لم يدرس المعماريون التعلق المكاني وما أثر التعلق بالأماكن علينا؟

هذه المقالة هي الجزء 9 من 9 في سلسلة مقدمة في علم النفس البيئي

يتعلّق البشر بطبيعتهم بالأماكن. وفي إطار علم النفس البيئي، فإن «التعلق المكاني – Place Attachment»، هو الروابط الشعورية التي يشعر بها البشر تجاه الأماكن المختلفة. وتختلف الأماكن ومعانيها التي يتعلق بها البشر. فقد تكون بالغة الصغر كشجرة في حديقة اعتاد أحدهم أن يلعب حولها وهو طفل. أو حتى فكرة مجردة مثل مفهوم الوطن بالنسبة للاجئين أو المغتربين.

يهتم باحثو علم النفس البيئي بهذا التعلق، لأهميته تجاه جودة الحياة السكانية وصحتها. فالتعلق المكاني يتراوح بين المشاعر الإيجابية كالألفة والطمأنينة في حالة البيت، والمشاعر السلبية كالحزن أو الفقد في حال خسارة البيت. وقد تتسبب خسارة مكانٍ ما إلى إصابة المتعلّقين به بالجزع.

وقد ركزت نظريات التعلق المكاني على ما يكوّن ويحجّم من مشاعر التعلق المكاني، وكيف تتداخل مع مفاهيم كالانتماء والهوية المكانية. فمثلا، يدرس بعض الباحثين العلاقة بين شعور الناس بالانتماء إلى مكانٍ ما، ومدة بقائهم فيه.

نظريات التعلق المكاني

تحاول عدة نظريات تحديد مكونات التعلق المكاني. وإحدى هذه النظريات تحددها بثلاثية المكان-الشخص-العملية؛ أي أن المشاعر تجاه مكانٍ ما تتأثر بتجارب وتاريخ الأفراد والجماعات. وتعتمد على سمات المكان المحسوسة والرمزية، والسلوكيات التي حدثت فيه. في حين أن بعض النظريات الأخرى تضيف أبعادًا مختلفة، منها الروابط الأسرية والصداقات.

على أي حال، فإن مفهوم التعلق المكاني يشتمل على عدة مفاهيم أخرى تحته. مثل “الشعور بالمكان” أي تجربة المرء الشعورية في مكانٍ ما بناءً على رمزياته، و”الهوية المكانية” أي تضمين المكان في هوية الفرد أو الجماعة.

ويعتمد الباحثون حول مفهوم التعلّق المكاني أيضًا على مجالات فلسفية أخرى، مثل الفينومينولوجيا أو الظاهراتية. والفينومينولوجيا هي المجال الذي يحاول سبر أغوار التجربة البشرية، وفهم المعاني والرموز التي يتبنّاها البشر. ومن المعماريين المشهورين في هذا المجال، والذي له كتابات خاصة بمفهوم التعلق المكاني، المعماري الفنلندي “يوهاني بالازما”. ويرى يوهاني أن مفهوم البيت مرتبط ارتباطًا وثيقًا بمشاعر الألفة والطمأنينة والأمان التي نشعر بها ونحن أطفال. وتتكون تلك المشاعر بدورها من خلال شعورنا وإحساسنا بلحظات معينة، مثل لحظة وصولنا للبيت بعد يومٍ طويل.

تنويعات التعلق المكاني

يمكن للتعلق بالأماكن أيضًا أن يشتمل على مشاعر سلبية كما أسلفنا، وقد يحدث هذا لأسباب مختلفة. فربما يُدمّر مكان عزيز على الفرد، أو يتغير بشكل دائم. أو قد يكون مكان مهم ما مصدرًا لتجارب سعيدة ومريرة للفرد في الآن نفسه. وفي إحدى الدراسات على سكانِ قريةٍ تم تهجيرهم لبناء بحيرة صناعية، وجد الباحثون أن السكان لا زالوا يشعرون بالفقد بعد 40 عامًا من تهجيرهم.

التعلق المكاني منتجٌ اجتماعي بشكل كبير. فشعور المرء بالتعلق بحديقة أو ميدانٍ ما، قد يكون سببه فعاليات أو حوادث معينة مرتبطة بالثقافة الموجودة. كما أن مشاعره تجاه الأماكن المختلفة تعتمد على البنى الاجتماعية والثقافية التي يجدها فيه. فإذا تمكن فرد أو جماعة ما من تكوين شبكة علاقات قوية ومستقرة في مدينة جديدة، فغالبًا سيؤدي ذلك إلى إضفاء معانٍ حسنة على تلك المدينة. في حين أنه إذا تعرض للمضايقات أو العنصرية أو لم يتمكن من تكوين شبكة معارف، فغالبًا سيكوّن انطباعًا سلبيًا عنها.

اللامكانية

ومن تفرّعات دراسة التعلق المكاني أيضًا ما يسمى باللا-مكانية، أو غياب الانتماء المكاني «Placelessness». ويحمل هذا المصطلح معنيين؛ فقد يعني افتقار الأماكن المختلفة لهوية خاصة بها. قد يجعل هذا الافتقار من أماكن متباعدة متشابهة في الشكل والطبيعة، مما قد يفقد سكانها بأي شعور بتميزها. وهذا ينطبق مثلًا على المناطق “الحديثة” من المدن، والتي لا يبدو فيها أي أثر للطابع المحلّي. إذ يمكن لبعض الأحياء السكنية أو التجارية أن توجد في دبي، أو إسطنبول، أو لندن دون أن يشعر ساكنوها بأي فرق. كما قد يحمل هذا المصطلح معنى فقدان الأفراد لمشاعر التعلق بالأماكن بسبب كثرة التنقل. أو بسبب تجارب سلبية مرّوا بها تجاه الأماكن التي عاشوا فيها. ويرتبط هذا المفهوم الأخير بإشكاليات مثل: اندماج المهاجرين في بلدانهم الجديدة. أو شعور أبناء المهاجرين أو الأبناء مزدوجي الجنسيات بعدم الانتماء لبلدهم الأم، أو لبلدهم الذي هاجر أهلهم إليه. ولذلك، قد يفيد البحث في مثل هذه المجالات في تحديد سياسات الهجرة، والاندماج والعدالة الاجتماعية، ضمن عدة تطبيقات أخرى.

تطبيقات نظرية التعلق المكاني

في عالم متسارع الحركة والهجرة والتنقل، يصبح فهم تعقيدات تعلقنا بالأماكن المختلفة أكثر أهمية. وتشمل تطبيقات البحث حول التعلق المكانيّ دراسة التنقل والهجرة، والأزمات البيئية، والمشادّات بين الفئات المجتمعية المختلفة في بيئة واحدة، والتحديات التي تواجه التخطيط العمراني.

ففي مجال التنقل والحركة والعولمة، يساعدنا البحث حول مشاعر التعلق بالنتائج المترتبة عن كثرة التنقل أو التهجير. كما يمكّننا من تحليل الكيفية التي يتأقلم بها المهاجرون في بيئاتهم الجديدة. وكيف يمكن توفير بيئة آمنة وصحية لأقليات وأعراق مختلفة، لتتعايش فيما بينها وتشعر بالانتماء والتعلق بالأحياء التي يسكنونها. كل ذلك دون أن تفقد هوياتها أو تشعر بأنها في غيتو أو منفى.

كما يمكن للسياسيين ومسؤولي السياسات الوطنية أن يستفيدوا من نظريات التعلق المكاني، لفهم الاضطرابات التي تحدث عند وفود جماعةٍ ما إلى منطقة معينة. مثل وفود السكان السود إلى الأحياء البيضاء في جنوب إفريقيا. ففي مثل هذه الحالة، تلعب التغطية الإعلامية، والسرديات الوطنية دورًا في تأجيج أو تخفيف حدة الشعور بفقدان هوية الأماكن المختلفة.

أما في مجال التخطيط العمراني، فيتيح البحث في التعلق المكاني للسكان أدوات للتفاعل المجتمعي مع خطط التطوير والتخطيط. حيث يصبح للسكان رأيٌ في الخطط الحضرية يحفظ هوية الأماكن ورمزيتها. كما يمكن للإدارات الحضرية أن تستغل تلك الدراسات للحفاظ على منشآت أو أماكن معينة، كرموز ومعالم لها رمزيتها ومعانيها التي يتعلق الناس بها. كما يساعدنا البحث عن علاقة البشر ببيئتهم وتقييمهم لها على فهم ظواهر كشعور الناس بخطر الجرائم حتى لو انخفضت معدلاتها. شاركنا تجربتك في التعلق بالأماكن في التعليقات.

الإدراك البيئي: كيف ندرك بيئاتنا؟

هذه المقالة هي الجزء 8 من 9 في سلسلة مقدمة في علم النفس البيئي

بالنسبة لعلم النفس البيئي وللدراسات العمرانية إجمالًا، هناك فرق بين “الموضوع – object”، و”البيئة – environment”. فبينما يحتاج الموضوع ذاتًا لتتعامل معه، تحتاج البيئة مساهمين «participant» ليتفاعلوا معها؛ إذ أن البيئة تحيط بالفرد ويعتبر جزءًا منها، ويتفاعل معها ويدركها باستعمال الحواس المختلفة (الحركة والشعور والشم وغيرها)، وربما يساهم فيها بتغييرها. ودائمًا ما يتضمن الإدراك البيئي هذا نوعًا من الأفعال، والتي تتضمن بدورها معانٍ ورموزًا معينة.

القدرة التصويرية للمدينة

تحدثنا في مقالٍ سابق عن كيفن لينش وعن كتابه «صورة المدينة»، والذي عرّف صوريّة المدينة أو قدرة الأفراد على تصوير وتخيل واستذكار المدينة بناءً على صفات المدينة العمرانية مثل الطرق والمراكز والحواف والعلامات والأحياء. وعرّف هذا المفهوم بـ«صوريّة المدينة – city imageability»، أو القدرة الصورية للمدينة. وصف لينش عملية الإدراك البيئي التي ترتكز على هذه العناصر العمرانية بـ«التخطيط الإدراكي – cognitive mapping»، وهو العملية العقلية والإدراكية التي يفهم بها البشر بيئاتهم ويتفاعلون بها من خلالها.

حاول لينش أيضًا قياس مستوى السهولة التي يمكن للسكان أن يقيّموا بها بيئةً ما ويستوعبوها داخل نمط أو نسقٍ معين، واطلق على هذا القياس اسم “وضوح المدينة”، أي القدرة على تكوين صورة ذهنية عن المدينة واستيعابها بشكلٍ منطقي ومتناغم. أي ان المدينة التي تحتوي على عناصر عمرانية محددة وواضحة تكون أسهل للتذكر والحركة.

ولكن على عكس ما قد يوحي به هذا من أن المدن المخططة (مثل المدن الحديثة نسبيًا كنيويورك أو الرياض) أسهل في الحركة خلالها، إلا أن جين جيكوبز أظهرت أن الوحدة البصرية الشديدة بين أجزاء المدينة تؤدي للتشويش، أي ان المدينة تحتاج قدرًا من العفوية والتنوع (العملي والبصري) ليتمكن السكان من ادراكها؛ وتتطلب أجزاءً متباينة تعمل فيما بينها، لا إلى أحياء متفرقة ومنفردة بذاتها [1]. ومن هنا نفهم احد أوجه القصور التخطيط الحضري للمدن وتقسيمها إلى أحياء مخصصة (للصناعة أو للسكن أو لغيرها)، أو حتى محاولة تصميم كل المناطق والبيوت والمباني لتبدو بنفس الشكل (بعض من أصدقائي الذين أقاموا في سنغافورة وصفوها بأنها شديدة التنظيم لدرجة الملل).

الصوريّة الاجتماعية

يمكن للأماكن المميزة أيضًا أن تحفز لدى السكان صورًا اجتماعية، أي معانٍ اجتماعية مشتركة بين مستعملي مكانٍ معين. فمثلًا يمكن لميدانٍ أو ساحةٍ ما أن ترتبط في ذهن سكان الحي بأنها مكانٌ للتجمع وللممارسة الأنشطة الجماعية، أو يمكن أن يرتبط شارعٌ ما بنوعٍ معين من السلوكيات أو الأنشطة أو الأحداث. في العادة، تكون الأماكن ذات القدرة التصويرية أيضًا ذات قدرة اجتماعية أيضًا.

تكشف الخرائط الذهنية للمدن وقدراتها التصويرية والاجتماعية عن جانبٍ مهم من دراسات المدن، وهي الفروق الطبقية بين السكان. فالكثير من المدن على سبيل المثال تعتمد بشكلٍ رئيسي على السيارات للتنقل، مما لا يتيح للطبقات الأفقر الانتقال خلال المدينة ومعاينتها، ويظلون مكدسين داخل مناطق سكنهم والتي قد تعاني من فقرٍ في المرافق العامة. والنتيجة هي أن معاينة بعض السكان للمدينة وتجربتهم للسكن فيها قد تكون شديدة الفقر مقارنة بآخرين من الطبقات الأعلى، الأمر الذي قد يفقدهم الشعور بالانتماء أو الاهتمام بالمدينة وبالحيز الذي يحتلونه فيها.

ومن الجوانب المهمة والتي بدأ الاهتمام بها عالميًا أيضًا هي الفوارق العمرية بين السكان. فالكثير من المدن ومشاريع التخطيط العمراني تكون مبنية بالأساس على استعمال السيارات على سبيل المثال وباهتمامٍ هامشي بالمشاة -إن وجد-. في المقابل فإن بعض المعماريين والمخططين بدؤوا بلفت الانتباه لحق الأطفال واليافعين في الاستمتاع بالمدينة بشكلٍ آمن وسلس، وبدأت الدراسات الحضرية باستكشاف كيف يمكن تخطيط المدن لتكون صديقة للأطفال[2].

اعتبرت برازيليا مدينة نموذجية للتخطيط العمراني عديم الحياة، لدرجة أن مصطلح “متلازمة برازيليا – Brasilia Syndrome” صار كناية عن المدن ذات التخطيط والنسب غير المناسبة للبشر

الحواس البشرية وإدراكنا لما حولنا (الإدراك البيئي)

كما سبق لنا القول في الفقرة السابقة، فإن العديد من مشاريع التخطيط العمراني اليوم تعتمد بشكلٍ أساسي على السيارات وعلى المساحات الكبيرة والمسافات الشاسعة. العديد من المدن حول العالم اليوم تتمركز حول التنقل بالسيارات، مثل الكثير من المدن الأمريكية ومدن الخليج العربي على سبيل المثال.

يتعرض هذا النمط من التخطيط والتصميم للكثير من النقد، ومن جوانب هذا النقد المتعلقة بهذا المقال هي علاقة المدينة والعمران بالحواس البشرية وتناسبها معها. وربما يكون المعماري الدنماركي «يان غيل» أبرز من كتبوا عن هذه العلاقة في كتابه «مدن من اجل الناس». بنية البشر البدنية تسمح لهم بالرؤية ضمن نطاق وزاوية محددين، وسرعتهم في السير أيضًا تفرض عليهم رتمًا معينًا من الرؤية والانتباه على سبيل المثال. ولذلك فإن المشاة نادرًا ما ينتبهون لما يدور في الأدوار العلوية من البنايات -ما لم يرفعوا رؤوسهم، وهي عملية “مرهقة” ما لم يكن هناك داعٍ لها-. المشاة أيضًا يحتاجون مسافات قصيرة نسبيًا للمشي والتنقل في المدن، ووجود الطرق السريعة الواسعة أو ممرات المشاة التي تحتوي سلالم للصعود والهبوط يعد عائقًا في طريقهم. سرعة البشر في السير وبنية أجسامهم هي ما تجعلهم يشعرون بالضجر إذا ساروا بجانب جدارٍ فارغ؛ في حين أن وجود نوافذ ومعارض على مسافات متقاربة تشعر المشاة بالتنوع البصري وتلفت نظرهم، ما يشعرهم بالمتعة البصرية (ناهيك عن تحفيز الأنشطة كالبيع والشراء).

تعتمد النظريات الصديقة للمشاة على المساحات الصغيرة والمسافات القصيرة في تخطيط المدن، فالمدن المعتمدة على الطرق السريعة والسيارات تعتمد أيضًا على سرعة السيارات، ما لا يتيح للركاب معاينة المدينة والتفاعل معها كما يتاح للمشاة. من الجدير بالذكر أن المدن التقليدية (أي المدن ما قبل الصناعية وما قبل الحداثة) كانت تطبق هذه الأنساق بالفطرة، إذ كانت تبنى بمسافات متقاربة وبنسبٍ معتدلة تناسب حواس البشر.

الإدراك البيئي وعلم الأعصاب

ذكرنا عرضًا في مقدمة هذه السلسلة عن وجود ما يسمى بـ”علم الأعصاب المعماري”، وهو استعمال تقنيات ومناهج بحث خاصة بعلوم الأعصاب لدراسة تفاعل البشر مع المدن والعمران وإدراكهم لبيئاتهم. يبحث هذا المجال الآثار العقلية والذهنية للبيئة والعمران على العقل والسلوك البشريين، كما يدرس الكيفية التي يدرك بها البشر بحواسّهم البيئة من حولهم، في محاولة لتصميم بيئات أكثر ملائمة للحياة والسلوك البشريين. وجدير بالذكر أن العديد من نظريات هذا المجال لها أسس تطورية.

يميل الناس للنظر إلى المناطق ذات العوامل المثيرة. لم ينظر أحد تقريبًا إلى الجدار الفارغ في هذا المثال.

فعلى سبيل المثال، درس بعض الباحثين الكيفية التي ينظر بها الناس إلى واجهات المباني عن طريق دراسة حركة بؤبؤ العين، واكتشفوا أن الواجهات المثيرة والتي تحتوي على نوافذ وعلامات (وليست مجرد جدران صمّاء) تجذب نظر الناس عكس الجدران الصماء التي يتجاهلها الناس وكأنها لم تكن. يجدر هنا ذكر أن هذه من الافتراضات التي ذكرناها للتو للمعماري «يان غيل» حول السير في المدن: أي أن السير بجانب واجهات تجارية مفتوحة ومثيرة للاهتمام لا يشعر المرء بالملل. فكّر في هذا حين تتمشى لمكان جديد وحاول أن تلاحظ إن كنت تشعر بالملل أثناء المشي فيه أم لا وهل ينطبق هذا المثال عليه.

المصادر:
1: The Death and Life of Great American Cities
2: Cities Alive: Designing for urban childhoods
3: Environmental Psychology: Environmental Cognition

الحياة الاجتماعية للمدن: نبذة عن العمارة الإنسانية

لنتحدث عن جانبٍ متسارع النمو في العالم الآن، وهو العمارة الإنسانية. يمكننا تعريف العمارة الإنسانية بشكلٍ عام بأنها العمارة التي تضع الإنسان في مقدمة أولولياتها في التصميم والتخطيط. تحاول العمارة الإنسانية أن تعالج مشاكل المدينة الحالية مثل لماذا يشعر السكان بالاغتراب في المدن؟ لماذا تكون الكثير من الأماكن العامة قاحلة؟ كيف يمكن تحفيز العلاقات الاجتماعية بين السكان مكانيًا؟ وغيرها من الاسئلة التي ربما شعر كلٌ منا بها من قبل. العمارة الإنسانية – أو أنسنة المدن- هي عملية ونموذج نظري متعدد المجالات والأبعاد، المعمارية والنفسية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية، ونستعرض هنا نبذة تاريخية عن أبرز وجوه هذه الحراك، من مفكرين ومعماريين ومخططين على حدٍ سواء.

الجانب الإنساني للمدن

صورة المدينة: كيفن لينش

بالنسبة للنظريات والنماذج المعمارية والحضرية السائدة في القرن العشرين، فإن كتاب “صورة المدينة” لـ«كيفن لينش» كان بمثابة انقلاب نظري. حيث كان العالم الغربي يسير في اتجاه توحيد وترشيد المدن «Standardization» عن طريق تقسيمها لنطاقات محددة والمحافظة على الوحدة البصرية في الأحياء، بالإضافة إلى التمدد في الضواحي «Suburbanization». جاء «لينش» لينتقد هذه السياسات والنظريات، باعتبار أن المدن والأحياء تصنع صورًا ذهنية لدى من يسكنونها ويستعملونها. المدن إذن تحتاج إلى إشارات وعلامات معينة لتُمكّن ساكنيها من التجول فيها ومعرفة مواقعهم والارتباط بالأماكن المختلفة.

حدد لينش 5 عوامل تساهم في خلق هذه التصورات الذهنية للمدن، وهي

  • الممرات: أي الشوارع والطرق والأرصفة التي تنظم المرور والحركة.
  • الحواف: أي الحدود بين المناطق ذات الاستعمالات المختلفة، والتي قد تكون حقيقية أو متخيلة.
  • الأحياء: مناطق ذات استعمالات وخصائص محددة ومعروفة
  • نقاط الالتقاء: أماكن يمكن للفرد الدخول إليها وتوفر له عدة وجهات؛ مثل الميادين أو الصالات
  • العلامات: أي العلامات التي لا يمكن استعمالها، مثل النصب التذكارية أو المباني المميزة والتي يستعملها السكان كعلامة.

حياة المدن: جين جيكوبز 

تعتبر  الصحفية والباحثة العمرانية «جين جيكوبز» من روّاد ما يسمى الآن بالعمران الإنساني، إذ كان كتابها «موت وحياة المدن الامريكية» دراسة فاصلة في تاريخ الدراسات العمرانية. كانت «جيكوبز» مهتمة بمعرفة ما الذي يجعل المدن حية، ولماذا كانت بعض خطط التطوير المعماري التي تبدو ناجحة وفعالة تنتج على النقيض أحياءً ومدنًا ميتة؟ 

كانت دراسة جيكوبز فاصلة في تفرقتها بين الطابع الفوقي للتخطيط العمراني في القرن العشرين، وبين الطبيعة اليومية للحياة والتعاملات البشرية في المدن. بالنسبة لها فقد كان النموذج العمراني السائد حينها لا يلقي بالًا للكيفية التي يمارس بها الناس حياتهم اليومية وكان يوظف منطق الآلة لتحويل المدن وحياة سكانها. أسست جيكوبز بدراساتها هذه نظرة جديدة للمدن، تأخذ بعين الاعتبار حياة سكانها وتعاملاتهم اليومية وتصمم بناءً عليها. عوضًا عن الاكتفاء بالمشاريع العملاقة التي غالبًا ما كانت تصدر من الأعلى، والتي تفترض مسبقًا كيف سيتصرف ساكنوها. 

صكّت جيكوبز عدة  مفاهيم جديدة في العمارة الحديثة، منها «عيون على الشارع – Eyes on the street» (أي جعل الشوارع آمنة بتوفير أنشطة ومساحات للسكان تسمح لهم بمطالعة الشارع والنظر إلى ما يحدث فيه)، والتطوير مختلط الاستخدامات «Mixed use developments» (أي دمج عدة اسخدامات مختلفة في خطط التطوير لإضفاء المزيد من الحيوية لها) والتخطيط من أسفل لأعلى «Bottom-up Planning» (أي بدء التخطيط العمراني من حيوات الناس وحاجاتهم). أثّرت «جين جيكوبز» في العديد من المفكرين والمعماريين والمخططين الذين جاؤوا بعدها والذين سنتعرف على بعضهم هنا. 

عمارة الفقراء: حسن فتحي

يعتبر حسن فتحي من أبرز المعماريين العرب والمصريين عالميًا، ويشتهر أيضًا بلقب “معماري الفقراء”، وذلك لفلسفته المعمارية والهندسية التي كانت ترى الفقراء في مركز عملية الإنشاء والإسكان. كان حسن فتحي يرى أن أهم مشكلات المعمار والإسكان في الدول الفقيرة كمصر تكمن في الفوارق الرهيبة بين القدرات المادية للأهالي وتكاليف البناء، مما يؤدي إلى عدم القدرة على بناء العدد الكافي من المساكن التي يحتاجها أفراد المجتمع، فيحظى بالمساكن من يملكون تكاليفها وتبقى الأغلبية الفقيرة بلا مأوى. وكحلٍ لهذه المشكلة رأي فتحي أن يقوم الأهالي بالبناء بأنفسهم لأنفسهم عن طريق التعاون التقليدي، باستعمال مواد وتقنيات محلية يمكنها أن تفي بالغرض.

فعلى سبيل المثال كان فتحي يرى أن العقبة الاقتصادية الرئيسية في عملية البناء تتمثل في السقف، ومن هنا كان تمسك المهنسين بالمواد المصنعة. وحل هذه المشكلة الفنية عند حسن فتحي كان مستمدًا من التراث المعماري الذي أعطى السقف شكل قبو ذي منحنى سلسلي؛ وبذلك امتنعت كل جهود الشد والانحناء والقص واقتصرت على جهود الضغط، والتي يتحملها الطوب بكل يسر. كان الحل التقليدي للمشكلة عن طريق الشكل الهندسي للسقف وليس عن طريق استعمال المواد المصنعة الغالية.

نشر فتحي تجربته في تصميم بلدة قرنة بمصر والتي طبق فيها فلسفته المعمارية في كتابه «عمارة الفقراء» عام 1969، ولاقى الكتاب رواجًا حول العالم وقد ترجم إلى أكثر من لغة.

كيف نصمم أماكن أكثر اجتماعية؟

الحياة الاجتماعية للمدن: وليام وايت

تبلورت في الثمانينات والتسعينات دراسات المدن والحضر ودرسها بغرض استيعابها وفهم سلوك البشر فيها؛ فظهرت أعمال مثل دراسات «راي أولدنبرغ» حول “الأماكن الثالثة” – أي الأماكن التي يقضي فيها السكان أوقات فراغهم ويستعملونها للترفيه بعد أماكن السكن وأماكن العمل. إلا أن الجهد النظري والميداني الأكبر في دراسة الحياة الاجتماعية للمدن وفهم كيفية تفاعل البشر فيها يعود للمخطط الأمريكي «ويليام وايت». درس «وايت» وراقب شوارع وساحات مدنٍ أمريكية مثل نيويورك، ودوّن ملاحظاته حول ما يجعل بعض الأماكن العامة والمباني جاذبة للعامة والمشاة بينما يكون البعض الآخر مقفرًا ونشرها في كتابه «الحياة الاجتماعية للأماكن الحضرية الصغيرة». 

عدّد «وايت» عدة عناصر تجذب العامة، منها: تواجد الأشجار، ومنافذ الطعام، والمياة (مثل نافورة أو نهر)، والأهم هو توافر أماكن للجلوس؛ حيث قال وايت -ربما بتهكم- أن “الناس يميلون للجلوس حيث توجد أماكن للجلوس”. توفر كل هذه العوامل البيئة المناسبة لراحة العامة والمشاة ما يجذبهم إلى الأماكن التي تتوافر فيها؛ وحين يتواجد الناس في مكانٍ ما فإنه تلقائيًا يصبح جذابًا للمزيد من الناس. فحسب وايت، فإن “أكثر ما يجذب الناس كما يبدو، هو الناس الآخرون”. ولذلك شدّد على أهمية توفير أماكن مناسبة للأنشطة التي يمكنها “كسر الجليد” بين الناس وجذب اهتمامهم، مثل وجود فرقة موسيقية أو مستعرضي شوارع أو أي نشاط آخر يمكّن الناس من اختلاق الأحاديث، وهو ما سماه بالـ«Triangulation». 

أدت أفكار «وايت» وكتاباته إلى إنشاء «مشروع الأماكن العامة – Project for Public Spaces» في أمريكا، وهو مشروع يسعى لخلق أماكن عامة أكثر حيوية بالتعاون مع السكان، تأخذ في الاعتبار مصالحهم وحاجاتهم ورغباتهم. ويعتبر هذا المشروع نموذجًا من نمط متسارع الانتشار في العالم -وبالأخص في أمريكا وأوروبا- هو العمارة الديمقراطية، والتي تبدأ عملية التصميم والتخطيط من مستوى السكان.

مدن من أجل الناس: يان غيل 

ربما يكون «يان غيل» أبرز المعماريين المهتمين بالعمارة الإنسانية اليوم، أو كما يحب أن يصفه بأنه “المعمار المتناسق مع الحواس البشرية”. يحلل «غيل» الكيفية التي يمشي بها الناس والتي تحدد مدى رؤيتهم، وكيف يختلف مستوى التعامل الاجتماعي بناءً على المسافة بين الأفراد، ويبني على ذلك فرضياته حول التصميم المناسب للأنشطة البشرية المختلفة والمساحات المناسبة لها. ولهذا لا تروق المدن ذات الشوارع الكبيرة والأبراج العالية -والتي تفتقر في الغالب إلى الوفرة البصرية- لـ«يان غيل»، ويرى أنها تساهم في جعل السكان متغرّبين ويشعرون بالوحشة في المدن. ومن هنا كان اسم كتابه الأبرز «مدن من أجل الناس» والتي يشرح فيها رؤيته لتصميم مدن مناسبة للحواس والتعاملات والأنشطة الاجتماعية، أي مدنًا في مستوى النظر، لا مدنًا بحاجة إلى طائرة لكي ترى كيانها. يرى «غيل» أن المدن قديمًا كانت تصمم بأخذ الحواس والمقاييس البشرية في الاعتبار، على عكس المدن الحديثة التي أغفلت هذا الجانب تمامًا.  

تهتم كتابات «غيل» أيضًا بالمساحات الحضرية، أي المناطق المفتوحة وغير المبنية والتي تقع بين المباني، ويرى أن تصميمها والأنشطة التي تدور فيها جزء لا يتجزء من الحياة الحضرية وقيمتها الاجتماعية. كما أنه يرى في السيارة العدو الأول للحياة الاجتماعية في المدن، إذ أنها ترفع مستويات الضوضاء وتحدث الكثير من التلوث وتجعل الشوارع غير آمنة. بالمقابل فإن تسهيل المشي وركوب الدراجات يجعل الشوارع أكثر أمانًا ومن ثم أكثر جذبًا للسكان والأنشطة الاجتماعية.  

العمارة الإنسانية اليوم

بالرغم من أن مفهوم العمارة الإنسانية «Humane Architecture» يظل ضبابيًا إلى حدٍ كبير، إلا أن الأفكار التي استعرضناها تقدم للكثير من المعماريين مبادئ عامة يمكنهم توظيفها في مشاريعهم. وسنستعرض هنا باختصار بعض النماذج التي قد تنضوي تحت مفهوم العمارة الإنسانية.

تحويل العوائق إلى ملاعب – روزانا مونتييل

تعتبر المعمارية المكسيكية «روزانا مونتييل» من أشهر المعماريات بسبب تصميماتها التي تعتبر صديقة للإنسان. فعلى سبيل المثال، قامت مع فريقها بتحويل قنالٍ غير مستعمل يمر عبر حيٍ سكني في مدينة زاكاتيكاس إلى ملعبٍ للأطفال وملتقىً للأهالي، كما أضافت جسرًا يوفر مكانًا مظللًا. أصبح «ملعب فريسنيلو – Fresnillo Playground» مزارًا ترفيهًيا للمدينة، يستعمله الأطفال لللعب والكبار للتمشية بعد زراعة الأشجار حوله.

لـ«مونتييل» أيضًا عدة مشاريع أخرى على هذا النمط، مثل ساحة «كومون يونيتي» في مكسيكو سيتي. والتي استعملت فيها مبدأ تحويل “الرأسي إلى الأفقي”، أي تحويل الأسوار والحوائط التي تفصل الناس وتصنع عوائق امام المشاة إلى أسقف وملاجئ تمكن الناس من التجمع تحتها.

Fresnillo Playground

حارة مَرمالايد، كامبريدج

يعتبر مشروع «حارة مرملايد – Marmalade Lane» في كامبريدج بالمملكة المتحدة نموذجًا لنموذج الإسكان المشترك «co-housing»، حيث يقوم السكان بإدارة شؤون الحي بشكل كامل ويتشاركون في المرافق مثل الغسالات والمخازن والحدائق وصالة عمومية متاحة للسكان كلهم. يوفر هذا النموذج من الإسكان وسيلة لزيادة الترابط بين السكان وزيادة الحس بالانتماء للحي، كما أنه يوفر بيئة مناسبة للاستدامة المجتمعية.

حرص المعماريون المشرفون على المشروع على جعل مساحاته ومسافاته مناسبة للتواصل البشري، كما أنهم وفروا العديد من المساحات “المرنة” مثل نهايات الطرقات التي يمكن تكييفها حسب الرغبة. بالطبع تعتبر الحارة كاملة للمشاة فقط وهذا يسمح للسكان والأطفال باستعمالها بأمان.

Marmalade Lane – © David Butler

بالطبع، هناك أبعاد أكثر من التصميم المجرد أو حتى هندسة الأماكن لتكون أكثر إنسانية؛ فأنسنة المدن لها أبعاد سياسية واقتصادية ومجتمعية. وقد تصاعد الاهتمام بهذه القضايا بشكل خاص بعد جائحة كورونا وبعد التظاهرات المنددة بالعنصرية وحركة “حياة السود مهمة” Black Lives Matter». وبما أن المدن ستكون مستقبل أغلبية البشر على الكوكب في المستقبل القريب فإن هذا النقاش يجب أن يظل محط اهتمام السياسيين والمعماريين والنشطاء على حدٍ سواء.

تعتبر العمارة الإنسانية اليوم جزءًا من الدفع الشعبي تجاه «القابلية للعيش – liveability»؛ وهي رؤية تقدم نفسها كبديل للنمط التقليدي من تصميم المدن وكعلاج لمشاكل المدينة البيئية والاجتماعية والمعيشية، وسيكون لنا وقفة معها في مقالٍ لاحق. يكفينا في هذا السياق القول أن في العموم تعتبر عوامل مثل الأمن وسهولة التنقل والترابط المجتمعي والعدالة العمرانية (مثل توافر المرافق الكافية والوصول لمناطق الترفيه) مؤشرات على أن المدينة “أكثر قابلية للعيش” وعلى أنها أفضل جودة حضريًا، وكلها عوامل يضعها المعماريون المهتمون بالعمارة الإنسانية ضمن أولوياتهم.

تاريخ ناطحات السحاب: كيف ظهرت شواهد المدن الحديثة؟

تعتبر ناطحات السحاب اليوم واجهات المدن الحديثة والعمران الإنساني. إذ تأسر الأنظار بارتفاعاتها الشاهقة وأضوائها الباهرة. لكن هذا النوع من البناء يعتبر حديثًا جدًا، واحتاج إلى العديد من التطورات والاختراعات ليتمكن من الانتشار كما هو الآن.

البناء الرأسي في التاريخ

كان العمران على مدار التاريخ محكومًا بالتقنيات المتوفرة والمواد المتاحة جغرافيًا، كما أن الحاجات الاجتماعية والاقتصادية والمعيشية كانت تلعب دورًا مهمًا في البناء والتخطيط. ولذلك لم يكن هناك حاجة كبيرة تاريخيًا للبناء بشكلٍ رأسي نحو الأعلى، إلا في حالات نادرة محكومة أيضًا بالقدرات التقنية والإدارية والموارد المتاحة لدى المجتمعات.

تعود أوائل المنشآت البشرية الرأسية لحقب ما قبل التاريخ وكانت تستعمل كشواهد على طرق الهجرة والرعي وكانت عبارة عن أحجار طويلة يتم رفعها. ومع نشوء المدن في التاريخ وظهور الديانات المنظمة والامبراطوريات بدأت المباني الشاهقة كالمعابد والقصور في الظهور في الحضارات الكبيرة. لعل أبرز الأمثلة على هذا هي أهرامات بلاد الرافدين المدرجة أو أهرامات الجيزة بمصر. ظل الهرم الأكبر في مصر أعلى مباني العالم ارتفاعًا لآلاف السنوات، بارتفاع يقترب من الـ147 مترًا شاهدًا على قدرة المصريين القدماء الهندسية والإدارية.

في الصين وشرق آسيا ظهرت الباغودا «Pagoda» كنمط معماري متعدد الطوابق يستعمل عادة للطقوس الدينية، لكنها كانت في العادة مبنية من الخشب أو الحجارة والطوب. وبحلول القرن السابع الميلادي كان هناك انتشار لباغودات حديدية لكنها كانت مكلفة ناهيك عن صعوبة تصنيع الحديد بجودة عالية في تلك الفترة. كما أن استعمالها لم يتغير كثيرًا كما لم يتغير تخطيطها الداخلي أيضًا.

الشرق والغرب: المآذن والهندسة الإسلامية

في الحضارة الإسلامية تعدّ المئذنة أكثر الأنماط المعمارية شهرة، وقد تعددت أشكالها حسب النطاق الجغرافي الذي وجدت فيه. بشكلٍ عام لم تظهر المئذنة كمكوّن رئيس في المساجد سوى في العهد الأموي وبعد انتقال الإسلام إلى الحضارات المفتوحة واختلاطه بها. وقد استعار المسلمون العديد من تقينات ومعارف البناء وطوروها. فنجد على سبيل المثال أن المآذن في العراق قديمًا تشبه إلى حدٍ ما الأهرامات المدرجة. مع الوقت طوّر المسلمون وسائل هندسية مثل القباب والأقواس والأعمدة التي ساعدتهم على بناء منشآت أعلى، والتي نراها في المساجد القديمة كالسلطان أحمد في اسطنبول أو الحمراء بغرناطة.

المئذنة الملوية بسامراء

لكن هذا التبادل المعرفي العمراني سار أيضًا في الاتجاه المعاكس، فحسب الكاتبة والمؤرخة المعمارية «ديانا دارك»، فإن النمط المعماري الأوروبي المعروف بالنمط القوطي «Gothic» متأثر بشكل مباشر بالعمارة والهندسة الإسلامية . بل إن بعض المهندسين والمعماريين قبالة عصر النهضة قد تلقوا معرفة معمارية وهندسية من المسلمين واستعملوها لتطوير المعرفة البنائية لديهم، مثل المعماري الشهير «برونيلسكي» في تصميمه وبناءه لكاتدرائية فلورنسا.[1]

مساجد السليمانية للمعماري العثماني معمار سنان، وتظهر المعرفة الهندسية باستعمال القباب والأقواس للبناء عاليًا.

أبراج خشبية، وشواهد حديدية

في القرن الرابع عشر بدأت أبراج الكنائس في أوروبا بتعدي ارتفاع الهرم الأكبر. كاتدرائية لنكولن في انجلترا قد تكون وصلت إلى ارتفاع 160 مترًا عام 1311، ولكن برجها الخشبي انهار أثناء عاصفة عنيفة في فترة حكم إدوارد السادس. وبعد انهياره ظل لقب أعلى منشآت العالم في حيازة أبراج كنائس أوروبية متعددة، مثل كنيسة القديسة ماري في ستراسبورغ، وانتهاءً بكاتدرائية كولون الالمانية التي انتهى العمل عليها عام 1880، قبل أن تخسر لقب أعلى مبنى في العالم لنصب واشنطن في أمريكا.

رسم لكاتدرائية لنكولن بانجلترا قبل احتراق برجها الخشبي
نصب واشنطن، بارتفاع 168 مترًا

كان برج ايفل (بارتفاع 300 متر) محطة فاصلة في تاريخ الإنشاءات وبالأخص إنشاءات ناطحات السحاب لاستعماله هيكلًا حديديًا يحمل وزنه. استخدام هيكل حديدي أو فولاذي لحمل أوزان وأحمال المبنى صفة هندسية مركزية لناطحات السحاب.

يعرّف بروفيسور الاقتصاد بجامعة هارفارد والمهتم بالاقتصاد الحضري «إدوارد غليزر» ناطحة السحاب بأنها “مبنى “طويل”، مكوّن من 10 طوابق على الأقل، ومزود بمصاعد وذو هيكلٍ معدني أو حديدي”. هذا التعريف يبيّن أن نشوء ناطحة السحاب اعتمد بشكلٍ أساسي على تقنيتين ناشئتين من القرن التاسع عشر: انتاج الحديد والصلب بجودة عالية، والمصاعد الآمنة.[2]

الحديد والصلب: مفتاح الإنشاءات المرتفعة

قبل الثورة الصناعية، كان انتاج الحديد والصلب مكلفًا وغير متساوٍ في الجودة. في الواقع، فإن أحد دوافع «جيمز واط» لتصنيع محركات البخار في مدينة برمنغهام بدلًا من موطنه في غلاسغو، هو جودة الحديد والصلب المنتج في المدينة والذي أنتجته مصانع «جون ولكنسون – John Wilkinson». كان لولكنسون أيضًا دور في بناء أول جسر حديدي في العالم عبر نهر السيفرن عام 1775.

في عام 1797 انتهى العمل على أول مبنىً ذي هيكلٍ حديدي في العالم، وهو مطحنة ديثرنغتون للكتان «Ditherington Flax Mill»، ورغم أنها لم تتجاوز الخمس طوابق إلا أنها تعتبر النواة الأولى لناطحات السحاب الحديثة.

«Ditherington Flax Mill»

نوافذ وتجارة!

الإطار الحديدي للمباني يعني أن وزن المبنى لا يُحمل بواسطة الجدران بل بواسطة الهيكل. تصبح الواجهة حينئذ شبه معلقة على هذا الهيكل. ولذلك، في حين احتاج إنشاء المباني تقليديًا إلى جدران بالغة السماكة او إلى دعامات، سمحت الهياكل الحديدة ببناء جدران أنحف أو حتى زجاجية. ولهذا السبب صارت المباني ذات الهياكل الحديدية مفضلة للأنشطة التي تحتاج إلى إضاءة جيدة.

أدرك «ألكساندر ستيورات – Alexander Turney Stewart» -أحد أنجح التجار ورواد الأعمال في نيويورك في القرن التاسع عشر-، أن عرض البضائع على نوافذ الأدوار الأرضية لمتاجره سيجذب المشاة الكثر في شوارع نيويورك إليها. وهكذا صمم “قصر الرخام” الخاص به عام 1848 بنوافذ كبيرة مطلة على الشوارع. بالطبع جعلت النوافذ الكبيرة الدور الأرضي ضعيفًا، لكن المبنى كان مستندًا على أعمدة حديدية لحمل وزنه.

قصر الرخام لرجل الأعمال أليكساندر ستوارت، أول مبنى يوظف نوافذ الطابق الأرضي لعرض البضائع

كان استعمال زجاج في المباني فتحًا هندسيًا إن جاز لنا التعبير، وكان من أوائل المنشآت التي استعملت الزجاج بوفرة هو قاعة لندن الكبرى للمعارض عام 1851، والتي صممها المهندس «جوزيف باكستون – Joseph Paxton». أنشئت هذه القاعة العملاقة بأكثر من 4000 طنٍ من الحديد وأكثر من 84 ألف مترٍ مربع من الزجاج، وتعتبر أحد أسلاف ناطحات السحاب الحديثة.

معرض لندن الكبير

المصاعد: كلمة السر لرواج المرتفعات

عام 1854، وقف «إليشا اوتيس – Elijah Otis» ليقدم عرضًا لزوار معرض نيويورك. لقد وقف على منصة مرتفعة وأمر بقطع الحبل الذي يمسكها، ليتوقف سقوطه مباشرة باستعمال آلية السلامة التي صممها بنفسها. ومنذ ذلك الحين سمحت مصاعد أوتيس بالحركة رأسيًا بشكل آمن، وبدأت الأبراج العالية في الظهور مستعملة تقنية المصاعد. ففي حين كانت الأدوار المرتفعة قديمًا غير محببة ورخيصة لمشقة صعود السلالم العالية، فقد جعلت المصاعد من الأدوار المرتفعة رفاهية ورفعت من قيمتها. ظهر أول برج يشغل المصاعد عام 1870، وهو برج «Equitable Life» بنيويورك. ورغم أنه لم يتعد السبع طوابق بارتفاع 40 مترًا، إلا أن استعماله للمصاعد ضمن نجاحه كمكان للعمل والسكن.

مبنى «Equitable Life» بمانهاتن بنيويورك، والذي هُدم عام 1912 بعد احتراقه.

من أول ناطحة سحاب حتى “مدينة ناطحات السحاب”

يصنّف العديد من المؤرخين مبنى «بيت التأمين – Home Insurance Building» كأول ناطحة سحاب. أقيمت الناطحة عام 1885 باستعمال هياكل حديدية مقاومة للحرائق وباستعمال الاسمنت المسلح، وقد صممها المهندس «ويليام لي بارون جيني – William Le Baron Jenney» والذي يعتبر الآن أبا ناطحات السحاب. ولكن بالطبع، وكما في أي نقاش تاريخي، فإن هناك الكثير من الجدل. فارتفاع مبنى بيت التأمين بالكاد يتعدى ارتفاع مبنى الحياة العادلة بـ3 أمتار، وإن كان يتكون من 10 طوابق بدلًا من 7. ولكن برج «مونتاوك”، والذي أنشئ قبل مبنى الحياة العادلة ببضع سنوات بتصميم المهندسين «دانييل برنهام» و «جون روت» كان أيضًا مكونًا من 10 طوابق.

الثنائي «برنهام» و «روت» قاما فيما بعد ببناء محفل شيكاغو الماسوني ذي الـ21 طابقًا، ولذلك قد يعتبرهم البعض الآباء الحقيقيين لناطحات السحاب. أو يمكن اعتبار المعماري «لوي سوليفان»، والذي اشتهر بفكره المعماري واستغلاله لطاقة الهياكل الحديدية وإمكانياتها.

محفل شيكاغو الماسوني، والذي كان أطول مباني شيكاغو حتى تم هدمه هو أيضًا عام 1939

في الواقع، عمل كلٌ من «سوليفان» و «برنهام» كمتدربين لدى «جيني»، واستعاروا جميعهم أفكارهم من بعض. يمكننا القول أن «جيني» كان الخطوة الجريئة الأولى التي بُنيت على انجازات عدة قبله، وأن متابعيه أكملوا ما بدأه ووصلوا به إلى أبعادٍ جديدة.

العمارة الحداثية: استغلال الناطحات لأقصى حد

لن تكون مبالغة إن وصفنا ناطحة السحاب بأنها ذروة سنام العمارة الحداثية، فقد استغلها المعماريون الحداثيون إلى أقصى طاقاتها. فـ«لوي سوليفان» نفسه في تصريحه الشهير “الشكل يتبع الوظيفة” قد ابتكر تصميم الطوابق بشكلٍ مختلف بناءً على وظائفها المختلفة، ما يسمح بمرونة وفعالية أكبر للمبنى ويسمح له بتعدد الاستخدامات. إلا أن النموذج الأكثر وضوحًا لاستغلال ناطحات السحاب هو بدون منازع رائد العمارة الحديثة الأول «لو كوربوزيه». لقد رأى لو كوربوزيه في ناطحات السحاب الحل الأمثل لمشاكل المدينة الحديثة الصناعية ومشاكلها السكنية، و كان من اوائل مشاريعه ذائعة الصيت هو وحدة السكن «Unité d’Habitation».

كان لو كوربوزيه أيضًا مغرمًا بالنظام، وكان قد أعلن أنه “إما العمارة وإما الثورة”، أي أن التخطيط المعماري الجيد الذي يتجاوب مع التحديات الجديدة هو ما يحول بين السلم وبين الثورة وانهيار المجتمع. وربما من هنا نشأ مخططه الذي قدمه لتطوير مدينة باريس والذي يلقب بـ”مدينة ناطحات السحاب”، والذي يعيد مَحوَرة المدينة حول ناطحات السحاب.

مخطط «Plan Voisin» – لو كوربوزيه.

لم يكتب لمخطط لو كوربوزيه الثوري ذاك أن يرى النور. لكن الفكرة الكامنة وراءه انتشرت في مدن كثيرة حول العالم، ولاقت ناطحة السحاب رواجًا كبيرًا لفاعليتها وقدرتها على توظيف المساحة. وعلى الرغم من ذلك كان لانتشار نمط العمارة الحداثية أثار سلبية بالطبع، ولذلك فقد انتهت تقريبًا منذ السبعينات. وليست صدفة أن الحدث الذي اصطُلح على تسميته بـ”نهاية الحداثة” -كنمط معماري- كان هدم أبراج «برويت-آيغو»، والتي كانت عبارة عن مجموعة من الأبراج العالية المرتبة والتي عانت من مشاكل إدارية ومجتمعية بالإضافة إلى قصور في التخطيط.

أبراج إسكان برويت-آيغو، والتي تم هدمها في أوائل السبعينات بسبب مشاكل اقتصادية وإدارية ومجتمعية متعددة.

ناطحات السحاب: واجهات وتحديات المدينة الحديثة

لا تخطئ العين مشهد ناطحات السحاب في حواضر العالم الآن، سواءً انتقلنا من نيويورك إلى لندن أو من ضفاف النيل بالقاهرة إلى هونغ كونغ. ناطحات السحاب والأبراج نموذج لمحاولة المدن حل مشاكلها بطرق معاصرة، ولكنها بالطبع لا تأتي بدون تحديات خاصة بها.

الكثير من العواصم الاوروبية مثل روما وباريس تكاد تخلو من ناطحات السحاب وذلك لقوانينها العمرانية التي تحاول الحفاظ على نسيج المدينة التقليدي (أعلى برج في روما بالكاد يصل إلى 155 مترًا). الأمر نفسه مشاهد في مدن مثل لندن، ذات الوجود الملحوظ للأبراج العالية وناطحات السحاب. إذ أن الإدارات المحلية كثيرًا ما تعترض على إقامة الأبراج العالية حفاظًا على مشهد الأحياء وروحها التقليدية،  كما حدث مع برج «22 بيشوبغيت» في لندن الذي اعترض الكثيرون عليه لتغييره مشهد أفق المدينة وحجبه كاتدرائية القديس بولس العريقة ونصب حريق لندن.[3] يشبه الأمر أيضًا الاعتراضات الموجهة نحو بناء الأبراج في مدن مقدسة كمكة. حيث يتحول مركز الانتباه والثقل في المدينة من المكان المقدس إلى الأبراج الاستهلاكية، ناهيك عن احتلالها المشهد العام مقابل الكعبة.[4]   تنتشر ناطحات السحاب بالمقابل بشكل أكبر في المدن الجديدة نسبيًا (مثل نيويورك) او التي تحاول تحديث وتطوير نفسها بسرعة مثل ساو باولو.

مدينة ساو باولو، والتي تبدو كغابة من ناطات السحاب اللامتناهية

التطوير والإسكان: دور ناطحات السحاب اليوم

يتعلق هذا الأمر أيضًا بتطوير المدن واستبدال الأحياء القديمة بالأبراج، وهو نمط مشهور في تطوير المدن ومحاولة تجديد مراكزها. لكنه يواجه الكثير من الانتقادات بالنسبة لأولويات ورغبات سكان المناطق التي يتم تطويرها. حيث يتم نقلهم واستبدالهم باستثمارات أجنبية وتجارية ومساكن فارهة عوضًا عن توفير مساكن وخدمات كافية (وهو ما يسمى بالانجليزية Gentrification). هناك العديد من الآراء التي ترى أن هذا الطريقة في التطوير ترفع المستوى الاقتصادي للمدن وتحسن مستوى خدماتها ووضع سكانها المعيشي بالفعل.[5] إلا أنه يجب أخذ حاجات ورغبات السكان قيد الاعتبار أثناء وضع أي خطط لتطوير المدن. وذلك لتفادي مشاكل مثل عدم توافر الخدمات الكافية أو ارتفاع تكلفة المعيشة والسكن في مراكز المدن المطوّرة، ما يدفع أصحاب الدخل المحدود بالسكن بعيدًا عن مراكز العمل ليتمكنوا من توفير سكنٍ مناسب.[6]

كما أن ناطحات السحاب تمثل في كثير من الأحيان نموذجًا للضغوط الاقتصادية والحضرية والإدارية في المدن. فمثلًا، تقام في مدينة نيويورك الكثير من الأبراج التي ينتهي بها الحال (بسبب تعقيدات نظم التطوير الحضري والتمويل) كأبراج فارهة يشتريها الأغنياء كاستثمارات.[7] بالطبع، هذه المشكلة ليست خاصة بنيويورك وحدها بل هي منتشرة في الكثير من المدن عالميًا. فالأبراج السكنية توفر نمطًا من الإسكان عالي الكثافة «High-density Housing» والذي يمكن توفيره بجودة مناسبة وعلى مساحة أصغر داخل المدن عوضًا عن الضواحي البعيدة، ولذلك تلقى رواجًا في المدن التي تعاني من كثافة سكانية عالية (مثل هونغ كونغ أو سنغافورة) أو من أزمات إسكانية (مثل لندن). ولكن نموذج الاستثمار في العقارات والأنظمة الإدارية والاقتصادية كثيرًا ما تجعل هذه المشاريع غالية الثمن. ولذلك بدأت العديد من المدن والأحياء وشركات التطوير بابتكار نماذج تمويل وإسكان مخصص للأفراد والعوائل الصغيرة التي تشتري منزلًا للمرة الأولى فقط (مثل نظام الـملكية المشتركة «Shared Ownership»).[8]

التصور المقترح لناطحات نيويورك المطلة على الحديقة المركزية

كما هو واضح، فالعالم بما هو سائر في طريقه نحو التمدّن. وستكون ناطحات السحاب جزءًا من تكوين المدن لأسباب عدة، معيشية وعملية واقتصادية وسياسية. فهي توفر حلولًا للعديد من التحديات التي واجهتها المدن الصناعية وتوفر فرصًا للمدن المعاصرة. لكنها تأتي مع تحدياتها الخاصة أيضًا والتي تتداخل فيها العمارة بالاجتماع والسياسة والاقتصاد بل وحتى مع سيكولوجية البشر الاجتماعية. قصة ناطحات السحاب وتاريخها نموذج لتاريخ التطور التاريخي للبشر ومجتمعاتهم، وكيف أن كل قفزة تأتي بناءً على خطوات سابقة وتواجه تحدياتها التي تختلف بمرور الزمن.

المصادر:

[1] Stealing from the Saracens
[2] CitiesX: The Past, Present, and Future of Urban Life
[3] A tortured heap of towers': the London skyline of tomorrow
[4] من مكة إلى لاس فيغاس
[5] What happens after a neighborhood gets gentrified?
[6] Choosing the Unwalkable suburbs, or settleing for them?
[7] Super-tall, super-skinny, super-expensive: the 'pencil towers' of New York's super-rich
[8] Shared Ownership

البيئات التصالحية: كيف تكون البيئة متنفسًا صحيًا؟

هذه المقالة هي الجزء 7 من 9 في سلسلة مقدمة في علم النفس البيئي

يُترجم مصطلح «Restoration» أحيانًا إلى التعافي، وهو مصطلح واسع في نطاق علم النفس البيئي. يشمل عملية التعافي النفسية أو الفسيولوجية التي تنتج عن بيئات معينة، والتي تسمى بالبيئات التصالحية -أو البيئات العلاجية-.

أشار عدد كبير من الدراسات النفسية والسلوكية إلى أن البيئات الطبيعية أكثر تجديدًا وتحفيزًا للتعافي من البيئات الحضرية، كما أن التعرّض لتلك البيئات التصالحية يساعد في الهدوء والاسترخاء ويحول دون الإصابة بعدة أمراض -مثل تلك التي عرضناها في المقال السابق حول الإجهاد البيئي-. ولذلك فإن البيئات التصالحية ومكوناتها موضوع رئيس في دراسة المنافع الصحية للطبيعة.

نظريات التعافي بالبيئة

سيق البحث حول البيئات التصالحية بشكلٍ أساسي اعتمادًا على تفسيرين نظريين: الأول هو نظرية التعافي من الإجهاد «Stress Recovery Theory»، والمعنيّة بالتعافي من الإجهاد الناتج عند تعرض الفرد لموقفٍ أو ظرفٍ متطلبٍ ذهنيًا أو مهددٍ لسلامته؛ والثاني هو نظرية استعادة الانتباه «Attention Restoration Theory» والمعنيّة بعلاج الإرهاق الناتج عن التركيز المطوّل. بشكلٍ عام يمكننا اعتبار النظريتين متكاملتين حيث تركز كلٌ منهما على جوانبٍ محددة من عملية التعافي.

أول من وضع أسس نظرية التعافي من الإجهاد كان روجر أولريك، والذي كان رائد أبحاث البايوفيليا كما سبق لنا الحديث. حسب أولريك، فحين التعرض للطبيعة فإن انطباع الناس الأوليّ نحو بيئةٍ ما يتكون بشكلٍ لا واعٍ ودون التدقيق في مكونات البيئة المحيطة في غالب الأحيان.

تصدر الانطباعات الأولية الإيجابية عند توافر صفات بيئية معينة في البيئة المحيطة، تشمل هذه الصفات تواجد المكونات الطبيعية (مثل النباتات)، وتناظر الهيكل أو المخطط الفيزيائي للمكان، واستواء الأرضية، وغياب المخاطر على سبيل المثال. تساهم هذه الانطباعات الإيجابية عن البيئة في التعافي إذ توفر ملاذًا آمنًا من التوتر والإجهاد وتوفر مستويات أقل من الانتباه والقلق والخوف.

استعادة الانتباه: بيئات تدعو للاسترخاء

تهتم نظرية استعادة الانتباه لراشيل كابلان وستيفن كابلان بالمقابل بالعمليات الذهنية الأبطأ في التعافي. تفترض النظرية ابتداءً أن البشر لديهم قدرة محدودة لتركيز انتباههم نحو شيء ليس مثيرًا في حد ذاته، وهو ما يجهد آلية الفلترة الذهنية المسؤولة عن التركيز ويتسبب بإرهاق تركيز الانتباه «Directed attentional fatigue».

تتوقع نظرية استعادة الانتباه أن البيئة يمكنها مقاومة الإرهاق الناتج عن تركيز الانتباه حين تتصف العلاقة البشرية-البيئية بأربع صفات:

  1. الإبهار، أي قدرة البيئة على جذب الانتباه دون جهدٍ ذهني من الفرد
  2. الشعور بالتواصل او الارتباط
  3. الابتعاد عن المشاغل والمشاكل اليومية
  4. التوافق بين تفضيلات المرء وخصائص البيئة.

ولما كان من المعتاد توافر هذه الخصائص الأربع في تفاعل البشر مع الطبيعة، كانت البيئات الطبيعية أكثر فاعلية ونجاعة في العلاج عن معظم البيئات الحضرية. ولكن منشآت مثل دور العبادة أو المتاحف يمكنها توفير بعض الخصائص العلاجية أيضًا، وبالأخص بالنسبة للزوار الذين يشعرون بالراحة في تلك الأماكن.

التصميم العلاجي للمدن

تُناسب معايير التصميم العلاجي المذكورة البيئاتِ المتوفرة على مستويات عالية وحادّة من الإجهاد وصعوبة التركيز.  ولهذا فإن المعايير والمكونات العلاجية أصبحت جزءًا مهمًا من عملية التصميم المبني على الأدلة «Evidence-Based Design»، وبالأخص للمنشآت الصحية. ولكن مع كون عوامل حضرية عديدة مصدرًا رئيسيًا للإجهاد والتوتر فإن التصميم الحيوي المحب للبيئة ينال انتشارًا وتطبيقًا واسعًا على مستوى البيئات الحضرية الكاملة. فالدراسات عن البيئات العلاجية والتأثيرات الصحية للطبيعة وجدت أن التعرض للبيئة والخضرة توفر متنفسًا حتى للأشخاص غير المصابين بمستويات عالية من التوتر كما أنها تحسن من تفضيل السكان لبيئتهم.

حديقة الملك سلمان بالسعودية، مشروع قيد الإنشاء لـ”عمرانية” يدمج الطبيعة بالنسيج العمراني لمدينة الرياض.

تحديات تواجه البيئات التصالحية

يواجه التصميم المحب للبيئة والعلاجي عدة تحديات. إحدى  هذه التحديات هو القدر الأمثل من التعرض للطبيعة والبيئات الصحية الذي يجب أن يتعرض له الفرد. فحسب استبيان موسع في المملكة المتحدة نصح الباحثون بـ30 دقيقة أسبوعيًا كزيارة للأماكن الطبيعية والخضراء لخفض مستويات الضغط والاكتئاب لدى الأفراد. كما أن دراسة تأثيرات الطبيعة العلاجية وجدت أن مساحة المسطحات الخضراء في الحي غير مرتبطة بالعائد الصحي للتعرض له، ما يعني أن تخطيط المسطحات الطبيعية يجب أن يركز على توفير المساحات الخضراء لقطاعات أكبر من الناس وجعلها أسهل للاستخدام عوضًا عن زيادة مساحاتها فقط.

في هذا السياق يكون من الضروري الحديث عن الجانب الإداري والاجتماعي للبيئات الصحية. فكما أشرنا مرارًا في هذه السلسلة فالعلاقة بين البشر والبيئة متداخلة على عدة مستويات. أحد هذه المستويات والذي نال اهتمامًا بالغًا حول العالم بعد جائحة كورونا هو عدالة توفير الأماكن العامة والخضراء للسكان. كما زاد الاهتمام بقدرة كل فئات المجتمع ومكوناته من الوصول والتمتع بالأماكن العامة بشكلٍ آمن. فمع موجة احتجاجات حركة «Black Lives Matter» العام الماضي، توسّع الحديث حول حقوق السكان السود في أمريكا وأوروبا في الاستمتاع بالحدائق والأماكن العامة. ففي ظل شعور العديد منهم بالتهديد بسبب العنصرية، تفقد الحدائق والمساحات الطبيعية فاعليتها وأهميتها كبيئةٍ تصالحية. وتتحول المساحات هناك لمصدر للقلق عوضًا عن ذلك. [1]

التفرقة العنصرية في الأماكن العامة أيضًا تأخذ حيزًا من الاهتمام علميًا كما اجتماعيًا. مع ارتفاع درجات الحرارة عالميًا بسبب الاحتباس الحراري، ما يعني أن بعض الفئات تتمكن من الاستراحة في الحدائق والأشجار. بينما لا تجد بعض الفئات الأخرى سوى الأبنية الأسمنتية والشوارع الجرداء حولها. [2] أيضًا، يجري الحديث حول حرمان الفئات الأثر فقرًا حول العالم من الحصول على متنفسٍ صحي في ظل إجراءات الحظر المفروضة. ويزداد الأمر تعقيدًا عند الأخذ في الحسبان نفور العديد من أفراد الطبقات المتوسطة والأغنى من الفئات الأفقر. ما يجعلهم غير مرغوب فيهم في الأماكن الخضراء.

بيئات تصالحية داخل المدن؟

توفير المساحات الخضراء ليس سهلًا في الكثير من المناطق، إما لظروف المناخ أو لعدم توافر الموارد الكافية. وفي هذه الحال فيمكن الاستعاضة عن المساحات الخضراء (وهي الخيار الأمثل كما سبق لنا الحديث) فمكونات أخرى عوضًا عنها. فمثلًا وجدت بعض الأبحاث أن التعرض لمحاكات بصرية للطبيعة كالفيديوهات واللوحات الفنية) والتعرض للروائح والأصوات الطبيعية يمكن أن يوفرا عوائد صحية وعلاجية أيضًا.

كما أن الخصائص الهندسية للبيئة المحيطة، مثل التناظر والأنماط المتكررة في المكان وسلاسة التصميم نفسه ناهيك بتوفير الملاذ الآمن بعيدًا عن الضوضاء والتلوث، تساهم أيضًا في توفير بيئات علاجية ولكنها غير معتمدة على الطبيعة حصرًا. وقد وعي الكثير من سكان المدن ومحافظيها حول العالم بأهمية توفير البنية التحتية الصديقة للمشاة والسكان بعد أزمة كورونا. ويُتوقع ويُرجى أن تستمر هذه الإجراءات في المدن عالميًا لزيادة المساحات العامة المتاحة للسكان. [3]

مركز ماغيز بمستشفى سانت بارتس بلندن « Maggie’s St Bart’s » ، نموذج للتصميم العلاجي والصحي ويوفر ملاذًا لمرضى السرطان بالمستشفى.
ميدان أزاتليك « Azatlyk Square » في روسيا، والذي تم تطويره وسط المدينة ولا يعتمد حصرًا على المكون الأخضر.
المصادر: 
[1] The Toxic Intersection of Racism and Public Space
[2] Racism is magnifying the deadly impact of rising city heat
[3] City dwellers gained more access to public spaces during the pandemic – can they keep it?
[4] Restorative Environments, in Environmental Psychology: An Introduction, Linda Steg.

ما هو الإجهاد البيئي؟

هذه المقالة هي الجزء 6 من 9 في سلسلة مقدمة في علم النفس البيئي

في المقال السابق من هذه السلسلة قدّمنا لمفهوم جودة البيئة الحضرية، وكيف أنه مفهوم متعدد الأبعاد لتقييم المدن وجودة المعيشة فيها. التفاعلات البيئية-البشرية تأخذ أشكالًا متعددة ولدى البشر قدرة كبيرة على التأقلم مع بيئاتهم وظروفهم. ولكن التأقلم مع تحديات ومتطلبات البيئة مكلّف على المستوى النفسيّ، والظروف البيئية متدنية الجودة تتطلب أكثر مما قد يحتمل ذهن الفرد. اختلال التوازن بين المتطلبات البيئية وقدرات الإنسان على التجاوب معها هو ما يسمّى في علم النفس البيئي بالإجهاد البيئي. [1]

الضغوطات البيئية، أي العوامل البيئية التي تسبب هذا الإجهاد أو الضغط، يمكن أن تكون حادّة (مثل مستوى التلوث والغبار أثناء العلوق في نفق مروريّ) أو مزمنة (مثل السكن بالقرب من ازدحام مروري)، وهو النوع الأكثر خطرًا على البشر. [2] تميل الضغوط البيئية لأن تكون مزمنة في كثيرٍ من الأحيان لعدم مقدرة الأفراد على التخلص منها أو الابتعاد عنها (قد يكون من الصعب على الساكنين بجانب مطار أو تقاطع مزدحم الانتقال لمسكنٍ آخر على سبيل المثال).

مسببات الإجهاد البيئي

يواجه البشر الضغوطات البيئية (بالمعنى الواسع) على الدوام، وتشهد البيئات المدنية والحضرية ضغوطاتٍ بيئيةٍ أكبر بالطبع. وتعتبر أكثر 5 مُحهدات بيئية دراسةً هي الضوضاء، والازدحام، وتدني جودة المساكن، وتدني جودة الحي، والاكتظاظ السكاني.

الضوضاء

تعرّف الضوضاء بانها أصوات غير مرغوب بها، وتتصف عادةً بكونها صاخبة ومتكررة وطويلة الأمد. يلعب المكوّن النفسي من الصوت (أي كونه غير مرغوب فيها أو خارجًا عن السيطرة مثلًا) دورًا هامًا في اعتباره مصدرًا للضوضاء، كما سبق لنا الحديث في مقال سابق عن جودة البيئة الحضرية.

الضوضاء المزمنة قد تتسبب في التوتر الفسيولوجي وارتفاع ضغط الدم وأمراض القلب. كما أنها تؤثر سلبًا على التركيز والتحفيز؛ فطلاب المدارس الواقعة في أماكن صاخبة (بالقرب من المطارات مثلًا) يعانون من مستويات تركيز أضعف ومن فقدان الرغبة في العمل والدراسة.

الاكتظاظ

الاكتظاظ هو حالة نفسية تحدث حين يشعر المرء بأن عدد الناس الموجودين في بيئته أكثر مما يفضّل، وتتباين هذه الكثافة السكانية المفضلة بين الأفراد وتختلف باختلاف السياقات الاجتماعية والمكانية (سياق وجيز أو طويل الأمد، نوعية النشاط الحاصل، أو مدى عمومية المكان). يحدّ الاكتظاظ من القدرة على إدارة التفاعلات الاجتماعية.

بالإضافة إلى الآثار الفسيولوجية مثل ارتفاع الضغط والقصور الاجتماعي، فإن الاكتظاظ يؤدي إلى الاجهاد النفسي. فالأفراد الذين يشعرون بالاكتظاظ يعانون من القلق والعصبية والتوتر؛ وقد يصل الحال إلى الانعزال المجتمعي «Social Withdrawal»، ومن علاماتها الحدّ من التواصل البصري والتباعد الاجتماعي والعزوف عن اقامة المحادثات.

جودة المسكن

تواجد عوامل الضوضاء والاكتظاظ في البيوت والمساكن يؤثر سلبًا على جودتها. فالعيش وسط بيئة مكتظة سكانيًا ومليئة بالضوضاء كان له نفس التأثير الفسيولوجي من ارتفاع في نسب الضغط وأمراض القلب. ولكن انخفاض جودة المسكن يؤثر أيضًا على النمو العاطفي والسلوكي والذهني للأطفال كما للبالغين.

تحسين ظروف المعيشة والسكن بالمقابل تؤثر إيجابًا على مستويات السعادة والرضا المعيشي بين السكان. وفي المقال التالي سنعود إلى هذا التأثير أثناء حديثنا عن الارتباط المكانيّ.

جودة الأحياء السكنية

هناك العديد من العوامل المكانية التي تؤثر على جودة الأحياء السكنية وقد تتسبب في الإجهاد؛ مثل جودة الخدمات المتوفرة، وفرص التنزه، والازدحامات المرورية، وتوافر المواصلات، وانعدام الصيانة، وانعدام المراقبة البصرية (توافر أعين لترى وتلاحظ ما يجري بالشارع). تؤثر جودة الحي على شعور السكان بالرضا المعيشي والسعادة كما قد تؤثر عليهم بدنيًا وصحيًا. ومن المنطقي اعتبار الارتفاع الملاحظ في نسب التوتر والإجهاد لدى سكان الأحياء الفقيرة ناجمًا عن تعرضهم للمزيد من الضغوطات والموتّرات البيئية.

الازدحام المروري

تتسبب الازدحامات المرورية في نفس الآثار النفسية والصحيّة. كما أن دراسة سلوكيات السائقين تشير إلى أنه كلما ازداد وقت الازدحامات المرورية وزمن الوصول إلى الهدف، كلما ساءت التفاعلات والعلاقات الاجتماعية مع الأهل في البيت. وهذا ما يسمى بتأثير الامتداد «Spill-over Effect»، والذي أشرنا له سابقًا حيث يتسبب تراكم الموتّرات البيئية في سياقٍ ما بآثارٍ سلبية على سلوك وصحة الفرد في سياقٍ مختلف. يتسع الآن مدار البحث والدراسة بخصوص المرور والازدحامات مع توسع المدن ونموها حول العالم، ولأن الأوقات المقضية في المواصلات تزداد عالميًا. ففي أمريكا مثلًا يقضي المرء في المتوسط زمنًا في المواصلات أكثر مما يقضيه في الإجازات.

الآثار غير المباشرة للضغوطات البيئية

قد تتسبب الضغوطات البيئية بآثار صحية ونفسية أخرى بطرقٍ غير مباشرة. فعلى سبيل المثال، قد يؤدي ضعف الخدمات وانخفاض جودة الإدارة المحلية إلى عدم توافر محلات غذائية كبيرة توفّر منتجات طازجة وصحية للسكان ما يخل بنظامهم الغذائي والصحيّ. كما أن عدم توافر الخدمات المطلوبة في مسافة قريبة تجعل من الضروري الذهاب إلى أحياء ومناطق أبعد لإنجاز المهمات المنزلية الضرورية، ما يعني المزيد من الجهد والتوتر على المدى البعيد.

الإجهاد البيئي مفهوم مركب، من شقٍ مكانيّ فيزيائي وشقٍ اجتماعي\إداري؛ فتواجد متنزهات أو مرافق عامة لسكان حيٍ ما لا يعني بالضرورة قدرتهم على الاستفادة بها لممارسة الرياضة أو التسوق على سبيل المثال. فعوامل مثل انعدام الصيانة أو غياب الأمن قد تنفّر السكان من استخدام المرافق المتاحة حتى في حال تواجدها. في المقال التالي نتحدث عن البيئات العلاجية وشروط تحققها، وكيف يمكنها أن تحد من أضرار الموتّرات البيئية.

المصادر:
[1] Environmental Stress, in Environmental Psychology: an introduction; Lina Steg and Judith I. M. De Groot.
[2] للمزيد حول آثار التوتر والقلق المزمنين أنصح بكتاب Why Zebras Don't Get Ulcers، أو حوار روبرت سابولسكي حول الموضوع.

الإنشاءات مسبقة الصنع: وسيلة بناء أكثر فاعلية وسرعة

ما هي الإنشاءات مسبقة الصنع؟

الإنشاءات مسبقة الصنع «Prefabricated construction»، وتسمى أحيانًا بالإنشاءات المعيارية «Modular Construction»، هي وسيلة إنشاء حديثة تعتمد على بناء وتركيب أجزاء ومكونات المباني بعيدًا عن موقع الإنشاء وتحت ظروف مصنعية متحكم بها، ومن ثم تركيب وتجميع مكونات المبنى في الموقع المراد. تدعى هذه الوسيلة بالإنشاءات المعيارية لاعتمادها على مكونات معيارية، تتراوح في الحجم بين مكونات كهربائية أو سباكة أو بنائية محددة، مرورًا بمكونات خدمية كاملة كالحمامات، وانتهاءً بوحدات كاملة يتم تصنيعها ومن ثم جمعها في مواقع البناء. تشتهر المنازل المشيّدة بهذه الطريقة باسم المنازل مسبقة الصنع.

بالطبع، هناك العديد من المكونات المعيارية المستعملة في أي عملية البناء، مثل معايير الطوب الأحمر والتي تحددها الهيئات الهندسية لضمان جودة وسلاسة عمليات البناء. لكن التصنيع المسبق «Prefabrication» يستعمل للدلالة على المكونات الأكبر حجمًا والتي تشتمل على أجزاء أصغر، كغرف الخدمات أو الوحدات السكنية. [1] [2]

تركيب مبنى سكني مصنّع مسبقًا عن طريق ألواح خشبية عازلة

فوائد التصنيع المسبق

يوفر التصنيع المسبق عدة فوائد لعملية البناء. فمن جهة الإنشاء فتصنيع الوحدات في بيئة وظروف متحكم بها يرفع من جودة البناء ومستويات العزل (الحراري أو المائي). كما أنه يرفع من وتيرة البناء ويسمح بإنشاء عددٍ أكبر من الوحدات في زمن أقصر (إذ يتضمن العمل الميداني مهماتٍ أقل ويمكن الاستمرار في العمل في ظروفٍ جوية أصعب). ومن جهة التخطيط العمراني فتطبيق هذه الطريقة يسمح بتوفير عددٍ أكبر من الوحدات السكنية بحيث تكون موحدة المعايير والمساحات ومضمونة الجودة. وعلى المستوى المعماري المحض، فاستعمال الوحدات المعيارية «Modules» لا يشكل قيدًا بالضرورة على التصميم المعماري، ويمكن دمجه مع العديد من المواد والتقنيات الأخرى. كما أن المباني والمنازل مسبقة الصنع لا تُظهر أي فوارق مُلاحظة عن المباني التقليدية حال اكتمالها، سواء خارجيًا أم داخليًا. [3]

المنازل مسبقة الصنع: أكثر كفاءة واستدامة

أما من جهة الاستهلاك والاستدامة، فالتصنيع المسبق يسمح بتضمين تقنيات ومعايير أفضل لضمان العزل الحراري أو التدفئة على سبيل المثال. كما أنه يقلل من انبعاثات الكربون الصادرة عن مواقع الإنشاء ويقلل من مخلفات عمليات البناء.

من أكثر أنواع الإنشاءات المعيارية ومسبقة الصنع انتشارًا الآن هي «الألواح العازلة الهيكلية – Structural Insulated Panels»، وهي ألواح مصنّعة ومجهزة حسب الطلب يمكن تشكيلها حسب الحاجة والشكل المطلوبين، وتحتوي على نظم العزل الخاصة بها قبل التشييد. نظام الألواح العازلة الهيكلية ينتشر في أوروبا نظرًا لسرعته وكفاءته وامكانية تشكيل الألواح بأشكال مختلفة، ناهيك عن خصائصه الحرارية الممتازة. من النماذج الناجعة لتطبيق هذا النظام هو حي الإبداع المناخي بمدينة ليدز ببريطانيا، والذي يعتبر مشروعًا رائدًا في العمارة المستدامة وتوفير الطاقة ويوفر منازل مسبقة الصنع بجودة عالية. [4]

منازل مصممة باستعمال هياكل خشبية مصنّعة مسبقًا بمدينة ليدز البريطانية.

يمكننا تشييد مبنى مثل الليجو، أو تشييد ناطحة سحاب في أيام!

تتراوح أنظمة الإنشائات المعيارية في الحجم والتعقيد. فتتراوح بين أنظمة “الطوب الخشبي” التي تستعمل الخشب لبناء جدران باستعمال مكعبات خشبية أشبه بمكعبات الليجو، وبين أنظمة أكثر تعقيدًا تعتمد على معيارية أساسات وهيكل المبنى نفسه. من امثلة هذه النظم الأخيرة وأكثرها شهرة نظام «والتر سيجال – Walter Segal method»، وهو نظام يستعمل وحدات معيارية لإنشاء هياكل خشبية للمباني، بحيث تكون خفيفة الحمل ومتاحة للتشييد الذاتي دون الحاجة لشركات مختصة. تمكين الأفراد من التشييد والبناء باستخدام تقنيات الوحدات المعيارية ذاتيًا هو أحد أهداف تطوير هذه النظم ابتداءً؛ إذ أنها توفر بديلًا سهلًا ورخيصًا وفعّالًا عوضًا عن الاعتماد على شركات مختصة ذات تكلفة كبيرة.

مؤخرًا، برزت الصين كمثال لعمليات البناء السريعة. فقامت مثلًا في بداية جائحة كورونا بمدينة ووهان بتشييد مستشفى كاملة باستعمال نظام التصنيع المسبق خلال 10 أيام لاستعياب المرضى. [5] ولكن حتى لو استبعدنا عامل الإدارة الصينية المركزية، فحتى الشركات الصينية الخاصة بدأت تتوسع في هذا المجال. فمنذ فترة قريبة أتمت شركة «Broad Group» الصينية بناء برج سكني مكون من عشرة طوابق في مدة لم تتجاوز 29 ساعة. المبنى مكون من وحدات معيارية مصنعة مسبقًا، وكل ما احتاجه في موقع الإنشاء هو تركيب أجزائه وإيصال المياة والكهرباء. [6]

جدير بالذكر أن شركة “برود جروب” قد خططت عام 2012 لبناء أعلى ناطحة سحاب في العالم بارتفاع 838 مترًا باستعمال تقنية التصنيع المسبق. وكان مخططًا أن يتم الانتهاء من البرج خلال 7 شهور في البداية، وتقلصت مع بداية الإنشاءات إلى 90 يومًا فقط. إلا أن بناء البرج توقف عام 2013 وسط مخاوف حول سلامته وتوقف دعم الحكومة. [7] ويبدو أن التصنيع المسبق والإنشاءات المعيارية تنال رواجًا في دول شرق آسيا ذات الكثافة السكانية العالية. فأطول برج معياري في العالم الآن هو برج “كليمينت كانوبي” في سنغافورة، بارتفاع 135 مترًا. وقد تم بناؤه باستعمال وحدات اسمنتية مصنعة مسبقًا.[8]

برجا “كليمينت كانوبي” في سنغافورة

مستقبل الإنشاءات قد يكون طباعة المباني!

مع تقدم تقنيات التصميم الحاسوبي والطباعة ثلاثية الأبعاد، بدأت هاتان التقنيات بالاندماج. إذ قام مهندسون من شركة آروب Arup البريطانية بتشييد منزلٍ عن طريق تصميمه حاسوبيًا ومن ثم طباعته باستخدام روبوت خاص.  يتكون المبنى من غرفة معيشة وغرفة نوم ومطبخ وحمام، بمساحة 100 متر مربع وارتفاع 3.2 متر.

تمت طباعة المبنى في ساحة عامة وعُرض في مهرجان “أسبوع التصميم” بميلان

صمم المهندسون جدران المنزل، باعتبارها وحدات المبنى الأساسية، باستعمال برنامج راينو. تزن كل وحدة 1400 كجم (ما يجعل وزن المبنى كله 50 طنًا) وأخذت من 60-90 دقيقة للطباعة. استعمل هذا المشروع مزيجًا اسمنتيًّا معاد التدوير وسريع الجفاف ليستطيع مجاراة سرعة الطباعة ثلاثية الأبعاد.  كما أن آلة الطباعة التي قامت بتشييده تتمكن من الطباعة مباشرة في موقع المبنى ولا تحتاج للطباعة في معمل. أخذ تشييد المبنى (أو طباعته بالأحرى) أسبوعًا ليكون آهلًا للسكن. [9] [10]

في ظل موجات التمدّن والتحضّر وتوقع ازدياد نسبة سكان المدن من العالم إلى 70% بحلول 2050، فإن الإنشاءات المصنّعة والمعيارية بشتى تقنياتها توفر حلولًا لتوفير مساكن ومنشآتٍ موفرة وفعّالة ومستدامة، بالأخص في الأماكن التي تشهد مشاريع تطوير  عمرانيّ كبيرة.

المصادر: 
[1] Prefabrication 
[2] Modular architecture
[3] للمزيد حول تاريخ الإنشاءات مسبقة التصنيع: المنازل الجاهزة
[4] Climate Innovation District
[5] China completes hospital in 10 days
[6] dezeen: Modular Apartment Block in 28 Hours
[7] dezeen: World's tallest Modular building
[8] dezeen.com Clement Canopy
[9] 3d-printed Concrete House
[10] dezeen.com 3d-Printed House

ما هي جودة البيئة الحضرية؟

هذه المقالة هي الجزء 5 من 9 في سلسلة مقدمة في علم النفس البيئي

تستقطب المدن الآن أعدادًا كبيرة من الناس الباحثين عن فرص أفضل للعمل والسكن وحتى للمرح. تعتبر جودة البيئة في المدن ذا أهمية لحياة أولئك الناس. وإذا نظرنا إلى الإسهامات العلمية في مجال الدراسات البيئية-البشرية نجد أن البحث في جودة البيئة الحضرية يكوّن صلب البحث في علم النفس البيئي والجزء الأكبر من الدراسات التجريبية والميدانية.

العديد من الظروف البيئية مثل الضوضاء والحرارة والتلوث الجوي والازدحام قد تكن مصادر ازعاج وقلق وتخفض جودة البيئة الحضرية؛ بينما يمكن لعوامل أخرى مثل البنى التحتية والمساحات الخضراء والمؤسسات الصحية والتعليمية رفع من جودتها.  جودة البيئة الحضرية «Urban Quality Environment»  إذن مفهوم متعدد الأبعاد.

عوامل الإجهاد البيئي

تُعرف العوامل البيئية المؤثرة سلبًا بالضغوطات البيئية. وتؤدي إلى الإجهاد البيئي «Environmental Stress»، تتسبب هذه الضغوطات في نتائج عدة، كالمشاكل الصحية والمشاعر السلبية والسلوكيات غير الاجتماعية.

ترتبط العوامل البيئية المحيطة بالأفراد بكيفية إدراكها، فتصبح تلك العوامل مصدرًا للإجهاد. إذا اعتبرها الفرد نشوزًا في بيئته على سبيل المثال. حيث يقوم الناس بتقييم الظروف المحيطة بهم على مستوى الحطورة والضرورة وإمكانية توقعها وإمكانية التحكم بها. ما يؤثر على شعورهم بالانزعاج منها أو اعتبارها مصدرًا للإجهاد والقلق. فعلى سبيل المثال، إذا اعتبر الفرد مصدرَ ضوضاءٍ ما (مثلًا أعمال صيانة للطريق أو صوت لعب أطفال في مسجد) غيرَ مهم أو خطرًا أو غير ضروري، فسيشعر بمستويات أعلى من الانزعاج والإجهاد بسببه عمّن ينظر إلى مصدر تلك الضوضاء بشكلٍ أكثر إيجابية (باعتبارها ضرورية ومؤقتة على سبيل المثال).

تعتبر مستويات التيقظ «Arousal» والاجهاد «Sensory Overload» أبرز آليات الاستجابة للمؤثرات البيئية السلبية. حسب قانون يركيس-دودسون، فالمستويات شديدة الانخفاض او الارتفاع من التيقظ تؤثر سلبًا على الأداء (بالشعور بالضجر في حالة الانخفاض والقلق في حالة الارتفاع)، بينما يكون الأداء مثيرًا ومثاليًا في مستويات متوسطة ومثلى من التيقظ البدني والعقلي.

في البيئات الحضرية يدفع تواجد عدة ضغوطات بيئية إلى الإجهاد. وحسب نظريات الإجهاد فإن استمرار تواجد الضغوطات يحتاج إلى جهد عقلي متواصل لمواجهة الضغط، ما يؤدي إلى مستويات  تيقظ مرتفعة على الدوام. وفي حال استمرار الإجهاد والتوتر لفترات مطولة يتطور الأمر إلى إرهاقٍ عصبي يقلص من القدرات الإدراكية والعقلية. وفي تلك الحالة يحتاج الفرد إلى أواليات للتعامل مع طاقاتهم وقدراتهم المنهكة، عن طريق الاهتمام والتركيز فقط على التعاملات والمعلومات المهمة وتجاهل الباقي.

في حالة الوصول إلى مرحلة الإرهاق العصبي فإن حتى أصغر المعاملات التي تتطلب بعض التركيز والجهد (مثل الحديث مع الجيران أو اللعب مع الأولاد) قد تكون غير محتملة. ولذلك ففي البيئات الحضرية تكثر حاجة الأفراد للانعزال.

المدينة كمتنفسٍ صحي

المدن ليست فقط مصادرَ للضغط والقلق، بل توفر أيضًا العديد من المتنفسات. فعلى سبيل المثال، يمكن لتخطيطٍ صديقٍ للمشاة «Pedestrian-Friendly» أن يحفز من تجارب التمشية للسكان. كما يمكنه أيضًا توفير تجارب يومية محببة للناس، كمشاهد الخضرة والناس ولعب الأطفال وغيرها من الأنشطة الدائرة في الطرق. ناهيك عن أن التصميم الصديق للمشاة يقلّص من تواجد السيارات في المناطق السكنية ما يضفي شعورًا بالأمان لدى السكان. وقد تحدثنا في المقالات السابقة عن فوائد المساحات الخضراء على سكان المدن. ونضيف الآن أن توافر العناية للمسطحات الخضراء والحدائق وصيانتها يخلق المزيد من الفرص للتعاملات الاجتماعية مع الآخرين، ويزيد من الشعور بالأمن والاهتمام أيضًا.

تعتبر بعض المناطق الحضرية أيضًا ملاذًا نفسيًا، أي أنها تساهم في خفض نسبة الضعط والإرهاق الذهني. فعلى سبيل المثال، يمكن لتواجد النباتات والمظاهر الجمالية عامةً أن تخفض معدلات الإرهاق الذهني (ما قد يساهم أيضًا في خفض معدلات العنف الأسري أحيانًا!). كما أن تواجد علامات طبيعية ومدنية متنوعة في المحيط ينعكس إيجابًا على تجربة السكان. فوجود منشأة كمتحفٍ أو دار عبادة على سبيل المثال ذات تصميم متسع ومتناسق (أي تسمح بالتجول والاستكشاف وتحتوي على علامات يسهل العثور عليها) قد يصاحب تأثيرًا صحيًا على الشعور بالضغط والإجهاد.

دراسة وتقييم جودة الحياة في المدن

يعرّف مفهوم الرضا السكنيّ «Residential Satisfaction»  بأنه الشعور بالرضا الناتج عن العيش في مكان (منزل، حي، أو بلدة). وقد طُوّر هذا المفهوم ليكون أكثر شمولًا، وبقدرٍ ما أكثر موضوعية، عن طريق شموله للمناحي الذهنية والسلوكية والشعورية لدى السكان.

يمكن تقييم الجانب الذهني للرضا السكني باعتبار الجوانب التي يراها الأفراد متعلقةً بجودة حياتهم بشكلٍ عام. أي الجوانب التي يدركون تأثيرها عليهم سلبًا أو إيجابًا. نعيد التذكير بأن انطباع الفرد عن المؤثرات المحيطة به قد يجعلها أشد توتيرًا. يستعمل المختصون في الدراسات الحضرية عدة مقاييس ومعايير نفسية لقياس هذه الانطباعات، ويحاولون مواءمتها في بيئات ثقافية متعددة.

يقاس الجانب السلوكي بشكلٍ رئيسي باعتبار التنقل السكاني، أي تغيّر سكن الفرد، باعتباره مؤشرًا على عدم الرضا السكني. على سبيل المثال، أشارت دراسة على 12 دولة أوروبية أن التكدس في غرف المنازل والمساكن كان مؤثرًا مباشرًا على التنقل السكاني. وأثرت عوامل أخرى كالأعطال المنزلية والضوضاء ومعدلات الجريمة على التنقل عبر آثارها السلبية على رضا السكان. الجانب الثالث، وهو الجانب الشعوري، سيكون عنوانًا لمقال لاحق حين نبدأ بالحديث حول نطاق الإدراك البيئي.

تقييم جودة المدن معماريًا

قد يكون مناسبًا في سياق الحديث عن مستويات الرضا السكانية وكيفية قياسها التطرق إلى تقييم الأماكن والمناطق الحضرية من وجهة نظر معمارية، وتحديد قيمتها ومدى رضا ساكنيها ومستخدميها عنها. تعتبر دراسة «Beyond Location» البريطانية رائدة في هذا المجال. حاولت هذه الدراسة معرفة ما يجعل مكانًا ما مفضلًا أو مكروهًا، وكيف يؤثر تفضيل الناس أو كرههم لمكان ما على سلوكياتهم نحوه؟ قامت هذه الدراسة بتحليل أكثر من 19000 مكانًا عامًا في 6 مدن بريطانية، باستعمال عدة وسائل لتحليل كمية ضخمة من البيانات. وتعتبر هذه الدراسة أكبر دراسة تجريبية من نوعها في هذا المجال.

أثارت هذه الدراسة العديد من النقاشات حول مستقبل التخطيط العمراني. إذ أشارت إلى أن العديد من مبادئ التخطيط العمراني الجديد «New Urbanism» غير مفضلة. وأن النمط التقليدي في التصميم والتخطيط ليس بذلك السوء. لكن تطرقت الدراسة لما هو أبعد من النمط المعماري، إذ حددت 8 مبادئ ترفع من قيمة مكانٍ ما بالنسبة لساكنيه ومرتاديه، وكانت بعض نتائجها مذهلة بالفعل.

وجدت الدراسة على سبيل المثال أن وفرة الحدائق والمسطحات الخضراء لا يرتبط بالضرورة بارتفاع قيمة المكان. إذ أن طبيعة المساحة الخضراء ومدى صيانتها كانا عاملين مهمين. وجدت الدراسة أيضًا أن السكان يشعرون بالرضا أكثر في  الأحياء متعددة الأنشطة (أحياء يتوفر فيها أماكن للسكن والتسوق والترفيه والعمل) عن الأحياء السكنية المحضة (كما هو مشهور في تخطيط الضواحي غربيًا). السكن بالقرب من معلمٍ ما وبالقرب من المنشآت التعليمية كان له أثر كبير في رفع تقييم الأماكن المحيطة وقيمتها.

المصادر:
[1] Urban Environmental Quality, in Environmental Psychology: an introduction; Lina Steg and Judith I. M. De Groot.
[2] Environmental Psychology – University of California, Irvine
[3] Beyond Location

العمارة الحيوية – كيف شكّلت الطبيعة العمران والهندسة؟

هذه المقالة هي الجزء 4 من 9 في سلسلة مقدمة في علم النفس البيئي

في المقال السابق عرضنا نبذة عن الفوائد الصحية للتعرض للطبيعة، وكيف أدت تلك الأبحاث لنشوء مبادئ البايوفيليا أو “حب الطبيعة” في التصميم والتخطيط المعماريين، والتي تسعى لإدماج الطبيعة في نسيج المدن بهدف رفع جودة المعيشة أو المحافظة على البيئة أو توفير متنفس للسكان.

في هذا المقال نستعرض التأثير المعاكس لعلاقة البيئة بالعمران هذه، أي كيف تأثرت العمارة والتخطيط العمراني، من جهة المعرفة العمرانية وتقنيات البناء، بالتفكير البيئي والمحب للطبيعة، والتي أدت في أحدث محطاتها إلى نشوء العمارة الحيوية «Bionic Architecture» ومبادئ التصميم البيئي «Biophilic Design».

المدن الحدائقية – Garden Cities

قد تكون أولى محطات التصميم الحيوي أو البيئي للمدن الحديثة هي  المدينة الحدائقية، والتي ابتكرها الانجليزي «إبينيزر هوارد» عام 1898. وهي نموذج عمراني يدمج بين البيئة الحضرية -في شكل نواة مدنية- والبيئة الخضراء -في شكل محيط ريفيّ-  في محاولة لخلق توازن بين النموذجين وتلافي قصورات كليهما.

كانت المدينة الحدائقية حلًا لمشاكل التلوث والتكدس التي كانت تعانيها المدن الأوروبية في تلك الفترة، ولذلك لاقت رواجًا كبيرًا وتم إنشاء عدة بلدات بالفعل حسب هذا النموذج، إذ كانت تهدف في حال وصولها ذروة طاقتها الاستيعابية للوصول إلى الاكتفاء الذاتي.

إلا أنه المدينة الحدائقية كانت تعاني من قصورات خاصة بها هي أيضًا، مثل قلة المساحات المتاحة للبناء والتوسع. ولكنها لا تزال تلقى بعض الرواج، مثلًا في بريطانيا حيث قررت الحكومة عام 2017 إنشاء عدة بلدات حدائقية حول البلاد.

نموذج المدينة الحدائقية كما اقترحها إبينيزر هوارد [ويكيبيديا]

التخطيط العمراني الأخضر – Green Urbanism

ظلت المدن الحديثة غالبًا غير مهتمة بالجانب الأخضر والبيئي فيها وبآثارها البيئية حتى ستينات القرن الماضي. ففي الولايات المتحدة كمثال كان التوسع الحضري نحو الأرياف المحيطة بالمدن سمة بارزة في خطط التوسع العمراني حينئذ. ولكن مع اضطرابات الستينات الاجتماعية والسياسية وظهور الوعي بأزمة المناخ بدأت الحركات المهتمة بالبيئة بالظهور والانتشار.

وبدأت الحكومات حول العالم بسن القوانين والأكواد لمحاولة تلافي أضرار المدينة على البيئة وجعل المدن أكثر استدامة، كما حدث في قمة الأرض للأمم المتحدة عام 1992. بعد هذا المؤتمر بدأت مصطلحات كالتخطيط العمراني المستدام والتنمية المستدامة في الانتشار.

يسمى التخطيط العمراني الأخضر أيضًا بالتخطيط العمراني المستدام، وبالتخطيط العمراني البيئي.  وقد تكون كوبنهاجن من أكثر مدن العالم تطبيقًا لمبادئ التخطيط المستدام هذه. ما يدعو للإعجاب في إدارة كوبنهاجن لتوسعاتها العمرانية  هي سبقها الزمني للكثير من النماذج المستدامة.

مثل مخطط “الأصابع الخمسة” الذي طورته المدينة عام 1947 والذي كان يهدف لتنظيم التوسع العمراني لمدينة كوبنهاغن والحفاظ على المسطحات الخضراء المحيطة بالمدينة، وتطوير خطوط مواصلات عامة فعالة تربط وسط المدينة (كف اليد) بالتوسعات الجديدة (الأصابع). ستكون لنا عودة في المقالات التالية للقواعد التي اتبعتها كوبنهاجن في خلق مدن أكثر إنسانية ورفاهية من جوانب أخرى.

مخطط “الأصابع الخمسة” لمدينة كوبنهاغن

العمران العضويّ -Organic Urbanism

كان المعماري الأمريكي «فرانك لويد رايت» أول من صاغ مفهوم «العمارة العضوية» وعرّفها بأنها المعمار المتوافق مع الطبيعة.  ومع مرور الوقت أخذ مفهوم العضوية يأخذ مساحةً أكبر واهتمامًا أكثر في مجال العمران والهندسة. فبينما تتمثل العضوية في المعمار كثيرًا باستعمال أشكال وتصاميم وهياكل مشابهة لتلك التي في الطبيعة، نجد أنها مهدت الطريق للكثير من التقنيات الهندسية والمفاهيم الإنشائية الأوسع.

ففي مجال التخطيط العمراني نشأ مفهوم «المدينة العضوية» والذي يرى المدينة باعتبارها كائنًا حيًا، لا ينمو عن طريق إضافة الأجزاء له عن عمد ولكن عن طريق إعادة ترتيب وظائفه ومهامه حين يصل إلى حدود طاقته الاستيعابية وإمكانياته.

لا تمتلك المدينة العضوية مركزًا حيويًا واحدًا، بل هي تتكون من عدة مراكز مكتفية بذاتها ولكنها متصلة ببعضها وتعتمد على بعضها.  وبالمثل، فالنموذج العضويّ في التنمية العمرانية يستند على جعل كل مرحلة من إنشاء أو تنمية المدن قادرةً على القيام بذاتها، عوضًا عن جعلها جزءًا من كلٍ ينتظر الاكتمال لتبدأ بالعمل.

لذا فهذا النموذج يعتبر معياريًا، أي مكونًا من أجزاء معيارية متشابهة قائمة بذاتها كما هو الحال في عمليات حيوية كثيرة. وتعتبر العمارة العضوية مقدمة للعمارة الحيوية والتصميم الحيوي.

يعتبر مركز قطر الوطني للمؤتمرات نموذجًا للعمارة العضوية إذ يأخذ شكل فروع الأشجار، إضافةً إلى تقييماته البيئية المرتفعة.
[David Michael via Flickr Creative Commons]

العمارة البيئية –  Arcology

نشأ مفهوم العمارة البيئية مع المعماري «باولو سوليري» -وهي دمج لكلمتي عمارة وبيئة الانجليزيتين-. تسعى العمارة البيئية لخلق قواعد ومعايير هندسية لتصميم مناطق شديدة الكثافة السكانية وذات أثر بيئي منخفض.

على الرغم من كون معظم المشاريع النابعة من هذا التصور لم تظهر أو تبن على أرض الواقع، إلا أن مفهوم العمارة البيئية مثّل نقلة في التفكير المعماري -الغربي بالمقام الأول- إذ انتقل من السعي للسيطرة على الطبيعة إلى التعايش معها. ويمكننا اعتبار العمارة البيئية حلقة وصل بين التخطيط العمراني والتصميم المعماري البيئيين.

يُعد المعماري والمهندس والمخترع الأمريكي «باكمنستر فولر» (أو «باكي» كما كان يحب أن ينادى) من أبرز المنظّرين لفكرة العمارة البيئية. وحيث أنه كان من رواد نظرية النظم فقد كان من رواد مفهوم الاستدامة ورؤيتها على عدة مستويات بشكل متداخل.

على الرغم من أن أفكار «فولر» لم تنتج أي إنجاز كبير في مجال الاستدامة، فيرجع الكثير من الفضل إليه في إشاعة مفهوم الاستدامة واعتبار العالم الحديث ومدنِه جزءًا من بيئة أوسع يعتمد عليها للبقاء.

التصميم البيئي – Biophilic Design

التصميم البيئي هو مفهوم يعني العمل على تصميم البيئة الحضرية والعمرانية بشكلٍ أكثر ارتباطًا بالطبيعة وأكثر ارتباطًا بطبيعة البشر النفسية تجاه بيئاتهم ومحيطهم.

انبثق هذا التوجه من أبحاث وأفكار علماء النفس والأحياء التطوريين، بعد إدراك أن المكوّن الجيني والنفسي الذي نتعامل ونتجاوب به مع العالم والبيئة المحيطة أقدم بكثير من البيئات الحضرية التي أنشأها البشر في العشرة آلاف عامًا الماضية.

كان عالم الأحياء «إدوارد ويلسون» أول من صكّ مفهوم حب الطبيعة «Biophilia» وعرّفها بأنها الميل للظروف البيئية التي ساهمت في بقائنا -من منظورٍ تطوريّ-. 

عرضنا في المقال السابق أمثلة لتطبيقات هذا المفهوم في التخطيط العمراني والتصميم المعماري. بعض الكتابات الحديثة في هذا المجال تحاول توظيف نظريات حيوية لتفسير السلوك البشري في البيئة الحضرية؛ مثل تفضيل الناس للسير بجانب الجدران عوضًا عن الابتعاد عنها. وسيكون لنا عودة لهذا المجال في مقال لاحق.

العمارة الحيوية – Bionic Architecture

العمارة الحيوية هي توجه مشابه لمفهوم العمارة العضوية، وهي توجهٌ يدرس النظم والعمليات الحيوية في الطبيعة ويحاول محاكاتها في العمارة والهندسة عن طريق التصميم الحيوي، بهدف الوصول إلى إنشاءات أكثر توفيرًا وأكثر فعالية وأقل تأثيرًا على البيئة.

تأثرت العديد من أفكار ونظريات وتقنيات هذا المجال أيضًا بالنظريات البيولوجية والمحاكات الحاسوبية الحيوية وبتقنيات البايوتكنولوجي. من أبرز أمثلة هذا النمط من التصميم هو مشروع عدن في بريطانيا.

مشروع عدن [ويكيبيديا]

إحدى تطبيقات هذا النوع من الهندسة الحيوية هو «المحاكاة الحيوية – Biomimicry» حيث يحاول المهندسون والمعماريون والعلماء فهم الوسائل التي تعمل بها الطبيعة والكائنات الحية بكفاءة لمحاكاتها بهدف تطوير  تصميمات ومواد وتقنيات أكثر استدامة وأكثر فاعلية. أكثر تطبيقات هذا المفهوم شهرة هو محاكاة الهياكل الطبيعية لصنع هياكل أكثر متانة للأبنية.

لكن يشتهر أيضًا تطوير مواد محاكية لتلك التي في الطبيعة أو مواد أكثر نفعًا بيئيًا، مثل مادة الـETFE التي يشتهر استعمالها لخفة وزنها وكفاءتها في العزل الحراري. كما بدأت تظهر للواقع تقنيات ومواد أكثر غرابة، مثل استعمال الطحالب (لتوليد الحرارة، أو للعزل الحراري، أو غيرها).

كان مبنى BIQ House في هامبورغ بألمانيا أول مبنى يوظف هذه التقنية. من رواد المحاكاة الحيوية اليوم المعماري البريطاني مايكل بولين، مؤسس مبادرة «يعلن المعماريون».

وهكذا كما ترى، فليست المدينة وحدها التي تؤثر على الطبيعة سواءً بالسلب أو الإيجاب، بل حتى الطبيعة تؤثر على تخطيط المدن والتفكير العمراني، وتظل العمارة الحيوية شاهدة على انبهار البشر بالعالم من حولهم عوضًا عن سيطرتهم عليه.

[1] Scandinavia Standard [2]
للمزيد من الأمثلة عن العمارة العضوية: Omrania [3]
لأمثلة أكثر عن تطبيقات المحاكاة الحيوية: re-thinking the future و dezeen

التخطيط العمراني المحب للبيئة: «Biophilia»

هذه المقالة هي الجزء 3 من 9 في سلسلة مقدمة في علم النفس البيئي

في عام 1984 نشر «روجر أولريك» دراسة في مجلة «ساينس» قدّمت لأول مرة نتائج تجريبية على أن التعرض للطبيعة قد يدعم الصحة البشرية. راقب «أولريك» مرضى يتعافون من عمليات جراحية واكتشف أن المرضى في الغرف المطلّة على مساحة طبيعية مشجرة احتاجوا فترات أقل نسبيًا للتعافي بعد الجراحة، كما أنهم احتاجوا جرعات أقل من المسكنات مقارنة بالمرضى الذين كانوا في غرف مطلة على جدران.

تم إعادة هذه التجربة في مستشفىً كورية عام 2006، حيث وُزع المرضى عشوائيًا على غرف دون نباتات وأخرى تتوفر على نباتات، وكانت النتيجة أن المرضى الذين توفرت لديهم نباتات في نفس الغرفة تعافوا بشكل أسرع أيضًا. كانت هذه بداية ما يسمى بالتخطيط المحب للبيئة.

تبدو فكرة أن التعرض للطبيعة يجلب فوائد صحية ونفسية بديهية لدى الكثيرين، ولهذا السبب لم يكن هناك حاجةٌ ملحة لفترة طويلة لدراسة أثر الطبيعة على البشر، وبالأخص في المدن. إلا أنه ومع التوسع الكبير في المدن والتمدن على مستوى العالم وانتشار الأمراض المزمنة والتوتر بدأ العالم في الاهتمام أكثر بدراسة آثار الطبيعة وكيف يمكن توفير المساحات الخضراء في المدن.

العائد الصحي للطبيعة

مجموعة  أحدث من هذه الدراسات كانت تدور حول قدرة سكان المدن على الوصول للأماكن الخضراء. استعملت هذه الدراسات جماعات كبيرة من الناس لمقارنة درجة صحة أولئك الذين يعيشون في أو بالقرب من مسطحاتٍ خضراء بمستوى صحة الذين يعيشون في أماكن أقل خضرة، بالطبع باستعمال وسائل إحصائية متقدمة لأخذ الفوارق الطبقية والاقتصادية في الحسبان.

إحدى الدراسات الرائدة والتي أجريت على 10 آلاف شخص في هولندا وجدت أن السكان الذين تتوفر  لديهم مسطحات خضراء بالقرب منهم (أقل من 3 كم) يظهرون مستوياتٍ أفضل من الصحة البدنية والنفسية عن الذين لا تتوفر بالقرب منهم أي مسطحات خضراء. وبعد تكرار هذه التجارب على شعوبٍ وبلدان وجماعات أخرى، يظهر استعراض نتائج هذا النوع من الدراسات أن هناك علاقة قوية بين نسبة المساحات الخضراء والصحة النفسية، وعلاقة أقل مع مستويات الصحة العامة.

لاحظت تلك الدراسات أن العلاقة بين المساحات الخضراء والصحة العامة تكون أقوى في الفئات التي تمضي في العموم وقتًا أطول داخل المنزل، مثل المسنين وربات البيوت. ولذلك قد يكون توفير مساحات خضراء مناسبة من وسائل سد الفجوة الصحية بين الأغنياء والفقراء.

بشكلٍ عام، يعتبر الباحثون في مجال البيئة أن العائد الصحي المباشر للطبيعة يرجع إلى أربع فوائد رئيسية:  تحسين جودة الهواء، توفير النشاط البدني، توفير بيئة للانسجام المجتمعي، وتقليل التوتر.

الأشجار جزء من المدن أيضًا!

بالإضافة إلى تلك العوائد الصحية المباشرة، فإن لوجود المساحات الخضراء وبالأخص الأشجار في النسيج العمراني فوائد بيئية وعمرانية لا تقل أهمية. فبالإضافة إلى الفوائد الصحية مثل تبريد حرارة الجو وتقليل انبعاثات الكربون، تساعد الأشجار في الحد من فيضان مياة الأمطار وزيادة قدرة الأرض على الامتصاص، وخفض مستوى الضوضاء.

هناك دراسات حول تقنيات أفضل لزراعة الأشجار في المدن بحيث تنمو بشكلٍ طبيعي لأقصى حجم ممكن لها، عوضًا عن استخدام الأوعية التقليدية التي توضع داخل الأرصفة الاسمنتية. وذلك بوسيلة أنظمة تسمح بمساحة أكبر للأشجار بالنمو في تربة خصبة وتتعرض للتهوية والمياة بشكلٍ طبيعي.

منظومة «GreenBlue Urban» لزراغة الأشجار بحيث تحصل على أكبر مساحة ممكنة من التربة لنمو الجذور.

الطبيعة وسط العمران: التخطيط المحب للطبيعة

أدى التوسع في الأبحاث حول أهمية الطبيعة للصحة والاستدامة في المدن إلى ظهور ما يسمى التخطيط المحب للبيئة «Biophilic Urbanism». مبادئ البايوفيليا -أو حب الطبيعة- تهدف لدعم الارتباط بالطبيعة، واستغلال الموارد الطبيعية المتاحة بشكلٍ مسؤول، والتخطيط العمراني بناءً على الظروف المناخية والحاجات البيئية المحلية.

يمكن لتطبيق مبادئ البايوفيليا ودمج الطبيعة بشكلٍ فعّال في النسيج الحضري أن يساهم في رفع مستوى الصحة البدنية والنفسية والاجتماعية للسكان. وهذا يشمل المشاريع الصغيرة كتطوير الحدائق الخلفية للأحياء والمشاريع الأكبر كإزالة الطرق السريعة من المدن وإحلال الطبيعة مكانها. هناك مدنٌ كثيرة على مستوى العالم بدأت في اعتماد خطط بيئية ضمن خططها العمرانية والتطويرية والاقتصادية، من ضمنها مدن كبرمنجهام وبرشلونة وتورونتو.

تصميمات محبة للطبيعة

كما لا يخفى على كثيرين فإن هناك ميلًا لدى المعماريين على مستوى العالم لدمج الطبيعة والخضرة في تصميماتهم. ولكن على عكس ما يعتقد الكثيرون فإن مصطلح «العمارة الخضراء» لا يعني إحاطة المباني بالأشجار والخضرة وحسب، بل هو مرادف لمفهوم «العمارة المستدامة» والتي تخلق توازنًا بين احتياجات المبنى والمحيط الحيّزية والاقتصادية والبيئية والاجتماعية. ولكن بالطبع فإن إدراج الطبيعة والخضرة داخل المشاريع المعمارية والحضرية يدخل ضمن مفاهيم الاستدامة.

أحد أشهر المباني التي قد توصف بأنها «محبة للطبيعة – Biophilic» هي أبراج «بوسكو فيرتيكالي»، والتي تشبه الغابات العمودية. ومن الأمثلة الأحدث لذلك مبنى مقر شركة أمازون الجديد.

بالطبع، فإن المدن والأحياء المقامة حاليًا لا يتاح لها حرية إنشاء الحدائق والمساحات الخضراء والمباني “الخضراء” كما تريد نظرًا لقيود المساحات والسكن، ولذلك فهناك توجه متزايد في الانتشار عالميًا وهي الحدائق الصغيرة التي تقام في المساحات الفارغة بين المباني، وهو توجه ضمن ما يسمى بالعمارة البينيّة «In-between Architecture». ومن أمثلة هذه المشاريع «حدائق الشارع» في سان فرانسيسكو أو «السحابة الخضراء» في بعض مدن الصين الحديثة.

إزالة السيارات.. لإفساح المجال للطبيعة

التخطيط البايوفيلي يشتمل أيضًا على مفاهيم حضرية مثل مفهوم «المدن المكثفة – Compact Cities»، أي تصميم المدن لتكون ذات كثافة سكانية ووظيفية عالية وفي نفس الوقت تسمح بإدارة واستعمال أفضل وأكثر توازنًا للمساحات داخل المدينة، بالإضافة إلى اعتمادها على شبكة مواصلات عامة قوية. تشهد مدن أوروبية كثيرة انتشار هذا النمط من التوسع والتخطيط لقدرته على الموازنة بين الاحتياجات الاجتماعية والاقتصادية والبيئية في إطارٍ أكثر استدامة على المستوى البعيد.

مظهر آخر من مظاهر هذا التخطيط المحب للبيئة هو اتجاه متزايد في المدن حول العالم اليوم وهو إزالة الطرق لإفساح المجال للأماكن العامة والمساحات الخضراء، كما فعلت مدينة بوسطن بإزالتها الطريق السريع رقم 93 واستبدلته بمحورٍ أخضر من الحدائق والأماكن العامة -تحت اسم «روز كينيدي جرينواي»- بهدف توفير متنفسٍ بيئي وصحي للسكان الأقل قدرة. أو كما فعلت مدينة «تشيونغي تشون» الكورية بإزالتها طريقًا سريعًا مع جسرٍ علوي كان فوق مجرىً مائي،  لتعيد المياه إلى مجاريها -حرفيًا- وتفتتح المنطقة كمزار سياحيّ بيئيّ. ووجه المشروع ذو التكلفة العالية الكثير من الانتقادات في البداية ولكنها اختفت بعد انتهائه وظهور نتائجه البيئية والاجتماعية والاقتصادية الناجحة.

قد تبدو هذه الأفكار والمشاريع نوعًا من الترف والرفاهية في نظر البعض، ولكن في ظل أزمة كورونا الحالية فإن الاهتمام بالمساحات الخضراء والقدرة على الوصول إليها لجميع السكان قد ازداد، إلى درجة أن القضية تثير جدلًا ونقاشًا في وسط المخططين والمعماريين. وسط إشادة بمدن مثل مدينة بونتيفيدرا الإسبانية التي اتخذت خطوات للحد من استخدام السيارات، ما سمح للسكان بالخروج بشكلٍ آمن للطرق. وكما أسلفنا فإن مشاكل الاستدامة والبيئة والصحة العامة في المدن هي ما تدفع بشكلٍ رئيس هذه الخطط لإعادة الطبيعة إلى المدينة، لخلق متنفس للسكان بعيدًا عن ضوضاء الطرق وتلوثها.

مقدمة لعلم النفس البيئي: النظريات والمجالات

هذه المقالة هي الجزء 2 من 9 في سلسلة مقدمة في علم النفس البيئي

في المقال السابق بدأنا بتعريف علم النفس البيئي، المجال الذي يدرس التفاعل بين الأفراد والبيئة الطبيعية والحضرية. ما يعني أن علم النفس البيئي يستكشف تأثير البيئة على التجربة والسلوك والصحة؛ بالإضافة إلى تأثير الأفراد على البيئة. وقدمنا نبذة تاريخية مختصرة لتاريخ دراسة هذه العلاقة المتبادلة بين الطرفين: البشر والبيئة. في هذا المقال نركز على هذا خصائص ونظريات علم النفس البيئي التي تحكم البحث فيه. وبعد استعراض الخلفيات النظرية لهذا المجال المثير، سننتقل في المقالات التالية للتطبيقات العملية في المجالات المختلفة التي يبحثها.

خصائص علم النفس البيئي حاليًا

1- النهج التفاعلي «Interactive Approach»

كما يشير التعريف المذكور أعلاه، فإن محور اهتمام علم النفس البيئي هو التفاعل بين البشر وبيئتهم؛ كما يستكشف كيفية تأثير البيئة على السلوك والعوامل المؤثرة على السلوك التي يمكن أن تساعد لتحسين جودة البيئة. على سبيل المثال فإن توفر البنية التحتية للنقل العام والخاص وجودتها يؤثران على مستويات استعمال السيارات، والتي بالتبعية تؤثر على شدة مشاكل بيئية كتلوث الهواء والاحتباس الحراري. بالمقابل فإن جودة البيئة والطبيعة المحيطة تؤثر على البشر وسلوكياتهم ومزاجهم سلبًا (الضوضاء في المدن قد تؤثر على التركيز وتتسبب بالأمراض مثلًا) أو إيجابًا (التعرض للطبيعة يحمل فوائد صحية ونفسية). ولذلك فإن البشر مرتبطون ببيئاتهم بعلاقة ديناميكية متبادلة.

2- التعاون عبر التخصصات

يعمل الكثير من علماء نفس البيئة في بيئات متعددة التخصصات «Interdisciplinary» ويتعاونون مع باحثين من مجالات أخرى قد توفر وجهة نظر جديدة حول الظاهرة محل الدراسة، ويمكن لتلك المجالات مشتركة أن توفر تصورًا شاملًا حول القضية محل البحث. كما أشرنا في الاستعراض التاريخي السابق، فإن هذه المشاركة متعددة التخصصات تشمل ثلاث مجالات بالدرجة الأولى؛ هي العمارة والجغرافيا، علم النفس الاجتماعي والإدراكي، وعلوم البيئة.

3- النهج الموجه نحو المشكلات

لا يقوم علم النفس -على غرار علوم أساسية أخرى- بالأصل على البحث العلمي المجرد، بل يسعى في الغالب لعلاج مشاكل حياتية واقعية. ولكن هذا لا يعني أن علم النفس البيئي غير مهتم بالتنظير، فكما سنرى لاحقًا فإن جزءًا كبيرًا من هذا العلم موجه نحو وضع الفرضيات واختبارها بغرض سبر وشرح وتوقع التفاعلات البشرية-البيئية. لكن لتطوير النظريات غايةٌ أكبر هي تحديد أكثر الحلول فاعلية للمشاكل الواقعية.

يدرس علم النفس البيئي التفاعل البشري-البيئي على مستويات متباينة، من البيئات الصغيرة كالأحياء والبيوت مرورًا بالمدن وانتهاءً بالكوكب كله. والتحديات الموجودة في كل مستوىً قد تخضع للدراسة، بدءًا بتحديات إعادة التدوير وتوفير الطاقة مرورًا بالحفاظ على التنوع البيولوجي في بلدٍ ما وانتهاءً بوضع استراتيجيات مكافحة تغير المناخ.

4- تعدد المناهج

يستخدم علم النفس البيئي نفس المناهج الوصفية والكمية التي تتبعها باقي التخصصات النفسية. ولكن يتمتع علم النفس البيئي بتعدد نماذج البحث «Research Paradigms»، كلٌ بنقاط الضعف والقوة الخاصة بها. يحاول علماء نفس البيئة إذن تكرار الدراسات والأبحاث باستعمال مناهج بحث متعددة لتلافي قصورات بعضها البعض، وبالتالي تحسين مصداقيتها الداخلية والخارجية.

نظريات علم النفس البيئي

كما أن مناهج البحث في العلوم الإنسانية متداخلة بطبيعتها، فكذلك علم النفس البيئي. بالإضافة إلى أنه يتبنى نماذج عامة تتبنى أصلًا تداخل المناهج والعوامل والمجالات. والنموذج -أي الإطار العام الذي يشتمل على فرضيات ومسلمات تحكم البحث العلمي حسب توماس كون- السائد لدى الباحثين هو النموذج الاجتماعي البيئي، والذي يعتبر بديلًا للفرضيات الحتمية. وهو الذي يحكم نظريات علم النفس البيئي المختلفة.

النموذج الاجتماعي-البيئي

هذا النموذج -ويسمى أحيانًا بالنموذج البيئي «Ecological Paradigm»- هو النموذج السائد في المجال. وقد نشأ لمحاولة فهم العلاقة الديناميكية بين العوامل البيئية والفردية بشكل أكثر عمقًا من النظريات الحتمية الأخر، إذ يحاول الوصل بين النظريات السلوكية -التي تركز على تعاملات على مستوى أصغر- وبين النظريات الأنثروبولوجية. النموذج الاجتماعي البيئي «Social Ecological Paradigm» أقل حتمية من النظريات والنماذج البيولوجية أو السيوكولوجية ويربط السلوك البشري بالبيئة والثقافة بشكلٍ أكبر.

على سبيل المثال، كان بعض الباحثين قد افترضوا بناءً على عدة أبحاث أن المجاورة المكانية تزيد فرص إقامة العلاقات والصداقات بين الناس بشكل مطّرد، وقد استعرضنا إحدى الدراسات المؤسسة لهذه الفرضية في المقال السابق. ولكن حين أعيدت هذه الدراسة على بيئات مختلفة، حيث السكان مختلفون طبقيًا وإثنيًا وليسوا طلابًا وزملاء في نفس الجامعة، وجد الباحثون أن القرب والمجاورة لم يكونا بذلك التأثير الذي افترض من قبل. حيث كانت عوامل مثل التنوع العرقي ومدى حاجة الجيران إلى المساعدة من الآخرين وتوفر الانترنت تقلص من تأثير المجاورة والاحتكاك المتكرر. وهكذا فإن النموذج الاجتماعي-البيئي يحاول وضع النظريات السيكولوجية المختلفة في سياقات أكبر.

نظرية النُظُم

قد يبدو جليًا الآن أن علم النفس البيئي لا يبحث -أو حتى لا يمكنه أن يبحث- عن حلول وإجابات اختزالية ومبسطة، وبدا هذا أكثر وضوحًا خلال استعراض النموذج الاجتماعي البيئي أعلاه.  لذلك يعتمد علماء نفس البيئة أيضًا على «نظرية النظم – Systems Theory» لدراسة هذه العلاقة المعقدة في إطار النموذج السابق؛ وبالتحديد على نموذج النظام المفتوح. إذ يُستعمل هذا النموذج في دراسة البيئة والمجتمع -كما يستعمل أيضًا في علم الأحياء والإدارة والاقتصاد وغيرها- وتحليل ما يحدث حين تضطرب بيئة أو نظام ما (ما يؤدي في حالة دراسة البيئة إلى الضغط النفسي والفسيولوجي).

على سبيل المثال، فإن تعرض الفرد لمدخلات أو لمعطيات كثيرة قد يتسبب له بالضغط والإجهاد. ولذلك ففي المدن الكبيرة تتسبب أعداد البشر وكثافتهم في الإجهاد للسكان، فيحاولون موازنة نظامهم اليومي بتقليل عدد معارفهم وارتباطاتهم الاجتماعية لكي لا يُجهدوا بتفاعلات اجتماعية كثيرة أو غير مهمة، وفي حال الاضطرار للتعامل مع الغرباء في الشارع فإن الناس تحاول اختصار اللقاء قدر الإمكان نظرًا لانشغالهم وتعدد ارتباطاتهم.[1]

أدى البحث في نظرية النظم أيضًا إلى تطوير «نظرية بيئات السلوك – Behavior Settings Theory»، والتي تقول بأن سلوك الأفراد يتأثر بالبيئة والمعطيات الموجودة بها أكثر من من تأثره بالسمات الشخصية للفرد. ويعد رائدا هذه النظرية هما “روجر باركر» وتلميذه “آلان ويكر»، والذان درسا ميل النظم المفتوحة للتوازن بشكل تلقائي لضمان استمرارها. فحاجة الأنظمة (كالمدارس أو الكنائس مثلًا) للبقاء متماسكة تفرض على أفرادها أنواعًا معينة من السلوك، فطلاب المدارس وروّاد الكنائس الأصغر يشتركون في أنشطة أكثر لكي تتمكن المؤسسة نفسها من الاستمرار.

مناهج البحث

كما ذكرنا فعلم النفس البيئي يتبنى مناهج البحث الكمية والنوعية على حد سواء. فالباحثون يقومون بالاستبيانات، والتجارب المعملية، ودراسات الحالات والدراسات الميدانية. بالإضافة إلى ذلك ففي بعض الأحيان يكون من الصعب بل المستحيل دراسة بيئة ما لضخامتها وكثرة عواملها وأفرادها، فيقوم الباحثون بتصنيع محاكات حاسوبية ومجسمات تمكنهم من تحليل بيئةٍ ما حاسوبيًا، أو تتيح للمشاركين في دراسةٍ ما اختبار بيئة افتراضية وتسجيل انطباعاتهم عنها على سبيل المثال. وكما سنرى لاحقًا فيمكن حتى للمعماريين والمخططين استخدام هذا الأسلوب لدراسة التصميمات وآثارها الواقعية.

مجالات علم النفس البيئي

يمكننا فرز مجالات علم النفس البيئي إجمالًا إلى ثلاث نطاقات. النطاق الأول هو البحث في العوامل البيئية المؤثرة سلبًا وإيجابًا على التجربة والصحة والسلوك، والوسائل الممكنة لتحسين الراحة والصحة للبشر عن طريق تعديل البيئة. يشمل هذا النطاق مواضيع مثل تقييم الخطر «Risk Assessment» والتعامل معه، والفوائد الصحية للطبيعة، وجودة البيئة الحضرية والمدن، وآثار العوامل البيئية على جودة ومستوى المعيشة.

النطاق الثاني هو «الإدراك البيئي – Environmental Cognition»، أي كيف يدرك البشر بيئاتهم المباشرة ويتفاعلون معها. يشمل البحث في هذا المجال مواضيع مثل الهوية والشخصية باعتبارها عملية بيئية، كيف يقيّم الناس بيئاتهم ويتصورونها؟ وكيف تتجلى آثار البيئة في الفرد، والذي بدوره يتفاعل مع تلك الآثار بناءً على إدراكه وملاحظته لها؟

يختلف إدراك الفرد للبيئة عن إدراكه للأشياء. فبينما يتطلب إدراك موضوعٍ ما ذاتًا مُدركة، فإن إدراك البيئة يتطلب  ذاتًا مشاركة. فإدراك البيئة التي تحيا فيها يتطلب الفعل والحركة، ولا يقتصر على الحواس الخمس. كما يشمل المشاعر والانطباعات والقيم التي يحملها الفرد تجاه بيئته. تساعد نظريات الإدراك البيئي في وضع مخططات أكثر انسيابية ووضوحًا للمدن كما تمنح الباحثين وسيلة لدراسة المجتمع طبقيًا إذ يختلف إدراك كل طبقة اجتماعية للمدينة على سبيل المثال.

النطاق الثالث يتضمن دراسة السلوكيات البيئية، بما فيها السلوكيات الصديقة للبيئة، وعلاقتها بالقيم والأعراف المجتمعية، وكيف يرتبط البشر ببيئاتهم «Place Attachment»، وكيف يحفز -أو يعيق- ذلك كله المشاركة في سلوكيات ونشاطات صديقة للبيئة وأيضًا دراسة عمليات التغيير الاجتماعي والبيئي.

علوم النفس والأعصاب المعمارية

هناك مجال ناشئ داخل علم النفس يشتغل على دراسة تأثير التفاصيل المعمارية على النفس والدماغ، مثل أثر الواجهات وارتفاع الأسقف والإضاءة على التركيز والمشاعر وغيرها. وعلى الرغم من بدء ظهور مؤتمرات ومراكز تدعم هذه الأبحاث [2ٍ]، باعتبارها توفر مادة نظرية لتصميمٍ أفضل للمكان والحيز، بالإضافة إلى توفر بعض الدوريات والمجلات المهتمة بمثل هذه الأبحاث، فيبدو أنها  لا تزال غير منظمة إلى حد كبير، ناهيك عن إمكانيات تطبيقها عمليًا بشكل علمي على نطاقٍ واسع.

بهذا نكون قد استعرضنا سريعًا أهم خصائص ونظريات علم النفس البيئي بالإضافة إلى مجالاته البحثية. في المقالات التالية سنقوم بعرض بعض التطبيقات العملية لهذه المجالات، لنرى كيف يمكن لها الفرع من علوم النفس والتصميم أن يحسّن من جودة بيئاتنا الطبيعية والحضرية على حدٍ سواء. وسنبدأ بالحديث عن النطاق الأول لعلم النفس البيئي: وهو العوامل البيئية المؤثرة سلبًا وإيجابًا على الصحة والسلوك والتجربة البشرية وسنستهلها بالحديث عن التخطيط العمراني المحب للبيئة، أو ما يسمى بالبايوفيليا.

المصادر: 
[1] Stanley Milgram, The Experience of Living in Cities 
[2] على سبيل المثال: NeuroAU، وأيضًا Centre for Conscious Design 
[3] Environmental Psychology: an Introduction
[4] Environmental Psychology, Daniel Stokols

علم النفس البيئي: نبذة تاريخية عن علاقة العمران بالنفس

هذه المقالة هي الجزء 1 من 9 في سلسلة مقدمة في علم النفس البيئي

كيف يتفاعل البشر مع بيئتهم؟

هل حدث من قبل أن ذهبت إلى مكانٍ ما وتوقفت منبهرًا من منظره وما أوجده من مشاعر بداخلك؟ لماذا قد نشعر بالملل إذا مشينا بجانب بعض المباني ذات الواجهات المغلقة؟ ما الذي يجعل بعض الأماكن والساحات تنبض بالحياة وبعضها الآخر موحشًا؟ هل يمكننا تحليل شخصية شخص ما من غرفته ومقتنياته؟ وما هي أضرار الازدحام على الصحة وكيف نصمم الأحياء السكنية لتكون آمنة وأيسر للسير؟ هذه الأسئلة تقع ضمن مجال علم النفس البيئي «Environmental Psychology»، و هو علم يدرس تأثير البيئة إجمالًا على التجربة والسلوك والصالح البشري العام، بالإضافة إلى تأثير الأفراد (والمجتمعات) على البيئة. وتعدد مجالاته يجعله مجالًا مثيرًا للاهتمام والبحث إذ أنه يتعلق بالكثير من القضايا التي نعيشها بشكل يومي.

البدايات: علم النفس “المعماري”

ظهر علم النفس البيئي رسميًا كفرع من علوم النفس خلال فترة الستينات. إلا أن المصطلح ظهر لأول مرة في النصف الأول من القرن العشرين، حين درس «ويلي هيلباخ» أثر عوامل بيئية مختلفة مثل اللون والشكل والشمس والقمر على أنشطة بشرية مختلفة، وقسّم البيئة إلى ثلاث نطاقات: البيئة والمجتمع والعمران (أو الحضر). اعتقد هيلباخ أن كلًّا من هذه النطاقات يؤثر على العقل البشري عبر وسيلتين: الأثر المباشر للمعاني والرموز (التجارب المباشرة للبيئة)، والأثر غير المباشر عن طريق التأثيرات الفسيولوجية على الجسم والدماغ.[1]

في هذه الفترة كانت الأبحاث التي تستكشف العلاقة بين البيئة والنفس مبعثرة إلى حد كبير، ولم يكن معترفًا بها كمجال بحثيّ مستقل. بحلول أربعينات القرن العشرين بدأت الدراسة المنهجية للمكان والحيز كما ظهرت العديد من الدراسات حول إضاءة المنازل وأثرها على الصحة وسلوكيات الأطفال في البيئات الطبيعية وغيرها. وحيث كانت معظم تلك الدراسات تركز على الكيفية التي تؤثر بها البيئات الحضرية بالأخص على إحساس وسلوكيات الناس، فقد سُميت بـ«علم النفس المعماري»، للتمييز بينها وبين دراسات علم النفس الأكثر تقليدية.

بيئة حضرية فعّالة

في تلك الفترة كان التركيز الأكبر على البيئة المبنية أو الحضرية، مثل المعمار والتقنية، وآثارها على النفس. وكان هذا التركيز على البيئات المبنية مدفوعًا بشكل كبير بالمناخ السياسي والاجتماعي في تلك الفترة. حيث كانت العمارة الحديثة تحاول معالجة تحديات ما بعد الحرب العالمية -مثل توفير الإسكان المناسب للسكان. ولهذا نشأت أسئلة حول الكيفية المثلى لبناء المنازل والمكاتب والمستشفيات لتخدم مستعمليها بأكبر فاعلية ممكنة، وكيف يمكن للمؤثرات البيئية (كالحرارة، والرطوبة، والتكدس والازدحام) التأثير على الأداء البشري وبالتالي كيف يمكن التحكم بها.

البحث الاجتماعي في المعمار

بدأت تظهر ولو بشكل طفيف أيضًا دراسات اجتماعية ونفسية حول الأثر الاجتماعي للحيّز، ـ لعل أبرزها الدراسة الرائدة لعالم النفس «ليون فيستنغر» التي أظهر فيها العلاقة بين المجاورة المكانية واحتمالية تكوين علاقات اجتماعية طويلة المدى، وهو ما أسماه بأثر المجاورة «Proximity Effect». أي أن الناس يميلون لإقامة علاقات اجتماعية أكثر مع الذين هم أقرب لهم فيزيائيًا. درس «فستنغر» سكنًا طلابيًا بمعهد إم آي تي ولاحظ أن الطلاب الذين يعيشون في غرف بجانب درج المبنى كانت لديهم علاقات اجتماعية أكثر مع باقي السكان حيث يحتكون بهم بشكل أكثر تواترًا، كما أنه كلما كانت غرفتان أقرب لبعضهما زادت فرصة ساكنيهما لتكوين صداقة.

بناءً على أبحاثه حول سيكولوجية الجماعات والانتماء، كان فيستنغر يطالب المعماريين أيضًا بأخذ الاحتياجات الاجتماعية للسكان ورغبتهم في الانتماء قيد الحسبان أثناء تصميم المناطق السكنية.[2] توالت في الفترة التالية، وبالأخص منذ الستينات، الدراسات حول البعد الإنساني في التصميم والتخطيط العمراني، مثل دراسات «كيفن لينش» عن “صورة المدينة” و«روبرت سومر» حول المساحات الشخصية ونظرية «أوسكار نيومان» حول «المساحات الآمنة – Defensible Space» لخلق أماكن أكثر أمنًا وسلامة.

علم النفس البيئي والاستدامة

الفترة التالية لنمو مجال علم النفس البيئي بدأت في الستينات، حين بدأ العالم بإدراك المشاكل والأخطار البيئية المحيطة. ومن هنا ظهرت الدراسات حول مشكلة الاستدامة ودراسة وتغيير السلوك البيئي لخلق بيئة مستدامة وصحية. شملت تلك الدراسات في بداياتها مشاكل مثل تلوث الهواء والتلوث الضوضائي، ومن ثم توسعت لتشمل مباحث كاستهلاك الطاقة ودراسة المخاطر المرتبطة بتقنيات الطاقة. في الثمانينات بدأت بالظهور أيضًا الدراسات حول جهود تحفيز الحفاظ على البيئة والتوعية المجتمعية بالسلوكيات الصديقة للبيئة. وتصاعد هذا التوجه منذ بدايات القرن الحادي والعشرين، حيث صار من الواضح أن الأزمات البيئية كالتغير المناخي والتلوث والتصحر تهدد الصحة والأمن الغذائي والمائي للعالم أجمع. وبالتالي فقد تم استدعاء مفهوم للاستدامة يشمل الصالح العام البيئي والمجتمعي والاقتصادي، ويرى بعض الباحثين أن علم النفس البيئي تطور بمرور الزمن إلى “علم نفس الاستدامة” على المستويات الثلاث.

كيف نصمم مدنًا أكثر جاذبية؟

بجانب دراسة البيئة والاستدامة والطاقة التي توسعت مع اتساع الوعي بالازمة المناخية، بدأت أيضًا دراسة الكيفية التي يتفاعل بها البشر مع بيئاتهم الحضرية، وهو ما يسمى في بعض الأحيان بعلم النفس الحضري «Urban Psychology» والذي كان رائده هو المخطط الأمريكي «وليام و. وايت»،  الذي يلقب أحيانًا بأبو علم النفس الحضري.[3] كان «وايت» مهتمًا بمعرفة السبب الذي يجعل بعض الميادين والشوارع والحدائق مليئة بالناس وجاذبة للنشاط البشري، بينما تكون أخرى شديدة الوحشة ومنفرة للنشاط البشري. ولذلك قام بتصوير وملاحظة شوارع وميادين وحدائق نيويورك ليحاول تحليل العوامل التي تجعل الناس يتجمعون في مكانٍ ما.

كانت من أبرز نتائج وايت -والتي تبدو شديدة البداهة حد الضحك ربما- هي أن الناس يجلسون حيث يتوفر لهم مكان للجلوس. فلدهشة وايت نفسه كان العديد من الحدائق والميادين لا يوفر حتى مقاعد للجلوس والاستمتاع بالهواء والشمس. هذا إن لم يتم وضع موانع ضد جلوسهم حول بعض المباني؛ كما تفعل بعض الشركات والمؤسسات حين تحاول طرد المشردين والشحاذين -ومن أسماهم وايت “غير المرغوب فيهم” «Undesirables»- عن طريق تسوير مبانيها وجعل محيطها غير جذاب؛ وتكون النتيجة أن الناس يبتعدون عنه ويصبح موحشًا في حين أن أولئك غير المرغوب فيهم يحتلونه. لقد لخص وايت نتائج دراساته بقوله “أنه من الصعب جدًا تصميم مكانٍ غير جذاب للناس. ما يستحق الدهشة هو كيف يتم ذلك باستمرار”.[4]

نطاق علم النفس البيئي حاليًا

لعلنا الآن نتساءل عن حدود ونطاق علم النفس البيئي، هل هو لتصميم مبانٍ أكثر فاعلية وراحة، أم للبحث حول قضية الاستدامة ودعم مصادر الطاقة البديلة؟ هل يدرس البشر أم الحضر؟  وما هي بالضبط البيئة التي يدرس النفس البشرية ضمنها؟ الحقيقة هي أن علم النفس البيئي مجال متعدد النطاقات «Multi-disciplinary»، ويتصف بمقاربته متعددة المجالات للقضايا محل البحث وتعدد مناهجه، فهو يتداخل بشكل صميميّ مع الهندسة المعمارية وعلوم البيئة والسياسات العامة، بالإضافة إلى التبعات المجتمعية لها كالآثار الصحية والنفسية. وبالمقابل يبحث أيضًا كيف يؤثر الناس في بيئاتهم: كيف يجعلونها أكثر ذاتية، كيف يعبرون عن أنفسهم وانتماءاتهم، وكيف يدفعهم ذلك إلى الحفاظ على سلامة محيطهم وبيئتهم على سبيل المثال.

سنتحدث في مقالاتٍ تالية عن تطبيقات معاصرة لعلم النفس البيئي وأثرها في البيئة الحضرية والسلوك البشري، ولكن يكفينا في هذه الفقرة أن نبين أن العلاقة المتبادلة بين البشر وبيئتهم (حضرية كانت أو طبيعية) معقدة ومتداخلة للغاية. ولعل هذا سبب في أن علم النفس البيئي يتسم بالبحث بدافع العثور على أكثر الحلول فاعلية لمشاكل حاضرة بالفعل. إضافة إلى أن علم النفس البيئي يدرس هذه العلاقة على مستوياتٍ عدة، ابتداءً بمشاكل النفايات وإعادة التدوير على مستوى الأحياء مرورًا بالتخطيط السليم والصحي للأحياء السكنية ومناطق العمل على مستوى المدن والدول وانتهاءً بدراسة التقنيات الجديدة لمواجهة تغير المناخ على مستوى الكوكب كله.

ولذلك أيضًا، فإن هناك عدة مجالات تبحث هذه العلاقة وتتداخل مع بعضها البعض على عدة مستويات وفي عدة نطاقات.  فبجانب علم النفس البيئي، هناك على سبيل المثال أيضًا علم الاجتماع الحضري «Urban Sociology» وعلم البيئة الحضري «Urban Ecology» وعلم الظواهر أو الفينومينولوجيا المعمارية «Architectural Phenomenology»، وكلها لديها دوريات ومجلات متخصصة وبعضها يدرّس في أقسام جامعية مختصة.


المصادر:

  1. Environmental Psychology : an Introduction
  2. Blueprints for a History of Environmental Psychology
  3. Architecture and Group Membership, Leon Festinger
  4. Project for Public Spaces
  5. Social Life of Small Urban Spaces

العمارة الحديثة كنتيجة لعقلنة الحداثة

هذه المقالة هي الجزء 1 من 13 في سلسلة كيف نشأت الحداثة وغيرت من شكل المعمار في عصرنا؟

الحداثة كنتيجة للعقلنة

اعتبر «ماكس ويبر» الحداثة نتيجة للعقلنة؛ حيث اعتبر أن “الطابع الروحي للمجتمعات التقليدية قد حل محلّه -على الأقل في العالم الغربي- رؤيةٌ للعالم شديدة العقلانية والحساب”. والتي تفضّل تحقيق غايةٍ ما على التبعات البشرية لكيفية تحقيق تلك الغاية. بعبارة أخرى، ينتج نظامٌ اجتماعي يهمل الإنسانية ذاتها التي اُعتقد أنه يرتقي بها.

 الإنسانية -حسب ويبر- قد تقلصت في هكذا عالم مُعقلن إلى حسابات وقياسات وتحكم؛ والمجتمع منشغل بالعقل والاستقرار والنظام.[1] وبالمثل، يمكن قراءة تاريخ التفكير والتصميم المعماري منذ نهايات القرن التاسع عشر وظهور نمط العمارة الحديثة بالتوازي مع تطور الحداثة.

الحداثة كمعمار مُعقلَن

الحقبة المعمارية المعروفة بـ«الحداثة» تؤرخ عامةً منذ أواخر القرن التاسع عشر حتى أواخر ستينيات القرن العشرين. وبذلك فهي معاصرة للحداثة الغربية. من الممكن إذن افتراض أن العمارة الحديثة كانت نتيجة لتحديات الحداثة ومُثُلها. عايش المعماريون الحداثيون أوضاع المجتمعات الصناعية المعيشية المتردية وكان لديهم إحساس قوي بالمسؤولية الاجتماعية تجاهها،[2] كما أنهم عاصروا التقنية والصناعة ومواد البناء الحديثة والتي غيرت وجه المدينة.

بالمثل، وكما فضلت الحداثة الفلسفية الموحد «Standardized» والقابل للحساب، حاولت الحداثة المعمارية تقليص المعمار أيضًا إلى مبادئ أولية. التأويلات الحديثة للمعمار، مثل تلك التي قام بها «جوتفريد سيمبر» في “المبادئ الأربعة للمعمار” أو أسس «لو كوربوزيه» الخمسة للمعمار الجديد، يمكن النظر لها باعتبارها محاولات لتقليص المعمار إلى عناصر مبدئية، يمكن بسهولة توحيدها وحسابها وتصنيعها. اعتبر بعض النقاد هذه التحليلات الاختزالية تنزع الرمزية والقيمية من العناصر المعمارية، حيث تصير ملحقات إضافية دون أي قيم.[3]

بدأ المعماريون بالنظر للعمارة والعمران عبر نظارات صناعية. أعلن «لو كوربوزيه» أن المنزل يجب أن يكون آلة للعيش فيها، وصمم منازله الموحّدة أحيانًا متضمنة أثاثًا جاهزًا لضمان الانتظام العام[4]. نمو وتوسع مشاريع الإسكان الموحد «Standardized Housing» في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية كان ذروة هذه المُثل المعمارية الصناعية.

نظريات المعماريين الحداثيين في التصميم يمكن أيضًا رؤيتها باعتبارها تمثّلات لقيم الحداثة وسعيها نحو الفعالية والعقلانية، مثل انتقادات المعماري النمساوي «أدولف لووس» لتزيين المباني وشعار «لوي سوليفان» الشهير “الشكل يتبع الوظيفة”. وبالفعل، فإن بعض المؤرخين والمنظّرين يرون أن الرؤى الطوباية للعمارة الحداثية لم تكن نابعة من عقائد ماركسية أو فاشية كما هو شائع، بل كانت نتيجة لمبادئ الفوردية (تنظيم الانتاج) والتايلورية (الإدارة العلمية) وسعيهما نحو الفعالية والتنظيم.[5]

العمارة الحديثة والبُعد الإنساني

كيف كانت علاقة المعمار المعقلن بالناس؟ سيكون من المفيد هنا أن نرى رأي «ماكس ويبر» علاقة الناس بالحداثة. يرى بعض النقاد أنه حسب ويبر، فإن احتياجات النظام الاجتماعي في الحداثة “كانت أهم من احتياجات أولئك البشر الذين يرفعون قواعد ذلك النظام”. ونتيجة ذلك، فإن التقدم الحداثي بدا وكأنه يخلق مشاكل للناس أكثر من تلك التي يحلها – الاغتراب واللا معيارية والبيروقراطية كلها مؤشرات على نظام يتحكم بالناس ويخلق عالمًا لا متسع لهم فيه للتعبير عن آرائهم (بالمثل، تذكر كيف صمم «لو كوربوزيه» منازله بأثاث مصمم سلفًا، والتي لم تعط السكان متسعًا لتزيين بيوتهم كما يشاؤون). ما-بعد الحداثة، في هذا التصور، تكون ردة فعل على هذه العملية. [6]

يمكننا سريعًا مطالعة نموذجين لمشاريع عمرانية في فترة ما بعد الحرب العالمية لنرى كيف تمثلت هذه العلاقة الحداثية بالبشر في العمران، وكيف كانت العمارة الحديثة انعكاسًا للحداثة. النموذج الأول هو «روبرت موزيس” -المعماري الأمريكي- وخططه العمرانية لتطوير مدينة نيويورك. قوبلت خطط موزيس بالكثير من المقاومة، ولعل أبرزها كانت من قبل الكاتبة وعالمة الاجتماع «جين جيكوبز» – حيث اعترضت على انتزاع السكان من منازلهم وإزالة الحدائق لتطوير شبكة الطرق وغيرها تحت مسمى “التقدم”.

حين سُئل «موزيس» عن السخط الشعبي تجاه خططه العمرانية، قال: “لا أعتقد بصراحة، أخذًا بالحسبان العدد الكبير من الناس الذين احتجنا لإزاحتهم من طريق الإسكان العام وغيره من المشاريع التطويرية العامة، لا أعتقد أننا قمنا بأي ضرر بالغ. لا بد أنه سيكون هناك أناسٌ ساخطون أو منزعجون، فحسب النظرية القديمة لا يمكنك أن تصنع عجة دون أن تكسر بيضًا”. تحكي «جيكوبز» كيف كانت تواجه المسؤولين عن تلك الخطط العمرانية -التي كانت في الأغلب تصدر من الأعلى دون اعتبار رغبات السكان أنفسهم- بالمشاكل التي تتسبب بها، فالمدن تفقد حيويتها والمتاجر تمسي فارغة والساحات مهجورة. وكانت ردود المسؤولين تتكون من شعارات وتبريرات عديدة تنتهي إلى “الناس أغبياء، ولا يعرفون ما عليهم فعله”.[7]

النموذج الثاني من بريطانيا هذه المرة: وبالتحديد خطط «تي دان سميث» لتطوير مدينة نيوكاسل. كانت تلك الخطط جزءًا من حماس عام في تلك الفترة تجاه المدن ثلاثية الأبعاد (نموذج  يتصور المدن مكونة من عدة طوابق، وقد فقد صيته بين المعماريين اليوم). سعى «سميث» لجعل نيوكاسل “برازيليا الشمال”، على غرار مدينة برازيليا في البرازيل، وتصور مدينة شوارعها في السماء حيث تكون السيارة وسيلة النقل الاساسية وينتزع البشر من الشارع ليتنقلوا عبر ممرات وشوارع مرتفعة في الهواء. بالطبع، واجهت تلك الرؤى مشاكل عديدة على الصعيد الاجتماعي والأمني وصعوبة التحرك من خلالها، وتم التخلي عنها لتنتهي اليوم كممرات في الهواء لا تؤدي إلى أي مكان. مدينة برازيليا نفسها، تنتقد حاليًا من معماريين مثل «يان غيل» كنموذج لـ”تصميم عبر عين الطائر”، يتم من خلال الطائرة ودون اعتبار للبعد البشري والإنساني في التصميم.

العمارة الحداثية سعت في البداية لحل المشاكل المعيشية للعامة، وانتهت فعليًا بدفعهم جانبًا لإتاحة المجال للسيارات والتقنية. يمكن لنا إذن أن نتوقع أن هذا النمط العمراني الحداثي لم يكن محبوبًا بين الناس،[8] وبالفعل فإن بعض النقاد لاحظوا أن “الحساسية تجاه ما يلمس القلب نادرة للغاية في العمارة الحديثة”.[9]

نهاية الحداثة؟

إذا كانت ما-بعد الحداثة ردًا على عمليات العقلنة الحداثية، فسيكون من المنطقي أيضًا أن يكون نمط العمارة ما بعد الحداثي -ولو جزئيًا- ردة فعل إنسانية على المثل الحداثية في التصميم. بدءًا بدراسات اجتماعية مثل “صورة المدينة” لـ«كيفن لينش» أو «موت وحياة مدن أمريكية كبرى» لـ«جين جيكوبز»، شهدت فترة الستينات العديد من الدراسات والنظريات المعمارية التي تستكشف العلاقة بين العمران والبشر. في نفس الفترة، تطور البحث النفسي والاجتماعي ليبدأ مجال “علم النفس البيئي” في الظهور.[10]

يعتبر كتاب «روبرت فنتوري» “التعقيد والتناقض في العمارة” (1966) أول عمل معماري بارز يرفض العمارة الحديثة وقيم الحداثة. حيث جادل «فنتوري» بأن الزينة -بل وحتى حس الفكاهة- كان له مكان في المعمار – وهذا رفض صريح للفعالية والوظيفية التي ميزت المعماريين الحداثيين التقليديين مثل «ميز فان دي روه” أو “لو كوربوزييه”. يعتبر بعض المؤرخين عام 1968 كنقطة فارقة في تاريخ الحداثة، حيث تهشمت آمال الحداثة والتقدم على إثر اضطرابات اجتماعية وسياسية عالمية.[11] في عام 1968 أيضًا طور «هنري ليفيفر» -المفكر والفيلسوف الفرنسي- مفهومه عن “الحق في المدينة” – مشكلًا بذلك حركة جديدة لإعادة تشكيل المدينة كمكان للحياة بعيدًا عن آثار السلعنة «Commodification» والرأسمالية على التفاعلات الاجتماعية.[12]

شهدت تلك الفترة بدء ظهور عمارة  “صديقة للإنسان”، مثل مشروع “بايكر وول” للتطوير الإسكاني للمعماري «رالف إرسكين في نيوكاسل ببريطانيا والذي يمكن اعتباره نقطة فراق مبكرة عن النمط الحديث. لكن التطور الأكبر كان هدم وإزالة أبراج «برويت – آيغو» السكنية في سانت لويز بالولايات المتحدة عام 1972، والتي اعتبرها المعماري «شارلز جينكس» “نهاية الحداثة”، أي ذروة فشل النمط المعماري الحديث في تلبية متطلبات المجتمع وتحقيق آماله الطوباوية.

ما بعد الحداثة ومستقبل العمارة الإنسانية

بالتأكيد، فإنه من المبالغة القول بأن العمارة الحديثة قد انتهت، فالشره الصناعي والرأسمالي للفاعلية والانتاج والرغبة الحداثية في العقلنة لا تزال حية ترزق. ولكن العقود الاخيرة شهدت صعود المزيد من مدارس التصميم الصديقة للبيئة والصديقة للإنسان، مثل نمط العمارة الدارجة الحديث «Modern Vernacular» والعمارة الظاهراتية «Phenomenological Architecture» وأساليب الإدارة والتخطيط الديمقراطية. ناهيك عن ازدياد الوعي العام بأهمية التصميم المستدام والعمارة الخضراء. لقد أصبح الكثير من المعماريين والمخططين على وعي بمدى ارتباط البيئة والمجتمع.

بالإضافة إلى ذلك فإن أنماطًا جديدة من التخطيط بدأت في الظهور لتمنح الناس بيئات اجتماعية وصحية أكثر، ولعل أشهرها هو الإسكان المشترك «Co-Housing» وهو نمط من الإسكان بدأ ينتشر في أوروبا، وتهدف بالأساس إلى تخطي عيوب التخطيط العمراني الحديث الاجتماعية. هناك اهتمام أكثر بالشارع والخضرة والبعد الإنساني  في العديد من المشاريع والنماذج العمرانية المعاصرة، مثل طريق «روز كينيدي» في بوسطن أو ميدان إسرائيل في الدنمارك.

من الصعب بحق تعريف أو تحديد ما-بعد الحداثة، كأيديولوجية أو كنمط فني، ومن الأصعب أيضًا تحديد إلى أين تتجه. لكن اليوم هناك وعي متزايد بنقائص وعيوب المثل الحداثية لمعماريي القرن العشرين. فكما حاولت الحداثة الرفع من شأن الإنسان، وانتهت بتغريبه في واقع “منزوع السحر” حسب تعبير ماكس ويبر، فقد حاولت العمارة الحداثية رفع مستوى الناس المعيشي عبر أمال عريضة، ولكن انتهى بها المطاف بتغريبهم في مدن منزوعة السحر. وربما يكون مستقبل العمارة الإنسانية رهن العثور على قيم ومثل عليا جديدة عالميًا.


[1] Miles, S. (2001) Social theory in the real world. London: Sage. p.104
[2] Rowe, H.A., (2011). The rise and fall of modernist architecture. Inquiries Journal3(04).
[3] Schloeder, Steven J (1998) A Return to Humane Architecture. The Intercollegiate review. 34 (1), 20.
[4] Rowe, H.A., (2011). The rise and fall of modernist architecture. Inquiries Journal3(04)
[5] Coleman, Nathaniel (2012) Utopia and modern architecture? Arq (London, England). 16 (4), 339–348.
[6] Miles, S. (2001) Social theory in the real world. London: Sage. p.84
[7] Citizen Jane: Battle for the City. 2016. [film] Directed by M. Tyrnauer. USA.
[8] Mallgrave, H.F. & Goodman, D. (2011) An Introduction to Architectural Theory: 1968 to the Present. Malden, MA: Wiley-Blackwell. p. 7
[9] Schloeder, Steven J (1998) A Return to Humane Architecture. The Intercollegiate review. 34 (1), 20.
[10] Steg, Linda, de Groot, Judith I. M & van den Berg, Agnes E (2019) Environmental Psychology. Newark: John Wiley & Sons, Incorporated. p.4
[11] Mallgrave, H.F. & Goodman, D. (2011) An Introduction to Architectural Theory: 1968 to the Present. Malden, MA: Wiley-Blackwell. p. 13.
[12] Harvey, David (2008) The right to the city. New Left review. (53), 23.

أزمة الاستدامة: كيف يحاول المعماريون حل أزمة المناخ؟

أزمة الاستدامة: كيف يحاول المعماريون حل أزمة المناخ؟

بالنسبة للكثيرين، فإن العمارة والمدنية هما واجهة الحضارة البشرية المعاصرة؛ فحين نفكّر في المدن العريقة أو الصاخبة كنيويورك أو لندن أو طوكيو، فإن مبانيها وامتداداتها العمرانية هي أول ما يخطر على البال في الأغلب. لكن بغض النظر عن كل إشكاليات حياة المدينة الحديثة، الاجتماعية والعملية، فإن هناك أزمة تواجه التصميم المعماري والهندسي حول العالم، وهي مشكلة الاستدامة «sustainability». ومع توقع الأمم المتحدة بارتفاع نسبة سكان المدن حول العالم إلى 68% من إجمالي سكان العالم[1]، يتضح بشكلٍ أكبر أثر الإنشاءات والتمدن على الكوكب ككل.

أزمة العمارة وأزمة المناخ

حسب تقرير برنامج الأمم المتحدة للبيئة فإن قطاع الإنشاءات يتسبب في 38% من انبعاثات الكربون عالميًا[2]،  تتوزع على عدة عمليات كعملية التشييد، وإشغال المبنى، والصناعات المتعلقة بالإنشاءات، وغيرها. وفي ظل أزمة المناخ الحالية يستهدف العالم الوصول إلى تحييد انبعاثات الكربون بشكلٍ كامل بحلول عام 2050، ووقف ارتفاع درجة حرارة الكوكب إلى 1.5 درجة مئوية بحلول 2030. [3] ولكن في ظل أوضاع مضطربة منذ سنوات فإن هذا الهدف يبدو بعيد المنال، ويستوجب العمل على مجالات متعددة لضبط هذا الخطر. وبالطبع فإن قطاع الإنشاءات يواجه تحديات مشابهة، حيث يمثل ركيزة أساسية في الاقتصاد العالمي، وهو المسؤول عن تشييد المطارات والموانئ والأنفاق التي ترتكز عليها حركة النقل والتجارة والتي تساهم هي الأخرى في انبعاثات الكربون عالميًا.

ما هي الاستدامة؟

حدّد المعهد الملكي للمعماريين البريطانيين «RIBA» ركائز الاستدامة الثلاث: البيئية والاقتصادية والاجتماعية، بحيث تضمن التوازن بين العوامل الثلاث[4]. يمكننا تعريف الاستدامة حسب أهداف المؤسسة كما يلي: “تناسب دورة حياة المبنى مع قيمته، رفع جودة وقيمة الحياة الاجتماعية، ضمان الصحة والسلامة، الاستغلال الحسن للأرض والبيئة، رفع جودة التواصل والنقل، رفع جودة دورة الماء، وتحييد أثر الكربون المتضمن في المباني أو المنبعث من عمليات الانشاء.”.

تحاول الهيئات والكليات المعمارية والهندسية حول العالم اليوم تدارك أزمة المناخ عن طريق إدماج شروط الاستدامة في مناهجها وأهدافها وقوانينها. بالإضافة إلى حث الممارسين والمكاتب المعمارية والهندسية على اتّباع نموذج “أخضر” في التصميم.

ما الذي يمكن للمعماريين فعله؟

على مستوى التصميم الفردي للمباني، يمكن لمصممي المبنى أو المشروع أن يقيّموا حالة المبنى ويتخذوا قرارًا بتعديله عوضًا عن هدمه بالكامل وبناء مبنى جديد بالكلية. من أشهر المعماريين المشهورين بهذا النوع من المشاريع هما المعماريان الفرنسيان آن لاكاتون وفيليب فاسال. أحد أشهر مشاريع الثنائي هو تجديدهما لبرج «بوا لو بريتر – Bois Le Prêtre»السكنيّ في فرنسا. البرج مكوّن من 17 طابقًا وتم بناؤه في الخمسينات بواجهات اسمنتية سميكة. فكّر المعماريون بإعادة تشكيل المبنى عن طريق إزالة الواجهات وتركيب شرفات ذات شبابيك زلّاجة عليها. بمجرد “استغلال المتاح” في البرج، حسب تعبير المعماريّين[5]، فقد وفّرا تكاليف هدم المبنى وانشاء آخر، ووفروا كميات ضخمة من مواد البناء المستعملة التي كانت لتهدر. فوق ذلك وسّعوا شقق البرج وسمحوا لها بإضاءة أكبر وأفضل.[6]

دراسة حالة وموقع المشروع مهم أيضًا لتحديد اتجاه الواجهات والرياح ونوعية المواد المناسبة للمناخ المحلّي، وتحديد مدى حاجة المبنى للعزل. المباني الزجاجية قد تكون غير فعالة في مناخات حارة وصحراوية كالخليج العربي، حيث تمتص كميات مهولة من حرارة الشمس مما يتطلب تبريدها باستمرار وتحتاج نوافذها للصيانة أكثر بفعل العواصف الترابية وارتفاع درجات الحرارة. اختيار مادة الاسمنت مثلًا للبناء يتطلب كمية طاقة كبيرة، في حين أن استعمال مواد محلية (كالخشب أو الطين) يمكن أن يؤدي نفس الغرض بأداء مكافئ. المعماري المصريّ -وأحد روّاد الاستدامة في العالم العربي- الدكتور حسن فتحي أطلق شعار “انظر تحت قدميك وابنِ”، لتشجيع استعمال المواد وأساليب التخطيط والمعمار المحلية.[7]

استغلال ضوء الشمس في إضاءة وتدفئة المباني، واستغلال الرياح لتهويتها وتبريدها، قد يغني عن استعمال التكييفات والتدفئة لفترات مطولة على مدار اليوم ويقلل استهلاك الطاقة بنسبة قد تصل إلى 30%.[8]

بالطبع، يتطلب إدماج أفكار كهذه وضع بعض التقييدات على تصميمات المساحات واختيار المواد وغيرها، ولذلك فمن الضروري أن تشمل مرحلة التصميم فكرة الاستدامة والأثر بعيد المدى للمبنى. بعض المعماريين وصل بهم الأمر إلى تصميم مبانٍ “قابلة للتحلّل” ولا تترك أثرًا بيئيًا بعد انتهاء عمرها الافتراضي.[9]

مبادرات دولية: يُعلن المعماريون

للأسف تظل هذه الحلول الفردية غير فعالة على المستوى الدولي، فهناك الكثير من المشاريع التي لا تضع أزمة المناخ وشرط الاستدامة قيد الحسبان أو حتى ضمن أولوياتها. لذلك فقد ظهرت العديد من المبادرات لمحاولة تنظيم مهنة العمارة عالميًا. إحدى هذه المبادرات هي مبادرة »يُعلن المعماريون – Architects Declare»، التي انطلقت عام 2019 بمشاركة 17 مكتبًا معماريًا حائزًا على جائزة ستيرلنغ المعمارية.

يذكر مؤسس المبادرة، مايكل بولين، أن ما دفعه  لإنشائها هو تأثره بأسلوب التفكير النظمي «System Thinking»، حيث صار يسعى لتغيير المنظومة بمحاولة تعديل النموذج «Paradigm» الذي يقود سلوكها وقيمها، وتعديل أهداف المنظومة من الأصل، عوضًا عن مجرد خلق أمثلة ناجحة لمشاريع مستدامة ومحاولة ترويجها.[10]

تعدى عدد أعضاء المبادرة الألف موزعين على 27 دولة، وتوسعت لتشمل تخصصات هندسية أخرى أيضًا. لكنها في يونيو 2020 تعرضت لأزمة حادة بعد توجيه النقد لاثنين من أعضائها المؤسسين، مكتبا نورمان فوستر وزها حديد، لمشاركتهما في مشاريع مطارات مخالفة لبيان المبادرة ومكلفة بيئيًا حسب المبادرة. انتهت الازمة في ديسمبر الماضي بانسحاب المكتبَين، في حين اتهم «باتريك شوماخر» -رئيس مكتب زها حديد-المبادرة بأنها “شديدة الراديكالية”.[11]

اختلاف في الأولويات أم في وجهات النظر؟

علق «نورمان فوستر» على اتهامات المبادرة له بمخالفة مثياقها المهني بأنه مع شركائه كانوا روّاد التصميم البيئي للمطارات منذ عقود، ومشاريع كمدينة مصدر بالإمارات ومطاري ستانستيد والملكة علياء تشهد له بذلك. حسبَ «فوستر» فإن الحل ليس في إيقاف حركة الطيران بل في إنشاء مطارات صديقة للبيئة.[12]  في المقابل توجه النقد لـمكتبي فوستر وزها حديد بأن أولياتَهم ليست معالجة الأزمة المناخية، خاصةً إذا تعارضت مع نموذج عملهم التجاري.[13]

الجدل أيضًا حول مساهمة قطاع الطيران في الأزمة. الكاتبة «كريستين مورراي» تساءلت عن جدوى إثارة الضجة حول المطارات التي تشكّل 3% من انبعاثات الكربون رغم أن تلك المشاريع ستنفذ على أي حال، قائلة “أنتم لم توقفوا المطار وإنما قسمتم المهنة إلى أخيار وأشرار.”[14]

كما يبدو واضحًا الآن، فأصل هذه الأزمة سياسي الطبع بالدرجة الأولى. الحكومات التي تقيم مشاريع مكلفة بيئيًا لن يعنيها استبدال مصممٍ بآخر، وفي هذه الحالة قد يكون الأنسب تصميم هذه المشاريع بحيث تحجّم آثارها البيئية أو تحتويها إلى حدٍ ما. الكثيرون يرون أن علاج المشكلة يجب أن يكون على مستوى حراك سياسي اجتماعي دولي لتدارك الكارثة المناخية التي تتهدد كوكبنا.

وأنت عزيزي القارئ، هل ترى الحل الراديكالي ممكنًا؟ أم أن الحل الأنسب هو تقليل الأضرار الناجمة عما هو كائن بالفعل؟ ضع في الحسبان أنه ربما يتوجب على بعض المجتمعات التضحية بامتيازات أو فرص تمدنية وتوسعية من أجل مستقبل هذا الكوكب. هل تعتقد أن لدينا الاستعداد لذلك؟

المصادر

[3] Emissions Gap Report 2019

[4] RIBA Sustainable Outcomes Guide

[5] للإطلاع على فلسفة لاكاتون وفاسال في التصميم، يمكن مطالعة إصدارهما: Reduce, Reuse, Recycle

[6] LaFarge Holcim Foundation: Anne Lacaton

[7] للإطلاع على أفكار حسن فتحي وأمثلة واقعية للبناء بمواد محلية، يمكن مطالعة كتابه “عمارة الفقراء”.

[8] Whole Building Design Guide

[9] Dezeen

[10] The Architectural League

[11] Dezeen

[12] Dezeen

[13] World Architecture

[14] Dezeen

Exit mobile version