفع تواجد عدة ضغوطات بيئية إلى الإجهاد. وحسب نظريات الإجهاد فإن استمرار تواجد الضغوطات يحتاج إلى جهد عقلي متواصل لمواجهة الضغط، ما يؤدي إلى مستويات  تيقظ مرتفعة على الدوام. وفي حال استمرار الإجهاد والتوتر لفترات مطولة يتطور الأمر إلى إرهاقٍ عصبي يقلص من القدرات الإدراكية والعقلية. وفي تلك الحالة يحتاج الفرد إلى أواليات للتعامل مع طاقاتهم وقدراتهم المنهكة، عن طريق الاهتمام والتركيز فقط على التعاملات والمعلومات المهمة وتجاهل الباقي.

في حالة الوصول إلى مرحلة الإرهاق العصبي فإن حتى أصغر المعاملات التي تتطلب بعض التركيز والجهد (مثل الحديث مع الجيران أو اللعب مع الأولاد) قد تكون غير محتملة. ولذلك ففي البيئات الحضرية تكثر حاجة الأفراد للانعزال.

المدينة كمتنفسٍ صحي

المدن ليست فقط مصادرَ للضغط والقلق، بل توفر أيضًا العديد من المتنفسات. فعلى سبيل المثال، يمكن لتخطيطٍ صديقٍ للمشاة «Pedestrian-Friendly» أن يحفز من تجارب التمشية للسكان. كما يمكنه أيضًا توفير تجارب يومية محببة للناس، كمشاهد الخضرة والناس ولعب الأطفال وغيرها من الأنشطة الدائرة في الطرق. ناهيك عن أن التصميم الصديق للمشاة يقلّص من تواجد السيارات في المناطق السكنية ما يضفي شعورًا بالأمان لدى السكان. وقد تحدثنا في المقالات السابقة عن فوائد المساحات الخضراء على سكان المدن. ونضيف الآن أن توافر العناية للمسطحات الخضراء والحدائق وصيانتها يخلق المزيد من الفرص للتعاملات الاجتماعية مع الآخرين، ويزيد من الشعور بالأمن والاهتمام أيضًا.

تعتبر بعض المناطق الحضرية أيضًا ملاذًا نفسيًا، أي أنها تساهم في خفض نسبة الضعط والإرهاق الذهني. فعلى سبيل المثال، يمكن لتواجد النباتات والمظاهر الجمالية عامةً أن تخفض معدلات الإرهاق الذهني (ما قد يساهم أيضًا في خفض معدلات العنف الأسري أحيانًا!). كما أن تواجد علامات طبيعية ومدنية متنوعة في المحيط ينعكس إيجابًا على تجربة السكان. فوجود منشأة كمتحفٍ أو دار عبادة على سبيل المثال ذات تصميم متسع ومتناسق (أي تسمح بالتجول والاستكشاف وتحتوي على علامات يسهل العثور عليها) قد يصاحب تأثيرًا صحيًا على الشعور بالضغط والإجهاد.

دراسة وتقييم جودة الحياة في المدن

يعرّف مفهوم الرضا السكنيّ «Residential Satisfaction»  بأنه الشعور بالرضا الناتج عن العيش في مكان (منزل، حي، أو بلدة). وقد طُوّر هذا المفهوم ليكون أكثر شمولًا، وبقدرٍ ما أكثر موضوعية، عن طريق شموله للمناحي الذهنية والسلوكية والشعورية لدى السكان.

يمكن تقييم الجانب الذهني للرضا السكني باعتبار الجوانب التي يراها الأفراد متعلقةً بجودة حياتهم بشكلٍ عام. أي الجوانب التي يدركون تأثيرها عليهم سلبًا أو إيجابًا. نعيد التذكير بأن انطباع الفرد عن المؤثرات المحيطة به قد يجعلها أشد توتيرًا. يستعمل المختصون في الدراسات الحضرية عدة مقاييس ومعايير نفسية لقياس هذه الانطباعات، ويحاولون مواءمتها في بيئات ثقافية متعددة.

يقاس الجانب السلوكي بشكلٍ رئيسي باعتبار التنقل السكاني، أي تغيّر سكن الفرد، باعتباره مؤشرًا على عدم الرضا السكني. على سبيل المثال، أشارت دراسة على 12 دولة أوروبية أن التكدس في غرف المنازل والمساكن كان مؤثرًا مباشرًا على التنقل السكاني. وأثرت عوامل أخرى كالأعطال المنزلية والضوضاء ومعدلات الجريمة على التنقل عبر آثارها السلبية على رضا السكان. الجانب الثالث، وهو الجانب الشعوري، سيكون عنوانًا لمقال لاحق حين نبدأ بالحديث حول نطاق الإدراك البيئي.

تقييم جودة المدن معماريًا

قد يكون مناسبًا في سياق الحديث عن مستويات الرضا السكانية وكيفية قياسها التطرق إلى تقييم الأماكن والمناطق الحضرية من وجهة نظر معمارية، وتحديد قيمتها ومدى رضا ساكنيها ومستخدميها عنها. تعتبر دراسة «Beyond Location» البريطانية رائدة في هذا المجال. حاولت هذه الدراسة معرفة ما يجعل مكانًا ما مفضلًا أو مكروهًا، وكيف يؤثر تفضيل الناس أو كرههم لمكان ما على سلوكياتهم نحوه؟ قامت هذه الدراسة بتحليل أكثر من 19000 مكانًا عامًا في 6 مدن بريطانية، باستعمال عدة وسائل لتحليل كمية ضخمة من البيانات. وتعتبر هذه الدراسة أكبر دراسة تجريبية من نوعها في هذا المجال.

أثارت هذه الدراسة العديد من النقاشات حول مستقبل التخطيط العمراني. إذ أشارت إلى أن العديد من مبادئ التخطيط العمراني الجديد «New Urbanism» غير مفضلة. وأن النمط التقليدي في التصميم والتخطيط ليس بذلك السوء. لكن تطرقت الدراسة لما هو أبعد من النمط المعماري، إذ حددت 8 مبادئ ترفع من قيمة مكانٍ ما بالنسبة لساكنيه ومرتاديه، وكانت بعض نتائجها مذهلة بالفعل.

وجدت الدراسة على سبيل المثال أن وفرة الحدائق والمسطحات الخضراء لا يرتبط بالضرورة بارتفاع قيمة المكان. إذ أن طبيعة المساحة الخضراء ومدى صيانتها كانا عاملين مهمين. وجدت الدراسة أيضًا أن السكان يشعرون بالرضا أكثر في  الأحياء متعددة الأنشطة (أحياء يتوفر فيها أماكن للسكن والتسوق والترفيه والعمل) عن الأحياء السكنية المحضة (كما هو مشهور في تخطيط الضواحي غربيًا). السكن بالقرب من معلمٍ ما وبالقرب من المنشآت التعليمية كان له أثر كبير في رفع تقييم الأماكن المحيطة وقيمتها.

المصادر:
[1] Urban Environmental Quality, in Environmental Psychology: an introduction; Lina Steg and Judith I. M. De Groot.
[2] Environmental Psychology – University of California, Irvine
[3] Beyond Location

مقدمة لعلم النفس البيئي: النظريات والمجالات

هذه المقالة هي الجزء 2 من 9 في سلسلة مقدمة في علم النفس البيئي

في المقال السابق بدأنا بتعريف علم النفس البيئي، المجال الذي يدرس التفاعل بين الأفراد والبيئة الطبيعية والحضرية. ما يعني أن علم النفس البيئي يستكشف تأثير البيئة على التجربة والسلوك والصحة؛ بالإضافة إلى تأثير الأفراد على البيئة. وقدمنا نبذة تاريخية مختصرة لتاريخ دراسة هذه العلاقة المتبادلة بين الطرفين: البشر والبيئة. في هذا المقال نركز على هذا خصائص ونظريات علم النفس البيئي التي تحكم البحث فيه. وبعد استعراض الخلفيات النظرية لهذا المجال المثير، سننتقل في المقالات التالية للتطبيقات العملية في المجالات المختلفة التي يبحثها.

خصائص علم النفس البيئي حاليًا

1- النهج التفاعلي «Interactive Approach»

كما يشير التعريف المذكور أعلاه، فإن محور اهتمام علم النفس البيئي هو التفاعل بين البشر وبيئتهم؛ كما يستكشف كيفية تأثير البيئة على السلوك والعوامل المؤثرة على السلوك التي يمكن أن تساعد لتحسين جودة البيئة. على سبيل المثال فإن توفر البنية التحتية للنقل العام والخاص وجودتها يؤثران على مستويات استعمال السيارات، والتي بالتبعية تؤثر على شدة مشاكل بيئية كتلوث الهواء والاحتباس الحراري. بالمقابل فإن جودة البيئة والطبيعة المحيطة تؤثر على البشر وسلوكياتهم ومزاجهم سلبًا (الضوضاء في المدن قد تؤثر على التركيز وتتسبب بالأمراض مثلًا) أو إيجابًا (التعرض للطبيعة يحمل فوائد صحية ونفسية). ولذلك فإن البشر مرتبطون ببيئاتهم بعلاقة ديناميكية متبادلة.

2- التعاون عبر التخصصات

يعمل الكثير من علماء نفس البيئة في بيئات متعددة التخصصات «Interdisciplinary» ويتعاونون مع باحثين من مجالات أخرى قد توفر وجهة نظر جديدة حول الظاهرة محل الدراسة، ويمكن لتلك المجالات مشتركة أن توفر تصورًا شاملًا حول القضية محل البحث. كما أشرنا في الاستعراض التاريخي السابق، فإن هذه المشاركة متعددة التخصصات تشمل ثلاث مجالات بالدرجة الأولى؛ هي العمارة والجغرافيا، علم النفس الاجتماعي والإدراكي، وعلوم البيئة.

3- النهج الموجه نحو المشكلات

لا يقوم علم النفس -على غرار علوم أساسية أخرى- بالأصل على البحث العلمي المجرد، بل يسعى في الغالب لعلاج مشاكل حياتية واقعية. ولكن هذا لا يعني أن علم النفس البيئي غير مهتم بالتنظير، فكما سنرى لاحقًا فإن جزءًا كبيرًا من هذا العلم موجه نحو وضع الفرضيات واختبارها بغرض سبر وشرح وتوقع التفاعلات البشرية-البيئية. لكن لتطوير النظريات غايةٌ أكبر هي تحديد أكثر الحلول فاعلية للمشاكل الواقعية.

يدرس علم النفس البيئي التفاعل البشري-البيئي على مستويات متباينة، من البيئات الصغيرة كالأحياء والبيوت مرورًا بالمدن وانتهاءً بالكوكب كله. والتحديات الموجودة في كل مستوىً قد تخضع للدراسة، بدءًا بتحديات إعادة التدوير وتوفير الطاقة مرورًا بالحفاظ على التنوع البيولوجي في بلدٍ ما وانتهاءً بوضع استراتيجيات مكافحة تغير المناخ.

4- تعدد المناهج

يستخدم علم النفس البيئي نفس المناهج الوصفية والكمية التي تتبعها باقي التخصصات النفسية. ولكن يتمتع علم النفس البيئي بتعدد نماذج البحث «Research Paradigms»، كلٌ بنقاط الضعف والقوة الخاصة بها. يحاول علماء نفس البيئة إذن تكرار الدراسات والأبحاث باستعمال مناهج بحث متعددة لتلافي قصورات بعضها البعض، وبالتالي تحسين مصداقيتها الداخلية والخارجية.

نظريات علم النفس البيئي

كما أن مناهج البحث في العلوم الإنسانية متداخلة بطبيعتها، فكذلك علم النفس البيئي. بالإضافة إلى أنه يتبنى نماذج عامة تتبنى أصلًا تداخل المناهج والعوامل والمجالات. والنموذج -أي الإطار العام الذي يشتمل على فرضيات ومسلمات تحكم البحث العلمي حسب توماس كون- السائد لدى الباحثين هو النموذج الاجتماعي البيئي، والذي يعتبر بديلًا للفرضيات الحتمية. وهو الذي يحكم نظريات علم النفس البيئي المختلفة.

النموذج الاجتماعي-البيئي

هذا النموذج -ويسمى أحيانًا بالنموذج البيئي «Ecological Paradigm»- هو النموذج السائد في المجال. وقد نشأ لمحاولة فهم العلاقة الديناميكية بين العوامل البيئية والفردية بشكل أكثر عمقًا من النظريات الحتمية الأخر، إذ يحاول الوصل بين النظريات السلوكية -التي تركز على تعاملات على مستوى أصغر- وبين النظريات الأنثروبولوجية. النموذج الاجتماعي البيئي «Social Ecological Paradigm» أقل حتمية من النظريات والنماذج البيولوجية أو السيوكولوجية ويربط السلوك البشري بالبيئة والثقافة بشكلٍ أكبر.

على سبيل المثال، كان بعض الباحثين قد افترضوا بناءً على عدة أبحاث أن المجاورة المكانية تزيد فرص إقامة العلاقات والصداقات بين الناس بشكل مطّرد، وقد استعرضنا إحدى الدراسات المؤسسة لهذه الفرضية في المقال السابق. ولكن حين أعيدت هذه الدراسة على بيئات مختلفة، حيث السكان مختلفون طبقيًا وإثنيًا وليسوا طلابًا وزملاء في نفس الجامعة، وجد الباحثون أن القرب والمجاورة لم يكونا بذلك التأثير الذي افترض من قبل. حيث كانت عوامل مثل التنوع العرقي ومدى حاجة الجيران إلى المساعدة من الآخرين وتوفر الانترنت تقلص من تأثير المجاورة والاحتكاك المتكرر. وهكذا فإن النموذج الاجتماعي-البيئي يحاول وضع النظريات السيكولوجية المختلفة في سياقات أكبر.

نظرية النُظُم

قد يبدو جليًا الآن أن علم النفس البيئي لا يبحث -أو حتى لا يمكنه أن يبحث- عن حلول وإجابات اختزالية ومبسطة، وبدا هذا أكثر وضوحًا خلال استعراض النموذج الاجتماعي البيئي أعلاه.  لذلك يعتمد علماء نفس البيئة أيضًا على «نظرية النظم – Systems Theory» لدراسة هذه العلاقة المعقدة في إطار النموذج السابق؛ وبالتحديد على نموذج النظام المفتوح. إذ يُستعمل هذا النموذج في دراسة البيئة والمجتمع -كما يستعمل أيضًا في علم الأحياء والإدارة والاقتصاد وغيرها- وتحليل ما يحدث حين تضطرب بيئة أو نظام ما (ما يؤدي في حالة دراسة البيئة إلى الضغط النفسي والفسيولوجي).

على سبيل المثال، فإن تعرض الفرد لمدخلات أو لمعطيات كثيرة قد يتسبب له بالضغط والإجهاد. ولذلك ففي المدن الكبيرة تتسبب أعداد البشر وكثافتهم في الإجهاد للسكان، فيحاولون موازنة نظامهم اليومي بتقليل عدد معارفهم وارتباطاتهم الاجتماعية لكي لا يُجهدوا بتفاعلات اجتماعية كثيرة أو غير مهمة، وفي حال الاضطرار للتعامل مع الغرباء في الشارع فإن الناس تحاول اختصار اللقاء قدر الإمكان نظرًا لانشغالهم وتعدد ارتباطاتهم.[1]

أدى البحث في نظرية النظم أيضًا إلى تطوير «نظرية بيئات السلوك – Behavior Settings Theory»، والتي تقول بأن سلوك الأفراد يتأثر بالبيئة والمعطيات الموجودة بها أكثر من من تأثره بالسمات الشخصية للفرد. ويعد رائدا هذه النظرية هما “روجر باركر» وتلميذه “آلان ويكر»، والذان درسا ميل النظم المفتوحة للتوازن بشكل تلقائي لضمان استمرارها. فحاجة الأنظمة (كالمدارس أو الكنائس مثلًا) للبقاء متماسكة تفرض على أفرادها أنواعًا معينة من السلوك، فطلاب المدارس وروّاد الكنائس الأصغر يشتركون في أنشطة أكثر لكي تتمكن المؤسسة نفسها من الاستمرار.

مناهج البحث

كما ذكرنا فعلم النفس البيئي يتبنى مناهج البحث الكمية والنوعية على حد سواء. فالباحثون يقومون بالاستبيانات، والتجارب المعملية، ودراسات الحالات والدراسات الميدانية. بالإضافة إلى ذلك ففي بعض الأحيان يكون من الصعب بل المستحيل دراسة بيئة ما لضخامتها وكثرة عواملها وأفرادها، فيقوم الباحثون بتصنيع محاكات حاسوبية ومجسمات تمكنهم من تحليل بيئةٍ ما حاسوبيًا، أو تتيح للمشاركين في دراسةٍ ما اختبار بيئة افتراضية وتسجيل انطباعاتهم عنها على سبيل المثال. وكما سنرى لاحقًا فيمكن حتى للمعماريين والمخططين استخدام هذا الأسلوب لدراسة التصميمات وآثارها الواقعية.

مجالات علم النفس البيئي

يمكننا فرز مجالات علم النفس البيئي إجمالًا إلى ثلاث نطاقات. النطاق الأول هو البحث في العوامل البيئية المؤثرة سلبًا وإيجابًا على التجربة والصحة والسلوك، والوسائل الممكنة لتحسين الراحة والصحة للبشر عن طريق تعديل البيئة. يشمل هذا النطاق مواضيع مثل تقييم الخطر «Risk Assessment» والتعامل معه، والفوائد الصحية للطبيعة، وجودة البيئة الحضرية والمدن، وآثار العوامل البيئية على جودة ومستوى المعيشة.

النطاق الثاني هو «الإدراك البيئي – Environmental Cognition»، أي كيف يدرك البشر بيئاتهم المباشرة ويتفاعلون معها. يشمل البحث في هذا المجال مواضيع مثل الهوية والشخصية باعتبارها عملية بيئية، كيف يقيّم الناس بيئاتهم ويتصورونها؟ وكيف تتجلى آثار البيئة في الفرد، والذي بدوره يتفاعل مع تلك الآثار بناءً على إدراكه وملاحظته لها؟

يختلف إدراك الفرد للبيئة عن إدراكه للأشياء. فبينما يتطلب إدراك موضوعٍ ما ذاتًا مُدركة، فإن إدراك البيئة يتطلب  ذاتًا مشاركة. فإدراك البيئة التي تحيا فيها يتطلب الفعل والحركة، ولا يقتصر على الحواس الخمس. كما يشمل المشاعر والانطباعات والقيم التي يحملها الفرد تجاه بيئته. تساعد نظريات الإدراك البيئي في وضع مخططات أكثر انسيابية ووضوحًا للمدن كما تمنح الباحثين وسيلة لدراسة المجتمع طبقيًا إذ يختلف إدراك كل طبقة اجتماعية للمدينة على سبيل المثال.

النطاق الثالث يتضمن دراسة السلوكيات البيئية، بما فيها السلوكيات الصديقة للبيئة، وعلاقتها بالقيم والأعراف المجتمعية، وكيف يرتبط البشر ببيئاتهم «Place Attachment»، وكيف يحفز -أو يعيق- ذلك كله المشاركة في سلوكيات ونشاطات صديقة للبيئة وأيضًا دراسة عمليات التغيير الاجتماعي والبيئي.

علوم النفس والأعصاب المعمارية

هناك مجال ناشئ داخل علم النفس يشتغل على دراسة تأثير التفاصيل المعمارية على النفس والدماغ، مثل أثر الواجهات وارتفاع الأسقف والإضاءة على التركيز والمشاعر وغيرها. وعلى الرغم من بدء ظهور مؤتمرات ومراكز تدعم هذه الأبحاث [2ٍ]، باعتبارها توفر مادة نظرية لتصميمٍ أفضل للمكان والحيز، بالإضافة إلى توفر بعض الدوريات والمجلات المهتمة بمثل هذه الأبحاث، فيبدو أنها  لا تزال غير منظمة إلى حد كبير، ناهيك عن إمكانيات تطبيقها عمليًا بشكل علمي على نطاقٍ واسع.

بهذا نكون قد استعرضنا سريعًا أهم خصائص ونظريات علم النفس البيئي بالإضافة إلى مجالاته البحثية. في المقالات التالية سنقوم بعرض بعض التطبيقات العملية لهذه المجالات، لنرى كيف يمكن لها الفرع من علوم النفس والتصميم أن يحسّن من جودة بيئاتنا الطبيعية والحضرية على حدٍ سواء. وسنبدأ بالحديث عن النطاق الأول لعلم النفس البيئي: وهو العوامل البيئية المؤثرة سلبًا وإيجابًا على الصحة والسلوك والتجربة البشرية وسنستهلها بالحديث عن التخطيط العمراني المحب للبيئة، أو ما يسمى بالبايوفيليا.

المصادر: 
[1] Stanley Milgram, The Experience of Living in Cities 
[2] على سبيل المثال: NeuroAU، وأيضًا Centre for Conscious Design 
[3] Environmental Psychology: an Introduction
[4] Environmental Psychology, Daniel Stokols

علم النفس البيئي: نبذة تاريخية عن علاقة العمران بالنفس

هذه المقالة هي الجزء 1 من 9 في سلسلة مقدمة في علم النفس البيئي

كيف يتفاعل البشر مع بيئتهم؟

هل حدث من قبل أن ذهبت إلى مكانٍ ما وتوقفت منبهرًا من منظره وما أوجده من مشاعر بداخلك؟ لماذا قد نشعر بالملل إذا مشينا بجانب بعض المباني ذات الواجهات المغلقة؟ ما الذي يجعل بعض الأماكن والساحات تنبض بالحياة وبعضها الآخر موحشًا؟ هل يمكننا تحليل شخصية شخص ما من غرفته ومقتنياته؟ وما هي أضرار الازدحام على الصحة وكيف نصمم الأحياء السكنية لتكون آمنة وأيسر للسير؟ هذه الأسئلة تقع ضمن مجال علم النفس البيئي «Environmental Psychology»، و هو علم يدرس تأثير البيئة إجمالًا على التجربة والسلوك والصالح البشري العام، بالإضافة إلى تأثير الأفراد (والمجتمعات) على البيئة. وتعدد مجالاته يجعله مجالًا مثيرًا للاهتمام والبحث إذ أنه يتعلق بالكثير من القضايا التي نعيشها بشكل يومي.

البدايات: علم النفس “المعماري”

ظهر علم النفس البيئي رسميًا كفرع من علوم النفس خلال فترة الستينات. إلا أن المصطلح ظهر لأول مرة في النصف الأول من القرن العشرين، حين درس «ويلي هيلباخ» أثر عوامل بيئية مختلفة مثل اللون والشكل والشمس والقمر على أنشطة بشرية مختلفة، وقسّم البيئة إلى ثلاث نطاقات: البيئة والمجتمع والعمران (أو الحضر). اعتقد هيلباخ أن كلًّا من هذه النطاقات يؤثر على العقل البشري عبر وسيلتين: الأثر المباشر للمعاني والرموز (التجارب المباشرة للبيئة)، والأثر غير المباشر عن طريق التأثيرات الفسيولوجية على الجسم والدماغ.[1]

في هذه الفترة كانت الأبحاث التي تستكشف العلاقة بين البيئة والنفس مبعثرة إلى حد كبير، ولم يكن معترفًا بها كمجال بحثيّ مستقل. بحلول أربعينات القرن العشرين بدأت الدراسة المنهجية للمكان والحيز كما ظهرت العديد من الدراسات حول إضاءة المنازل وأثرها على الصحة وسلوكيات الأطفال في البيئات الطبيعية وغيرها. وحيث كانت معظم تلك الدراسات تركز على الكيفية التي تؤثر بها البيئات الحضرية بالأخص على إحساس وسلوكيات الناس، فقد سُميت بـ«علم النفس المعماري»، للتمييز بينها وبين دراسات علم النفس الأكثر تقليدية.

بيئة حضرية فعّالة

في تلك الفترة كان التركيز الأكبر على البيئة المبنية أو الحضرية، مثل المعمار والتقنية، وآثارها على النفس. وكان هذا التركيز على البيئات المبنية مدفوعًا بشكل كبير بالمناخ السياسي والاجتماعي في تلك الفترة. حيث كانت العمارة الحديثة تحاول معالجة تحديات ما بعد الحرب العالمية -مثل توفير الإسكان المناسب للسكان. ولهذا نشأت أسئلة حول الكيفية المثلى لبناء المنازل والمكاتب والمستشفيات لتخدم مستعمليها بأكبر فاعلية ممكنة، وكيف يمكن للمؤثرات البيئية (كالحرارة، والرطوبة، والتكدس والازدحام) التأثير على الأداء البشري وبالتالي كيف يمكن التحكم بها.

البحث الاجتماعي في المعمار

بدأت تظهر ولو بشكل طفيف أيضًا دراسات اجتماعية ونفسية حول الأثر الاجتماعي للحيّز، ـ لعل أبرزها الدراسة الرائدة لعالم النفس «ليون فيستنغر» التي أظهر فيها العلاقة بين المجاورة المكانية واحتمالية تكوين علاقات اجتماعية طويلة المدى، وهو ما أسماه بأثر المجاورة «Proximity Effect». أي أن الناس يميلون لإقامة علاقات اجتماعية أكثر مع الذين هم أقرب لهم فيزيائيًا. درس «فستنغر» سكنًا طلابيًا بمعهد إم آي تي ولاحظ أن الطلاب الذين يعيشون في غرف بجانب درج المبنى كانت لديهم علاقات اجتماعية أكثر مع باقي السكان حيث يحتكون بهم بشكل أكثر تواترًا، كما أنه كلما كانت غرفتان أقرب لبعضهما زادت فرصة ساكنيهما لتكوين صداقة.

بناءً على أبحاثه حول سيكولوجية الجماعات والانتماء، كان فيستنغر يطالب المعماريين أيضًا بأخذ الاحتياجات الاجتماعية للسكان ورغبتهم في الانتماء قيد الحسبان أثناء تصميم المناطق السكنية.[2] توالت في الفترة التالية، وبالأخص منذ الستينات، الدراسات حول البعد الإنساني في التصميم والتخطيط العمراني، مثل دراسات «كيفن لينش» عن “صورة المدينة” و«روبرت سومر» حول المساحات الشخصية ونظرية «أوسكار نيومان» حول «المساحات الآمنة – Defensible Space» لخلق أماكن أكثر أمنًا وسلامة.

علم النفس البيئي والاستدامة

الفترة التالية لنمو مجال علم النفس البيئي بدأت في الستينات، حين بدأ العالم بإدراك المشاكل والأخطار البيئية المحيطة. ومن هنا ظهرت الدراسات حول مشكلة الاستدامة ودراسة وتغيير السلوك البيئي لخلق بيئة مستدامة وصحية. شملت تلك الدراسات في بداياتها مشاكل مثل تلوث الهواء والتلوث الضوضائي، ومن ثم توسعت لتشمل مباحث كاستهلاك الطاقة ودراسة المخاطر المرتبطة بتقنيات الطاقة. في الثمانينات بدأت بالظهور أيضًا الدراسات حول جهود تحفيز الحفاظ على البيئة والتوعية المجتمعية بالسلوكيات الصديقة للبيئة. وتصاعد هذا التوجه منذ بدايات القرن الحادي والعشرين، حيث صار من الواضح أن الأزمات البيئية كالتغير المناخي والتلوث والتصحر تهدد الصحة والأمن الغذائي والمائي للعالم أجمع. وبالتالي فقد تم استدعاء مفهوم للاستدامة يشمل الصالح العام البيئي والمجتمعي والاقتصادي، ويرى بعض الباحثين أن علم النفس البيئي تطور بمرور الزمن إلى “علم نفس الاستدامة” على المستويات الثلاث.

كيف نصمم مدنًا أكثر جاذبية؟

بجانب دراسة البيئة والاستدامة والطاقة التي توسعت مع اتساع الوعي بالازمة المناخية، بدأت أيضًا دراسة الكيفية التي يتفاعل بها البشر مع بيئاتهم الحضرية، وهو ما يسمى في بعض الأحيان بعلم النفس الحضري «Urban Psychology» والذي كان رائده هو المخطط الأمريكي «وليام و. وايت»،  الذي يلقب أحيانًا بأبو علم النفس الحضري.[3] كان «وايت» مهتمًا بمعرفة السبب الذي يجعل بعض الميادين والشوارع والحدائق مليئة بالناس وجاذبة للنشاط البشري، بينما تكون أخرى شديدة الوحشة ومنفرة للنشاط البشري. ولذلك قام بتصوير وملاحظة شوارع وميادين وحدائق نيويورك ليحاول تحليل العوامل التي تجعل الناس يتجمعون في مكانٍ ما.

كانت من أبرز نتائج وايت -والتي تبدو شديدة البداهة حد الضحك ربما- هي أن الناس يجلسون حيث يتوفر لهم مكان للجلوس. فلدهشة وايت نفسه كان العديد من الحدائق والميادين لا يوفر حتى مقاعد للجلوس والاستمتاع بالهواء والشمس. هذا إن لم يتم وضع موانع ضد جلوسهم حول بعض المباني؛ كما تفعل بعض الشركات والمؤسسات حين تحاول طرد المشردين والشحاذين -ومن أسماهم وايت “غير المرغوب فيهم” «Undesirables»- عن طريق تسوير مبانيها وجعل محيطها غير جذاب؛ وتكون النتيجة أن الناس يبتعدون عنه ويصبح موحشًا في حين أن أولئك غير المرغوب فيهم يحتلونه. لقد لخص وايت نتائج دراساته بقوله “أنه من الصعب جدًا تصميم مكانٍ غير جذاب للناس. ما يستحق الدهشة هو كيف يتم ذلك باستمرار”.[4]

نطاق علم النفس البيئي حاليًا

لعلنا الآن نتساءل عن حدود ونطاق علم النفس البيئي، هل هو لتصميم مبانٍ أكثر فاعلية وراحة، أم للبحث حول قضية الاستدامة ودعم مصادر الطاقة البديلة؟ هل يدرس البشر أم الحضر؟  وما هي بالضبط البيئة التي يدرس النفس البشرية ضمنها؟ الحقيقة هي أن علم النفس البيئي مجال متعدد النطاقات «Multi-disciplinary»، ويتصف بمقاربته متعددة المجالات للقضايا محل البحث وتعدد مناهجه، فهو يتداخل بشكل صميميّ مع الهندسة المعمارية وعلوم البيئة والسياسات العامة، بالإضافة إلى التبعات المجتمعية لها كالآثار الصحية والنفسية. وبالمقابل يبحث أيضًا كيف يؤثر الناس في بيئاتهم: كيف يجعلونها أكثر ذاتية، كيف يعبرون عن أنفسهم وانتماءاتهم، وكيف يدفعهم ذلك إلى الحفاظ على سلامة محيطهم وبيئتهم على سبيل المثال.

سنتحدث في مقالاتٍ تالية عن تطبيقات معاصرة لعلم النفس البيئي وأثرها في البيئة الحضرية والسلوك البشري، ولكن يكفينا في هذه الفقرة أن نبين أن العلاقة المتبادلة بين البشر وبيئتهم (حضرية كانت أو طبيعية) معقدة ومتداخلة للغاية. ولعل هذا سبب في أن علم النفس البيئي يتسم بالبحث بدافع العثور على أكثر الحلول فاعلية لمشاكل حاضرة بالفعل. إضافة إلى أن علم النفس البيئي يدرس هذه العلاقة على مستوياتٍ عدة، ابتداءً بمشاكل النفايات وإعادة التدوير على مستوى الأحياء مرورًا بالتخطيط السليم والصحي للأحياء السكنية ومناطق العمل على مستوى المدن والدول وانتهاءً بدراسة التقنيات الجديدة لمواجهة تغير المناخ على مستوى الكوكب كله.

ولذلك أيضًا، فإن هناك عدة مجالات تبحث هذه العلاقة وتتداخل مع بعضها البعض على عدة مستويات وفي عدة نطاقات.  فبجانب علم النفس البيئي، هناك على سبيل المثال أيضًا علم الاجتماع الحضري «Urban Sociology» وعلم البيئة الحضري «Urban Ecology» وعلم الظواهر أو الفينومينولوجيا المعمارية «Architectural Phenomenology»، وكلها لديها دوريات ومجلات متخصصة وبعضها يدرّس في أقسام جامعية مختصة.


المصادر:

  1. Environmental Psychology : an Introduction
  2. Blueprints for a History of Environmental Psychology
  3. Architecture and Group Membership, Leon Festinger
  4. Project for Public Spaces
  5. Social Life of Small Urban Spaces
Exit mobile version