ما هي الحداثة وماذا نعني بالحركة الحداثية؟

مع نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، ظهرت حركة فنية وأدبية انفصلت عما سبقها من الأشكال التقليدية في كافة الفنون. وخلقت توجهاتُها الجديدة تغييراتٍ جذرية في كيفية تصوير الحياة. طالت هذه التغييرات جوانب الموسيقى والفن والهندسة المعمارية وغيرها من المجالات الفكرية. وتميزت هذه الحركة برفضها لكل ما سبقها من حركات لأنها لم تعد تستطيع التعبير عن المجتمع المعاصر بدقّة وصدق من منظور مؤسسيها. وأصبحت هذه الحركة تعرف بالحداثة أو الحداثية (modernism). وأعطت اسمها للعصر الذي تطورت فيه، إذ سادت أكثر الأمر في الفترة التي تلت الحرب العالمية الأولى وتقريباً حتى منتصف القرن العشرين [1].

ولدى العودة إلى أصل التسمية modernism، نجد أنها مشتقة من الكلمة اللاتينية modo والتي تعني “الآن”. وتمثل هذه الحركة ثورة على ما رسّخه القرن التاسع عشر من مبادئ الوطنية والحكمة الثقافية المطلقة. وكانت تلك المبادئ، خاصة في عصر الملكية فيكتوريا في إنكلترا، مبنية على أسس تقليدية، وانعكست على الفن والهندسة المعمارية والأدب والإيمان الديني والتنظيم الاجتماعي والحياة اليومية. لكن كل ذلك بات قديمًا باليًا في عصر الحداثة الصناعي [2].

الوصول إلى عصر الحداثة

الحركات السابقة

كان تأثير الحرب العالمية الأولى كبيراً في تمايز عصر الحداثة وتبلور أفكاره. فقد أثرت نتائج الحرب المدمرة وأهوالها على المفكرين وجعلتهم يعيدون النظر في الوجود الذي كانوا يظنون أنه مستقرٌ وهادف. وكان لهذه النظرة الجديدة بذور خصبة وضعها مفكرو نهاية القرن التاسع عشر كداروين وماركس ونيتشه وفرويد. ويمثل هؤلاء أعلاماً في مجالاتهم المختلفة بأفكارهم الثورية التي هزت مبادئ سابقة كانت ثابتة في أذهان الناس [3].

عند العودة بالزمن إلى الوراء قليلًا، بدت المرحلة المبكرة من عصر التنوير (Enlightenment) في القرن السابع عشر وإلى الثورة الفرنسية والصناعية في القرن الثامن عشر فترة سيادة للمنطق في العلوم المختلفة، واكتشاف العوالم الجديدة، وتسخير الطبيعة ومواردها لخدمة البشر ومتطلباتهم. واستطاعت النخبة من المفكرين والفنانين – عموماً – إيجاد توازن بين الإيمان بالله من المنظور الديني، وما توصلت إليه العلوم المختلفة من نظريات جديدة [3].

ثم أتى العصر الرومانسي (Romanticism) الذي تلى الثورة الفرنسية وسيطر على جزء كبير من القرن التاسع عشر ليولي اهتماماً أكبر للعواطف على حساب المنطق، وليقدّس الفرد على حساب الجماعة. وكان هذا نتيجة للتغيرات السياسية التي أعطت للشعب قوة أكبر في اختيار قادتهم [3].

ثم كان للمذهبين الواقعي والطبيعي بعض الأفكار المختلفة التي رفضت مثاليات الرومانسية وتفضيلها للفرد. فركزت الواقعية (Realism) على تمثيل الواقع في الفنون كما هو فعلاً، بعيداً عن المثاليات في نقل التجارب وتصوير الشخصيات البشرية. في حين لجأت الطبيعانية (Naturalism) إلى مراقبة أثر العوامل البيئية والاجتماعية والوراثية على الأفراد، ودراسة الطبيعة البشرية دراسة موضوعية بمبادئ علمية [3].

الأسس الفكرية للحداثة

عندما أتى عصر الحداثة، كان التركيز الأكبر على الغوص في أعماق التجارب والشخصيات البشرية بعد إدراك أن ما تم تصويره سابقاً لم يتجاوز السطح الظاهر للحقيقة. ويعود الفضل في هذا لدراسات سيغموند فرويد (1856-1939) في التحليل النفسي. إذ تحدث فرويد عن اللاوعي البشري وما يخبئه من مكنونات قد تظهر في الأحلام على سبيل المثال. ثم لا ننسى نظرية التطور التي فجرها تشارلز داروين (1809-1882) وما قدمه من أفكار الاصطفاء الطبيعي. فقد تحدى بها المعتقدات الدينية السائدة آنذاك، والتي كانت تنص على تفوق البشر على غيرهم من المخلوقات. أما بالنسبة لفريدريك نيتشه (1844-1900) فقد عبر بفلسفته عن شكوكه ورفضه للتعاليم الدينية المسيحية التي كانت راسخة عند الناس. إذ رأى أنها تستغل الضعفاء والمتواضعين بحجة النعيم المنشود. وهذا ما نجده أيضاً لدى كارل ماركس (1818-1883) ولكن في سياق مختلف قليلاً. فقد عبر عن رفضه لهيمنة الرأسمالية، ورفع راية الطبقة العاملة على أنها الطبقة المسحوقة التي يستغلها الأغنياء لتلبية خدماتهم [3].

كل هذه الأفكار التي غزت نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العرشين شكّلت أساساً قوياً لثورة المفكرين على ما كان يُعتقد أنه مبادئ ثابتة فيما مضى. وزاد على ذلك حالة الاضطراب والفوضى التي خلقتها الحرب العالمية الأولى في المجتمعات عموماً وفي الأرواح الثكلى التي خلفتها. فقد قوضت الحرب ما كان قد بقي من آثار للأفكار السابقة لها [3].

الإطار الزمني لعصر الحداثة

إذاً، انبثقت حركة الحداثة في زمن اضطرابات مجتمعية شديدة نتجت بشكل أساسي عن التحول الصناعي والتحديث والحرب العالمية الأولى (1914-1918) [1]. وأدت الحرب إلى تحطيم مبدأ التقدم لدى العديد من معاصريها، فكيف ذلك؟

نتج عن هذه تفكيك المُثل التي سادت في عصر التنوير، والتي كانت تتنبأ أن التكنولوجيا الحديثة ستحقق التقدم للبشرية بما تنطوي عليه من تطور يحسّن المجتمع والحياة. إلا أن الحرب العالمية الأولى حطمت هذا المبدئ لأنها استخدمت التكنولوجيا الحديثة في إحداث الدمار الشامل للبشرية. وكانت نتيجة الحرب إحباطاً وخيبة أمل على مستوى المجتمعات، مع تشاؤم عميق من الطبيعة البشرية. وهذا ما خلق لدى تيارات الفنون والأدب نزعة ثورية انفصلت عن المثاليات التي سبقتها، ونادت – كما ذُكر سابقاً – بالتأكيد على تمثيل التجربة الشخصية للواقع دوناً عن الواقعية الموضوعية. وتجسد خيبة الأمل هذه بقصيدة “الأرض اليباب – The Waste Land” للشاعر الأمريكي تي. إس. إليوت (T. S. Eliot) التي نشرها عام في 1922 [1].

أما من ناحية التطوير الصناعي، كان العالم الغربي يحصد ثمار الثورة الصناعية كالسيارات والطائرات والمذياع ويسخّرها في الحياة اليومية. ومثلت هذه الابتكارات تحديات لما هو ممكن في المجتمع، إذ شهد الناس آنذاك أن الآلة قادرة على تحويل المجتمع بكليّته. إلا أن هذا التحول الصناعي وما نتج عنه من توسع حضري أدى إلى خلق فوارق اقتصادية واجتماعية بين الناس، وتعزيز ما كان موجوداً منها بالأصل. وهذا ما ولّد شعوراً بالضياع والخيبة لدى كثيرين. وانعكس هذا الشعور في مجالات فنية مختلفة وأدى إلى ظهور جوانب جديدة في الدراسات الفكرية [1].

سمات الحداثة

كانت حركة الحداثة تنادي بإعادة النظر في جوانب الوجود كافة، بدءاً من الجوانب التجارية ووصولاً إلى الفلسفية. حيث كان الهدف اكتشاف العوامل التي كانت تعيق التقدم وتبديلها بأخرى جديدة وتقدمية تؤدي إلى النتيجة نفسها. وكان مناصرو هذه الحركة يؤمنون بأن رفضهم للتقاليد سيمكّنهم من اكتشاف طرق جديدة بالكامل لصناعة الفنون. وفي الوقت نفسه سعوا إلى إجبار الجمهور على التشكيك بمبادئهم ومفاهيمهم التي كانوا يؤمنون بها. وكان التأكيد حينها على التعبير والتجريب والراديكالية في الممارسات المطبقة في مختلف الميادين، بطريقة تباغت الجمهور وتشعرهم بالاغتراب عما يشاهدوه أو يسمعوه. ومن الأمثلة على هذا، الميول السريالية في الفن (surrealism)، واللالحنية في الموسيقى (atonality)، وتيار الوعي في الأدب (stream of consciousness) [2].

إذاً، تضم حركة الحداثة تحت مظلتها طيفاً واسعاً من المجالات الفكرية. كما تتمثل سماتها الكثيرة في العديد من الأعمال في تلك المجالات، ولو بنسب متفاوتة. مثلاً، نذكر من هذه السمات الإدراك الواعي للانفصال القاطع عن التقاليد، واتباع التجريب في أساليب جديدة، وإدخال محتويات كانت سابقاً مهمشة أو محرمة. ونتج عن هذا التبني لأفكار التغيير هوسٌ بكل ما هو جديد، وتأكيدٌ على أهمية التجربة الشخصية وأن الفهم الحقيقي للتجارب يتفوق على تصويرها بشكل موضوعي. ويضاف إلى تلك السمات البحث في أشكال جديدة للذاتية بهدف التعبير عنها وتمثيلها في الفنون.

تحدّت أفكار الحداثة ما سبقها من أساليب متبعة في البحث في العلم والدين والفلسفة. وكان كل هذا يتم بروح ناقدة تسعى لنسف الحضارة الغربية وإعادة خلقها. ولكن تنوع الأعمال التي تصنف أنها من عصر الحداثة وتشعب مجالاتها يجعل من الصعب ذكر مثال واحد كتجسيد لكافة مبادئها [4]. وبهذا كانت حركة الحداثة نقلة نوعية في التاريخ البشري، وحركت عجلة الفكر بطرق جديدة واتجاهات لم يسبق لها مثيل.

المصادر

  1. Modernism: Definition, Examples & Movement | StudySmarter
  2. Modernism – By Movement / School – The Basics of Philosophy (philosophybasics.com)
  3. Backgrounds to Modernism (utexas.edu)
  4. Modernism – Routledge Encyclopedia of Philosophy

كيف أثر دي ستايل de stijl على العمارة؟

هذه المقالة هي الجزء 5 من 13 في سلسلة كيف نشأت الحداثة وغيرت من شكل المعمار في عصرنا؟

تربط دائمًا علاقة بين الشكل والمحتوى في التصميم والفن، وبعبارة أخرى قدرة الشكل على تجسيد مفاهيم وأفكار التصميم. ونشأت «دي ستايل-de stijl» كحركة أثّرت في الفنون عمومًا، وتصميم الأثاث، والهندسة المعماريّة. وسلّطت الضوء على الاندماج بين الشكل والمحتوى. وسعت إلى تحقيق التوازن والوئام، بحيث تنطبق أفكارها على الفن والحياة. [1]

نشأة طراز دي ستايل de stijl

نشأ طراز دي ستايل de stijl في هولندا عام 1917 ويحتلّ دورًا مركزيًا في تاريخ الفن والعمارة الحديث. ويعد مزيج من أفكار وأهداف مجموعة صغيرة من الفنّانين والمهندسين المعماريين والمنظّرين الهولنديين. [1]

ويعتبر دي ستايل استجابة لفوضى الحرب العالميّة الأولى. ويعتقد الكثير من الباحثين أنّه وقف ضدّ الفن الزخرفي «أرت ديكو-art deco» الذي هيمن على التصميم الغربي في ذلك الوقت. بينما تأثّر بالفن التكعيبي، ودعا إلى النقاء النسبي للأشكال والفن التجريدي. [2]

ويعتبر الرسّام «بيت موندريان-piet Mondrian» والفنّان «تيو فان دوسبورخ-theo van doesburg» والمعماري «غيريت ريتفيلد-gerrit rietveld» من أبرز روّاد طراز دي ستايل.

كما شارك دوسبورخ أفكار موندريان الصارمة، وأطلقوا مجلّة دوريّة 1917-1932 والتي وضعت نظريّات ومبادئ طراز دي ستايل. [3]

ما هي مبادئ دي ستايل de stijl ؟

عبّر دوسبورخ عن عناصر دي ستيل عندما قال بأنّه لا يوجد شيء أكثر واقعيّة من اللون، والخط، والسطح. [2]

وصاغ موندريان مصطلح Neoplasticism ليعبّر عن رغبته بتحرير وتجريد العمل الفني من التمثيلات الرمزيّة للواقع. وأراد تقديم رؤيته الحقيقيّة للواقع في لوحاته. ومن وجهة نظره، لم يعد عليه أن يعتمد على الطبيعة في البدء باللوحة. وبدلًا من ذلك، يستطيع أن يستخدم القواعد المجرّدة في الهندسة والألوان. واعتبر هذه اللغة الأكثر فعّالية لنقل رسالته الروحيّة.

وتألّفت لوحات موندريان الأولى من مستطيلات بأشكال ناعمة من الألوان الأساسية (الأصفر، والأحمر، والأزرق). والتي رسمها على خلفيّة بيضاء ومن دون استخدام الخطوط. إلّا أنّه أعاد الخطوط لاحقًا إلى لوحاته، وربط مستويات (سطوح) الألوان بعضها ببعض، وبالخلفيّة أيضًا. من خلال سلسلة من الشرائط السوداء العموديّة والأفقيّة.

Composition with Yellow, Blue, and Red لموندريان

وبالتالي، تكوّنت لوحات موندريان التي تنتمي للفن التجريدي من مستطيلات وخطوط مستقيمة تتقاطع في زوايا قائمة، من أجل تشكيل الإيقاع البصري المجرّد الخاص بها. [4]

بم تميّزت عمارة دي ستايل de stijl ؟

صمّم معماريو دي ستايل مبانيهم على أساس المبادئ التي وضعها الفنّانون المؤسسون، وبالتالي استطاعوا تحويل اللوحات إلى تكوينات ثلاثية الأبعاد تعكس أفكارهم. وعمومًا يبدأ المبنى بصندوق، ومن ثمّ يقوم المعماريّون بتجزئته وتقطيعه ليتشكّل التكوين النهائي. وتندمج الأجزاء (الجدران والأرضيّات) لصنع الشكل العام المتكامل للمبنى. وغالبًا ما يتم طلاء بعض الجدران بالألوان الأساسيّة لتتكوّن السطوح المميّزة لدي ستايل. إلّا أنّه تعتبر هذه الأجزاء أقل أهميّة من الكل، أي من الشكل العام النهائي. أمّا بالنسبة للمساقط، فاعتمد المعماريّون على المساقط المفتوحة في تصميمهم. [5]

ومن ضمن معماريي دي ستايل «يعقوب أود-jacobus oud»، والذي تميّزت مبانيه بتناقضات دقيقة لخطوط أفقيّة ورأسيّة. إذ استخدم جدران طويلة مستقيمة تلتفّ أحيانًا في زوايا مستديرة بسلاسة، لتتشكّل وحدات بناء محاطة بحيّز مفتوح. وحقّقت الأشكال المستقيمة والدائريّة المبسّطة توازنًا على الرغم من ترتيبها غير المتماثل. [6]

Gallery house صممه المعماري يعقوب أود في مقاطعة سكنية في شتوتغارت المانيا

المساقط المفتوحة في عمارة دي ستايل de stijl

يزيل معماريو دي ستايل الحدود الفاصلة بين الخارج والداخل عن طريق فتح الجدران. كما يقضون على الحدود المكانيّة في الفراغ الداخلي من خلال تقسيمه باستخدام الجدران (القواطع) المتحرّكة. [5] ممّا يجعل مسقط المبنى مفتوح، فيكسبه صفة المرونة لأنّه يسمح يتحريك الجدران وبالتالي خلق غرف تختلف مساحاتها حسب الحاجة. وبذلك نجحوا في إلغاء الترتيبات الهرميّة للغرف في مخطّطات الطوابق. [2]

مقهى «الموهبة- l’Aubette» في فرنسا

يختفي مقهى الموهبة خلف واجهة باروكيّة تعود إلى القرن الثامن عشر في ستراسبورغ، في فرنسا. ويعدّ تعبير غير متناسق على نحو مذهل من حركة دي ستايل في عشرينيات القرن الماضي. وقد بُني المقهى عام 1767 بتكليف من الحكومة الفرنسيّة لبناء مبنى يعكس أحدث طراز في ذلك الوقت. وأعيد تصميمه داخليًا من قبل دوسبورخ بمساعدة الفنّان «هانز آرب-hans arp» وزوجته «صوفي تايوبير آرب-sophie taeuber arp». وسعى دوسبورخ إلى القيام بأكثر من مجرّد وضع المشاهد أمام لوحة له، بل أراد تطويقه بها.

وعلى الرغم من أن دوسبورخ وهانز وصوفي عملوا ظاهريًا كفريق واحد، ولكن عمليّة تصميمهم الفعليّة كانت مفكّكة على نحو يثير الدهشة. فيلاحظ المشاهد بأنّ الغرف قد صُمّمت من قبل فنانين مختلفين مع القليل من التعاون المنظّم. ممّا سمح لأنماطهم الشخصيّة بتشكيل فراغات المبنى.

ففي حين عكس عمل هانز وصوفي مشاركتهم السابقة في حركة دادا. نفّذ دوسبورخ تصميمه بطريقة مستقيمة متعامدة، وغطّى الجدران بشبكات كبيرة من المستطيلات الملوّنة. وقد ركّز بعمله التصميمي على استخدام اللون كوسيلة لتفعيل الفراغ، ويعتقد أنّ هذا ساعد المشاهدين على تقدير الشكل المجرّد بشكل أفضل. ولكنّه لم يتقيّد بشكل صارم بمبادئ دي ستايل عندما لم يناسبه ذلك. فلذلك كسرها من أجل خلق المزيد من المساحات الديناميكيّة والتعبيريّة. ومن الأمثلة على ذلك قاعة الرقص، حيث تميل مستطيلات دي ستايل بزاوية 45° ممّا يخلق جذبًا بصريًا مع اتجاه الأبواب والنوافذ. [7]

لقطة داخلية في مقهى الموهبة من تصميم تيو فان دوسبورخ

منزل «شرودر-shroder» في هولندا

صمّم المعماري ريتفيلد منزل شرودر في أوترخت، في هولندا عام 1924. وتجعل مرونة التصميم وأشكال الزوايا والخطوط المنزل فريدًا ومميّزًا. إذ يجسّد أفكار دي ستايل عبر تصميم الجدران في الطابق العلوي بحيث تكون قابلة للطي حول درج مركزي. وقد صمّمها كذلك ليزوّد أطفال شرودر بخيار فتح الغرف على بعضها من أجل تشكيل مساحة لعب مفتوحة وكبيرة. بينما يستطيعون إغلاقها ليلًا لتشكيل غرف نومهم الخاصّة.

وحدّدت السيّدة شرودر 3 معايير حول غرف أطفالها، أوّلًا يجب أن يسمح موقع السرير ليكون في موضعين مختلفين من الغرف. وثانيًا ينبغي أن توجد إمكانيّة للوصول إلى الحمّام من كل غرفة خاصّة. وأخيرًا ينبغي أن تحوي كل غرفة على باب يصلها بالهواء الطلق مباشرةً. وكنتيجة لذلك خطّط ريتفيلد هذا النوع من التفاصيل بشكل جيّد ودقيق. واعتمد على النسبة الذهبيّة أو شكل المربّع في تصميم الفراغات. واستخدم الألوان لتمييز المساحات أو الوظائف المختلفة أثناء طي الجدران. واختار اللون الأسود لطلاء الباب الأمامي باعتباره أكثر استخدامًا وبالتالي سيصبح سهل الاتّساخ.

منزل شرودر من الخارج من تصميم ريتفيلد
جزء من منزل شرودر من الداخل.

واعتمد بلاطات من الخرسانة المسلّحة لبناء الهيكل الرئيسي للمنزل مع عوارض من الفولاذ، وصنع الجدران من الطوب ثمّ طلاها. واختار الخشب لتشكيل إطارات النوافذ والأبواب والأرضيّات. وبالإضافة إلى ذلك، فقد صنع مفاصل النوافذ بحيث تُفتح فقط بزاوية 90° إلى الجدار وذلك للحفاظ على معايير تصميمه الصارمة. [8]

ما جعل منزل شرودر رمزًا لحركة دي ستايل هو نهجه الفريد في التصميم وتكوين الفراغات، فقد نجح هذا التكوين الثلاثي الأبعاد في عكس مفاهيم ومبادئ دي ستايل وحقّق أهدافها عبر سعيه للوصول إلى النقاء والتجريد ليس بالفن فقط بل في الحياة ككل أيضًا.

المصادر

  1. Research gate
  2. Arch daily
  3. Britannica
  4. Britannica
  5. Tylor and francis
  6. Britannica
  7. Arch daily
  8. Arch daily

العمارة الحديثة كنتيجة لعقلنة الحداثة

هذه المقالة هي الجزء 1 من 13 في سلسلة كيف نشأت الحداثة وغيرت من شكل المعمار في عصرنا؟

الحداثة كنتيجة للعقلنة

اعتبر «ماكس ويبر» الحداثة نتيجة للعقلنة؛ حيث اعتبر أن “الطابع الروحي للمجتمعات التقليدية قد حل محلّه -على الأقل في العالم الغربي- رؤيةٌ للعالم شديدة العقلانية والحساب”. والتي تفضّل تحقيق غايةٍ ما على التبعات البشرية لكيفية تحقيق تلك الغاية. بعبارة أخرى، ينتج نظامٌ اجتماعي يهمل الإنسانية ذاتها التي اُعتقد أنه يرتقي بها.

 الإنسانية -حسب ويبر- قد تقلصت في هكذا عالم مُعقلن إلى حسابات وقياسات وتحكم؛ والمجتمع منشغل بالعقل والاستقرار والنظام.[1] وبالمثل، يمكن قراءة تاريخ التفكير والتصميم المعماري منذ نهايات القرن التاسع عشر وظهور نمط العمارة الحديثة بالتوازي مع تطور الحداثة.

الحداثة كمعمار مُعقلَن

الحقبة المعمارية المعروفة بـ«الحداثة» تؤرخ عامةً منذ أواخر القرن التاسع عشر حتى أواخر ستينيات القرن العشرين. وبذلك فهي معاصرة للحداثة الغربية. من الممكن إذن افتراض أن العمارة الحديثة كانت نتيجة لتحديات الحداثة ومُثُلها. عايش المعماريون الحداثيون أوضاع المجتمعات الصناعية المعيشية المتردية وكان لديهم إحساس قوي بالمسؤولية الاجتماعية تجاهها،[2] كما أنهم عاصروا التقنية والصناعة ومواد البناء الحديثة والتي غيرت وجه المدينة.

بالمثل، وكما فضلت الحداثة الفلسفية الموحد «Standardized» والقابل للحساب، حاولت الحداثة المعمارية تقليص المعمار أيضًا إلى مبادئ أولية. التأويلات الحديثة للمعمار، مثل تلك التي قام بها «جوتفريد سيمبر» في “المبادئ الأربعة للمعمار” أو أسس «لو كوربوزيه» الخمسة للمعمار الجديد، يمكن النظر لها باعتبارها محاولات لتقليص المعمار إلى عناصر مبدئية، يمكن بسهولة توحيدها وحسابها وتصنيعها. اعتبر بعض النقاد هذه التحليلات الاختزالية تنزع الرمزية والقيمية من العناصر المعمارية، حيث تصير ملحقات إضافية دون أي قيم.[3]

بدأ المعماريون بالنظر للعمارة والعمران عبر نظارات صناعية. أعلن «لو كوربوزيه» أن المنزل يجب أن يكون آلة للعيش فيها، وصمم منازله الموحّدة أحيانًا متضمنة أثاثًا جاهزًا لضمان الانتظام العام[4]. نمو وتوسع مشاريع الإسكان الموحد «Standardized Housing» في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية كان ذروة هذه المُثل المعمارية الصناعية.

نظريات المعماريين الحداثيين في التصميم يمكن أيضًا رؤيتها باعتبارها تمثّلات لقيم الحداثة وسعيها نحو الفعالية والعقلانية، مثل انتقادات المعماري النمساوي «أدولف لووس» لتزيين المباني وشعار «لوي سوليفان» الشهير “الشكل يتبع الوظيفة”. وبالفعل، فإن بعض المؤرخين والمنظّرين يرون أن الرؤى الطوباية للعمارة الحداثية لم تكن نابعة من عقائد ماركسية أو فاشية كما هو شائع، بل كانت نتيجة لمبادئ الفوردية (تنظيم الانتاج) والتايلورية (الإدارة العلمية) وسعيهما نحو الفعالية والتنظيم.[5]

العمارة الحديثة والبُعد الإنساني

كيف كانت علاقة المعمار المعقلن بالناس؟ سيكون من المفيد هنا أن نرى رأي «ماكس ويبر» علاقة الناس بالحداثة. يرى بعض النقاد أنه حسب ويبر، فإن احتياجات النظام الاجتماعي في الحداثة “كانت أهم من احتياجات أولئك البشر الذين يرفعون قواعد ذلك النظام”. ونتيجة ذلك، فإن التقدم الحداثي بدا وكأنه يخلق مشاكل للناس أكثر من تلك التي يحلها – الاغتراب واللا معيارية والبيروقراطية كلها مؤشرات على نظام يتحكم بالناس ويخلق عالمًا لا متسع لهم فيه للتعبير عن آرائهم (بالمثل، تذكر كيف صمم «لو كوربوزيه» منازله بأثاث مصمم سلفًا، والتي لم تعط السكان متسعًا لتزيين بيوتهم كما يشاؤون). ما-بعد الحداثة، في هذا التصور، تكون ردة فعل على هذه العملية. [6]

يمكننا سريعًا مطالعة نموذجين لمشاريع عمرانية في فترة ما بعد الحرب العالمية لنرى كيف تمثلت هذه العلاقة الحداثية بالبشر في العمران، وكيف كانت العمارة الحديثة انعكاسًا للحداثة. النموذج الأول هو «روبرت موزيس” -المعماري الأمريكي- وخططه العمرانية لتطوير مدينة نيويورك. قوبلت خطط موزيس بالكثير من المقاومة، ولعل أبرزها كانت من قبل الكاتبة وعالمة الاجتماع «جين جيكوبز» – حيث اعترضت على انتزاع السكان من منازلهم وإزالة الحدائق لتطوير شبكة الطرق وغيرها تحت مسمى “التقدم”.

حين سُئل «موزيس» عن السخط الشعبي تجاه خططه العمرانية، قال: “لا أعتقد بصراحة، أخذًا بالحسبان العدد الكبير من الناس الذين احتجنا لإزاحتهم من طريق الإسكان العام وغيره من المشاريع التطويرية العامة، لا أعتقد أننا قمنا بأي ضرر بالغ. لا بد أنه سيكون هناك أناسٌ ساخطون أو منزعجون، فحسب النظرية القديمة لا يمكنك أن تصنع عجة دون أن تكسر بيضًا”. تحكي «جيكوبز» كيف كانت تواجه المسؤولين عن تلك الخطط العمرانية -التي كانت في الأغلب تصدر من الأعلى دون اعتبار رغبات السكان أنفسهم- بالمشاكل التي تتسبب بها، فالمدن تفقد حيويتها والمتاجر تمسي فارغة والساحات مهجورة. وكانت ردود المسؤولين تتكون من شعارات وتبريرات عديدة تنتهي إلى “الناس أغبياء، ولا يعرفون ما عليهم فعله”.[7]

النموذج الثاني من بريطانيا هذه المرة: وبالتحديد خطط «تي دان سميث» لتطوير مدينة نيوكاسل. كانت تلك الخطط جزءًا من حماس عام في تلك الفترة تجاه المدن ثلاثية الأبعاد (نموذج  يتصور المدن مكونة من عدة طوابق، وقد فقد صيته بين المعماريين اليوم). سعى «سميث» لجعل نيوكاسل “برازيليا الشمال”، على غرار مدينة برازيليا في البرازيل، وتصور مدينة شوارعها في السماء حيث تكون السيارة وسيلة النقل الاساسية وينتزع البشر من الشارع ليتنقلوا عبر ممرات وشوارع مرتفعة في الهواء. بالطبع، واجهت تلك الرؤى مشاكل عديدة على الصعيد الاجتماعي والأمني وصعوبة التحرك من خلالها، وتم التخلي عنها لتنتهي اليوم كممرات في الهواء لا تؤدي إلى أي مكان. مدينة برازيليا نفسها، تنتقد حاليًا من معماريين مثل «يان غيل» كنموذج لـ”تصميم عبر عين الطائر”، يتم من خلال الطائرة ودون اعتبار للبعد البشري والإنساني في التصميم.

العمارة الحداثية سعت في البداية لحل المشاكل المعيشية للعامة، وانتهت فعليًا بدفعهم جانبًا لإتاحة المجال للسيارات والتقنية. يمكن لنا إذن أن نتوقع أن هذا النمط العمراني الحداثي لم يكن محبوبًا بين الناس،[8] وبالفعل فإن بعض النقاد لاحظوا أن “الحساسية تجاه ما يلمس القلب نادرة للغاية في العمارة الحديثة”.[9]

نهاية الحداثة؟

إذا كانت ما-بعد الحداثة ردًا على عمليات العقلنة الحداثية، فسيكون من المنطقي أيضًا أن يكون نمط العمارة ما بعد الحداثي -ولو جزئيًا- ردة فعل إنسانية على المثل الحداثية في التصميم. بدءًا بدراسات اجتماعية مثل “صورة المدينة” لـ«كيفن لينش» أو «موت وحياة مدن أمريكية كبرى» لـ«جين جيكوبز»، شهدت فترة الستينات العديد من الدراسات والنظريات المعمارية التي تستكشف العلاقة بين العمران والبشر. في نفس الفترة، تطور البحث النفسي والاجتماعي ليبدأ مجال “علم النفس البيئي” في الظهور.[10]

يعتبر كتاب «روبرت فنتوري» “التعقيد والتناقض في العمارة” (1966) أول عمل معماري بارز يرفض العمارة الحديثة وقيم الحداثة. حيث جادل «فنتوري» بأن الزينة -بل وحتى حس الفكاهة- كان له مكان في المعمار – وهذا رفض صريح للفعالية والوظيفية التي ميزت المعماريين الحداثيين التقليديين مثل «ميز فان دي روه” أو “لو كوربوزييه”. يعتبر بعض المؤرخين عام 1968 كنقطة فارقة في تاريخ الحداثة، حيث تهشمت آمال الحداثة والتقدم على إثر اضطرابات اجتماعية وسياسية عالمية.[11] في عام 1968 أيضًا طور «هنري ليفيفر» -المفكر والفيلسوف الفرنسي- مفهومه عن “الحق في المدينة” – مشكلًا بذلك حركة جديدة لإعادة تشكيل المدينة كمكان للحياة بعيدًا عن آثار السلعنة «Commodification» والرأسمالية على التفاعلات الاجتماعية.[12]

شهدت تلك الفترة بدء ظهور عمارة  “صديقة للإنسان”، مثل مشروع “بايكر وول” للتطوير الإسكاني للمعماري «رالف إرسكين في نيوكاسل ببريطانيا والذي يمكن اعتباره نقطة فراق مبكرة عن النمط الحديث. لكن التطور الأكبر كان هدم وإزالة أبراج «برويت – آيغو» السكنية في سانت لويز بالولايات المتحدة عام 1972، والتي اعتبرها المعماري «شارلز جينكس» “نهاية الحداثة”، أي ذروة فشل النمط المعماري الحديث في تلبية متطلبات المجتمع وتحقيق آماله الطوباوية.

ما بعد الحداثة ومستقبل العمارة الإنسانية

بالتأكيد، فإنه من المبالغة القول بأن العمارة الحديثة قد انتهت، فالشره الصناعي والرأسمالي للفاعلية والانتاج والرغبة الحداثية في العقلنة لا تزال حية ترزق. ولكن العقود الاخيرة شهدت صعود المزيد من مدارس التصميم الصديقة للبيئة والصديقة للإنسان، مثل نمط العمارة الدارجة الحديث «Modern Vernacular» والعمارة الظاهراتية «Phenomenological Architecture» وأساليب الإدارة والتخطيط الديمقراطية. ناهيك عن ازدياد الوعي العام بأهمية التصميم المستدام والعمارة الخضراء. لقد أصبح الكثير من المعماريين والمخططين على وعي بمدى ارتباط البيئة والمجتمع.

بالإضافة إلى ذلك فإن أنماطًا جديدة من التخطيط بدأت في الظهور لتمنح الناس بيئات اجتماعية وصحية أكثر، ولعل أشهرها هو الإسكان المشترك «Co-Housing» وهو نمط من الإسكان بدأ ينتشر في أوروبا، وتهدف بالأساس إلى تخطي عيوب التخطيط العمراني الحديث الاجتماعية. هناك اهتمام أكثر بالشارع والخضرة والبعد الإنساني  في العديد من المشاريع والنماذج العمرانية المعاصرة، مثل طريق «روز كينيدي» في بوسطن أو ميدان إسرائيل في الدنمارك.

من الصعب بحق تعريف أو تحديد ما-بعد الحداثة، كأيديولوجية أو كنمط فني، ومن الأصعب أيضًا تحديد إلى أين تتجه. لكن اليوم هناك وعي متزايد بنقائص وعيوب المثل الحداثية لمعماريي القرن العشرين. فكما حاولت الحداثة الرفع من شأن الإنسان، وانتهت بتغريبه في واقع “منزوع السحر” حسب تعبير ماكس ويبر، فقد حاولت العمارة الحداثية رفع مستوى الناس المعيشي عبر أمال عريضة، ولكن انتهى بها المطاف بتغريبهم في مدن منزوعة السحر. وربما يكون مستقبل العمارة الإنسانية رهن العثور على قيم ومثل عليا جديدة عالميًا.


[1] Miles, S. (2001) Social theory in the real world. London: Sage. p.104
[2] Rowe, H.A., (2011). The rise and fall of modernist architecture. Inquiries Journal3(04).
[3] Schloeder, Steven J (1998) A Return to Humane Architecture. The Intercollegiate review. 34 (1), 20.
[4] Rowe, H.A., (2011). The rise and fall of modernist architecture. Inquiries Journal3(04)
[5] Coleman, Nathaniel (2012) Utopia and modern architecture? Arq (London, England). 16 (4), 339–348.
[6] Miles, S. (2001) Social theory in the real world. London: Sage. p.84
[7] Citizen Jane: Battle for the City. 2016. [film] Directed by M. Tyrnauer. USA.
[8] Mallgrave, H.F. & Goodman, D. (2011) An Introduction to Architectural Theory: 1968 to the Present. Malden, MA: Wiley-Blackwell. p. 7
[9] Schloeder, Steven J (1998) A Return to Humane Architecture. The Intercollegiate review. 34 (1), 20.
[10] Steg, Linda, de Groot, Judith I. M & van den Berg, Agnes E (2019) Environmental Psychology. Newark: John Wiley & Sons, Incorporated. p.4
[11] Mallgrave, H.F. & Goodman, D. (2011) An Introduction to Architectural Theory: 1968 to the Present. Malden, MA: Wiley-Blackwell. p. 13.
[12] Harvey, David (2008) The right to the city. New Left review. (53), 23.

Exit mobile version