موسيقى الجاز: الموسيقى التي وُلدت من رحم النضال ضد العنصرية

هذه المقالة هي الجزء 10 من 11 في سلسلة أثر الموسيقى وتطورها

لا تقتصر مقاومة الشعوب للظلم والعنصرية على النضالات السياسية والعسكرية، بل هي تتخطاها إلى النضالات الفنية والموسيقية. وتُعد موسيقى الجاز أحد أبرز الأمثلة على المقاومة بالفن. فما هو الجاز؟ وما هو تاريخ هذا النمط الموسيقي؟ وكيف ساهم الجاز بمحاربة العنصرية؟

ما هو الجاز؟

“الجاز – Jazz” هو نمط موسيقي واسع أُنشئ في الولايات المتحدة الأميركية من قبل الأميركيين من أصل أفريقي، تميّز في بداياته بالارتجال الموسيقي. وهو يجد جذوره في موسيقى “البلوز – Blues” و”الراغتايم- Ragtime”، ويمزج بين الإيقاعات الأفريقية والهيكلية الموسيقية الأوروبية.

يتميّز الجاز غالبًا بتناغم موسيقي (هارموني) معقّد، وتأخير النبرة الموسيقية (syncopation) وبدرجات مختلفة من الارتجال الموسيقي. من أكثر الآلات الموسيقية المُستخدمة في الجاز هي آلة الـ”ترومبيت-Trumpet” والـ”ساكسوفون -Saxophone” والبيانو والـ”درامز – Drums” والغيتار.

من الصعب تحديد تعريف واضح وخصائص موسيقية ثابتة للجاز، إذ أنه منذ نشأته في القرن العشرين، شهد الجاز تغيرات وتطورات كبيرة، وتفرع بعدد من الأنواع الموسيقية المختلفة. ولكن على الرغم من تنوّعه، يتمتع الجاز بهوية فريدة وخاصة تميّزه عن باقي الأنماط الموسيقية.

تاريخ موسيقى الجاز:

انطلق الجاز في بدايته من مدينة نيو أورلايانز التي تقع في ولاية لويزيانا الأميركية، وذلك في بدايات القرن العشرين. وقد شكّلت الخلفية الثقافية الغنية لهذه المدينة أرضًا خصبة لتشكل نمط الجاز الموسيقي، فقد تميّزت نيو أورليانز بالتنوع السكاني الأكبر بين المدن الجنوبية، بحيث جمعت المدينة سكانًا من أصول أفريقية وفرنسية وكاريبية وأيطالية وألمانية ومكسيكية وبريطانية وغيرها. بين العامين 1910 و 1915، انتشر تنظيم أدوار الآلات الموسيقية ضمن مجموعة متناسقة. ورغم عدم إتاحة كل الآلات الموسيقية للعازفين ذوي البشرة السمراء، استطاع هؤلاء خلق موسيقى متناسقة ومستقلة، من خلال استخدام الآلات المتاحة لهم كالكلارينيت والبوق (ترومبيت) والترومبون والتوبا والبيانو والآلات الايقاعية. بعد فترة، بدأ الموسيقيون بالارتجال خلال عروض الفرق الموسيقية، وكانت هذه بداية موسيقى الجاز.

امتزجت الموسيقى الأفريقية التقليدية مع أنماط موسيقية أخرى لينمو الجاز تدريجيًا متجذرًا من الراغتايم والبلوز وموسيقى فرق المسيرة. وكان الجاز في بدايته موسيقى للرقص. بعد تسجيل أغاني الجاز الأولى في عام 1917، انتشر الجاز سريعًا في مدن وولايات أخرى.

نجوم الجاز الأوائل

وقد لمع نجوم الجاز الأوائل أمثال لويس أرمسترونغ ودوك إلنجتون و تشارلي باركر الذين رسموا ملامح موسيقى الجاز. ابتدع هؤلاء تقنياتها وقادوا انتشار الجاز في الولايات المتحدة الأميركية والعالم. في العشرينيات من القرن الماضي، تجذّر الجاز للمرة الأولى في بريطانيا متأثرًا بموجة الجاز الأميركية. وهو ما ساهم في انتشاره في باقي دول العالم.

في الاربعينات، ساهم انتشار الراديو والأفلام والإعلانات بانتشار أكبر لموسيقى الجاز. تحول مغنيو هذا النمط المةسيقي إلى نجوم عالميين وذوي شعبية عالية. كما انتقل العديد من عازفي الجاز إلى الخدمة العسكرية خلال الحرب، ممّا فتح المجال أمام عازفات إناث لدخول مجال الجاز. وقد شهدت سنوات الخمسينات على نجاح كبير للجاز أيضًا، بحيث اعتُبر موسيقى جيل الشباب، وقد تأسست نوادي الجاز في مختلف دول العالم. كذلك تأسس فرع موسيقي جديد تحت مظلة الجاز وهو اليببوب (Bepop).

في الستنينات، شهدت موسيقى الجاز تغييرًا كبيرًا وقد وُلد نمط موسيقي جديد سمّي بالجاز الحديث. لكن صعود نجم موسيقى الروك جعل من الجاز أقل شعبية من ذي قبل. ورغم ذلك، استمرت موسيقى الجاز بالتجدد والانتشار، وهي تعتبر من أهم الانماط الموسيقية وأكثرها انتشارًا وشعبية حتى اليوم.

كيف ساهمت موسيقى الجاز بمقاومة العنصرية؟

كانت موسيقى الجاز بمثابة مساحة للأميركيين ذوي البشرة السمراء، للتعبير عن معاناتهم وأوجاعهم وأفراحهم ورغباتهم، وقد وُلدت موسيقى الجاز في أكثر المناطق التي عانت من التمييز العنصري. كما عبّرت هذه الموسيقى عن هوية الأميركيين ذوي البشرة السمراء وفخرهم بأصولهم الإفريقية وتاريخهم.

لكن دور الجاز لم يقتصر على كونه وسيلة للتعبير، بل تحوّل لأداة لرفع الصوت بوجه التمييز العنصري، من خلال كلمات أغاني الجاز وموسيقاها. فقد بدّل مثلًا لويس أرمسترونغ كلمات أغنية “What did I do to be so” ليثير قضية التمييز العرقي في كلماته سنة 1929. وفي العام 1960، أصدر “ماكس روتش – Max Roach” ألبوم الجاز تحت اسم “We insist!”، الذي غنى فيه عن تاريخ العبودية وتحرر الأفارقة من أنظمته وشمل دعوات لتحرير جنوب أفريقيا. كما غنى العديد من مغني الجاز ضد التمييز الطبقي والجندري.

بالإضافة إلى ذلك، ساهمت صناعة الجاز باختلاط الأميركيين البيض والسود، ورغم وجود التمييز العرقي في كافة القطاعات، اكتسب المغنون السود احترامًا كبيرًا ومعاملة عادلة مقارنة بالمغنين البيض.

Jazz stands for freedom. It’s supposed to be the voice of freedom: Get out there and improvise, and take chances, and don’t be a perfectionist – leave that to the classical musicians

Dave Brubeck

يقول مغني الجاز داف بروبيك أن الجاز هو “صوت الحرية”. وقد ساهم الجاز في كسر حواجز الخوف والعنصرية من جهة، وبكسر تقاليد الموسيقى التقليدية من خلال إفساح المجال للارتجال من جهة أخرى. من هنا، يُعتبر هذا النمط الموسيقى ثورة فنية، بدأت في مدينة تعاني من الفقر والتمييز ووصلت أصداؤها إلى العالم أجمع.

المصادر:

American history
Britannica
National jazz archive
York college

إقرأ أيضًا: ما هي موسيقى الروك؟ وكيف نشأت؟

ما هي موسيقى الروك؟ وكيف نشأت؟

هذه المقالة هي الجزء 11 من 11 في سلسلة أثر الموسيقى وتطورها

من منّا لم يسمع بفرق البيتلز (The Beatles) والرولينغ ستونز (The Rolling Stones) والمغني الشهير “إلفيس بريسلي – Elvis Presley”؟ شكّلت هذه الأسماء الفنية الكبيرة أعمدة موسيقى الروك في بدايتها، لتتحوّل هذه الموسيقى إلى أكثر الأنواع انتشارًا وتأثيرًا في العالم، كما أنها تطوّرت عبر الزمن لتتفرّع إلى عدد من أنواع الموسيقى المختلفة التي تتراوح بين أكثر الأنواع هدوءً وأكثرها صخبًا. لكن ما هي موسيقى الروك؟ وكيف نشأت؟

ما هي موسيقى الروك؟

يُعتبر تعريف موسيقى الروك جدليًا بحيث تتعدّد تعريفاته وتصنيفاته. وتختلف المدرستان الأميركية والبريطانية، وهما الأكثر تأثيرًا في موسيقى الروك، في تعريفها، إذ إن التعريف الأميركي أكثر شمولًا.

يُعرّف الروك كنوع من أنواع الموسيقى الشعبية الذي يتميّز بإيقاع قوي يتمثّل بعزف مركّز على آلالات الإيقاعية كالطبول (Drums) وآلة الصنج (Cymbals). كما يرتبط بأصوات مُكبرّة من خلال الآلات الموسيقية الكهربائية كالغيتار الكهربائي والغيتار الباس الكهربائي (Bass electrical guitar)، وتُدعم هذه الآلات أحيانًا بآلات أخرى كالبيانو والكمان والتشيللو وغيرها. كذلك ترتبط موسيقى الروك بطبيعتها “الثورية”، إذ أثارت أغاني الروك مواضيع جريئة كالمخدّرات والجنس ونقد الأنظمة السياسية والاجتماعية.

انطلقت موسيقى الروك في منتصف الخمسينيات من القرن الماضي في الولايات المتحدة الأميركية، وكانت تُعرف باسم “الروك أند رول”. وتطوّرت هذه الموسيقى تباعًا خصوصًا في الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا، فشملت الكثير من الأنماط والأساليب المتعددة، ممّا صعّب عملية تعريف نوع الروك وحصره بخصائص موسيقية محددة.

جذور موسيقى الروك

لم تنشأ موسيقى الروك من العدم، فهي تجد جذورها في أنواع أخرى من الموسيقى كانت منتشرة منذ الثلاثينات والأربعينات من القرن العشرين. في هذه الفترة، كانت الولايات المتحدة الأميركية تعاني من التفرقة العنصرية التي طالت المجال الثقافي والفني أيضًا، بحيث كانت موسيقى “البلوز – Blues” و”الريذم أند بلوز – Rhythm and Blues” محصورة أداءً وجمهورًا بالأميركيين من أصل أفريقي. أما موسيقى “الكانتري -Country ” وموسيقى الـ “بوب – Pop” فقد كانت تُعتبر موسيقى الأميركيين البيض.

في بداية الخمسينات، بدأت خريطة الموسيقى بالتغيير تدريجيًا، فبدأت الموسيقى الريفية بأنواعها تنتشر بشكل أكبر في المدن، لذلك أخذت طابعًا أكثر عدوانية، ممّا دفعها إلى استخدام آلات مكبرة للصوت كالغيتار الكهربائي. كذلك بدأ المغنون البيض بأداء أغانِ تنتمي إلى نوع البلوز، ممّا أعطى الفرصة لعدد من الفنانين السود بالتوجه إلى جمهور أكبر. شهدت هذه الفترة خلطًا بين أنواع عدة من الموسيقى، وهنا كانت بداية الروك أند رول الذي يُعتبر مزيجًا بين موسيقى البلوز والريذم أند بلوز والكانتري.

محاولات الروك الأولى

من الصعب تحديد أول أغنية روك في تاريخ الموسيقى، إذ نتجت هذه الموسيقى تدريجيًا عن المزيج بين أنواع الموسيقى المختلفة. ولكن العديد من المغنيين الأميركيين طبعوا المحاولات الأولى في الروك.

شكلت أغنية “Rock Around the clock” لفرقة “Bill Haley and his comets” محطة أساسية في انتشار موسيقى الروك في العام 1955. رغم أنها لم تكن أغنية الروك الأولى، إلا أنها كانت الأولى التي تحتل المرتبة الأعلى مبيعًا.

كذلك يُعتبر المغني الأميركي “تشاك بيري -Chuck Berry ” من مؤسسي الروك أند رول. وكان متأثرًا بموسيقى الكانتري. كما كان من الفنانين القلائل الذين يكتبون كلمات أغانيهم، وقد استغل تشاك بيري صعود ثقافة الشباب (أي المراهقين) ليكتب أغاني تحاكي قضاياهم وأفكارهم، فأصدر عددًا من الأغاني الشبابية التي لاقت نجاحًا كبيرًا.

المغني الأميركي تشاك بيري

كما نجح الموسيقي الأميركي “ليتل ريتشارد -Little Richard ” في خرق قواعد العرض المسرحي، إذ قدم عروضًا تحمل طابعًا من الجنون غير المألوف في ذاك الزمن، من حيث أزيائه وأسلوبه الغنائي. وأصدر أغاني روك ناجحة.

إلفيس بريسلي: موجة الروك أند رول الأولى

يُعتبر اليوم إلفيس بريسلي أحد أهم الوجوه الفنية في القرن العشرين، ويُلقّب بـ”ملك الروك أند رول”. تميّز إلفيس بحبه لموسيقى البلوز وقدرته على مزج الأنماط الموسيقية بشكل مُبتكر، كما تميّز بذكاء عالي باختيار أغانيه وبكاريزما ساحرة جعلته سريعًا أهم نجم موسيقي أميركي. في العام 1956، احتلّ إلفيس بريسلي المرتبة الأولى لمدة 25 أسبوعًا.

شكّلت أغنية “That’s alright Mama” النقلة النوعية في حياة إلفيس بريسلي الفنية، لكن تسجيل هذه الأغنية كان مجرد صدفة. إذ أن إلفيس كان مع غيره من الموسيقيين يغني متعبًا في وقت متأخر من الليل، وحين كان مدير الاستديو منهمكًا بإصلاح عطل تقني، بدأ بريسلي بغناء أغنية “That’s alright Mama” (وهي أغنية لأرثر كرودوب في الأساس) بطريقة فكاهية لمجرد التسلية، وانضم إليه العازفون. لكن مدير الاستديو أعجب بهذه النسخة من الأغنية وطلب تسجيلها. وبالفعل حققت الأغنية نجاحًا باهرًا.

أثار إلفيس بريسلي جدلًا في الخمسينات نظرًا لجرأة أغانيه ولاعتماده الإثارة الجنسية في عروضه الموسيقية، واعتبره البعض ذا تأثير سيئ على الشباب والمراهقين.

نجحت موسيقى الروك في تجسيد الروح الشبابية وأفكار المراهقين المتمرّدة، كما نجحت بكسر القيود بين ثقافات الأعراق المختلفة في الولايات المتحدة الأميركية. لكن سرعان ما انتشرت موسيقى الروك في العالم أجمع وتحولت إلى أهم أنواع الموسيقى وأكثرها تأثيرًا، ليس فقط على الصعيد الفني بل أيضًا على الصعيد السياسي والاجتماعي .

إقرأ أيضًا: كيف تؤثر الموسيقى على أدمغتنا؟

المصادر:

Coursera
Britannica
Musicaldictionary.com
Rockmusictimeline.com

Exit mobile version