كيف حدث انفصال العلوم عن الفلسفة؟

لم ينفصل العلم عن الفلسفة طوال أكثر من 22 قرنا، امتدت ما بين القرن السادس قبل الميلاد وحتى القرن السابع عشر الميلادي. حيث ميز نيوتن بين النتائج العلمية التي تقوم على الملاحظة المباشرة، وبين الافتراضات الميتافيزيقية التي اعتبرها مقحمة في مجال عمله. وكما يقول البعض، على يدي نيوتن، تم الفصل بين الفلسفة والعلم. فكيف تم انفصال العلوم عن الفلسفة؟

انفصال العلوم عن الفلسفة

شهدت الفلسفة انفصالات لأجزاء منها لتصبح فروعًا معرفية مستقلة بذاتها، كونت هذه الانفصالات تاريخ العلم. فقد فصلت أعمال إقليدس الهندسية علم المكان عن الفلسفة في القرن الثالث قبل الميلاد، وقد كان الفلاسفة يدرسونها في أكاديمية أفلاطون. كما أثمرت جهود جاليلو وكبلر ونيوتن عن انفصال الفيزياء في القرن السابع عشر لتصبح علمًا منفصلًا عن الميتافيزيقيا. ثم انفصلت الكيمياء في القرن الثامن عشر، وأعقبتها البيولوجيا في القرن التاسع عشر نتيجة لكتاب “أصل الأنواع” لدارون. بعد ذلك، استقلت العلوم الإنسانية، التي تهتم بدراسة الإنسان على مستوى الفرد والجماعة، بالتدريج. وكان أولها علم النفس الذي انفصل عن الفلسفة بداية القرن العشرين.

ما الذي يجعل المعرفة علما؟

لا يمكن إيجاد تعريف جامع مانع يصدق على كل العلوم، لكن يمكن تحديد بعض الخصائص التي يجب أن تتواجد في كل علم، وهي كالتالي:

يسعى العلم إلى التعميم

يجب على القوانين أو النتائج التي يتم التوصل إليها أن تفسر جميع الحالات المشابهة لها، وألا تقتصر على تفسير حالة جزئية معينة.

يهدف العلم إلى صياغة نتائجه صياغة كمية قدر الإمكان

ويعني ذلك صياغة النتائج بعبارات دقيقة محددة المعنى مثل “درجة الحرارة اليوم هي خمسة مئوية”. وكلما زاد توفر هذه الخاصية في علم ما، كلما تقدم وزادت دقة مفاهيمه ونتائجه.

يتصف العلم بالموضوعية

ويقصد بذلك معالجة الظواهر دون تدخل لذات الباحث في البحث. ويوضح برتراند راسل هذا من خلال مثال المسرح، إذ يفترض أن هناك فرقة تمثل في مسرح تحيط بها آلات التصوير التي تلتقط الكثير من الصور. بالعودة إلى تلك الصور وملاحظتها يمكن اعتبار القواسم المشتركة لكل الصور هي الجانب الموضوعي للبحث، وتعتبر الأشياء الأخرى المختلفة وغير المتشابهة هي الجانب الذاتي.

يمكن وصف العلم بإمكانية اختبار صحة نتائجه وتعميماته

يمكن التحقق من صدق النظرية العلمية من خلال مراجعة طريقة استنباطها في حال كانت مستنبطة، كما يمكن التحقق من صدق تطبيقها على الواقع بتكرارها والتأكد من نتائجها وقدرتها على التنبؤ.

يتصف العلم بثبات قضاياه

يجب أن تكون القضية العلمية صادقة في جميع الظروف والمناسبات المشابهة.

اتصال البحث العلمي

يبدأ العالم عادة من حيث انتهى زميله، فالبحث العلمي درجات، كل درجة تمهد للدرجة التالية.

نسقية العلوم وتكاملها

تتدرج العلوم من الأعم إلى الأخص، فالعلوم التجريبية مثلا تتضمن العلوم الطبيعية وعلم الحياة والعلوم السيكوفيزيائية والعلوم الاجتماعية، وكل واحدة من هذه العلوم تتضمن علومًا أخرى. إذ أن العلوم الطبيعية تتضمن علم الفيزياء وعلم الكيمياء، والعلوم الاجتماعية تتضمن علم الاجتماع والتاريخ وغيرها من العلوم.

يتضمن العلم الإيمان بمبادئ معينة

وهذه المبادئ لا يمكن أن توضع موضع شك، إنما يمكن تعديلها من حين لآخر حتى يستمر تقدم العلم. ومن أهم هذه المبادئ مبدأ الحتمية الذي عرفه كلود برنار بأنه يسلم العالم بديهيًا بأن “شروط كل ظاهرة سواء أكان ذلك في الأجسام الحية أم في الأجسام الجامدة، محددًا تحديدًا مطلقًا”. ويعني ذلك أنه لا بد من حدوث الظاهرة تُعرف شروطها ويتم تهييئ هذه الشروط.

ما هو المنهج العلمي؟

يمكن تعريف المنهج العلمي بأنه الإجراءات العقلية التي تؤدي إلى نتائج معينة. وتعتمد العلوم – أيا كانت طبيعتها – على مناهج تخدمها. وقد انقسمت إلى منهجين:

  • المنهج الصوري الذي يستخدم في علوم المنطق والرياضيات.
  • المنهج التجريبي الذي يستخدم في الفيزياء والكيمياء والعلوم الإنسانية. ونظرًا لكون هذه الأخيرة تدرس الإنسان وما يتعلق به فقد أنتجت مناهج مختلفة خاصة بها تراعي خصوصية الظاهرة الإنسانية وتعقيدها، وتسمى بالمناهج السياقية.

ماذا يقصد بالمناهج السياقية؟

تهتم هذه المناهج بظروف نشأة الظاهرة المدروسة وسياقاتها الخارجية، سواء كانت اجتماعية أو تاريخية أو نفسية بغية فهم موضوع البحث من كل جوانبه. وهذه المناهج هي المنهج التاريخي الذي يصبو إلى الإحاطة بزمن الموضوع والبيئة التي نشأ فيها. والمنهج الاجتماعي الذي يبحث في المحيط الاجتماعي لموضوع الدراسة. والمنهج النفسي الذي يهتم بشخصية موضوع الدراسة وانعكاس أحداث حياته عليه. وتتميز هذه المناهج في سياق النقد الأدبي بالتركيز على أسباب ولادة الإبداع.

تطرقنا في هذا المقال التقديمي إلى انفصال العلوم عن الفلسفة بما فيها العلوم الإنسانية، كما تعرفنا على العلم وشروطه والمنهج العلمي. وأشرنا إلى المناهج السياقية، التي سنتناول الحديث عنها بشكل مفصل في المقالات القادمة.

المصادر

مفهوم المنهج العلمي، يمنى طريف الخولي.
فلسفة العلم في القرن العشرين: الأصول-الحصاد-الآفاق المستقبلية، يمنى طريف الخولي.
مشكلة العلوم الإنسانية: تقنينها وإمكانية حلها، يمنى طريف الخولي.
فلسفة العلم، أليكس روزنبرج.
ما هي الفلسفة؟ حسين علي.
فلسفة العلم في القرن العشرين، دونالد جيليز.
الفلسفة العلمية وإشكالياتها، علي رشيد مشيك، أوراق ثقافية.
مناهج النقد المعاصر، صلاح فضل.

لماذا تسمى نظرية التطور وليس قانون التطور؟

هذه المقالة هي الجزء 4 من 13 في سلسلة مقدمة في نظرية التطور

غالبًا ما نسمع السؤال الآتي: “لماذا لا يوجد قانون للتطور إن كانت حقيقة علمية لا جدال فيها؟” أو “نظرية التطور مجرد نظرية”، وهذا يشير إلى سوء فهم للغة العلمية، فدلالات كلمات مثل “نظرية” و”فرضية” و”قانون” تختلف في لغة العلم عن دلالتها في لغتنا الدارجة، تعالوا معنا نتعرّف على آلية عمل العلم.

كيف يعمل العلم؟

أول خطوة من خطوات المنهج العلمي هي «المشاهدة-Observation»، وهي ما نستخدم فيه الحواس مثل السمع والشم والبصر، بالطبع لا تعتمد كل طرق المشاهدة على الحواس البشرية بشكل مباشر، ولكن دعونا نفترض ذلك على سبيل التبسيط.

ثاني خطوات البحث العلمي هي تكوين «الفرضية-Hypothesis»، وهي ما نفترضه لتفسير المشاهدات التي نرصدها، وقد تكون الفرضية خاطئة، وهذا طبيعي، فالعلم يقوم على وضع الفرضيات واستبعاد الفرضيات الخاطئة للخروج بالتفسيرات الصحيحة، لنأخذ مثالًا:

استيقظت في ذات يوم وفتحت النافذة، فرأيت الضوء يدخل إلى غرفتك (مشاهدة)، فقمت بالتفكير ببعض التفسيرات الممكنة (وضع الفرضيات):
• هناك انفجار نووي في الخارج
• هناك مركبات فضائية
• هذا ضوء الشمس

وهنا يأتي دور الخطوة الثالثة في البحث العلمي وهي «التجربة-Experiment»، ويتم فيها التحقق من صحة الفرضيات الموضوعة، فتقوم بالخروج إلى شُرفتك، ولا تجد انفجارًا نوويًا، فيتم استبعاد الفرضية الأولى، ولا توجد مركبات فضائية، فيتم استبعاد الفرضية الثانية، ثم تنظر إلى الأعلى وترى الشمس، لذا فالفرضية الثالثة صحيحة.

وعند التحقق من عدد كبير من الفرضيات والقيام بالكثير من التجارب يمكننا تكوين النظرية العلمية، فالنظرية العلمية ليست مجرّد رأي، وإنما هي صرح ضخم من التفسيرات يقف على أساس كبير من التجارب والفرضيات والتنبؤات التي أثبتت صحتها مرات ومرات باستخدام المنهج العلمي.

إشكالات اللغة الدارجة واللغة العلمية

تكمن المشكلة في الفرق بين اللغة الدارجة التي نستخدمها في حياتنا بشكل يومي وبين اللغة المستخدمة داخل المعامل، ففي لغتنا الدارجة لا يوجد تفرقة بين مفهوم النظرية والفرضية، فتجد المتحدث يقول عن النظرية ما يُقال عن الفرضية، فتراه يرى شيئًا غير مألوف، فيقول “عندي نظرية تقول كذا”، وهذا القول في لغة العلم ما هو إلا مجرد فرضية تنتظر خطوة التجربة للتحقق من صحتها، ولا ترقى لتكون نظرية علمية.

نظرية التطور

يُساء استخدام لفظ “نظرية التطور” في كثير من الأحيان، فالتسمية الصحيحة هي “نظرية التطور بالانتخاب الطبيعي”، حيث أن تطور الكائنات الحية حقيقة لا غبار عليها، ولكن نظرية داروين (الانتخاب الطبيعي) هي ما تفسّر هذه الحقيقة وتفسّر آلية عمل التطور، وقد وُجدت العديد من الفرضيات لتفسير تطور الكائنات الحية على مر التاريخ وتم تخطئتها وهو ما ناقشناه في مقال آخر يمكنك قراءته من هنا.

الفرق بين النظرية والقانون

يأتي السؤال غالبًا على النحو التالي: “لماذا توجد نظرية التطور ولا يوجد قانون التطور؟ إذا كانت حقيقية سيكون لها قانون مثل قانون الجاذبية”.

وهنا يجب علينا التفرقة بين معنى القانون العلمي وبين معنى الحقيقة، فالجاذبية ليست قانونًا وحسب، بل هي قانون ونظرية، وهذا لا يجب أن يثير الدهشة، فالقانون العلمي يختلف تمامًا عن النظرية العلمية في المفهوم والوظيفة، دعونا نوضّح.


القانون العلمي هو علاقة (رياضية في الغالب) تصف آلية حدوث ظاهرة طبيعية ما، بينما النظرية معنية بتفسير هذه الظاهرة وبيان أسباب حدوثها، القانون يخبرنا بكيفية الحدوث، بينما النظرية تخبرنا بسبب الحدوث، لنأخذ مثالًا:

إذا أسقطت القلم من يدك، سيسقط على الأرض بفعل الجاذبية، وهنا يأتي دور قانون الجاذبية الذي وضعه نيوتن ليصف سرعة سقوط القلم باتجاه الأرض.

ولكن القانون لا يخبرنا بسبب سقوط القلم، وهنا يأتي دور نظرية الجاذبية، وهو شيء تطوّر على مدى قرون طويلة، حتى وصلنا إلى نظرية النسبية التي وضعها أينشتاين لتفسير سقوط الأجسام باتجاه بعضها البعض.

ومما يبدو جليًا، فاللغة العلمية تختلف عن لغتنا التي نستخدمها يوميًا، ولا يجب علينا الحكم على المفاهيم العلمية باللغة الدارجة، فدلالات اللفظ الواحد تختلف بين اللغتين.

المصادر

brittanica
brittanica
livescience
livescience

Exit mobile version