ما الذي أراد فيلم الختم السابع The Seventh Seal أن يخبرنا به؟

يعكس الفن الحقيقي المشاكل الوجودية، ويطرح القضايا ويجسد الأفكار بعد أن يعيد صياغتها بشكل إبداعي. كما أن الجمع بين حقائق الحياة والأنشطة البشرية التي تهدف إلى فهم هذه الحقائق، يجعل فكرة العمل الفني أكثر وضوحًا. فيمكن للسينما أن تعرض مفاهيمًا وتتناول وتعرض أفكارًا تاريخية ودينية، أو فلسفية للمجتمع وتربطها بواقع الحياة. ويعتبر فيلم The Seventh Seal الذي أُنتج عام 1957م وأخرجه إنغمار برغمان. أحد الأعمال السينمائية المعروفة والمؤثرة في تاريخ السينما العالمية. حيث يتميز الفيلم بقصته الملحمية والرمزية، والتي تتناول موضوعات فلسفية ودينية عميقة.
وربط الفيلم بشكل دقيق تصورات عن أحداث تاريخية، وأفكار وتساؤلات فلسفية ودينية، فعلى المستوى الأول يعرض الفيلم صورة من صور أوروبا في العصور الوسطى وهي تجابه مرض الطاعون، وفي المستوى الثاني يعرض النظرة الدينية ، بالإضافة الى خرافات، واعتقادات كانت سائدة. وعلى هذه الخلفية تظهر الشخصية الأبرز في الفيلم للبحث عن إجابات لأسئلة حول الله والموت ومعنى الحياة، ومن خلال لعب الشطرنج مع الموت يجب أن يجد الفارس إجاباته. ويمكننا النظر إلى “The Seventh Seal ” من ناحيتين: الفترة التاريخية التي يغطيها ومشكلة ذلك العصر ألا وهي الطاعون، ومن ناحية ثانية الأفكار الفلسفية والدينية التي يتبناها ويعرضها المخرج.

مغزى العنوان


يعتبر العنوان الفريد للفيلم “The Seventh Seal” من العناوين المثيرة للاهتمام. ويشير إلى الدلالات المتعددة للرموز والمعاني التي توجد فيه. فـ “الختم السابع” يشير إلى الختم الذي يتم كسره في السفر العاشر في العهد القديم. فيقول: “ولمّا فكّ الحمل الختم السابع ساد السماء سكوت نحو نصف ساعة. ورأيت الملائكة السبعة واقفين أمام الله، وقد أُعطوا سبعة أبواق”. يمثل الختم نهاية العالم ويتصل ذلك بفكرة الموت فهو أحد رموز رؤية يحنا الإنجيلي، الذي يسلط الضوء على صراع الفناء، الذي يمثل نهاية كل إنسان. والاقتراب من الموت ومواجهته تدفع الإنسان للتفكير في كيفية عيشه، والبحث عن المعنى الحقيقي لوجوده.
ويوضح يوحنا في سفر الرؤيا أنه قرأ سفرًا مختومًا بسبعة ختوم. أما الختم السابع والأخير، فهو الذي سيسمح لنا باكتشاف سر إعلان الله في هذا الكتاب. وحده الحمل الذي يرمز للمسيح يستطيع أن يكسر هذا الختم. والذي يرمز إلى الويلات التي تثقل كاهل الإنسان (القوة، العنف، الجوع، الطاعون، الموت، إلخ)، ويحمل الفيلم نفس المواضيع (الله والنهاية).

القصة


تدور أحداث الفيلم في القرون الوسطى، حيث يتجول الفارس المحارب أنطونيوس بلوك في إحدى البلدات التي يضربها الطاعون الدموي. فيقابل الفارس الموت ويتحداه في لعبة الشطرنج للحصول على وقت إضافي للعيش. خلال هذه الفترة، يسعى الفارس لإيجاد معنى للحياة ومعرفة ما إذا كان هناك وجود لله. فتقوم القصة بتسليط الضوء على السؤال الأبدي للإنسان عن الحياة ومعناها. والموت والإيمان والشك والرقابة الدينية، والاعتراض على القوانين والتقاليد، والبحث عن الحقيقة.

تحليل الفيلم:


يسلط الفيلم الضوء على قضايا أساسية وجودية تعبق بالإنسان، ويتحدث إليه في لغة رمزية وفلسفية. من خلال التحليل تظهر الثيمات المشتركة في الفكر البرغماني. مثل: الشك، والبحث عن المعرفة، والوجود، والموت، والإيمان، وتأمل المعنى الحقيقي للحياة.
ويتطلب هذا الفيلم فهمًا عميقًا للعديد من النواحي المختلفة الموجودة فيه، مثل الشخصيات، والرموز، والتعابير، والتصوير، والصوت. مما سيساعد على إلقاء الضوء على المفاهيم الفلسفية التي يعتنقها برغمان، ومنحها الفرصة للمشاهدين للتأمل والتفكير في الأفكار التي يعرضها.
إن التفكير الذاتي يكشف عن الموت بأنه إمكانية متوقعة الحدوث في أي لحظة. والموت إذا نُظر إليه موضوعيًا هو أمر كلي وعام، يصيب كل أشكال الحياة. ولو نظرنا إليه من منظور ذاتي فهو متوقع الحدوث، ومرتبط بالوجود الخاص للفرد، ويؤثر في القرارات الفردية. فإذا كان الموت حتمية لا مفر منها فكل اختيار يكون ذا قيمة لا متناهية، وكل لحظة حياتية تشكل فرصة.

شخصية الفارس


ويربط برغمان الحاضر بالماضي من خلال الصورة، فينقل مشاكل الحاضر وتساؤلاته للماضي على صورة القلق الوجودي المرتبط بالشخصية الرئيسية. وينقل من خلالها الأفكار والمفاهيم عبر سلسلة من الصور، تنقل الأحداث وما يرتبط بها من أفكار.
فيمثل الفارس بلوك في فيلم The Seventh Seal شخصية المفكر الذاتي. والذي يكشف من خلال حركاته الذاتية وآلية تفكيره عن وجوده الذي يتحدد بالفردية والصيرورة والزمان والموت. وهو يفهم وجوده الشخصي على أنه مهمة ومسؤولية، ومن خلال تحركاته ترك المجال مفتوحا أمام فعل حاسم. وهو مجابهة الموت بلعبة شطرنج، وبذلك مثل الذات الموجودة التي تواجه مستقبلها. والفعل الحاسم وجوديًا بالنسبة إلى الذات ليس قرارا خارجيًا، بل هو قرار ينبع من داخلها .
وضمن الحبكة التاريخية يبني المؤلف صورة العصور الوسطى، فيعود الفارس أنطونيوس بلوك من الحروب الصليبية مع مرافقه. ويظهر الموت بينما هو نائم فلا يخافه، وكأن ظهوره كان متوقعًا. والشي الوحيد الذي أراده الفارس هو أن يجد إجابته الخاصة، وهذا السؤال مرتبط بإيمانه. لأن اقتناع الفارس بأن إيمانه السابق بوجود الله أصبح موضعا للشك والتساؤل. فيدعو الفارس الموت للعب لعبة الشطرنج، فإن فاز الفارس تأجل موته، وإن فاز الموت خسر الفارس حياته. وتصبح لعبة الشطرنج بداية كشف الحبكة وينتهي الفيلم بها. فيرمز الفارس إلى الشخص الذي يسعى لإيجاد المعنى والحقيقة، في حين يمثل الموت القوة الجبرية التي لا يمكن الهروب منها.

تأثر برجمان بأفكار عصره



يعرض الفيلم جانبا من عصر برجمان وتأثره بالأفكار السائدة في عصره، ففي منتصف القرن العشرين انتشرت أفكار ألبيرت كامو وهيدغر وجان بول سارتر، والتي حظيت بشعبية كبيرة، لأن أعمالهم أثارت تساؤلات حول معنى الحياة وعلاقة الفرد بالوجود من حوله، وإن مشاكل الوجود الإنساني المتعلقة بهذه القضايا احتلت مكانة كبيرة في الوعي العام آنذاك.
تتعلق النقطة المهمة في فلسفة هيدغر بالمفهوم الأساسي للدازاين . و يعني وجود الشخص، والذي يتحدد من خلال تجربة الشخص لفنائه، ليس في وقت ما من المستقبل لكن هنا والآن، بالنسبة لهيدغر الموت حاضر دائما، إنه موجود في أي لحظة باعتباره إمكانية بنيوية غير محققة ولكنها حتمية. باختصار وجود الإنسان حياة حتى الموت، فكرة الموت وفهمه والبحث عن معنى الحياة أفكار يغطيها الفيلم .

تحليل الرموز والصور المستخدمة في الفيلم وتفسيرها


الفيلم مليء بالرموز والتعابير الفلسفية والأدبية. يتحدث عن المعنى العميق للحياة والاستعداد للموت والبحث عن الإيمان والمعرفة. يمثل الشطرنج لعبة العقل التي يتناولها الفيلم بشكل رمزي للصراع بين الإنسان والموت. ويستخدم فيلم The Seventh Seal العديد من الرموز والصور الرمزية التي تدعو إلى التفكير والتفسير.
ومن خلال تحليل هذه الرموز، يمكن فهم المعاني العميقة للفيلم ورسائله. وكما أشرت سابقًا يرمز الفارس إلى الشخص الذي يسعى لإيجاد المعنى والحقيقة، في حين يمثل الموت القوة الجبرية التي لا يمكن الهروب منها.
ويحتوي الفيلم ضمن مشاهده مجموعة من الدلالات والرموز مرتبطة بالمسيحية يمكن قراءتها. ويطرح لودفينغ ليندلوف أن المشهد الذي يجلس فيه أنطونيوس مع ميا حين يلتقط وعاء الحليب. ويقول: سأحمل هذه الذكرى بين يدي بعناية، وطريقة الجلوس في المشهد وعاء الحليب والفتات، الصورة العامة في هذا المشهد توحي أنها مبنية من لوحة العشاء الأخير، فجلوس الفارس مع أصدقائه، كمثل المسيح في لوحة العشاء الأخير لليوناردو دافنشي.


ويربط أيضا النضال ضد الموت بقصة آلام المسيح في الإنجيل، ومشهد هرب ميا وجوف والطفل في أثناء لعبة الشطرنج بعد أن رآها جوف، وخسارة أنطونيوس أمام الموت متعمدًا ليعيشوا، كدلالة مجازية لموت يسوع الواعي والمضحي بذاته على الصليب.

الموت منفصل عن الله


ويفصل المخرج بين الموت والله، فتبدو مسألة صمت الله عظيمة لأنطونيوس بلوك، لكن مسألة الموت أعظم، فبعد هزيمة أنطونيوس في لعبة الشطرنج، وعده بلقاء قادم، فسأله أنطونيوس أن يكشف أسراره. فأجابه الموت بأنه لا يملك أسرار، وعن المعرفة قال الموت: ” أنا جاهل”. وبذلك الموت لا يجيب على أسئلة الفارس لسبب وحيد انه لا يملك إجابات، الموت يحدث بشكل حتمي فقط. الموت في الختم السابع منفصل عن وجود الله وعدم وجوده.
ويقدم الفيلم صورة الله القاسي الصامت، الذي لا يهتم لمعاناة الإنسان. ففي مشهد الاعتراف يتساءل أنطونيوس، فيقول: “إنه صعب جدًا الشعور بالرب مع أحاسيس الفرد. لماذا يجب أن يختفي وسط وعود مبهمة ومعجزات مخفية؟ كيف نصدق كالمؤمنين بينما لا نصدق أنفسنا؟ ماذا سيفعل لنا؟. لما نريد أن نؤمن لكن لا نستطيع؟ وماذا عن أولئك الذين لا يستطيعون أن يصدقوا أيّ من هذا؟. لماذا لا يمكنني قتل الرب بداخلي؟ لماذا علي أن أستمر في العيش في طريق مذل مؤلم؟”. كانت هذه أبرز تساؤلات الفارس حول الله.
لكن حين يكمل يرى الله صامتا، ويعود للشك. فيقول: أريد نزعه من قلبي، لكنه سيبقى يعذبني بحقيقة أنني لا أستطيع التخلص منه. أريد المعرفة، لا الإيمان ولا الظن، لكن المعرفة، أريد أن يلقيني من يده. أرى وجهه يتكلم معي لكنه صامت. أبكي إليه في الظلام، لكن يبدو الأمر وكأن لا أحد هناك، ربما ليس هناك أحد”.

المواقف الوجودية لأنطونيوس بلوك:


أسرّ بلوك للكاهن الذي هو الموت في مشهد الاعتراف سابق الذكر أن “قلبه فارغ”. فلقد جعلته الحملة الصليبية يفقد الإيمان بالله. ويبدو أن فقدان الإيمان هذا لا ينبع من الخالق بل من هذه المخلوقات. إن الشر البشري هو الذي يجعلنا نشك في إمكانية الخير الإلهي. ومنذ ذلك الحين، يتساءل الموت: لماذا يريد رجل يشعر بالاشمئزاز من إخوته أن يستمر في العيش ببدء لعبة الشطرنج؟


هناك سببان وراء تأخير بلوك لموته: معرفة وجود الله؛ وإمكانية القيام ببعض الأفعال التي تمنح حياته المعنى. وبادئ ذي بدء، ما لا يستطيع بلوك قبوله هو مغادرة العالم دون معرفة ما إذا كان الله موجودًا أم لا. وكون قلبه أصبح فارغًا فهو يريد أن يعرف.
وفي معاناة الموت تأخذ مسألة وجود الله معناها الكامل, فهل يمكن للحياة أن يكون لها معنى إذا كان الله غير موجود؟. يبدو رفض السؤال هو الحل الأسوأ لبلوك والموت, الذي يعرف من خلال التجربة، ألم الموت. وأثناء انتظار إيجاد إجابة شافية، يطرح أنطونيوس بلوك على نفسه فكرة ثانية: “أريد استغلال هذا التأخير في شيء له معنى”. ففي حالة وجود إجابة سلبية على وجود الله، يجب علينا أن نجد المعنى في هذا العالم.

كيف وجد الفارس معنى حياته؟


من خلال الاتصال مع ميا وجوف وكذلك ابنهما ميكائيل، يتخلى بلوك عن ازدرائه للبشرية. ويتغير جو الفيلم مع هذا التسلسل: الصورة أكثر وضوحًا، والكلام أكثر هدوءًا، وموسيقى جوف، أكثر نعومة. وبلوك، وفقًا لميا، لم يعد يبدو جديًا للغاية. يمكن للفارس بعد ذلك استئناف لعبة الشطرنج، مبتسمًا وحتى يمكنه الضحك على الحيلة التي لعبها على الموت.
كما أن مشاركتهم الملذات البسيطة تذكر بلوك بأن الحياة يمكن أن تكون لذيذة. مثلما كانت قبل مغادرته إلى الأرض المقدسة مع حبيبته, فيصبح للحياة معنى هنا، أي لها نكهة. لكن في التضحية تأخذ الحياة معناها، وتُفهم هذه المرة على أنها ما يبرر الوجود. فيقوم بلوك بصرف انتباه الموت من خلال التظاهر بالغش, ثم الموافقة على خسارة اللعبة. مما يسمح لعائلة الممثلين بالفرار والهروب من الموت.
خلال هذه الساعات الأخيرة من الحياة، لن يصل بلوك إلى المعرفة التي يبحث عنها، فالموت نفسه لا يعرف شيئا عن الله. وكانت الكلمات الأخيرة لبلوك “يا الله، أنت الموجود في مكان ما، والذي يجب أن يكون في مكان ما، ارحمنا”. تظهر أن المعرفة الميتافيزيقية عن الله مجرد وهم، ولكن الله “يجب” أن يكون موجودًا. يبدو أن برغمان، الذي ينتقد الدين وتجاوزاته، يعترف بصحة مسلمة وجود الله بينما يرفض إمكانية الإثبات.

لعبة الشطرنج في الفيلم


إن فكرة لعب الشطرنج مع الموت هي موضوع مستعار من العصور الوسطى. فقد استوحاها برغمان من لوحة جدارية رسمها ألبرتوس بيكتور في القرن الخامس عشر، حيث يظهر فيها الموت وهو يلعب الشطرنج. ويمكن تفسير لعبة الشطرنج على أنها رمزية لموقف بلوك: قوتان تواجهان بعضهما البعض، ويبدو ذلك واضحًا حت في معارضة الألوان. وفي المشهد الأول، يجد الموت نفسه مرتبطًا ارتباطًا وثيقًا باللون الأسود. ليس فقط من خلال اعتماد بيادق سوداء، ولكن أيضًا من خلال طائر أسود، وهو نوع من العبور الرمزي للموت. ولكن اللعبة تمثل إجابة لسؤال كيفية التعامل مع الموت.

في النهاية، يُعتبر فيلم The Seventh Seal تحفة فنية فلسفية تستحق المشاهدة والتأمل في معانيها العميقة. يمكن أن يوفر الفيلم تجربة مثيرة للتفكير ويترك المشاهد متسائلًا عن العالم والحياة والموت.
المراجع:


-Lindelöf, Ludvig, Gyden tiger och människora pratar.

https://medievalhollywood.ace.fordham.edu/items/show/85

متى يصبح الوجه بورنوغرافيًا؟

تعتبر الفوتوغرافيا حضورًا للنفس بوصفها آخر ،أي هي انفصال مراوغ للوعي بالهوية[1]. ويعد فعل أن أرى نفسي -غير النظر في المرآة- فعلا حديثًا بالمقياس التاريخي. ففي الماضي كان رؤية الشخص لجسده أمامه شيء من الهلوسة، وهذا الانزعاج ناتج من رؤية المرء نفسه على ورقة. ويفسر الفيلسوف رولان بارت* ذلك باختلال الملكية، إذ حولت الفوتوغرافيا الذات إلى موضوع[2]. وفي هذه المقالة سنجيب عن عدة أسئلة حول صورة السلفي، من أهمها متى يصبح الوجه بورنوغرافيًا؟ وكيف يتم تسويق الذات من خلالها؟

مفهوم السلفي


ذكر قاموس Oxford أن كلمة “سلفي” تعني الصورة التي يلتقطها الفرد لنفسه، بهاتف ذكي أو بواسطة كاميرا النت ويتم نشرها على مواقع التواصل الاجتماعي[3]. ومع انتشار الهواتف الذكية، أصبحت الصورة الذاتية الرقمية selfie ذات تأثيرات تواصلية اجتماعية. ويعتبر توجيه الكاميرا إلى الذات والتقاط صورة شخصية، نوعا من أنواع أنشطة التواصل الاجتماعي وأكثرها بروزًا. وعلى عكس البورتريه الذي يستغرق وقتًا لرسمه بإتقان، فصورة السلفي لا تتطلب تقنيات معقدة ولا روحًا فنية.


وقد انتشرت صور السلفي بين رواد مواقع التواصل الاجتماعي بسرعة، مما جعلها ظاهرة منتشرة في العالم فعالمنا اليوم مليء بالسلفي. وتعد الصورة الذاتية وسيلة لجذب انتباه شخص ما بصريًا، ومحاكاة للتفاعل وجهًا لوجه. وليكون الفرد موجودًا وجب عليه إنتاج هذه الصورة بشكل مستمر، وعرضها من خلال الشبكة. والحصول على الإعجاب والشعبية هي المكافأة النهائية، وبالتالي هي وسيلة لإسقاط آراء الآخرين على الذات.
تعتبر صورة السلفي وسيلة للتواصل والرؤيا والعرض بوصفها منتجًا. ومن الممكن أن تكون إضاعة للوقت، أو عمل عشوائي يتمحور حول الذات من خلال بعض التأملات اللحظية لها. وأخيرًا وسيلة ليرى الآخرون الفرد داخل الشبكات الاجتماعية، وبالتالي الحصول على المصادقة منهم.

الوجه بورنوغرافيًا


في عالمنا السريع اليوم وتحت تأثير الاستهلاك المتزايد، لا شيء يدوم،” إنه زمن الاستهلاك الذي لا يشبع أبدا”[4] . وغدت الصورة الأكثر استهلاكا على الإطلاق، مجتمعاتنا تستهلك صورا أكثر من الأفكار. و ربما يكون مجتمع اليوم أكثر تحررًا وأقل تعصبًا، ولكن بذات الوقت هو أقل أصالة. وهذا “ترجمة للوعي السائد بالاعتراف بتأثير الضجر المثير للغثيان، كما لو أن الصورة بتعميمها، أنتجت عالما بلا اختلافات”[5].
وضمن ذلك اسُتحدثت قيمة جديدة وهي انبثاق الخاص داخل العام؛ أي الإعلان عن الخاص. فيصبح الخاص مستهلكا ضمن قيمة العرض بوصفه سلعة. ويستعير الفيلسوف بيونغ شول هان لفظة بورنوغرافيا ليصف فيها أي عميلة عرض أو انكشاف للمجال الخاص داخل المجال العام. أي كونها وسيلة للغوص في أعماق الذات البشرية ووضعها في أشكال علنية[6].
وتصبح الصور شفافة عندما تتحرر من كل نزعة تربطها بالمشهد المسرحي أو الرقص أو التصوير، عندما تتحرر من أي عمل تأويلي، ومن أي معنى على الإطلاق تغدو أكثر التصقًا بالبورنوغرافيا، التي هي عبارة عن اتصال سطحي بين الصورة والعين”[7].

السرية والتعرية في صورة السلفي


متى يصبح الوجه بورنوغرافيًا؟ قد يتساءل القارئ عن الرابط بين البورنوغرافيا (الإباحية) وصورة السلفي. ويجيب الفيلسوف جان بودريار على ذلك، فيقول: “الصورة عن قرب للوجه هي نوع من الفحش كما لو أنك قد نظرة إلى أحد الأعضاء الجنسية من مسافة قريبة. إنه يغدو عضوًا جنسيا. أي صورة أي شكل، أي جزء من الجسم يُحدق فيه من مسافة قريبة يتحول إلى عضو جنسي”[8].
ولا يوجد أكثر من تجانس الصور الإباحية، هي دائمًا صورة ساذجة، لا مقصد لها ولا حسابات. مثل واجهة زجاجية لا تعرض ولا تكشف سوى جوهرة وحيدة واجهة مخصصة بالكاملة لشيء وحيد، الجنس ولا يوجد موضوع آخر[9]. أليست صورة السلفي وسيلة عرض للوجه الإنساني فقط عبر الشاشة واجهة مخصصة للتحديق بها من مسافة قريبة؟
الجسم اليوم غدا مجموعة بيانات، وفي الوقت نفسه يتم تفكيكه لأشياء جزئية تشبه الأعضاء التناسلية، تشغله الشبكة الرقمية. يقول هان:” في عالم اليوم الجسم في أزمة. حيث لا ينحل فقط إلى مجرد أعضاء بورنوغرافية، ولكن إلى مجموعة من البيانات الرقمية”[10].
ويضيف آغامبين: “الشيء الوحيد الذي يمكن أن يفصح عنه الوجه الجميل، وهو يكشف عن عريه مبتسما. هو هل تريد أن تشاهد سري؟ هل ترغب بالكشف عن ما هو مستور؟ فلتنظر جيدا إذا ما دام ذلك في استطاعتك”[11]. فالوجه المعروض ليغازل المستهلك يفتقر إلى قيمة السمو. الوجه يعرض دون أي سر لا يخفي شيء ولا يعبر عن شيء، ولا يظهر شيء غير عرض ذاته. ومن هنا اختزال الوجه بقيمة العرض تمنحه صفة بورنوغرافية، “فالوجه الذي يتم تعبئته بقيمة العرض لكي يصل إلى نقطة الانفجار هو وجه بورنوغرافي”[12].
ولا يتضمن الوجود العاري للذات أي قيمة إذا ظل على الهيئة التي هو عليها. بقد ما يكون له قيمة وشأن داخل قيمة العرض، أي توجيه الانتباه إلى ما يتم إنتاجه. وهنا السلفي هي إعادة إنتاج للذات داخل قيمة العرض. وفي عصر تطورت فيه آليات التقاط الصور وتعديلها وفلترتها، لتكون واجهة الذات أمام الآخر.

صورة السلفي كانعكاس للذات عند بيونغ شول هان


يطرح الفيلسوف بيونغ تشول هان في كتابه “خلاص الجمال” موضوع صورة السلفي تحت عنوان الجسد الناعم، فيعتقد أن الصورة المقربة للوجه تعكس مجتمعا غدا منغلقا على نفسه. فالوجه أصبح محاصرا داخل نفسه ويغدو مرجعًا ذاتيًا لها وبذلك لم يعد معبرًا ويفتقد للعمق والجوهر والنظرة الذاتية.
ويشير أن التقاط صورة السلفي ناتج عن الفراغ الداخلي للأنا المعاصرة. فيراها فقيرة للغاية، فصورة السلفي “هي على وجه الدقة وجه فارغ بلا تعبير” [13]. كما ويؤكد أن إدمان التقاط الصور ناتج عن فكرة ” اليوم لا شيء يدوم”، وهذا يؤثر على الأنا ويزعزع استقرارها في مواجهة الفراغ الداخلي للأنا المعاصرة، ويضعها في حالة عدم الأمان. وبالتالي النفس تصبح مشتتة ولا تستقر ولا تشعر بالراحة. وهذا الفراغ الداخلي يدفع الذات إلى إعادة إنتاج نفسها من خلال صورة السلفي. وبالتالي صورة السلفي صورة فارغة للنفس ، أي استنساخ للفراغ.

وظيفة الصورة


من منا يستطيع إحصاء عدد صور السلفي التي نراها، ونحن نتنقل بين صفحات التواصل الاجتماعي. ومن منا لا يملك تصنيفًا ونظرة خاصة لها، نظرتنا للجمال، ذوقنا الخاص، اندهاش، افتتان، إعجاب، اشتهاء أو حتى نفور ولامبالاة. صورة السلفي صورة هشة هامدة، ملساء لا تقع إلا في مجال الحقل الرحب للرغبة الفاترة. كما أنها تثير الإعجاب أو الانجذاب، لكن لا يمكنها النفاذ إلى المتلقي لتثير شغفه. اهتمام المتلقي بها كالاهتمام بعروض، وملابس، وكتب، قد يجدهم جيدين.
ما الغاية من الصورة؟ قد يطرح المتلقي هذا السؤال بوصفه مستهلكا، تسمح الصورة لمتلقيها بمعرفة مقاصد ملتقطها، وتخلق حالة من التوفيق بين المجتمع والصورة عن طرق تخصيص وظائف لها، يقول بارت: ” الصورة خطرة” فوظيفتها تمثل عذرا للمصور. ومن هذه الوظائف: الإبلاغ، التمثيل، المفاجأة، التدليل، إثارة الرغبة[14]، كل ذلك دون إحداث أثر عميق بالنفس.
الصورة دائما عرض لشيء ما، وصورة السلفي تقدم عرضًا حصريًا للوجه. وقد يلاحظ المتلقي شكل الأسنان العينين، الشفتين، شكل الأنف، نظرة واحدة تكفي لكل ذلك، بل تكفي لمعرفة الفلاتر الموضوعة للصور، أو التغيرات التجميلية على الوجه، وبذلك تثير الصورة الاهتمام السطحي، ولا تتجاوز نفسها ولا تفصح عن شيء.

السلفي كصورة متوحدة


و تدخل صورة السلفي ضمن ما سماه بارت الصورة الفوتوغرافية المتوحدة. ويعد هذا النوع من الصور الأكثر انتشارًا في العالم الصورة العادية، فيقول بارت: “تكون الصورة متوحدة عندما تحول توكيدًا الواقع دون انشطاره، ودون زعزعته، التوكيد هو قوة تماسك لا ازدواجية ولا التفاف ولا تشويش. الصورة المتوحدة لديها كل ما يجعلها عادية”[15].
تضيف إلزا غودار أننا اليوم انتقلنا من عالم كانت الصورة فيه تسجل ما هو موجود. إلى عالم تتكاثر فيه الصور بلا جدوى، ويتعلق الامر بصورة هشة وعائمة صورة ملتقطة بسرعة، إنها صور لن تكون أبدا حقيقية. فبرمجيات التحسين والتصحيح وإضافة اللمسات مودعة في الآلة الفوتوغرافية نفسها، فلم تعد الصورة تنقل واقعا ، بل تغيره باستمرار. وهي صور هشة، لحظات عابرة، ومضات ليس لديها الوقت لتفكر في الواقع أو تقوم باستعادته[16]، وبذلك تكون خارجة من المعنى.

تسويق الوجه


تعتبر صورة السلفي إعلانًا فعالًا عن الذات (أيّ تسويق ذاتي- selfbranding). يستطيع الفرد من خلالها تقديم ذاته كموضوع للعرض والتداول في مجتمع الاستهلاك. كلما زاد الإعجاب زاد تقدير الذات وتضخم، وزادت الثقة بالنفس واحترام الذات. ومن هذه الزاوية يمكن النظر إلى فعل السلفي بوصف الشخص الذي يلتقط الكثير من السلفيات يفتقر إلى الثقة بالنفس.
ويعمل على طمأنة نفسه بالتقاط صورة سلفي جميلة كمرجع مصور لذاته يعيد إليه شيئًا من احترام الذات. من خلال ما يحصده من إعجاب. وبما أن الذات ليست مطمئنة في وجودها الخاص، فإنها ستظل تنتظر تأكيدها من خلال البحث عن أكبر قدر من التقدير لنفسها في تكاثر اللايكات[17]. يؤكد عصر الفيس بوك والفوتوشوب أن الوجه البشري أصبح مساويًا فقط لقيمة العرض، الوجه مجرد عرض على الشاشة منزوع من هالته، سلعة على شكل وجه إنسان[18].

الصورة بوصفها موتًا


كل من يلتقط صورة اليوم يكافح بكل الأساليب لتصبح الصورة موتا. ألا يشعر من يلتقط صورة لنفسه أن ذاته تصبح موضوعًا، في لحظة واحدة تتحنط ويقف الزمن وتغدو صورة. ناهيك عن ما يلحق بها من تبعات لتغدو أجمل، خاصة الفلاتر لتغدو الصورة محنطة بشكل مثالي. ولا يتوقف الأمر هنا، بل وينتظر صاحب الصورة رأي المجتمع بها، متناسيًا أنه لم يصبح إلا صورة(منتج). ماذا يفعل المجتمع بالصور؟ ما يقرأ منها؟ كيف يقرأون الوجوه؟ خاصة بعد انتشار السلفي كظاهرة. يقول بارت: “ولكن حين أظهر على منتج العملية – يقصد عملية التصوير- ما أراه أنني لم أصبح إلا صورة. بما يعني الموت نفسه، الآخرون يجردونني من نفسي، يشيِّئونني بضراوة، يبقونني تحت رحمتهم، رهن إشارتهم. يصفونني في مدونتهم استعدادًا لجميع الخدع الغامضة”[19].
يشير بارت أن الصورة لا يمكن تحويلها إلا إلى نفاية، حتى لوكان على مواد صلبة (كالشاشة مثلًا). فما أن يتخذ المرء وضعية السلفي ويلتقط صورة للعامة، تصبح على الشاشة مستهلكة. يشبه بارت الصورة بالكائن الحي تولد تتفتح ثمّ تشيخ[20]، والصورة التي لا تملك أثرا تكون أبعد ما يكون عن الديمومة.

عليك أن تحدث نفسك باستمرار أو بتعبير آخر إعادة إنتاج مستمرة للذات. واحد هذه الطرق تقديم صورة تجعلك موضوعا حاضرا على الشاشة، وإعادة الفعل نفسه مرارًا. وحتى لو كانت الصورة على الشاشة فهي قابلة للزوال حينما تصبح مستهلة.
وفي الختام “لم يعد للكلمات أي شأن، إن العالم يُكتب بالصور” [21]. الذي يتكلم اليوم هو الآنية في هذه اللحظة الثابتة حول ملايين البكسيلات، الملتقطة بنظرة واحدة، إنها تتكلم عن الحياة والموت والأحاسيس والانفعالات، لقد حُصر قياس حجم العواطف في تأويل جاهز للرؤية. وبالتالي حل مجتمع الصورة الهشة محل الخطاب العقلاني.

المراجع


*- رولان بارت: فيلسوف فرنسي وناقد أدبي، ومنظر اجتماعي، غطت أعماله عدة مجالات فكرية عديدة، وأثر في تطور مدارس عديدة كالبنيوية والماركسية والوجودية.
1- بارت، رولان، الغرفة المضيئة (تأملات في الفوتوغرافيا)، ترجمة: هالة نمر، ط1، المركز القومي للترجمة، 2020م، ص16.
2- المرجع السابق، ص 17.
3- أحمد، رحاب يحيى(2019)،سلوك نشر صورة السلفي على مواقع التواصل وعلاقته ببعض اضطرابات الشخصية، دراسات تربوية ونفسية، ع(104)، ج2، ص ٨٦.

https://sec.journals.ekb.eg/article_81169.html


4- غودار، إلزا، أنا أوسلفي إذن أنا موجود، ترجمة: سعيد بنكراد، ط1، المركز الثقافي للكتاب، الدار البيضاء، 2019م، ص83.
5- بارت، ص108.
6- هان، بيونغ شول، خلاص الجمال، ترجمة: بدر الديم مصطفى، ط1، دار معنى للنشر والتوزيع، 2020م، ص20.
7- هان، بيونغ شول، مجتمع الشفافية، ترجمة: بدر الديم مصطفى، ط1، مؤمنون بلا حدود للنشر والتوزيع، 2019، ص15.
8- هان، خلاص الجمال، ص21.
9- بارت، ص42.
10- هان، مجتمع الشفافية
11- هان، مجتمع الشفافية، ص51.
12- المرجع السابق
13- هان، خلاص الجمال، ص22.
14- بارت، ص12.
15- المرجع السابق، ص41.
16- غودار، ص63.
17- المرجع السابق، ص80/86.
18- هان، مجتمع الشفافية، ص31.
19- بارت، ص 18.
20- بارت، ص86.
21- غودار، ص60.

الاستشراق: الشرق من وجهة نظر غربية

إن الاهتمام بدراسة الشعوب والأمم المجاورة، موجود في كل زمن. ولو عدنا لكتابات المسلمين حول الشعوب المجاورة لهم، سنجد الكثير وتحديدا في أدب الرحلات. وقد ترك الرحالة المسلمون كتابات وصفوا فيها الأمم المجاورة، وحضارتها وآدابها وعلومها. ونقلوا من خلال هذه الكتابات تصوراتهم عنها. ويمكن القول أن هذا الوصف كان تقييما وحكما على الأخر من خلال الذات، فكانت قراءة للأخر المختلف في مرآة الأنا. وإذا كان الاستشراق يمثل محاولة للبحث والتعرف إلى الآخر، والانفتاح على فكره وثقافته، ونقل صورته كونه مختلفا. وكون هذا الاختلاف ينبع من خلال مقارنة الأنا بالآخر، فالاستشراق يمثل قراءة المعطيات المتصلة بالشرق، من حضارة وثقافة وما يتصل به. من خلال ما تعكسه مرآة الغرب عنه، بصفته مغايرا ومختلفا. خاصة أن الشرق بتعبير إدوارد سعيد، يمثل “أعمق صور الأخر وأكثرها تواترا لدى الأوروبيين”[1 ]. وبالتالي الاستشراق هو صورة الشرق من وجهة نظر غربية. وسنتحدث في هذا المقال عن مفهوم الاستشراق بصورة أعمق.

مفهوم الاستشراق

لفظة الاستشراق هي تعريب للمصطلح الإنجليزي 《ORIENTALISM》، وهي بهذه الصياغة الصرفية غير موجودة في معاجم اللغة العربية القديمة. ومع ذلك لم تخل معاجم اللغة العربية الحديثة من هذه اللفظة، كمرادف للمصطلح الغربي. فهي مصدر للفعل استشرق، ومدرجة في معاجم اللغة الحديثة تحت مادة شَرَقَ.

واستشرق في معجم “متن اللغة”: “طلب علوم أهل الشرق ولغاتهم”[2]. وخصصت اللفظة بعلماء الغرب، “ويقال لمن يعنى بذلك من علماء الفرنجة”[3 ]. وهو أيضا “عناية واهتمام بشؤون الشرق وثقافاته ولغاته، وأسلوب غربيّ للسيطرة على الشرق وإعادة بنائه وبسط النفوذ عليه”[4]. ويشير صاحب المعجم الأول أن هذه اللفظة “مولدة عصرية”[5]. وبالتالي وجودها في معاجم اللغة الحديثة يعني أن كلمة استشراق بمعناها المرادف لكلمة 《ORIENTALISM》ذات المفهوم الغربي كلمة مستحدثة.

والاستشراق كفعل كان أسبق تاريخيا من ظهور المصطلح. حتى أن لفظة “الاستشراق” و”المستشرق” عام [1095هـ/1683م] كان يُعنى بها” أحد أعضاء الكنيسة الشرقية”[6]. وبالتالي هي كلمة حديثة، حتى في اللغتين الانجليزية والفرنسية. وظهرت كلمة مستشرق في الانجليزية لأول مرة في إنجلترا، عام [1193هـ/1779م]. ثم ظهرت في فرنسا عام [1214هـ/1799م] [7]. أما في العربية، فقد ظهرت وانتشرت في النصف الثاني من القرن العشرين [8].

الاستشراق اصطلاحا

يعبر مصطلح الاستشراق عن الاهتمام العلمي بالشرق، مهما كانت الغاية من هذا الاهتمام. ومع تعدد الدراسات التي أرّخت لموضوع الاستشراق، تعددت تعريفاته. لدرجة أن خبراء الاستشراق اعتبروا أن تدوين تعريف دقيق جامع مانع للاستشراق، أمر مستحيل! [9]

الشرق جغرافيا

ومهما تعددت التعريفات، يبقى الاستشراق متصلا بالشرق. وبالتالي وجب تحديد مفهوم الشرق الجغرافي، الذي يقوم عليه الاستشراق، كمصطلح وكفعل أولًا. فـ “الشرق جغرافيا لا يدل على شيء ثابت، أنما هو حد نسبي، يمكن أن ينطبق على كل صقع من أصقاع المعمورة”[10].

وقد تنبه المستشرق رودي بارت[11] إلى أهمية تحديد الشرق جغرافيا. حيث يشير إلى أن المصطلح مشتق من “شرق” أي مشرق الشمس. وبذلك الاستشراق هو علم الشرق [12]. ويضيف “أن الشرق الذي يختص به الاستشراق، مكانه جغرافيا في الناحية الجنوبية الشرقية بالقياس إلينا” [13].

والمصطلح يرجع إلى عصور قديمة كان فيها البحر المتوسط وسط العالم، وكانت الجهات تتحدد بالنسبة إليه. وحتى مع تغير ثقل الأحداث السياسية، بقي المفهوم على حاله، فالشرق هو شرق البحر المتوسط. إلى أن اتّسع مدلولها مع الفتوحات الإسلامية لتشمل مصر وشمال إفريقيا أيضا [14].

تعريف إدوارد سعيد للاستشراق

تعددت تعريفات الاستشراق بتعدد الدراسات التي تناولته. وبعض هذه التعريفات عام واسع شمل دراسة الشرق، وما يتصل به من لغة وتاريخ وحضارة وغيرها. والبعض الآخر خصّ به دراسة الحضارة العربية الإسلامية. ومن أشهر تعريفات الاستشراق تعريف إدوارد سعيد، فهو تعبير أطلقه في كتابه “الاستشراق: المفاهيم الغربية للشرق”. وعنى به “التفاهم مع الشرق بأسلوب قائم على المكانة الخاصة، التي يشغلها الشرق في الخبرة الأوروبية الغربية” [15]. أي إدراك واستيعاب الشرق استنادًا على الصورة التي بناها الغرب عن الشرق. كونه مجاورا لأوروبا، ومصدرا لحضارتها ولغاتها، ومنافسها الثقافي. وهو الصورة والفكرة والشخصية والخبرة المضادة للغرب منذ القدم [16].

كما اعتبره “أسلوبا للخطاب [التفكير والكلام] تدعمه مؤسسات ومفردات وبحوث علمية، وصور ومذاهب فكرية، بل وبيروقراطيات استعمارية، وأساليب استعمارية” [ 17]. وسعيد هنا يعرّف المفهوم موظفا أو مستندا على فكرة الخطاب، التي طرحها ميشيل فوكو. حيث توصل إلى حجة مفادها، أن الاستشراق نظام خطابي. تمكنت من خلاله الثقافة الأوروبية من إنتاج الشرق بل وابتداعه [18].

ويقصد سعيد بالاستشراق عدة أمور يعتمد بعضها على بعض، أولها وأوسعها هو أنه مبحث أكاديمي. “فالمستشرق كل من يعمل بالتدريس أو الكتابة أو إجراء البحوث، في موضوعات خاصة بالشرق. سواء كان ذلك في مجال الأنثروبولوجيا أي علم الإنسان، أو علم الاجتماع، أو التاريخ، أو فقه اللغة. وسواء كان ذلك يتصل بجوانب الشرق العامة أو الخاصة، والاستشراق وصف لهذا العمل” [19]. أما في معناه الأعم والأشمل قصد به: (أسلوب تفكير، يقوم على التمييز الوجوديّ والمعرفيّ. بين ما يسمّى “الشرق”، وبين ما يسمّى “الغرب”)[20].

استشراق للهيمنة

ومن ناحية أخرى يرى سعيد أن الاستشراق هو “المؤسسة الجماعية للتعامل مع الشرق. والتعامل معه يعني التحدث عنه، واعتماد آراء معينة عنه، ووصفه، وتدريسه للطلاب، وتسوية الأوضاع فيه، والسيطرة عليه. باختصار بصفة الاستشراق أسلوبا غربيا للهيمنة على الشرق، وإعادة بنائه، والتسلّط عليه” [21]. وقد حدد سعيد نقطة انطلاق زمنية للاستشراق بهذا المعنى، وهي القرن الثامن عشر الميلاديّ.

وبالنظر إلى ما أورده سعيد من تعريفات للاستشراق، نلاحظ أنه يصف الاستشراق ويحدّد وظيفته. وهو يوظف في تعريفه غاية يريد إيصالها للمتلقي، وهي أن الاستشراق هو دليل السيطرة والهيمنة الغربية على الشرق. وذلك من خلال ربطه لأفكار فوكو عن السلطة والمعرفة، وتحديدا السلطة التي تنتج المعرفة.

تعريفات أخرى للاستشراق

يشير بيرنارد لويس أن كلمة الاستشراق في الماضي كانت تعبر عن مدرسة في الفن. وهم مجموعة من الفنانين الأوروبيين، كانوا يرتحلون إلى الشرق ويرسمون ما يرونه ويتخيلونه بطريقة رومانطيقية وغرائبية مدهشة. أما المعنى الثاني وهو الذي يهمنا هنا وهو اختصاص علمي، وهذه الكلمة مع العلم الذي تدل عليه تعود إلى عصر التوسع للعلم في أوروبا في عصر النهضة [22].

ويرى أحد الباحثين أن الاستشراق هو ظاهرة علمية، فبالرغم من أنه علم من العلوم الإنسانية. إلا أنه لا يتمتع كبقية العلوم بالديمومة والثبات والاستقرار، فأطلق عليه تسمية “الظاهرة العلمية” [23]. فالاستشراق -حسب رأيه- مر بمراحل متعددة، من دينية إلى سياسية إلى علمية. وكل مرحلة تتميز بخصائص مختلفة عن سابقتها، تبعا للأغراض والموضوعات التي يتناولها. وهو لا يتصف بالاستمرار والثبات، فهو على وشك الزوال. فقد تناقصت موضوعاته وانتهت أغراضه، ولم يعد هناك جديد يقدمه [24].

ويمكن النظر إلى تلك الحركة على أنها ظاهرة معقدة ومتنامية، مستمدة من الاتجاه التاريخي العام للتوسع الأوروبي الحديث. وتنطوي على مجموعة كاملة من المؤسسات الآخذة في التوسع تدريجيا، وهي مجموعة مبدئية تراكمية من النظرية والممارسة. وهي بنية فكرية أيديولوجية متناسبة مع جهاز من الافتراضات، والمعتقدات، والصور، والمنتجات الأدبية، والعقلنة. وهو ما أطلق عليه صادق جلال العظم “الاستشراق المؤسسي” [25] [26]. ومع ذلك يبقى تعريف بعض الباحثين للاستشراق في المعنى العام والواسع حاضرا. على سبيل المثال يعرف بمعناه الواسع على أنه علم يدرس لغات وشعوب الشرق، وتراثهم، وحضارتهم، ومجتمعاتهم، وماضيهم، وحاضرهم، وبالتحديد الدراسات المتعلقة بالشرق الأوسط [27].

بداية الاستشراق

اختلفت آراء الباحثين حول بداية الاستشراق، فليس هناك اتفاق على تاريخ محدد لبدايته. فمنهم من ربطه بحدث وتاريخ محدد أو بقرن معين. وبالعودة إلى سعيد، يعتبر عام [712هـ/1312م] تاريخا رسميا لبداية الاستشراق. وفيه اتخذ مجمع الكنائس في فيينا قرارا بإنشاء كراس للدراسات العربية والعبرية واليونانية والسريانية في الجامعات [28]. إلا أن الاختلاف لا يزال موجودا، فيرى باحث آخر أن الاستشراق بدأ رسميا في القرن الثامن عشر. لأن كلمة [Orientalism] قد دخلت معاجم اللغة في منتصف هذا القرن [29].

ويعتقد رودي بارت أن البداية للدراسات العربية والإسلامية ترجع إلى القرن الثاني عشر، وتحديدا إلى عام [538هـ/1143م]. حيث ترجم روبرت كتون القرآن لأول مرة إلى اللاتينية. وشكلت هذه الترجمة المعلم البارز والأساسي، في مجال الدراسات الإسلامية بأوروبا الوسيطة. وفي نفس القرن أيضا نشأ أول قاموس لاتيني عربي [30].

ترجمة القرآن وبداية الاستشراق

وعارض ذلك رضوان السيد، ويرى أن ترجمة القرآن من العربية لأول مرة في القرن الثاني عشر الميلادي، وقرار مجمع فينا في القرن الذي يليه، وما يشابهها من جهود حتى مطلع القرن السادس عشر، ليست استشراقا؛ لأن مقاصدها تبشيرية وليست معرفية. كما أنها جزء من الحروب الدائرة بين المسيحية والإسلام منذ ظهوره في القرن السابع الميلادي [31].

وقد أخذت تلك الحركة بالتبلور حسب رأي طيب تيزيني [32]، مع نشأة الاستعمار الرأسمالي والامبريالية. ويرى أن الاستشراق بأشكاله البسيطة، بدأ مع الملامسات الأولى بين أوروبا الصاعدة باتجاه الثورة البرجوازية. والشرق الذي كان قد ودع مراحل الازدهار الحضاري، في العصور الوسيطة العربية. وذلك مع بداية الحروب الصليبية وما تلاها من تطورات اقتصادية وسياسية وثقافية [33].

ويمكن القول هنا أن الاستشراق بدأت إرهاصاته في القرون الوسطى، وتحديدا حين شكل الإسلام تحديا عقديا وعسكريا للمسيحية. في زمن كانت الكنيسة تجمع فيه بين السلطتين الدينية والدنيوية، وتسيطر فيه على العلم والمعرفة. فأصبح من الضرورة معرفة هذا الدين الجديد ومعرفة ماهيته، فكانت هذه المعرفة مدفوعة بالضرورة. إذ كان صعود الإسلام كقوة عالمية، سياسية عسكرية ثقافية والأهم دينية، يشكل تهديدا على الغرب المسيحي. “فلقد كان الإسلام الوسيط يفيض ازدهارا وثراء في المجالات كلّها، بينما كان الغرب في الحقب نفسها لا يملك غير ثقافة آباء الكنيسة، والشعراء الكلاسيكيين ومن بعدهم، وثقافة مدرسي اللاتين” [34].

دوافع الاستشراق

أما عن دوافع الاستشراق، فقد تعددت وتباينت آراء الباحثين حولها. ومنها الدافع الديني أو التبشيري، والدافع الاستعماري، والدافع العلمي، وغيرها من الدوافع، ويمكن ربط الدوافع والأهداف بسهولة بالغة. ومحاولة إعادتها جملة وتفصيلا، لا يشكل إلا إعادة سرد لما جاء في الدراسات السابقة عن الاستشراق. ولكن بحكم أن الاستشراق هو معرفة، تنبع من الاختلاف وتتمحور حول الأخر المجهول. فمحاولة التعرف إلى هذا الأخر، والانفتاح على فكره وثقافته، هو دافع للبحث عنه واستكشافه. وهذه الفكرة بحد ذاتها، تنبع من رغبة الإنسان في البحث والكشف عما هو جديد ومختلف.

كما أن الاختلاف هو أساس وسنة في الخلق. ويبرز هذا في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا…﴾[35]، فالتعارف والتواصل بين الأمم والشعوب ضرورة تنبع من هذا الاختلاف.
ويمكن القول أيضا أن الاستشراق هو نتاج لفعل معرفي يخضع لمحددات وأطر خارجية تؤثر بالذات العارفة وتساهم في تشكيلها، فهذه المعرفة لم تكن بمعزل عن ما هو سائد من أفكار وميول ونزعات، تأثر فيها الباحثون أفرادا أو حتى من خلال المؤسسات التي تقوم على إنتاج هذه المعرفة. فالمستشرق ينتمي إلى التراث الأدبي والفكري والثقافي العام السائد باعتباره إطارا لا يستطيع الخروج عنه، وهو ما يسمى بالبنوة [36]، فيبقى ما ينتجه المستشرق وليدا داخل هذا الإطار بشكل حتميّ.

وأخيرًا لا يمكن أن نتناسى أن الاستشراق وليد للحضارة الأوروبية. فالمستشرق دوّن وجهة نظره للشرق من خلال رؤيته الخاصة للحضارة والتاريخ، والسياسة والدين والمجتمع. وهذه الرؤية مرتبطة كليا بتطور الفكر التاريخي والفلسفي والديني للغرب، وتطور مفاهيم البحث العلمي ومناهجه. فلا يمكن دراسة منتجات الدراسات الاستشراقية بمعزل عن هذه التطورات.

الاستشراق وخدمة التراث

لقد عمد المستشرقون إلى خدمة التراث الإسلامي بكل ما يحتويه، وتناولوه جمعا وتحقيقا ودراسة، وقاموا بتصنيفه وترجمته ونشره. و أفاد التراث من المستشرقين، من خلال تطبيق مناهجهم المختلفة عليه. وبذلك خدم الاستشراق التراث العربي، بشكل لا يمكن الاستغناء عنه، فكان هذا من أهم النتائج الإيجابية لحركة الاستشراق. فقد أنقذوا كنوزا من الضياع، فبقيت بفضلهم ومجهودهم محفوظة وإن كانت في غير أرضها [37].

ويضاف إلى ذلك تحقيقهم لمئات المخطوطات بمختلف اللغات العربية، والسريانية، والفارسية، والتركية، وغيرها. ما كانت لتكون متوافرة بين يدي الباحثين، لولا عناية المستشرقين بها. أما في مجال الدراسات الاستشراقية فعلى الرغم من أهميتها لأي دارس للتراث العربي الإسلامي في شتى مجالاته. وحجم المجهود الذي بذل في إنجازها، ومدى تأثيرها على الباحث العربي خاصة في ما يتعلق بالجانب المنهجي. إلا أنها ليست إيجابية بشكل كامل، فهي تحوي سلبيات أيضا.

ولا يمكن إنكار أن هذه الدراسات كانت تستثمر في بثّ إيديولوجيات معينة، كانت تفيد الحركة الاستعمارية على سبيل المثال. وتؤدي إلى التحكم والتوجيه ثقافيا، فليس غريبا بروز مسألة القومية في الأواسط العربية من خلال تفسير التاريخ قوميًا مثلًا. والاستناد عليه في توجيه الحركة الفكرية، بشكل عام في المنطقة. فكان الغرض الأول من التوجه الإمبريالي، عن طريق تلك الحركة نحو السيطرة على الثقافة العربية. بمعنى التحكم باتجاهاتها الحديثة، لتكون دراسة تراثها الفكري أحد وسائل هذا التحكم، وأحد أشكاله [38].

ومع أن الأفكار التي جاء بها المستشرقون كانت خاضعة للنقاش وللجدل، وللقبول والرفض. إلا أن الباحثين [39] العرب لم ينكروا فضل المستشرقين، خاصة في مجال تحقيق المخطوطات وطباعتها ونشرها وحتى بحثها. فقد شهد القرن التاسع عشر تكريسا للبحث عن الوثائق، والمواد العربية على نحو تدريجي. حتى أصبح طلب المراجع والمخطوطات أشبه ما يكون بـ “الحمى أو الجنون بين المستشرقين” [40].

الاستشراق والتاريخ العربي

ويعد التاريخ من أهم المجالات التي احتلت حيزا في الدراسات الاستشراقية، وذلك لاحتوائه على مظاهر الوحدة والتنوع. ويؤكد على ترابط واستمرار الأمة عبر العصور [41]، بقيمها وانجازاتها السياسية والاجتماعية والاقتصادية والحضارية والفكرية. أما الانكباب على دراسة الإسلام كتاريخ ودين وحضارة، ذلك لكونه واحدا من أعظم أحداث التاريخ العربي تحديدا والشرقي بالعموم.

ويرى أحد الباحثين المسلمين أن المستشرقين هبة من الله للإسلام وتاريخه فيقول: “يشاء الله أن يهب الإسلام من الأوروبيين من يؤرخون له كسياسة فيجيدون التأريخ، ومن يبحثون فيه كدين وحياة روحية فيتعمقون بهذا البحث ويبلغون الذروة أو يكادون، ومنهم من يقبلون على الجانب الفيلولوجي منه فيظفرون بنتائج على جانب من الخطر كبير، فكان على رأس هؤلاء الأخيرين ثيودور نولدكه، وعلى رأس أولئك الأولين فلهاوزن، وكان سيد الباحثين فيه من الناحية الدينية خاصة والروحية عامة أغناتس جولدتسيهر” [42].

وبذلك أتاح المستشرقون المجال لرؤية تاريخية من زوايا مختلفة فرضت على المتلقي العربي تحديات استفزازية أغنت نظرته نحو التاريخ والثقافة. فكانت الدراسات التاريخية حول الشرق العربي الإسلامي، استجابة لدافع معرفة وإدراك الذات من خلال المقارنات والمقاربات مع الأخر [43]. والكتابات التاريخية الاستشراقية بأشكالها وكثافتها المختلفة كانت تعكس شيئا من أجواء وقتها الأصلي. فلا يمكن النظر إليها بتجرد وبمعزل عن بدايتها التاريخية، ولا يمكن عزلها عن الإمبريالية والمطامع الاستعمارية، والتوجهات الفكرية المرتبطة بها. ويمكن القول أن اتجاهات التأريخ ودراساته كانت تسهم إسهاما هاما في المجال الفكري والثقافي والسياسي والاجتماعي.

ويشير محمد أركون بأن الاستشراق ملأ فراغا كبيرا فيما يخص دراسة الإسلام. فقد طبق المنهجية الفيلولوجية [أي اللغوية] والتاريخية على موضوعات كانت محرمةعلى البحث من قبل أرثوذوكسية صارمة وجامدة. فالمستشرق الألماني نولدكه هو الذي طبق المنهجية التاريخية لأول مرة على المصحف. وأما غولدزيهر فقد طبق نفس المنهجية على كتب الحديث النبوي. وقل الأمر نفسه عن المستشرق جوزيف شاخت الذي درس الشروط [أو الظروف] الاجتماعية والسياسية التي أحاطت ببلورة الشريعة أو الفقه [44].

المصادر

[1] سعيد، إدوارد، الاستشراق: المفاهيم الغربية للشرق، ترجمة محمد عناني، ط1، رؤية للنشر والتوزيع، القاهرة، 2006م، ص43 سيشار إليه فيما بعد سعيد، الاستشراق.
[2] رضا، أحمد، معجم متن اللغة، المجلد الثالث، [د.ط]، دار مكتبة الحياة، بيروت، 1959م، ص310، وسيشار إليه فيما بعد: رضا، متن اللغة.
[3] المرجع السابق.
[4] عمر، أحمد مختار، معجم اللغة العربية المعاصرة، ط1، 4ج، عالم الكتب، [د.م]، 2008م، ج2، ص1192، وسيشار إليه فيما بعد: عمر، معجم اللغة.
[5] رضا، متن اللغة، ص310.
[6] سمايلوفتش، أحمد، فلسفة الاستشراق وأثرها في الأدب العربي المعاصر، ط1، دار الفكر العربي، القاهرة، 1418هـ/1998م، ص25، وسيشار إليه فيما بعد: سمايلوفتش، فلسفة الاستشراق، زماني، محمد حسن، الاستشراق والدراسات الإسلامية لدى الغربيين، ترجمة محمد نور الدين عبد المنعم، ط1، المركز القومي للترجمة، 2010م، وسيشار إليه فيما بعد: زماني، الاستشراق ، ص41.
[7] حميّش، بنسالم، العرب والإسلام في مرايا الاستشراق، ط1، دار الشروق، القاهرة، 2011م، ص17، وسيشار إليه فيما بعد، حميش، العرب والإسلام.
[8] الدعمي، محمد، الاستشراق: الاستجابة الثقافية الغربية للتاريخ العربي الإسلامي، ط2، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 2008م، ص23، وسيشار إليه فيما بعد، ادعمي، الاستشراق.
[9] زماني، الاستشراق، ص41.
[10] شيدر، هانز هينوش، روح الحضارة، ترجمة عبد الرحمن بدوي، [د.ط]، دار العلم للملايين، بيروت، 1991م، ص7.
[11] مستشرق ألماني، من أشهر أعماله ترجمة القرآن إلى اللغة الألمانية مع شرح فيلولوجي، راجع: بدوي، عبد الرحمن، موسوعة المستشرقين، ط3، دار العلم للملايين، بيروت، 1993م، ص62، وسيشار إليه فيما بعد: بدوي، الموسوعة.
[12] بارت، رودي، الدراسات العربية والإسلامية في الجامعات الألمانية، ترجمة مصطفى ماهر، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 2011م، ص17، وسيشار إليه فيما بعد: بارت، الدراسات العربية.
[13] يقصد بـ “إلينا” الغرب والحضارة الغربية، بارت، الدراسات العربية، ص17.
[14] بارت، الدراسات العربية، ص18.
[15] سعيد، الاستشراق ، ص43.
[16] المرجع السابق، ص43.
[17]المرجع السابق، ص43/44.
[18] المرجع السابق، ص46.
[19] المرجع السابق ، ص44.
[20] المرجع السابق، ص45.
[21] المرجع السابق، ص45.
[22] لويس، بيرنارد، مسألة الاستشراق، ضمن كتاب الاستشراق بين دعاته ومعارضيه، ترجمة: هاشم صالح، ط2، دار الساقي بيروت، 2000، ص161.
[23] سالم، ساسي الحاج، نقد الخطاب الاستشراقي [الظاهرة الاستشراقية وأثرها في الدراسات الإسلامية]، 2ج، ط1، دار المدار الإسلامي، بيروت، 2002، ج1، ص22، وسيشار إليه فيما بعد: سالم، نقد الخطاب.
[24] المرجع السابق، ص22.

تكملة المراجع

[25] هو مفكر سوري، ولد عام 1934م، درس في الولايات المتحدة الامريكية ومارس التدربس فيها، وفي بلاده وفي الجامعة الأمريكية في لبنان، أهم كتبه: نقد الفكر الديني، وذهنية التحريم، راجع: ولد أباه، أعلام الفكر العربي، ص62.
[26] Al-azm, sadiq jalal, orientalism and orientalism in reverse, [1981] Khamsin No.8: 5-26. Reprinted in Alexander Lyon Macfie, Ed. Orientalism: A Reader New York: New York University Press, 2000. 217-238،p 1.
[27] فوزي، فاروق عمر، الاستشراق والتاريخ الإسلامي [القرون الإسلامية الأولى ]، ط1، الأهلية للنشر والتوزيع، عمان، 1998م، ص30، وسيشار إليه فيما بعد: فوزي، الاستشراق والتاريخ.
[28] سعيد، الاستشراق، ص110.
[29] زماني، الاستشراق، ص79.
[30] بارت، الدراسات العربية، ص14، سوذرن، ريتشارد، صورة الإسلام في أوروبا في القرون الوسطى، ترجمة رضوان السيد، ط2، دار المدار الإسلامي، بيروت، 2006م، ص80، وسيشار إليه فيما بعد: سوذرن، صورة الإسلام.
[31] السيد، رضوان، المستشرقون الألمان النشوء والتأثير والمصائر، ط2، دار المدار الإسلامي، بيروت، 2016م، ص15.
[32] مفكر سوري، ولد عام 1934م، درس الفلسفة في ألمانيا، أستاذ في جامعة دمشق، وكاتب غزير الإنتاج، من كتبه: من التراث إالى الثورة، من يهوه إلى الله، راجع: ولد أباه، أعلام الفكر، ص80.
[33] تيزيني، طيب، على طريق الوضوح المنهجي كتابات في الفلسفة والفكر العربي، ط1، دار الفارابي، بيروت، 1989م، ص160.
[34] سوذرن، صورة الإسلام، ص٤٤.
[35] القرآن الكريم، سورة الحجرات، آية 13.
[36] البُنُوَّة [filiation] تعني الانتماء في خصائص معينة للتراث الأدبي والفكري بداية، وهو انتماء حتمي كانتماء الأبناء للآباء، راجع سعيد، الاستشراق، ص24.
[37] مروة، النزعات المادية، ج1، ص118.
[38] المرجع السابق، ج1، ص111-112.
[39] راجع مثلا: الدعمي، الاستشراق، ابن نبي، انتاج المستشرقين، ص42، مروة، النزعات المادية، ص108.
[40] الدعمي، الاستشراق، ص54.
[41] فوزي، الاستشراق والتاريخ ، ص9.
[42] بدوي، موسوعة المستشرقين، ص199.
[43] الدعمي، الاستشراق، ص56.
[44] New tab (elaph.com)
[*] هذه المقالة جزء من بحث أوسع للباحثة تحت عنوان “مدخل في الاستشراق”، راجع: مجلة المنارة، م1، ع1، 20022م.

قراءة في آراء فلهاوزن الاقتصادية في العصر الأموي

يعد فلهاوزن من أقدم الباحثين الذين اهتموا بموضوع الضرائب في الدولة العربية الإسلامية. وقد عرض آراءه في الضرائب في صدر الإسلام في كتابه “الدولة العربية وسقوطها”، في الفصل المتعلق بعمر بن عبد العزيز والموالي، والتي استند عليها العديد من المستشرقين[1] الباحثين في موضوع تاريخ الاقتصاد الإسلامي فيما بعد، لتصبح بمثابة “نظرية” اقتصادية تنسب إليه.
تناول فلهاوزن الأوضاع الاقتصادية للمسلمين من غير العرب، أي الموالي والإجراءات الاقتصادية التي كانت لصالحهم، والتي جاءت كمحاولة تصحيح للنظام القديم (نظام عمر بن الخطاب)، وذلك ليؤكد فكرة سيادة العرب كأرستقراطية حاكمة تمتعت بامتيازات خاصة، مقابل الموالي أو غير العرب، مبرزا من خلاله فكرة صراع القوميات. القومية العربية التي استندت على العروبة والقبيلة الممثل الأعلى لها، فحاول إبراز أهمية الرابطة القبلية بالنسبة للمجتمع والسياسة. تقابلها القومية الفارسية، التي استندت بشكل أساسي على الدين لتحقيق مطالبها.
ويعتقد فلهاوزن أن ابن الخطاب نظم الدولة الإسلامية تبعا لقانون الفتح، بحيث جعلها دولة للعرب على المغلوبين، ودولة للأرستقراطية الحربية العربية، مقابل طبقة دافعي الجزية والخراج، فكانت الدولة قائمة على أساس التمييز بين السادة العرب والخدام من غير العرب[3] ، وبالتالي أقام الدولة على أساس التمييز القومي، وهو هنا يستعمل ثنائية (عرب وغير العرب)، لذلك لا نجده يستعمل مصطلح “أهل الذمة” ، مع أنهم كانوا يمثلون طبقة دافعي الجزية والخراج، وهذا المصطلح أيضا يتضمن الذمي المسيحي، اليهودي، المجوسي والصابئ، ويتضمن أيضا ثنائية عرب وغير عرب، لكنه لا يخدم الطرح، وهنا يتضح ذكاء فلهاوزن وبراعته في اختيار المصطلحات التي تخدم ما يريد تقديمه، وقد ظهر هذا في استعماله مصطلح “الخرسانيين” كدلالة على الموالي الفرس.

نظرية فلهاوزن الاقتصادية

ويقدم فلهاوزن “نظريته” الاقتصادية كنقد للآراء التي جاء بها كل من المستشرقين أوغست موللر[4] وفون كريمر.ويضيف بعض آراء فان فلوتن ودوزي، عن عمر بن عبد العزيز، والإصلاحات التي قام بها، لسد النقص الحاصل في خزينة الدولة.

وقد خص بالذكر ما قدمه الخليفة في ميدان الجزية والخراج، والتي رأى أنها “مشوبة بأخطاء حقيقية”[5]، ومع أنه نجح في تفنيد هذه المزاعم والاتهامات، إلا أن هذا لا يعني التسليم بصحة الآراء التي قدمها ككل، والأخذ بها كمسلمات دون تمحيص ومراجعة.كما أن اعتماد الباحثين عليها جعلها بمثابة نظرية اقتصادية قائمة بذاتها، دون الإخذ بعين الاعتبار المثالب التي وقع فيها فلهاوزن في بعض التفسيرات.

أهم المثالب في النظرية ونقدها

أهم تلك المثالب كان اعتقاده أن المصادر العربية حاولت إيجاد مرجعية قديمة لنظم ذات عهد أحدث تاريخيا[6]، وتحديدًا ما يتعلق بابتكار نصر بن سيار نظاما ضريبيا جديدا، ساهم في حل مشكلة الموالي [المسلمين الجدد] في خرسان، وأن العرب فرضوا فعليا إتاوات إجمالية، لا جزية وخراج. وبذلك ينفي فلهاوزن معرفة العرب بالضرائب بشكلها الوارد في المصادر العربية، حتى مطلع القرن الثاني الهجري.
ويستند كارل بيكر[7] على سبيل المثال على ما يقدمه فلهاوزن من آراء. إذ طبّقه على مصر بنفس الطريقة التي طبقها فلهاوزن على خرسان[8]، واعتبره دينت من أشد المتحمسين لنظرية فلهاوزن[9]، بالرغم من أنه يظهر ثقته بالمؤرخين المصريين، كالمقريزي [ت845هـ/441م]، وابن تغري بردي [ت874هـ/1470م]، لأن تاريخ مصر هو الموضوع الرئيس الذي تناولوه، ولكنه اعتمد بشكل أساس على أوراق البردي كوثائق.
ولم يراع فلهاوزن اختلاف التنظيمات بين الشام، مصر ،العراق وخرسان وبين نظم بيزنطية ونظم ساسانية. وبذلك يعمم ما استنتجه من وضع الضرائب في خرسان على سائر الأماكن. ويضاف إلى ذلك، عدم مراعاته اختلاف الاتفاقات عند الفتح، وما يتوجب عليها وخاصة من ناحية الصلح والعنوة. فنستطيع القول أنهه قدّم نظرية متكاملة الجوانب حول سقوط الدولة العربية (الأموية) ككل، وهو من السباقين إلى ذلك.وهذا لا يمكن إنكاره، إلا أنه لم يقدم نظرية اقتصادية شاملة للنظام المالي في صدر الإسلام، وبالتحديد العصر الأموي.
وعلى أهمية ما قدمه دانيل دينيت من نقد لآراء فلهاوزن الاقتصادية، إلا أنه لم يخل من مثالب واضحة أيضا[10]، وقد أشار عبد العزيز الدوري إلى ذلك، خاصة تلك المتعلقة بنظام الضرائب في خرسان[11]، من خلال إعادة قراءة بعض النصوص، محاولا تحديد مصطلحي جزية وخراج كما وقعت في النصوص المحفوظة. وخاصة النص الذي يستند عليه فلهاوزن في استنتاجاته، والتي عممها على جميع الأماكن التي كانت خاضعة للدولة.

إصلاحات عمر بن عبد العزيز الاقتصادية

طرح فلهاوزن تساؤلا كفاتحة لنقده، عن طبيعة المثال الذي أراد عمر بن عبد العزيز الاحتذاء به، وذلك مع مراعاة الإجراءين اللذين ينسبان لعمر بن الخطاب، وهما: منع العرب من أن يقتنوا أرضا في البلاد التي فتحوها، وأمره برفع الجزية على المغلوبين بعد إسلامهم، أما الخراج فيبقى عليهم، والحقيقة في رأيه أنه لم يفعل هذا ولا ذاك[12].

ويرى كل من موللر وكريمر بأن عمر بن عبد العزيز حاول تلافي النقص الحاصل في واردات بيت المال. فاتخذ مجموعة من الإجراءات، والتي بدورها ساهمت في تفاقم الوضع القائم لا إصلاحه[13].

وكذلك يعتقدان أن ما وضعه أدى إلى تقوية روح الإسلام في ذاته تقوية كبيرة. فكل ما فعله قد ساعد في الجملة على إفساد نظام الدولة من أساسه، “فلا دولة تعيش إلا بالوسائل التي أدت إلى قيامها”. وبهذا حاد عن الأصول المتماشية مع الواقع، والتي وضعها الخلفاء الامويون من قبله. واستبدلها بمبادئ مثالية استمدها من القرآن والسنة[14].
ويقول كريمر: أن عمر بن عبد العزيز “أفسد المالية إفسادا تامًا بإجراءاته الإدارية العنيفة، وبذلك يحتمل أن يكون قد عجل سقط الدولة الأموية”[15]، ويتفق فلوتن مع هذا مشيرًا إلى “أن محاولة عمر بن عبد العزيز لم تزد الأمور إلا حرجًا لما كانت تتأثر به من تحفظ ورجعية لا تتفق مع حالة الدولة الاقتصادية[16].

سياسات عمر بن عبد العزيز

قام عمر بن عبد العزيز بثلاثة إجراءات أراد من خلالها إصلاح الوضع المالي، اعتبرت مآخذ عليه، وكانت تمثل -حسب رأي مولر وكريمر- عودة إلى تطبيق صورة حرفية للنظام الذي وضعه عمر بن الخطاب سابقًا، كونه كان مثلا أعلى يحتذي به[17].

ويحذو فان فلوتن حذوهما، مشيرًا إلى أن غلطة عمر بن عبد العزيز الوحيدة كانت “رجعيته ومحافظته الدينية، وتمسكه الشديد بالنظام الذي سنه عمر بن الخطاب، الذي كان يقتفي أثره لما كان يكنه له في أعماق نفسه من الاحترام والإكبار، والذي لم يكن إلا صورة منه، رغم ما كانت تتطلبه الحالة من العدول عن ذلك النظام عدولا تاما”[18].

قرارات بن عبد العزيز

  • أولا، قام بإلغاء النظام الذي وضعه الحجاج فيما يتعلق بأهل الذمة، وكان يقضي بأن يدفعوا الجزية المترتبة عليهم قبل إسلامهم، وذلك تلافيا للنقص في واردات بيت المال، مما جعل هذا الإجراء مفيدا لغير المسلمين، وأدى إلى دخول أعداد كبيرة من أهل الذمة في الإسلام تهربا من دفع الجزية[19]، وبالتالي خسر بيت المال أحد مصادر الدخل المهمة.
  • ثانيا: العودة إلى القانون القديم الذي يحرّم امتلاك الأراضي على المسلمين، والذي حدده بعد عام مئة للهجرة، لاستحالة استراد الأراضي التي تم استملاكها قبل هذا التاريخ[20]، وأراد أيضا أن يفرق بين المسلمين وأهل الذمة تمسكا منه بأصول الدين، فألغى الخراج من أرض المسلمين التي كانوا قد تملكوها مخالفين النهي عن ذلك. وجعلها أرض عشر، فكان هذا أقل من الخراج بكثير.
  • ثالثا: قرر رد جميع الأموال التي أخذت ظلما إلى أصحابها[21] فزاد النقص زيادة أخلت بالتوازن في مال الدولة إخلالا كبيرا.

ويطرح فون كريمر استنادًا على مولر مسألة العبء الضريبي والتي سار فلهاوزن على حذوهما بها. بحيث أن المبلغ المفروض كضريبة، ثابت لا يمكن إنقاصه بأي حال.

وبالتالي أي نقص حاصل على أعداد الرعايا، معناه ضعف القدرة على دفع الضرائب على المجموعة، كما أن الجزية بقيت مفروضة على أهل الذمة رغم إسلامهم، بالإضافة إلى منعهم من الخروج والهجرة من القرى[22].
وضمن الآراء التي يناقشها فلهاوزن، مسائل تتعلق بالجزية والخراج، كضرائب مترتبة على غير العرب. ووضع الموالي كمسلمين جدد وما ترتب عليهم من ضرائب. وأخيرا ينفي التهمة التي ألصقها المستشرقون بعمر بن عبد العزيز بأنه كان سببا في زعزعة أركان الدولة الأموية.

نقد فلهاوزن لآراء بعض المستشرقين لإصلاحات عمر بن الخطاب

يطرح كل من بيكر وفلوتن وكريمر، أن عمر بن الخطاب لم يبتدع نظاما ثابتا وواضحا للضرائب[23]. ويؤكد ذلك فلهاوزن، فالتنظيم الإداري في البلاد المغلوبة لم يغير من الوضع المالي السابق شيئا. فتغير السيادة لا يعني تغير موقف المغلوبين من عبء دفع المال، كما أن العرب احتفظوا بالكتاب اليونان والفرس، والذين احتفظوا بدورهم بالضرائب القديمة وأنواعها، ولم يغيروا كثيرا في نظام جبايتها[24]، وهذا أمر لا تنكره حتى المصادر العربية فنجد عند الطبري ما يشير إلى ذلك مباشرة[25].
وبهذا يتفق فلهاوزن وفون كريمر، الذي رأى أن عمر وافق على نظم فارسية بيزنطية عديدة، وأدخلها في كل إدارات الدولة. كنظام العملة ونظام الضرائب -الخراج والجزية- وحتى ضريبة الفقراء -الصدقة والزكاة والعشر- التي كانت موجودة فعليا عند الكنعانيين والفينيقيين وغيرهم. وبالتالي سمح عمر بالاستفادة من النظم السابقة في البلاد المفتوحة دون تغيير[26].
ويضيف المستشرق بتلر في حديثه عن فتح مصر بالتحديد، أن العرب وإن حافظوا على النظم الرومانية في تدوين دواوينهم وجمع ضرائبهم، إلا أنهم كانوا أخف وطأة في جباية الأموال[27].

يضيف بيكر أن العرب أبقوا كل شيء كما كان حتى منتصف القرن الثاني إذ تم تطبيق الضرائب الإسلامية، لأنه لم يكن من الممكن تطبيق الضرائب الإسلامية منذ البداية حيث لم تكن موجودة حتى ذلك الوقت[28].

هل ابتدع عمر بن الخطاب نظامًا ضريبيًا جديدًا؟

يختلف كريمر مع فلهاوزن في أن عمر بن الخطاب ابتدع نظاما جديدا. حيث يرى في نظام عمر “السياسي الاشتراكي الديمقراطي القائم على السلطة الدينية” –على حد تعبيره- ابتكارا للعقل العربي، الذي لم يعجز عن إثبات استقلاليته[29]، فالمساواة التامة حق من حقوق المسلمين، وبالتالي دخل الدولة والأراضي المفتوحة يعتبر ملكًا عامًا للمجتمع الإسلامي، مقابل أن يتسلم الفرد عطاء من خزينة الدولة[30].
ويطرح فلهاوزن هذا التطور الذي حدث في عهد عمر بن الخطاب بدقة أكبر، فالأراضي المفتوحة بحسب قانون الغنائم، أصبحت ملكا للفاتحين، لكن لأسباب عملية بقيت دون تقسيم وبقيت إما أراضي بيت مال، وإما أراضي عامة للمسلمين، وأما ما أخذته جيوش العرب عنوة فكان يعتبر ملكا لعامة المسلمين، وقد ترك في يد المغلوبين ووضع عليه الخراج[31].
وكان الواجب أن يقسم الخراج في كل عام على الملاك الشرعيين للأرض باعتبار أنه غلة لهم، ولكن الدولة وضعت يدها عليه وصارت تدفع للمقاتلة من المسلمين أعطيات محددة[32]، والسبب في ذلك أن “هذا لو لم يكن موقوفا على الناس في الأعطيات والأرزاق لم تشحن الثغور، ولم تقو الجيوش على السير في الجهاد، ولما أمن رجوع أهل الكفر إلى مدنهم إذا خلت من المقاتلة والمرتزقة”[33].

المصادر:

[١] من أمثال كايتاني، بيكر، جروهمان، وبل.
[٢] فلهاوزن، الدولة العربية، ترجمة محمد عبد الهادي أبو ريدة،ط2، لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة،1968م ، ص269.
Wellhausen، Das arabische reich und sein sturz, Georg reimer, Berlin, 1902,
p164.

[٣] فلهاوزن، الدولة العربية، ص298.
Wellhausen, Das arabische reich, p192-193.

[٤] أوجست مولر [1847-1892]، مستشرق ألماني، من أبرز أعماله نشر كتاب “عيون الأنباء في طبقات الأطباء”، لابن ابي أصيبعة، راجع: بدوي، عبد الرحمن, موسوعة المستشرقين, ط3, دار العلم للملايين, بيروت, 1993م، ص565.
[٥] فلهاوزن، الدولة العربية، ص263-264.
Wellhausen, Das arabische reich, p169- 170.
[٦] يتفق بيكر مع فلهاوزن في هذا، ويؤكد أن النظرية اللاحقة حاولت إعادة تنظيمات حديثة إلى زمن أسبق، راجع:
Becker, Beiträge, p82.
[٧] للمزيد حول آراء بيكر فيما يتعلق بموضوع الضرائب في مصر، راجع:
Becker, carl henrich، Beiträge zur geschichte Ägyptens unter dem Islam, [KARL J. TRüBNER], strassburg, 1903,p81- 112.
[٨] Becker, Beiträge, p81.
[٩] دينيت، دانيل، الجزية والإسلام، ترجمة: فوزي جاد الله، منشورات مكتبة الحياة، بيروت، 1959م، ص31.
[١٠] راجع كتاب دينيت سابق الذكر.
[١١] راجع بحثه المتعلق بالضرائب في خرسان تحت عنوتن: ” نظام الضرائب في خرسان في صدر الإسلام”، المنشور في مجلة المجتمع العلمي العراقي، م11، 1964م، البحث منشور ضمن الجزء الثاني من “أوراق في التاريخ والحضارة” ، راجع: الدوي، عبد العزيز، أوراق في التاريخ والحضارة [أوراق في التاريخ الاقتصادي]، 3ج، ط1، دار الغرب الإسلامي، 142هـ/2007م، ج2، ص41-51.
[١٢] فلهاوزن، الدولة العربية، ص264.
Wellhausen, Das arabische reich, p 171.
[١٣] فلهاوزن، الدولة العربية، ص263-264.
Wellhausen, Das arabische reich, p169- 170.
[١٤] فلهاوزن، الدولة العربية، ص263-264.
Wellhausen, Das arabische reich, p169- 170.

تكملة المصادر

[١٥] كريمر، الحضارة الإسلامية، ص78.
[١٦] فلوتن، السيادة، ص72.
[١٧] فلهاوزن، الدولة العربية، ص263- 264.
Wellhausen, Das arabische reich, p169- 170.
[١٨] فلوتن، السيادة، ص59.
[١٩] فلهاوزن، الدولة العربية، ص263- 264.
Wellhausen, Das arabische reich, p169- 170.
[٢٠] فلهاوزن، الدولة العربية، ص263- 264.
Wellhausen, Das arabische reich, p169- 170.
[٢١] فلهاوزن، الدولة العربية، ص263-264.
Wellhausen, Das arabische reich, p169- 170.
[٢٢] كريمر، الحضارة الإسلامية، ص84، فلهاوزن، الدولة العربية، ص270.
Wellhausen, Das arabische reich, p175.
[٢٣] فلوتن، السيادة، ص27.
Becker, Beiträge, p 83/ 88.
[٢٤] فلهاوزن، الدولة العربية، ص31، الدوري، أوراق، ص146- 147.
Wellhausen, Das arabische reich, p20-21.
[٢٥] الطبري، تاريخ الطبري، ج2، ص152.
[٢٦] كريمر الحضارة الإسلامية، ص60، دينيت، الجزية والإسلام، ص45، الدوي، أوراق، ص73.
[٢٧] بتلر، ألفرد، فتح العرب لمصر، ترجمة: محمد حديد، ط2، مكتبة مدبولي، القاهرة، 1416هـ/1996م، ص466.
[٢٨] Becker, Beiträge, p 83.
[٢٩] كريمر، الحضارة الإسلامية، ص59.
[٣٠] كريمر، الحضارة الإسلامية، ص60.
[٣١] فلهاوزن، الدولة العربية، ص268، كريمر، الحضارة الإسلامية، ص81، الدوري، أوراق،
Wellhausen, Das arabische reich, p173.
[٣٢] فلهاوزن، الدولة العربية، ص266، كريمر الحضارة الإسلامية، ص81.
Wellhausen, Das arabische reich, p171.
[٣٣] أبو يوسف، يعقوب بن إبراهيم [ت182هـ/798م]، الخراج، تحقيق: طه عبد الرؤوف سعد، سعد حسن محمد، ط1، المكتبة الأزهرية للتراث، القاهرة، [د.ت]، ص38، الدوري، أوراق، ص56، دينيت، الجزية، ص51-52.


المراجع:

  • أبو يوسف، يعقوب بن إبراهيم [ت182هـ/798م]، الخراج، تحقيق: طه عبد الرؤوف سعد، سعد حسن محمد، ط1، المكتبة الأزهرية للتراث، القاهرة، [د.ت].
  • بتلر، ألفرد، فتح العرب لمصر، ترجمة: محمد حديد، ط2، مكتبة مدبولي، القاهرة، 1416هـ/1996م.
  • بدوي، عبد الرحمن، موسوعة المستشرقين, ط3، دار العلم للملايين, بيروت, 1993م.
  • الدوري، عبد العزيز، أوراق في التاريخ والحضارة (أوراق في التاريخ الاقتصادي)، 3ج، ط1، دار الغرب الإسلامي, 142هـ/2007م.
  • دينيت، دانيل، الجزية والإسلام، ترجمة: فوزي جاد الله، منشورات مكتبة الحياة، بيروت، 1959م.
  • فلهاوزن، يوليوس، الدولة العربية من ظهور الإسلام إلى نهاية الدولة الأموية، ترجمة محمد أبو ريدة، ط2, لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة، 1968م.
  • كريمر، فون، الحضارة الإسلامية ومدى تأثرها بالمؤثرات الأجنبية، ترجمة مصطفى بدر، ط1، دار الفكر العربي، مصر، (د.ت).
  • Becker, carl henrich, Beiträge zur geschichte Ägyptens unter dem Islam, KARL J. TRüBNER), strassburg, 1903
  • Wellhausen, Julius, Das arabische reich und sein sturz, Georg reimer, Berlin, 1902.
Exit mobile version