عدم الإنجاب الطوعي واللا إنجابية والفرق بينهما

عدم الإنجاب الطوعي واللا إنجابية والفرق بينهما

يعد عدم الإنجاب الطوعي (voluntary childlessness) من المواضيع المثيرة للجدل في علم النفس وعلم الاجتماع والدراسات المتعلقة بالأسرة. وتكمن حساسية هذا الموضوع من النظرة السائدة في كثير من المجتمعات حول فكرة إنجاب الأطفال، حيث يعتبر هذا الأمر تتويجاً للعلاقة بين الرجل والمرأة. كما يمثل رمزاً للحب غير المشروط والتضحية اللذين يقدمهما الوالدان لأبنائهما كما حصلا عليهما من والديهما سابقاً.

أهمية الإنجاب عبر الزمن والوصمة المرتبطة بالعقم

ترجع المواقف السلبية تجاه عدم إنجاب الأطفال إلى حضارات إنسانية قديمة كالإغريق والرومان وأهل ما بين النهرين وغيرهم. وعادة ما كان ينظر إلى المرأة العاقر على أنها مسحورة أو ممسوسة من الشياطين، أو حلت عليها لعنة من نوع ما حرمتها من نعمة الأطفال. بالمقابل، لا يعتبر الرجل الطرف الملام في حالة العقم، وكان من الشائع لدى الكثير من الشعوب أن تقدم المرأة العاقر لزوجها إحدى الجواري أو الخادمات كي ينجب منها أطفالاً [1].

ويعد وجود آلهة للخصوبة لدى الكثير من الشعوب – إن لم يكن لديها جميعها – دليلاً قاطعاً على مدى اهتمامهم بهذه الفكرة، وحرصهم على تقديم الصلوات والقرابين للآلهة كي تذهب عنهم “لعنة” العقم. مثلاً، يذكر التاريخ أنه عند شعب ليتوانيا القديم، كانت المرأة العاقر تقدم لإلهة الخصوبة دجاجة بيضاء كذبيحة في سبيل أن تحمل وتلد. وحتى بعد انتشار الديانة المسيحية، كانت النسوة يلجأن إلى تكريس القداديس والصلوات كي ينعم عليهن الله بنعمة الإنجاب [1].

كما أن بعض القوانين القديمة تدخلت في حل مشكلة العقم، ونجد هذا لدى الباليين والآشوريين والمصريين مثلاً. فقد نصت بعض من قوانين هذه الحضارات على حق الرجل في طلاق زوجته إذا كانت عاقراً. كما ورد في شريعة حمورابي (1750 ق.م.) أنه على المرأة العاقر أن تقدم لزوجها إحدى خادماتها كي ينجب منها أطفالاً. وعندما يتم ذلك، تقوم الزوجة على رعاية الأطفال وتربيتهم كأنها أمهم، في حين تُعتق الخادمة مقابل هذه الخدمة التي قدمتها لسيدها [1].

حتى في العصر الحديث، لا يزال عدم الإنجاب من المسائل الإشكالية التي قد تؤرق الزوجين وتهز صورتهما الاجتماعية. ونرى بدائل عديدة عن الإنجاب الطبيعي قد يلجأ لها الزوجان اللذان منعتهما مشاكل صحية من هذا. فهناك من يقوم بالتبني، أو استخدام رحم بديل، وهناك من يلجأ إلى التلقيح الاصطناعي الذي يكون إما من الزوجين نفسهما أو من متبرعين [1].

تطور مفهوم عدم الإنجاب والانتقال إلى حالة عدم الإنجاب الطوعي

قد يكون عدم الإنجاب حالة مرضية ناتجة عن مشاكل صحية لدى المرأة أو الرجل. وكما ذكرنا في الفقرة السابقة، كانت تقدم القرابين والأضاحي للتخلص من هذا المرض أو اللعنة. في هذه الحالة يكون عدم الإنجاب إجبارياً ومفروضاً نتيجة ظروف معينة. ولكن ماذا إن لم يكن ناتجاً عن العقم؟ ماذا إن لم يكن هنالك عقم أصلاً؟

في الواقع، توجد حالة سائدة بين بعض الأشخاص يكون فيها عدم الإنجاب طوعياً أو اختيارياً. ومع أن دراسة هذه الفئة الديموغرافية لا تزال محدودة بعض الشيء، بدأ الاهتمام بها يتزايد، خصوصاً مع اتساع المجال لظهورها والتعريف بها، بل وتقديم الدعم لها، عبر وسائل التواصل الاجتماعي وعن طريق الإنترنت عموماً [2].

 وقد وجدت إحصائيات في عدد من الدول المتقدمة أن نسبة حالة عدم الإنجاب هي في تزايد، ولكن يصعب التمييز في هذه الفئة من السكان بين الحالات الطوعية وتلك الإجبارية. بالمجمل، ورد في دراسة نشرت في مجلة (دراسات في مجال الأمومة – Studies in the Maternal) أن نسبة هذه الفئة من السكان تتراوح بين 15 و25 بالمئة في عدد من الدول المتقدمة. ومع تزايد الميل في هذا التوجه، بات الاهتمام الأكاديمي يتسع لتحليل البيانات المتعلقة بعدم الإنجاب الطوعي من جوانب اجتماعية ونفسية وطبية وشخصية وتاريخية، وحتى نسوية. ويتركز البحث هنا في نسبة السكان عديمي الأطفال، والأسباب الكامنة وراء هذه الحالة، إضافة إلى النتائج المترتبة عليها على الأصعدة الاجتماعية والنفسية [2].

الأسباب الكامنة وراء عدم الإنجاب الطوعي

حاولت بعض الدراسات الاستقصائية البحث في دوافع البالغين الذين لا يودون الإنجاب. وقد تعددت النتائج التي انتهوا لها، ويمكن تلخيصها كما يلي.

تمثل الرغبة بالحرية من تحمل مسؤولية الأطفال أحد أكثر الأسباب شيوعاً ويشترك فيها كل من الرجال والنساء. فهناك من يولي كثيراً من الاهتمام للسفر والتنقل دون روابط أو قيود، ويرى في وجود الأطفال حائلاً دون التمتع بهذه الحرية [2، 3].

ويفسر البعض عدم رغبتهم بأن يصبحوا آباءً بأنهم لا يرتاحون في التعامل مع الأطفال. ومع أن أصحاب هذا التفكير من الرجال هم أكثر من النساء، صرحت بعض النساء بشكل واضح أنهن لا يحببن الأطفال. من جهة أخرى، تميل النسبة لصالح النساء عند الحديث عن الأسباب المتعلقة بالتقدم المهني والتطور الشخصي. إذ ترى العديد من الشابات أن إنجاب الأطفال قد يكون سبباً في توقف حياتهن المهنية وعائقاً أمام إنجازاتهن. لذا يفضلن عدم الإنجاب والمضي قدماً في مسيرة التطوير الذاتي [2، 3].

ولدى التفكير بحياة الشريكين معاً، يرى بعض الأزواج أن عدم إنجاب الأطفال يبشر بعلاقة أكثر سعادة وراحة. كما يمكن لهذا أن يؤمن لهما راحة مادية ويوفر الكثير من المصاريف، الأمر الذي ينعكس إيجاباً على حياتهما المشتركة [2، 3].

ويعزو البعض هذا الخيار إلى مشاكل نفسية كانوا قد عانوا منها في صغرهم. ويتمثل ذلك في تجارب سلبية مع الأهل، مما أثر على صاحب العلاقة وجعله غير قادر على تربية الأطفال بالطريقة الصحيحة التي لم يكن قد حظي بها أصلاً. أو قد يكون نتيجة تجارب اجتماعية غير ناجحة، ولّدت لدى الأشخاص البالغين شكوكاً حول مقدرتهم على أن يصبحوا آباءً [2، 3].

ثم توجد أسبابٌ أكبر من الأفراد المعنيين قد تلعب دوراً في قرارهم بعدم الإنجاب. حيث وجدت بعض الاستقصاءات أن هنالك من الأزواج من يبدي قلقاً حول موضوع التضخم السكاني. وهذا يدفعهم إلى عدم المشاركة في تفاقم هذه المشكلة. أو قد يكون السبب هو القلق من الظروف السيئة على مستوى العالم عموماً، والخوف من توريط الأطفال في الحياة على كوكب يعج بالمشاكل [2، 3].

الفرق بين عدم الإنجاب الطوعي واللا إنجابية

إذاً، يمثل عدم الإنجاب الطوعي نمط حياة يتبناه المرء بكامل إرادته، بناءً على أسباب متعددة.

ولكن يوجد توجه فلسفي يشرح سبب هذا النمط، أو على وجه الدقة، ينادي به ويدعمه. يسمى هذا المنحى “اللا إنجابية – anti-natalism”، وهو موقف فلسفي يصنف عملية الإنجاب على أنها خاطئة أخلاقياً، وعليه لا ينبغي للبشر أن يتكاثروا. كما يعمم بعض أنصار اللا إنجابية نظرتهم السلبية للإنجاب حتى على الأجناس غير البشرية [4].

تتعدد الأسباب وراء هذا الموقف السلبي من التكاثر، لكن تتفق جميعها على نظرتها السوداوية حيال استمرار الجنس البشري على الأرض. فمثلاً، يرى معظم أنصار اللا إنجابية أن انقراض البشر هو أمر محتوم، وأنه من الأفضل للبشرية أن تنقرض بأسرع وقت ممكن. كما ينطلق هؤلاء من فكرة أن الموت هو أمر محزن ولا مفر منه، فالمرء يحزن لدى فقد محبيه. لكن الطريقة الأمثل لوقف موت البشر هي ببساطة عدم إنجابهم. إضافة لهذا، يرى اللا إنجابيون أن الحياة البشرية هي حياة معاناة وتعاسة، ومن أضمن الطرق للقضاء على العذاب في الحياة هي ألّا نعمل على استمرارها بمزيد من الأفراد البشريين [4].

كما توجد بعض التساؤلات حول أخلاقية فعل الإنجاب فيما يتعلق بموافقة الطرفين المعنيين؛ أي الأهل والأطفال. فعندما يختار البالغون إنجاب الأطفال، يقومون بالحكم على مصير شخص آخر لا يد له في هذا القرار؛ أي الطفل. ويطرح الكثير من الأطفال، أو حتى البالغين، هذا السؤال على والديهم: “لماذا أنجبتموني؟ أنا لم أطلب أن أولد!” وهذا أمر صحيح فعلاً، ويتمسك به مناصرو اللا إنجابية كذريعة لانتقاد عملية الإنجاب بالمبدأ [4].

ردود الفعل تجاه عدم الإنجاب الطوعي

الردود الإيجابية

وضحت إحدى الدراسات ردود أفعال مختلفة تجاه موقف بعض البالغين بعدم إنجاب الأطفال. وقد تباين ذلك بين مواقف داعمة للفكرة وأخرى رافضة لها. حيث كان أغلب الداعمين من فئة الشباب الذين يظهرون فهماً لهذا الموقف الذي قد يختاره أقرانهم. بالمقابل، أظهر بعض الكبار في السن، وخاصة من أفراد عائلة الأشخاص المعنيين، مشاعر حزن أو قلق حيال هذا الخيار. فهو لا يتناسب مع العقلية والمبادئ التي تربوا عليها [2، 3].

أما عن رأي الشريك، فقد أظهرت المقابلات التي أجرتها هذه الدراسة أن عدم الرغبة بالإنجاب كانت في بعض الحالات سبباً بارتباط الشريكين. وفي حالات أخرى، كانت هذه الرغبة شرطاً للارتباط ولم تكن لتنجح العلاقة لولا تحققه [2، 3].

كما وجد باحثون في دراسة أخرى ارتفاع نسبة الرضا في العلاقة التي لا إنجاب فيها، وانخفاض نسبة الطلاق بين الأزواج ممن لم ينجبوا مقابل الأزواج الذين لديهم أطفال دون سن الـ 16 عاماً. ولدى المقارنة بين أزواج كبار في السن، تبين أن التوتر الذي يعانيه الآباء هو أكبر من الموجود لدى غير الآباء. أي يتميز نمط الحياة الذي يكون فيه عدم الإنجاب اختيارياً بانعكاسات إيجابية على الحياة المشتركة للطرفين [3].

الردود السلبية

بالمقابل، لا تخلو النتائج وردود الفعل من مظاهر سلبية. فقد صرح بعض الأزواج أنه رغم تلقيهم للدعم من عائلاتهم وأصدقائهم، واجهوا تعليقات وانتقادات من أشخاص غرباء كلياً أو تربطهم علاقة سطحية. ويميل توجيه الانتقاد أو التساؤلات عن عدم الإنجاب إلى النساء أكثر من الرجال. بل على العكس، صرح بعض الرجال الذين لم ينجبوا أنهم يلقون مديحاً من أقرانهم. حيث ينظر إليهم أنهم يعيشون حياة تتسم بالحرية وعدم الالتزام. وهذا ما يثبت أن النظرة القديمة التي تربط كينونة المرأة بالإنجاب لا تزال موجودة ولو على بشكل أقل انتشاراً. وترى النساء في هذا ظلماً وانتهاكاً لخصوصيتهن [، 3].

أما على الصعيد الصحي، فقد وجدت بعض الدراسات ارتفاع نسبة الوفيات بسرطان الثدي لدى النساء اللواتي لم يسبق لهن الإنجاب. ومع الأسف، تؤكد أبحاث طبية ارتفاع احتمال الإصابة بسرطان الثدي بالتزامن حالة عدم الإنجاب أو التأخر بذلك لما بعد سن الثلاثين. وتستخدم هذه الحجة من قبل المجتمع في إقناع النساء بالإنجاب، إضافة إلى تسليط الضوء على أهمية وجود الأبناء لتقديم المساعدة لوالديهم في شيخوختهم. وهذا يؤكد وجود بقايا العقليات القديمة التي تصم عدم الإنجاب على أنه فعل سلبي، خاصة عندما يتعلق بالمرأة [3].

اقرأ أيضاً: هل سيتمكن الأطفال من النمو في الرحم الاصطناعي؟

المصادر

  1. Childlessness: Concept Analysis
  2. Research Gate
  3. Voluntary Childlessness
  4. Anti-natalism

ما هو التماسك الاجتماعي وكيف يقيس صحة المجتمع؟

تعريف التماسك الاجتماعي

يستخدم مصطلح «التماسك الاجتماعي – Social Cohesion» بطرق غير محددة إلا أنه غالباً يندرج في أحد إطارين. الأول متعلق بالسياسات العامة وإجراءاتها لشرح أهداف هذه السياسات وأسبابها المنطقية لتحسين حياة الأفراد. مثل تحسين الرعاية الصحية والتعليم والحماية الاجتماعية وضمان أن يكون للجميع صوت. والثانية لشرح التغييرات الاجتماعية والسياسية وأحياناً الاقتصادية الحاصلة في المجتمع [1].

وقد عرّفت «جوديث ماكسويل – Judith Maxwell»  عام 1996 المجتمع المتماسك -في ما يشير إليه الكثيرين على أنه أول ظهور رسمي للتعريف- بأنه يتضمّن وجود قيم مشتركة، وتفسيرات مشتركة للأشياء، وتقليل للتفاوت في الثروة والدخل وبشكل أعم تمكين الناس من الشعور بأنهم جزء من مشروع، وأنهم أعضاء في ذات المجتمع، ويواجهون تحديات مشتركة. ومن هنا يكون التماسك الاجتماعي؛ عملية مستمرة لتطوير مجتمع انطلاقاً من قيم مشتركة، وتحديات مشتركة، وفرص متكافئة على أساس الشعور بالأمل والثقة والعدالة [2].

ويعرّف «المجلس الأوروبي – European Council» التماسك الاجتماعي على أنه؛ قدرة المجتمع على ضمان رفاهية جميع أعضائه وتقليل التفاوتات وتجنب التهميش [3]. ويضيف «مجلس التعاون الاقتصادي – The Organization  for Economic Cooperation and Development» على هذا التعريف أن المجتمع المتماسك يتيح لأفراده فرصة الحراك الاجتماعي الصاعد. وهو غاية مرغوبة ووسيلة تنمية شاملة. فالحد من الفقر ليس كافياً بقدر ما هو مهم التركيز على برامج الحماية الاجتماعية وخلق سياسات إعادة توزيع جديدة فعّالة.

فيكون بهذا التماسك الاجتماعي الصمغ الذي يربط بين الناس، ويتعزز هذا الربط بالسعي إلى قدر أكبر من الشمولية. وزيادة مشاركة المواطنين وخلق فرص للترقي للجميع. وهذا أحد أهم الإجراءات العامة التي تعتبر الوثاق الذي يحمل المجتمع معاً في وحدة متماسكة [4]. ويرتبط الأفراد في ظل التماسك الاجتماعي على مستوى المواقف والقواعد والسلوكيات والمؤسسات بنهج يرتكز على تحقيق الإجماع ويبتعد عن الإكراه [5].

أهمية التماسك الاجتماعي؟

غالبًا ما يكون من الأسهل رؤية الخطأ في المجتمع أكثر من معرفة ما يجعله قويًا ومتماسكًا ومستقرًا. إلا أن هناك ثلاثة متطلبات لازمة لمجتمع متماسك. أولاً الثقة والاحترام. نحن بحاجة إلى روابط حقيقية بين الناس، وإلى رؤية الآخرين كبشر وليس كأدوات يمكن الاستفادة منها.

ثانياً، الوحدة في التنوع لأن كل مجتمع لديه تنوع ويجب قبول ذلك واحتضانه. ثالثاً، الهويات المرنة حتى لا نحتضن التنوع بشكل سطحي أو نتسامح فقط مع جيراننا، ولكن نبني روابط يمكن أن تقاوم توترات السرديات الحصرية والتي يسيطر عليها لون ثقافي واحد في ظل مجتمع متعدد الثقافة، مما يعزز احتماليات العنف [6].

هذه المتطلبات هي أشياء بسيطة وعملية، ولكن يجب تطويرها بطرق حساسة ثقافيًا في كل مجتمع.

وقد يفهم البعض التماسك الاجتماعي على أنه يعني الشعور بالتجانس كشكل من أشكال الوحدة الصارمة. إلا أن الروابط المشتركة لا تعنى بالضرورة وجود تشابه في اللغة أو العرق أو الدين أو نمط الحياة [3]. «وشعور التماسك – Sence of coherence» يعني قدرة الناس على التعامل مع الضغوطات اليومية وإدارة التوتر. بالإضافة إلى التفكير في الموارد الداخلية والخارجية وتحديدها وتعبئتها لخلق مواجهة فعّالة للتحدّيات المجتمعية. و «SOC – شعور التماسك» هو توجّه وطريقة في النظر تفترض أن العالم مفهوم، وقابل للإدارة وله معنى [7].

التضامن العضوي عند دوركايم

يشير عالم النفس «إيميل دوركايم – David Émile Durkheim» إلى أن الروابط في المجتمعات الحديثة المتمايزة باتت تتحول إلى نوع من “التضامن العضوي”. حيث يقوم هيكل الإنتاج الصناعي على اعتماد جميع من في هذا الهيكل على بعضهم البعض. حيث يعتمد العاملون في الصناعة والخدمات بالضرورة على المواد الخام التي يقدمها آخرون، والأغذية التي ينتجها الآخرون، ومثال الأسواق التي يتم فيها تبادل المنتجات، وهذه كلها أشكال من التضامن العضوي.

“وعي المواطنين أنهم يعتمدون على بعضهم البعض كأعضاء الجسم”

إيميل دوركايم

وفي هذا نقطة هامة على طريق تعزيز الوعي بالتماسك الاجتماعي وأهميته وذلك في ظل التباينات الشديدة بين الناس في الجماعة الواحدة، أيضاً في علاقة الجماعة الواحدة مع غيرها من الجماعات [4]. وعلى العكس من التجانس كمقوّم للتماسك الاجتماعي نجد أنه كلما كان التباين أشد بين الناس كانت الآفاق التي تزخر بها مخرجات التماسك الاجتماعي أكبر. فواقع المجتمعات اليوم معقّد ومليء بالمتغيّرات وتوافر المجتمع على أفراد و جماعات متعددة الثقافة استثمار كبير يزيد من قدرة المجتمع على الإبداع وابتكار الحلول.

التماسك الاجتماعي عند وينفريد لويس مابس

تقول الباحثة «وينفريد لويس مابس – Winnifred Louis Maps» أن التماسك الاجتماعي لا يعني التجانس. وإنما المجتمع المتماسك هو مجتمع يحترم بعضه البعض حتى لو كانوا مختلفين، حيث يوفر للناس الاختلاف دون الشعور بغياب الأمان أو فقدان الاحترام [8].

كما تضيف الباحثة أن الخلاف الآمن هو مهم بشكل خاص عندما يتعلق الأمر بالفئات المهمشة. حيث هناك درجة من الصراع الاجتماعي الإيجابي لازمة للتأكد من أن الفئات المحرومة يمكنها التعبير عن مظالمها [8].

ويرتبط كلام الباحثة هنا بشكل ملفت بأوضاع المجتمعات اليوم في ظل الهجرة الكثيفة والتنوع الثقافي الذي يزداد في أغلب المجتمعات. حيث مع ازدياد تباين الثقافات داخل المجتمع الواحد، تزداد الحاجة إلى فهم التماسك باعتباره توفير مساحة آمنة للآخر عوضاً عن إقصائه أو إلتهامه ضمن ثقافة أخرى. كما أن ماسبق ذكره يسلّط الضوء على ضرورة فتح باب للنقاش والحوار حول التحديات المجتمعية لإيجاد حلول مشتركة مبنية على الاحترام المتبادل والالتزام بالعدالة [8].

كيف يتحقق التماسك الاجتماعي؟

تتضمن عملية التماسك الاجتماعي مجموعة من التحركات الهامة على طول الطريق كالتحرّكات التالية [9]:

  1. التعاون مع الحكومة، ويتم عبر عدة محاور:
  • قياس التماسك ويكون هذا عن طريق وضع مقياس رصد لواقع التماسك الاجتماعي مثل مقياس Scanlon-Monash (SMI)، ويقيس واقع التماسك عبر خمس متغيرات: الانتماء، القيمة، العدالة الاجتماعية، المشاركة، والقبول [10].
  • الالتزام بالتماسك الاجتماعي كأولوية ضمن التخطيط الاستراتيجي.
  • تقييم الاستعداد وبناء القدرات.
  • تضمين أهداف التماسك الاجتماعي في السياسات والعمليات التنظيمية.

أمثلة عن تحرّكات حكومية: (1) خطة عمل توظيف السكان الأصليين والفئات الأقل اندماجاً. (2) لجنة استشارية للسلامة المجتمعية لتحسين السلامة في الأماكن العامة. (3) لجنة حي تقوم بتوثيق التحديات وتتشارك مع الناس المشاكل وتستقبل الحلول.

2. إشراك المجتمع، ويتم عبر عدة محاور:

  • تعرف على المجتمع: افهم خصائص الأشخاص الذي يعيشون ويعملون في المنطقة وما هي احتمالات التغير التي يمكن أن تطرأ عليهم مع الوقت.
  • إشراك المجتمع:  تحديد المجالات الحالية والمحتملة للتطوير والبناء انطلاقًا من نقاط القوة الحالية.
  • كن تمثيلياً وشاملاً: التأكد من سماع جميع الأصوات.
  • حصر التحديات: تحديد التوترات التي يمكن أن تقوض التماسك الاجتماعي في المنطقة واحتماليات حدوثها.

أمثلة عن إشراك المجتمع: (1) رسم خريطة تشمل التنوعات الديموغرافية في المنطقة وذلك لتكوين صورة عامة عن المجتمع المحلي الهدف، وللمساعدة في إدارة النقاشات مع الأفراد. (2) القيام بمجموعات تركيز ونقاش مع أفراد متنوّعين من المجتمع أو عبر استبيانات على الانترنت ومكالمات عبر الهاتف.

3. بناء شراكات طويلة الأمد، ويتم عبر عدة محاور:

  • تحديد الشركاء: فهم أي الشركاء يمكنهم المساعدة في بناء التماسك المجتمعي الآن أو مستقبلاً.
  • إشراك الشركاء: تطوير استراتيجية تضمن طريقة الاتصال معهم وطبيعة العلاقة التي ستكون.
  • العمل مع الشركاء لتحديد المشكلات واتخاذ القرارات عبر نموذج عمل تعاوني.
  • ضمان وجود شراكات على المدى الطويل وما يشمله من تتبع التغييرات الحاصلة في الموظفين ورعاية العلاقات بأشكالها الرسمية وغير الرسمية.

4. قم بعمل هادف يعتمد على المكان، ويتم عبر عدة محاور:

  • تمكين المجتمع وبناء قدراته للمشاركة في تخطيط وتنفيذ الأنشطة.
  • الاستعداد الدائم والعمل مع الشركاء لتطوير خطط يمكن تنفيذها سريعاً.
  • إشراك الشباب وتمكينهم من الشعور بالاتصال مع مجتمعهم وقضاياه وتوفير مساحة تفاعل آمنة.
  • تعلّم من الآخرين، لكن صمم برنامجك بشكل مناسب للاحتياج المحلي الخاص الذي لديك.
  • تطوير وسائل الاعلام والاتصال عن طريق استخدام وسائط الإعلام المتعددة للتواصل مع الناس ونشر حس التماسك الاجتماعي.

أمثلة عن الأعمال الهادفة المعتمدة على مكان: (1) أنشطة المنظمات الإنسانية المحلية والعالمية في المناطق المنكوبة في سوريا، والعراق، واليمن التي تستهدف بناء القدرات المحلية ومشاركتهم في رصد المشاكل وإبداع الحلول عن طريق ورشات العمل، جلسات التوعية، الاجتماعات، النوادي الفكرية، الأنشطة الرياضية، الأنطة الفنية والثقافية.

5. تقييم ومشاركة النتائج

  • تطوير عمل التقييم: العمل مع المجتمع على الأرض لتحديد كيفية قياس مدى ملاءمة وكفاءة إجراءات تعزيز التماسك الاجتماعي.
  • جمع بيانات التقييم: التفكير في المعلومات التي ينبغي جمعها لبناء التقييم.
  • مراجعة النتائج المحققة: هل هناك اختلاف أو أثر للأنشطة التي تمت على الأرض مع المجتمع الهدف وساهمت بتحسين التماسك الاجتماعي؟
  • تبادل الخبرات مع الآخرين.

التماسك الاجتماعي والصحة الجيدة

حددت إحدى الدراسات أن المناطق التي تتمتع بمزيد من الاستقرار السكني ومستويات أعلى من التماسك الاجتماعي لديها معدلات ضعف أقل لدى كبار السن. ووجدت دراسة أخرى علاقة مباشرة بين التماسك الاجتماعي وتحسين القدرة على أداء أنشطة الحياة اليومية، وارتفاع مستويات السعادة. كما أشارت تحقيقات أخرى لوجود روابط بين التماسك الاجتماعي والتحسن العام في الصحة النفسية، وزيادة معدلات المشي المنتظم، وارتفاع معدل استخدام الواقي الذكري، وانخفاض الاكتئاب، وتحكم أفضل في نسبة السكر في الدم، وخفض معدلات التدخين [11].

تشير النتائج المستخلصة من دراسات إضافية إلى فوائد التماسك الاجتماعي حيث تثبت علاقته بانخفاض معدلات زيادة الوزن والسمنة، ومعدلات أقل للوفيات لجميع الأسباب، وانخفاض حالات احتشاء عضلة القلب، ومعدلات أقل لإهمال الأطفال، وتحسن الحالة العامة عند أولئك الذين يعانون من أمراض مزمنة [11] .

وتتفق الدراسات المعمولة في التماسك الاجتماعي أن النظام الذي يدعو إلى سياسات رفاه أكثر مساواة والتي تشمل الخدمات الطبية العامة، من المرجّح أن يحافظ على صحة المجتمع ويحّسنها. كما أن عامل الثقة بين الفرد والخدمات المدنية له دور كبير في زيادة التماسك الاجتماعي. وتشير الدراسات إلى أن تبنّي بلد ما سياسة متسامحة مع المهاجرين يعني أنه يتمتع بتنوع أعلى في القيم، وجهود حكومية أفضل لضمان حصول الجميع على حقوقهم.

إن البلدان المتسامحة مع المهاجرين هي بلدان أكثر عرضة لنفقات صحية أكبر إلى جانب نفقات التعليم وتوفير الفرص المتساوية للجنسين [5]. وهذه البلدان بالذات تكون تحت ضغط لصياغة سياسات صحية تحترم الحريات الفردية والاختلافات. وتوفر بيئة ملائمة للأفراد لمتابعة صحّتهم، لأنها تعي وتفهم الظروف التي تساهم بزيادة السلوكيات المنحرفة خصوصاً العقلية والنفسية [5].

كما أن الأفراد الذي يتمتعون بحالة صحية أفضل هم أكثر قدرة على المشاركة في الأنشطة المدنية والشعور بالثقة والأمان وهو ما يعود على المجتمع بالفائدة [5].

المصادر

[1] Taylor & Francis 
[2] Jstor
[3] The Scanlon Foundation Research Institute
[4] UN
[5] International Journal for Equity in Health
[6] The S. Rajaratnam School of International Studies (RSIS) 
[7] SpringerLink
[8] sychlopaedia
[9] Australian Human Rights Commission
[10] .SMI: The Scanlon-Monash “Index of Social Cohesion” Prof. Andrew Markus
[11] National Library of Medicine

من هم إخوان الصفا وخلان الوفا ورسائلهم؟

كان القرن العاشر الميلادي عصراً غنياً بالجدل الفكري والعقائدي، حيث نمت فيه المذاهب وتعددت الآراء. وكثر المثقفون وظهر نوابغ الشعراء وكبار الأدباء وتزايد عدد المكتبات وهواية اقتناء المخطوطات. وكان قرنًا حيوياً في الترجمة والكتابة والمناظرة مع كثرة الانقلابات السياسية ووجود الفرق الفكرية المؤثرة كالمعتزلة. وهو القرن الذي كتبت فيه رسائل إخوان الصفا وخلان الوفا والتي لم تكن بالغريبة آنذاك (2).

من هم إخوان الصفا وخلان الوفا؟

إخوان الصفا وخلان الوفا هم مؤلفو رسائل إخوان الصفا. وهي موسوعة إسلامية تتكون من 52 رسالة وأطروحة شاملة إضافية (رسالة جامعة) في مختلف العلوم الفلسفية التي فسرها علماء الشيعة الإسماعيليون (3).

أثيرت الكثير من التساؤلات حول هوية وانتماء إخوان الصفا وخلّان الوفا العقائدي منذ بداياتهم الأولى. فقد حدد العالم الأديب أبو الحيان التوحيدي هويّاتهم قائلاً أنهم القاضي أبو الحسن علي بن هارون الزنجاني وأصدقاؤه الثلاثة، أبو سليمان محمد بن مشير البستي المشهور بالمقدسي، وأبو محمد النهرجوري، والعوفي. وذلك بسبب إقامتهم في البصرة وقربهم من الوزير زيد بن رفاعة (2).

لكن بعد القراءة والبحث العميق لكلام التوحيدي تبين أنّ ما قاله ليس دقيقًا. ورغم كل محاولات كشف هوياتهم إلّا أنّ الأسئلة المتعلقة بهويتهم ما زالت بلا إجابة إلى اليوم (2).

كما أثيرت التساؤلات حول انتمائهم العقائدي، فهنالك آراء نسبتهم إلى الشيعة وأخرى إلى المعتزلة وغيرهم نسبوهم إلى القرامطة. و وزُعم أن هناك عناصر أخرى تدل على الإلهام الإسماعيلي لإخوان الصفا، مثل الهيكل الهرمي للكون والإشارات إلى الأدوار السبعة والتمييز بين المختارين والعامة واستخدام الرموز الإسماعيلية (على سبيل المثال النحل كرمز للإمام… إلخ). كما اشترك اخوان الصفا في العديد من الآراء الأساسية مع الاسماعيلية (2).

لكن المفاهيم والأفكار التاريخية التي هي على الأقل قريبة من تلك الأفكار الشيعية مثل هجاء مذبحة كربلاء، أو التفسير المجازي للقرآن والأحاديث، أو النفور من الحكومات السياسية والأمل في سقوطها عند اكتمال الأدوار السبعة الحالية؛ تبين أن المؤلفين كانوا يمثلون التيار الإسماعيلي ولكنهم ليسوا دعاة رسميين له (2).

ما سبب التكتم على هوية الإخوان؟

يعتقد الباحثون أنّ السبب الرئيسي للتكتم على هويتهم كان الخوف من بطش وجهالات العامة ودعوات التكفير التي قد تلاحقهم. وبذلك أرجعوا سبب التكتم على هويتهم لسببين (2).

  • الأول: هو الخوف من البطش والتكفير، والذي ظهر جليًا بعد تكفيرهم من قبل ابن تيمية. فقد اعتبرهم ابن تيمية من علماء الدين الشيعة الذين تتعارض عقائدهم مع دين الإسلام وأوامر الخليفة المستنجد بحرق جميع مؤلفاتهم بعد أن تم اتهامهم بالهرطقة.
  • أما السبب الثاني: فهو الباطنية العميقة المهتمة بالأبعاد الداخلية للإسلام التي تتمتع بها الطائفة الإسماعيلية التي تنسب إليها هذه المجموعة.

إخوان الصفا ونظرية التطور

تعرض إخوان الصفا إلى تدرج الطبيعة في الخلق. فقالوا بالبداية بالجماد ثم النبات ومنه كان الحيوان ومنه كان الإنسان الذي يجمع بين ذكاء الحصان وحركات جسم القرد.

وتطرّقت الرسائل إلى ظواهر الطبيعة وكيف أنها تطوّر نفسها بنفسها بما ترك الله فيها من قوانين. فلا تخرج نبتة الشعير من بذرة الحنطة ولا العكس أيضاً.

“الأفراد في حالة تدفق دائم فهي ليست محددة ولا محفوظة. والسبب في الحفاظ على الأشكال والأجناس والأنواع في المادة هو ثبات سببها السماوي، لأنّ سببها الفعّال هو الروح الكونية للأجواء بدلاَ من التغيير والتدفق المستمر للأفراد الذي يرجع إلى تنوع سببهم.”(4)

رسائل إخوان الصفا

وبذلك يصف النص الموجود في موسوعة إخوان الصفا الذي تمت ترجمته عن أرسطو وجالينوس، التنوع البيولوجي بطريقة مشابهة لنظرية التطور الحديثة، على الرغم من تفسيرها بشكل مختلف من قبل العلماء.(1)

محتويات رسائل إخوان الصفا وخلان الوفا

تنقسم الموسوعة إلى 52 رسالة ذات فترات متفاوتة، والتي تشكّل 4 كتب. كل كتاب يتناول بالتفصيل مواضيع مختلفة. (3)

  • الكتاب الأول: ويشمل العلوم الرياضية وهو مكوّن من (14 رسالة) وتشمل نظرية العدد والهندسة وعلم الفلك والجغرافيا والموسيقى والفنون النظرية والعملية والأخلاق والمنطق.
  • الكتاب الثاني: ويشمل العلوم الطبيعية وهو مكوّن من (17 رسالة) ويشمل فهم المادة. ومخصص لفهم التكوين، والحركة، والزمان، والفضاء، والسماء والكون، والنشوء والفساد، والأرصاد الجوية، والمعادن، والنباتات، والحيوانات، والجسم البشري، والإدراك، وعلم الأجنة، والإنسان كعالم مصغر ، وتنمية الروح في الجسد، وحدود المعرفة، والموت، واللذة، واللغة.
  • ويشتمل الكتاب الثالث: على العلوم النفسية والعقلانية وهو مكوّن من (10 رسائل) حيث تشمل المبادئ الفكرية (فيثاغورس وإخوان). والكون كوحدة مصغّرة، والذكاء والمفهوم، والفترات والدهر، والشغف، والبعث، وأنماط الحركة، والسبب والنتيجة، والتعريفات والأوصاف.
  • أما الكتاب الرابع فيشمل: العلوم اللاهوتية وهو مكوّن من (11 رسالة) وتشمل المذاهب والأديان، والطريق إلى الله، وعقيدة الإخوان، وجوهر الإيمان، والقانون الإلهي والنبوة، ومناشدة الله، والتسلسل الهرمي، والكائنات الروحية، والسياسة، والسحر والتعويذة.

أين تكمن أهمية هذه العصبة في التاريخ الاسلامي؟

وفّق الإخوان بين الفلسفة اليونانية والمصادر الإسلامية وكانوا متأثرين بالفكر الأفلاطوني والأرسطي (3). وكان معظم اهتمامهم مُنصَب على الفلاسفة اليونانيين المدعوين بـ “ما قبل سقراط” إلى أفلاطون وأرسطو وأفلوطين والرواقيين. ولهذا يمكن اعتبار موسوعتهم (الرسائل) كملخص وافٍ للفلسفة اليونانية (2). حيث استحقت الاهتمام حتى من جهة المهتمين فقط باكتشاف مدى معرفة العرب عن المذاهب القديمة في ذلك الوقت. فالسمة الأولى للموسوعة، هي إعادة صياغة المحتويات “العلمية” الأجنبية. حيث تجتمع العناصر الثقافية المختلفة فيها كعلم التنجيم البابلي والهندي والإيراني، والسرد الهندي والفارسي، والاقتباسات التوراتية والتأثيرات القبلانية، والإشارات إلى العهد الجديد والغنوصية المسيحية (2).

غالبًا ما تُظهر المقارنات بين اقتباسات إخوان الصفا والنسخ العربية للأعمال الكلاسيكية أنهم ربما استخدموا نفس الترجمات المتوفرة لدينا الآن. وعندما لا تكون مثل هذه المقارنات ممكنة فإن المقتطفات القديمة تتوافق عادة مع النصوص الأصلية الموجودة. ومن خلال الاقتباسات والتقارير وربما الترجمات أيضا لهذه المصادر القديمة، نستنتج بأن إخوان الصفا يعرضون نفس الخبرة اللغوية والفلسفية المرتبطة بالعلماء الذين ندين لهم بازدهار حركة الترجمة في بغداد (2).

وطرح إخوان الصفا فكرة الدولة وكأنها كائن حي تمر بمرحلة النشوء والنمو والشباب ثم الشيخوخة. وبذلك أثروا بفكر ابن خلدون المؤرخ الشهير، ومؤسس علم الاجتماع. وظهر التأثير جلياً في مقدمته وعلى وجه الخصوص مسألة تدرج خلق الطبيعة وتحديد مفهوم الدولة والعلوم والاجتماع (2).

كما تطرّقت موسوعة إخوان الصفا التي تعد جزءً مهماً من تاريخ الفكر الإسلامي إلى مواضيع مختلفة. فكانوا سابقين لعصرهم في الكثير من المجالات ومن المساهمين الرئيسيين في نهضة الحضارة الإسلامية وتطورها. ولا يزال أثرهم في الفكر العربي والغربي محل بحث ودراسة عميقة عالميًا.

المصادر:

1- journals
2- stanford
3- iep.utm
4- wikipedia

وكأنك قرأت كتاب المونادولوجيا لليبنتز

إن بداية الفلسفة هي بداية البحث عن المبدأ الأول الذي يتأسس عليه وجود كل ما هو موجود. هذا المبدأ أخذ عناصر مادية في البداية مثل الماء والهواء والنار أو عناصر مجردة مثل العدد عند فيثاغورس أو الجوهر عند أرسطوطاليس. عدوى البحث عن الأصل انتقلت إلى العلوم أيضًا. أسفرت الجهود العلمية عن نتائج مرضية ولكن غير نهائية، أقصى ما تم الوصول إليه هو الكواركات الضاربة جذورها في بنية البروتونات والنيوترونات. ثمة فرضيات حول وجود الأوتار الفائقة لكن النتائج غير حاسمة بعد. في هذا المقال نستعرض مفهوم المونادة عند ليبنتز ومحاولته للكشف عن المبدأ الأول. يعتمد هذا المقال على ترجمة ألبير نصري نادر الصادرة عن المنظمة العربية للترجمة.

ماهية المونادة

في فلسفة ليبنتز ظهرت قضية المبدأ الأولي مرة أخرى في أواخر القرن السابع عشر وبداية القرن الثامن عشر. هذا المبدأ الأولي عند ليبنتز مفارق عن المبدأ المادي ومتعالي عليه بالمعنى الحرفي للتعالي. فالمونادة عند ليبنتز هي جوهر بسيط غير قابل للتحليل ومتأصل في كل الموجودات أي المركبات بتعبير ليبنتز. ما يجعل من هذه المونادة مختلفة عن المادة، فهي:

  • لا تولد ولا تموت.
  • غير حائزة على مكان،
  • هي خارج الزمن وأزلية.
  • لا تؤثر عليها التغيرات الفيزيائية.
  • كل مونادة مغلقة على نفسها.
  • كل مونادة هي كاملة لأن فيها شيء من الكمال.

سيرورة المونادة

المونادة لا تأتي إلى الوجود بالولادة؛ لأنها لا تتكون بشكل مرحلي، عكس الموجودات التي تولد من خلال تركيب في الأجزاء. المونادة توجد بالخلق الكامل. كما أن المونادة لا تموت موتًا طبيعيًا، ذلك أن الموت هو تفكك وتحلل الأجزاء، إنما تنعدم كليًا. لكن مع أنها تأتي بالخلق وتنعدم، فهي أزلية.

أزلية المونادة

نعرف أن الله أزلي، ويؤكد ليبنتز على ذلك، لكن أزلية المونادة تختلف عن أزلية الله. إنها تكون كذلك لعدم خضوعها لسلطان الزمن. فالمونادة أزلية بالنسبة للمركب/الجسم، فهي تكون خارج الزمن بشكل متعالي، بينما الجسم يعيش في صميم الزمن، والزمن يحدد كينونة المركب كخاصة أصيلة له. لكن المونادة رغم كونها لا تتأثر بميتات المركب فهي بدورها لا تكون أزلية بالنسبة لله، لأنها تأتي بقرار الله وتنعدم بقرار منه.

الزمان والمكان

الإنسان عبارة عن مركب أو جسم زماني ومكاني، ليس على مستوى التكوين فحسب، إنما على صعيد الإدراك أيضًا. لا يمكننا أن نخرج من كينونتنا ونتعالى عليها ونتصور وجود ما وراء المكان وما هو اللا زمان. منطقنا بالدرجة الأولى هو منطق نفسي، إذ أن إدراكنا عبارة عن إسقاط لمقولاتنا على العالم.

بالنسبة للمونادة فالأمر مختلف تمامًا، فهي لا تكون زمانية ولا تقع في مكان. وما نطلق عليه المكان هو مجال حركة الأجسام، والزمان هو الرابط الآخر الذي يجمع بين جسم وآخر.

المونادة وهوية المركب

كل مونادة تمثل هوية مختلفة، فهي لا تتشابه وهذا اللا تشابه يعطي هوية للمركبات التي تحل فيها. لو كانت المنوادات تتشابه لكانت كل المركبات متشابهة بدورها، فحتى بالنسبة للمركبات من نفس النوع فيها شيء من اللا تشابه. للمونادات صفات وأعراض وهي التي تحدد هوية المركب.

حركة المونادة

مع أن المونادات عوالم مغلقة ولا نوافذ لها، غير أنها تتواصل وتؤثر بعضها في بعض، وهي نفسها تتغير، وهذا التغير يكون وفقًا لمبدأ أصيل في المونادة وهو النزوع للإدراك وموضوع هذا الإدراك هو العالم أي حقيقة اللا متناهي. المونادة تتطور لتدرك الله، هدف وجودها هو هذا الإدراك للوصول إلى إدراك كامل ونشره. كل المونادات مدركة بدرجات متفاوتة. هنا، يخالف ليبنتز معاصره ديكارت. حيث قال ديكارت بأن الإنسان وحده كائن مدرك ونفى هذه الصفة عن باقي الكائنات وكأنها محض آلات، في حين أن ليبنتز يقول بأن كل الأجسام حائزة على نوع من الإدراك ولو كان إدراكًا ضعيفًا. وهذا الإدراك وبفعل نزوعه الداخلي دائمًا ما يتوق إلى الإنتقال إلى إدراك أكثر وضوحًا.

 هوية الإنسان

مع أن النباتات والحيوانات تدرك لكنها أقل كمالًا من الإنسان، ذلك لأن الذاكرة هي أقوى ملكة لدى الحيوانات، فهي تتذكر صاحبها، وتفعل بقدر ما تتذكر. الحيوانات كائنات تجريبية، فهي إذا ما تعرضت للسوء من شخص ما فهي ستذكره ومن ثم تتجنبه. لا ينفي ليبنتز بأننا تجريبيون في أكثر أفعالنا، بيد أن ما يميز الإنسان هو قدرة التجريد بمعرفة الحقائق النظرية الضرورية والأزلية، لذا فالإنسان نفس عاقلة.

نظرية المعرفة

المعرفة النظرية الخالصة تميزنا عن باقي الكائنات، لأنها تساعدنا على معرفة أنفسنا ومعرفة الله. هذه المعرفة تساعدنا أن نعرف “الأنا”ونتأمل فيها ونتأمل في المونادة وتجعلنا مدركين بمحدوديتنا أيضًا.

تفكيرنا قائم على مبدأيين كبيرين، وهما:

  • مبدأ عدم التناقض: نحكم بمقتضى هذا المبدأ أن الخطأ هو ما يتناقض مع نفسه، وما هو مضاد للتناقض هو الصواب.
  • مبدأ السبب الكافي: يستحيل أن يكون أي أمر صادقًا أو موجودًا، أو أن يكون أي تعبير صادقًا دون يوجد سبب كافٍ له، ليكون الأمر على ما هو عليه ولا على خلاف ما هو عليه.

وللحقائق نوعين وفقًا لليبنتز، ثمة حقائق عقلية وأخرى واقعية:

  • الحقائق العقلية: هي حقائق ضرورية وضدها مستحيل، مثل الحقائق الرياضية والميتافيزيقيات. هذه الحقائق نستطيع أن نجد سببها بواسطة التحليل وردها إلى حقائق أبسط إلى أن نصل إلى الحقائق الأولية.
  • الحقائق الواقعية: هي حقائق حادثة وضدها ممكن، وهي عبارة عن حقائق خلقية وطبيعية تحتاج إلى التجربة. هذه الحقائق يمكن ردها دائما إلى حقائق أخرى من دون الوصول إلى حقائق أولية.

الله

الله هو المونادة الأقصى والأكمل، فهو واجب الوجود والعلة الأخيرة. هو واجب الوجود لأنه يستحيل أن نتصور إمكانية عدم وجوده، ذلك لأن عدم وجوده يعني استحالة وجودنا. فهو مطلق الكمال ويصدر عنه الوجود/المونادات. وما يميز بين الله والموجودات هو أن الأخيرة لها حدود بسبب القصور الذاتي فيها.

الله فيه نبع الموجودات ونبع الماهيات الحقيقية، وعقله هو منطقة الحقائق الأزلية. الحقائق الأزلية قائمة في شيء موجود ومتحقق وفيه يكون الممكن متحققًا. ولا نحتاج إلى تجربة لمعرفة الله.

يخالف ليبنتز ديكارت في مسألة حرية الله، فوفقًا لديكارت فإن نظام الأشياء مجرد ضربة من إرادة الله وكان بإمكانه أن يخلق الأشياء بشكل مغاير. بينما ليبنتز يرى أن الله نفسه خاضع للنظام، فهو لا يخلق بعشوائية إنما بقوانين، لذا فإن القوانين التي تحكم كل شيء في الكون هي من الله. وتوجد في الله القدرة التي هي مصدر كل شيء، ثم المعرفة التي تشمل تفاصيل الأفكار، وأخيرًا الإرادة التي تحدث التغيرات حسب مبدأ الأصلح. ويقابل ذلك في المونادة ملكة الإدراك وملكة النزوع ولكن بشكل غير نهائي.

إقرأ أيضًا محاورة جورجياس: الفلسفة في مواجهة البيان

خلق المونادات

جميع المونادات تصدر من الله وتولد عنه بواسطة بريق بشكل متواصل، وهذا البريق يحدد ماهية المونادات. وتحصل المونادة على الكمال من الله. فالله هو فاعل، بينما المخلوق له بعدين، بُعد الفاعل وبُعد المنفعل، فهو فاعل بما فيه من الكمال وإدراكات واضحة، ومنفعل بقوة مخلوق آخر بقدر ما فيه من نقص. المونادات نفسها لا تنفعل، فهي ترعى من قبل الله، وتنظيم الله لها يجعل من كل واحدة في علاقة وتواصل مع أخرى وتعبر عنها، وهذه المونادات معًا تكون بمثابة مرآة أزلية للكون.

كل هذه المونادات تسير سيرًا غامضًا نحو المطلق. كل المونادات كاملة رغم أنها محدودة، فكمالها يكمن في تأدية دورها، فالمونادات التي في نبتة بسيطة تكون كاملة لأنها تحقق وجودها وتدرك العالم من زاويتها وتشارك في مدينة الله وتساهم في الإدراك الكلي، فالعين تكون كاملة بما هي عين، واليد بما هي يد. كحديقة مملوءة بالنباتات، وكبركة مملوءة بالأسماك، كل غصن من أغصان النبات، وكل عضو من أعضاء الحيوان، وكل قطرة من الماء هي أيضًا مثل هذه الحديقة أو هذه البركة. لا شيء قفر أو عقم أو ميت في العالم، ولا سديم إلا ظاهريًا.

النفس والجسم

إن المونادة لا تموت، وبما أن المونادة هي جوهر أو روح الجسم، أي جسم كان فهي لا تموت. وليست هناك ولادة كاملة، فالمونادة في حالة تطور مستمر لأن تدرك، وليس هناك موت كامل، فليست المونادة غير قابلة للزوال بل حتى الحيوان لا يزول زوالًا كاملًا. الجوهر والجسم في تناسق دائم رغم أن لكل منهما قوانينه الخاصة. فالروح تعمل حسب قوانين العمل الغائية، بواسطة النزوع والغايات والوسائل. والأجسام تعمل حسب قوانين الحركات، وكلا النظامين متناسقين.

وكأنك قرأت: كتاب النفعية لستيوارت ميل

وكأنك قرأت: كتاب النفعية لستيوارت ميل

إن الأخلاق هي نظام سلوكياتنا، فكل ما نقوم به يكاد يكون تطبيقًا لما نؤمن به أخلاقيًا ولو بشكل غير واعي. لذلك تعد نظرية الأخلاق نقطة مركزية في كل نسق فلسف. منذ آلاف السنين ويحاول المصلحين والفلاسفة بناء نظرية أخلاقية من شأنها أن تفسر سلوكياتنا وتوجهها أحسن توجيه. نظرية المنفعة أو النفعية حاولت وتحاول بدورها تقديم إجابات لأسئلتنا الكثيرة حول الأخلاق وما زالت تواجه الكثير من الاعتراضات والانتقادات. هذه النظرية قديمة، دافع عنها بروتوغوراس جزئيًا وتبناها أبيقور واجتهد فيها، كما استمرت الاجتهادات عبر العصور. يعتبر جون ستيوارت ميل من أهم منظري الفلسفة النفعية. ولنتعرف على هذه النظرية نقدم في هذا المقال أهم كتاب في النفعية ألا وهو كتاب المنفعة لجون ستيوارت ميل.

صراع المدارس:

يقسم ميل المدارس الفلسفية الأخلاقية بين الحدسية والاستقرائية وكلاهمها يتفق على أن أخلاقية الفعل الفردي لا تختص بالإدراك المباشر، بل تخص تطبيق القانون على حالة فردية معينة. يأخذ ميل على المدرستين التمسك الحاد بوجود مبادئ عامة للأخلاق. الحدسية تؤكد على وجود مبادئ أخلاقية بديهية بصفة ما قبلية بينما تعول الاستقرائية وجود مبادئ عامة تم كشفها عن طريق التجربة. كلتا المدرستين تقومان على أساس ميتافيزيقي. لذا يرى ميل بأن كل المبادئ العامة بما فيها مبادئ الريضايات فيها نوع من الوهم. بعيدًا عن المبادئ العامة يقول ميل بأن قواعد الفعل الأخلاقي يجب أن تأخذ طابعها ولونها من الغاية التي تكون في خدمة تحقيقها.

ماهية نظرية المنفعة:

منذ بداياتها وتواجه نظرية المنفعة السخرية من منتقديها، إذ يعتقدون أنها تركز على اللذة المحض بأبشع أشكالها الحيوانية. يفند ميل هذا الإعتقاد، فاللذة لا تعني الانغماس في اللذات الجسدية الآنية، بل أن لذات الفكر والأحاسيس والمخيلة والمشاعر الأخلاقية هي ذات قيمة أكبر من اللذات النابعة من الإحساس الخالص، وأن النفعية ترفع من شأن اللذات الذهنية بالمقارنة مع اللذات الجسدية. لذلك فأن نظرية المنفعة لا تتوقف عنذ اللذة بل تجد بأن هدف الإنسان هو السعادة وتخفيف الألم.

السعادة التي تهدف إليها النفعية لا تعني الأنانية، أي سعادة الفرد ولو على حساب سعادة الآخرين. بل هي على عكس ذلك تمامًا. يقول ميل بأن السعادة التي تمثل المقياس النفعي لما هو خير في ما يتعلق بالسلوك ليست متمثلة في السعادة الخاصة للفاعل، بل هي متعلقة بسعادة الجميع. بل تذهب النفعية أبعد من ذلك إذ ترى بأن التضحية بالسعادة الشخصية لأجل سعادة الآخرين تعد أرقى فضيلة.

النفعية كأخلاق عالمية:

يعتقد ميل بأنه يمكن القضاء على أكثر الظواهر العالمية فتكًا مثل المرض والفقر. فمع تطوير العلم والتربية الصحية يمكن تقليض رقعة الأمراض بشكل غير نهائي ومن خلال حكمة المجتمع يمكن القضاء على الفقر نهائي.

النفعية متفائلة بخصوص المستقبل، ذلك لأن طبيعة الإنسان قابلة للتعديل والتصحيح، والتجربة على مدى العصور علمتنا الكثير حول السلوكيات الحسنة. لذا يمكن تحسين طبيعة البشر والبيئة المحيطة عن طريق توجيه سلوكياته نحو غايات فاضلة.ثلاثة مباحث في فلسفة أبيقور

السعادة والرضى:

هناك لذات جسدية وأخرى ذهنية، لا شك أن الأخيرة أصعب من الأولى. ذلك لأن صاحب الملكات الأرقى يتطلب الكثير ليصل إلى السعادة المرجوة وعادة ما تكون مرهقة أو صعبة المنال. لذلك قد يلتجأ إلى اللذات الجسدية لتعويض ذلك. لهذا فأن الذي يسعى إلى اللذات الدنيا لديه فرصة أكبر للوصول إلى الرضى المطلوب. فالمشاعر السامية هي في معظم الطبائع، نبتة رقيقة جدًا وسهلة الفناء.

لكن تفضيل لذة على أخرى يعود بالدرجة الأساس إلى التجربةو فالشخص الذي لم يجرب اللذات الفضيلة سيفضل اللذات الآنية، كما أن للبيئة والتربية أثر كبير في تفضيلات الشخص، غير أن الذي يجرب الأثنين سوف يفضل اللذات الذهنية.

النفعية ليست فلسفة زاهدة، فهي لا تنفي حقيقة وجود ميول مختلفة في الفرد، فهو لا يهدف دائما إلى اللذات الراقية، بل له الحق في طلب الأخرى أيضا وذلك جزء من طبيعتنا.

الفعل أم الدافع:

يرى ايمانويل كانط بأن الأخلاقي هو الدافع وليس الفعل، فالكذب مهما كانت نتيجته فهو شر. غير أن ميل ينظر إلى الفعل مباشرة، فحتى السلوكيات غير المرغوبة إذا ما أدت إلى نتيجة خيرة فهي تكون خيرة. فمثلًا إنقاذ شخص من الغرق بدافع الحصول على المال أو الشهرة يعد فعلًا أخلاقيًا، لأن الفرد لا يُحاسب على نيته إنما فعله وأثر الفعل.

النفعية والدين:

إن صدق الأعتقاد القائل بأن الله يرغب فوق كل اعتبار في سعادة مخلوقاته، هو ما كان غرضه في خلقها، فإن النفعية لن تكون نظرية دون إله، بل ستكون نظرية دينية في أعماقها.

عقوبات أخلاق المنفعة:

كل قانون أخلاقي هو قانون يربط بيني وبين الآخرين، أي أن الأخلاق تحدد علاقتنا معهم. ولمحافظة على كل قانون لابد من وجود رادع أو سلطة، سواء كانت تلك السلطة إلهية أم بشرية. نظرية المنفعة الأخلاقية تستند إلى سلطتين وهما السلطة الداخلية والسلطة الخارجية:

السلطة الخارجية:

كل القوانين الإلهية والوضعية التي تعاقب وتكافأ الإنسان على سلوكياته. فالبشر يرغبون ويؤمرون بكل ما سيقوم به الآخرون تجاههم وحيث يعتقدون أن سعادتهم ستزداد به.

السلطة الداخية:

لكل فرد حس أخلاقي وهو جوهر الضمير كما يقول ميل، لكن هذا الحس أو الضمير لا يقع خارج الطبيعة الإنسانية إنما حاصل تجربة الإنسان في العالم ومع الآخرين. تجارب الطفولة، الإحساس الديني، حبنا وتعاطفنا وتقديرنا للآخرين ولأنفسنا وكل ما اختبرناه يشكل ما نطلق عليه بالضمير. إذا ما ارتكبنا خطأ ما فهذا الضمير سيدفعنا للشعور بتأنيب الضمير، ذلك لأننا تعلمنا بأن هكذا أخطا تضر بمصلحتنا وسعادتنا وسعادة الآخرين، وترفض النفعية وجود قوة خفية أخرى وراء حسنا الأخلاقي. أما الشخص الذي لم يتلقى تربية حسنة لن يشعر بأي ذنب إذا ما اقترف خطأ ما وهذه الحالة تفرض وجود سلطة خارجية لتهذيب السلوك.

دليل النفعية:

كل نظرية ملزمة لتقديم دليلها على صحة طروحاتها، بالنسبة للنفعية فأنها تفترض أن شيئا ما مرغوب فيه لأن الناس يرغبون فيه بالفعل، فدليلنا على أن شيئا ما يمكن رؤيته هو أن الناس يمكنهم بالفعل رؤيته. وفقًا لميل فأن السعادة هي كل ما يرغب به الإنسان ولا شيء سواها، فالسعادة هي غاية الفعل ومقياس الأخلاق أيضًا.

بالنسبة النظريات التي قالت بأن الفضيلة هي الغاية، تقر النفعية بأن الفضيلة هي جزء من السعادة، وهي تساعدنا للحصول على سعادة أكبر وألم أقل. كما أن بعض الأمور الأخرى قد تتحول إلى غايات بعد أن كانت وسائل، فالمال، الشهرة والسلطة على سبيل المثال، في البداية كانت وسيلة للوصول إلى الغايات تحولت إلى غايات في حد ذاتها.

لفهم هذه الجزئية يجدر بنا تفسيرها وفقًا لنظرية الاشتراطية التقليدية (Classical Conditioning)، فالمال مثلًا لا قيمة له، لكنه عندما يساعدنا في تحقيق غاياتنا، يتحول بذاته إلى غاية لكونه ينتج نفس المشاعر التي انتجتها غاياتنا، ولكن إذا ما فشل المال في تحقيق سعاتدنا سيخسر المال قيمته، وتسمى هذه الحالة بالإنطفاء.

النفعية والعدل:

يذهب ميل إلى شرح مفهوم العدل لغةً، وفقًا فأن لفظة عدل في البداية كانت تعني طريقة القيام بالأشياء ومن ثم صارت تعني الطريقة التي يؤمر بها يعني على السلطات القيام بتطبيقها. يقول ميل على ذلك: “أن الفكرة الأصيلة في تكوين مفهوم العدل كانت تتمثل في مطابقة القانون”.

الشعور بالعدل:

يتسائل ميل إذا كان الشعور بالعدل يعد شعورًا خالصًا كما الشعور بالألوان وغيرها من المشاعر الخالصة أو أنه نعمة من نعم الطبيعة، أي شعور طبيعي. يرى ميل أن العنصرين المكونين الأساسيين للشعور بالعدل هما الرغبة في عقاب الشخص المتسبب للضرر، والاعتقاد بأن هناك شخصًا معينًا أوأشخاصًا معينين ألحق بهم الضرر، الرغبة في الانتقام رد فعل تلقائي نابع من نوعين من المشاعر الطبيعية وهما الدفاع عن النفس والتعاطف. التعاطف مع الآخرين والذكاء المتطور يساعدان الإنسان لتحقيق المصالح المشتركة. يقول ميل عن ذلك بأن الشعور بالعدل هو الرغبة الحيوانية بالإنتقام بسبب الإساءة الملحقة بالنفس أو الملحقة بمن تعاطف معهم.

الإرادة الحرة:

الإنسان هو نتيجة بيئته الخارجية والداخلية، التربية السيئة ستخلق المجرمين على سبيل المثال، وبالنسبة للبيئة الداخلية، فوجود أمراض قد يدفع بالمرء ارتكاب الجرائم، لذا العقاب القاسي لا يكون مبررًا لطالما أن الشخص غير مسؤول عن تكوينه الأخلاقي، فالعدل إذن عليه ألا يكون إجراميًا بدوره بل عليه أن يكون تصحيحيًا.

العدالة الإجتماعية:

رغم أنه تم ربط النفعية بأبشع أشكال الرأسماية إلا أننا نجد عند ميل ميوله الإشتراكية، لا يُقصد هنا الإشتراكية العلمية (الشيوعية) بل الإشتراكية بمعنى عام، هذا الميل هو الذي تسبب له بمشاكل عائلية أيضًا، لطالما كان والده يكره الإشتراكية. فهو يرى بأن العدالة تقتضي أن تدفع الأثرياء وفقًا لدخلهم.

فهو يتحدث عن العدل بوصفه ضمانًا قانونيًا لحقوق الجميع دون أي إستثناء. فالقانون العادل هو الذي يحمي مصلحة الجميع. فنحن على صلة طبيعية بكل الكائنات البشرية، وهذه الصلة تعد بمثابة وثيقة أخلاقية ومخلفتها أعظم الشرور. والقانون يجب أن يتمتع بالحياد والمساواة وعلى المجتمع كله أن يعامل كل الأفراد معاملة حسنة بشكل مطلق.

اقرأ أيضافلسفة الأخلاق: طبيعة الأحكام الأخلاقية وكيفية تفسيرها

محاورة جورجياس: الفلسفة في مواجهة البيان

محاورة جورجياس: الفلسفة في مواجهة البيان

يجادل أفلاطون على لسان سقراط الحركة السفسطائية والخطباء حول موضوعات مختلفة، نجد دائما أنه يبين عكس ما يقوله أولئك السفسطائيين بالضبط، كأن الحقيقة هي الضفة المقابلة للحركة السفسطائية. في محاورة جورجياس يضع أفلاطون الفلسفة في مواجهة البيان، لا يناقشهما مع جورجياس وبولوس وكاليكليس وحسب بل يحارب بالفلسفة. لذا فأن المحاورة لا تكشف عن مفهوم البيان عند أفلاطون إنما يركز على نوع معين من البيان، دليلنا على ذلك هو أنه يأتي بأفكار متضادة في محاوراته الأخرى حول البيان، فيدورس على سبيل المثال. اقرأ أيضا السفسطائية وشجرة الفلسفة المحرمة

تعريف البيان:

يبين الطرفان أن البيان من الفعاليات أو الفنون الكلامية الصرفة، فالبيان هو فن القول كما يرى جورجياس. غير أن سقراط يشك في قيمة هذ الفن المدعي، فحتى الفنون الكلامية مثل الفلك والحساب لديها من المواضيع. فالبيان لا يعني بموضوع معين، لذلك يقول بولوس وجورجياس بأن البيان قادر على الإجابة أو طرح أي سؤال كان، وهذا ما يستوقف سقراط لفحص البيان وحججه.

البيان والإقناع:

يرى جورجياس أن البيان هو أسمى الفنون لأن الحائز على هذا الفن يجعله البيان حرًا بالنسبة لنفسه وسيدًا على الآخرين. ذلك لأن قوة البيان تكمن في قدرته على الإقناع، إقناع الجمهور بأي أمر من الأمور. يثبت سقراط لمتحاوره أن الإقناع لا يكون عن العلم إنما عن العقيدة، فالخطيب لا يقدم علمًا إنما عقيدة ويستغل جهل الناس، خطيب جاهل يحاضر جمهورًا من الجهلة.

كل فن فيه جانب من الإقناع، مثلًا فن الطب يقنعنا بما يخص الأمراض والأدوية، الموسيقى تقنعنا بما يتعلق بتأليف الألحان، إلا أن البيان ليس من الواضح بما يقنعنا. حسب جورجياس أننا نستفيد من البيان في المحاكم والجمعيات العامة. الجذير بالذكر هنا هو أن السفسطائيين كانوا بمثابة المحاميين في عصرئذ. ذلك أن الخطباء يؤثرون في الانتخابات وقرارات المحاكم

البيان كتجربة:

وفقًا لأفلاطون بأن الفن يختلف عن التجربة، الأول ينتج المعرفة من خلال العقل والحجة المنطقية في حين أن التجربة تأتي من الممارسة والتدريب. فالبيان لا يتأسس على العقل إنما لا يعدو كونه ممارسة بلاغية. ومن الأعمال التي يطلق عليها أفلاطون تسمية التجربة، الطهي، التزيين، البيان والسفسطة. وهذه التجربات رديئة حسب تعبير أفلاطون، فهي تحرف وتموه حقيقة الأمور. فالطهي يقابل الطب، التزيين يقابل الرياضة البدنية والبيان يقابل العدالة. فالبيان كتجربة يهدف إلى احداث نوع من اللذة والانشراح الزائف، فهو لا يقول حقيقة الأمور.

الخطيب والمكانة الاجتماعية:

يزعم جورجياس أن الخطباء يحتلون أرقى مكانة في المجتمع ولهم السلطان في الدولة. هنا يريد سقراط أن يبين أن جورجياس لا يفهم معنى السلطان، فالخطيب لا يقوم بما يريد بل بما يبدو له الأفضل طالما لا يقومون بما يملي عليهم العقل. فالإرادة تكون موجهة نحو الغاية الحقة، فالمريض يأخذ الدواء المر لأجل الصحة في حين أن البيان يهمل الغاية الحقة. هذا ما يدفع بأفلاطون ليقول بأن الخطباء لا يستحقون أي نوع من الاحترام.

البيان والأخلاق:

الموضوع المركزي في فلسفة أفلاون هو العدل، لذلك فهو يربط كل المواضيع بعلاقاته مع العدل والعدالة. فالبيان رغم أن بولوس وجورجياس قالا بأنه يخدم العدالة لا يكون العقل البنيانه لذلك فهو لا يهدف الخير. من طبيعة البيان هو أن يستخدم كافة الوسائل السيئة للوصول إلى إقناع الناس ولو بإستخدام شهود الزور.

يناقش أفلاطون مسألة في غاية الأهمية من الناحية الأخلاقية. وفقًا له فأن ارتكاب الظلم افضع من تحمله، وعدم التكفير عن الظلم هو افدح الشرور بالإطلاق. يستسلم لحجته جورجياس بعد جدال طويل.

قانون الطبيعة:

إن قانون الطبيعة الذي أخذ به الكثير من الفلاسفة ومن بينهم نيتشه، ربما كان كاليكليس هو من الأوائل الذين طرحوا الموضوع. حسب كاليكليس فأن قانون الطبيعة يعارض قانون الناس أي العدالة البشرية. القوي هو دائما الأفضل، وله الحق في اكتساح الضعفاء، وللدول القوية الحق في غزو الدول الضعيفة، وهو يرفض كل الأخلاقيات البشرية، فهي حجة ماكرة لإخداع الأقوياء كما آمن نيتشه أيضًا. بعد مناقشة طويلة يتبين أن كاليكليس لا يعرف ماذا يعني بالقوي والأفضل والحكيم والذي له السلطان، وفي الأخير يبين أفلاطون أن القانون الطبيعي لا يعارض القانون الإنساني. فالقانون الإنساني أصله إلهي حاله حال الطبيعي.

الفلسفة في مواجهة البيان:

يعتبر كاليكليس أن الفلسفة تافهة جدًا، فهي مفيدة في الصغر لأنها لا تخلو من سحر الطفولة، لكن إذا ما استمر في مزاولة الفلسفة يصبح مغتربًا عن الواقع ولا يعرف شيئًا عن الواقع المفهوم. كما يقول أن الفيلسوف لا يمكنه أن يحوز على أية ثروة أو مكانة اجتماعية لائقة وهو غير قادر على الدفاع عن نفسه لطالما ليس لديه قدرة الإقناع. فهو يعيب على سقراط تفكيره الفلسفة وحججه التي تبدو غريبة وتغريبية لكاليكليس.

في حين أن أفلاطون وعلى لسان سقراط، يبين أن الفلسفة تقوم على العقل بإستخدام أدوات وحجج علمية ومنطقية. بينما هدف البيان الوحيد هو غرس بعض المعتقدات الزائفة بأية وسيلة كانت.

مفهوم الصداقة عند أفلاطون

في محاورة ليسيس (Lysis) يضع أفلاطون مسألة الصداقة في مرمى الجدل الفلسفي. تعودنا أن نفهم الصداقة على أنها الألفة التي تربط الكينونات الإنسانية ببعضها لأسباب وأهداف تبدو واضحة رغم تعدديتها وتبايناتها. غير أن أفلاطون وعلى لسان سقراط يفلسف الصداقة لدرجة أننا نبدأ في الشك بمعرفتنا حول أقدم أشكال التعارف والمصالحة بين إنسان وآخر.

يدعو هيبوثايلس سقراط إلى المناقشة  حينما كان الأخير في طريقه إلى قاعة المناقشات العامة. تبدأ المحاورة في اللحظة التي يسأل فيها سقراط هيبوثايلس عن الشخص المفضل لديه. في اللحظة الحرجة تلك يكشف كتاسيبوس عن علاقة هيبوثايلس وليسيس الفتى ويجد سقراط فرصته في البحث عن ماهية الصداقة.

فن الصداقة

يظهر في بداية المحاورة أن هيبوثايلس يكن الكثير من الحب لليسيس بينما الأخير ينفر منه. يبين سقراط أن حب هيبوثايلس ما هو إلا حبه لنفسه وأغانيه في تمجيد الحبيب ما هي إلا تكريمًا لنفسه. إن الصديق لا يمكن أن يكون مصدرًا للنفور لصديقه، وقد يشكل ذلك التعلق والثناء صدعًا بين الاثنين، الأول يمدح من تواضعه والأخير يزداد كبرياءًا.

يقترح سقراط لقاء ليسيس والحوار معه, فيلتقي به في معهد ساحة المصارعة في مهرجان هيرمايا.

المشترك بين الأصدقاء

قبل أن يبدأ حواره مع ليسيس يناقش مينيكسينوس في ما هو مشترك وغير مشترك بين الأصدقاء. يرى سقراط أن التباين بين الأصدقاء يكون في السن والمكانة الإجتماعية والجمال وأشياء أخرى كثيرة. في حين أنه لا يمكن أن يكون أحد الصديقين أغنى من الآخر؛ يمتلك الأصدقاء كل شيء مشتركًا.

ثالوث المعرفة والحرية والسعادة

يرى سقراط أن حب الوالدين لا يمكن أن يكون حقيقيًا إذا كان حبًا مشروطًا، فإذا كان الوالد يحب ولده من المفترض ألا يمنعه من القيام بما يحب. يبين ليسيس أن والديه يمنعانه من فعل الكثير من الأشياء. طالما أن الحب لا يمكن أن يتحقق في حالة العبد، يمضي سقراط إلى التحقيق من سبب عدم ثقة الوالدين بالأبناء فيما يخص القيام ببعض الأمور، يتحاجج ليسيس بأنه يُمنع من ركوب العربة والأمور التي يحبها لأنه لم يصل بعد إلى السن المناسب للقيام بهكذا أعمال. إلا أن سقراط يبين له بأن السبب وراء ذلك هو قلة المعرفة وليس صغر السن. إذ أن المعرفة هي أساس كل ألفة بين كينونة وأخرى.

الصداقة من طرف واحد

عندما نحب شخصًا ما, من منا يكون صديق الآخر, يبدو أن هذا الإشكال هو لغوي بالأساس غير أن سقراط يلقيه في الحقل المعرفي والأخلاقي. في البداية يعتقد كتاسيوس أن كلاهما صديقين, المحب والمحبوب, فيباغته سقراط بسؤال آخر, في حال كان المحبوب لا يحب المحب بل وقد يكرهه هل يمكنهما أن يكونا صديقين؟ يتنازل كتاسيوس عن رأيه بالنفي. ويبين سقراط أنه يتحتم أن يكون المحبوب صديقًا ذلك أنه في هذه الحالة سيكون العدو هو الصديق والصديق هو العدو.

الشبيه يجذب الشبيه

في البداية يقول سقراط بأن هذه السردية قد لا تكون صائبة، لأن الصداقة يمكنها أن تربط بين شخصين صالحين، لكنها لا تستطيع أن تجمع بين المؤدي والمؤدى. إذن فإن الأخيار يتشابهون ويجذبون بعضهم بعضًا في حين أن الأشرار لا يمكنهم أن ينسجموا في أي ظرف كان.

يستمر سقراط في التساؤل, هل يمكن أن يكون الأخيار هم الأصدقاء حقًا؟ يوافق ليسيس على ذلك. يبين سقراط أن الخير يكون كافيًا بنفسه، لأن الخير كلي، وبالتالي فالشخص الخيّر لا يحتاج إلى شخص آخر وبالتالي فالصداقة غير ممكنة في غياب الحاجة والمودة بين الطرفين.

الشبيه يجذب اللا شبيه

يقتبس سقراط من هيزيود أن الخزافين يتشاجرون مع الخزافين، الشعراء مع الشعراء والمتسولين مع المتسولين. وأن الفقراء يحتاجون الأغنياء والضعيف يحتاج مساعدة القوي وهكذا. فالصداقة إذن تكون بين الأنداد. يفحص سقراط هذا الدليل لينفي حدوث الصداقة بين الأضداد، ذلك أن العدو لا يكون صديق الصديق ولا العادل والظالم صديقين.

الذين يقفون في الوسط

استنتج سقراط أن الخيّر لا يمكنه أن يكون صديقًا للخيّر ذلك لأن الشخص الخيّر كافي بذاته, كذلك أن الخيّر لا يصادق الشرير ولا بإمكان شريرين أن يكونا صديقين. هل يعني ذلك أن الذي لا هو خيّر ولا شرير يمكنه أن يكون للخيّر صديقًا؟

يتقدم سقراط بمثال، الشخص السليم لا يمكن أن يحب أو يحتاج فن الطب، فذلك الشخص يكون خيرًا والطب بدوره يكون خيرًا، ووفقًا للقاعدة أعلاه لا يجتمع الخير مع الخير. المريض يحب/يحتاج الطب، المرض يكون شرًا والطب يكون خيرًا، والقاعدة تقول لا شيء يصادق الشرير أيضًا، ما المعضلة إذن؟

الجسم الإنساني لا يكون خيرًا ولا شريرًا، فهو يصادق الطبيب بحضور المرض/الشر فيه. إذن الصداقة ممكنة بين المحايد والخير بحضور ما هو أو يظهر أنه شر. غير أن سقراط يبدأ بالشك من جديد بخصوص هذه الصداقة.

الصداقة كمنفعة

يقدم سقراط طرحًا آخر ليخرج من المأزق. يتسائل سقراط إذا كانت الصداقة هي محض وسيلة لأجل الوصول إلى هدف ما. للصداقة سبب وهدف، فالمريض يصادق الطبيب بسبب المرض (الشر) ولأجل الصحة (الخير). كما يبين سقراط أن حتى الأشياء الخيرة كالصحة مثلًا هي بدورها لا تعد هدفًا نهائيًا، فهي لا تعدو أن تكون أوهامًا لأجل غايات أخرى حتى نصل إلى الهدف الذي لا هدف وراءه. بالتالي لا يمكن أن نطلق تسمية الصداقة على علاقة تنتهي مع الوصول إلى الهدف المرجو.

الصداقة والتجانس

يطرح سقراط هنا أن الصديقين يجب أن يمتلكا طبائع متشابهة، سوى في الروح أو الأخلاق أو الشكل. يوافق كل من ليسيس ومينيكسينوس على ذلك. فالتجانس يكون بين الخير والخير وكذلك بين الشرير والشرير. هنا يريد سقراط أن يجد فرقًا بين المتجانس والشبيه، فيصعب عليه ذلك، لأنه وفقًا لقاعدة التجانس، سيتجانس الشرير مع الشرير، وقلنا بأن الظالم لا يمكنه أن يكون صديقًا للظالم.

الصداقة غير ممكنة

ما وصل إليه أفلاطون في نهاية المحاورة غير واضح, فهو يقول لم نكتشف بعد من هو الصديق. لا الخيّر يكون صديقًأ للخيّر لأن الخيّر كافي بذاته، ولا الشرير يستيطع أن يصادق الشرير ولا الخير، كما تبين أن المحايد بدوره لا يستطيع أن يكون صديقًا للخير. بالتالي ترك سقراط السؤال مفتوحًا دون أن أية إجابة.

اقرأ أيضًا نظرية الشعر عند أفلاطون

الميتافيزيقيا؛ فلسفة الماورائيات ما بين القديم والحديث

هذه المقالة هي الجزء 2 من 11 في سلسلة مدخل إلى الفلسفة وفروعها

الميتافيزيقيا؛ فلسفة الماورائيات ما بين القديم والحديث

فلسفة ما وراء الطبيعة أو الميتافيزيقيا

تمثل الميتافيزيقيا أو فلسفة الماورائيات القسم من الفلسفة الذي يدرس طبيعة الوجود والحقيقة والمعرفة والعقل والعلاقة بين الجسد والعقل والكثير من المواضيع التي تقبع في عالم ما وراء الطبيعة.

أطلق على هذا النوع من الفلسفة اسم الميتافيزيقيا – Metaphysics منذ البداية. ويعود هذا إلى أيام الإغريق القديمة، حيث تعني كلمة “meta” “بعد”. وقد استخدم هذا المصطلح أحد الفلاسفة الذين جمعوا أعمال أرسطو وحرروها، وأطلق اسم الميتافيزيقيا على مجموعة الكتب التي أُدرجت بعد كتب الفيزياء أو العلوم المادية [1]. حالياً، أصبح استخدام مصطلح الميتافيزيقيا ذو نطاق أوسع ليشمل مجالات الفلسفة التي تدرس بشكل عام ماهية الوجود والكينونة [1].

كيف اختلفت مواضيع الميتافيزيقيا؟

إذا أردنا التوسع في الاختلاف بين مجال دراسة الميتافيزيقيا في الماضي وما يقابله الآن، يمكن تلخيصه بما يلي. كان فلاسفة الإغريق والعصور اللاحقة يعرّفون الميتافيزيقيا بطبيعة المواضيع التي تدرسها، مثلها مثل أي علم آخر كالكيمياء أو علم الفلك. وفقاً لهذا، كانت تُعرف على أنها العلم الذي يدرس الكون وطبيعته، إضافة إلى الأسباب الأساسية للظواهر، وهذا يعني الأشياء التي لا تتغير بل تبقى كما هي أسباباً لأمور أخرى. ولكن عند النظر إلى الفلسفة الآن، لا يمكن تعريف الميتافيزيقيا بهذا.

أولاً، بات الفلاسفة الذين كانوا ينقدون مواضيع الميتافيزيقيا، كالأسباب الأساسية والأمور غير المتغيرة، باتوا يُعتبرون الآن على أنهم يقدمون طرحاً ميتافيزيقياً. ثم إن العديد من المواضيع الفلسفية التي تندرج الآن تحت الأسئلة الميتافيزيقية، أو على الأقل تشكل جزءاً من هذه الأسئلة، لا تمتّ بصلة إلى مواضيع الميتافيزيقيا القديمة كالأسباب الأساسية أو الأمور غير المتغيرة. ومن الأمثلة على ذلك مسألة حرية الإرادة أو العلاقة بين العقل والجسد [2].

يعود هذا الاختلاف أو التحول في معنى الميتافيزيقيا إلى القرن السابع عشر. ويعزى في الغالب إلى تغير دلالات كلمة “فيزياء” التي أصبحت علماً كمياً جديداً، وهو العلم الذي نعرفه الآن. [2].

الفرق بين العلوم الطبيعية وفلسفة الماورائيات

يقبع الفرق بين العلوم الطبيعية وتلك الميتافيزيقية في اختلاف طريقة الإجابة على تساؤلاتها أو البحث فيها. حيث تعتمد العلوم الطبيعية في إجاباتها على الملاحظة والتجربة والقياس والحساب. من جهة أخرى، يبني الميتافيزيقيون إجاباتهم على التفكير والتأمل. أي أن العلوم الطبيعية تدرس العالم التجريبي، في حين تهتم الماورائيات بمظاهر الواقع التي تتجاوز التجربة [1].

أبرز مواضيع الميتافيزيقيا

إذاً، اتسعت مواضيع الميتافيزيقيا أو فلسفة الماورائيات مع الزمن، لكن هذا لا يلغي اهتمامها بالمواضيع القديمة التي نشأت عليها. فما زالت تلك المواضيع من محاور هذه الفلسفة، ولو أنه طرأ عليها بعض التغيرات أو أصبحت تُرى من مناظير مختلفة. يعد موضوع الوجود من المواضيع الأساسية التي تقع في صلب هذه الفلسفة بكل معانيها ومفاهيمها. ويمتد هذا إلى البحث في مواضيع العدم واللاوجود. بالإضافة لذلك، بقيت المواضيع الأصلية في الماورائيات وهي طبيعة الكون والأسباب الأولى والأشياء غير المتغيرة من المواضيع المطروقة حتى بعد أرسطو.

أما حديثاً، فبدأت الميتافيزيقيا تتطرق لمواضيع أخرى، من أبرزها مواضيع الفضاء والوقت. ويعتبر السفر عبر الزمن من النقاط الجدلية التي تثير العديد من التساؤلات حول قضايا الوقت والسببية وقوانين الطبيعة والحرية والهوية الشخصية وغيرها [2].

السفر عبر الزمن

يعد ديفيد لويس (David Lewis) من أبرز من تحدث عن السفر عبر الزمن. حيث يشرح في ورقته البحثية “مفارقات السفر عبر الزمن” التي نُشرت عام 1976 عن منطقية احتمال السفر عبر الزمن في كلا الاتجاهين: للماضي وللمستقبل. طبعاً لم يدّع لويس أن هذا الأمر ممكن في الحقيقية أو في العالم الذي نعيشه أو حتى مع التقنيات المتطورة. لكن ما كان يرمي إليه هو تقديم تعريف ينطوي على تمييز طريقتين لتسجيل الوقت، وهما الوقت الشخصي والوقت الخارجي [3].

يتضمن الوقت الشخصي التغيرات التي تطرأ على الفرد بعبور الوقت، من تغيرات جسدية ووظيفية. أما الوقت الخارجي فهو الزمن الذي يسجل على المستوى الأكبر. أي الزمن الذي يمر إما بالذهاب للماضي أو للمستقبل. على سبيل المثال، يسافر أحد الأشخاص عبر الزمن إلى الماضي، قبل 50 عاماً، واستغرقت الرحلة للوصول إلى الوجهة خمس دقائق. يكون الوقت الشخصي 5 دقائق مرت من عمر الفرد الذي يقوم بالرحلة. في حين أن الوقت الخارجي هو 50 سنة، وهي النقطة المنشودة من الرحلة [3].

في هذه الرحلة كان الوقت الخارجي أطول من الوقت الشخصي، كما أن كلاً منهما سار باتجاه مختلف. فالوقت الشخصي كان يسير للأمام في حين أن الوقت الخارجي كان متجهاً للخلف. عند السفر في الزمن للمستقبل، تبقى الثغرة موجودة بين نوعي الوقت لكن اتجاههما يكون واحداً. فالوقت الشخصي يسير قدماً كما الوقت الخارجي.

وبهذا يشرح لويس أنه في السفر العادي، لا عبر الزمن، ينطبق كل من الوقت الشخصي مع الوقت الخارجي في الرحلة نفسها. في حين ينفصل هذان الوقتان عند السفر عبر الزمن ويحيدان عن بعضهما. ويحاول من خلال هذا الشرح إعطاء تفسير منطقي لفكرة السفر عبر الزمن.

طبعاً، لا تخلو الورقة البحثية من شرح للتناقضات المنطقية المحتملة والتساؤلات الناجمة عنها. لكن بالمجمل، وبالعودة إلى الماورائيات، يعد موضوع الوقت والفضاء، ومنهما السفر عبر الزمن، أحد المواضيع التي باتت تهم الميتافيزيقيا وأبحاثها.

 منهجيات فلسفة الميتافيزيقيا

تعمل الميتافيزيقيا وفق منهجيات معينة تختلف عن العلوم الطبيعية كما ذكرنا. فلا يمكن هنا استخدام التجربة العملية. ولكن يمكن الاعتماد على التفكير والتأمل والتخيل، عندما تكون هنالك القدرة على تخيل الأمور محط التفكير. يمكن أيضاً اللجوء إلى الحدس لتحديد ما هو منطقي وما هو غير ذلك.

ومع هذه الأدوات، تبقي فلسفة الميتافيزيقيا أو الماورائيات الباب مفتوحاً أمام المزيد من الإجابات والتساؤلات.

اقرأ أيضاً: نظرية المعرفة

المراجع

  1. The British Academy – What is Metaphysics
  2. Stanford Encyclopedia of Philosophy – Metaphysics
  3. Coursera: Alasdair Richmond, et al. Introduction to Philosophy [MOOC]. Coursera.

حرية الإرادة والحتمية في الفلسفة

هذه المقالة هي الجزء 4 من 11 في سلسلة مدخل إلى الفلسفة وفروعها

حرية الإرادة والحتمية في الفلسفة

يعد موضوع حرية الإرادة من المواضيع القديمة في الفلسفة، ومثلها فكرة الحتمية. وقد شكّلت الحرية على مر التاريخ معضلة للكثيرين، طرح فيها العديد من الفلاسفة آراءهم وتحليلاتهم. فالبعض يرى أننا نحن البشر نتمتع بالحرية في تصرفاتنا واختياراتنا. في حين يرى البعض الآخر أننا محكومون بحتمية الكون الذي يسير وفق خطة محددة تشترك فيها جميع العناصر، بما فيها نحن البشر.

لا تكمن المشكلة فقط في الخلاف على مدى حرية البشر في إرادتهم أم حتمية مصيرهم. بل تقود هذه البداية إلى مسألة أشد تعقيداً، وهي المسؤولية الأخلاقية. فما هي درجة المسؤولية الأخلاقية التي يتحملها البشر تجاه أفعالهم؟ وكيف تتغير هذه الدرجة عند الأخذ بوجهة نظر الحتمية دوناً عن حرية الإرادة؟ [1]

سنستعرض في هذا المقال بعضاً من الأفكار والتحليلات لمسألة حرية الإرادة وعلاقتها (أو عدم علاقتها!) بالحتمية، إضافة إلى ارتباطها بالمسؤولية الأخلاقية.

حرية الإرادة (Free Will)

تنطوي حرية الإرادة على حرية المرء في اتخاذ القرار بالأفعال التي يقوم بها. وفقاً لديفيد هيوم (David Hume) وتوماس هوبز (Thomas Hobbes)، تعني الحرية عدم وجود عوائق خارجية تمنع المرء من القيام بما يريد. ويمكن توسيع هذا إلى افتراض أن الحرية هي عدم إجبار الشخص على القيام بما لا يريد. فامتلاكنا لحرية الإرادة يؤدي إلى حريتنا في اختيار الأفعال التي نقوم أو لا نقوم بها. أي يربط كل من هيوم وهوبز حرية الإرادة بحرية الأفعال [2].

من الاعتراضات التي واجهت هذا الرابط هي أنه يمكن للمرء أن يكون حراً باختيار أفعاله، لكن قد يحدث ما يمنعه من القيام بهذه الأفعال. فالعوائق الخارجية التي قد تمنع الشخص من القيام بنشاط محدد لا تلغي حرية هذا الشخص باختياره للقيام بهذا النشاط أصلاً. فمثلاً، يمكن لأحد ما أن يختار الذهاب في نزهة، ولكن الطقس يمنعه من تنفيذ هذا الفعل. فهذا الشخص كان حر الإرادة باختيار ما سيفعله. أي أنه قرر بكامل إرادته أنه يرغب بالذهاب في نزهة. ولكن عوامل الطقس منعته من تنفيذ هذا العمل. لكن هذه الإشكالية التي يراها البعض في الربط بين حرية الإرادة وحرية الأفعال تتوقف على كيف نعرّف حرية الإرادة بالأصل [2].

الحتمية (Determinism)

الحتمية هي النظرة التي تربط الأمور في الكون بعلاقة سببية. فمن وجهة النظر هذه، لا يحدث شيء ما إلا ويكون وراءه سبب محدد أدى إلى حدوثه، قد يكون هذا السبب مباشراً أو غير مباشر. ولكن العلاقة بين جميع العوامل هي التي تؤدي إلى حدوث هذا الأمر بعينه دوناً عن سواه. وفقاً للحتمية السببية، يتحدد مسار المستقبل بأكمله وفق ما حدث في الماضي وحسب قوانين الطبيعة. فمثلاً إذا وقعت أحداث الماضي بطريقة معينة ورافقتها قوانين الطبيعة بصيغة معينة، سيؤدي اجتماع كل من هاتين القوتين إلى مسار وحيد للمستقبل لا يمكن أن يحيد عنه. وهذه هي حتمية المستقبل التي سببتها عوامل الماضي وقوانين الطبيعة. ولكن الحتمية لا تنطوي على ضرورة توقع المستقبل. إذ يمكن للمستقبل أن يكون محتوماً بعوامل الماضي وقوانين الطبيعة دون أن يكون باستطاعة أحد أن يتوقعه [2].

لكن النتيجة التي تقودنا إليها الحتمية هي أننا غير قادرين على امتلاك الحرية التي نظن أننا نملكها. ولا يمكننا أن نقوم بأي شيء مغاير للأمور المحتومة الناتجة عن اجتماع عوامل الماضي وقوانين الطبيعة. وفقاً لهذا، فحتى الأمور التي نقررها، ظناً منّا أنها بمحض إرادتنا “الحرة”، هي نتائج محتومة بناء على ما مضى.

فأين حريتنا إذاً؟ وكيف لنا أن نخرج من عباءة الماضي؟ لا يمكننا، وفقاً للحتمية، فنحن محكومون، وأفعالنا نافذة شئنا أم أبينا ولا تصدر عنا. بالتالي، لا تحمّلنا وجهة النظر هذه مسؤولية أفعالنا. وفيما يلي سنتوسع في هذه النقطة [3].

التوافقية بين حرية الإرادة والحتمية (Compatibilism)

بالعودة إلى حرية الإرادة، يرى البعض أن الحتمية لا تتناقض مع حرية الإرادة. فيمكن للمرء أن يقرر ما يريد حتى وإن كان هذا الأمر محتوماً. يمكن لنا أن نختار الأمر “المحتوم” دون أن تكون حتميته قد أجبرتنا على اتخاذ رأي أو موقف معين منه. تدعى وجهة النظر هذه بالتوافقية [1].

تأتي التوافقية رداً على فكرة الحتمية. وكما ذُكر في الفقرة السابقة، تعزو الحتمية أفعالنا إلى عوامل جرت في الماضي البعيد. أدت هذه العوامل، نتيجة وجودها مع قوانين الطبيعة المعينة، إلى ما نحن عليه الآن وإلى ما سيحدث في المستقبل. فنحن غير مسؤولين عما نختار. ولن يكون لخيارنا أي أثر فيما سيحدث، فما سيحدث هو أمر محتوم [3].

يأتي رد التوافقية على هذا الطرح لا ليناقضه أو ينفيه. بل يرى التوافقيون أن حتمية الأفعال لا تنفي أو تقوّض فكرة الحرية بقيامنا بهذه الأفعال أو اتخاذ القرارات المرتبطة بها. فالمرء يكون أمام خيارات متعددة ليقوم بها، ولديه الحرية في اتخاذ القرار بما سيفعل. إن كان هذا الفعل محتماً لا يعني أن المرء لم يكن لديه خيارات أخرى. لهذا يرى التوافقيون أننا مسؤولون عن أفعالنا لأن حتميتها لا تنفي حرية اختيارنا لها [3].

اللاتوافقية بين حرية الإرادة والحتمية (Incompatibilism)

بالمقابل، يرى مناصرو اللاتوافقية أن الحتمية، إن كانت صحيحة، لا تتوافق مع حرية الإرادة. أي أن حتمية سير الأمور في المستقبل تنفي امتلاكنا للحرية. وهذا يعني أننا، حتى وإن ظننا أننا نملك حرية الاختيار، فإن الخيار الوحيد الذي سنقوم به هو الخيار المحتم. وسبب حدوث هذا الخيار ليس إرادتنا بذلك، بل حتميته بناء على ما مضى [4].

وفق وجهة النظر هذه، يمكن تفسير عدم توافق حرية الإرادة والحتمية بطريقتين مختلفتين. تقول إحداهما أنه بسبب الحتمية، يستحيل علينا أن نكون نحن السبب في أفعالنا، ولا نستطيع التحكم بها. أما وجهة النظر الأخرى فتشرح أن الحتمية تجردنا من القوة أو القدرة على اختيار شيء أو القيام بفعل غير الأمر المحتوم مسبقاً [4].

المسؤولية الأخلاقية بين حرية الإرادة والحتمية (Moral Responsibility)

لنقف قليلاً عند بعض الآراء حول المسؤولية الأخلاقية. فعند الحكم على شخص ما أنه مسؤول من الناحية الأخلاقية، فمعناه أن هذا الشخص يتمتع بقدرة معينة، وأن سلوكه نابع من تطبيقه لهذه القدرة بطريقة ما. عندها، يمكن القول بأن هذا الشخص مسؤول عن أفعاله التي نتجت عن هذه القدرة [5].

لكن يرى بعض الفلاسفة أن افتقارنا لحرية الإرادة – أي في حال كانت الحتمية أمراً حقيقياً – يجعلنا غير مسؤولين من الناحية الأخلاقية [6]. كما ذُكر سابقاً، تعتبر الحتمية أن كل شيء ناتج عن عوامل من الماضي، من ماضٍ لا علاقة لنا به، ومن قوانين الطبيعة. وفق هذا، لا علاقة لنا بكل ما يحدث من حولنا، حتى الأفعال التي نقوم بها. ولذلك، فنحن لا نتحمل مسؤولية تلك الأفعال [5].

من جهة أخرى، يرى البعض أن الحتمية لا تلغي بالضرورة مسؤوليتنا الأخلاقية. فحتى إذا ألغت الحتمية قدرتنا على التحكم بما يجري، فهي لا تلغي قدرتنا على التحكم بكل ما تتطلبه المسؤولية الأخلاقية [2].

يمكننا هنا التوقف عند ما يسمى بمبدأ الإمكانيات المحتملة (The Principle of Alternative Possibilities). وفق هذا المبدأ، نتحمل مسؤولية أفعالنا فقط إذا كان لدينا القدرة على القيام بغير ما قمنا به. أي إذا كان أمامنا فعلان أو أكثر، وكان بمقدورنا الاختيار فيما بينها، وقررنا اختيار فعل ما، نتحمل مسؤولية خيارنا بسبب وجود بدائل عنه. لكن مبدأ الحتمية ينقض هذه المسؤولية لأنه لا يرى أن اختيارنا كان بسبب حرية إرادتنا. بل كان هذا الخيار محتوماً مسبقاً، ولم يكن باستطاعتنا القيام بغير ذلك حتى مع وجود بدائل [6].

تتشعب التحليلات والآراء فيما يتعلق بالمسؤولية الأخلاقية. وتبقى قضية حرية الإرادة والحتمية من القضايا الأساسية في الفلسفة لأهميتها في فهم مدى تحكمنا نحن البشر بأفعالنا.

اقرأ أيضاً: الفردية بين حرية الفرد والمجتمع

المصادر

  1. Coursera: Mason, Elinor, et al. Introduction to Philosophy [MOOC]. Coursera.
  2. Free Will – Internet Encyclopedia of Philosophy
  3. Compatibilism – Stanford Encyclopedia of Philosophy
  4. Incompatibilism – Stanford Encyclopedia of Philosophy
  5. Moral Responsibility – Stanford Encyclopedia of Philosophy
  6. JOHN FISCHER: FREE WILL AND MORAL RESPONSIBILITY

فلسفة العلوم: كيف ترى الفلسفة النظريات العلمية؟

هذه المقالة هي الجزء 5 من 11 في سلسلة مدخل إلى الفلسفة وفروعها

فلسفة العلوم: كيف ترى الفلسفة النظريات العلمية؟

فلسفة العلوم (Philosophy of Science) قد يبدو هذا العنوان غريباً، وقد يثير تساؤلاً حول علاقة العلم بالفلسفة. ولكن في الواقع، تعد فلسفة العلوم إحدى فروع الفلسفة، وتتطرق في دراستها إلى طرائق البحث والنظريات العلمية. تناقش هذه الفلسفة على وجه التحديد ما الذي يمكن اعتماده تحت تسمية “علم” ولماذا، إضافة إلى طرح منهجيات معينة لفهم مدى مصداقية النظريات العلمية [1].

وقد أثبتت الفلسفة فائدتها للعلوم، إذ تعمل على توضيح العديد من المفاهيم من خلال أبحاثها ودراساتها. ويسهم هذا التوضيح المفاهيمي في تحسين دقة المصطلحات العلمية واستخداماتها في الأبحاث ذات الصلة. كما يساعد في إجراء استقصاءات تجريبية جديدة. حيث تختلف كيفية فهم التجارب وإجرائها مع اختلاف الأطر المفاهيمية. وكلما تعرّفت هذه الأطر أكثر، أصبح من الممكن إجراء مزيد من البحوث والدراسات [2].

التوجهات ضمن فلسفة العلوم

إذا أردنا دراسة فلسفة العلوم من منظور واسع نسبياً، يمكننا الذهاب إلى مقاربتين مختلفتين حول طبيعة العلم بحد ذاته. فلا يوجد هنا تركيز على نظرية علمية محددة دون سواها. كما لا تتم دراسة موضوع أو تخصص واحد كعلم الأحياء، أو الفيزياء. بل يكمن الاختلاف بين هاتين المقاربتين في تعريفهما لطبيعة النظريات العلمية التي يمكن أن تُصنف على أنها نظريات جيدة. إضافة لذلك، تملك كل منهما وجهة نظر مختلفة حول ما يجب أن نأمل الحصول عليه من النظريات العلمية، بصفتنا متلقين للعلم. وبدقّة أكبر، يتمثل الاختلاف في الهدف من العلم، والنتيجة التي ينبغي أن تصل إليها النظريات العلمية [1].

أما عن هذين التيارين أو التوجهين ضمن فلسفة العلوم، فهما الواقعية العلمية (Scientific Realism) واللاواقعية العلمية (Scientific Anti-Realism).

الواقعية العلمية

يمكن تعريفها بطرق عدة، وباختصار، تمثل الواقعية العلمية موقفاً تجاه النظريات العلمية ينص على أن هدف هذه النظريات هو إيصالنا إلى الحقيقة. أي أن النظريات العلمية هي تلك التي تنجح، من خلال المصطلحات العلمية النظرية، بتفسير ما يحدث في العالم المرئي (كدراسة علم الفلك للكواكب) وغير المرئي (كدراسة الفيزياء للبروتونات والإلكترونات). ويوجد هنا توجه نحو فكرة الحقيقة التي يجب على النظريات العلمية أن تؤدي إليها. أي أن لهذه النظريات جانباً معرفياً، لأنها تمنحنا مظاهر معرفية مرتبطة بالعالم، بما في ذلك المظاهر غير المرئية منه [3].

وفق الواقعية العلمية، يكمن هدف العلم في إعطاء تفسيرات وتوصيفات صحيحة لما يحدث في العالم. ويمكن في هذا السياق الحديث عن جانبين للنظرية العلمية، هما الجانب المعنوي أو الدلالي (semantic) والجانب المعرفي (epistemic). بالنسبة للجانب المعنوي، يجب أن نفهم لغة النظرية العلمية والمصطلحات المستخدمة فيها. وهذا يعني أن يكون لهذه المصطلحات دلالات في العالم الخارجي يمكننا ربطها بها. على سبيل المثال، عندما تتحدث النظرية عن الكواكب، ينبغي لنا أن نعرف دلالة كلمة “كوكب” ونفهم معناها وما تمثله في العالم الخارجي [1].

أما بالنسبة للجانب المعرفي، يجب أن نصدق النظريات العلمية على أنها صحيحة بالنسبة لما تطرحه من أفكار حول العالم أو الأشياء التي تدل عليها. فنص النظرية العلمية يهدف إلى إعطاء شرح وتفسير لظواهر العالم. لهذا لا بد أن نصدق أنها صحيحة، ولو بشكل تقريبي، بمعنى توافقها مع الحقائق الصحيحة في الطبيعة [1].

اللاواقعية العلمية

تضم اللاواقعية العلمية أفكاراً مختلفة، من أهمها التجريبية البنائية والتي طورها بشكل رئيسي الفيلسوف الأمريكي فراسن (Bas van Fraassen) في ثمانينيات القرن الماضي. وتختلف اللاواقعية عن الواقعية في تحديدها للهدف من النظريات العلمية [1]. وفقاً للتجريبية البنائية، يسعى العلم لإعطاء نظريات دقيقة من الناحية التطبيقية، لكن ليس بالضرورة نظريات صحيحة. فلا يشترط لقبول نظرية ما على أنها نظرية علمية أن تثبت صحتها. بل يكفي أن تكون دقيقة عملياً [4]. وتتفق هذه النظرية مع الواقعية العلمية في الجانب المعنوي أو الدلالي. أي أنها تركز أيضاً على ضرورة فهم المصطلحات العلمية التي تستخدمها النظرية، وربط هذه المصطلحات بالعالم ودلالاتها فيه. لكن يكمن الاختلاف في الجانب المعرفي. فهنا لا يشترط أن نؤمن بصحة النظرية كي نعتبرها نظرية علمية جيدة. بل نلجأ إلى التجربة العملية التي يجب أن تكون دقيقة [1].

يتمحور التركيز هنا حول الجوانب المرئية من العالم، والتي يجب أن تكون دقيقة عملياً. وتنطوي الدقة العملية أو التطبيقية في النظرية على حسن إعطاءها لتفسير صحيح للظواهر المرئية. باختصار، يجب للنظرية أن تكون قادرة على احتواء الظواهر المرئية التي نؤمن بوجودها كي تكون نظرية علمية. أي أنه، بالنسبة للتجريبية البنائية، لا تنطوي صحة تفسير الظواهر المرئية التي نصدقها في النظرية العلمية على صحة تفسير الظواهر غير المرئية، ولا مشكلة بهذا في النظرية العلمية [5].

الفلسفة والعلوم

إذاً تختلف وجهات النظر الفلسفية في طريقة رؤيتها للنظريات العلمية. وفي الواقع، هذا الاختلاف يغني العلوم ويوسع النطاق المعرفي الذي تجري الأبحاث ضمنه – إما بناء على توسيع الإطار المفاهيمي، أو بناء على نقد الافتراضات العلمية. إذ يمكن للفلسفة أن تكون على مستوى من الفعالية في تأثيرها على صياغة نظريات جديدة تكون قابلة للاختبار، وتساهم في وضع مسارات جديدة لأبحاث تطبيقية [2].

اقرأ أيضاً: فلسفة العقل وعلاقة العقل بالجسد

المصادر

  1. Coursera: Massimi, Michela, et al. Introduction to Philosophy [MOOC]. Coursera.
  2. Why Science Needs Philosophy
  3. Stanford Encyclopedia of Philosophy – Scientific Realism
  4. Constructive Empiricism – Paul Dicken
  5. Stanford Encyclopedia of Philosophy – Constructive Empiricism

فلسفة العقل وعلاقة العقل بالجسد

هذه المقالة هي الجزء 3 من 11 في سلسلة مدخل إلى الفلسفة وفروعها

فلسفة العقل وعلاقة العقل بالجسد

يمكن تعريف فلسفة العقل (Philosophy of Mind) على أنها دراسة طبيعة العقل، والظواهر والوظائف والخواص العقلية. كما يبحث هذا الاختصاص من الفلسفة في ماهية العلاقة بين العقل والجسد [1]. ويسعى للإجابة على التساؤلات حول اختلاف العقل عن المادة، وماهية التفكير والإحساس والتجربة والتذكر وغيرها من الوظائف المرتبطة بالعقل دون الجسد [2].

فسر الفلاسفة في هذا الاختصاص طبيعة العقل بطرقٍ عدة. ونتج عن هذه التفسيرات والتحليلات لعلاقة العقل بالجسد أكثر من اتجاه. سنسلط الضوء في هذا المقال على كل من الثنائية (Dualism)، ونظرية هوية العقل (Identity theory)، والوظائفية (Functionalism).

الثنائية في فلسفة العقل – ثنائية العقل والجسد

في تفسيره للعقل واختلافه عن الجسد، يشرح ديكارت (Descartes) أن مكوّنات العقل تختلف اختلافاً كلياً عن مكونات الجسد. فالعقل ذو طبيعة لا مادية، ولكنّ الجسد هو مادة ملموسة [3].

ويؤكد أنصار هذا الاتجاه على الاختلاف الجذري بين العقل والمادة. ويذهبون إلى رفض اعتبار أن العقل والدماغ هما شيء واحد. بل يصل بعضهم إلى حد رفض فكرة أن العقل هو بكلّيّته منتج من منتجات الدماغ. إذاً، كيف يفسر أنصار الثنائية هذا الاختلاف بين العالمين العقلي والمادي؟

تناقش الثنائية المادية أن العقل والجسد مؤلفان من مادتين مختلفتين. فالعقل هو أداة تفكير لا يتمتع بخواص الأشياء المادية كالحجم والشكل والصلابة. ولا يتبع قوانين الفيزياء التي تتأثر بها الأشياء المحسوسة. ويفسر بعض هؤلاء العلاقة بين الجسد والعقل على أنها علاقة تفاعلية يؤثر فيها كل منهما على الآخر [4]. ولكن هذا يضعهم أمام تساؤل عن كيفية تأثر مادتين مختلفتين ببعضهما. فقد واجه ديكارت هذا الاستفسار حول إمكانية العقل البشري، وهو أداة التفكير غير المادية، بأن يحدد تحركات الجسد المادي [3].

نظرية هوية العقل في الفلسفة

من جهة أخرى، ترى نظرية هوية العقل أن العقل هو شيء مادي. ويشرح هذا الاتجاه أن حالات العقل وعملياته هي متطابقة تماماً مع حالات الدماغ وعملياته. والدماغ هو مادة باعتباره عضواً من الجسم البشري. فمثلاً عندما نشعر بالألم، أو نرى شيئاً، أو نتخيل شيئاً، تفسر نظرية هوية العقل أن هذه التجارب التي نعيشها في عقلنا ليست مرتبطة بالدماغ مجرد ارتباط، بل هي عمليات تحصل في الدماغ فعلاً. وتدعي هذه النظرية أن كل الظواهر العقلية تقابلها حالات جسدية. فالشعور بالألم مثلاً، أو الإحساس بالمحبة لشيء ما أو الكره لشيء آخر، يقابله تحفيز لإحدى الألياف العصبية [5].

لكن تواجه نظرية طبيعة العقل تساؤلات من منظور “التحقيقية المتعددة” (Multiple realisability). حيث تطرح فكرة إمكانية تجسيد الحالات العقلية بأكثر من حالة جسدية. كما أنه يمكن للأحياء الأخرى أن تعيش نفس الحالات الجسدية من دون وجود حالات عقلية تشبه تلك الموجودة لدى البشر. فالأحياء تشعر بالألم مثلاً، ولكن أدمغتها ليست كأدمغة البشر، ولا تعيش الحالات العقلية نفسها التي تسبب لدى البشر تحفيز شعور الألم. أي أن هذا الشعور الممثل لحالة عقلية معينة، يتفسر جسدياً بأكثر من طريقة لدى أكثر من كائن. وهذا يتحدى فكرة ارتباط حالة عقلية بحالة جسدية مقابلة لها كما تطرحها نظرية هوية العقل [3] [6].

الوظائفية

وأخيراً، ترى الوظائفية أن الظواهر العقلية لا تُعرَّف بمادتها ومكوناتها. بل هي عبارة عن الوظائف التي تؤديها والدور الذي تلعبه في المنظومة التي تشكل جزءاً منها. وفق هذا، يفسَّر الألم على أنه الحالة التي تخلق شعوراً بوجود شيء ليس على ما يرام في الجسد. وهذا يؤدي إلى رغبة بالخروج من هذه الحالة. حيث أنه يمكن لكل المخلوقات أن تشعر بالألم وتعيش تلك الحالة العقلية إذا أدت لديها نفس الوظيفة. أي إذا خلقت لديها الرغبة بالخروج من هذه الحالة [7].

مقارنة العقل بجهاز الحاسوب

مهدت الوظائفية الطريق لمقارنة العقل بجهاز الحاسوب من ناحية عمله. فالحاسوب هو جهاز لمعالجة المعلومات. يعمل عن طريق تلقي نوع معين من المعلومات (كدفعة كهربائية ناتجة عن ضغط زر معين)، ثم يحولها إلى معلومة من نوع آخر (ظهور حرف معين على الشاشة). ومثله العقل الذي يأخذ المعلومات من الحواس والحالات العقلية التي نعيشها، ثم يعالجها، ويخرج بسلوكيات أو حالات عقلية أخرى.

ولكن تواجه هذه المقارنة بعض التحديات. إذ تعمل الحواسيب على معالجة رموز محددة تتلقاها. وللرمز جانبان مترابطان، هما الجانب البنيوي (syntactic) والجانب المعنوي (semantic). مثلاً، يمكن ربط رمز معين – ولنقل المربع – ببدء نشاط معين – وليكن الرسم. يتمثل الجانب البنيوي بشكل الرمز (أربعة أضلاع وأربع زوايا قائمة). في حين يمثل بدء الرسم الجانب المعنوي المرتبط بالرمز. عند برمجة جهاز حاسوب على هذا، سيبدأ بالرسم فور إدخال رمز المربع. وبنفس الطريقة، عند تعريف العلاقة بين المربع والرسم للعقل، سيقوم بربطهما وبإعطاء الأوامر لبدء الرسم فور رؤية المربع. ولكن الفرق هنا، والذي يمثل تحدياً أو تساؤلاً لتشبيه الحاسوب بالعقل، هو أن الحاسوب يعمل فقط على الجانب البنيوي للمعلومة أو الرمز الذي يعطى له. فهو مبرمج على إعطاء مخرج معين عند إعطائه مدخلاً ما، ولكنه لا يفهم الجانب المعنوي للرمز. ولا يعمل وفقاً لمعناه. بل يركز فقط على شكله [3].

إذاً، تمثل طبيعة العقل موضوعاً شائكاً في الفلسفة أدى إلى ظهور فلسفة العقل المختصة بهذا السياق. ولا يمكن القول بأنه يوجد اتفاق على طبيعة العقل وعلاقته بالجسد. بل توجد عدة اتجاهات ترى هذا الموضوع من منظار معين لكل منها. وبنفس الوقت، تواجه كل منها تحديات وتساؤلات تؤدي إلى الخروج باتجاهات أخرى.

اقرأ أيضاً: كيف تتواصل مع دماغك؟ معضلة العقل والجسم

المصادر:

أبرز أفكار القرن العشرين:حركة التنوير

تم إعادة توجيه السياسة الأوروبية والفلسفة والعلوم والاتصالات بشكل جذري خلال “القرن الثامن عشر” (1685-1815) كجزء من حركة أشار إليها المشاركون باسم عصر العقل، أو ببساطة التنوير. فكانت من أبرز أفكار القرن العشرين:حركة التنوير، إذ شكك مفكرو التنوير في بريطانيا وفرنسا وفي جميع أنحاء أوروبا في السلطة التقليدية واعتنقوا فكرة أنه يمكن تحسين الإنسانية من خلال التغيير العقلاني.

حركة التنوير هي حركة فلسفية هيمنت في أوروبا خلال القرن الثامن عشر، تتمحور حول فكرة أن العقل هو المصدر الرئيسي للسلطة والشرعية، ودافعت عن مُثل مثل الحرية  والتقدم والتسامح  والأخوة  والحكومة الدستورية، كما دعت إلى الفصل بين الكنيسة والدولة. فقد تميزت بالتركيز على الطريقة العلمية  والاختزال، إلى جانب زيادة التشكيك في الأرثوذكسية الدينية. قوضت أفكار التنوير سلطة الملكية  والكنيسة، ومهدت الطريق للثورات السياسية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. يضع المؤرخون الفرنسيون تقليديا التنوير بين 1715، وهو العام الذي توفي فيه لويس الرابع عشر، و 1789، بداية الثورة الفرنسية. بعض المؤرخين الحديثين أرجعوا عصر التنوير إلى الفترة 1620، مع بداية الثورة العلمية. ومع ذلك، ازدهرت أصناف وطنية مختلفة من الحركة بين العقود الأولى من القرن الثامن عشر والعقود الأولى من القرن التاسع عشر.

العقلانية، لب حركة التنوير

تعرف العقلانية بأنها الاعتقاد بأننا نأتي إلى المعرفة من خلال استخدام المنطق،  وبالتالي بشكل مستقل عن التجربة الحسية، كانت حاسمة لمناقشات فترة التنوير، عندما أشاد معظم الفلاسفة بقوة العقل لكنهم أصروا على أن المعرفة تأتي من التجربة.

فلسفة الحركة التنويرية

دعت فلسفة الحركة التنويرية إلى مجتمع قائم على العقل بدلا من الإيمان والعقيدة الكاثوليكية، من أجل نظام مدني جديد قائم على القانون الطبيعي، وللعلم القائم على التجارب والمراقبة.

في منتصف القرن الثامن عش، شهدت أوروبا انفجارًا في النشاط الفلسفي والعلمي الذي تحدى المذاهب والعقائد التقليدية. قاد الحركة الفلسفية فولتير وجان جاك روسو، أولئك الذين جادلوا من أجل مجتمع قائم على العقل بدلاً من الإيمان والعقيدة الكاثوليكية، لنظام مدني جديد قائم على القانون الطبيعي، وللعلم القائم على التجارب والمراقبة.

وقدم الفيلسوف السياسي مونتيسكيو- Montesquieu فكرة فصل السلطات في الحكومة، وهو مفهوم اعتمده بحماس مؤلفو دستور الولايات المتحدة. في حين أن فلاسفة التنوير الفرنسي لم يكونوا ثوريين، وكان العديد منهم أعضاء في طبقة النبلاء، لعبت أفكارهم دورًا مهمًا في تقويض شرعية النظام القديم وتشكيل الثورة الفرنسية.

كان هناك خطان متميزان لفكر التنوير: التنوير الراديكالي ، المستوحى من فلسفة سبينوزا- Spinoza، والدعوة إلى الديمقراطية، والحرية الفردية، وحرية التعبير، والقضاء على السلطة الدينية. سعى تنوع ثان أكثر اعتدالاً، بدعم من رينيه ديكارت وجون لوك وكريستيان وولف وإسحاق نيوتن وغيرهم، إلى التوفيق بين الإصلاح والأنظمة التقليدية للسلطة والإيمان.

تطور بشكل كبير مضمون المنهج العلمي (طبيعة المعرفة  والأدلة  والخبرة والسببية)، وبعض المواقف الحديثة تجاه العلاقة بين العلم والدين، من قبل ديفيد هيوم-David Hume وآدم سميث. أصبح هيوم شخصية رئيسية في التقاليد الفلسفية والتجريبية المتشككة للفلسفة. كما حاول إيمانويل كانط – Immanuel Kant التوفيق بين العقلانية والمعتقد الديني والحرية الفردية والسلطة السياسية، وكذلك رسم وجهة نظر للمجال العام من خلال العقل الخاص والعام. استمر عمل كانط في تشكيل الفكر الألماني -في الواقع كل الفلسفة الأوروبية- في القرن العشرين. أيضًا كانت ماري وولستونكرافت واحدة من أوائل الفلاسفة النسويين في إنجلترا. وجادلت من أجل مجتمع قائم على العقل، وأن النساء وكذلك الرجال ، يجب أن يعاملوا ككائنات عقلانية.

كما لعبت أفكار التنوير دورًا رئيسيا في إلهام الثورة الفرنسية، التي بدأت في عام 1789 وأكدت على حقوق الناس العاديين، على عكس الحقوق الحصرية للنخب والنبلاء. ومع ذلك، يلاحظ مؤرخو العرق والجنس والطبقة أن المُثل العليا للتنوير لم يتم تصورها في الأصل على أنها عالمية بالمعنى الحالي للكلمة. على الرغم من أنها ألهمت في نهاية المطاف النضال من أجل حقوق الأشخاص الملونين أو النساء أو الجماهير العاملة، إلا أن معظم مفكري التنوير لم يدعوا إلى المساواة للجميع، بغض النظر عن العرق أو الجنس أو الطبقة، بل أصروا على أن الحقوق والحريات ليست وراثية. هاجم هذا المنظور مباشرة الموقف الحصري التقليدي للأرستقراطية الأوروبية، لكنه كان لا يزال يقتصر إلى حد كبير على توسيع الحقوق السياسية والفردية للذكور البيض ذوي المكانة الاجتماعية الخاصة.

العلوم وحركة التنوير

سيطر العلم خلال عصر التنوير من قبل الجمعيات العلمية والأكاديميات, التي حلت إلى حد كبير محل الجامعات كمراكز للبحث العلمي والتنمية. كانت المجتمعات والأكاديميات أيضا العمود الفقري لنضج التطور العلمي. ومن التطورات الهامة الأخرى تعميم العلم بين السكان الذين يعرفون القراءة والكتابة بشكل متزايد. وصلت العديد من النظريات العلمية إلى جمهور واسع ، لا سيما من خلال الموسوعة (موسوعة عامة نشرت في فرنسا بين عامي 1751 و 1772) وتعميم النيوتونية.

وقد شهد القرن الثامن عشر تقدما كبيرًا في ممارسة الطب, الرياضيات, والفيزياء; تطوير التصنيف البيولوجي; فهم جديد للمغناطيسية والكهرباء; ونضوج الكيمياء كنظام, الذي أسس أسس الكيمياء الحديثة.

الدين وخُطى الحركة التنويرية

أتت ىالحركة التنويرية بمثابة الرد على الصراع الديني في أوروبا خلال القرن السابق. سعى مفكرو التنوير إلى الحد من القوة السياسية للدين المنظم، وبالتالي منع عصر آخر من الحرب الدينية غير المتسامحة. تطور عدد من الأفكار الجديدة، بما في ذلك الإلحاد (الإيمان بالله الخالق، دون الإشارة إلى الكتاب المقدس أو أي مصدر آخر). وقد نوقش هذا الأخير كثيرًا ولكن كان هناك عدد قليل من المؤيدين. مثل فولتير، رأوا أنه بدون الإيمان بإله يعاقب الشر، قُوض النظام الأخلاقي للمجتمع.

أما عن ةدور الكنيسة فقد روج التنوير الراديكالي لمفهوم فصل الكنيسة والدولة، وهي فكرة غالبًا ما تنسب إلى لوك. فوفقا لمبدأ لوك للعقد الاجتماعي، تفتقر الحكومة إلى السلطة في مجال الضمير الفردي، إذ لم يستطيع الناس العقلانيون التنازل للحكومة من أجل السيطرة عليها أو غيرها. بالنسبة إلى لوك، خلق هذا حقًا طبيعيًا في حرية الضمير، والذي قال إنه يجب أن يظل محميًا من أي سلطة حكومية. تلك الآراء حول التسامح الديني وأهمية الضمير الفردي, جنبًا إلى جنب مع العقد الاجتماعي، أصبحت مؤثرة بشكل خاص في المستعمرات الأمريكية وصياغة دستور الولايات المتحدة. في حين سيطر الرجال على فلسفة وقضايا و أفكار حركة التنوير، انبثقت مشكلة  دور المرأة . فقد ظهرت مسألة حقوق المرأة كواحدة من أكثر الأفكار إثارة للجدل. ماري وولستونكرافت- Mary Wollstonecraft، واحدة من المفكرين الإناث القلائل في ذلك الوقت، كانت كاتبة وفيلسوفة وداعية لحقوق المرأة. وهي معروفة بدعمها لحقوق المرأة، والتي تجادل فيها بأن المرأة ليست أقل شأنا من الرجل بشكل طبيعي ، ولكنها تبدو فقط لأنها تفتقر إلى التعليم. وتقترح أن يعامل كل من الرجال والنساء ككائنات عقلانية ويتخيل نظاما اجتماعيا قائما على العقل.

أهم ما أنتجه عصر التنوير

كان عصر التنوير عصر غزير الإنتاج، فلعل أبرز ما أنتجه التنوير هو الثورة العلمية، والتي أنتجت العديد من الكتب والمقالات والاختراعات والاكتشافات العلمية كذلك القوانين والحروب والثورات. كانت الثورات الأمريكية والفرنسية مستوحاة بشكل مباشر من المُثل العليا للتنوير وكانت على التوالي ذروة نفوذها وبداية تراجعها. أعطى التنوير في نهاية المطاف الطريق إلى الرومانسية في القرن ال19. كما آلت إلى تطوير نظام لقوانين الطبيعة العالمية، فسرعان ما أصبع العلم نموذجًا لكل المعرفة البشرية.

  • منهج التشكيك، إذ شكك فولتيير في أي شيء خارج نطاق العلم، ودعا إلى التسامح بالنسبة إلى المعتقدات التي تقع خارج حدود العلم، فهي لا تنشأ ولا يمكن دحضها من قبل الألية العلمية، مُصورا مفهوم العقلانية.
  • حرر Denis Diderot-دينيس ديديروت، 28 مجلد موسوعي، العالم الذي اعتقد بأن العلم يبرر المادية، فكانت نظرته للعالم تصفه بأنه يتكون من المادة فقط. فقد كتب أن العالم ماهو إلا كتلة من الجزيئات.
  • جادل بارون بول دي هولباخ- بأن العالم والعلم مبنيان على أسس مادية، كما رسم ملامح الإلحاد ووصفه بعدم وجود الله.
  • إيمانويل كانط، الفيلسوف الألماني في القرن الثامن عشر، كتب مقالا بعنوان ما هو التنوير؟

مشيرًا إلى أن التنوير هو انسلاخ الإنسان من القصور الذي تكبده بنفسه. القصور ذلك هو عدم القدرة على الاستفادة من فهم المرء دون توجيه من آخر. يتم تكبد هذا القصور ذاتيًا لسببين أساسيين هما، التكاسل : تكاسل المرء عن الاعتماد على نفسه في التفكير مما أدى إلى تخلفهم، والجبن: الذي هيأ الفرصة للإخرين كي تقوم باستغلالهم. اختلف العلماء عند هذا المبحث، فبعضهم تجريبي، اعتقد أن كل المعرفة تأتي من التجربة، والبعض الآخر عقلاني، اعتقد أن بعض المعرفة في العالم “بداهة”أو فطري، أي شيء مستقل عن الخبرة

الثورة العلمية: لمحة سريحة

تُفهم الثورة العلمية على أنها فترة تاريخية والتي تضع حتما حدود “المكان والزمان والموضوع” – أي أن فترات زمنية محددة بعناصر جغرافية وزمنية وموضوعية، تشير إلى التطورات أو الحركات الأوروبية التي تمتد على فترات لا تقل عن 75 إلى 185 سنة. وتشمل هذه التطورات تغيير العلاقات المفاهيمية والثقافية والاجتماعية والمؤسسية التي تنطوي على الطبيعة والمعرفة والمعتقد. نمت الثورة العلمية معقدة على نحو متزايد. كما حاولت أن تأخذ في الاعتبار البحوث الجديدة ووجهات النظر البديلة ، تم إجراء إضافات وتعديلات جديدة. من بين الإضافات الأكثر وضوحًا.

يعتبر التنوير أهم جذور المشاكل الفكرية التى ظهرت في القرن العشرين، فظهرت فكرتان واضحتان من التنوير هما:

  • أن العلم يعطينا وصفا كاملا للواقع، تحديدا العلوم الطبيعية، كأساسًا للعلوم التي تستجيب لتساؤلات الإنسان، فما يمكن أن يدرس، يُدرس بالعلم، وما يمكن أن يعرف، يُعرف بالعلم.
  • يمكننا صياغة نظرية شاملة للأخلاقيات و السياسات، لما يجب عليك كفرد فعله، وما يجب علينا كجماعة. يمكننا القيام بذلك، وتطبيقه على النماذج العامة للعلوم.

على ما يبدوا أن ظهرهناك توترًا واضحًا بين الفكرتين!

فالعلم يخبرنا ما الفكرة ولماذا هي، وليس كيف يجب أن تكون. هنا تقبع الفجوة، بين ماهية الفكرة وما يجب، هناك فجوة بين الواقع والقيمة المشكلة هنا مشكلة معيارية، فالعلم لا يصف بل يقيم.

بدأت الثورة العلمية في القرن الخامس عشر، تشير”الثورة العلمية” إلى التغيرات التاريخية في الفكر والمعتقد، كما تشيرإلى التغيرات في التنظيم الاجتماعي والمؤسسي، التي تكشفت في أوروبا بين 1550-1700 تقريبا.

بدءاً من Nicolaus Copernicus-نيكولاس كوبرنيكوس (1473-1543)، الذي أكد على كون مركزية الشمس، وانتهت مع إسحاق نيوتن (1642-1727)، الذي اقترح قوانين عالمية والكون الميكانيكي. في التاريخ الأوروبي يشير مصطلح “الثورة العلمية” إلى الفترة بين كوبرنيكوس ونيوتن. لكن الفترة الزمنية اختلفت بشكل كبير على مدى السنوات ال 50 الماضية. فبعد وفاة نيوتن (1727)، قد اقترحت مقترحات أكثر تطرفا أن الثورة العلمية قد تنطبق على ما يسمى التنوير “النيوتونيين”

يميل مفكرو التنوير إلى افتراض أنه يمكننا معرفة الطبيعة  والقوانين من الطبيعة والبشر والمجتمع والأخلاق والسياسة،

إذا كان العالم ليس سوى كتلة من الجزيئات المتحركة –وفقًا لقوانين الطبيعة الموضوعة- فكيف وبأي أداة يمكننا أن نضع المعايير والقيم؟

ما معنى أن هناك حديثًا يمكن أن يصاغ حول الصواب والخطأ، الخير والشر، العدالة والظلم؟ كيف يمكننا القيام بذلك من خلال النظر في حركات الكواكب والنجوم؟ كيف وقد دعا عصر التنوير إلى فرض العقل والمادية البحتة في قياس وتحديد ماهية أي شيء حولنا؟

المصادر

history

stanford

historyhit

النظرية والتجربة عند بويل وهنري مور ونقد الفرضية العلمية

هذه المقالة هي الجزء 9 من 9 في سلسلة محطات مهمة عن الثورة العلمية

النظرية والتجربة عند بويل وهنري مور ونقد الفرضية العلمية

ماذا يحدث عندما يفسر أشخاص مختلفون التجربة نفسها بطرق مختلفة؟ هم لم ينفوا التقرير التجريبي ذاته، أي أنهم لم ينفوا حقيقة أن استخراج الهواء من مضخة الهواء، سيبقي قطعتا الرخام ملتصقتين في الهواء. لكن ما سبب الجدل والخلاف بينهم هو افتراض بويل نفسه!

بالنسبة لبويل، لم تنفصل قطعتا الرخام عن بعضهما نظرًا لاختلاف ضغط الهواء في قمة قطعتي الرخام وفي القاع. كانت هذه نظرية بويل عن الزنبرك أو مرونة الهواء. ومع ذلك، فإن أشخاصًا آخرين -بسبب معتقداتهم اللاهوتية أو الميتافيزيقية- لم يقبلوا رأيه.

شرح الآخرون ما حدث في مضخة الهواء بطرق مختلفة. لم يقبل فرانسيس لينوس مثلًا نظرية مرونة الهواء. إذ افترض لينوس أن بعض الهواء المخلخل كان يشغل المساحة الكاملة في مضخة الهواء بالفعل لكن هناك شيء آخر مثل الخيط يحافظ على قطعتي الرخام ملتصقتين في الهواء. [1]

هنري مور وروبرت بويل

كذلك هنري مور، الذي انتقد ادعاء بويل بافتراض أنه إذا حدث امتصاص للهواء من مضخة الهواء حقًا، فستميل الطبيعة لإعادة ملئه بمجرد غياب قوة تعيقه. واعتبر أن هذا ينطوي على افتراض أساسي مفاده أن المادة ستعيد ملء الفراغ. اعتقد هنري مور أن الفلسفة الميكانيكية وحدها -كالتي اعتمدت عليها نظرية مرونة بويل- لا يمكنها تفسير الظواهر.

ظن هنري أن وجود كائن غير مادي ضروري لشرح الظواهر التي تلاعبت بها بمضخة الهواء. في هذا المثال، يمكننا أن نرى كيف يمكن لمعتقدات المرء أن تؤثر على الطريقة التي يصف بها الظاهرة ذاتها. لم تكن تلك سمة من سمات العلم الحديث، بل هي سمة من سمات العلم بشكل عام. تعتبر العلاقة بين النظرية والتطبيق من أكثر القضايا تعقيدًا في النهج العلمي. [2]

لفترة وجيزة، اعتبر أن التجارب الحديثة المبكرة تستخدم فقط لاختبار الفرضيات والنظريات. هذا يعني أنها صُممت خصيصًا لتأكيد أو رفض الادعاء النظري، كما رأينا بالفعل في مثال تجربة المثانة لتأكيد الفرضية القائلة بأن الهواء يتحول إلى ماء بسبب البرد. بعد ذلك، أصبح للتجارب -حتى في الفترة الحديثة المبكرة- وظائف أكثر من مجرد اختبار للفرضيات. غالبًا ما تستخدم التجارب للإجابة على الأسئلة المفتوحة وصياغتها بشكل مختلف. بعبارة أخرى، صممت التجارب خصيصًا لتوفير معلومات حول ظاهرة ما؛ معلومات لم تكن موجودة في السؤال الأولي المطروح وهو أمر جديد حقًا بالنسبة للعلماء حينها. لكن هذا لا يعني أن التجارب مستقلة تمامًا عن النظرية. لا تزال التجارب مصممة للإجابة على سؤال معين، مما يجعلها مصممة للنظرية. [4]

بين بويل ونيوتن و نقد الفرضية العلمية

قَبِل بويل استخدام الفرضيات إذا كانت مؤقتة. واعتبر أن التجارب ستوفر معلومات كافية في النهاية لتوضيح المعرفة النظرية المثبتة. من ناحية أخرى، اعترض نيوتن على استخدام الفرضيات في الفلسفة الطبيعية، واعتقد بضرورة البحث في الطبيعة دون أي التزامات نظرية. ومع ذلك، استندت تحقيقاته الخاصة إلى بعض الفرضيات الأساسية، مثل النظرية الجسيمية للمادة.

اعتقد روبرت بويل أنه يمكن للفرضيات أن تصبح جزءًا من الفلسفة التجريبية إذا كانت تخمينية، ورأى أن التجربة ستخلق في النهاية معرفة يقينية. لكن رفض إسحاق نيوتن قبول الفرضية في الفلسفة التجريبية، معتبرًا إياها عائق على التحقق العلمي. واختلفا في أن المعرفة النظرية الوحيدة المقبولة هي تلك التي يجب أن تكون مستنبطة بالكامل من النتائج التجريبية.

الفرضية العلمية بين الأمس واليوم

تقدم مناهجنا الحديثة اليوم الطريقة العلمية كمرادف لاختبار الفرضيات. ومع ذلك، فإن الفرضيات هي مجرد أفكار حول كيفية عمل الطبيعة، أو ما أسماه العالم والفيلسوف ويليام ويويل من القرن التاسع عشر “التخمينات السعيدة”. وتنظم الفرضيات تفكيرنا بشأن ما قد يكون صحيحًا، بناءً على ما لاحظناه حتى الآن. فإذا كان لدينا تخمين حول كيفية عمل الطبيعة، فإننا نجري تجارب لاختبار التخمين.

في العلوم الكمية، يتمثل دور النظرية في إيجاد نتائج التخمين بالاقتران مع الأشياء التي نعرفها. ربما تكون الفرضية الأكثر شهرة في كل العلوم هي أن الأنواع الجديدة تنشأ من فعل الانتقاء الطبيعي على الطفرات العشوائية. بنى تشارلز داروين فرضيته على ملاحظة بعض الأنواع خلال رحلته الشهيرة إلى جزر غالاباغوس. فرضية داروين -عندما كانت مجرد فكرة- تنطبق على كل أشكال الحياة، في كل مكان وفي جميع الأوقات، مشحونة بقوة تنبؤية.

اختبرت أجيال من علماء الأحياء فرضية داروين تلك وبنت عليها مع مجموعة واسعة من الاكتشافات الجديدة. أصبحت نظرية التطور الآن راسخة باعتبارها الركيزة المركزية لعلم الأحياء، وكذلك مدعومة بالأدلة مثل أي نظرية في العلوم. ولكن ما الذي كان سيكتبه داروين لو أنه اضطر إلى كتابة مقترح بحثي لتمويل رحلته على متن سفينة بيجل الشهيرة؟ لم تكن لديه فرضية الانتقاء الطبيعي حينها بالطبع، أي قبل الرحلة. لقد نشأت فرضيته من الملاحظات ذاتها التي ينوي القيام بها. إذا كتب، بصدق، أن “الجزر المعزولة التي سنزورها هي مختبرات طبيعية ممتازة لمراقبة ما سيحدث للأنواع الوافدة إلى منطقة جديدة”، فسيُحكم على مقترحه البحثي وفقًا لمعايير اليوم باعتباره مقترح رحلة صيد بدون فرضية قوية. [3]

هل استخدم نيوتن الفرضية العلمية رغم نقده لها؟

ماذا عن نيوتن نفسه رغم احتجاجه على استخدام الفرضية؟ حدد نيوتن المتغيرات الصحيحة لمشكلة حركة الكواكب وهي القوة والزخم. لكن إذا وضعنا أنفسنا مكان نيوتن لنقرأ مقترحه البحثي بعيون اليوم، سنجده يكتب مثلاً: “أفترض أن العزم والقوى هي المتغيرات الصحيحة لوصف حركة الكواكب. أقترح تطوير طرق رياضية للتنبؤ بمداراتها، وسأقارنها مع الملاحظات الحالية “.

أعمال نيوتن لم تكن تخمينًا حول كيفية عمل الطبيعة، ولكنها أفضل طريقة لوصف الحركة رياضيًا، والتي من خلال نجاحها الواسع رسّخت مفاهيم بديهية للقوة والزخم والطاقة.

“لم أتمكن حتى الآن من اكتشاف سبب خصائص الجاذبية هذه من الظواهر، ولن أضع فرضيات. فكل ما لم يتم استنتاجه من الظواهر يجب أن يسمى فرضية؛ والفرضيات، سواء كانت ميتافيزيقية أو مادية، أو قائمة على صفات غامضة أو ميكانيكية، ليس لها مكان في الفلسفة التجريبية. ففي هذه الفلسفة يتم استنتاج افتراضات معينة من الظواهر، وبعد ذلك يتم تحويلها إلى عامة عن طريق الاستقراء.”

إسحاق نيوتن

دوامات الجاذبية لرينيه ديكارت وكريستيان هيغنز

كتب نيوتن ردًا على نظريات دوامة الجاذبية التي وضعها رينيه ديكارت وكريستيان هيغنز. إذ تخيلا أن ما يسمى بالفضاء الفارغ مليئًا في الواقع بدوامات من الجسيمات غير المرئية التي اجتاحت الكواكب في مداراتها. فكرة الدوامة هي بالتأكيد تخمين حول كيفية عمل الجاذبية. لكنه ليس التخمين المفيد للغاية. إن فكرة الجسيمات غير المرئية التي تكشف عن نفسها فقط من خلال التأثيرات على الكواكب البعيدة التي يصعب الوصول إليها هي فكرة مطاطة وليست محددة بما يكفي لتقديم تنبؤات قابلة للاختبار. بلغة فيلسوف العلوم في القرن العشرين كارل بوبر، لا يمكن دحضها بسهولة.

لم يقدم نيوتن قصة عن آلية خيالية تفسر سبب الحفاظ على الزخم أو كيفية نشوء الجاذبية. بدلاً من ذلك، صاغ قواعد بسيطة تصف كيفية تحرك الكواكب. وكما تبين فيما بعد أنها تفسر كيف يتحرك كل شيء تقريبًا في الظروف العادية. وكما كانت رؤية نيوتن قوية، فإن وصفه للجاذبية كان أيضًا ذو خاصية مقلقة تتمثل في ذلك “الأثر المخيف الذي يقع” من الشمس على الكواكب، وفي الواقع من كل كتلة على كل كتلة أخرى.

الفرضية بين نيوتن وأينشتاين والعلم الحديث

استغرق الأمر 250 عامًا أخرى لشرح الأصل المادي للجاذبية. فكانت فرضية ألبرت أينشتاين حول الجاذبية ميكانيكية، بخلاف نيوتن، حيث تحني الكتلة الفضاء. ونتيجة لذلك، تنحني الخطوط المستقيمة بالقرب من الأجسام الضخمة، بما في ذلك مسار الضوء من النجوم البعيدة التي تمر بالقرب من الشمس في طريقها إلى تلسكوباتنا. لقد استغرق أينشتاين سنوات لتطوير معادلات رياضيات لإظهار أن وصف نيوتن، الذي كان متسقًا مع العديد من الملاحظات، كان مجرد تقدير. كما استغرق سنوات لصياغة تنبؤات مذهلة للأشياء التي تحدث للكتل الضخمة مثل الانهيار في الثقوب السوداء أو عندما تتحرك الكتل الكبيرة بسرعة هائلة مثل موجات الجاذبية.

فلماذا يتركز التمويل البحثي الحديث في يومنا هذا على البحث المبني على الفرضيات؟ إن التصميم التجريبي القائم على الفرضيات هو الأنسب لبعض المجالات المؤثرة، وخاصة البيولوجيا الجزيئية والطب. يدرس الباحثون في تلك المجالات أنظمة معقدة وغير قابلة للاختزال (كائنات حية)، ولديهم تحقيقات تجريبية محدودة، وغالبًا ما يُجبرون على العمل بمجموعة بيانات صغيرة. لا مفر من أن يكون البروتوكول التجريبي الأكثر شيوعًا في هذه المجالات هو الضغط على نظام حي معقد من خلال إعطائه عقارًا أو مادة كيميائية ثم قياس بعض الاستجابة غير المباشرة ذات الصلة. ويعتقد البعض أن هذه التجارب تعيش وتموت من خلال الاختبار الإحصائي، مما دفعهم إلى نقد الفرضية العلمية.

عن نقد الفرضية العلمية اليوم

يعتقد البعض أن هذا نموذج ضيق للغاية لما يمكن أن تكون عليه التجارب. ففي العلوم الفيزيائية، يصبح الباحثون أكثر قدرة على التعامل مع النظام المهتمون بدراسته وتبسيطه. كما يتمتعون أيضًا بتقنيات تجريبية أقوى من نواحٍ عديدة وتعتبر امتدادات لحواس الإنسان. تسمح تلك التقنيات برؤية المادة، والاستماع إلى كيفية رنينها استجابة لتعرضها لضغوط من المجالات الكهرومغناطيسية، ليشعر الباحث بكيفية استجابتها للدفع الحساس على مقياس النانو.

حين تتمكن من القيام بهذه الأشياء، يمكن أن تصبح التجارب أكثر بكثير من مجرد اختبار فرضيات، أي اختبار ما إذا كان تغيير X يؤثر على Y بدلالة إحصائية. في الواقع، يمكن النظر إلى تاريخ العلم باعتباره تطورًا لطرق جديدة لاستكشاف الطبيعة. لم يكن تلسكوب هابل الفضائي مدفوعًا بفرضية بل رغبة في النظر بعيدًا في عمق الكون. تمكّن الأرصاد والبيانات المأخوذة من هابل والتلسكوبات الحديثة الأخرى من صياغة واختبار فرضيات جديدة حول الكون المبكر. غالبًا ما يعتمد التقدم في العلم على التقدم في كيفية قياس شيء مهم. وبعد قرن من أينشتاين، أكدت أجهزة الكشف فائقة الحساسية توقعه لموجات الجاذبية.

تعتمد هذه الكواشف على أفكار ذكية لاستخدام الليزر وقياس التداخل لقياس تغيرات طفيفة للغاية في المسافة بين نقطتين على الأرض. ما كان لهذا العمل أن يصبح مدفوعًا بالفرضية، إلا بالقول بأن النسبية العامة تتنبأ بموجات الجاذبية. وبالمثل، غالبًا ما يعتمد التقدم في العلوم الكمية على التقدم في قدرتنا على حساب عواقب الفرضيات الموجودة بالفعل.

في تقييم مقترحات البحث اليوم، يعتقد البعض أنه يجب يكون المعيار الرئيسي هو ما إذا كان المقترح البحثي سيساعدنا في الإجابة عن سؤال مهم أو الكشف عن سؤال جديد كان يجب طرحه. فهل تتفق مع نقد الفرضية العلمية اليوم كمعيار في المقترحات البحثية أم أنها ضرورية حقًا؟

المصادر:
[1] Journals Index copernicus
[2] Jstor
[3] Physics Today
[4] Futurelearn: The Roots of the scientific Revolution

فلسفة الشهادة وعلاقتها بالمعرفة

هذه المقالة هي الجزء 8 من 11 في سلسلة مدخل إلى الفلسفة وفروعها

فلسفة الشهادة وعلاقتها بالمعرفة

تركز فلسفة الشهادة على دراسة ما يتم تناقله بين الأشخاص ويمكن أن يكون أساساً معرفياً. تعد الشهادة (Testimony) مصدراً كبيراً لما نعرفه عن العالم من حولنا. والشهادة هنا تعني ما يخبرنا به الآخرون – أي ما يشهد به الآخرون. فنحن نعرف التاريخ من الكتب التي كتبها المؤرخون، ونعرف الأخبار مما نقرأه في الصحف أو نراه على شاشة التلفاز. كما أن العلم وتطوراته كافة تأتينا عن طريق “الشهادة” من أشخاص قاموا بأبحاث ودراسات وأطلعونا على نتائجها [1].

تعريف فلسفة الشهادة

تركز فلسفة الشهادة أو نظرية معرفة الشهادة (Epistemology of Testimony – Philosophy of Testimony) على كيفية تقييم هذه الاعتقادات التي نبنيها على شهادات الآخرين. فتطرح تساؤلات حول إمكانية تبرير هذه الاعتقادات، ومتى يمكن لها أن ترقى لمستوى المعرفة [2].

يمكن تعريف فلسفة الشهادة على أنها التقاء “طبيعة المعرفة” و”اللغة”، وهما من المواضيع المهمة في الفلسفة. فما نكتسبه من شهادة الآخرين – ويمكن أن نعتبره معرفة – يصل إلينا عن طريق اللغة. فالمرء الناقل للشهادة يحتاج وسطاً ينقل به شهادته، ويشترط لتحقيق عملية نقل فعالة أن يكون هذا الوسط ملائماً للمتلقي. إذ إنّ هذا الوسط هو ما يمكن للشخص الآخر اكتساب المعرفة من الشهادة عن طريقه. ويتمثل هذا الوسط بشكل رئيسي باللغة التي نقرأها أو نسمعها [3].

وعند التدقيق في هذين العاملين، نرى أن انتشار المعرفة عن طريق اللغة هو أمر واقع لا غبار عليه. فنحن نسمع أو نقرأ شهادة غيرنا، ونفهمها، من خلال اللغة التي توصلها لنا. ولكن الجدال يكمن في طبيعة هذه المعرفة. وكما ذُكر آنفاً، تطرح فلسفة الشهادة تساؤلات حول إمكانية اعتبار ما يصلنا بطريق الشهادة على أنه معرفة [3]. وهنا تختلف وجهات النظر المجيبة على هذا التساؤل.

الاختزالية (Reductionism)

ترى الاختزالية أنه يشترط لاكتساب المعرفة عن طريق الشهادة أن يكون لدينا أسباب موجبة للإيمان بأن الشخص الناقل للشهادة هو محلّ ثقة [2]. وفي هذا الصدد، يعد الفيلسوف ديفيد هيوم (David Hume) من أوائل المنادين بأهمية الدليل في تبرير تصديق الشهادة. وهذا الدليل، إما أن يكون دليلاً على مصداقية الشخص المعني، أو دليلاً عاماً على مصداقية البشر بالمجمل [4].

ويرى هيوم أن ثقتنا تتناسب طرداً مع معقولية محتوى الشهادة. أي أنها تتناقص بالقدر الذي تكون فيه الشهادة غير اعتيادية أو غريبة. والعكس صحيح، فعادة ما نميل إلى تصديق ما يقوله الآخرون إذا كان أقرب للواقع، أو إذا كان لحدوثه احتمالية عالية [4].

لنفرض أنك ذهبت إلى مقهى وطلبت فنجاناً من القهوة. ولكن النادل اعتذر عن تلبية طلبك لأن آلة صنع القهوة معطلة. يسهل هنا تصديق شهادة النادل نتيجة ارتفاع احتمال حدوثها. ولكن تخيل أن يقول لك النادل أن فضائيين أتوا ليلاً وسرقوا مخزون القهوة من المقهى، ولهذا لا يمكنه تلبية طلبك. مع هذه الشهادة، يصعب إعطاء المصداقية لناقلها. فمن غير المحتمل، بل ربما من المستحيل، أن يحدث هذا في الواقع [4].

ويتوسع هيوم في شكوكه حول الشهادة، ويطال بذلك المعجزات (miracles). ففي كتابه مبحث في الفاهمة البشرية، يعبر عن رأيه بوجوب عدم تصديق حدوث المعجزات بناءً على شهادة الغير. حيث يعرّف المعجزة على أنها “نقض لقوانين الطبيعة.” وعليه، لا يرى أنه من الممكن أن تصل أية شهادة إلى درجة من المصداقية يمكن معها تصديق حدوث شيءٍ منافٍ لقوانين الطبيعة. والاستثناء الوحيد الذي يطرحه هيوم، والذي يمكن معه تصديق حدوث المعجزة، هو أن يكون عدم حدوثها أمرٌ أكثر إعجازاً وأكثر غرابة من حدوثها [4].

يدعم هيوم موقفه من الشهادة بأن الناس عادة ما يميلون إلى إعطاء شهادات غير دقيقة. ربما يكون هذا بدافع الكذب أو المزاح أو المبالغة. وربما يكون من دون دافع، أي أنهم لا يعلمون أن شهادتهم خاطئة، بل لديهم اعتقاد بأن ما يقولونه هو الصواب [4].

اللا اختزالية (Non-Reductionism)

من جهة أخرى، يرى منتقدو الاختزالية أن الأدلة الموجِبة غير ضرورية. بل للمرء حق مفترض بتصديق شهادة الآخرين، طالما أنه لا يوجد سبب قاهر يقتضي عدم تصديق ناقل الشهادة. فتصديق الشهادة في هذه الحالة هو الأمر الطبيعي [1].

ويعد الفيلسوف توماس ريد (Thomas Reid) من مناصري هذا الفكر الذي يعبر عن جاهزية أكبر ورغبة أقوى في تصديق الغير. حيث يدافع ريد عن رأيه عن طريق الأطفال الذين يميلون إلى تصديق كل ما يسمعونه، مع أنهم لا يملكون أية قاعدة استقرائية من تجارب سابقة. ويقول إنه إذا كانت الرغبة في تصديق الآخرين مبنية على التفكير والتجارب، فبالأحرى لها أن تتعزز مع تزايد التجارب والقدرة على التفكير المنطقي. لكن ما يحدث هو أن هذه الرغبة أو الجاهزية تكون في أقوى درجاتها عندما تأخذ شكل الفطرة أو الهبة الطبيعية. تكون الفطرة وفقًا لما هو متعارف عليه لدى الأطفال، مما يدفعهم تلقائياً إلى تصديق كل ما يقال لهم. لكنها تتضاءل مع تقدمهم في العمر ومرورهم بالتجارب وتشكيلهم للمنطق [2].

على عكس فكرة هيوم الذي يرى أنه من الممكن للبشر أن ينطقوا بشهادات مغلوطة لأسباب متعددة، يرى ريد أنه من الممكن لنا أن نعتمد على شهادة المتحدث للأسباب التالية. أولاً، إن البشر يتمتعون بميل لقول الحقيقة. ثم إن لديهم نزعة لتصديق ما يسمعون. وأخيراً يستطيعون أن يشعروا عندما يكون المتحدث غير أهل للثقة [1].

ومن غير المستغرب هذا الموقف من ريد. فهو رجل دين، يرى الأمور من منظور مؤمن بالطبيعة البشرية كإيمانه بخالقها. أما هيوم، فقد حملت كتاباته أفكاراً مناهضة للدين وللعقائد الدينية. وهذا ما جعله محل انتقاد للبعض، ومن بينهم ريد نفسه [5] [6].

علاقة فلسفة الشهادة بالاستقلال/التضامن الفكري

وأخيراً، يمكن تبنّي إحدى وجهتي النظر في التعامل مع الشهادة. فالبعض يرى أهمية كبيرة لكسر التفكير التقليدي والابتعاد عن التلقي. ومن الأمثلة على هذا ما كتبه الفيلسوف إيمانويل كانت (Immanuel Kant) عند حديثه عن التنوير (Enlightenment). ويرى (كانت) أن التنوير هو انبثاق المرء من حالة عدم النضج المنغمس فيها. ويعرّف “عدم النضج” بأنه عدم قدرة المرء على استخدام فهمه الخاص دون الاستدلال بالآخرين. ويقصد هنا مدى اعتماد الشخص في تكوين الآراء والمعتقدات على شهادة الآخرين وعدم الخروج من عباءتهم. فيرى (كانت) أهمية كبيرة – بل فضيلة – في قدرة الشخص على الاستغناء عن شهادات الآخرين كقاعدة للأفكار. وهذا ما يدعوه الفلاسفة المعاصرون بالاستقلال الفكري [4].

ومن جهة أخرى، قد يفضل البعض وجهة النظر التي تحافظ على العادات السائدة ولا تنسلخ عنها. وفي هذا تضامن فكري يرى فيه ريد فضيلة تفوق الفردية والاستقلال. فهذا النمط من التفكير يحافظ على معتقدات المجتمع ككل، ولا يؤدي إلى ابتعاد جذري عنه [4].

اقرأ أيضاً نظرية المعرفةالشكوكية الفلسفيةفلسفة التنوير

المصادر

  1. Stanford Encyclopedia of Philosophy – Epistemological Problems of Testimony
  2. Internet Encyclopedia of Philosophy – Epistemology of Testimony
  3. Elizabeth Fricker and David E. Cooper – The Epistemology of Testimony
  4. Coursera: Hazlett, Allan, et al. Introduction to Philosophy [MOOC]. Coursera.
  5. Stanford Encyclopedia of Philosophy – David Hume
  6. Stanford Encyclopedia of Philosophy – Thomas Reid

نظرية الشعر عند أفلاطون

نظرية الشعر عند أفلاطون

إننا نفهم الشعر الآن على أنه جنس أدبي وقد نذهب أبعد ونعده طريقة للتفلسف، بيد أن الشعر في الأفق الإغريقي كان أكثر من ذلك بكثير. كان الشعر يمثل الحلقة التي تربط الإنسان بالإله، العالم بالسماء ذلك لأن الشعر لم يكن نوعًا من الخطاب العقلاني بل فُهم على أساس أنه وحي من الله. فهزيود مثلًا كان مصدرًا رئيسًا لمعرفة الإغريق بآلهتهم والقصص التي رواها هومر وجدت طريقها في تقليد الإغريق الديني.  حتى عند أفلاطون ورغم علاقته المتوترة مع المسألة الشعرية نجده يصف الشعر في سياق الوحي والكلام الإلهي. في هذا المقال سوف نبين نظرية الشعر عند أفلاطون من خلال أعماله ومحاوراته المختلفة.

ماهية الشعر:

 المسألة الشعرية في نسق أفلاطون الفلسفي تفتقر إلى التماسك ظاهريًا، فهي تختلف من محاورة لأخرى. نجده أحيانًا يأخذ على الشعر طابعه البياني وفي حين آخر يركز عليه بوصفه قصصًا مروية شعرًا، وفي حين آخر يعتبره وحيًا إلهيًا. فهم أفلاطون الشعر وعرفه على أنه محاكاة  لكنه اخذ مواقف مختلفة منه.

الشعر والحقيقة:

البحث عن الحقيقة هو الهدف الأفلاطوني الأسمى، فكثيرًا ما يؤكد على ذلك على لسان سقراط، يقول سقراط لآيون: “أما أنا فواحد من سواد الناس يتكلم الحقيقة وحسب”(1). ويقول لجلوكون: “من الواجب ألا تحترم إنسانًا أكثر مما تحترم الحقيقة“(2). فالشاعر، وفقًا له، لا يقول الحقيقة. العالم الحق عند أفلاطون هو عالم الكينونة الذي لا يتغير، ووحده الفيلسوف قادر على إدراك ذلك العالم، والعالم الظاهر والذي يماثل أمام حواسنا هو عالم الصيرورة والفناء، فالفني، النجار على سبيل المثال، حين يصنع سريرًا فصنعته تأتي في المرتبة الثانية لكونها جزء من العالم المحسوس، أمام الفنان، الرسام مثلًا، حينما يرسم سريرًا فصنعته تأتي في المرتبة الثالثة بالمقارنة مع السرير الحق الموجود في عالم المثل. فالشاعر أيضًا يحتل المرتبة الثالثة بالنسبة للطبيعة الحقة فهو مقلد (3).

 وفي حواره مع جورجياس حول البيان (Rhetoric) يبين أفلاطون على أن البيان لا يهدف إلى الحقيقة إنما إلى الإقناع. والشعر أيضأ نوع من البيان، فيقول: “الشعر يكون نوعًا من البيان موجه إلى الشعب…في الواقع أن الشاعر يقوم على المسرح بمهنة الخطيب“(4).

الشعراء والعقل:

طالما أن الفيلسوف وحده يحتك بالحقيقة من خلال العقل فأن الأداة الشعرية لا يمكن أن تكون هي العقل. حسب زعم أفلاطون أن الله هو من سلب العقل من الشعراء لذلك فأن الشاعر لا يميل بطبيعته إلى المبدأ العاقل في النفس إنما يكون أميل إلى المنفعل المتقلب التي يسهل محاكاته(5). لذا فأن الشعر يركز على ذلك الجزء الذي يتعطش إلى الدموع ويهفو إلى التنهيد ويصبو إلى الذنب(6).

نفس الشاعر:

يقول أفلاطون في الجمهوية إن هناك بين الشعر والفلسفة معركة قديمة العهد، سبب ذلك يعود إلى نفس الشعر. وفقًا لكل أفلاطون لكل شخص نفس تحدد ماهيته. فالنفس ذات الرؤية الشاملة فتستقر في رجل قد تهيأ ليكون فيلسوفًا(7). للنفس درجات ويرتبها أفلاطون على النحو التالي:

الدرجة الأولى: فيلسوف.

الثانية: ملك يحكم بالقانون أو محارب ماهر

الثالثة: سياسي أو رجل أعمال.

الرابعة: رجل محب للتمارين الرياضية.

الخامسة: الرجل العارف والقيادي

السادسة: الشاعر والفنان.

السابعة: صانع أو مزارع

الثامنة: محترفو السفسطة.

التاسعة: طاغية

الإلهام الشعري أو المس الإلهي:

يرى أفلاطون أن الشعراء يؤلفون قصائدهم الجميلة لا بواسطة الفن بل لأنهم ملهمون وممسوسون(8). ومن يطرق أبواب الشعر دون أن يكون قد مسه الهوس الصادر عن ربات الشعر ظنًا منه أن مهاراته الإنسانية كافية لأن تجعل منه في آخر الأمر شاعرًا فلا شك أن مصيره هو الفشل(9).

ويفرق أفلاطون بين الهوس الذي يرجع إلى الأمراض الإنسانية [النفسية والعقلية] والهوس الراجع إلى حالة إلهية تخرجنا عن القواعد المعتادة. الهوس الإلهي ينقسم إلى أربع أقسام:

هوس النبوءة مصدره أبولون.

هوس الكشف الصوفي مصدره ديونيزوس.

الإلهام الشعري مصدره ربات الشعر.

هوس الحب مصدره أفروديت (10).

الشعر والله:

كثير من الشعراء والفلاسفة تعاملوا مع المسألة الشعرية في أبعادها الدينية، يقول نوفاليس إن الشعر هو دين عملي. كما أن ابن العربي في خطبة ديوان المعارف الإلهية يقول بأن الله جعل الوجود كبيت الشعر في التركيب والنظم. فأفلاطون أيضًا يقول بأن الشعراء ينطقون بلسان الوحي الإلهي(11).  وفي محاورة آيون يقول بأن الله قد سلب الشعراء عقولهم واتخذهم وكلاء له وإن الله نفسه هو المتكلم وإنه يخاطبنا من خلال الشعراء. ويستمر قائلًا بأن قصائدهم الجميلة ليست بشرية أو من صنع الإنسان بل إلهية ومن صنع الله(8).

اقرأ أيضًا نظرية المعرفة أو الأبستمولوجيا: أنواع المعرفة ومكوناتها وتحليلاتها

أفلاطون وطرد الشعراء:

إذا كان يعتبر أفلاطون الشعر إلهامًا إلهيًا فما الذي يجعله ألا يترحب بوجود الشعراء في جمهوريته الفاضلة؟ يقول في الجمهوية إنه إذا ظهر في دولتنا رجل بارع في محاكاة كل شيء وأراد أن يقدم عرضًا لأشعاره على الناس فسوف ننحي له تبجيلًا كأنه كائن مقدس ومن ثم سنرحله إلى دولة أخرى(12). لنفهم هذا الإشكال علينا أن نعيد السياق الذي طرد فيه أفلاطون الشعراء من الدولة. يقول سقراط لأديامانتوس: “إننا لسنا الآن شعراء يا أديامانتوس، إنما نحن ننشئ دولة، ومهمة منشئ الدولة هي أن يصوغ القوالب العامة التي يجب أن يصب فيها الشعراء أقاصيصهم ونضع لهم الحدود التي ينبغي أن يلتزموا بها” (13). هذا القرار الإفلاطوني يأتي في سياق بناء دولة وخاصة جزئية تعليم الحراس وتطويرهم، ولهذا القرار ثلاث مبررات:

المبرر البيداغوغي:

الفلسفة الكلاسيكية جعلت التربية من مهماتها الأصيلة، على ذلك نجد بأن الفلاسفة كانوا يلعبون دور المربي في الكثير من الأحيان. ولأن الشعراء كانوا يقصون قصصًا كاذبة ويؤثرون بذلك على بناء الفرد الأخلاقي والمعرفي كما يقول أفلاطون فأنه حذر من تأثيرهم السلبي. يقول على ذلك: “لأن الطفل لا يستطيع أن يميز الأسطوري من الواقعي فلا شك أن كل ما يتلقاه ذهنه في هذه السن ينطبع فيه بعمق(14). ويزعم أيضًا بأن الشعر يؤذي الأذهان(15). وكذلك أن عيب الشعر الأكبر هو قدرته على إيقاع الأذى بالأخيار ذاتهم(16).

ولأن تصور هوميروس بأن الآلهة تحارب بعضها وتثير المشاكل فيما بينها دعى أفلاطون إلى حظر هذا النوع من الشعر لأنه يدفع بالناس إلى الجريمة. كما ادرك أفلاطون أن الشعراء كما لا يتأثرون بالعقل فهم لا يؤثرون فيه لذلك فأن الشعر لا يمكن أن يحقق الهدف الأسمى، السعادة. يقول عن ذلك بأن الشعر يغذي الانفعال بدلًا من أمن يضعفه ويجعل له الغلبة مع أن الواجب هو قهره [الجانب المنفعل] إن شاء الناس أن يزدادوا سعادة وفضيلة.

المبرر اللاهوتي:

المصدر الأهم للحياة الروحية الإغريقية ومعرفتهم بآلهتهم كان قصائد هومر وهزيود وأسخيليوس. تمرد أفلاطون على ذلك جاء من الطريقة التي تناولوا بها الشعراء المسائل الإلهية. على ذلك يضع أفلاطون أمام الشعراء قانونين يجب الإلتزام بهما:

القانون الأول: الله هو مصدر الخير وحده. جاء هذا القانون ردًا على هومر الذي يقول:

على باب زيوس يوجد وعاءان ممتلئان، أحدهما للمصائر السعيدة والآخر للمصائر التعسة

فيرد أفلاطون بقوله: “أما القول بأن الإله الخير هو علة أي شر يلحق بأي فرد فذلك ما ينبغي أن نحاربه بكل قوانا(17).

القانون الثاني: الله ثابت لا يتغير. جاء ذلك بعد أن قال أسخيليوس:

”إن الآلهة يجوسون خلال المدن متنكرين في صورة غرباء من بلاد أخرى ومتخذين كل صورة ممكنة

لذلك يقول أفلاطون بأنه لا مكان للأكاذيب الشعرية عند الله(18).

المبرر البراغماتي:

عند الحديث عن أهمية الأدب بصورة عامة نكون في موقف ضعيف عندما يُقصد بالأهمية النتائج المترتبة عن العمل الأدبي وتقيمها نفعيًا. فهل الأدب يشفي بالمعنى الطبي؟ هل هناك حاجة للأدب في الميدان العلمي والمعرفي؟ يطرح أفلاطون سؤالًا على جلوكون حول هومر وأهمية شعره إذ يقول: “هل سمع أحد عن حرب حدثت في وقته [هومر] ونجح هو في قيادتها بنفسه أو بنصائحه أو هل نسب إليه اختراع بارع في الفنون أو خبرة علمية (19). فأفلاطون هنا يفكر بوصفه منشئ دولة وحسب كما اقر هو نفسه، لطالما أن الشعر لا يمكن أن يلعب دورًا عمليًا في الدولة. هذه الحجة الأفلاطونية ضد الشعر ما زالت قائمة بل يتم استخدامها في مواجهة الفلسفة أيضًا ذلك لأنها لا تلعب أي دور علمي حاليًا في العالم.

المصادر:

1 –  عادل مصطفى، فهم الفهم (محاورة آيون)، مؤسسة هنداوي، ص283.

2- أفلاطون، الجمهورية، ترجمة فؤاد زكريا، دار الوفاء 2004، ص504.

3 – نفس المصدر، ص507.

4 – أفلاطون، محاورة جورجياس، ترجمة محمد حسن ظاظا، الهيئة المصرية 1970، ص118.

5- الجمهورية، ص517.

6- الجمهورية، ص518.

7- أفلاطون، محاورة فايدروس، ترجمة اميرة حلمي مطر، دار غريب 2000، ص66.

8- محاورة آيون، ص285.

9- فايدورس، ص60.

10- فايدورس، ص93.

11- الجمهورية، ص222.

12- الجمهورية، ص262.

13- الجمهورية، ص239.

14- الجمهورية، ص238.

15- الجمهورية،ص 504.

16- الجمهورية، ص517.

17- الجمهورية، ص240.

18- الجمهورية، ص244.

19- الجمهورية، ص510.

Exit mobile version