الحياة الاجتماعية للمدن: نبذة عن العمارة الإنسانية

لنتحدث عن جانبٍ متسارع النمو في العالم الآن، وهو العمارة الإنسانية. يمكننا تعريف العمارة الإنسانية بشكلٍ عام بأنها العمارة التي تضع الإنسان في مقدمة أولولياتها في التصميم والتخطيط. تحاول العمارة الإنسانية أن تعالج مشاكل المدينة الحالية مثل لماذا يشعر السكان بالاغتراب في المدن؟ لماذا تكون الكثير من الأماكن العامة قاحلة؟ كيف يمكن تحفيز العلاقات الاجتماعية بين السكان مكانيًا؟ وغيرها من الاسئلة التي ربما شعر كلٌ منا بها من قبل. العمارة الإنسانية – أو أنسنة المدن- هي عملية ونموذج نظري متعدد المجالات والأبعاد، المعمارية والنفسية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية، ونستعرض هنا نبذة تاريخية عن أبرز وجوه هذه الحراك، من مفكرين ومعماريين ومخططين على حدٍ سواء.

الجانب الإنساني للمدن

صورة المدينة: كيفن لينش

بالنسبة للنظريات والنماذج المعمارية والحضرية السائدة في القرن العشرين، فإن كتاب “صورة المدينة” لـ«كيفن لينش» كان بمثابة انقلاب نظري. حيث كان العالم الغربي يسير في اتجاه توحيد وترشيد المدن «Standardization» عن طريق تقسيمها لنطاقات محددة والمحافظة على الوحدة البصرية في الأحياء، بالإضافة إلى التمدد في الضواحي «Suburbanization». جاء «لينش» لينتقد هذه السياسات والنظريات، باعتبار أن المدن والأحياء تصنع صورًا ذهنية لدى من يسكنونها ويستعملونها. المدن إذن تحتاج إلى إشارات وعلامات معينة لتُمكّن ساكنيها من التجول فيها ومعرفة مواقعهم والارتباط بالأماكن المختلفة.

حدد لينش 5 عوامل تساهم في خلق هذه التصورات الذهنية للمدن، وهي

  • الممرات: أي الشوارع والطرق والأرصفة التي تنظم المرور والحركة.
  • الحواف: أي الحدود بين المناطق ذات الاستعمالات المختلفة، والتي قد تكون حقيقية أو متخيلة.
  • الأحياء: مناطق ذات استعمالات وخصائص محددة ومعروفة
  • نقاط الالتقاء: أماكن يمكن للفرد الدخول إليها وتوفر له عدة وجهات؛ مثل الميادين أو الصالات
  • العلامات: أي العلامات التي لا يمكن استعمالها، مثل النصب التذكارية أو المباني المميزة والتي يستعملها السكان كعلامة.

حياة المدن: جين جيكوبز 

تعتبر  الصحفية والباحثة العمرانية «جين جيكوبز» من روّاد ما يسمى الآن بالعمران الإنساني، إذ كان كتابها «موت وحياة المدن الامريكية» دراسة فاصلة في تاريخ الدراسات العمرانية. كانت «جيكوبز» مهتمة بمعرفة ما الذي يجعل المدن حية، ولماذا كانت بعض خطط التطوير المعماري التي تبدو ناجحة وفعالة تنتج على النقيض أحياءً ومدنًا ميتة؟ 

كانت دراسة جيكوبز فاصلة في تفرقتها بين الطابع الفوقي للتخطيط العمراني في القرن العشرين، وبين الطبيعة اليومية للحياة والتعاملات البشرية في المدن. بالنسبة لها فقد كان النموذج العمراني السائد حينها لا يلقي بالًا للكيفية التي يمارس بها الناس حياتهم اليومية وكان يوظف منطق الآلة لتحويل المدن وحياة سكانها. أسست جيكوبز بدراساتها هذه نظرة جديدة للمدن، تأخذ بعين الاعتبار حياة سكانها وتعاملاتهم اليومية وتصمم بناءً عليها. عوضًا عن الاكتفاء بالمشاريع العملاقة التي غالبًا ما كانت تصدر من الأعلى، والتي تفترض مسبقًا كيف سيتصرف ساكنوها. 

صكّت جيكوبز عدة  مفاهيم جديدة في العمارة الحديثة، منها «عيون على الشارع – Eyes on the street» (أي جعل الشوارع آمنة بتوفير أنشطة ومساحات للسكان تسمح لهم بمطالعة الشارع والنظر إلى ما يحدث فيه)، والتطوير مختلط الاستخدامات «Mixed use developments» (أي دمج عدة اسخدامات مختلفة في خطط التطوير لإضفاء المزيد من الحيوية لها) والتخطيط من أسفل لأعلى «Bottom-up Planning» (أي بدء التخطيط العمراني من حيوات الناس وحاجاتهم). أثّرت «جين جيكوبز» في العديد من المفكرين والمعماريين والمخططين الذين جاؤوا بعدها والذين سنتعرف على بعضهم هنا. 

عمارة الفقراء: حسن فتحي

يعتبر حسن فتحي من أبرز المعماريين العرب والمصريين عالميًا، ويشتهر أيضًا بلقب “معماري الفقراء”، وذلك لفلسفته المعمارية والهندسية التي كانت ترى الفقراء في مركز عملية الإنشاء والإسكان. كان حسن فتحي يرى أن أهم مشكلات المعمار والإسكان في الدول الفقيرة كمصر تكمن في الفوارق الرهيبة بين القدرات المادية للأهالي وتكاليف البناء، مما يؤدي إلى عدم القدرة على بناء العدد الكافي من المساكن التي يحتاجها أفراد المجتمع، فيحظى بالمساكن من يملكون تكاليفها وتبقى الأغلبية الفقيرة بلا مأوى. وكحلٍ لهذه المشكلة رأي فتحي أن يقوم الأهالي بالبناء بأنفسهم لأنفسهم عن طريق التعاون التقليدي، باستعمال مواد وتقنيات محلية يمكنها أن تفي بالغرض.

فعلى سبيل المثال كان فتحي يرى أن العقبة الاقتصادية الرئيسية في عملية البناء تتمثل في السقف، ومن هنا كان تمسك المهنسين بالمواد المصنعة. وحل هذه المشكلة الفنية عند حسن فتحي كان مستمدًا من التراث المعماري الذي أعطى السقف شكل قبو ذي منحنى سلسلي؛ وبذلك امتنعت كل جهود الشد والانحناء والقص واقتصرت على جهود الضغط، والتي يتحملها الطوب بكل يسر. كان الحل التقليدي للمشكلة عن طريق الشكل الهندسي للسقف وليس عن طريق استعمال المواد المصنعة الغالية.

نشر فتحي تجربته في تصميم بلدة قرنة بمصر والتي طبق فيها فلسفته المعمارية في كتابه «عمارة الفقراء» عام 1969، ولاقى الكتاب رواجًا حول العالم وقد ترجم إلى أكثر من لغة.

كيف نصمم أماكن أكثر اجتماعية؟

الحياة الاجتماعية للمدن: وليام وايت

تبلورت في الثمانينات والتسعينات دراسات المدن والحضر ودرسها بغرض استيعابها وفهم سلوك البشر فيها؛ فظهرت أعمال مثل دراسات «راي أولدنبرغ» حول “الأماكن الثالثة” – أي الأماكن التي يقضي فيها السكان أوقات فراغهم ويستعملونها للترفيه بعد أماكن السكن وأماكن العمل. إلا أن الجهد النظري والميداني الأكبر في دراسة الحياة الاجتماعية للمدن وفهم كيفية تفاعل البشر فيها يعود للمخطط الأمريكي «ويليام وايت». درس «وايت» وراقب شوارع وساحات مدنٍ أمريكية مثل نيويورك، ودوّن ملاحظاته حول ما يجعل بعض الأماكن العامة والمباني جاذبة للعامة والمشاة بينما يكون البعض الآخر مقفرًا ونشرها في كتابه «الحياة الاجتماعية للأماكن الحضرية الصغيرة». 

عدّد «وايت» عدة عناصر تجذب العامة، منها: تواجد الأشجار، ومنافذ الطعام، والمياة (مثل نافورة أو نهر)، والأهم هو توافر أماكن للجلوس؛ حيث قال وايت -ربما بتهكم- أن “الناس يميلون للجلوس حيث توجد أماكن للجلوس”. توفر كل هذه العوامل البيئة المناسبة لراحة العامة والمشاة ما يجذبهم إلى الأماكن التي تتوافر فيها؛ وحين يتواجد الناس في مكانٍ ما فإنه تلقائيًا يصبح جذابًا للمزيد من الناس. فحسب وايت، فإن “أكثر ما يجذب الناس كما يبدو، هو الناس الآخرون”. ولذلك شدّد على أهمية توفير أماكن مناسبة للأنشطة التي يمكنها “كسر الجليد” بين الناس وجذب اهتمامهم، مثل وجود فرقة موسيقية أو مستعرضي شوارع أو أي نشاط آخر يمكّن الناس من اختلاق الأحاديث، وهو ما سماه بالـ«Triangulation». 

أدت أفكار «وايت» وكتاباته إلى إنشاء «مشروع الأماكن العامة – Project for Public Spaces» في أمريكا، وهو مشروع يسعى لخلق أماكن عامة أكثر حيوية بالتعاون مع السكان، تأخذ في الاعتبار مصالحهم وحاجاتهم ورغباتهم. ويعتبر هذا المشروع نموذجًا من نمط متسارع الانتشار في العالم -وبالأخص في أمريكا وأوروبا- هو العمارة الديمقراطية، والتي تبدأ عملية التصميم والتخطيط من مستوى السكان.

مدن من أجل الناس: يان غيل 

ربما يكون «يان غيل» أبرز المعماريين المهتمين بالعمارة الإنسانية اليوم، أو كما يحب أن يصفه بأنه “المعمار المتناسق مع الحواس البشرية”. يحلل «غيل» الكيفية التي يمشي بها الناس والتي تحدد مدى رؤيتهم، وكيف يختلف مستوى التعامل الاجتماعي بناءً على المسافة بين الأفراد، ويبني على ذلك فرضياته حول التصميم المناسب للأنشطة البشرية المختلفة والمساحات المناسبة لها. ولهذا لا تروق المدن ذات الشوارع الكبيرة والأبراج العالية -والتي تفتقر في الغالب إلى الوفرة البصرية- لـ«يان غيل»، ويرى أنها تساهم في جعل السكان متغرّبين ويشعرون بالوحشة في المدن. ومن هنا كان اسم كتابه الأبرز «مدن من أجل الناس» والتي يشرح فيها رؤيته لتصميم مدن مناسبة للحواس والتعاملات والأنشطة الاجتماعية، أي مدنًا في مستوى النظر، لا مدنًا بحاجة إلى طائرة لكي ترى كيانها. يرى «غيل» أن المدن قديمًا كانت تصمم بأخذ الحواس والمقاييس البشرية في الاعتبار، على عكس المدن الحديثة التي أغفلت هذا الجانب تمامًا.  

تهتم كتابات «غيل» أيضًا بالمساحات الحضرية، أي المناطق المفتوحة وغير المبنية والتي تقع بين المباني، ويرى أن تصميمها والأنشطة التي تدور فيها جزء لا يتجزء من الحياة الحضرية وقيمتها الاجتماعية. كما أنه يرى في السيارة العدو الأول للحياة الاجتماعية في المدن، إذ أنها ترفع مستويات الضوضاء وتحدث الكثير من التلوث وتجعل الشوارع غير آمنة. بالمقابل فإن تسهيل المشي وركوب الدراجات يجعل الشوارع أكثر أمانًا ومن ثم أكثر جذبًا للسكان والأنشطة الاجتماعية.  

العمارة الإنسانية اليوم

بالرغم من أن مفهوم العمارة الإنسانية «Humane Architecture» يظل ضبابيًا إلى حدٍ كبير، إلا أن الأفكار التي استعرضناها تقدم للكثير من المعماريين مبادئ عامة يمكنهم توظيفها في مشاريعهم. وسنستعرض هنا باختصار بعض النماذج التي قد تنضوي تحت مفهوم العمارة الإنسانية.

تحويل العوائق إلى ملاعب – روزانا مونتييل

تعتبر المعمارية المكسيكية «روزانا مونتييل» من أشهر المعماريات بسبب تصميماتها التي تعتبر صديقة للإنسان. فعلى سبيل المثال، قامت مع فريقها بتحويل قنالٍ غير مستعمل يمر عبر حيٍ سكني في مدينة زاكاتيكاس إلى ملعبٍ للأطفال وملتقىً للأهالي، كما أضافت جسرًا يوفر مكانًا مظللًا. أصبح «ملعب فريسنيلو – Fresnillo Playground» مزارًا ترفيهًيا للمدينة، يستعمله الأطفال لللعب والكبار للتمشية بعد زراعة الأشجار حوله.

لـ«مونتييل» أيضًا عدة مشاريع أخرى على هذا النمط، مثل ساحة «كومون يونيتي» في مكسيكو سيتي. والتي استعملت فيها مبدأ تحويل “الرأسي إلى الأفقي”، أي تحويل الأسوار والحوائط التي تفصل الناس وتصنع عوائق امام المشاة إلى أسقف وملاجئ تمكن الناس من التجمع تحتها.

Fresnillo Playground

حارة مَرمالايد، كامبريدج

يعتبر مشروع «حارة مرملايد – Marmalade Lane» في كامبريدج بالمملكة المتحدة نموذجًا لنموذج الإسكان المشترك «co-housing»، حيث يقوم السكان بإدارة شؤون الحي بشكل كامل ويتشاركون في المرافق مثل الغسالات والمخازن والحدائق وصالة عمومية متاحة للسكان كلهم. يوفر هذا النموذج من الإسكان وسيلة لزيادة الترابط بين السكان وزيادة الحس بالانتماء للحي، كما أنه يوفر بيئة مناسبة للاستدامة المجتمعية.

حرص المعماريون المشرفون على المشروع على جعل مساحاته ومسافاته مناسبة للتواصل البشري، كما أنهم وفروا العديد من المساحات “المرنة” مثل نهايات الطرقات التي يمكن تكييفها حسب الرغبة. بالطبع تعتبر الحارة كاملة للمشاة فقط وهذا يسمح للسكان والأطفال باستعمالها بأمان.

Marmalade Lane – © David Butler

بالطبع، هناك أبعاد أكثر من التصميم المجرد أو حتى هندسة الأماكن لتكون أكثر إنسانية؛ فأنسنة المدن لها أبعاد سياسية واقتصادية ومجتمعية. وقد تصاعد الاهتمام بهذه القضايا بشكل خاص بعد جائحة كورونا وبعد التظاهرات المنددة بالعنصرية وحركة “حياة السود مهمة” Black Lives Matter». وبما أن المدن ستكون مستقبل أغلبية البشر على الكوكب في المستقبل القريب فإن هذا النقاش يجب أن يظل محط اهتمام السياسيين والمعماريين والنشطاء على حدٍ سواء.

تعتبر العمارة الإنسانية اليوم جزءًا من الدفع الشعبي تجاه «القابلية للعيش – liveability»؛ وهي رؤية تقدم نفسها كبديل للنمط التقليدي من تصميم المدن وكعلاج لمشاكل المدينة البيئية والاجتماعية والمعيشية، وسيكون لنا وقفة معها في مقالٍ لاحق. يكفينا في هذا السياق القول أن في العموم تعتبر عوامل مثل الأمن وسهولة التنقل والترابط المجتمعي والعدالة العمرانية (مثل توافر المرافق الكافية والوصول لمناطق الترفيه) مؤشرات على أن المدينة “أكثر قابلية للعيش” وعلى أنها أفضل جودة حضريًا، وكلها عوامل يضعها المعماريون المهتمون بالعمارة الإنسانية ضمن أولوياتهم.

العمارة الحيوية – كيف شكّلت الطبيعة العمران والهندسة؟

هذه المقالة هي الجزء 4 من 9 في سلسلة مقدمة في علم النفس البيئي

في المقال السابق عرضنا نبذة عن الفوائد الصحية للتعرض للطبيعة، وكيف أدت تلك الأبحاث لنشوء مبادئ البايوفيليا أو “حب الطبيعة” في التصميم والتخطيط المعماريين، والتي تسعى لإدماج الطبيعة في نسيج المدن بهدف رفع جودة المعيشة أو المحافظة على البيئة أو توفير متنفس للسكان.

في هذا المقال نستعرض التأثير المعاكس لعلاقة البيئة بالعمران هذه، أي كيف تأثرت العمارة والتخطيط العمراني، من جهة المعرفة العمرانية وتقنيات البناء، بالتفكير البيئي والمحب للطبيعة، والتي أدت في أحدث محطاتها إلى نشوء العمارة الحيوية «Bionic Architecture» ومبادئ التصميم البيئي «Biophilic Design».

المدن الحدائقية – Garden Cities

قد تكون أولى محطات التصميم الحيوي أو البيئي للمدن الحديثة هي  المدينة الحدائقية، والتي ابتكرها الانجليزي «إبينيزر هوارد» عام 1898. وهي نموذج عمراني يدمج بين البيئة الحضرية -في شكل نواة مدنية- والبيئة الخضراء -في شكل محيط ريفيّ-  في محاولة لخلق توازن بين النموذجين وتلافي قصورات كليهما.

كانت المدينة الحدائقية حلًا لمشاكل التلوث والتكدس التي كانت تعانيها المدن الأوروبية في تلك الفترة، ولذلك لاقت رواجًا كبيرًا وتم إنشاء عدة بلدات بالفعل حسب هذا النموذج، إذ كانت تهدف في حال وصولها ذروة طاقتها الاستيعابية للوصول إلى الاكتفاء الذاتي.

إلا أنه المدينة الحدائقية كانت تعاني من قصورات خاصة بها هي أيضًا، مثل قلة المساحات المتاحة للبناء والتوسع. ولكنها لا تزال تلقى بعض الرواج، مثلًا في بريطانيا حيث قررت الحكومة عام 2017 إنشاء عدة بلدات حدائقية حول البلاد.

نموذج المدينة الحدائقية كما اقترحها إبينيزر هوارد [ويكيبيديا]

التخطيط العمراني الأخضر – Green Urbanism

ظلت المدن الحديثة غالبًا غير مهتمة بالجانب الأخضر والبيئي فيها وبآثارها البيئية حتى ستينات القرن الماضي. ففي الولايات المتحدة كمثال كان التوسع الحضري نحو الأرياف المحيطة بالمدن سمة بارزة في خطط التوسع العمراني حينئذ. ولكن مع اضطرابات الستينات الاجتماعية والسياسية وظهور الوعي بأزمة المناخ بدأت الحركات المهتمة بالبيئة بالظهور والانتشار.

وبدأت الحكومات حول العالم بسن القوانين والأكواد لمحاولة تلافي أضرار المدينة على البيئة وجعل المدن أكثر استدامة، كما حدث في قمة الأرض للأمم المتحدة عام 1992. بعد هذا المؤتمر بدأت مصطلحات كالتخطيط العمراني المستدام والتنمية المستدامة في الانتشار.

يسمى التخطيط العمراني الأخضر أيضًا بالتخطيط العمراني المستدام، وبالتخطيط العمراني البيئي.  وقد تكون كوبنهاجن من أكثر مدن العالم تطبيقًا لمبادئ التخطيط المستدام هذه. ما يدعو للإعجاب في إدارة كوبنهاجن لتوسعاتها العمرانية  هي سبقها الزمني للكثير من النماذج المستدامة.

مثل مخطط “الأصابع الخمسة” الذي طورته المدينة عام 1947 والذي كان يهدف لتنظيم التوسع العمراني لمدينة كوبنهاغن والحفاظ على المسطحات الخضراء المحيطة بالمدينة، وتطوير خطوط مواصلات عامة فعالة تربط وسط المدينة (كف اليد) بالتوسعات الجديدة (الأصابع). ستكون لنا عودة في المقالات التالية للقواعد التي اتبعتها كوبنهاجن في خلق مدن أكثر إنسانية ورفاهية من جوانب أخرى.

مخطط “الأصابع الخمسة” لمدينة كوبنهاغن

العمران العضويّ -Organic Urbanism

كان المعماري الأمريكي «فرانك لويد رايت» أول من صاغ مفهوم «العمارة العضوية» وعرّفها بأنها المعمار المتوافق مع الطبيعة.  ومع مرور الوقت أخذ مفهوم العضوية يأخذ مساحةً أكبر واهتمامًا أكثر في مجال العمران والهندسة. فبينما تتمثل العضوية في المعمار كثيرًا باستعمال أشكال وتصاميم وهياكل مشابهة لتلك التي في الطبيعة، نجد أنها مهدت الطريق للكثير من التقنيات الهندسية والمفاهيم الإنشائية الأوسع.

ففي مجال التخطيط العمراني نشأ مفهوم «المدينة العضوية» والذي يرى المدينة باعتبارها كائنًا حيًا، لا ينمو عن طريق إضافة الأجزاء له عن عمد ولكن عن طريق إعادة ترتيب وظائفه ومهامه حين يصل إلى حدود طاقته الاستيعابية وإمكانياته.

لا تمتلك المدينة العضوية مركزًا حيويًا واحدًا، بل هي تتكون من عدة مراكز مكتفية بذاتها ولكنها متصلة ببعضها وتعتمد على بعضها.  وبالمثل، فالنموذج العضويّ في التنمية العمرانية يستند على جعل كل مرحلة من إنشاء أو تنمية المدن قادرةً على القيام بذاتها، عوضًا عن جعلها جزءًا من كلٍ ينتظر الاكتمال لتبدأ بالعمل.

لذا فهذا النموذج يعتبر معياريًا، أي مكونًا من أجزاء معيارية متشابهة قائمة بذاتها كما هو الحال في عمليات حيوية كثيرة. وتعتبر العمارة العضوية مقدمة للعمارة الحيوية والتصميم الحيوي.

يعتبر مركز قطر الوطني للمؤتمرات نموذجًا للعمارة العضوية إذ يأخذ شكل فروع الأشجار، إضافةً إلى تقييماته البيئية المرتفعة.
[David Michael via Flickr Creative Commons]

العمارة البيئية –  Arcology

نشأ مفهوم العمارة البيئية مع المعماري «باولو سوليري» -وهي دمج لكلمتي عمارة وبيئة الانجليزيتين-. تسعى العمارة البيئية لخلق قواعد ومعايير هندسية لتصميم مناطق شديدة الكثافة السكانية وذات أثر بيئي منخفض.

على الرغم من كون معظم المشاريع النابعة من هذا التصور لم تظهر أو تبن على أرض الواقع، إلا أن مفهوم العمارة البيئية مثّل نقلة في التفكير المعماري -الغربي بالمقام الأول- إذ انتقل من السعي للسيطرة على الطبيعة إلى التعايش معها. ويمكننا اعتبار العمارة البيئية حلقة وصل بين التخطيط العمراني والتصميم المعماري البيئيين.

يُعد المعماري والمهندس والمخترع الأمريكي «باكمنستر فولر» (أو «باكي» كما كان يحب أن ينادى) من أبرز المنظّرين لفكرة العمارة البيئية. وحيث أنه كان من رواد نظرية النظم فقد كان من رواد مفهوم الاستدامة ورؤيتها على عدة مستويات بشكل متداخل.

على الرغم من أن أفكار «فولر» لم تنتج أي إنجاز كبير في مجال الاستدامة، فيرجع الكثير من الفضل إليه في إشاعة مفهوم الاستدامة واعتبار العالم الحديث ومدنِه جزءًا من بيئة أوسع يعتمد عليها للبقاء.

التصميم البيئي – Biophilic Design

التصميم البيئي هو مفهوم يعني العمل على تصميم البيئة الحضرية والعمرانية بشكلٍ أكثر ارتباطًا بالطبيعة وأكثر ارتباطًا بطبيعة البشر النفسية تجاه بيئاتهم ومحيطهم.

انبثق هذا التوجه من أبحاث وأفكار علماء النفس والأحياء التطوريين، بعد إدراك أن المكوّن الجيني والنفسي الذي نتعامل ونتجاوب به مع العالم والبيئة المحيطة أقدم بكثير من البيئات الحضرية التي أنشأها البشر في العشرة آلاف عامًا الماضية.

كان عالم الأحياء «إدوارد ويلسون» أول من صكّ مفهوم حب الطبيعة «Biophilia» وعرّفها بأنها الميل للظروف البيئية التي ساهمت في بقائنا -من منظورٍ تطوريّ-. 

عرضنا في المقال السابق أمثلة لتطبيقات هذا المفهوم في التخطيط العمراني والتصميم المعماري. بعض الكتابات الحديثة في هذا المجال تحاول توظيف نظريات حيوية لتفسير السلوك البشري في البيئة الحضرية؛ مثل تفضيل الناس للسير بجانب الجدران عوضًا عن الابتعاد عنها. وسيكون لنا عودة لهذا المجال في مقال لاحق.

العمارة الحيوية – Bionic Architecture

العمارة الحيوية هي توجه مشابه لمفهوم العمارة العضوية، وهي توجهٌ يدرس النظم والعمليات الحيوية في الطبيعة ويحاول محاكاتها في العمارة والهندسة عن طريق التصميم الحيوي، بهدف الوصول إلى إنشاءات أكثر توفيرًا وأكثر فعالية وأقل تأثيرًا على البيئة.

تأثرت العديد من أفكار ونظريات وتقنيات هذا المجال أيضًا بالنظريات البيولوجية والمحاكات الحاسوبية الحيوية وبتقنيات البايوتكنولوجي. من أبرز أمثلة هذا النمط من التصميم هو مشروع عدن في بريطانيا.

مشروع عدن [ويكيبيديا]

إحدى تطبيقات هذا النوع من الهندسة الحيوية هو «المحاكاة الحيوية – Biomimicry» حيث يحاول المهندسون والمعماريون والعلماء فهم الوسائل التي تعمل بها الطبيعة والكائنات الحية بكفاءة لمحاكاتها بهدف تطوير  تصميمات ومواد وتقنيات أكثر استدامة وأكثر فاعلية. أكثر تطبيقات هذا المفهوم شهرة هو محاكاة الهياكل الطبيعية لصنع هياكل أكثر متانة للأبنية.

لكن يشتهر أيضًا تطوير مواد محاكية لتلك التي في الطبيعة أو مواد أكثر نفعًا بيئيًا، مثل مادة الـETFE التي يشتهر استعمالها لخفة وزنها وكفاءتها في العزل الحراري. كما بدأت تظهر للواقع تقنيات ومواد أكثر غرابة، مثل استعمال الطحالب (لتوليد الحرارة، أو للعزل الحراري، أو غيرها).

كان مبنى BIQ House في هامبورغ بألمانيا أول مبنى يوظف هذه التقنية. من رواد المحاكاة الحيوية اليوم المعماري البريطاني مايكل بولين، مؤسس مبادرة «يعلن المعماريون».

وهكذا كما ترى، فليست المدينة وحدها التي تؤثر على الطبيعة سواءً بالسلب أو الإيجاب، بل حتى الطبيعة تؤثر على تخطيط المدن والتفكير العمراني، وتظل العمارة الحيوية شاهدة على انبهار البشر بالعالم من حولهم عوضًا عن سيطرتهم عليه.

[1] Scandinavia Standard [2]
للمزيد من الأمثلة عن العمارة العضوية: Omrania [3]
لأمثلة أكثر عن تطبيقات المحاكاة الحيوية: re-thinking the future و dezeen

علم النفس البيئي: نبذة تاريخية عن علاقة العمران بالنفس

هذه المقالة هي الجزء 1 من 9 في سلسلة مقدمة في علم النفس البيئي

كيف يتفاعل البشر مع بيئتهم؟

هل حدث من قبل أن ذهبت إلى مكانٍ ما وتوقفت منبهرًا من منظره وما أوجده من مشاعر بداخلك؟ لماذا قد نشعر بالملل إذا مشينا بجانب بعض المباني ذات الواجهات المغلقة؟ ما الذي يجعل بعض الأماكن والساحات تنبض بالحياة وبعضها الآخر موحشًا؟ هل يمكننا تحليل شخصية شخص ما من غرفته ومقتنياته؟ وما هي أضرار الازدحام على الصحة وكيف نصمم الأحياء السكنية لتكون آمنة وأيسر للسير؟ هذه الأسئلة تقع ضمن مجال علم النفس البيئي «Environmental Psychology»، و هو علم يدرس تأثير البيئة إجمالًا على التجربة والسلوك والصالح البشري العام، بالإضافة إلى تأثير الأفراد (والمجتمعات) على البيئة. وتعدد مجالاته يجعله مجالًا مثيرًا للاهتمام والبحث إذ أنه يتعلق بالكثير من القضايا التي نعيشها بشكل يومي.

البدايات: علم النفس “المعماري”

ظهر علم النفس البيئي رسميًا كفرع من علوم النفس خلال فترة الستينات. إلا أن المصطلح ظهر لأول مرة في النصف الأول من القرن العشرين، حين درس «ويلي هيلباخ» أثر عوامل بيئية مختلفة مثل اللون والشكل والشمس والقمر على أنشطة بشرية مختلفة، وقسّم البيئة إلى ثلاث نطاقات: البيئة والمجتمع والعمران (أو الحضر). اعتقد هيلباخ أن كلًّا من هذه النطاقات يؤثر على العقل البشري عبر وسيلتين: الأثر المباشر للمعاني والرموز (التجارب المباشرة للبيئة)، والأثر غير المباشر عن طريق التأثيرات الفسيولوجية على الجسم والدماغ.[1]

في هذه الفترة كانت الأبحاث التي تستكشف العلاقة بين البيئة والنفس مبعثرة إلى حد كبير، ولم يكن معترفًا بها كمجال بحثيّ مستقل. بحلول أربعينات القرن العشرين بدأت الدراسة المنهجية للمكان والحيز كما ظهرت العديد من الدراسات حول إضاءة المنازل وأثرها على الصحة وسلوكيات الأطفال في البيئات الطبيعية وغيرها. وحيث كانت معظم تلك الدراسات تركز على الكيفية التي تؤثر بها البيئات الحضرية بالأخص على إحساس وسلوكيات الناس، فقد سُميت بـ«علم النفس المعماري»، للتمييز بينها وبين دراسات علم النفس الأكثر تقليدية.

بيئة حضرية فعّالة

في تلك الفترة كان التركيز الأكبر على البيئة المبنية أو الحضرية، مثل المعمار والتقنية، وآثارها على النفس. وكان هذا التركيز على البيئات المبنية مدفوعًا بشكل كبير بالمناخ السياسي والاجتماعي في تلك الفترة. حيث كانت العمارة الحديثة تحاول معالجة تحديات ما بعد الحرب العالمية -مثل توفير الإسكان المناسب للسكان. ولهذا نشأت أسئلة حول الكيفية المثلى لبناء المنازل والمكاتب والمستشفيات لتخدم مستعمليها بأكبر فاعلية ممكنة، وكيف يمكن للمؤثرات البيئية (كالحرارة، والرطوبة، والتكدس والازدحام) التأثير على الأداء البشري وبالتالي كيف يمكن التحكم بها.

البحث الاجتماعي في المعمار

بدأت تظهر ولو بشكل طفيف أيضًا دراسات اجتماعية ونفسية حول الأثر الاجتماعي للحيّز، ـ لعل أبرزها الدراسة الرائدة لعالم النفس «ليون فيستنغر» التي أظهر فيها العلاقة بين المجاورة المكانية واحتمالية تكوين علاقات اجتماعية طويلة المدى، وهو ما أسماه بأثر المجاورة «Proximity Effect». أي أن الناس يميلون لإقامة علاقات اجتماعية أكثر مع الذين هم أقرب لهم فيزيائيًا. درس «فستنغر» سكنًا طلابيًا بمعهد إم آي تي ولاحظ أن الطلاب الذين يعيشون في غرف بجانب درج المبنى كانت لديهم علاقات اجتماعية أكثر مع باقي السكان حيث يحتكون بهم بشكل أكثر تواترًا، كما أنه كلما كانت غرفتان أقرب لبعضهما زادت فرصة ساكنيهما لتكوين صداقة.

بناءً على أبحاثه حول سيكولوجية الجماعات والانتماء، كان فيستنغر يطالب المعماريين أيضًا بأخذ الاحتياجات الاجتماعية للسكان ورغبتهم في الانتماء قيد الحسبان أثناء تصميم المناطق السكنية.[2] توالت في الفترة التالية، وبالأخص منذ الستينات، الدراسات حول البعد الإنساني في التصميم والتخطيط العمراني، مثل دراسات «كيفن لينش» عن “صورة المدينة” و«روبرت سومر» حول المساحات الشخصية ونظرية «أوسكار نيومان» حول «المساحات الآمنة – Defensible Space» لخلق أماكن أكثر أمنًا وسلامة.

علم النفس البيئي والاستدامة

الفترة التالية لنمو مجال علم النفس البيئي بدأت في الستينات، حين بدأ العالم بإدراك المشاكل والأخطار البيئية المحيطة. ومن هنا ظهرت الدراسات حول مشكلة الاستدامة ودراسة وتغيير السلوك البيئي لخلق بيئة مستدامة وصحية. شملت تلك الدراسات في بداياتها مشاكل مثل تلوث الهواء والتلوث الضوضائي، ومن ثم توسعت لتشمل مباحث كاستهلاك الطاقة ودراسة المخاطر المرتبطة بتقنيات الطاقة. في الثمانينات بدأت بالظهور أيضًا الدراسات حول جهود تحفيز الحفاظ على البيئة والتوعية المجتمعية بالسلوكيات الصديقة للبيئة. وتصاعد هذا التوجه منذ بدايات القرن الحادي والعشرين، حيث صار من الواضح أن الأزمات البيئية كالتغير المناخي والتلوث والتصحر تهدد الصحة والأمن الغذائي والمائي للعالم أجمع. وبالتالي فقد تم استدعاء مفهوم للاستدامة يشمل الصالح العام البيئي والمجتمعي والاقتصادي، ويرى بعض الباحثين أن علم النفس البيئي تطور بمرور الزمن إلى “علم نفس الاستدامة” على المستويات الثلاث.

كيف نصمم مدنًا أكثر جاذبية؟

بجانب دراسة البيئة والاستدامة والطاقة التي توسعت مع اتساع الوعي بالازمة المناخية، بدأت أيضًا دراسة الكيفية التي يتفاعل بها البشر مع بيئاتهم الحضرية، وهو ما يسمى في بعض الأحيان بعلم النفس الحضري «Urban Psychology» والذي كان رائده هو المخطط الأمريكي «وليام و. وايت»،  الذي يلقب أحيانًا بأبو علم النفس الحضري.[3] كان «وايت» مهتمًا بمعرفة السبب الذي يجعل بعض الميادين والشوارع والحدائق مليئة بالناس وجاذبة للنشاط البشري، بينما تكون أخرى شديدة الوحشة ومنفرة للنشاط البشري. ولذلك قام بتصوير وملاحظة شوارع وميادين وحدائق نيويورك ليحاول تحليل العوامل التي تجعل الناس يتجمعون في مكانٍ ما.

كانت من أبرز نتائج وايت -والتي تبدو شديدة البداهة حد الضحك ربما- هي أن الناس يجلسون حيث يتوفر لهم مكان للجلوس. فلدهشة وايت نفسه كان العديد من الحدائق والميادين لا يوفر حتى مقاعد للجلوس والاستمتاع بالهواء والشمس. هذا إن لم يتم وضع موانع ضد جلوسهم حول بعض المباني؛ كما تفعل بعض الشركات والمؤسسات حين تحاول طرد المشردين والشحاذين -ومن أسماهم وايت “غير المرغوب فيهم” «Undesirables»- عن طريق تسوير مبانيها وجعل محيطها غير جذاب؛ وتكون النتيجة أن الناس يبتعدون عنه ويصبح موحشًا في حين أن أولئك غير المرغوب فيهم يحتلونه. لقد لخص وايت نتائج دراساته بقوله “أنه من الصعب جدًا تصميم مكانٍ غير جذاب للناس. ما يستحق الدهشة هو كيف يتم ذلك باستمرار”.[4]

نطاق علم النفس البيئي حاليًا

لعلنا الآن نتساءل عن حدود ونطاق علم النفس البيئي، هل هو لتصميم مبانٍ أكثر فاعلية وراحة، أم للبحث حول قضية الاستدامة ودعم مصادر الطاقة البديلة؟ هل يدرس البشر أم الحضر؟  وما هي بالضبط البيئة التي يدرس النفس البشرية ضمنها؟ الحقيقة هي أن علم النفس البيئي مجال متعدد النطاقات «Multi-disciplinary»، ويتصف بمقاربته متعددة المجالات للقضايا محل البحث وتعدد مناهجه، فهو يتداخل بشكل صميميّ مع الهندسة المعمارية وعلوم البيئة والسياسات العامة، بالإضافة إلى التبعات المجتمعية لها كالآثار الصحية والنفسية. وبالمقابل يبحث أيضًا كيف يؤثر الناس في بيئاتهم: كيف يجعلونها أكثر ذاتية، كيف يعبرون عن أنفسهم وانتماءاتهم، وكيف يدفعهم ذلك إلى الحفاظ على سلامة محيطهم وبيئتهم على سبيل المثال.

سنتحدث في مقالاتٍ تالية عن تطبيقات معاصرة لعلم النفس البيئي وأثرها في البيئة الحضرية والسلوك البشري، ولكن يكفينا في هذه الفقرة أن نبين أن العلاقة المتبادلة بين البشر وبيئتهم (حضرية كانت أو طبيعية) معقدة ومتداخلة للغاية. ولعل هذا سبب في أن علم النفس البيئي يتسم بالبحث بدافع العثور على أكثر الحلول فاعلية لمشاكل حاضرة بالفعل. إضافة إلى أن علم النفس البيئي يدرس هذه العلاقة على مستوياتٍ عدة، ابتداءً بمشاكل النفايات وإعادة التدوير على مستوى الأحياء مرورًا بالتخطيط السليم والصحي للأحياء السكنية ومناطق العمل على مستوى المدن والدول وانتهاءً بدراسة التقنيات الجديدة لمواجهة تغير المناخ على مستوى الكوكب كله.

ولذلك أيضًا، فإن هناك عدة مجالات تبحث هذه العلاقة وتتداخل مع بعضها البعض على عدة مستويات وفي عدة نطاقات.  فبجانب علم النفس البيئي، هناك على سبيل المثال أيضًا علم الاجتماع الحضري «Urban Sociology» وعلم البيئة الحضري «Urban Ecology» وعلم الظواهر أو الفينومينولوجيا المعمارية «Architectural Phenomenology»، وكلها لديها دوريات ومجلات متخصصة وبعضها يدرّس في أقسام جامعية مختصة.


المصادر:

  1. Environmental Psychology : an Introduction
  2. Blueprints for a History of Environmental Psychology
  3. Architecture and Group Membership, Leon Festinger
  4. Project for Public Spaces
  5. Social Life of Small Urban Spaces

عجائب مصر القديمة: العلم

هذه المقالة هي الجزء 4 من 9 في سلسلة عجائب مصر القديمة

بلغ المصريون القدماء من العلم ما لم يبلغه من عاصروهم، وتقف آثار مصر القديمة شامخة شاهدة على براعتهم في مختلف فروع العلوم، حتى أنه صَعُب على الناس التصديق بأن آثارهم من صناعة البشر، فنرى حديثًا عن الفضائيين وتدخلهم في حياة المصريين القدماء ومساعدتهم، ولكن دعونا نرى ما بلغوه من علم بعيدًا عن الخرافات ونظريات المؤامرة.

الأدوات الشخصية

اهتم المصري القديم بمظهره ونظافته الشخصية للغاية، ومن أجل ذلك اخترعوا المرايا، تلك المرايا التي تملأ بيوتنا اليوم، هي من إبداعات المصريين القدماء.

ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل أنهم كانوا أيضًا هم من اخترعوا فرشاة ومعجون الأسنان، حيث كان معجون الأسنان في مصر القديمة عبارة عن وصفة تتضمن أملاح الصخور والنعناع والفلفل، كما كانت هناك وصفة أخرى تتضمن قرون الثيران المطحونة والرماد، والتي عند امتزاجها باللعاب تصنع خليطًا منظفًا للأسنان، ليس هذا فحسب، بل أنه من العجيب أن تعرف أن أول أقراص نفَس منعشة في التاريخ صُنعت في مصر القديمة، حيث صُنعت من القرفة والبخور والعسل.

الزراعة

كانت حضارة مصر القديمة حضارة زراعية، فاحتاجوا إلى تطوير الآلات والأدوات لمساعدتهم في الزراعة، فاخترعوا المحاريث التي كانت تجرّها الثيران، وبعد حرث الأرض كانوا يبذرون البذور، ثم يجرّون الثيران فوق الأراضي الزراعية مرة أخرى لغرس البذور في التربة.

وكانت الطريقة المصرية في الري عالية الكفاءة، حيث أنها انتقلت إلى اليونان وروما، عن طريق الفيلسوف اليوناني طاليس، والذي كان قد عاش في بلاد مابين النهرين لفترة من الزمان، إلا أنه لم ينقل طريقة الري من بلاد مابين النهرين، فكان المصريون القدماء يحفرون الخنادق والترع للتوصيل بين النهر النيل وبين المساحات المزروعة.

العمارة

برع المصريون القدماء في العمارة، وها هي معابدهم تشهد على ذلك، ولا يسعنا الحديث عن العمارة وجمالها في مصر القديمة دون ذكر رمسيس الثاني، فأحد أهم الآثار في مصر القديمة هو معبده، أبو سمبل، والذي صممه المصريون بدقة بالغة، لتُشرق الشمس مباشرة على وجوه تمثالي رمسيس الثاني والإله آمون في يومين فقط من كل عام (21 من فبراير، و21 من أكتوبر)، وهما يوم ولادته ويوم تتويجه، ويأتي السياح إلى مصر في كل عام في ذلك التوقيت لمشاهدة هذا الحدث الفريد من نوعه.

علم الفلك

كانت الأجرام السماوية مهمة في مصر القديمة على الصعيدين، العملي والروحاني، حيث كانت النجوم شاهدة على أعمال الآلهة العظيمة، كما كانت حركة النجوم أيضًا تُعلم المصريين بمواقيت المطر وزراعة المحاصيل.

كما كانت النجوم ذات بُعد ديني، فكان يُرمز للآلهة بنجوم السماء، حيث كان يرمز «حزام الجبار-Orion belt» إلى الإله أوزيريس، ومن عجائب الأمور أن تعرف أن نجوم حزام الجبار تتعامد فوق أهرامات الجيزة الثلاثة!

واستخدم الفلكيون في مصر القديمة أداة تُدعى «ميرخت-Merkhet»، والتي كانت تستخدم لدراسة حركة بعض النجوم، فقد استطاعوا تحديد مواقع النجوم بدقة باستخدام هذه الأداة.

وأزيدكم من الشعر بيتًا، فإن التقويم السنوي ذو ال 365 يوم الذي نعتمده اليوم، كان أول من توصل إليه هم المصريون القدماء، بل كانت السنة لديهم مقسّمة على 12 شهرًا في كل منهم 30 يومًا، بالإضافة إلى خمسة أيام إضافية، كما كان اليوم في مصر القديمة مقسّمًا على 24 وحدة ترمز كل وحدة منهم إلى إله معين.

الرياضيات في مصر القديمة

كانت الرياضيات في مصر القديمة مستخدمة في كل شيء تقريبًا، فقد استخدموها في الإحصاء وحسابات الضرائب وفي المشاريع الهندسية الضخمة، كالأهرامات على سبيل المثال، والتي قد يتعجب القارئ من عدم ذكرها عند الحديث عن العلم في مصر القديمة، إلا أننا سنُفرد لها جزءًا لذاتها.

واستُخدمت الرياضيات في هندسة المعابد والمباني، والتي ما كانت لتكون بهذا الجمال لولا النسب الرياضية الدقيقة، كما شكّل تقدم المصريين في الرياضيات حجر الأساس لتفوق الرياضيين اليونانيين القدماء، حيث أن «فيثاغورس-Pythagoras» كان قد تعلم الرياضيات في مصر على أيدي الكهنة.

الطب في مصر القديمة

تأثر الطب في مصر القديمة بالسحر لأبعد الحدود كما ناقشنا في الجزء الثاني من هذه السلسلة، حيث كان الأطباء يستخدمون التعاويذ والرسومات لعلاج المرضى، وكانت مهارة السحر من المهارات الأساسية المطلوبة لتوظيف الممرضات، إلا أنهم استطاعوا وصف بعض الطرق للعلاج، والتي تتعلق بالطب الحقيقي، ولعل أشهر آثار المصريين القدماء الطبية هي البرديات الطبية، وأشهر هذه البرديات هي:

1- «بردية إيبرس-Ebers papyrus»

وهي عبارة عن نص من 110 صفحة، يصف بعض العلاجات المستخدمة في ذلك الوقت لأمراض القلب والسرطان والاكتئاب والأمراض الجلدية.

2- «بردية لندن-London papyrus»

وهي بردية مزجت بين المهارات الطبية الحقيقية وبين التعاويذ السحرية، فقد ذكرنا في السابق العلاقة القوية بين الطب في مصر القديمة وبين السحر.

3- «بردية إدوين سميث-Edwin Smith papyrus»

وهي أقدم عمل بشري يصف العمليات والتقنيات الجراحية، وهي تُظهر معرفة المصريين القدماء المفصلة بعلم التشريح، كما كانت تحتوي على خطوات العلاج التي يقوم بها الأطباء حتى اليوم، وهي الفحص والتشخيص ووصف العلاج.

المصادر

coursera
ancient.eu

الفن الكارولنجي والرومانسيكي والفن القوطي

هذه المقالة هي الجزء 1 من 8 في سلسلة مقدمة في تاريخ فن العصور الوسطى

فنون العصور الوسطى، الفن الكارولنجي والرومانسيكي والفن القوطي

ظهرت عدة فنون في العصور الوسطى مستمدة ومتطورة من الفن البيزنطي بعد انتهاءه على نطاق واسع في أوروبا، وكان من أهمها الفن الكارولنجي والفن الرومانيسكي والفن القوطي، وهو أكبرهم في التأثير.

لذا دعونا نتعرف معًا على تلك الفنون، ونرى كيف تطورت ومهدت لعصر النهضة العظيم.

الفن الكارولنجي (780 – 900)

يعتبر الفن الكارولنجي من أهم فنون العصور الوسطى، والذي بدأ حين قام شارلمان -ملك الفرنجة ومؤسس الإمبراطورية الرومانية المقدسة- بتحريض إحياء ثقافي معروف باسم عصر النهضة الكارولنجية، وذلك بدعوة أعظم العلماء من جميع أنحاء أوروبا للمثول أمام المحكمة وإبداء الاقتراحات لتجديد السياسة والكنيسة والفن والأدب.

قام ببناء قصر وكنيسة في آخن بألمانيا عام 805، لتصبح بمثابة مقر لسلطة “شارلمان” وما زالت تضم عرشه اليوم. ربما تكون الكنيسة أفضل مثال حي باق للهندسة المعمارية الكارولنجية، والتي أثرت في تصميم القصور الأوروبية لاحقًا.

كاتدرائية آخن – Aachen Cathedral. by: Frans Sellies

وكان لدى شارلمان أيضًا مركز لنسخ المخطوطات في آخن. وقد كانت أنماط الكتابة والنصوص في أوروبا قبل ذلك مترجمة ويصعب قراءتها. لم يكن بالإمكان قراءة الكتب في أوروبا يسيرًا في ذلك الوقت، حتى وإن كان كلا من الكاتب والقارئ يجيدان اللغة اللاتينية.

اعتمدت اللغة الكارولنجية المنتشرة من آخن عالميًا مما أتاح التواصل الكتابي بشكل أكبر. أصبحت الكارولنجية أكثر النصوص المستخدمة على نطاق واسع في أوروبا في وقتها.

انفوجراف مبسط حول الفن الكارولنجي.

الفن الرومانيسكي (1000 – 1300)

بدأت فترة الفن الرومانسكي في العصور الوسطى حوالي عام 1000 م واستمرت حتى عام 1300 تقريبًا. وقد تأثر بكل من الفن الروماني والبيزنطي، كما هو الحال مع كل الفنون؛ فقد تأثر كل عصر ومدرسة بما قبلهم على طول تاريخ الفن.

كان تركيز الفن الرومانيسكي على الدين والمسيحية. شمل الفن الرومانسيكي التفاصيل المعمارية كالزجاج الملون والجداريات الكبيرة على الجدران والأسقف، والمنحوتات على المباني والأعمدة.

أهم الأعمال الرومانيسكية

كنيسة سانت فوي – حوالي 1050- 1130

تنقل الواجهة شعورًا بالقوة والصلابة، وتزيد بساطة العناصر الزخرفية من قوتها. كانت القديسة “فوي” فتاة من آكيتاين استشهدت في الفترة من عام 287 إلى عام 303 م، وكانت الكنيسة تحتفظ بمخزن ذهب يحتوي على رفاتها.

كنيسة سانت فوي – Church of Sainte-Foy. حقوق ملكية الصورة: jean françois bonachera

انفوجراف مبسط حول الفن الرومانسيكي.

الفن القوطي

نشأ الفن القوطي في القرن الثاني عشر الميلادي وتطور من الطراز الرومانيسكي بعد انتصار القوط على الرومان. كان الاسم مرادفًا لكلمة “البربرية”، وقد استخدم لوصف الفن القوطي بأنه بعيد مقارنة بالفن الكلاسيكي عندما كان الناس يتطلعون إلى إحيائه.

وقد استخدم المصطلح في رسالة من “رافاييل” إلى البابا “ليو العاشر”، شبه فيه الأقواس المدببة للهندسة القوطية بأكواخ القوط الغربيين البدائية التي تم إنشاؤها عن طريق ثني قمم الأشجار معًا. فقد كان ينظر فناني ومؤرخي عصر النهضة إلى هذا الفن نظرة ازدراء؛ لبعده عن النسب الكلاسيكية الإغريقية والرومانية.

لكن على الرغم من آراءهم، فقد أصبحت الهندسة والمنحوتات المعمارية القوطية واستخدامهم للزجاج المعشق موضع تقدير اليوم باعتبارها قطع فنية جميلة ومعقدة.

العمارة القوطية

حاولت العمارة القوطية بالعصور الوسطى إعادة خلق بيئة سماوية على الأرض؛ من خلال حوائط مرتفعة ونوافذ زجاجية ملونة. استندت العمارة القوطية على الأساليب الرومانيسكية. قام المعماريون القوط بتطوير الزخارف بين النوافذ الزجاجية، مما أدى إلى خلق مساحات داخلية أبهرت حواس المصلين.

من أشهر وأجمل كاتدرائيات الفن القوطي والتي نشب بها حريق هائل في الخامس عشر من أبريل العام المنصرم، هي كاتدرائية “نوتردام“.

كاترائية نوتردام – notre dame cathedral. by: sacratomato

وقد صور فن النحت المعماري والميداني شخصيات اكتسبت سمات طبيعية وحسية أكثر من السابق في العصور الوسطى. أصبحت القطع الأثرية واللوحات الجدارية أكثر شيوعًا في كنائس نهاية الحقبة القوطية في القرن الرابع عشر.

سمات العمارة القوطية

كانت الخصائص الهيكلية الرئيسية للتصميم المعماري القوطي في العصور الوسطى تنبع من جهود البنائين من القرون الوسطى لحل المشكلات المرتبطة بدعم قبو سقف المباني الثقيلة (الأسقف المقوسة) الواسعة. ظهرت المشكلة لأن السقف التقليدي المقنطر كان يسبب ضغطًا هابطًا للأسفل وللخارج على الجدران التي استند عليها، مما تسبب في كثير من الأحيان في الانهيار.

اعتقد المصممون أن الجدران الداعمة الرأسية يجب أن تكون سميكة وثقيلة للغاية من أجل مواجهة وامتصاص ضغط القبو، لكن مصممي القوطية حلوا هذه المشكلة بالعديد من الابتكارات الرائعة.

كانت الكاتدرائية هي المركز الذي تم فيه وضع الاختراعات الأساسية للعمارة القوطية مثل القوس المدبب، والقبو المتقاطع المضلع، ودعامات الطيران

المباني العملاقة

تم استخدام أقبة الأضلاع، ودعامات الطيران، والأقواس المدببة كحلول لمشكلة بناء هيكل طويل للغاية مع الحفاظ على أكبر قدر ممكن من الضوء الطبيعي. قاموا بتقليل وزن السقف، فصنعوا سقفًا (قبوًا) مضلعًا، يتكون من قبو متقاطع الأضلاع من الألواح الحجرية الرقيقة. واستبدلوا الأقواس المستديرة لخزينة الأسطوانة بأقواس مدببة وزعت وزن القبة في اتجاه أكثر رأسية. وبكل بساطة، انخفض وزن السقف بالكامل على الجدران الداعمة. قام المعماريون القوطيون بتحويل وزنه على طول أضلاع السقف عبر الجدران إلى دعامة تحلق (نصف قوس)، ثم نزول الدعامات الرأسية (الأرصفة) إلى الأرض.  فلم يعد السقف يعتمد على الجدران للحصول على الدعم. ونتيجة لذلك أصبح بناء جدران الكاتدرائيات أعلى بكثير.

تميزت بناياتهم بالتالي:

  • استخدام الحجر والرخام بدلًا من الطوب، مما سمح بإنشاء الكاتدرائيات والكنائس عالية الارتفاع.
  • أقواس مبالغ فيها.
  • نوافذ عالية وكبيرة.
  • جدران أكثر سمكًا من العمارة الرومانيسكية.
  • منحت ألواح النوافذ الزجاجية الملونة (Stained Glass) تأثيرات داخلية مذهلة بأشعة الشمس، وهي من أهم سمات العمارة القوطية وأهم أشكال التزيين الرئيسية فيها.
الزجاج الملون بكاتدرائية نوتردام.

النحت القوطي

قام كل عنصر من عناصر تصميم الكاتدرائية القوطية بنقل رسائل دينية. وعكست الطبيعة الهيكلية للبناء والمنحوتات (النقوش والتماثيل والأعمدة) والنوافذ الزجاجية الملون والجداريات رسائل للكتاب المقدس.

رغم أن الفضول القوي حول الجسم الإنساني أنتج الفن اليوناني ببراعته ودقته، لكن كان هناك نوع آخر من الفضول المسؤول عن روح الفن القوطية في العصور الوسطى يكمن جوهر تماثيله في قدرتها على الإيحاء. ليس الكمال النهائي بالنسب الكلاسيكية، ولكن البحث الديناميكي عما لا يمكن بلوغه.

Diptych with The Last Judgement and Coronation of the Virgin.

والفن القوطي يشبه الخليط وجب أن يرى مع بعضه البعض، فمكوناته المنفصلة لا تمثل النتيجة النهائية. ليس من السهل فصل قطعة من النحت -مهما كانت معبرة- عن مأواها المعماري دون سرقة قدر كبير من معناها، لأنها جزء من إيقاع أكبر. بالرغم من ذلك، يمكن رؤيتها مفردة وستبقى محافظة على الإبهار، وليس فقط لحيويتها وخيالها ونعومتها، ولكن بسبب معناها المتأصل بذاته.

ظهر النحت القوطي في زخرفة واجهات الكاتدرائية بشكلٍ واضح جدًا، كونها مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بهندستها المعمارية والمساعدة في تقسيمها إلى طوابق. وقد كانت تنحت على الأعمدة أكثر من كونها تماثيل منفصلة ومستقلة بذاتها.

منحوتات قوطية من كاتدرائية ستراسبورغ، فرنسا.

وقد تنوعت موضوعاتها ضمن السياق الديني بين العهد القديم والجديد، وذلك كنهاية العالم والحساب الأخير. كما حضر كثير من أبطال الكتاب المقدس وصورت قصصهم، بالإضافة لاحتلال العذراء مكانًا متميزًا بينهم.

التصوير القوطي

ظهرت اللوحة المصورة القوطية متأخرة قليلًا عن الأشكال الأخرى للفن القوطي من العمارة والنحت في العصور الوسطى. وبدأ الفنانون القوطيون في استخدام الألوان والأبعاد والمناظير الأكثر إشراقًا، وانتقلوا نحو المزيد من الواقعية. كما بدأوا في استخدام المزيد من الظلال والضوء في فنهم مع تجريب مواضيع جديدة تتجاوز الدين، كالحيوانات في المواضيع الأسطورية.

تم رسم الأشكال لتضفي حركة مع مساحة أكبر داخل مساحة الخلفية، وقد رسمت في الكنائس بتقنية الفريسكو. توجد أكبر مجموعة من اللوحات الجدارية في الدنمارك والسويد والمليئة بقصص الكتاب المقدس من العهد القديم والعهد الجديد.

أصبحت اللوحات الفردية ، مثل اللوحات الزيتية على القماش، مشهورة في القرن الرابع عشر وقد مهدت لعصر النهضة. ونشأت حركة “الفن الهولندي المبكر” في شمال أوروبا في ذلك الوقت واعتُبرت أعماله قوطية على الرغم من بدء عصر النهضة.

The Miracle of the child falling from the balcony. Location: Church of St. Augustine Novello, Siena, Italy.

أما الاتجاهات الكلاسيكية الجديدة في جنوب أوروبا فلم تكن وصلت بعد إلى المنطقة، فبقي النمط القوطي قائمًا.

تضمنت تقنيات الحركة الهولندية تفاصيل دقيقة ورمزية وواقعية، بالإضافة إلى موضوعات لاهوتية بمشاهد دينية معقدة. وقد رسمت هذه اللوحات بأحجام صغيرة لتوضع في المنازل، وغالبًا ما تظهر صورة المالك إلى جانب القديسين.

التصوير القوطي الإيطالي

كانت إيطاليا واحدة من آخر الأماكن التي وصلتها القوطية، وواحدة من أول من قفزوا إلى عصر النهضة الفريد الخاص بها. وحين كانت النوافذ الزجاجية الملونة الشيء الرئيسي لتزيين الكنيسة الداخلية في العصر القوطي، حيث قلت الجداريات والفسيفساء بجانبه، استثنت إيطاليا نفسها من تلك القاعدة. لعبت اللوحات الجدارية وغيرها من أشكال التصوير دورًا رئيسيًا لتزيين الكنائس في إيطاليا.

تطور استكشاف الفنان القوطي للمنظور الهندسي، لكن لم يقصد بذلك استعادة مجد الفن الكلاسيكي. يمكننا أن نرى تطور المنظور القوطي الإيطالي في شكلين رئيسيين: المنظور الداخلي وتوفير العمق لمساحة مغلقة، والمنظور الخارجي مع مقدمة راسخة وظهور لمنتصف الأرض والخلفية.

ومن أهم وأشهر اللوحات في ذلك العصر هي لوحة: “Adoration of the Magi”.

Adoration Of The Magi. by: Giotto 2 m x 1.85 m

ومن أكثر الأشياء إثارة في هذه اللوحة القوطية الإيطالية، أنه ولأول مرة منذ فترة طويلة عرفنا أسماء لمعظم الفنانين في هذا العصر. كان أغلب الفنانين القوط -من معماريين أو نحاتين- مجهولين الهوية.

أهم فنانين التصوير القوطي

  • جيوتو – Giotto
  • دوتشيو – Duccio
  • تشيمباو – Cimabue
  • الأخوان لوريزنتي – Lorenzetti
  • جنتيلي دا فابريانو – Gentile Da Fabriano

ومن خلال متابعة عمل هؤلاء الفنانين، يمكننا رؤية اتجاهين يتطوران في الفن القوطي الإيطالي: شخصيات واقعية بشكل متزايد واستخدام المنظور في الرسم. هذه الاتجاهات هي ما ستؤدي في النهاية إلى النهضة الإيطالية.

انفوجراف مبسط حول الفن القوطي.

المصادر:

Gothic Art and Architecture
Romanesque Architecture and Art
khanacademy
Ducksters
TheArtist
MyModernMet
Visual-Arts-Cork
Visual-Arts-Cork
Study: gothic painting style characteristics

إختيار هلا وردة لتصميم الجناح اللبناني في بينالي فينيسيا 2020

إختيار هلا وردة لتصميم الجناح اللبناني في بينالي فينيسيا 2020

أعلن وزير الثقافة اللبناني الدكتور محمد داود ورئيس اتحاد المهندسين اللبنانيين النقيب المعمار جاد تابت نتائج مسابقة تصميم الجناح اللبناني في بينالي فينيسيا 2020. ففازت في الجائزة الأولى: هلا وردة عن مشروع A Roof for Silence وفي الجائزة الثانية: مكتب Collective for Architecture عن مشروع 100Years Online وفي الجائزة الثالثة: ساندرا افرام وبولس دويهي عن مشروع Life at The Ground Floor.

تم اختيار هلا وردة، مؤسس مكتب HW architecture، لتصميم الجناح اللبناني في بينالي فينيسيا للعمارة 2020. ويهدف المشروع الذي يحمل عنوان “سقف للصمت – A Roof for Silence” إلى دراسة الإشكاليات التي تطرح نفسها بإلحاح في عالمنا اليوم تحت شعار: “كيف سنعيش سوياً؟ – ?How will we live together”.

بينالي فينيسيا للعمارة – La Biennale di Venezia

يعتبر معرض بينالي فينيسيا للعمارة (La Biennale di Venezia) هو المعرض الأشهر على المستوى الدولي، وهو واحد من أهم المعارض التي تستعرض الاتجاهات المعمارية المعاصرة.حيث تتنافس الدول المشاركة في إظهار أفضل ما لديها من أعمال وأفكار معمارية، ويخصص لكل دولة جناح تعرض فيه أعمال فنانيها المشاركين.

يهدف التصميم اللبناني الى خلق مساحة للتبادل والحوار، بين المعمارية هلا وردة والشاعر والفنان اللبناني المعاصر إيتل عدنان. حيث سيجمع الجناح بين الماضي والحاضر، العصور القديمة والحديثة، من أجل ربط هذه العصور وكشف الإجابات العميقة للتحدي المطروح.

في الواقع، توضح المعمارية هلا وردة أن “المشروع سوف يبحث إمكانية كيف سنعيش معًا من خلال الكشف عن كيفية عيشنا معًا بالماضي”. ومن خلال هذا التبادل الذي يستخلص انعكاسات من 16 لوحة فنية من إيتل عدنان، وأشجار الزيتون العتيقة ذات الآلاف عام في جبال لبنان، تقوم فكرة الجناح على الحاجة الماسة إلى مساحة فارغة، وأن الحياة التي قد تسكن هذا الفراغ يمكن أن تكون شكل من أشكال الصمت.

“لماذا لا نفكر في الأماكن بإمكانياتها بأن تكون متعلقة أكثر بالفراغ وليس الكتل؟ كيف يمكننا أن نواجه الخوف من الفراغ في العمارة؟ كيف نستطيع أن نتصور أشكالًا تخلق أماكن للصمت والتأمل؟ كيف نخلق أماكن شاعرية حيث يمكن للناس التقابل والتحاور؟ كيف نصمم أماكن تخلق العاطفة والرغبة في البقاء بها؟… سنبني فكرة الجناح على الحاجة إلى مساحة فارغة، وأن الحياة التي قد تعيش في هذا الفراغ بمكن أن تكون شكل من أشكال الصمت.” – هلا وردة

كانت المعمارية هلا وردة مسئولة عن متحف أبو ظبي منذ التصورات المبدئية في 2006 حتى التسليم النهائي للمشروع في 2017. وأسست مكتبها الخاص عام 2008، ولكنها ظلت تتعاون مع مكتب المعماري الرائد جون نوفيل “Jean Nouvel Atelier”، والذي عملت معه لأكثر من 20 عامًا.

فكرة المعرض

في المناطق النائية بلبنان، توجد ستة عشر شجرة قديمة لها جذوع ملتوية عملاقة تبدأ بالانقسام والصغر كلما صعدت لأعلى. يعتقد أن تلك الشجرات الرائعة والتي تسمي الأخوات الستة عشر، عمرها حوالى 6000 عام. هذه الأشجار هي نحن، انها الشعب بدون الزحام، انها الدولة بدون التعصب، فهي تمثل تشبيهًا للغموض الذي يصاحب الحياة. بعض الأشجار ميت والبعض الآخر مازال حي. المنطقة التي تنتمي لها تلك الأشجار السحرية تم إزالتها في الحاضر، بفعل العوامل المضادة من نسيان للآخر، الكراهية، الانسحاب، الانقسام، الخوف، وعدم القدرة على العيش سويًا، رد الفعل على الإقصاءات الموجودة.

قام الفنان القائم في باريس، إيتل عدنان، بعمل فني يسمى “تكريمًا للإلهة أوليفيا – Tribute to the goddess Olivéa” بدون سابق معرفة بوجود الأسلاف الستة عشر. حيث رسم الفنان ستة عشر شجرة زيتون بشكل دائري جنبًا الى جنب، تخلق نفس الهدوء، نفس الإتساع، نفس غياب الصراعات.

زيارة المعرض

زيارة المعرض سوف تنقسم الى خطوتين تتضمن فراغين معاصريين: الفارغ والممتليء. بالدخول الى الفراغ الأول المستطيل، يجد الزائر نفسه في فراغ من الاسقاطات الضوئية لأفلام وصور. وبعدها بالدخول الى الفرغ الدائري والذي سيعرض فيه لوحات إيتل عدنان الستة عشر والتي تكون عمله “تكريم الإلهة أوليفيا”.

الجناح هو تمهيد لمساحة ستعاد بعد فترة البينالي إلى بيروت. مساحة صمت يُقترح إنشاؤها على موقع خط ترسيم الحرب الأهلية اللبنانية. شعار معماري وثقافي جديد لمدينة بيروت. مساحة للجوء والتأمل؛ في أمس الحاجة إليها المدينة التي أفسدتها العشوائية.

 

المصدر: مقالة Christele Harrouk في موقع ArchDaily

Exit mobile version