طقس “ساتي”، ما هو مصير الأرامل في الهند؟

هذه المقالة هي الجزء 4 من 8 في سلسلة أغرب طقوس الدفن عبر التاريخ

تختلف طقوس الدفن على اختلاف العقائد والمجتمعات، في الهند حيث تنتشر الديانة الهندوسية شاع الحرق كطقس لدفن الموتى. ولكن لم يكن فقط للموتى، فركز الهندوس على وضع زوجة المتوفي وما مصيرها بعد وفاة زوجها وهو طقس ال”ساتي”.

لمحة عن الهندوسية

تعد من أقدم الأديان حيث يعود تاريخها إلى أكثر من 4000 عام، وهي ثالث أكبر الأديان عالميًا.

لا تملك الهندوسية مؤسسًا معروفًا، وما يميزها أنها خليط من الفلسفات والطقوس. معظم فروع الهندوسية تركز على عبادة إله واحد بشكل تام، مع الاعتراف بباقي الآلهة. كما هناك تقارب شديد بين الهندوسية والأديان المنتشرة في المناطق المجاورة لانتشارها مثل البوذية والسيخية واليانية.

نظرة الهندوسية للموت

تتمحور العقائد الهندوسية حول موضوع الانبعاث بعد الموت في جسد جديدٍ. فبالرغم من فناء الجسد الروح ستبقى وتعاد إلى جسد جديد وقد يستمر ذلك لحيوات عديدة. ومع كل حياة جديدة وموت جديد يأملون للوصول للبراهما، أو الإله الأعلى. مشابهةً لمبدأ السامسارا الذي أخذتها البوذية عن الهندوسية.

كما يؤمن الهندوس بأن أفعال الشخص هي ما يحدد حياته الجديدة بعد بعثه في جسد جديد، فيكافئ إن كانت جيدة ويعاقب إن كانت سيئة.

طقوس الدفن الهندوسية

بعد الوفاة ينشد الكاهن أو الابن الأكبر للمتوفي الصلوات أو المانترا ويلي ذلك العديد من الطقوس منها غسل المتوفي بالحليب والعسل، ووضع زيوت معينة على رأس الميت. وتُوضع  راحة اليدين في وضعية الصلاة، بينما تُربط إبهامي القدمين مع بعضها، ثم يُلف الميت بقماش أبيض وتنثر الورود حوله.

ما هو طقس “ساتي” تاريخيًا؟

يشاع أن هذا الطقس بدأ بين 320 إلى 550 بعد الميلاد خلال فترة حكم إمبراطورية غوبتا في نيبال، وانتشر الطقس إلى راجاستان. في البداية كان الطقس حكرًا على الطبقات العليا أو ” الكاشتريا” لكنه سرعان ما انتشر في الطبقات الأدنى أيضًا.

“ساتي” في الميثولوجيا الهندوسية

في الميثولوجيا ساتي هي زوجة الإله الأعظم شيفا، وعرف عن أبيها كرهه الشديد لشيفا واحتقاره له، واعتراضًا على ذلك قامت ساتي بحرق نفسها، وصلت لأن تعود بهيئة جديدة كزوجة لشيفا، وهذا ما حدث حسب الأسطورة. وسميت بعد انبعاثها بجسدٍ جديد باسم بارفاتي.

اعتاد الناس تبرير طقس ال”ساتي” بهذه الأسطورة، ولكن المفارقة تكمن في أن ساتي لم تكن أرملة في هذه القصة بينما الطقس مخصص للأرامل.

مراسم طقس ساتي

طقس ساتي هو عملية حرق أرملة المتوفي حية. وتعود أسباب هذا الطقس إلى أن الزوجة كانت تعتبر ملكية تامة للزوج وعند وفاته لا يحق لها الزواج ويرثها أحد الورثة الذكور، ولكونها غير قادرة على الزواج شاع موت الزوجة مع زوجها حفاظًا على طهارتها. فكلمة ساتي في السنسكريتية هي بمعنى الطهارة أو العفة.

من التطوع إلى الإكراه

وفقًا للعادات الهندوسية فإن الساتي هو نهاية الزواج، وتطبيقه يدل على مدى إخلاص المرأة لزوجها. وكان ينظر لهذا الطقس باحترام شديد لمن تنفذه واعتُبِرعملًا شجاعًا وبطوليًا. ولكن مع مرور الزمن تحول العمل البطولي إلى واجب يقتضي على الأرملة تنفيذه وفُرض عليها حتى لو لم تكن ترغب ب”التضحية” بنفسها بعد وفاة زوجها. كما أن الأرامل لم يمتلكن دورًا مهمًا في المجتمع وكانت تعتبر عبئًا إن لم تكن تملك أطفالًا يعيلوها.

طرق التنفيذ والاستثناءات

الحرق هو طريقة الدفن المتبعة عند الهندوس، غالبًا ما تجلس المرأة على كرسي فوق الحطب الذي سيحرق جثة زوجها، في طرق أخرى كانت المرأة تقفز إلى النار وفي أماكن أخرى يبنى كوخ وتدخل فيه المرأة مع جثة زوجها.

في بعض المناطق كانت تحفر حفرة وتوضع فيها الجثة مع الممتلكات الثمينة ثم تقفز المرأة إلى داخلها، وفي بعض الأحيان تشعل النار بنفسها.

هناك طرق أقل وحشية كانت تُعطى فيها المرأة سمًا ليخفف من آلام الحرق، أو تقوم أفعى شديدة السمية بعضها لتخفيف الألم. وفي بعض الأحيان كانت تعطى سكين لتذبح نفسها. الاستثناءات كانت النساء الحوامل والتي يمتلكن أطفالًا صغارًا جدًا.

هذا الطقس ما زال يمارس في بعض الأماكن النائية في الهند بالرغم من إصدار قوانين منعته وجرمته، لكن احترام الهندوس لعاداتهم وتقاليدهم دفعهم لمتابعته في الأماكن البعيدة عن قوانين الدولة.

المصادر







الموسيقى والتسويق: كيف تؤثر الموسيقى على سلوكك الشرائي؟

هذه المقالة هي الجزء 3 من 11 في سلسلة أثر الموسيقى وتطورها

رافقت الموسيقى الإنسان منذ زمن قديم, وشكّلت جزءًا هامًا من هويته الاجتماعية. وعُرفت الموسيقى بقدرتها على التأثير على المزاج وخلق عادات ومناسبات وأجواء معينة. وقد كتب الكثيرون من الفلاسفة، بدءًا من أفلاطون وصولاً إلى الفيلسوف والعالم الموسيقي الألماني أدورنو عن الموسيقى كأداة تأثير على البنى الاجتماعية والسلوكيات الفردية. في عالمنا الحديث، أصبحت الموسيقى متوفرة في كل زمان ومكان، ورغم أننا لا نعيرها دائمًا انتباهنا، إلا أن هذا لا يلغي تأثيرها اللاواعي على سلوكياتنا. فكيف تُستخدم الموسيقى كأداة للتأثير على سلوكنا الشرائي؟ وما العلاقة بين الموسيقى والتسويق؟

“الموزاك – Muzak”: موسيقى الخلفية

عندما نتكلّم عن الموسيقى، غالبًا ما يتبادر إلى ذهننا الأغاني المعروفة والمفضلة لدينا والتي نستمع إليها بشكل واعٍ. إلا أن الموسيقى تحيط بنا في كل مكان، وفي الكثير من الأحيان، لا نعير وجودها أي اهتمام.

فعندما نشاهد فيلمًا، تكون الموسيقى دائمًا حاضرة لزيادة تأثير المشاهد، وعندما نستمتع بأي لعبة الكترونية غالبًا ما ترافقها نغمة بسيطة، وكذلك عندما نكون في أي مكان عام، في مطعم أو متجر أو مطار، تكون الموسيقى حاضرة في الخلفية.

بدأ استخدام موسيقى الخلفية منذ أوائل القرن العشرين، وقد كانت شركة “موزاك – Muzak” سبّاقة في استخدام الخطوط الكهربائية لنقل موسيقى الفونوغراف للسكان.
بعد انتشار الراديو عرضت الشركة خدماتها على المطاعم والفنادق، التي تفضّل موسيقى الخلفية دون الأحاديث الإذاعية. من هنا، بدأ انتشار موسيقى الخلفية وتُسمى بالموزاك نسبةَ للشركة الأولى.

الموسيقى والتسويق في الإعلانات:

أصبحت الإعلانات تحتل جزءًا كبيرًا من حياتنا اليومية، وهي متواجدة في كل وسائل الإعلام التقليدي ووسائل التواصل الاجتماعي. ويكاد لا يخلو إعلان واحد من الموسيقى، إذ أن الدراسات تبيّن أن الموسيقى تجعل من الإعلانات أكثر تأثيرًا على متلقيها.

تحفّز الموسيقى أجزاء من الدماغ متعلّقة بالذاكرة والعاطفة، لذلك غالبًا ما تثير الموسيقى التي نستمع إليها عددًا من الذكريات المتعلقة بمكان معين أو فترة معينة. لكن أنواع الموسيقى المختلفة تعطي تأثيرات عاطفية مختلفة.

بحسب دراسة أسترالية تختبر تأثير أنواع الموسيقى على 1000 شخص، تبيّن أن أنواع الموسيقى كلها تثير مشاعر قوية ولكن متناقضة. وقد تثير الموسيقى مشاعر البهجة والنشاط، أو مشاعر الحزن أو مشاعر السكون والراحة.

لذلك على المُعلن اختيار الشعور الذي يريد أن يثيره في إعلانه، وبالتالي اختيار الموسيقى المناسبة التي تخلق هذا الشعور.

الموسيقى والتسويق: الموسيقى الخلفية في المتاجر

تؤثر الموسيقى على أدمغتنا على مستوى لا واعٍ، فرغم أننا في أغلب الأحيان لا نعير الانتباه للموسيقى الخلفية للمتاجر والمطاعم، إلا أنها تؤثر على سلوكنا من حيث لا ندري.

وضع الموسيقى الخلفية في المتاجر لا يهدف فقط إلى خلق جو مريح فيها، بل هو أيضًا يعتمد توجيه الزبائن ودفعهم لشراء أكبر عدد ممكن من البضائع. لذلك تقصد المتاجر وضع الموسيقى المناسبة لزيادة مبيعاتها، كما تعطي هذه المهمة أحيانًا لشركات متخصصة في تصميم الموسيقى المناسبة لزبائن كل متجر.

على سبيل المثال، إن الاستماع للموسيقى البطيئة يدفع الزبائن إلى المشي بشكل أبطأ، وذلك يزيد من فرص رؤية البضائع وشرائها.

كما تبيّن الدراسات أن الاستماع إلى موسيقى توحي ببلد معين، تجعل الزبائن أكثر عرضة لشراء منتجات هذا البلد، فإذا وضع المتجر أغنية لـ”Edith Piaf”، يوحي عددًا من الزبائن بجو فرنسي، مما يزيد من احتمالية شرائهم جبنة فرنسية مثلًا.

في دراسة أجريت على طلاب جامعيين اسكتلانديين، قٌسموا إلى أربعة فرق، ووُضع كل فريق في غرفة مع موسيقى من بلد معين (موسيقى أميركية، صينية، هندية وغرفة دون موسيقى). أُعطيت الفرق لائحة طعام (تتضمن أطعمة من مختلف البلدان المذكورة) لاختار أطباق منها، فتبيّن أن معظم الطلاب اختار طعامًا يتماشى مع نوع الموسيقى الذي يستمع إليها.

كما تبين اختبارات أخرى أن نوع الموسيقى مرتبط بهوية اجتماعية معينة، وبالتالي بالقيمة النقدية المتوقعة. فالموسيقى الكلاسيكية مثلًا مرتبطة بصورة اجتماعية متعلقة بالترف أو “الرقي”، وهي تجعل الزبائن أكثر استعدادًا لدفع مبلغ أكبر مقابل شراء البضاعة نفسها عند الاستماع إلى نوع مختلف من الموسيقى.

تتأثر مشاعرنا وسلوكياتنا بكثير من المحفزات حولنا، ولعلّ الموسيقى من أهمها نظرًا لتأثيرها البيولوجي على الجسد والدماغ، ونظرًا للهوية الاجتماعية التي تمثلها. لكن استخدام الموسيقى في التسويق يدفعنا إلى التساؤل: إلى أي مدى يُعتبر استخدام الموسيقى للـ”تلاعب” بالزبائن أخلاقيًا؟

المصادر:

Coursera
The Guardian
Econsultancy.com
Psychologicalscience.org

إقرأ أيضًا: كيف تؤثر الموسيقى على أدمغتنا؟

التخطيط العمراني المحب للبيئة: «Biophilia»

هذه المقالة هي الجزء 3 من 9 في سلسلة مقدمة في علم النفس البيئي

في عام 1984 نشر «روجر أولريك» دراسة في مجلة «ساينس» قدّمت لأول مرة نتائج تجريبية على أن التعرض للطبيعة قد يدعم الصحة البشرية. راقب «أولريك» مرضى يتعافون من عمليات جراحية واكتشف أن المرضى في الغرف المطلّة على مساحة طبيعية مشجرة احتاجوا فترات أقل نسبيًا للتعافي بعد الجراحة، كما أنهم احتاجوا جرعات أقل من المسكنات مقارنة بالمرضى الذين كانوا في غرف مطلة على جدران.

تم إعادة هذه التجربة في مستشفىً كورية عام 2006، حيث وُزع المرضى عشوائيًا على غرف دون نباتات وأخرى تتوفر على نباتات، وكانت النتيجة أن المرضى الذين توفرت لديهم نباتات في نفس الغرفة تعافوا بشكل أسرع أيضًا. كانت هذه بداية ما يسمى بالتخطيط المحب للبيئة.

تبدو فكرة أن التعرض للطبيعة يجلب فوائد صحية ونفسية بديهية لدى الكثيرين، ولهذا السبب لم يكن هناك حاجةٌ ملحة لفترة طويلة لدراسة أثر الطبيعة على البشر، وبالأخص في المدن. إلا أنه ومع التوسع الكبير في المدن والتمدن على مستوى العالم وانتشار الأمراض المزمنة والتوتر بدأ العالم في الاهتمام أكثر بدراسة آثار الطبيعة وكيف يمكن توفير المساحات الخضراء في المدن.

العائد الصحي للطبيعة

مجموعة  أحدث من هذه الدراسات كانت تدور حول قدرة سكان المدن على الوصول للأماكن الخضراء. استعملت هذه الدراسات جماعات كبيرة من الناس لمقارنة درجة صحة أولئك الذين يعيشون في أو بالقرب من مسطحاتٍ خضراء بمستوى صحة الذين يعيشون في أماكن أقل خضرة، بالطبع باستعمال وسائل إحصائية متقدمة لأخذ الفوارق الطبقية والاقتصادية في الحسبان.

إحدى الدراسات الرائدة والتي أجريت على 10 آلاف شخص في هولندا وجدت أن السكان الذين تتوفر  لديهم مسطحات خضراء بالقرب منهم (أقل من 3 كم) يظهرون مستوياتٍ أفضل من الصحة البدنية والنفسية عن الذين لا تتوفر بالقرب منهم أي مسطحات خضراء. وبعد تكرار هذه التجارب على شعوبٍ وبلدان وجماعات أخرى، يظهر استعراض نتائج هذا النوع من الدراسات أن هناك علاقة قوية بين نسبة المساحات الخضراء والصحة النفسية، وعلاقة أقل مع مستويات الصحة العامة.

لاحظت تلك الدراسات أن العلاقة بين المساحات الخضراء والصحة العامة تكون أقوى في الفئات التي تمضي في العموم وقتًا أطول داخل المنزل، مثل المسنين وربات البيوت. ولذلك قد يكون توفير مساحات خضراء مناسبة من وسائل سد الفجوة الصحية بين الأغنياء والفقراء.

بشكلٍ عام، يعتبر الباحثون في مجال البيئة أن العائد الصحي المباشر للطبيعة يرجع إلى أربع فوائد رئيسية:  تحسين جودة الهواء، توفير النشاط البدني، توفير بيئة للانسجام المجتمعي، وتقليل التوتر.

الأشجار جزء من المدن أيضًا!

بالإضافة إلى تلك العوائد الصحية المباشرة، فإن لوجود المساحات الخضراء وبالأخص الأشجار في النسيج العمراني فوائد بيئية وعمرانية لا تقل أهمية. فبالإضافة إلى الفوائد الصحية مثل تبريد حرارة الجو وتقليل انبعاثات الكربون، تساعد الأشجار في الحد من فيضان مياة الأمطار وزيادة قدرة الأرض على الامتصاص، وخفض مستوى الضوضاء.

هناك دراسات حول تقنيات أفضل لزراعة الأشجار في المدن بحيث تنمو بشكلٍ طبيعي لأقصى حجم ممكن لها، عوضًا عن استخدام الأوعية التقليدية التي توضع داخل الأرصفة الاسمنتية. وذلك بوسيلة أنظمة تسمح بمساحة أكبر للأشجار بالنمو في تربة خصبة وتتعرض للتهوية والمياة بشكلٍ طبيعي.

منظومة «GreenBlue Urban» لزراغة الأشجار بحيث تحصل على أكبر مساحة ممكنة من التربة لنمو الجذور.

الطبيعة وسط العمران: التخطيط المحب للطبيعة

أدى التوسع في الأبحاث حول أهمية الطبيعة للصحة والاستدامة في المدن إلى ظهور ما يسمى التخطيط المحب للبيئة «Biophilic Urbanism». مبادئ البايوفيليا -أو حب الطبيعة- تهدف لدعم الارتباط بالطبيعة، واستغلال الموارد الطبيعية المتاحة بشكلٍ مسؤول، والتخطيط العمراني بناءً على الظروف المناخية والحاجات البيئية المحلية.

يمكن لتطبيق مبادئ البايوفيليا ودمج الطبيعة بشكلٍ فعّال في النسيج الحضري أن يساهم في رفع مستوى الصحة البدنية والنفسية والاجتماعية للسكان. وهذا يشمل المشاريع الصغيرة كتطوير الحدائق الخلفية للأحياء والمشاريع الأكبر كإزالة الطرق السريعة من المدن وإحلال الطبيعة مكانها. هناك مدنٌ كثيرة على مستوى العالم بدأت في اعتماد خطط بيئية ضمن خططها العمرانية والتطويرية والاقتصادية، من ضمنها مدن كبرمنجهام وبرشلونة وتورونتو.

تصميمات محبة للطبيعة

كما لا يخفى على كثيرين فإن هناك ميلًا لدى المعماريين على مستوى العالم لدمج الطبيعة والخضرة في تصميماتهم. ولكن على عكس ما يعتقد الكثيرون فإن مصطلح «العمارة الخضراء» لا يعني إحاطة المباني بالأشجار والخضرة وحسب، بل هو مرادف لمفهوم «العمارة المستدامة» والتي تخلق توازنًا بين احتياجات المبنى والمحيط الحيّزية والاقتصادية والبيئية والاجتماعية. ولكن بالطبع فإن إدراج الطبيعة والخضرة داخل المشاريع المعمارية والحضرية يدخل ضمن مفاهيم الاستدامة.

أحد أشهر المباني التي قد توصف بأنها «محبة للطبيعة – Biophilic» هي أبراج «بوسكو فيرتيكالي»، والتي تشبه الغابات العمودية. ومن الأمثلة الأحدث لذلك مبنى مقر شركة أمازون الجديد.

بالطبع، فإن المدن والأحياء المقامة حاليًا لا يتاح لها حرية إنشاء الحدائق والمساحات الخضراء والمباني “الخضراء” كما تريد نظرًا لقيود المساحات والسكن، ولذلك فهناك توجه متزايد في الانتشار عالميًا وهي الحدائق الصغيرة التي تقام في المساحات الفارغة بين المباني، وهو توجه ضمن ما يسمى بالعمارة البينيّة «In-between Architecture». ومن أمثلة هذه المشاريع «حدائق الشارع» في سان فرانسيسكو أو «السحابة الخضراء» في بعض مدن الصين الحديثة.

إزالة السيارات.. لإفساح المجال للطبيعة

التخطيط البايوفيلي يشتمل أيضًا على مفاهيم حضرية مثل مفهوم «المدن المكثفة – Compact Cities»، أي تصميم المدن لتكون ذات كثافة سكانية ووظيفية عالية وفي نفس الوقت تسمح بإدارة واستعمال أفضل وأكثر توازنًا للمساحات داخل المدينة، بالإضافة إلى اعتمادها على شبكة مواصلات عامة قوية. تشهد مدن أوروبية كثيرة انتشار هذا النمط من التوسع والتخطيط لقدرته على الموازنة بين الاحتياجات الاجتماعية والاقتصادية والبيئية في إطارٍ أكثر استدامة على المستوى البعيد.

مظهر آخر من مظاهر هذا التخطيط المحب للبيئة هو اتجاه متزايد في المدن حول العالم اليوم وهو إزالة الطرق لإفساح المجال للأماكن العامة والمساحات الخضراء، كما فعلت مدينة بوسطن بإزالتها الطريق السريع رقم 93 واستبدلته بمحورٍ أخضر من الحدائق والأماكن العامة -تحت اسم «روز كينيدي جرينواي»- بهدف توفير متنفسٍ بيئي وصحي للسكان الأقل قدرة. أو كما فعلت مدينة «تشيونغي تشون» الكورية بإزالتها طريقًا سريعًا مع جسرٍ علوي كان فوق مجرىً مائي،  لتعيد المياه إلى مجاريها -حرفيًا- وتفتتح المنطقة كمزار سياحيّ بيئيّ. ووجه المشروع ذو التكلفة العالية الكثير من الانتقادات في البداية ولكنها اختفت بعد انتهائه وظهور نتائجه البيئية والاجتماعية والاقتصادية الناجحة.

قد تبدو هذه الأفكار والمشاريع نوعًا من الترف والرفاهية في نظر البعض، ولكن في ظل أزمة كورونا الحالية فإن الاهتمام بالمساحات الخضراء والقدرة على الوصول إليها لجميع السكان قد ازداد، إلى درجة أن القضية تثير جدلًا ونقاشًا في وسط المخططين والمعماريين. وسط إشادة بمدن مثل مدينة بونتيفيدرا الإسبانية التي اتخذت خطوات للحد من استخدام السيارات، ما سمح للسكان بالخروج بشكلٍ آمن للطرق. وكما أسلفنا فإن مشاكل الاستدامة والبيئة والصحة العامة في المدن هي ما تدفع بشكلٍ رئيس هذه الخطط لإعادة الطبيعة إلى المدينة، لخلق متنفس للسكان بعيدًا عن ضوضاء الطرق وتلوثها.

لماذا نحب المشاهير؟

تصاعدت ردود الفعل الإيجابية عقب إعلان شبكة فودافون في رمضان 2021 الذي ظهرت فيه الفنانة شريهان بعد غياب دام لمدة 19 عامًا. وتزاحمت ردود الفعل هذه على مواقع التواصل الاجتماعي لترحب بعودتها للساحة الفنية مرة أخرى. ولكن يوجد هنا سؤال يطرح نفسه، لماذا نحب المشاهير؟ ولم كل هذا الاحتفال بعودة فنانة لا تربطك بها أي علاقة؟

لماذا نهتم بالمشاهير؟

في معظم الحالات، يكون ذلك طبيعيًا تمامًا. يقول علماء النفس إن البشر مخلوقات اجتماعية، وقد تطورنا – وما زلنا نعيش – في بيئة دفع فيها الاهتمام بالأشخاص إلى القمة.

قد يكون الإعجاب بالمشاهير نتيجة لتغذية وسائل الإعلام والتكنولوجيا لهذا الاتجاه. قال جيمس هوران، عالم النفس في شركة الاستشارات HVS Executive Search الذي ساعد في إنشاء الاستبيان الأول لقياس ظاهرة عبادة المشاهير أنه في مجتمعنا، يتصرف المشاهير مثل المخدرات حيث أنهم حولنا في كل مكان. إنه مأزق سهل الوقوع فيه.

في الآونة الأخيرة فقط في تاريخ البشرية، كان لدى الناس وصول شبه دائم إلى أخبار المشاهير والإشاعات، لكن المشاهير أنفسهم ليسوا شيئًا جديدًا، لطالما نظر الناس إلى الملوك من أجل النصائح الاجتماعية، وحتى نصائح الموضة.

قال دانييل كروجر، عالم النفس التطوري بجامعة ميتشيغان، إنه حتى مجتمعات الصيد والجمع التي تكون فيها السلع المادية نادرة نسبيًا لها تسلسل هرمي. كما تراقب أنواع الرئيسيات الأخرى عن كثب الأفراد المهيمنين في مجموعاتهم.

يوضح كروجر أن هناك عدة أسباب مختلفة للانشغال بالمشاهير ومحبتهم وهي:

1. الرغبة في تعلم ما يفعله الأفراد ذوو المكانة العالية حتى نصبح مثلهم.
2. سبب سياسي في الأساس، حيث أنه بمعرفة ما يحدث مع الأفراد ذوي المكانة العالية، سنكون قادرين بشكل أفضل على اجتياز المواقف الاجتماعية المختلفة. فإذا كان براد بيت على علاقة جيدة مع زوجته السابقة جينيفر أنيستون، فمن غير المحتمل أن يؤثر على حياة الشخص العادي بطريقة أو بأخرى، لكن الميل الاجتماعي للاهتمام متأصل بعمق.

نظرية مثيرة للاهتمام

هناك احتمال آخر مثير للاهتمام مستمد من نظرية إدارة الإرهاب. تبدأ هذه النظرية بافتراض أن الناس عمومًا يريدون العيش لأطول فترة ممكنة. لكنهم يعلمون أنهم سيموتون، ومن المحتمل أن يكون هذا مزعجًا للغاية. لذلك يبذل البشر قصارى جهدهم كي يتجاهلوا الموت ويبالغون في تقدير صحتهم ويقللون من مخاطر تعرضهم للأمراض وما إلى ذلك.

يستثمر البشر وفقًا للنظرية في أنظمة ذات معنى ستسود بعد وفاتهم. لذا، الموت هو المشكلة ولكنه سيقل إذا كنا سنعيش بطريقة ما بعد الموت، إما بشكل رمزي من خلال أحبائنا ومعتقداتنا الثقافية، أو من خلال معتقداتنا الروحانية.

بمعنى آخر، نحن نحب المشاهير لأنهم جزء لا يتجزأ من الثقافة. لقد حققوا إنجازات في العالم الذي ترسخنا فيه. من خلال متابعتهم وعبادتهم (إلى حد ما)، نشعر كما لو أننا نشاركهم إنجازاتهم المهمة للغاية. وهذا يجعلنا نشعر أن حياتنا مهمة (وفي المقابل، لا يؤلم الموت كثيرًا).

متلازمة عبادة المشاهير

وُصفت متلازمة عبادة المشاهير على أنها اضطراب الوسواس الإدماني حيث يصبح الفرد مهتمًا بشكل مفرط (أي مهووس تمامًا) بتفاصيل الحياة الشخصية لأحد المشاهير.

يمكن لأي شخص محط أنظار الجمهور أن يكون موضوع هوس لشخص آخر (على سبيل المثال، المؤلفون والسياسيون والصحفيون)، لكن الأبحاث والدعاوي الجنائية تشير إلى أنه من المرجح أن يكونوا شخصًا من عالم التلفزيون والسينما أو موسيقى البوب.

على مستوى الباحثين الأكاديميين، مصطلح عبادة المشاهير (CW) هو مصطلح صاغته لأول مرة لين ماكوتشين وزملاؤها الباحثين في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين. ومع ذلك، يُعتقد عمومًا أن الاستخدام الأول لمصطلح متلازمة عبادة المشاهير (CWS) كان في مقال في صحيفة ديلي ميل من قبل الصحفي جيمس تشابمان الذي كان يقدم تقريرًا عن دراسة نشرها جون مالتبي وزملاؤه في مجلة الأمراض العصبية والعقلية بعنوان “تفسير سريري للمواقف والسلوكيات المرتبطة بعبادة المشاهير”.

يُظهر بحث مالتبي وزملاؤه أيضًا أن عبادة المشاهير ليس حكرًا على المراهقات فقط ولكنه يؤثر على أكثر من ربع الأشخاص الذين شملهم الاستطلاع. ذكرت ورقتهم أن عبادة المشاهير كانت لها عواقب إيجابية وسلبية. كان الأشخاص الذين يعبدون المشاهير من أجل الترفيه والأسباب الاجتماعية متفائلين ومنفتحين وسعداء. أولئك الذين يعبدون المشاهير لأسباب شخصية كانوا مهووسين وقلقين، كما كانوا مكتئبين ومنعزلين ومعاديين للمجتمع ومزعجين.

وأنت، هل ترى حب المشاهير ظاهرة صحية؟

مصادر

  1. psychologytoday
  2. psycholoogytoday
  3. livescience

ما هي موسيقى الروك؟ وكيف نشأت؟

هذه المقالة هي الجزء 11 من 11 في سلسلة أثر الموسيقى وتطورها

من منّا لم يسمع بفرق البيتلز (The Beatles) والرولينغ ستونز (The Rolling Stones) والمغني الشهير “إلفيس بريسلي – Elvis Presley”؟ شكّلت هذه الأسماء الفنية الكبيرة أعمدة موسيقى الروك في بدايتها، لتتحوّل هذه الموسيقى إلى أكثر الأنواع انتشارًا وتأثيرًا في العالم، كما أنها تطوّرت عبر الزمن لتتفرّع إلى عدد من أنواع الموسيقى المختلفة التي تتراوح بين أكثر الأنواع هدوءً وأكثرها صخبًا. لكن ما هي موسيقى الروك؟ وكيف نشأت؟

ما هي موسيقى الروك؟

يُعتبر تعريف موسيقى الروك جدليًا بحيث تتعدّد تعريفاته وتصنيفاته. وتختلف المدرستان الأميركية والبريطانية، وهما الأكثر تأثيرًا في موسيقى الروك، في تعريفها، إذ إن التعريف الأميركي أكثر شمولًا.

يُعرّف الروك كنوع من أنواع الموسيقى الشعبية الذي يتميّز بإيقاع قوي يتمثّل بعزف مركّز على آلالات الإيقاعية كالطبول (Drums) وآلة الصنج (Cymbals). كما يرتبط بأصوات مُكبرّة من خلال الآلات الموسيقية الكهربائية كالغيتار الكهربائي والغيتار الباس الكهربائي (Bass electrical guitar)، وتُدعم هذه الآلات أحيانًا بآلات أخرى كالبيانو والكمان والتشيللو وغيرها. كذلك ترتبط موسيقى الروك بطبيعتها “الثورية”، إذ أثارت أغاني الروك مواضيع جريئة كالمخدّرات والجنس ونقد الأنظمة السياسية والاجتماعية.

انطلقت موسيقى الروك في منتصف الخمسينيات من القرن الماضي في الولايات المتحدة الأميركية، وكانت تُعرف باسم “الروك أند رول”. وتطوّرت هذه الموسيقى تباعًا خصوصًا في الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا، فشملت الكثير من الأنماط والأساليب المتعددة، ممّا صعّب عملية تعريف نوع الروك وحصره بخصائص موسيقية محددة.

جذور موسيقى الروك

لم تنشأ موسيقى الروك من العدم، فهي تجد جذورها في أنواع أخرى من الموسيقى كانت منتشرة منذ الثلاثينات والأربعينات من القرن العشرين. في هذه الفترة، كانت الولايات المتحدة الأميركية تعاني من التفرقة العنصرية التي طالت المجال الثقافي والفني أيضًا، بحيث كانت موسيقى “البلوز – Blues” و”الريذم أند بلوز – Rhythm and Blues” محصورة أداءً وجمهورًا بالأميركيين من أصل أفريقي. أما موسيقى “الكانتري -Country ” وموسيقى الـ “بوب – Pop” فقد كانت تُعتبر موسيقى الأميركيين البيض.

في بداية الخمسينات، بدأت خريطة الموسيقى بالتغيير تدريجيًا، فبدأت الموسيقى الريفية بأنواعها تنتشر بشكل أكبر في المدن، لذلك أخذت طابعًا أكثر عدوانية، ممّا دفعها إلى استخدام آلات مكبرة للصوت كالغيتار الكهربائي. كذلك بدأ المغنون البيض بأداء أغانِ تنتمي إلى نوع البلوز، ممّا أعطى الفرصة لعدد من الفنانين السود بالتوجه إلى جمهور أكبر. شهدت هذه الفترة خلطًا بين أنواع عدة من الموسيقى، وهنا كانت بداية الروك أند رول الذي يُعتبر مزيجًا بين موسيقى البلوز والريذم أند بلوز والكانتري.

محاولات الروك الأولى

من الصعب تحديد أول أغنية روك في تاريخ الموسيقى، إذ نتجت هذه الموسيقى تدريجيًا عن المزيج بين أنواع الموسيقى المختلفة. ولكن العديد من المغنيين الأميركيين طبعوا المحاولات الأولى في الروك.

شكلت أغنية “Rock Around the clock” لفرقة “Bill Haley and his comets” محطة أساسية في انتشار موسيقى الروك في العام 1955. رغم أنها لم تكن أغنية الروك الأولى، إلا أنها كانت الأولى التي تحتل المرتبة الأعلى مبيعًا.

كذلك يُعتبر المغني الأميركي “تشاك بيري -Chuck Berry ” من مؤسسي الروك أند رول. وكان متأثرًا بموسيقى الكانتري. كما كان من الفنانين القلائل الذين يكتبون كلمات أغانيهم، وقد استغل تشاك بيري صعود ثقافة الشباب (أي المراهقين) ليكتب أغاني تحاكي قضاياهم وأفكارهم، فأصدر عددًا من الأغاني الشبابية التي لاقت نجاحًا كبيرًا.

المغني الأميركي تشاك بيري

كما نجح الموسيقي الأميركي “ليتل ريتشارد -Little Richard ” في خرق قواعد العرض المسرحي، إذ قدم عروضًا تحمل طابعًا من الجنون غير المألوف في ذاك الزمن، من حيث أزيائه وأسلوبه الغنائي. وأصدر أغاني روك ناجحة.

إلفيس بريسلي: موجة الروك أند رول الأولى

يُعتبر اليوم إلفيس بريسلي أحد أهم الوجوه الفنية في القرن العشرين، ويُلقّب بـ”ملك الروك أند رول”. تميّز إلفيس بحبه لموسيقى البلوز وقدرته على مزج الأنماط الموسيقية بشكل مُبتكر، كما تميّز بذكاء عالي باختيار أغانيه وبكاريزما ساحرة جعلته سريعًا أهم نجم موسيقي أميركي. في العام 1956، احتلّ إلفيس بريسلي المرتبة الأولى لمدة 25 أسبوعًا.

شكّلت أغنية “That’s alright Mama” النقلة النوعية في حياة إلفيس بريسلي الفنية، لكن تسجيل هذه الأغنية كان مجرد صدفة. إذ أن إلفيس كان مع غيره من الموسيقيين يغني متعبًا في وقت متأخر من الليل، وحين كان مدير الاستديو منهمكًا بإصلاح عطل تقني، بدأ بريسلي بغناء أغنية “That’s alright Mama” (وهي أغنية لأرثر كرودوب في الأساس) بطريقة فكاهية لمجرد التسلية، وانضم إليه العازفون. لكن مدير الاستديو أعجب بهذه النسخة من الأغنية وطلب تسجيلها. وبالفعل حققت الأغنية نجاحًا باهرًا.

أثار إلفيس بريسلي جدلًا في الخمسينات نظرًا لجرأة أغانيه ولاعتماده الإثارة الجنسية في عروضه الموسيقية، واعتبره البعض ذا تأثير سيئ على الشباب والمراهقين.

نجحت موسيقى الروك في تجسيد الروح الشبابية وأفكار المراهقين المتمرّدة، كما نجحت بكسر القيود بين ثقافات الأعراق المختلفة في الولايات المتحدة الأميركية. لكن سرعان ما انتشرت موسيقى الروك في العالم أجمع وتحولت إلى أهم أنواع الموسيقى وأكثرها تأثيرًا، ليس فقط على الصعيد الفني بل أيضًا على الصعيد السياسي والاجتماعي .

إقرأ أيضًا: كيف تؤثر الموسيقى على أدمغتنا؟

المصادر:

Coursera
Britannica
Musicaldictionary.com
Rockmusictimeline.com

مقدمة لعلم النفس البيئي: النظريات والمجالات

هذه المقالة هي الجزء 2 من 9 في سلسلة مقدمة في علم النفس البيئي

في المقال السابق بدأنا بتعريف علم النفس البيئي، المجال الذي يدرس التفاعل بين الأفراد والبيئة الطبيعية والحضرية. ما يعني أن علم النفس البيئي يستكشف تأثير البيئة على التجربة والسلوك والصحة؛ بالإضافة إلى تأثير الأفراد على البيئة. وقدمنا نبذة تاريخية مختصرة لتاريخ دراسة هذه العلاقة المتبادلة بين الطرفين: البشر والبيئة. في هذا المقال نركز على هذا خصائص ونظريات علم النفس البيئي التي تحكم البحث فيه. وبعد استعراض الخلفيات النظرية لهذا المجال المثير، سننتقل في المقالات التالية للتطبيقات العملية في المجالات المختلفة التي يبحثها.

خصائص علم النفس البيئي حاليًا

1- النهج التفاعلي «Interactive Approach»

كما يشير التعريف المذكور أعلاه، فإن محور اهتمام علم النفس البيئي هو التفاعل بين البشر وبيئتهم؛ كما يستكشف كيفية تأثير البيئة على السلوك والعوامل المؤثرة على السلوك التي يمكن أن تساعد لتحسين جودة البيئة. على سبيل المثال فإن توفر البنية التحتية للنقل العام والخاص وجودتها يؤثران على مستويات استعمال السيارات، والتي بالتبعية تؤثر على شدة مشاكل بيئية كتلوث الهواء والاحتباس الحراري. بالمقابل فإن جودة البيئة والطبيعة المحيطة تؤثر على البشر وسلوكياتهم ومزاجهم سلبًا (الضوضاء في المدن قد تؤثر على التركيز وتتسبب بالأمراض مثلًا) أو إيجابًا (التعرض للطبيعة يحمل فوائد صحية ونفسية). ولذلك فإن البشر مرتبطون ببيئاتهم بعلاقة ديناميكية متبادلة.

2- التعاون عبر التخصصات

يعمل الكثير من علماء نفس البيئة في بيئات متعددة التخصصات «Interdisciplinary» ويتعاونون مع باحثين من مجالات أخرى قد توفر وجهة نظر جديدة حول الظاهرة محل الدراسة، ويمكن لتلك المجالات مشتركة أن توفر تصورًا شاملًا حول القضية محل البحث. كما أشرنا في الاستعراض التاريخي السابق، فإن هذه المشاركة متعددة التخصصات تشمل ثلاث مجالات بالدرجة الأولى؛ هي العمارة والجغرافيا، علم النفس الاجتماعي والإدراكي، وعلوم البيئة.

3- النهج الموجه نحو المشكلات

لا يقوم علم النفس -على غرار علوم أساسية أخرى- بالأصل على البحث العلمي المجرد، بل يسعى في الغالب لعلاج مشاكل حياتية واقعية. ولكن هذا لا يعني أن علم النفس البيئي غير مهتم بالتنظير، فكما سنرى لاحقًا فإن جزءًا كبيرًا من هذا العلم موجه نحو وضع الفرضيات واختبارها بغرض سبر وشرح وتوقع التفاعلات البشرية-البيئية. لكن لتطوير النظريات غايةٌ أكبر هي تحديد أكثر الحلول فاعلية للمشاكل الواقعية.

يدرس علم النفس البيئي التفاعل البشري-البيئي على مستويات متباينة، من البيئات الصغيرة كالأحياء والبيوت مرورًا بالمدن وانتهاءً بالكوكب كله. والتحديات الموجودة في كل مستوىً قد تخضع للدراسة، بدءًا بتحديات إعادة التدوير وتوفير الطاقة مرورًا بالحفاظ على التنوع البيولوجي في بلدٍ ما وانتهاءً بوضع استراتيجيات مكافحة تغير المناخ.

4- تعدد المناهج

يستخدم علم النفس البيئي نفس المناهج الوصفية والكمية التي تتبعها باقي التخصصات النفسية. ولكن يتمتع علم النفس البيئي بتعدد نماذج البحث «Research Paradigms»، كلٌ بنقاط الضعف والقوة الخاصة بها. يحاول علماء نفس البيئة إذن تكرار الدراسات والأبحاث باستعمال مناهج بحث متعددة لتلافي قصورات بعضها البعض، وبالتالي تحسين مصداقيتها الداخلية والخارجية.

نظريات علم النفس البيئي

كما أن مناهج البحث في العلوم الإنسانية متداخلة بطبيعتها، فكذلك علم النفس البيئي. بالإضافة إلى أنه يتبنى نماذج عامة تتبنى أصلًا تداخل المناهج والعوامل والمجالات. والنموذج -أي الإطار العام الذي يشتمل على فرضيات ومسلمات تحكم البحث العلمي حسب توماس كون- السائد لدى الباحثين هو النموذج الاجتماعي البيئي، والذي يعتبر بديلًا للفرضيات الحتمية. وهو الذي يحكم نظريات علم النفس البيئي المختلفة.

النموذج الاجتماعي-البيئي

هذا النموذج -ويسمى أحيانًا بالنموذج البيئي «Ecological Paradigm»- هو النموذج السائد في المجال. وقد نشأ لمحاولة فهم العلاقة الديناميكية بين العوامل البيئية والفردية بشكل أكثر عمقًا من النظريات الحتمية الأخر، إذ يحاول الوصل بين النظريات السلوكية -التي تركز على تعاملات على مستوى أصغر- وبين النظريات الأنثروبولوجية. النموذج الاجتماعي البيئي «Social Ecological Paradigm» أقل حتمية من النظريات والنماذج البيولوجية أو السيوكولوجية ويربط السلوك البشري بالبيئة والثقافة بشكلٍ أكبر.

على سبيل المثال، كان بعض الباحثين قد افترضوا بناءً على عدة أبحاث أن المجاورة المكانية تزيد فرص إقامة العلاقات والصداقات بين الناس بشكل مطّرد، وقد استعرضنا إحدى الدراسات المؤسسة لهذه الفرضية في المقال السابق. ولكن حين أعيدت هذه الدراسة على بيئات مختلفة، حيث السكان مختلفون طبقيًا وإثنيًا وليسوا طلابًا وزملاء في نفس الجامعة، وجد الباحثون أن القرب والمجاورة لم يكونا بذلك التأثير الذي افترض من قبل. حيث كانت عوامل مثل التنوع العرقي ومدى حاجة الجيران إلى المساعدة من الآخرين وتوفر الانترنت تقلص من تأثير المجاورة والاحتكاك المتكرر. وهكذا فإن النموذج الاجتماعي-البيئي يحاول وضع النظريات السيكولوجية المختلفة في سياقات أكبر.

نظرية النُظُم

قد يبدو جليًا الآن أن علم النفس البيئي لا يبحث -أو حتى لا يمكنه أن يبحث- عن حلول وإجابات اختزالية ومبسطة، وبدا هذا أكثر وضوحًا خلال استعراض النموذج الاجتماعي البيئي أعلاه.  لذلك يعتمد علماء نفس البيئة أيضًا على «نظرية النظم – Systems Theory» لدراسة هذه العلاقة المعقدة في إطار النموذج السابق؛ وبالتحديد على نموذج النظام المفتوح. إذ يُستعمل هذا النموذج في دراسة البيئة والمجتمع -كما يستعمل أيضًا في علم الأحياء والإدارة والاقتصاد وغيرها- وتحليل ما يحدث حين تضطرب بيئة أو نظام ما (ما يؤدي في حالة دراسة البيئة إلى الضغط النفسي والفسيولوجي).

على سبيل المثال، فإن تعرض الفرد لمدخلات أو لمعطيات كثيرة قد يتسبب له بالضغط والإجهاد. ولذلك ففي المدن الكبيرة تتسبب أعداد البشر وكثافتهم في الإجهاد للسكان، فيحاولون موازنة نظامهم اليومي بتقليل عدد معارفهم وارتباطاتهم الاجتماعية لكي لا يُجهدوا بتفاعلات اجتماعية كثيرة أو غير مهمة، وفي حال الاضطرار للتعامل مع الغرباء في الشارع فإن الناس تحاول اختصار اللقاء قدر الإمكان نظرًا لانشغالهم وتعدد ارتباطاتهم.[1]

أدى البحث في نظرية النظم أيضًا إلى تطوير «نظرية بيئات السلوك – Behavior Settings Theory»، والتي تقول بأن سلوك الأفراد يتأثر بالبيئة والمعطيات الموجودة بها أكثر من من تأثره بالسمات الشخصية للفرد. ويعد رائدا هذه النظرية هما “روجر باركر» وتلميذه “آلان ويكر»، والذان درسا ميل النظم المفتوحة للتوازن بشكل تلقائي لضمان استمرارها. فحاجة الأنظمة (كالمدارس أو الكنائس مثلًا) للبقاء متماسكة تفرض على أفرادها أنواعًا معينة من السلوك، فطلاب المدارس وروّاد الكنائس الأصغر يشتركون في أنشطة أكثر لكي تتمكن المؤسسة نفسها من الاستمرار.

مناهج البحث

كما ذكرنا فعلم النفس البيئي يتبنى مناهج البحث الكمية والنوعية على حد سواء. فالباحثون يقومون بالاستبيانات، والتجارب المعملية، ودراسات الحالات والدراسات الميدانية. بالإضافة إلى ذلك ففي بعض الأحيان يكون من الصعب بل المستحيل دراسة بيئة ما لضخامتها وكثرة عواملها وأفرادها، فيقوم الباحثون بتصنيع محاكات حاسوبية ومجسمات تمكنهم من تحليل بيئةٍ ما حاسوبيًا، أو تتيح للمشاركين في دراسةٍ ما اختبار بيئة افتراضية وتسجيل انطباعاتهم عنها على سبيل المثال. وكما سنرى لاحقًا فيمكن حتى للمعماريين والمخططين استخدام هذا الأسلوب لدراسة التصميمات وآثارها الواقعية.

مجالات علم النفس البيئي

يمكننا فرز مجالات علم النفس البيئي إجمالًا إلى ثلاث نطاقات. النطاق الأول هو البحث في العوامل البيئية المؤثرة سلبًا وإيجابًا على التجربة والصحة والسلوك، والوسائل الممكنة لتحسين الراحة والصحة للبشر عن طريق تعديل البيئة. يشمل هذا النطاق مواضيع مثل تقييم الخطر «Risk Assessment» والتعامل معه، والفوائد الصحية للطبيعة، وجودة البيئة الحضرية والمدن، وآثار العوامل البيئية على جودة ومستوى المعيشة.

النطاق الثاني هو «الإدراك البيئي – Environmental Cognition»، أي كيف يدرك البشر بيئاتهم المباشرة ويتفاعلون معها. يشمل البحث في هذا المجال مواضيع مثل الهوية والشخصية باعتبارها عملية بيئية، كيف يقيّم الناس بيئاتهم ويتصورونها؟ وكيف تتجلى آثار البيئة في الفرد، والذي بدوره يتفاعل مع تلك الآثار بناءً على إدراكه وملاحظته لها؟

يختلف إدراك الفرد للبيئة عن إدراكه للأشياء. فبينما يتطلب إدراك موضوعٍ ما ذاتًا مُدركة، فإن إدراك البيئة يتطلب  ذاتًا مشاركة. فإدراك البيئة التي تحيا فيها يتطلب الفعل والحركة، ولا يقتصر على الحواس الخمس. كما يشمل المشاعر والانطباعات والقيم التي يحملها الفرد تجاه بيئته. تساعد نظريات الإدراك البيئي في وضع مخططات أكثر انسيابية ووضوحًا للمدن كما تمنح الباحثين وسيلة لدراسة المجتمع طبقيًا إذ يختلف إدراك كل طبقة اجتماعية للمدينة على سبيل المثال.

النطاق الثالث يتضمن دراسة السلوكيات البيئية، بما فيها السلوكيات الصديقة للبيئة، وعلاقتها بالقيم والأعراف المجتمعية، وكيف يرتبط البشر ببيئاتهم «Place Attachment»، وكيف يحفز -أو يعيق- ذلك كله المشاركة في سلوكيات ونشاطات صديقة للبيئة وأيضًا دراسة عمليات التغيير الاجتماعي والبيئي.

علوم النفس والأعصاب المعمارية

هناك مجال ناشئ داخل علم النفس يشتغل على دراسة تأثير التفاصيل المعمارية على النفس والدماغ، مثل أثر الواجهات وارتفاع الأسقف والإضاءة على التركيز والمشاعر وغيرها. وعلى الرغم من بدء ظهور مؤتمرات ومراكز تدعم هذه الأبحاث [2ٍ]، باعتبارها توفر مادة نظرية لتصميمٍ أفضل للمكان والحيز، بالإضافة إلى توفر بعض الدوريات والمجلات المهتمة بمثل هذه الأبحاث، فيبدو أنها  لا تزال غير منظمة إلى حد كبير، ناهيك عن إمكانيات تطبيقها عمليًا بشكل علمي على نطاقٍ واسع.

بهذا نكون قد استعرضنا سريعًا أهم خصائص ونظريات علم النفس البيئي بالإضافة إلى مجالاته البحثية. في المقالات التالية سنقوم بعرض بعض التطبيقات العملية لهذه المجالات، لنرى كيف يمكن لها الفرع من علوم النفس والتصميم أن يحسّن من جودة بيئاتنا الطبيعية والحضرية على حدٍ سواء. وسنبدأ بالحديث عن النطاق الأول لعلم النفس البيئي: وهو العوامل البيئية المؤثرة سلبًا وإيجابًا على الصحة والسلوك والتجربة البشرية وسنستهلها بالحديث عن التخطيط العمراني المحب للبيئة، أو ما يسمى بالبايوفيليا.

المصادر: 
[1] Stanley Milgram, The Experience of Living in Cities 
[2] على سبيل المثال: NeuroAU، وأيضًا Centre for Conscious Design 
[3] Environmental Psychology: an Introduction
[4] Environmental Psychology, Daniel Stokols

علم النفس البيئي: نبذة تاريخية عن علاقة العمران بالنفس

هذه المقالة هي الجزء 1 من 9 في سلسلة مقدمة في علم النفس البيئي

كيف يتفاعل البشر مع بيئتهم؟

هل حدث من قبل أن ذهبت إلى مكانٍ ما وتوقفت منبهرًا من منظره وما أوجده من مشاعر بداخلك؟ لماذا قد نشعر بالملل إذا مشينا بجانب بعض المباني ذات الواجهات المغلقة؟ ما الذي يجعل بعض الأماكن والساحات تنبض بالحياة وبعضها الآخر موحشًا؟ هل يمكننا تحليل شخصية شخص ما من غرفته ومقتنياته؟ وما هي أضرار الازدحام على الصحة وكيف نصمم الأحياء السكنية لتكون آمنة وأيسر للسير؟ هذه الأسئلة تقع ضمن مجال علم النفس البيئي «Environmental Psychology»، و هو علم يدرس تأثير البيئة إجمالًا على التجربة والسلوك والصالح البشري العام، بالإضافة إلى تأثير الأفراد (والمجتمعات) على البيئة. وتعدد مجالاته يجعله مجالًا مثيرًا للاهتمام والبحث إذ أنه يتعلق بالكثير من القضايا التي نعيشها بشكل يومي.

البدايات: علم النفس “المعماري”

ظهر علم النفس البيئي رسميًا كفرع من علوم النفس خلال فترة الستينات. إلا أن المصطلح ظهر لأول مرة في النصف الأول من القرن العشرين، حين درس «ويلي هيلباخ» أثر عوامل بيئية مختلفة مثل اللون والشكل والشمس والقمر على أنشطة بشرية مختلفة، وقسّم البيئة إلى ثلاث نطاقات: البيئة والمجتمع والعمران (أو الحضر). اعتقد هيلباخ أن كلًّا من هذه النطاقات يؤثر على العقل البشري عبر وسيلتين: الأثر المباشر للمعاني والرموز (التجارب المباشرة للبيئة)، والأثر غير المباشر عن طريق التأثيرات الفسيولوجية على الجسم والدماغ.[1]

في هذه الفترة كانت الأبحاث التي تستكشف العلاقة بين البيئة والنفس مبعثرة إلى حد كبير، ولم يكن معترفًا بها كمجال بحثيّ مستقل. بحلول أربعينات القرن العشرين بدأت الدراسة المنهجية للمكان والحيز كما ظهرت العديد من الدراسات حول إضاءة المنازل وأثرها على الصحة وسلوكيات الأطفال في البيئات الطبيعية وغيرها. وحيث كانت معظم تلك الدراسات تركز على الكيفية التي تؤثر بها البيئات الحضرية بالأخص على إحساس وسلوكيات الناس، فقد سُميت بـ«علم النفس المعماري»، للتمييز بينها وبين دراسات علم النفس الأكثر تقليدية.

بيئة حضرية فعّالة

في تلك الفترة كان التركيز الأكبر على البيئة المبنية أو الحضرية، مثل المعمار والتقنية، وآثارها على النفس. وكان هذا التركيز على البيئات المبنية مدفوعًا بشكل كبير بالمناخ السياسي والاجتماعي في تلك الفترة. حيث كانت العمارة الحديثة تحاول معالجة تحديات ما بعد الحرب العالمية -مثل توفير الإسكان المناسب للسكان. ولهذا نشأت أسئلة حول الكيفية المثلى لبناء المنازل والمكاتب والمستشفيات لتخدم مستعمليها بأكبر فاعلية ممكنة، وكيف يمكن للمؤثرات البيئية (كالحرارة، والرطوبة، والتكدس والازدحام) التأثير على الأداء البشري وبالتالي كيف يمكن التحكم بها.

البحث الاجتماعي في المعمار

بدأت تظهر ولو بشكل طفيف أيضًا دراسات اجتماعية ونفسية حول الأثر الاجتماعي للحيّز، ـ لعل أبرزها الدراسة الرائدة لعالم النفس «ليون فيستنغر» التي أظهر فيها العلاقة بين المجاورة المكانية واحتمالية تكوين علاقات اجتماعية طويلة المدى، وهو ما أسماه بأثر المجاورة «Proximity Effect». أي أن الناس يميلون لإقامة علاقات اجتماعية أكثر مع الذين هم أقرب لهم فيزيائيًا. درس «فستنغر» سكنًا طلابيًا بمعهد إم آي تي ولاحظ أن الطلاب الذين يعيشون في غرف بجانب درج المبنى كانت لديهم علاقات اجتماعية أكثر مع باقي السكان حيث يحتكون بهم بشكل أكثر تواترًا، كما أنه كلما كانت غرفتان أقرب لبعضهما زادت فرصة ساكنيهما لتكوين صداقة.

بناءً على أبحاثه حول سيكولوجية الجماعات والانتماء، كان فيستنغر يطالب المعماريين أيضًا بأخذ الاحتياجات الاجتماعية للسكان ورغبتهم في الانتماء قيد الحسبان أثناء تصميم المناطق السكنية.[2] توالت في الفترة التالية، وبالأخص منذ الستينات، الدراسات حول البعد الإنساني في التصميم والتخطيط العمراني، مثل دراسات «كيفن لينش» عن “صورة المدينة” و«روبرت سومر» حول المساحات الشخصية ونظرية «أوسكار نيومان» حول «المساحات الآمنة – Defensible Space» لخلق أماكن أكثر أمنًا وسلامة.

علم النفس البيئي والاستدامة

الفترة التالية لنمو مجال علم النفس البيئي بدأت في الستينات، حين بدأ العالم بإدراك المشاكل والأخطار البيئية المحيطة. ومن هنا ظهرت الدراسات حول مشكلة الاستدامة ودراسة وتغيير السلوك البيئي لخلق بيئة مستدامة وصحية. شملت تلك الدراسات في بداياتها مشاكل مثل تلوث الهواء والتلوث الضوضائي، ومن ثم توسعت لتشمل مباحث كاستهلاك الطاقة ودراسة المخاطر المرتبطة بتقنيات الطاقة. في الثمانينات بدأت بالظهور أيضًا الدراسات حول جهود تحفيز الحفاظ على البيئة والتوعية المجتمعية بالسلوكيات الصديقة للبيئة. وتصاعد هذا التوجه منذ بدايات القرن الحادي والعشرين، حيث صار من الواضح أن الأزمات البيئية كالتغير المناخي والتلوث والتصحر تهدد الصحة والأمن الغذائي والمائي للعالم أجمع. وبالتالي فقد تم استدعاء مفهوم للاستدامة يشمل الصالح العام البيئي والمجتمعي والاقتصادي، ويرى بعض الباحثين أن علم النفس البيئي تطور بمرور الزمن إلى “علم نفس الاستدامة” على المستويات الثلاث.

كيف نصمم مدنًا أكثر جاذبية؟

بجانب دراسة البيئة والاستدامة والطاقة التي توسعت مع اتساع الوعي بالازمة المناخية، بدأت أيضًا دراسة الكيفية التي يتفاعل بها البشر مع بيئاتهم الحضرية، وهو ما يسمى في بعض الأحيان بعلم النفس الحضري «Urban Psychology» والذي كان رائده هو المخطط الأمريكي «وليام و. وايت»،  الذي يلقب أحيانًا بأبو علم النفس الحضري.[3] كان «وايت» مهتمًا بمعرفة السبب الذي يجعل بعض الميادين والشوارع والحدائق مليئة بالناس وجاذبة للنشاط البشري، بينما تكون أخرى شديدة الوحشة ومنفرة للنشاط البشري. ولذلك قام بتصوير وملاحظة شوارع وميادين وحدائق نيويورك ليحاول تحليل العوامل التي تجعل الناس يتجمعون في مكانٍ ما.

كانت من أبرز نتائج وايت -والتي تبدو شديدة البداهة حد الضحك ربما- هي أن الناس يجلسون حيث يتوفر لهم مكان للجلوس. فلدهشة وايت نفسه كان العديد من الحدائق والميادين لا يوفر حتى مقاعد للجلوس والاستمتاع بالهواء والشمس. هذا إن لم يتم وضع موانع ضد جلوسهم حول بعض المباني؛ كما تفعل بعض الشركات والمؤسسات حين تحاول طرد المشردين والشحاذين -ومن أسماهم وايت “غير المرغوب فيهم” «Undesirables»- عن طريق تسوير مبانيها وجعل محيطها غير جذاب؛ وتكون النتيجة أن الناس يبتعدون عنه ويصبح موحشًا في حين أن أولئك غير المرغوب فيهم يحتلونه. لقد لخص وايت نتائج دراساته بقوله “أنه من الصعب جدًا تصميم مكانٍ غير جذاب للناس. ما يستحق الدهشة هو كيف يتم ذلك باستمرار”.[4]

نطاق علم النفس البيئي حاليًا

لعلنا الآن نتساءل عن حدود ونطاق علم النفس البيئي، هل هو لتصميم مبانٍ أكثر فاعلية وراحة، أم للبحث حول قضية الاستدامة ودعم مصادر الطاقة البديلة؟ هل يدرس البشر أم الحضر؟  وما هي بالضبط البيئة التي يدرس النفس البشرية ضمنها؟ الحقيقة هي أن علم النفس البيئي مجال متعدد النطاقات «Multi-disciplinary»، ويتصف بمقاربته متعددة المجالات للقضايا محل البحث وتعدد مناهجه، فهو يتداخل بشكل صميميّ مع الهندسة المعمارية وعلوم البيئة والسياسات العامة، بالإضافة إلى التبعات المجتمعية لها كالآثار الصحية والنفسية. وبالمقابل يبحث أيضًا كيف يؤثر الناس في بيئاتهم: كيف يجعلونها أكثر ذاتية، كيف يعبرون عن أنفسهم وانتماءاتهم، وكيف يدفعهم ذلك إلى الحفاظ على سلامة محيطهم وبيئتهم على سبيل المثال.

سنتحدث في مقالاتٍ تالية عن تطبيقات معاصرة لعلم النفس البيئي وأثرها في البيئة الحضرية والسلوك البشري، ولكن يكفينا في هذه الفقرة أن نبين أن العلاقة المتبادلة بين البشر وبيئتهم (حضرية كانت أو طبيعية) معقدة ومتداخلة للغاية. ولعل هذا سبب في أن علم النفس البيئي يتسم بالبحث بدافع العثور على أكثر الحلول فاعلية لمشاكل حاضرة بالفعل. إضافة إلى أن علم النفس البيئي يدرس هذه العلاقة على مستوياتٍ عدة، ابتداءً بمشاكل النفايات وإعادة التدوير على مستوى الأحياء مرورًا بالتخطيط السليم والصحي للأحياء السكنية ومناطق العمل على مستوى المدن والدول وانتهاءً بدراسة التقنيات الجديدة لمواجهة تغير المناخ على مستوى الكوكب كله.

ولذلك أيضًا، فإن هناك عدة مجالات تبحث هذه العلاقة وتتداخل مع بعضها البعض على عدة مستويات وفي عدة نطاقات.  فبجانب علم النفس البيئي، هناك على سبيل المثال أيضًا علم الاجتماع الحضري «Urban Sociology» وعلم البيئة الحضري «Urban Ecology» وعلم الظواهر أو الفينومينولوجيا المعمارية «Architectural Phenomenology»، وكلها لديها دوريات ومجلات متخصصة وبعضها يدرّس في أقسام جامعية مختصة.


المصادر:

  1. Environmental Psychology : an Introduction
  2. Blueprints for a History of Environmental Psychology
  3. Architecture and Group Membership, Leon Festinger
  4. Project for Public Spaces
  5. Social Life of Small Urban Spaces

أساطير نشأة الكون، أنواعها وسماتها

أسطورة الخلق، وتسمى أيضًا أسطورة نشأة الكون، وهي صياغة فلسفية ولاهوتية لأسطورة الخلق البدائية داخل مجتمع ديني. يشير مصطلح الأسطورة هنا إلى التعبير التخيلي في شكل سردي لما يتم اختباره أو إدراكه كحقيقة أساسية. يشير مصطلح الخلق إلى بداية الأشياء، سواء بإرادة وفعل كائن خارق، أو عن طريق الانبثاق من مصدر نهائي، أو بأي طريقة أخرى. في هذا المقال سنتعرف على أساطير نشأة الكون، أنواعها وسماتها

أنواع أساطير نشأة الكون:

لم يظهر العالم كمعنى وقيمة بنفس الطريقة لجميع الحضارات البشرية. لذلك، هناك عدد من الأساطير حول نشأة الكون تقريبًا يساوي عدد الثقافات البشرية. حتى وقت قريب جدًا، كان تصنيف هذه الأساطير على مقياس تطوري، من الثقافات القديمة إلى الثقافات الغربية المعاصرة (أي من أبسطها إلى أكثرها تعقيدًا) هو النمط السائد لترتيب هذه الأساطير. ومع ذلك، فقد بدأ علماء القرن العشرين الحديثون في النظر إلى الأنواع المختلفة من الأساطير من حيث الهياكل التي تكشف عنها بدلاً من اعتبارها على نطاق تطوري يمتد من ما يسمى البسيط إلى المعقد

الخلق من قبل كائن سامي:

رأى علماء القرن التاسع عشر الذين أجروا مسحًا تطوريًا للثقافة والدين البشريين (على سبيل المثال، السير جيمس جورج فريزر والسير إدوارد بورنيت تايلور) أن فكرة خلق العالم بواسطة كائن أعلى لم تحدث إلا في أعلى مرحلة من تطوير الثقافة. تحدى أندرو لانج، وهو عالم فولكلوري اسكتلندي، هذا المفهوم لتطور الأفكار الدينية، لأنه وجد في كتابات علماء الأنثروبولوجيا وعلماء الأعراق والمسافرين دليلاً على الإيمان بكائن أو إله سامي بين الثقافات التي تم تصنيفها على أنها الأكثر بدائية. تم تبني هذا الموقف وتوضيحه من قبل الكاهن النمساوي الأنثروبولوجي، فيلهلم ماتيوس شميدت، الذي عكس النظرية التطورية، معتبراً أن هناك فكرة أساسية عن كائن سامي، وهو نوع من التصور الفكري والديني الأصلي لإله خالق واحد، التي تدهورت في المراحل الثقافية اللاحقة. على الرغم من أن نظريات شميدت للمراحل التاريخية الثقافية والانتشار والوحي الأصلي قد تم فقدان مصداقيتها والتخلي عنها في معظمها، إلا أن وجود الإيمان بالكائن السامي بين الشعوب البدائية (وهو مفهوم اكتشفه أندرو لانج) قد تم إثباته وشهد عليه مرارًا وتكرارًا من قبل محققين من ثقافات عديدة. تم العثور على هذا الاعتقاد بين ثقافات إفريقيا، وجزر الأينو في جزر اليابان الشمالية، والهنود الحمر، وجنوب وسط أستراليا، الفوجيون في أمريكا الجنوبية، وفي جميع أنحاء العالم تقريبًا.

الخلق من خلال الانبثاق:

على النقيض من الخلق من قبل إله السماء السامي، هناك نوع آخر من أسطورة الخلق يبدو فيه أن الخلق يظهر من خلال قوته الداخلية من تحت الأرض. في هذا النوع من الأسطورة، يظهر النظام المخلوق تدريجيًا في مراحل متواصلة. إنه مشابه لميلاد أو تحول العالم من حالته الجنينية إلى مرحلة النضج. إن رمزية الأرض أو جزء منها كمستودع لكل الأشكال المحتملة بارزة في هذا النوع من الأسطورة. تمامًا كما تشكل أسطورة الإله الأعلى الخالق تناظرًا للسماء، فإن أسطورة الظهور تشكل تجانسًا مع الأرض والمرأة التي تنجب. في كثير من الحالات، يكون ظهور النظام المخلوق مماثلاً لنمو الطفل في الرحم وانبعاثه عند الولادة. من منظور آخر، فإن أسطورة الظهور تماثل البذرة. عندما يشار إلى البذرة، يتبادر إلى الذهن معنى الخصوبة والموت في الحال. يجب أن تموت البذرة قبل أن تولد من جديد وتحقق إمكاناتها.

الخلق بواسطة والدي العالم:

ترتبط ارتباطا وثيقا بنوع الأسطورة المذكورة أعلاه هي الأسطورة التي تنص على أن العالم مخلوق كنسل لأم وأب أوليين. الأم والأب رمزان للأرض والسماء على التوالي. في الأساطير من هذا النوع، يظهر والدي العالم عمومًا في مرحلة متأخرة من عملية الخلق حيث توجد الفوضى بطريقة ما قبل ظهور آباء العالم. في بعض الأساطير، الخلق هو نتيجة القوى التناسلية لوالدي العالم الأولي. غالبًا ما يتم تصوير ولادة الأبناء من والدي العالم على أنه نشاط غير واعي. حتى العناق الجنسي للوالدين في العالم يكون بدون عاطفة أو نية. لا يظهر الاحتضان الجنسي نتيجة رغبة أو نية، إنها ببساطة الطريقة التي تسير بها الأمور. في الأساطير من هذا النوع، هناك ممانعة من جانب الزوجين الأساسيين للانفصال عن هذا العناق. العناق ليس له بداية أو ذروة. إنه دائم والوالدين في العالم غير مبالين أو غير مدركين للنسل الناتج عن هذا العناق.

الخلق من البيضة الكونية:

البيضة هي رمز الكلية التي يأتي منها كل الخلق. إنه مثل الرحم الذي يحتوي على بذور الخلق. داخل البيضة توجد احتمالات الخلق الكامل (أي خلق كائنات مخنثة). البيضة، بالإضافة إلى كونها بداية الحياة، هي أيضًا رمز الإنجاب والولادة الجديدة والحياة الجديدة.

الخلق بواسطة غواص الأرض (Earth-diver):

في أساطير غواص الأرض، يشكل الماء المادة الأولية للبداية. يغطي الماء، بشكله غير المتمايز، كل شيء بطريقة فوضوية. يغوص البطل، عادة ما يكون حيوانًا، في المياه البدائية في محاولة لإحضار جزء من الرمل أو الطين أو الأرض، أي شكل جوهري من المادة يمكن من خلاله إنشاء نظام أكثر استقرارًا. العديد من الحيوانات تقوم بالمحاولة وتفشل ولكن أخيراً ينجح أحد الحيوانات في استخراج قطعة من التراب أو الطين أو الرمل. وعند وصوله إلى سطح الماء، يتوسع جزئ المادة إلى أبعاد ضخمة، مما يشكل مساحة اليابسة في العالم التي ستعيش عليها جميع الكائنات. تنتشر أساطير غواص الأرض على نطاق واسع، ولكن هناك غلبة لها في ثقافات السكان الأصليين في أمريكا الشمالية. في هذه الثقافات، تعد الأساطير جزءًا من دور البطل المحتال المتحول فيها. هذا النوع من الشخصيات الثقافية فريد إلى حد ما في الأساطير من هذا النوع. في هذه الأساطير، يتم توضيح التضاد والتوتر بين الإله الخالق والبطل في شكل حيوان أو إنسان. إنه خفي وغير مباشر وخفيف ولكنه مع ذلك حاد. من الواضح أن هناك رغبة من جانب البطل في خلق عالم مختلف في وضع مختلف عن عالم الإله الخالق.

سمات أسطورية أساسية:

الأولية:

ورد في العديد من الأساطير أن المادة الأولية للخلق كانت شكلاً من أشكال المادة غير المتمايزة (على سبيل المثال، الماء، أو الفوضى، أو الوحش، أو البيضة). من هذه المادة غير المتمايزة يتطور العالم أو يصنع. في حالة رموز البيضة والوحش، يبدو أن هناك مفهوم عن شكل أصلي محدد، لكن البيضة غير متمايزة لأن شكلها مبهم وجنيني، وشكل الوحش الذي يحتوي على جميع أشكال الفوضى بطريقة رهيبة يعبر عن الفكرة القائلة بأن الفوضى ليست فقط سلبية (مثل الماء) ولكنها تقاوم عملية الخلق. على الرغم من أن الخلق ينتج كتعديل للمادة الأولية، إلا أن هذه المسألة هي التي تحدد وتضع حدود امتداد العالم في المكان والزمان. وهكذا، في المجتمعات التي تجد فيها أساطير من هذا النوع، هناك فترات من تجديد الأسطورة الطقسي في فترات دورية معينة يعود فيها العالم إلى فوضى أصلية ليخرج مرة أخرى من هذه الحالة الأولية. عندما يُقال أن الكائن الأعلى خلق العالم وأنه لم يكن هناك مادة بدائية قبل وجوده، فإن تحديد العالم يكون في عقل الإله وإرادته. يؤدي هذا إلى استنتاجات مميزة فيما يتعلق بمصير العالم والإنسانية. وهكذا فإن نهاية ومعنى العالم لا تحددها المادة البدائية بل الإله الذي خلق العالم. إنه وحده الذي يقرر الحفاظ على العالم وصيانته ونهايته.

الثنائيات والعداوة:

في أساطير الانبثاق، يبدو أن هناك انتقال سهل من مرحلة الخلق إلى المرحلة التالية، ولكن كما هو موضح في أسطورة قبيلة نافاجو، يوجد في كل مستوى تحت الأرض نوع من العداء بين المخلوقات الجنينية النامية. وهذا من أسباب انفصال المخلوقات والانتقال إلى مستوى آخر. على الرغم من أن أساطير الانبثاق تصور أخف أشكال هذا العداء، إلا أنها لا تزال موجودة في أساطير من هذا النوع. في أساطير والدي العالم، هناك عداء بين الأبناء والأبوين. هذا صراع بين الأجيال، يعبر عن رغبة الأطفال في تحديد مكانهم وتوجههم في الوجود ضد سلبية الوالدين. تم العثور على الازدواجية والعداء مرة أخرى في أساطير البيضة الكونية، خاصة في الأساطير التي تحتوي فيها البيضة على توائم. يرغب أحد التوأمين في الحصول على الفضل في إنشاء العالم وحده، مما يقطع النمو المتناغم داخل البويضة قبل النضج. الخلق الخاطئ من قبل هذا التوأم الشرير يفسر الطبيعة الغامضة للعالم وأصل الشر. تنطبق هذه الملاحظة بالتساوي على البنية الثنائية في بعض إصدارات أساطير غواص الأرض. ينتقل الشيطان في نسخ مختلفة من هذه الأسطورة من رفيق الإله إلى خصمه، ويمتلك القدرة على تحدي الإله.

عملية الخلق والتضحية:

في العديد من أساطير نشأة الكون، يروي السرد قصة التضحية وتقطيع أوصال كائن بدائي. ثم يتم إنشاء العالم من جسد هذا الكائن. في أسطورة Enuma Elish، يقسم الإله مردوخ جسد الأم الأولية تيامات، بعد هزيمتها، إلى جزأين، جزء واحد يشكل السماء والآخر يشكل الأرض. في أسطورة غرب إفريقيا، يجب التضحية بأحد التوأمين من البيضة الكونية لتحقيق عالم صالح للسكن. في أشكال التضحية هذه، يُقترح شيء مشابه لتوصيف مسألة الخلق غير المتمايز، لأنه كما يجب التمييز بين العناصر الأولية للخليقة قبل ظهور العالم، فإن التضحية بالكائنات الأولية هي تدمير الكلية الأولية من أجل من أجل خلق معين.

لماذا توجد أساطير لنشأة الكون؟

قدم الفيلسوف الاسكتلندي ديفيد هيوم السبب الحقيقي وراء كون أساطير الخلق شبه عالمية. لاحظ هيوم أنه بدون فكرة عن السبب والنتيجة، سنكون غير قادرين تمامًا على فهم العالم من حولنا. ومع ذلك، فإن المشكلة هي أن كل ما نلاحظه هو شيء واحد تلو الآخر. نحن لا نرى شيئًا في الواقع يسبب شيئًا آخر، كما أننا لا نملك أسبابًا منطقية وجيهة للقفز من ملاحظة الانتظام إلى استنتاج مفاده أن شيئين مرتبطين ببعض الارتباط الضروري.

لحسن الحظ، قامت الطبيعة بسد هذه الفجوة المنطقية والتجريبية بالنسبة لنا. إن فكرة الارتباط الضروري بين الأحداث هي شيء يفرضه العقل على تصوراته. ولكن نظرًا لأن هذه غريزة عميقة وتلقائية، فإننا نميل إلى الاعتقاد بأن الروابط السببية قد تمت ملاحظتها في الواقع، ولم تفرضها عقولنا. نظرًا لأن عقولنا منشغلة في فرض نظام سببي على تصوراتنا، فغالبًا ما ينتهي بنا المطاف برؤية الأسباب حيث لا توجد أسباب. على سبيل المثال، نلمس أرنبًا محظوظًا قبل أن نشتري تذاكر اليانصيب الخاصة بنا وإذا فزنا، فإننا ننسب النصر إلى الأرنب. يبدو الأمر كما لو أننا جشعون أتجاه السببية، مفضلين تفسيرًا سيئًا على لا شيء على الإطلاق. لذلك نسأل بشكل طبيعي من أين يأتي الكون، وفي غياب أي طريقة موثوقة لاكتشاف الإجابات الحقيقية، فإننا نخمن أفضل تخمين محتمل، والذي يعني عادةً وصف الخلق الكوني بطرق مماثلة للأشكال الأكثر شيوعًا، مثل الولادة أو عمل خالق هادف.

المصادر:

  1. britannica
  2. the guardian
  3. encyclopedia

رحلة في تاريخ الفن، من أين أتى القنطور؟

لا بد وأنك شاهدت قنطورًا ولو لمرة في حياتك على الأقل؛ في لعبة Hercules مثلًا.《 والقنطور-Centaur 》 هو كائن غريب من الميثولوجيا اليونانية. نصفه إنسان ونصفه، حصان وقد عاش في غابات البر الرئيسي لليونان. استخدم الإغريق هذا المخلوق كرمز، للدلالة على الشعوب الأخرى التي اعتبروها بربرية وهمجية. لكن في حالة 《تشيرون-Chiron》 فقد كان رمزًا للحكمة الإلهية.

أدبيًا، ظهر أقدم ذكر للقنطور في نصوص هوميروس. أما في الفن فقد ظهر هذا المخلوق في اليونان بدايةً، في نهاية ما يسمى بالعصور المظلمة اليونانية، أما في الحضارات الشرقية فله شواهد تعود إلى ما قبل هذا التاريخ.

ولادة القنطور-Centaur

مشهد منحوت من أسطورة Centauromachy 447-438 المتحف البريطاني

في الأساطير والميثولوجيا اليونانية، كان القنطور جنسًا أخر من المخلوقات. كائنات مركبة نصفها بشر ونصفها أحصنة. يقاتلون باستخدام أغصان الأشجار وبرمي الحجارة في معظم الأوقات، ونادرًا ما قاتلوا باستخدام الأقواس والأسهم.

إن قصة ولادة القنطور غريبة بعض الشيء. لم يجد 《إيكسيون-Ixion》 ابن الإله أريس أحدًا يمكن أن يسامحه لما اقترفه من ذنب عندما قتل والده بالتبني، حتى تبناه في النهاية الإله زيوس واستقبله كضيف في جبل الأولمب. لكن إيكسيون عاد لذنبه ووقع في حب 《هيرا- Hera》 زوجة زيوس. ولكشفه قام زيوس بصنع سحابة على شكل زوجته فوقع إيكسيون بالفخ بعد أن تزاوج معها. أما القنطور فقد ولد من تزاوجهم.

استطاع القنطور أن ينجب ذرية عبر زواجه من أفراس منطقة 《ماغنيسيا-Magnesian mares》

كان القنطور يمثل الهمجية والوحشية بعيد كل البعد عن الحضارة. مثل القنطور العنف يظهر في الميثولوجيا كقاتل ومغتصب. عاش في الغابات في مناطق 《ثيساليا- Thessaly》 والبعض الأخر عاش في منطقة إيبيروس أما النوع الذي كان يمتلك قرونًا كالثور فقد انتشر في جزيرة قبرص.

ريد ويدنغ أو الزفاف الأحمر

أكثر المشاهد شهرة والتي تظهر في الميثولوجيا اليونانية هي أسطورة 《Centauromachy》. في هذه الأسطورة يدعو 《بيريثيوس-Pirithous》 القنطور لحضور حفل زفافه مع  《هيبوداميا-Hippodamia》 وفي أثناء الحفل يسكر القنطور ويهاجم جميع الضيوف ويحاول خطف هيبوداميا. لحسن الحظ يتمكن بيريثيوس بمساعدة البطل ثيسيوس من هزيمته وابعاد هذا التهديد.

إن القنطور الأكثر شهرة في الأساطير اليونانية هو تشيرون. وقد اعتبره هوميروس الأصلح بينهم جميعًا. ويعتبر من أكثر الكائنات حكمة في الميثولوجيا اليونانية. لقد كان معلم أخيل وهرقل وفرساوس وثيسيوش والكثير غيرهم. كان تشيرون ابن 《كرونوس-Cronus》 وفيليريا وربما كانت قصة ولادته المختلفة هذه من أجل شرح سبب اختلافه عن باقي أنواع القنطور الهمجية.

كائنات مركبة

رجل وقنطور من البرونز منتصف القرن الثامن ق.م.

مثل كل الحضارات الأخرى تقريبًا كان للإغريق أساطيرهم الخاصة. ولو يكن القنطور هو الكائن الوحيد المركب في هذه الأساطير. كان هنالك أيضًا 《Sphinex أو أبو الهول》 وهو كائن نصفه أسد ورأسه إنسان والعديد من هذه الكائنات أيضًا.

بهذه الأساطير حاول الإغريق فهم وشرح العالم الطبيعي الذي يحيط بهم.

قبل ظهور العالم اليوناني في التاريخ، كانت صور المخلوقات المركبة موجودة بالفعل في حضارات بحر إيجة والبحر المتوسط.  هنالك تمثيل واحد على الأقل لقنطور من العصر البرونزي وجد في أوغاريت أو ما يعرف برأس شمرا حاليًا على الساحل السوري. كما تم التعرف أيضًا على عدة مخلوقات مركبة في الحضارة الميناوية والميسينية التي ازدهرت في بحر إيجة خلال عصر البرونز.

وخلال العصور المظلمة اليونانية، الفترة التي تلت انهيار حضارات عصر البرونز، اختفت هذه المخلوقات المركبة في ظروف غامضة حتى عادت فيما يعرف بالعصر الهندسي اليوناني. وهو عصر ازدهر فيه الفن الهندسي اليوناني من سنة 700-900 قبل الميلاد.

تشترك جميع هذه المخلوقات المركبة في الفن اليوناني في أن تصميمها كان قيد التجريب في جميع هذه المراحل وصولًا للقرن السادس قبل الميلاد.

في الفن الشرقي

الثور المجنح من الحضارة الأشورية 721-705 ق.م.

على الرغم من اعتبار القنطور الهام يوناني بامتياز، فهذا لا يعني أن اليونان لم يستوحوا شيئًا من رموزهم وأيقوناته من حضارات وثقافات أخرى.

لم تكن مناطق وجزر بحر إيجة معزولة عن بقية العالم. فقد أحاطت باليونان ممالك قوية ذات تاريخ عميق وأساطير غنية. أثرت مصر وممالك الشرق الأدنى والأوسط على الإغريق في كل جانب، من العمارة والفن إلى الدين. ليس من قبيل المصادفة أن يتضمن الفن القديم فترة استشراقية. بحلول الوقت الذي كتب فيه هوميروس ملاحمه، كان بحر إيجة قد شهد بالفعل الحرب والتجارة والهجرة لدرجة أن صور وقصص الشرق كانت في متناول الإغريق. لم يكن اليونانيون، بطبيعة الحال، مستقبِلين سلبيين بل فاعلين. لقد تبنوا هذه الصور والمحفزات، وخلطوها مع صورهم الخاصة، وأنتجوا أساطير وقصص وفنون فريدة جديدة تحتوي على كل هذه التأثيرات القديمة.

تم استخدام رموز هذه الوحوش المركبة مثل أبو الهول من الحضارات الشرقية، أحيانًا مع بعض التغييرات الصغيرة وأحيانًا أخرى دون أي تغييرات على الإطلاق. علاوة على ذلك، فإن الوحوش الشرقية مثل الأسد البشري والثور البشري تقدم العديد من أوجه التشابه الشكلي مع القنطور.

هل كان هنالك قنطور-Centaur في الشرق؟

خنم أسطواني أشوري من القرن 13 ق.م.

في ختم أسطواني آشوري يعود إلى القرن الثالث عشر قبل الميلاد، يمكننا أن نرى بوضوح رجلًا له أجنحة وجسم حصان وذيل عقرب. يحمل هذا الفارس المجنح المميز قوسًا.

تصوير مبكر آخر للقنطور في الفن الشرقي يأتي من ختم أسطواني آشوري آخر من القرن الثالث عشر قبل الميلاد. كان الشكل يحمل أيضًا قوسًا، وخلال القرون التالية تبلورت في صورة برج القوس.

باستثناء هذه الأختام الآشورية، يمكن إرجاع جذور 《القنطور-Centaur》 إلى بلاد ما بين النهرين ، وهو نوع خاص من الأسود المركبة. بالطبع، هناك أيضًا كائنات أخرى لها أجسام بشرية وحيوانية ولكن لا شيء مثل القنطور كما ظهر في الفن والأساطير اليونانية.

القنطور في حضارات بحر إيجة

القنطور الميسيني

كانت الحضارات الميسينية والمينوية هي الحضارات التي ازدهرت في بحر إيجه خلال العصر البرونزي اليوناني وحتى القرن الثاني عشر قبل الميلاد عندما بدأت العصور المظلمة اليونانية.

هناك دليل جيد يدعم استخدام الحضارة الميسينية لرمز 《القنطور-Centaur》. إنه عبارة عن تمثالان من الطين الميسيني تم العثور عليهما في أوغاريت. ليس من الغريب العثور على أشياء ميسينية في أوغاريت فقد كانت مركزًا تجاريًا رئيسيًا في منطقة سوريا. في الواقع، كان الميسينيون على اتصال دائم من خلال التجارة والحرب والسفر مع الشعوب من حولهم.

هناك ايضًا عدة أدلة تشبه القنطور وهي تماثيل خزفية نذرية من معابد في جزيرة كريت وقبرص من القرنين الثاني عشر والحادي عشر قبل الميلاد. ومع ذلك، بدت هذه الأشياء أشبه بأبي الهول وأقل شبهاً بالقنطور لأنها لم تكن لها أيدي.

القنطور والعصور المظلمة لليونان

قنطور لافكندي 1000 ق.م.

تم اكتشاف شخصية لافكندي بالقرب من بلدة 《Euboea》 الصغيرة في منطقة تسمى لافكندي. يعود تاريخه إلى العصور المظلمة اليونانية، وبشكل أكثر تحديدًا القرن العاشر قبل الميلاد. بشكل عام، يعتبر لافكندي موقعًا أثريًا مهمًا قدمت أعمال التنقيب فيه معلومات قيمة فيما يتعلق بالعصر اليوناني المظلم والاتصال بين اليونان ومصر وقبرص وسوريا وليفانتي.

إقرأ أيضًا: سلسلة الفن القديم: الجزء الرابع – الفن الهيلينستي (اليوناني)

إنه أول مثال كامل للقنطور. أهميته كبيرة لدرجة أن العديد من الكتيبات تعتبر هذه بداية الفن اليوناني. تجدر الإشارة أيضًا إلى أنه في هذا الوقت لم تكن هناك أساطير يونانية موحدة. لم يتم تدوين ملاحم هوميروس إلا بعد قرنين من الزمن. في وقت نحت هذا التمثال، كانت الأساطير اليونانية لا تزال في بدايتها. حيث كانت الأساطير تتفاعل مع بعضها البعض وتتغير باستمرار. لذلك لا يمكننا افتراض أنه كان له نفس المعنى والرمزية كما في القرن السادس قبل الميلاد.

يعتبر القنطور من 《لافكندي Lefkandi》 أول قنطور كامل في الفن اليوناني. لكن ماذا يعني الكامل؟ على الرغم من أن فكرة الهجينة بين الإنسان والحصان ليست اختراعًا يونانيًا، إلا أن فكرة القنطور ككائن برأس وجسم الإنسان العلوي وجسم الحصان هي إلهام يوناني.

هل يمكن أن يكون قنطور-Centaur ليفكندي هو تشايرون؟

قنطور-Centaur ليفكندي كان لديه ستة أصابع في يده كذلك كان تشايرون صاحب الحكمة الأسطورية. مات تشيرون بعد إصابته بسهام هرقل في ركبته اليسرى. إذا ألقينا نظرة فاحصة على الركبة اليسرى لشخصية ليفكندي، فسنلاحظ خدشًا عميقًا. قد يكون هذا إضافة مقصودة أو نتيجة غير مقصودة ناتجة عن مرور الوقت. إذا كان الأول صحيحًا، فسيكون هناك سبب آخر للاعتقاد بأن بأن هذا القنطور هو مثل مبكر لـلتشايرون أو مخلوق له أسطورة مماثلة لأسطورة تشايرون.

المصادر

  1. The Centaur’s Smile
  2. The Lapiths and the Centaurs
  3. Classical Myth

العمارة الحديثة كنتيجة لعقلنة الحداثة

هذه المقالة هي الجزء 1 من 13 في سلسلة كيف نشأت الحداثة وغيرت من شكل المعمار في عصرنا؟

الحداثة كنتيجة للعقلنة

اعتبر «ماكس ويبر» الحداثة نتيجة للعقلنة؛ حيث اعتبر أن “الطابع الروحي للمجتمعات التقليدية قد حل محلّه -على الأقل في العالم الغربي- رؤيةٌ للعالم شديدة العقلانية والحساب”. والتي تفضّل تحقيق غايةٍ ما على التبعات البشرية لكيفية تحقيق تلك الغاية. بعبارة أخرى، ينتج نظامٌ اجتماعي يهمل الإنسانية ذاتها التي اُعتقد أنه يرتقي بها.

 الإنسانية -حسب ويبر- قد تقلصت في هكذا عالم مُعقلن إلى حسابات وقياسات وتحكم؛ والمجتمع منشغل بالعقل والاستقرار والنظام.[1] وبالمثل، يمكن قراءة تاريخ التفكير والتصميم المعماري منذ نهايات القرن التاسع عشر وظهور نمط العمارة الحديثة بالتوازي مع تطور الحداثة.

الحداثة كمعمار مُعقلَن

الحقبة المعمارية المعروفة بـ«الحداثة» تؤرخ عامةً منذ أواخر القرن التاسع عشر حتى أواخر ستينيات القرن العشرين. وبذلك فهي معاصرة للحداثة الغربية. من الممكن إذن افتراض أن العمارة الحديثة كانت نتيجة لتحديات الحداثة ومُثُلها. عايش المعماريون الحداثيون أوضاع المجتمعات الصناعية المعيشية المتردية وكان لديهم إحساس قوي بالمسؤولية الاجتماعية تجاهها،[2] كما أنهم عاصروا التقنية والصناعة ومواد البناء الحديثة والتي غيرت وجه المدينة.

بالمثل، وكما فضلت الحداثة الفلسفية الموحد «Standardized» والقابل للحساب، حاولت الحداثة المعمارية تقليص المعمار أيضًا إلى مبادئ أولية. التأويلات الحديثة للمعمار، مثل تلك التي قام بها «جوتفريد سيمبر» في “المبادئ الأربعة للمعمار” أو أسس «لو كوربوزيه» الخمسة للمعمار الجديد، يمكن النظر لها باعتبارها محاولات لتقليص المعمار إلى عناصر مبدئية، يمكن بسهولة توحيدها وحسابها وتصنيعها. اعتبر بعض النقاد هذه التحليلات الاختزالية تنزع الرمزية والقيمية من العناصر المعمارية، حيث تصير ملحقات إضافية دون أي قيم.[3]

بدأ المعماريون بالنظر للعمارة والعمران عبر نظارات صناعية. أعلن «لو كوربوزيه» أن المنزل يجب أن يكون آلة للعيش فيها، وصمم منازله الموحّدة أحيانًا متضمنة أثاثًا جاهزًا لضمان الانتظام العام[4]. نمو وتوسع مشاريع الإسكان الموحد «Standardized Housing» في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية كان ذروة هذه المُثل المعمارية الصناعية.

نظريات المعماريين الحداثيين في التصميم يمكن أيضًا رؤيتها باعتبارها تمثّلات لقيم الحداثة وسعيها نحو الفعالية والعقلانية، مثل انتقادات المعماري النمساوي «أدولف لووس» لتزيين المباني وشعار «لوي سوليفان» الشهير “الشكل يتبع الوظيفة”. وبالفعل، فإن بعض المؤرخين والمنظّرين يرون أن الرؤى الطوباية للعمارة الحداثية لم تكن نابعة من عقائد ماركسية أو فاشية كما هو شائع، بل كانت نتيجة لمبادئ الفوردية (تنظيم الانتاج) والتايلورية (الإدارة العلمية) وسعيهما نحو الفعالية والتنظيم.[5]

العمارة الحديثة والبُعد الإنساني

كيف كانت علاقة المعمار المعقلن بالناس؟ سيكون من المفيد هنا أن نرى رأي «ماكس ويبر» علاقة الناس بالحداثة. يرى بعض النقاد أنه حسب ويبر، فإن احتياجات النظام الاجتماعي في الحداثة “كانت أهم من احتياجات أولئك البشر الذين يرفعون قواعد ذلك النظام”. ونتيجة ذلك، فإن التقدم الحداثي بدا وكأنه يخلق مشاكل للناس أكثر من تلك التي يحلها – الاغتراب واللا معيارية والبيروقراطية كلها مؤشرات على نظام يتحكم بالناس ويخلق عالمًا لا متسع لهم فيه للتعبير عن آرائهم (بالمثل، تذكر كيف صمم «لو كوربوزيه» منازله بأثاث مصمم سلفًا، والتي لم تعط السكان متسعًا لتزيين بيوتهم كما يشاؤون). ما-بعد الحداثة، في هذا التصور، تكون ردة فعل على هذه العملية. [6]

يمكننا سريعًا مطالعة نموذجين لمشاريع عمرانية في فترة ما بعد الحرب العالمية لنرى كيف تمثلت هذه العلاقة الحداثية بالبشر في العمران، وكيف كانت العمارة الحديثة انعكاسًا للحداثة. النموذج الأول هو «روبرت موزيس” -المعماري الأمريكي- وخططه العمرانية لتطوير مدينة نيويورك. قوبلت خطط موزيس بالكثير من المقاومة، ولعل أبرزها كانت من قبل الكاتبة وعالمة الاجتماع «جين جيكوبز» – حيث اعترضت على انتزاع السكان من منازلهم وإزالة الحدائق لتطوير شبكة الطرق وغيرها تحت مسمى “التقدم”.

حين سُئل «موزيس» عن السخط الشعبي تجاه خططه العمرانية، قال: “لا أعتقد بصراحة، أخذًا بالحسبان العدد الكبير من الناس الذين احتجنا لإزاحتهم من طريق الإسكان العام وغيره من المشاريع التطويرية العامة، لا أعتقد أننا قمنا بأي ضرر بالغ. لا بد أنه سيكون هناك أناسٌ ساخطون أو منزعجون، فحسب النظرية القديمة لا يمكنك أن تصنع عجة دون أن تكسر بيضًا”. تحكي «جيكوبز» كيف كانت تواجه المسؤولين عن تلك الخطط العمرانية -التي كانت في الأغلب تصدر من الأعلى دون اعتبار رغبات السكان أنفسهم- بالمشاكل التي تتسبب بها، فالمدن تفقد حيويتها والمتاجر تمسي فارغة والساحات مهجورة. وكانت ردود المسؤولين تتكون من شعارات وتبريرات عديدة تنتهي إلى “الناس أغبياء، ولا يعرفون ما عليهم فعله”.[7]

النموذج الثاني من بريطانيا هذه المرة: وبالتحديد خطط «تي دان سميث» لتطوير مدينة نيوكاسل. كانت تلك الخطط جزءًا من حماس عام في تلك الفترة تجاه المدن ثلاثية الأبعاد (نموذج  يتصور المدن مكونة من عدة طوابق، وقد فقد صيته بين المعماريين اليوم). سعى «سميث» لجعل نيوكاسل “برازيليا الشمال”، على غرار مدينة برازيليا في البرازيل، وتصور مدينة شوارعها في السماء حيث تكون السيارة وسيلة النقل الاساسية وينتزع البشر من الشارع ليتنقلوا عبر ممرات وشوارع مرتفعة في الهواء. بالطبع، واجهت تلك الرؤى مشاكل عديدة على الصعيد الاجتماعي والأمني وصعوبة التحرك من خلالها، وتم التخلي عنها لتنتهي اليوم كممرات في الهواء لا تؤدي إلى أي مكان. مدينة برازيليا نفسها، تنتقد حاليًا من معماريين مثل «يان غيل» كنموذج لـ”تصميم عبر عين الطائر”، يتم من خلال الطائرة ودون اعتبار للبعد البشري والإنساني في التصميم.

العمارة الحداثية سعت في البداية لحل المشاكل المعيشية للعامة، وانتهت فعليًا بدفعهم جانبًا لإتاحة المجال للسيارات والتقنية. يمكن لنا إذن أن نتوقع أن هذا النمط العمراني الحداثي لم يكن محبوبًا بين الناس،[8] وبالفعل فإن بعض النقاد لاحظوا أن “الحساسية تجاه ما يلمس القلب نادرة للغاية في العمارة الحديثة”.[9]

نهاية الحداثة؟

إذا كانت ما-بعد الحداثة ردًا على عمليات العقلنة الحداثية، فسيكون من المنطقي أيضًا أن يكون نمط العمارة ما بعد الحداثي -ولو جزئيًا- ردة فعل إنسانية على المثل الحداثية في التصميم. بدءًا بدراسات اجتماعية مثل “صورة المدينة” لـ«كيفن لينش» أو «موت وحياة مدن أمريكية كبرى» لـ«جين جيكوبز»، شهدت فترة الستينات العديد من الدراسات والنظريات المعمارية التي تستكشف العلاقة بين العمران والبشر. في نفس الفترة، تطور البحث النفسي والاجتماعي ليبدأ مجال “علم النفس البيئي” في الظهور.[10]

يعتبر كتاب «روبرت فنتوري» “التعقيد والتناقض في العمارة” (1966) أول عمل معماري بارز يرفض العمارة الحديثة وقيم الحداثة. حيث جادل «فنتوري» بأن الزينة -بل وحتى حس الفكاهة- كان له مكان في المعمار – وهذا رفض صريح للفعالية والوظيفية التي ميزت المعماريين الحداثيين التقليديين مثل «ميز فان دي روه” أو “لو كوربوزييه”. يعتبر بعض المؤرخين عام 1968 كنقطة فارقة في تاريخ الحداثة، حيث تهشمت آمال الحداثة والتقدم على إثر اضطرابات اجتماعية وسياسية عالمية.[11] في عام 1968 أيضًا طور «هنري ليفيفر» -المفكر والفيلسوف الفرنسي- مفهومه عن “الحق في المدينة” – مشكلًا بذلك حركة جديدة لإعادة تشكيل المدينة كمكان للحياة بعيدًا عن آثار السلعنة «Commodification» والرأسمالية على التفاعلات الاجتماعية.[12]

شهدت تلك الفترة بدء ظهور عمارة  “صديقة للإنسان”، مثل مشروع “بايكر وول” للتطوير الإسكاني للمعماري «رالف إرسكين في نيوكاسل ببريطانيا والذي يمكن اعتباره نقطة فراق مبكرة عن النمط الحديث. لكن التطور الأكبر كان هدم وإزالة أبراج «برويت – آيغو» السكنية في سانت لويز بالولايات المتحدة عام 1972، والتي اعتبرها المعماري «شارلز جينكس» “نهاية الحداثة”، أي ذروة فشل النمط المعماري الحديث في تلبية متطلبات المجتمع وتحقيق آماله الطوباوية.

ما بعد الحداثة ومستقبل العمارة الإنسانية

بالتأكيد، فإنه من المبالغة القول بأن العمارة الحديثة قد انتهت، فالشره الصناعي والرأسمالي للفاعلية والانتاج والرغبة الحداثية في العقلنة لا تزال حية ترزق. ولكن العقود الاخيرة شهدت صعود المزيد من مدارس التصميم الصديقة للبيئة والصديقة للإنسان، مثل نمط العمارة الدارجة الحديث «Modern Vernacular» والعمارة الظاهراتية «Phenomenological Architecture» وأساليب الإدارة والتخطيط الديمقراطية. ناهيك عن ازدياد الوعي العام بأهمية التصميم المستدام والعمارة الخضراء. لقد أصبح الكثير من المعماريين والمخططين على وعي بمدى ارتباط البيئة والمجتمع.

بالإضافة إلى ذلك فإن أنماطًا جديدة من التخطيط بدأت في الظهور لتمنح الناس بيئات اجتماعية وصحية أكثر، ولعل أشهرها هو الإسكان المشترك «Co-Housing» وهو نمط من الإسكان بدأ ينتشر في أوروبا، وتهدف بالأساس إلى تخطي عيوب التخطيط العمراني الحديث الاجتماعية. هناك اهتمام أكثر بالشارع والخضرة والبعد الإنساني  في العديد من المشاريع والنماذج العمرانية المعاصرة، مثل طريق «روز كينيدي» في بوسطن أو ميدان إسرائيل في الدنمارك.

من الصعب بحق تعريف أو تحديد ما-بعد الحداثة، كأيديولوجية أو كنمط فني، ومن الأصعب أيضًا تحديد إلى أين تتجه. لكن اليوم هناك وعي متزايد بنقائص وعيوب المثل الحداثية لمعماريي القرن العشرين. فكما حاولت الحداثة الرفع من شأن الإنسان، وانتهت بتغريبه في واقع “منزوع السحر” حسب تعبير ماكس ويبر، فقد حاولت العمارة الحداثية رفع مستوى الناس المعيشي عبر أمال عريضة، ولكن انتهى بها المطاف بتغريبهم في مدن منزوعة السحر. وربما يكون مستقبل العمارة الإنسانية رهن العثور على قيم ومثل عليا جديدة عالميًا.


[1] Miles, S. (2001) Social theory in the real world. London: Sage. p.104
[2] Rowe, H.A., (2011). The rise and fall of modernist architecture. Inquiries Journal3(04).
[3] Schloeder, Steven J (1998) A Return to Humane Architecture. The Intercollegiate review. 34 (1), 20.
[4] Rowe, H.A., (2011). The rise and fall of modernist architecture. Inquiries Journal3(04)
[5] Coleman, Nathaniel (2012) Utopia and modern architecture? Arq (London, England). 16 (4), 339–348.
[6] Miles, S. (2001) Social theory in the real world. London: Sage. p.84
[7] Citizen Jane: Battle for the City. 2016. [film] Directed by M. Tyrnauer. USA.
[8] Mallgrave, H.F. & Goodman, D. (2011) An Introduction to Architectural Theory: 1968 to the Present. Malden, MA: Wiley-Blackwell. p. 7
[9] Schloeder, Steven J (1998) A Return to Humane Architecture. The Intercollegiate review. 34 (1), 20.
[10] Steg, Linda, de Groot, Judith I. M & van den Berg, Agnes E (2019) Environmental Psychology. Newark: John Wiley & Sons, Incorporated. p.4
[11] Mallgrave, H.F. & Goodman, D. (2011) An Introduction to Architectural Theory: 1968 to the Present. Malden, MA: Wiley-Blackwell. p. 13.
[12] Harvey, David (2008) The right to the city. New Left review. (53), 23.

ما هي أهم قواعد الجري الصحيح؟

أهم قواعد للجري الصحيح

الجري أو الركض هو تمرين شائع جدًا من التمارين الهوائية، ويمارسه أغلب الناس سواء أكان بالإحماء قبل ممارسة الرياضة أو كرياضة منفردة بذاتها، ويعد الجري من الرياضات السهلة غير مكلفة ماديًا ولذا يهتم به أغلب الرياضيين فما هي قواعد ممارسة رياضة الجري؟

الفوائد الصحية للجري

هناك فوائد كثيرة للجري أو الركض منها:

  • يساعد الركض في تقوية وبناء العظام وتقوية عضلات الرجل لأنه يعتمد على وزن الجسم
  • يحسن الدورة الدموية والجهاز التنفسي.
  • يقوي عضلات الجسم.
  • يساعد على حرق دهون الجسم.
  • يقوي مناعة الشخص.

بعض النصائح العامة للمبتدئين

  1. إجراء فحص شامل قبل ممارسة أي رياضة وخاصًة الجري إذا كنت توقفت عن ممارسة الرياضة لمدة طويلة أو إذا كان أول مرة تمارس بها الرياضة.
  2. إبدأ بالمشي السريع ثم زد الوقت 30 دقيقة تدريجيًا كل جلسة إلى أن تصل إلى الجري المنتظم بعد حوالي ستة أسابيع من البدء
  3. تأكد من الإحماء والتمدد جيدًا قبل وبعد البدء. برد جسمك تمارين إطالة خفيفة عند الإنتهاء.
  4. حاول شرب الكثير من الماء قبل وأثناء وبعد الجري، تأكد من أن لديك الكثير من السوائل وخذ معك زجاجة ماء أثناء الجري .
  5. خذ يومين كاملين على الأقل راحة في الأسبوع لتجنب الإصابة.
  6. يمكنك ممارسة بعض الأنشطة الأخرى منخفضة التأثير مثل السباحة مرة واحدة على الأقل كل أسبوع.
  7. خطط لمسارك، بمعنى إذا كنت ستركض بالطرق العامة، فاختر المساحات العشبية بدلاً من الأسطح الصلبة أو الرملية لتقليل خطر الإصابة.
  8. تجنب الجري بالقرب من الطرق، خاصًة إذا كنت تعاني من مشاكل تنفسية مثل الربو. حيث يمكن أن تزيد أبخرة عوادم السيارات من خطر الإصابة بأمراض القلب والأوعية الدموية والجهاز التنفسي.
  9. حدد موعدًا للجري في الصباح الباكر أو في المساء، وذلك لتجنب فترات “ساعة الذروة” لتقليل خطر استنشاق الهواء الملوث من السيارات.
  10. ارتدِ ملابس قطنية فضفاضة، وارتدِ بالجزء العلوي من جسمك طبقات متعددة من الملابس حتى تتمكن من خلع الطبقات حسب الحاجة.
  11. ضع واقٍ من الشمس SPF 50+ على مناطق الجلد المكشوفة.
  12. احرص على شراء زوج مناسب من الأحذية.

كيف تختار حذاء الجري المناسب؟

من أهم النصائح للجري هي عدم ارتداء حذاء رياضي قديم أو حذاء غير رياضي لأن الأحذية غير الملائمة هي سبب شائع للإصابات أثناء الجري، فالحذاء الرياضي يمتص الصدمة من الأرض ويمنع وصولها للركبة أو الظهر أو الكاحل وبالتالي يمنع إصابتهم، لذا تأكد من اختيار حذاء مناسب. فمثلًا يجب أن ينحني حذاء الجري بسهولة عند حركتك ويشعرك بالراحة ويكون على مقاسك، ويحتوي على مادة ممتصة للصدمات في الكعب. ونصيحة عند شراءك لحذاء جديد، ارتدِ الجوارب التي سترتديها أثناء الجري ليكون الحذاء ملائم لك.

إقرأ أيضًا: قواعد ممارسة الرياضة

نصائح لتجنب الإصابة عند الجري

  • إذا شعرت بأن لياقتك البدنية غير جيدة أو كنت تتعافى من الإصابة أو كنت قلقًا من حالة صحية، فراجع طبيبك قبل البدء في الجري.
  • تأكد من تناول نظام غذائي صحي ومتوازن.
  • تجنب الأكل مباشرة قبل الجري.
  • تجنب الجري خلال الحرارة العالية.
  • حافظ على لياقة ومرونة الركبة والكاحل والحوض بالتمارين الخاصة بهما لتقليل الإصابات بأسفل الظهر والركبة.
  • زد من عدد خطواتك في الدقيقة لتقليل الضغط على جسمك.
  • قم بزيادة مدة الجري وشدته تدريجيًا، وتذكر أن النتائج الجيدة تستغرق وقتًا.
  • خذ قسطًا من الراحة لفترة زمنية مناسبة إذا كنت تعاني من آلام أو إصابات في العضلات، خاصة إذا كانت متكررة أو طويلة الأمد.
  • حافظ على أخذ نفسك أثناء الجري بين الشهيق والزفير، ولا تكترث بأخذ النفس من الأنف فقط، فلكل شخص حالته الخاصة، أحرص فقط على التنفس من الفم أو الأنف بشكل متناغم.

قواعد ممارسة رياضة الجري

1-النظر إلى الأمام مباشرة لأقصى مدى وتجنب النظر إلى الأسفل أو القدم.
2-التنفس من الأنف أو الفم بشكل متناغم ويحدد الشخص أيهما الأنسب في طريقة التنفس سواء الأنف أو الفم أو الإثنين معاً.
3-  الحفاظ على فتح الكتفين في الخلف وإلى الأسفل والصدر إلى الأمام حتى يتم التنفس بسهولة ودخول الهواء بكمية أكبر.
4- عدم ثني الجذع والحفاظ عليه مستقيماً.
5-ثني الذراعين بزاوية 90° وأرجحتهما للأمام والخلف.
6- عدم رفع الركبتين إلى الأعلى كثيرًا حتى لا يتم بذل مجهود زيادة.
7- الهبوط بحركة رشيقة وقصيرة مع ثني بسيط بالركبة لتمتص الصدمة ولا تؤذى.
8-توجيه الضربة لمنتصف القدم وليس الكعب أو الأصابع حتى لا تؤثر قوة الضربة على الفقرات الظهرية أو الركبة.
9-الحفاظ على عمود فقري مستقيم. أبقِ كتفيك فوق وركيك مباشرة.

ويجب أن ننصحك أنه من الخطأ التوقف عن الجري فجأة والجلوس، خذ وقت بعد انتهاء الجري للتمشي أو للتمدد الخفيف. وأيًا كان تعبك لا تتوقف فجأة.

المصادر:

1- NHS

2- health line

3- very well fit

4- BBC

طقس”فاماديهانا”، لماذا يرقص شعب مدغشقر مع موتاهم؟

هذه المقالة هي الجزء 3 من 8 في سلسلة أغرب طقوس الدفن عبر التاريخ

طقس “فاماديهانا”، لماذا يرقص شعب مدغشقر مع موتاهم؟

مراسم تقليب العظام


مفهوم “ليرقد بسلام” ليس شائعًا بالضرورة في جزيرة مدغشقر الأفريقية، ولا الحزن والبكاء عند تذكر الفقيد. ولتكريم موتاهم أقاموا ال”فاماديهانا” أو ما يعرف ب “تقليب العظام” لإبقاء ذكر الأموات حيًا. ولكن، بمشاركة الأموات في هذا الكرنفال، فكيف كان هذا؟


الدين والمجموعات الإثنية في مدغشقر:


القبائل والمجموعات الإثنية:


تحتوي مدغشقر، وهي دولة جزرية أفريقية في المحيط الهندي، خليطاً إثنيًا متنوعًا. أكثر هذه المجموعات سيادة هي قبيلة الميرينا أو”إمرينا” الموزعين في أنحاء الجزيرة. ثاني مجموعة هي قبيلة “بيتسيمي ساراكا” الذين يعيشون في شرقي مدغشقر، وثالث مجموعة من حيث العدد هي قبيلة “بيتسيليو”. بالإضافة لوجود قبائل أخرى أقل عددًا.
هذه المجموعات الإثنية لا تشكل بالضرورة حدودًا ثقافية واضحة المعالم، وغالبًا ما تتداخل ثقافة القبيلة بأخرى ولا تنفصل عنها بشكل كامل. أي تتشابه العادات والتقاليد بين معظم القبائل بالرغم من انفصالها شكليًا.


الدين السائد في مدغشقر:


خمسيّ السكان ما زالوا يتبعون الدين التقليدي القائم على عبادة الأسلاف، حيث الاعتقاد السائد أن الأموات لهم قدرة على مكافئة أو معاقبة الأحياء، ويسمى الكائن الأعلى “زاناهاري” أو الخالق.
أكثر من نصف السكان يعتنقون المسيحية، ولكن هذا لم يؤثر على معتقداتهم المحلية أو العادات والتقاليد الخاصة بشعائر الدفن.

الموت في معتقدات شعب مدغشقر:


يؤمن شعب مدغشقر أن روح الإنسان لا تغادر الأرض فورًا بعد وفاة الفرد، وإنما تبقى الروح تهيم على وجه الأرض إلى أن يفنى الجسد تمامًا. أي إلى أن تتحلل العظام بشكل كليّ وتصبح جزءً من الأرض.
وريثما يحدث هذا، يتوجب على أهل الميت العناية بالجثة حتى تتمكن الروح لاحقًا من الصعود للسماء ومغادرة الأرض بشكل تام، وهذا الأمر يستغرق أعوامًا وحتى أجيالًا.

طقس “فاماديهانا” أو تقليب العظام:

أهمية الطقس ثقافيًا:


حتى بعد الموت بفترة طويلة، يرى سكان مدغشقر أنه من الواجب عليهم تذكر أسلافهم. وذلك لشيوع عبادة وتقديس الأسلاف بالإضافة للاعتقاد بأن الروح لن تغادر الأرض إن لم يتم الاعتناء بالجثة.
ويدفع هذا الطقس أفراد العائلة إلى السفر لمسافات بعيدة وأحيانًا سيرًا على الأقدام للوصول لقبر العائلة وذلك تقديرًا لأهمية الطقس في عاداتهم وتقاليدهم. وغالبًا ما تقوم كل قرية بطقس تقليب العظام بشكل جماعي.


ما الذي يحدث في “فاماديهانا”؟


خلال هذه المراسم يقوم أهل الميت باستخراج الجثة بعد مرور فترة من الزمن على الدفن. بين ال5 إلى 7 سنوات تقريبًا. ويتم الطقس خلال أشهر الصيف
تُلف الجثة بغطاء من القش وتُحمل إلى القرية أو مكان إتمام المراسم. توضع الجثث على الأرض وتنظف وتلف بأكفانٍ جديدة.
وتتضمن المراسم طلب المباركة من الأسلاف وإخبارهم بما حدث خلال غيابهم أو ذكر مآثر المتوفي. وبعد ذلك تقام مأدبة كبيرة على شرف الأسلاف. طعام ومشروبات واحتفالات تكريمًا للأموات. ويحمل أفراد العائلة الميت على رؤوسهم ويرقصون بهم.
قد تستمر الاحتفالات لليومين تقريبًا بعدها يعيدون الأموات للقبور مع هداية جديدة ومال وكحول، لتحفظ حتى طقس تقليب العظام القادم.

إن تقليب العظام يعد طقسًا يلم شمل الأسرة كل فترة من الزمن، وهو أشبه باحتفال عائلي، ولكن العديد من الناس بدأت بهجر هذا التقليد وذلك لمعارضة بعض الفئات المسيحية ذلك إضافةً لتكلفته العالية، فغالبًا ما تستهلك معظم مدخرات الأسرة على الطعام والمشروبات والكفن الجديد.
بالرغم من أن فكرة نبش القبور فكرة مرعبة لمعظم الناس في أنحاء العالم، إلا أن مبدأ شعب مدغشقر القائم على الاحتفال وتذكر الميت بسعادة يساعد على تقبل واقع الموت بأريحية.


اقرأ أيضًا: الدفن السماوي

المصادر:

ثلاث عادات لدماغ صحي

ثلاث عادات لدماغ صحي

يتزايد القلق بشأن حماية صحة أدمغتنا في عصرنا الحالي. اتفق العلماء على أن نمط الحياة الحديث يُشكل خطورة كبيرة على المادة الرمادية في أدمغتنا. إذ يؤدي في النهاية إلى جعل أدمغتنا أبطأ وأقل إبداعًا وكذلك أقل إنتاجية.

لكن ما الحلول التي ستحافظ على أدمغتنا لسنوات طويلة؟ لذلك في هذا المقال يمكنك التعرف على ثلاث عادات لدماغ صحي.

«المادة الرمادية هي أجسام خلايا عصبية وخلايا دماغية غير عصبية تسمي بالخلايا «الدبقية» ومحاطة بمايلين أبيض، وتأخذ اللون الرمادي الطبيعي للخلايا العصبية والخلايا الدبقية وتوجد في الغالب على سطح الدماغ أو القشرة الدماغية».

تعريف المادة الرمادية.

ربما تُوجب تلك الحلول عزيزي القارئ أن تعدل بعضًا من عاداتك مثل قلة النوم، وسوء التغذية، وعدم ممارسة الرياضة. كل ذلك يعرض دماغك للخطر؛ سنتحدث في هذا المقال عن العادات التي يتم تجاهلها والتي ستساعدك في الحفاظ على صحة دماغك بشكل أفضل ولعمر أطول.

ثلاث عادات لدماغ صحي

العادة الأولى: خرافة تعدد المهام

إذا ما قارنا بين العدد الهائل من المعلومات التي يتعين على دماغك التعامل معها في اليوم الواحد في العصر الذي تعيش فيه والعصر الذي عاش فيه والداك أثناء فترة المراهقة. فنحن بلا شك نعيش في عصر من «الحمل الحسي الزائد_Sensory Overload».

رسائل البريد الإلكتروني، وتويتر وإنستجرام، والأخبار والبث المباشر على مدار 24 ساعة! التدفق المستمر للمعلومات والذي يعني أن أدمغتنا نادرًا ما تحصل على فرصة لمعالجة شيء من ذلك الكم الرهيب من المعلومات.

هل تعدد المهام براعة؟

ويظهر شخص هنا فيقول: “لا مشكلة، فأنا بارع في تعدد المهام”. لكنه مخطئ. إذ أظهرت الأبحاث أنه على الرغم من إدعاء البعض ذلك، إلا أن تعدد المهام يؤدي إلى إضعاف الأداء والأسوأ من ذلك أنه يؤثر سلبًا على قدرات الدماغ.

دراسات تؤكد خرافة تعدد المهام

وفقًا لدراسة في «Gresham College»، فإن مجرد وجود بريد إلكتروني واحد غير مقروء في صندوقك الوارد أثناء محاولتك التركيز على مهمة ما، يمكن أن يضر بمهارة حل المشكلات لديك بما يُعادل 10 نقاط من معدل ذكائك.

كذلك يشرح «إيرل ميلر-Earl Miller» المتخصص في علم الأعصاب في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا أن الدماغ البشري ليس مرتبطًا بأداء المهام المتعددة بشكل جيد.

عندما يقومون الناس بمهام متعددة، فإنهم في الواقع ينتقلون من مهمة إلى أخرى بسرعة كبيرة. في كل مرة يفعلون ذلك، المعرفة الخاصة بمهمة ما تقل.

ما نعتقده؟

نعتقد أننا من المحترفين في ألعاب الخفة. إذ نبقي كل الكرات تتحرك في الهواء. لكن في الواقع، إن متعددي المهام أشبه بلاعب خفة مبتدئ يستطيع الاحتفاظ بكرة واحدة ويُسقط باقي الكرات!

عليك حماية عقلك!

إن قبول كون تعدد المهام خرافة، يساعدك في تحديد طرق أفضل لحماية طاقة عقلك التي لا تُقدر بثمن. عليك أن تضع في عين الاعتبار كيف تستهلك طاقة عقلك على مدار اليوم في العديد من التطبيقات والأخبار.

عوضًا عن التحقق من رسائل بريدك الإلكتروني كل لحظة؛ فكر في تخصيص فترات زمنية قصيرة ومحددة لذلك في اليوم. أن تتفحصه مرة في الصباح ومرة بعد الظهر مثلًا. ابحث دائمًا عن طرق إبداعية لحماية عقلك من المعلومات غير الضرورية، مثال: استخدم التطبيقات التي تحد من مصادر التشتيت الأكثر إغراء لك خلال الساعات المحددة لمهمة ما.

إليك بعض التطبيقات التي ستحد من تشتيتك:

  • Dewo
  • FocusMe
  • Freedom
  • LeechBlock
  • سلطة الإنجاز

أو ربما تمتلك خاصية Focus mode في هاتفك.

العادة الثانية: تفاعل اجتماعيًا!

قبل فيروس كورونا، كان الشخص البالغ الأمريكي يقضي 17 ساعة يوميًا ملتصقًا بشاشة الكمبيوتر أو الهاتف أو التلفزيون… هذا يصل إلى 6259 ساعة في السنة، أي ما يعادل 44 عامًا من حياتك وجهك في وجه الشاشة!

التفاعل الاجتماعي

تحل الأدوات الرقمية في عصرنا محل التفاعل المادي بسرعة، ففي حين أن ذلك يجعل العمل عن بُعد أسهل. إلا أنه لا يفيد عقولنا إطلاقًا. إذ تشجع التفاعلات الاجتماعية على نمو الخلايا العصبية وتمنح أدمغتنا فرصة لتكوين روابط جديدة.

أوضحت إحدى الدراسات في جامعة ميشيغان أن 10 دقائق فقط من المحادثة اليومية وجهًا لوجه يحسن الأداء المعرفي والذاكرة بشكل ملحوظ. كما يُقلل التفاعل الاجتماعي الشعور بالوحدة والاكتئاب وكل منهما يهدد صحة أدمغتنا.

تعزيزان لدماغك!

ابحث عن طرق لفصل الأجهزة الإلكترونية الخاصة بك وتفاعل اجتماعيًا على مدار اليوم. اجتمع مثلًا مع عائلتك على العشاء واحظر جميع الهواتف من على الطاولة. خذ نزهة مع أحبائك واجعلها منتظمة؛ سيتيح لك التنزه الحصول على تعزيزين لدماغك وهما:

يمكنك الانضمام للمجموعات الاجتماعية عبر الإنترنت نتيجة استمرار وجود الوباء. ولكن بمجرد رجوع الحياة الطبيعية، حاول جعل هذه الأنشطة وجهًا لوجه.

العادة الثالثة: احم سمعك

لطالما تجاهلنا الجار المجاور لأدمغتنا، وهما الأذنان! لكن إذا فكرت في الأمر، فإن السمع هو أحد أهم الطرق التي يستقبل بها الدماغ المعلومات من عالمنا الخارجي. وذلك يعني أن عقلك يجب أن يعمل بجهد إضافي للانتهاء من مهمة ما في حالة التعرض للمؤثرات السمعية أثناء أدائها. وليس من العجب أن يرتبط ضعف السمع لدي كبار السن بقلة المادة الرمادية وبالتالي زيادة احتمالية الإصابة بالخرف.

مشاكل السمع في زيادة!

من المحزن أن مشاكل السمع تزداد. إذ تظهر علامات فقدان السمع الناجم عن الضوضاء لدى واحد من كل أربعة بالغين في أمريكا، مما يجعله أكثر الحالات الصحية المزمنة شيوعًا بعد مرض السكري ومرض السرطان.

لطالما تحدثنا عن العناية بصحتنا من خلال استخدام واقي الشمس على بشرتنا، واستخدام الواقي الذكري، وتناول الطعام الصحي، وممارسة الرياضة، ولكن قلَّما نناقش حماية سمعنا.

بعض الطرق لحماية أذنيك

إليك بعض الأشياء التي يمكنها أن تحميك من التلوث الضوضائي:

  • استخدام واقي للأذن أثناء استخدام آلات ذات صوت عالي.
  • ارتداء سدادات الأذن في الحفلات الموسيقية.
  • ارتداء سماعات إلغاء الضوضاء في الطائرات.
  • حافظ على مستوى الصوت في أجهزتك الإلكترونية عند الحد الأدنى.
  • تمتع بالصمت وجدول فترات راحة خالية من الضوضاء طوال يومك.

المصادر

الفن والتطور: هل للفن أصول تطوّرية؟

هذه المقالة هي الجزء 7 من 10 في سلسلة 9 موضوعات في علم النفس التطوري

من الموسيقى والغناء والرقص إلى الرسم والأدب والنحت، كان تاريخ البشر حافلًا بالإبداعات الفنية. ولم تقتصر الفنون على كونها رفاهية ثقافية تفيد المتعة، بل شكلت جزءًا من العادات والتقاليد الاجتماعية والدينية. كان الفن موضع بحث للفلاسفة لفترة طويلة، إلا أن العلوم البيولوجية والنفسية ساهمت منذ الثمانينات في البحث عن الأسباب العلمية التي جعلت البشر يميلون إلى الفن ويبدعونه. بدورهم، درس الباحثون في علم النفس التطوري الأصول التاريخية للفن والعلاقة بين الفن والتطور، والبحث عن إجابة السؤال التالي، هل للفن أصول تطوّرية؟

التجارب الفنية الأولى للبشر

عندما نتحدث عن الفن، فنحن نعني أي نشاط إبداعي مميز يهدف بشكل أساسي إلى المتعة والتعبير عن الذات. وتشمل الفنون كل أنواع الإبداعات البصرية (الرسم والنحت والتصميم وغيرها)، وكل النشاطات الإيقاعية (الرقص والغناء وعزف الموسيقى) والخيال (تأليف الروايات والأدب والكتابة الإبداعية).

من أجل فهم معمّق لأصول هذه الفنون، لابد من الاطلاع على تاريخ نشأتها ابتداءً من العصر الحجري. بحسب علوم الآثار والحفريات، بدأ البشر منذ زمن طويل بنشاطات الحفر والتزيين والرسم والصبغ، وقد وُجدت أعمال تزيين بالخرز والنقش على قشر بيوض النعام في جنوب أفريقيا تعود إلى حوالي 75 ألف عام. كذلك وُجدت أغراض مزينة بالصدف في فلسطين (تعود إلى ما قبل 100 ألف عام) وفي الجزائر (قبل 35 ألف عام) وفي المغرب (قبل 75 ألف عام).

أما عن تاريخ الموسيقى فيُقال أن الموسيقى سبقت حتى القدرة على الكلام، ويعود صنع المزامير (أقدم الآلات الموسيقية) إلى ما يقارب 40 ألف عام.

ما هي العلاقة بين الفن والتطور؟ هل للفن أصول تطوّرية؟

يعمد علم النفس التطوري إلى تفسير السلوكيات البشرية من خلال البحث عن أصولها التطورية، وذلك من خلال ثلاث احتماليات أساسية:

  • السلوك عبارة عن تكيّف (Adaptation) أو مجموعة تكييفات حصلت تحت ضغط الانتقاء الطبيعي، أي أنه ساهم في زيادة النجاح الانجابي وفرص النجاة من المخاطر عند إنسان العصر الحجري، وقد ورثناه من أسلافنا عن طريق الجينات.
  • لا يملك السلوك صفة تكيّفية بنفسه، لكنه نتيجة لصفات تكييفية أخرى (By-product).
  • السلوك هو نتيجة عشوائية لطفرات أو تغيرات جينية (Random effect).

تعدّدت النظريات في علم النفس التطوري واختلفت بين نظريات تعتبر الفن ذا وظيفة تكييفية للبشر، وبين أخرى تعتبره نتيجة غير مباشرة لتطور قدرات عقلية واجتماعية تكيفية أخرى.

الوظائف التكيّفية للفن

عرض الباحثون في مجال علم النفس التطوري والعلوم المعرفية عدد من النظريات التي ترى في الفنون تكيّفات تطورية جرت على أساس الانتقاء الطبيعي.

  • الفن كاستعراض جنسي:

استوحى عالم النفس التطوري «جيوفري ميلر – Geoffrey Miller» من نظرية «الانتقاء الجنسي – Sexual selection» التي تفسّر سلوكيات الحيوانات في اختيار الشريك الجنسي، ليفسر ميل الانسان للفنون وتقديرها واعتبارها مميزة وذات قيمة جمالية.

تمامًا كاستعراضات ذكور الطيور من خلال الغناء والرقص وعرض الريش الملوّن بهدف إغواء الإناث. اعتبر ميلر أن الفن ربما قد لعب دورًا مشابهًا لاستعراضات الطيور عند البشر. فالفنون غالبًا ما تحتاج قدرات عالية من الذكاء والإبداع والصحة الجيدة والطاقة والحركات اليدوية الدقيقة والقدرات الإدراكية (البصرية / السمعية) المتفوقة وغيرها. ومن المحتمل أن استعراض الذكور من البشر لهذه الفنون كان وسيلة لإغراء النساء وجذب انتباههن.

  • تحسين القدرات العقلية والاجتماعية:

تساهم الفنون بتنمية العديد من القدرات العقلية، لذلك اعتبر عدد من العلماء في مجال علم النفس التطوري والعلوم العصبية أنها تملك وظيفة تكيّفية بنفسها، لأنها تزيد من قدرة الدماغ على حل المشاكل وأخذ خيارات أفضل.

فالخيال -مثل الخيال المستخدم في رواية القصص- يبعث على التحليل وتخيل مواقف اجتماعية ومحادثات وسمات الشخصيات المختلفة ورسم استراتيجيات عقلية. في هذه الحالة يمرّن الخيال القدرات العقلية للفرد دون التعرض لخطر حقيقي.

بحسب الباحث في الأدب والتطور «جوزيف كارول – Joseph Caroll»، فإن الأدب والفنون بشكل عام تلبّي الحاجة البشرية الفريدة لإنتاج ترتيب معرفي مشبع عاطفيًا وجماليًا. كما يعتبر أن الفن يساعد العقل البشري على التنظيم.

الفن كنتاج ثانوي للتطور

بينما نظر البعض للفن كوظيفة تكيّفية، اعتبر آخرون الفن نتيجة ثانوية للتطور، لكنه لا يملك صفة تكيّفية (By-product).

فبحسب عالم النفس المعرفي «ستيفن بينكر – Steven Pinker»، الفن هو نتيجة لعدد من التكيّّفات التي اكتسبناها عبر التطور. من جهة، القدرات العقلية سمحت لنا كبشر بإبداع الفنون والاستمتاع بها. من جهة أخرى، نمت عند البشر رغبة في الحصول على مركز اجتماعي، ولعلّ ممارسة الفن كانت وسيلة لتلبية هذه الرغبة.

يشمل بينكر في نظريته غالبية الفنون من الموسيقى إلى الرسم والرقص والنحت وغيرها. لكن يستثني بينكر الخيال (تأليف الروايات والقصص) من هذا. فقد اعتبره في الوقت عينه تكيّفي (لأنه يساعد البشر على تخيل المشاكل وحلها وينمي قدراته في التحليل والتفاعل الاجتماعي). كما اعتبره نتاج ثانوي للسمات التطورية الأخرى.

ما زالت العلاقة بين الفن والتطور غير واضحة الملامح وهي تطرح إشكاليات عدة. فالفن يشمل نشاطات مختلفة ومتعددة، كما يتخذ الفن طابعًا اجتماعيًا كبيرًا، أي أنه ينتقل من جيل إلى آخر من خلال التنشئة الاجتماعية. يشكّل هذا الأمر تحديًا لدراسته بشكل بيولوجي صرف. لكن الأكيد أن الفن على اختلاف أوجهه جمع البشر جميعًا، وتعدى دوره كمتعة ليصير حاجة اجتماعية وثقافية وعاطفية. فهل للحياة طعم دون فن؟ ما رأيك؟

المصادر:

ResearchGate
The arts after Darwin, Ellen Dissanayake
ResearchGate

أزمة الاستدامة: كيف يحاول المعماريون حل أزمة المناخ؟

أزمة الاستدامة: كيف يحاول المعماريون حل أزمة المناخ؟

بالنسبة للكثيرين، فإن العمارة والمدنية هما واجهة الحضارة البشرية المعاصرة؛ فحين نفكّر في المدن العريقة أو الصاخبة كنيويورك أو لندن أو طوكيو، فإن مبانيها وامتداداتها العمرانية هي أول ما يخطر على البال في الأغلب. لكن بغض النظر عن كل إشكاليات حياة المدينة الحديثة، الاجتماعية والعملية، فإن هناك أزمة تواجه التصميم المعماري والهندسي حول العالم، وهي مشكلة الاستدامة «sustainability». ومع توقع الأمم المتحدة بارتفاع نسبة سكان المدن حول العالم إلى 68% من إجمالي سكان العالم[1]، يتضح بشكلٍ أكبر أثر الإنشاءات والتمدن على الكوكب ككل.

أزمة العمارة وأزمة المناخ

حسب تقرير برنامج الأمم المتحدة للبيئة فإن قطاع الإنشاءات يتسبب في 38% من انبعاثات الكربون عالميًا[2]،  تتوزع على عدة عمليات كعملية التشييد، وإشغال المبنى، والصناعات المتعلقة بالإنشاءات، وغيرها. وفي ظل أزمة المناخ الحالية يستهدف العالم الوصول إلى تحييد انبعاثات الكربون بشكلٍ كامل بحلول عام 2050، ووقف ارتفاع درجة حرارة الكوكب إلى 1.5 درجة مئوية بحلول 2030. [3] ولكن في ظل أوضاع مضطربة منذ سنوات فإن هذا الهدف يبدو بعيد المنال، ويستوجب العمل على مجالات متعددة لضبط هذا الخطر. وبالطبع فإن قطاع الإنشاءات يواجه تحديات مشابهة، حيث يمثل ركيزة أساسية في الاقتصاد العالمي، وهو المسؤول عن تشييد المطارات والموانئ والأنفاق التي ترتكز عليها حركة النقل والتجارة والتي تساهم هي الأخرى في انبعاثات الكربون عالميًا.

ما هي الاستدامة؟

حدّد المعهد الملكي للمعماريين البريطانيين «RIBA» ركائز الاستدامة الثلاث: البيئية والاقتصادية والاجتماعية، بحيث تضمن التوازن بين العوامل الثلاث[4]. يمكننا تعريف الاستدامة حسب أهداف المؤسسة كما يلي: “تناسب دورة حياة المبنى مع قيمته، رفع جودة وقيمة الحياة الاجتماعية، ضمان الصحة والسلامة، الاستغلال الحسن للأرض والبيئة، رفع جودة التواصل والنقل، رفع جودة دورة الماء، وتحييد أثر الكربون المتضمن في المباني أو المنبعث من عمليات الانشاء.”.

تحاول الهيئات والكليات المعمارية والهندسية حول العالم اليوم تدارك أزمة المناخ عن طريق إدماج شروط الاستدامة في مناهجها وأهدافها وقوانينها. بالإضافة إلى حث الممارسين والمكاتب المعمارية والهندسية على اتّباع نموذج “أخضر” في التصميم.

ما الذي يمكن للمعماريين فعله؟

على مستوى التصميم الفردي للمباني، يمكن لمصممي المبنى أو المشروع أن يقيّموا حالة المبنى ويتخذوا قرارًا بتعديله عوضًا عن هدمه بالكامل وبناء مبنى جديد بالكلية. من أشهر المعماريين المشهورين بهذا النوع من المشاريع هما المعماريان الفرنسيان آن لاكاتون وفيليب فاسال. أحد أشهر مشاريع الثنائي هو تجديدهما لبرج «بوا لو بريتر – Bois Le Prêtre»السكنيّ في فرنسا. البرج مكوّن من 17 طابقًا وتم بناؤه في الخمسينات بواجهات اسمنتية سميكة. فكّر المعماريون بإعادة تشكيل المبنى عن طريق إزالة الواجهات وتركيب شرفات ذات شبابيك زلّاجة عليها. بمجرد “استغلال المتاح” في البرج، حسب تعبير المعماريّين[5]، فقد وفّرا تكاليف هدم المبنى وانشاء آخر، ووفروا كميات ضخمة من مواد البناء المستعملة التي كانت لتهدر. فوق ذلك وسّعوا شقق البرج وسمحوا لها بإضاءة أكبر وأفضل.[6]

دراسة حالة وموقع المشروع مهم أيضًا لتحديد اتجاه الواجهات والرياح ونوعية المواد المناسبة للمناخ المحلّي، وتحديد مدى حاجة المبنى للعزل. المباني الزجاجية قد تكون غير فعالة في مناخات حارة وصحراوية كالخليج العربي، حيث تمتص كميات مهولة من حرارة الشمس مما يتطلب تبريدها باستمرار وتحتاج نوافذها للصيانة أكثر بفعل العواصف الترابية وارتفاع درجات الحرارة. اختيار مادة الاسمنت مثلًا للبناء يتطلب كمية طاقة كبيرة، في حين أن استعمال مواد محلية (كالخشب أو الطين) يمكن أن يؤدي نفس الغرض بأداء مكافئ. المعماري المصريّ -وأحد روّاد الاستدامة في العالم العربي- الدكتور حسن فتحي أطلق شعار “انظر تحت قدميك وابنِ”، لتشجيع استعمال المواد وأساليب التخطيط والمعمار المحلية.[7]

استغلال ضوء الشمس في إضاءة وتدفئة المباني، واستغلال الرياح لتهويتها وتبريدها، قد يغني عن استعمال التكييفات والتدفئة لفترات مطولة على مدار اليوم ويقلل استهلاك الطاقة بنسبة قد تصل إلى 30%.[8]

بالطبع، يتطلب إدماج أفكار كهذه وضع بعض التقييدات على تصميمات المساحات واختيار المواد وغيرها، ولذلك فمن الضروري أن تشمل مرحلة التصميم فكرة الاستدامة والأثر بعيد المدى للمبنى. بعض المعماريين وصل بهم الأمر إلى تصميم مبانٍ “قابلة للتحلّل” ولا تترك أثرًا بيئيًا بعد انتهاء عمرها الافتراضي.[9]

مبادرات دولية: يُعلن المعماريون

للأسف تظل هذه الحلول الفردية غير فعالة على المستوى الدولي، فهناك الكثير من المشاريع التي لا تضع أزمة المناخ وشرط الاستدامة قيد الحسبان أو حتى ضمن أولوياتها. لذلك فقد ظهرت العديد من المبادرات لمحاولة تنظيم مهنة العمارة عالميًا. إحدى هذه المبادرات هي مبادرة »يُعلن المعماريون – Architects Declare»، التي انطلقت عام 2019 بمشاركة 17 مكتبًا معماريًا حائزًا على جائزة ستيرلنغ المعمارية.

يذكر مؤسس المبادرة، مايكل بولين، أن ما دفعه  لإنشائها هو تأثره بأسلوب التفكير النظمي «System Thinking»، حيث صار يسعى لتغيير المنظومة بمحاولة تعديل النموذج «Paradigm» الذي يقود سلوكها وقيمها، وتعديل أهداف المنظومة من الأصل، عوضًا عن مجرد خلق أمثلة ناجحة لمشاريع مستدامة ومحاولة ترويجها.[10]

تعدى عدد أعضاء المبادرة الألف موزعين على 27 دولة، وتوسعت لتشمل تخصصات هندسية أخرى أيضًا. لكنها في يونيو 2020 تعرضت لأزمة حادة بعد توجيه النقد لاثنين من أعضائها المؤسسين، مكتبا نورمان فوستر وزها حديد، لمشاركتهما في مشاريع مطارات مخالفة لبيان المبادرة ومكلفة بيئيًا حسب المبادرة. انتهت الازمة في ديسمبر الماضي بانسحاب المكتبَين، في حين اتهم «باتريك شوماخر» -رئيس مكتب زها حديد-المبادرة بأنها “شديدة الراديكالية”.[11]

اختلاف في الأولويات أم في وجهات النظر؟

علق «نورمان فوستر» على اتهامات المبادرة له بمخالفة مثياقها المهني بأنه مع شركائه كانوا روّاد التصميم البيئي للمطارات منذ عقود، ومشاريع كمدينة مصدر بالإمارات ومطاري ستانستيد والملكة علياء تشهد له بذلك. حسبَ «فوستر» فإن الحل ليس في إيقاف حركة الطيران بل في إنشاء مطارات صديقة للبيئة.[12]  في المقابل توجه النقد لـمكتبي فوستر وزها حديد بأن أولياتَهم ليست معالجة الأزمة المناخية، خاصةً إذا تعارضت مع نموذج عملهم التجاري.[13]

الجدل أيضًا حول مساهمة قطاع الطيران في الأزمة. الكاتبة «كريستين مورراي» تساءلت عن جدوى إثارة الضجة حول المطارات التي تشكّل 3% من انبعاثات الكربون رغم أن تلك المشاريع ستنفذ على أي حال، قائلة “أنتم لم توقفوا المطار وإنما قسمتم المهنة إلى أخيار وأشرار.”[14]

كما يبدو واضحًا الآن، فأصل هذه الأزمة سياسي الطبع بالدرجة الأولى. الحكومات التي تقيم مشاريع مكلفة بيئيًا لن يعنيها استبدال مصممٍ بآخر، وفي هذه الحالة قد يكون الأنسب تصميم هذه المشاريع بحيث تحجّم آثارها البيئية أو تحتويها إلى حدٍ ما. الكثيرون يرون أن علاج المشكلة يجب أن يكون على مستوى حراك سياسي اجتماعي دولي لتدارك الكارثة المناخية التي تتهدد كوكبنا.

وأنت عزيزي القارئ، هل ترى الحل الراديكالي ممكنًا؟ أم أن الحل الأنسب هو تقليل الأضرار الناجمة عما هو كائن بالفعل؟ ضع في الحسبان أنه ربما يتوجب على بعض المجتمعات التضحية بامتيازات أو فرص تمدنية وتوسعية من أجل مستقبل هذا الكوكب. هل تعتقد أن لدينا الاستعداد لذلك؟

المصادر

[3] Emissions Gap Report 2019

[4] RIBA Sustainable Outcomes Guide

[5] للإطلاع على فلسفة لاكاتون وفاسال في التصميم، يمكن مطالعة إصدارهما: Reduce, Reuse, Recycle

[6] LaFarge Holcim Foundation: Anne Lacaton

[7] للإطلاع على أفكار حسن فتحي وأمثلة واقعية للبناء بمواد محلية، يمكن مطالعة كتابه “عمارة الفقراء”.

[8] Whole Building Design Guide

[9] Dezeen

[10] The Architectural League

[11] Dezeen

[12] Dezeen

[13] World Architecture

[14] Dezeen

Exit mobile version