العمارة الحيوية – كيف شكّلت الطبيعة العمران والهندسة؟

هذه المقالة هي الجزء 4 من 9 في سلسلة مقدمة في علم النفس البيئي

في المقال السابق عرضنا نبذة عن الفوائد الصحية للتعرض للطبيعة، وكيف أدت تلك الأبحاث لنشوء مبادئ البايوفيليا أو “حب الطبيعة” في التصميم والتخطيط المعماريين، والتي تسعى لإدماج الطبيعة في نسيج المدن بهدف رفع جودة المعيشة أو المحافظة على البيئة أو توفير متنفس للسكان.

في هذا المقال نستعرض التأثير المعاكس لعلاقة البيئة بالعمران هذه، أي كيف تأثرت العمارة والتخطيط العمراني، من جهة المعرفة العمرانية وتقنيات البناء، بالتفكير البيئي والمحب للطبيعة، والتي أدت في أحدث محطاتها إلى نشوء العمارة الحيوية «Bionic Architecture» ومبادئ التصميم البيئي «Biophilic Design».

المدن الحدائقية – Garden Cities

قد تكون أولى محطات التصميم الحيوي أو البيئي للمدن الحديثة هي  المدينة الحدائقية، والتي ابتكرها الانجليزي «إبينيزر هوارد» عام 1898. وهي نموذج عمراني يدمج بين البيئة الحضرية -في شكل نواة مدنية- والبيئة الخضراء -في شكل محيط ريفيّ-  في محاولة لخلق توازن بين النموذجين وتلافي قصورات كليهما.

كانت المدينة الحدائقية حلًا لمشاكل التلوث والتكدس التي كانت تعانيها المدن الأوروبية في تلك الفترة، ولذلك لاقت رواجًا كبيرًا وتم إنشاء عدة بلدات بالفعل حسب هذا النموذج، إذ كانت تهدف في حال وصولها ذروة طاقتها الاستيعابية للوصول إلى الاكتفاء الذاتي.

إلا أنه المدينة الحدائقية كانت تعاني من قصورات خاصة بها هي أيضًا، مثل قلة المساحات المتاحة للبناء والتوسع. ولكنها لا تزال تلقى بعض الرواج، مثلًا في بريطانيا حيث قررت الحكومة عام 2017 إنشاء عدة بلدات حدائقية حول البلاد.

نموذج المدينة الحدائقية كما اقترحها إبينيزر هوارد [ويكيبيديا]

التخطيط العمراني الأخضر – Green Urbanism

ظلت المدن الحديثة غالبًا غير مهتمة بالجانب الأخضر والبيئي فيها وبآثارها البيئية حتى ستينات القرن الماضي. ففي الولايات المتحدة كمثال كان التوسع الحضري نحو الأرياف المحيطة بالمدن سمة بارزة في خطط التوسع العمراني حينئذ. ولكن مع اضطرابات الستينات الاجتماعية والسياسية وظهور الوعي بأزمة المناخ بدأت الحركات المهتمة بالبيئة بالظهور والانتشار.

وبدأت الحكومات حول العالم بسن القوانين والأكواد لمحاولة تلافي أضرار المدينة على البيئة وجعل المدن أكثر استدامة، كما حدث في قمة الأرض للأمم المتحدة عام 1992. بعد هذا المؤتمر بدأت مصطلحات كالتخطيط العمراني المستدام والتنمية المستدامة في الانتشار.

يسمى التخطيط العمراني الأخضر أيضًا بالتخطيط العمراني المستدام، وبالتخطيط العمراني البيئي.  وقد تكون كوبنهاجن من أكثر مدن العالم تطبيقًا لمبادئ التخطيط المستدام هذه. ما يدعو للإعجاب في إدارة كوبنهاجن لتوسعاتها العمرانية  هي سبقها الزمني للكثير من النماذج المستدامة.

مثل مخطط “الأصابع الخمسة” الذي طورته المدينة عام 1947 والذي كان يهدف لتنظيم التوسع العمراني لمدينة كوبنهاغن والحفاظ على المسطحات الخضراء المحيطة بالمدينة، وتطوير خطوط مواصلات عامة فعالة تربط وسط المدينة (كف اليد) بالتوسعات الجديدة (الأصابع). ستكون لنا عودة في المقالات التالية للقواعد التي اتبعتها كوبنهاجن في خلق مدن أكثر إنسانية ورفاهية من جوانب أخرى.

مخطط “الأصابع الخمسة” لمدينة كوبنهاغن

العمران العضويّ -Organic Urbanism

كان المعماري الأمريكي «فرانك لويد رايت» أول من صاغ مفهوم «العمارة العضوية» وعرّفها بأنها المعمار المتوافق مع الطبيعة.  ومع مرور الوقت أخذ مفهوم العضوية يأخذ مساحةً أكبر واهتمامًا أكثر في مجال العمران والهندسة. فبينما تتمثل العضوية في المعمار كثيرًا باستعمال أشكال وتصاميم وهياكل مشابهة لتلك التي في الطبيعة، نجد أنها مهدت الطريق للكثير من التقنيات الهندسية والمفاهيم الإنشائية الأوسع.

ففي مجال التخطيط العمراني نشأ مفهوم «المدينة العضوية» والذي يرى المدينة باعتبارها كائنًا حيًا، لا ينمو عن طريق إضافة الأجزاء له عن عمد ولكن عن طريق إعادة ترتيب وظائفه ومهامه حين يصل إلى حدود طاقته الاستيعابية وإمكانياته.

لا تمتلك المدينة العضوية مركزًا حيويًا واحدًا، بل هي تتكون من عدة مراكز مكتفية بذاتها ولكنها متصلة ببعضها وتعتمد على بعضها.  وبالمثل، فالنموذج العضويّ في التنمية العمرانية يستند على جعل كل مرحلة من إنشاء أو تنمية المدن قادرةً على القيام بذاتها، عوضًا عن جعلها جزءًا من كلٍ ينتظر الاكتمال لتبدأ بالعمل.

لذا فهذا النموذج يعتبر معياريًا، أي مكونًا من أجزاء معيارية متشابهة قائمة بذاتها كما هو الحال في عمليات حيوية كثيرة. وتعتبر العمارة العضوية مقدمة للعمارة الحيوية والتصميم الحيوي.

يعتبر مركز قطر الوطني للمؤتمرات نموذجًا للعمارة العضوية إذ يأخذ شكل فروع الأشجار، إضافةً إلى تقييماته البيئية المرتفعة.
[David Michael via Flickr Creative Commons]

العمارة البيئية –  Arcology

نشأ مفهوم العمارة البيئية مع المعماري «باولو سوليري» -وهي دمج لكلمتي عمارة وبيئة الانجليزيتين-. تسعى العمارة البيئية لخلق قواعد ومعايير هندسية لتصميم مناطق شديدة الكثافة السكانية وذات أثر بيئي منخفض.

على الرغم من كون معظم المشاريع النابعة من هذا التصور لم تظهر أو تبن على أرض الواقع، إلا أن مفهوم العمارة البيئية مثّل نقلة في التفكير المعماري -الغربي بالمقام الأول- إذ انتقل من السعي للسيطرة على الطبيعة إلى التعايش معها. ويمكننا اعتبار العمارة البيئية حلقة وصل بين التخطيط العمراني والتصميم المعماري البيئيين.

يُعد المعماري والمهندس والمخترع الأمريكي «باكمنستر فولر» (أو «باكي» كما كان يحب أن ينادى) من أبرز المنظّرين لفكرة العمارة البيئية. وحيث أنه كان من رواد نظرية النظم فقد كان من رواد مفهوم الاستدامة ورؤيتها على عدة مستويات بشكل متداخل.

على الرغم من أن أفكار «فولر» لم تنتج أي إنجاز كبير في مجال الاستدامة، فيرجع الكثير من الفضل إليه في إشاعة مفهوم الاستدامة واعتبار العالم الحديث ومدنِه جزءًا من بيئة أوسع يعتمد عليها للبقاء.

التصميم البيئي – Biophilic Design

التصميم البيئي هو مفهوم يعني العمل على تصميم البيئة الحضرية والعمرانية بشكلٍ أكثر ارتباطًا بالطبيعة وأكثر ارتباطًا بطبيعة البشر النفسية تجاه بيئاتهم ومحيطهم.

انبثق هذا التوجه من أبحاث وأفكار علماء النفس والأحياء التطوريين، بعد إدراك أن المكوّن الجيني والنفسي الذي نتعامل ونتجاوب به مع العالم والبيئة المحيطة أقدم بكثير من البيئات الحضرية التي أنشأها البشر في العشرة آلاف عامًا الماضية.

كان عالم الأحياء «إدوارد ويلسون» أول من صكّ مفهوم حب الطبيعة «Biophilia» وعرّفها بأنها الميل للظروف البيئية التي ساهمت في بقائنا -من منظورٍ تطوريّ-. 

عرضنا في المقال السابق أمثلة لتطبيقات هذا المفهوم في التخطيط العمراني والتصميم المعماري. بعض الكتابات الحديثة في هذا المجال تحاول توظيف نظريات حيوية لتفسير السلوك البشري في البيئة الحضرية؛ مثل تفضيل الناس للسير بجانب الجدران عوضًا عن الابتعاد عنها. وسيكون لنا عودة لهذا المجال في مقال لاحق.

العمارة الحيوية – Bionic Architecture

العمارة الحيوية هي توجه مشابه لمفهوم العمارة العضوية، وهي توجهٌ يدرس النظم والعمليات الحيوية في الطبيعة ويحاول محاكاتها في العمارة والهندسة عن طريق التصميم الحيوي، بهدف الوصول إلى إنشاءات أكثر توفيرًا وأكثر فعالية وأقل تأثيرًا على البيئة.

تأثرت العديد من أفكار ونظريات وتقنيات هذا المجال أيضًا بالنظريات البيولوجية والمحاكات الحاسوبية الحيوية وبتقنيات البايوتكنولوجي. من أبرز أمثلة هذا النمط من التصميم هو مشروع عدن في بريطانيا.

مشروع عدن [ويكيبيديا]

إحدى تطبيقات هذا النوع من الهندسة الحيوية هو «المحاكاة الحيوية – Biomimicry» حيث يحاول المهندسون والمعماريون والعلماء فهم الوسائل التي تعمل بها الطبيعة والكائنات الحية بكفاءة لمحاكاتها بهدف تطوير  تصميمات ومواد وتقنيات أكثر استدامة وأكثر فاعلية. أكثر تطبيقات هذا المفهوم شهرة هو محاكاة الهياكل الطبيعية لصنع هياكل أكثر متانة للأبنية.

لكن يشتهر أيضًا تطوير مواد محاكية لتلك التي في الطبيعة أو مواد أكثر نفعًا بيئيًا، مثل مادة الـETFE التي يشتهر استعمالها لخفة وزنها وكفاءتها في العزل الحراري. كما بدأت تظهر للواقع تقنيات ومواد أكثر غرابة، مثل استعمال الطحالب (لتوليد الحرارة، أو للعزل الحراري، أو غيرها).

كان مبنى BIQ House في هامبورغ بألمانيا أول مبنى يوظف هذه التقنية. من رواد المحاكاة الحيوية اليوم المعماري البريطاني مايكل بولين، مؤسس مبادرة «يعلن المعماريون».

وهكذا كما ترى، فليست المدينة وحدها التي تؤثر على الطبيعة سواءً بالسلب أو الإيجاب، بل حتى الطبيعة تؤثر على تخطيط المدن والتفكير العمراني، وتظل العمارة الحيوية شاهدة على انبهار البشر بالعالم من حولهم عوضًا عن سيطرتهم عليه.

[1] Scandinavia Standard [2]
للمزيد من الأمثلة عن العمارة العضوية: Omrania [3]
لأمثلة أكثر عن تطبيقات المحاكاة الحيوية: re-thinking the future و dezeen

التخطيط العمراني المحب للبيئة: «Biophilia»

هذه المقالة هي الجزء 3 من 9 في سلسلة مقدمة في علم النفس البيئي

في عام 1984 نشر «روجر أولريك» دراسة في مجلة «ساينس» قدّمت لأول مرة نتائج تجريبية على أن التعرض للطبيعة قد يدعم الصحة البشرية. راقب «أولريك» مرضى يتعافون من عمليات جراحية واكتشف أن المرضى في الغرف المطلّة على مساحة طبيعية مشجرة احتاجوا فترات أقل نسبيًا للتعافي بعد الجراحة، كما أنهم احتاجوا جرعات أقل من المسكنات مقارنة بالمرضى الذين كانوا في غرف مطلة على جدران.

تم إعادة هذه التجربة في مستشفىً كورية عام 2006، حيث وُزع المرضى عشوائيًا على غرف دون نباتات وأخرى تتوفر على نباتات، وكانت النتيجة أن المرضى الذين توفرت لديهم نباتات في نفس الغرفة تعافوا بشكل أسرع أيضًا. كانت هذه بداية ما يسمى بالتخطيط المحب للبيئة.

تبدو فكرة أن التعرض للطبيعة يجلب فوائد صحية ونفسية بديهية لدى الكثيرين، ولهذا السبب لم يكن هناك حاجةٌ ملحة لفترة طويلة لدراسة أثر الطبيعة على البشر، وبالأخص في المدن. إلا أنه ومع التوسع الكبير في المدن والتمدن على مستوى العالم وانتشار الأمراض المزمنة والتوتر بدأ العالم في الاهتمام أكثر بدراسة آثار الطبيعة وكيف يمكن توفير المساحات الخضراء في المدن.

العائد الصحي للطبيعة

مجموعة  أحدث من هذه الدراسات كانت تدور حول قدرة سكان المدن على الوصول للأماكن الخضراء. استعملت هذه الدراسات جماعات كبيرة من الناس لمقارنة درجة صحة أولئك الذين يعيشون في أو بالقرب من مسطحاتٍ خضراء بمستوى صحة الذين يعيشون في أماكن أقل خضرة، بالطبع باستعمال وسائل إحصائية متقدمة لأخذ الفوارق الطبقية والاقتصادية في الحسبان.

إحدى الدراسات الرائدة والتي أجريت على 10 آلاف شخص في هولندا وجدت أن السكان الذين تتوفر  لديهم مسطحات خضراء بالقرب منهم (أقل من 3 كم) يظهرون مستوياتٍ أفضل من الصحة البدنية والنفسية عن الذين لا تتوفر بالقرب منهم أي مسطحات خضراء. وبعد تكرار هذه التجارب على شعوبٍ وبلدان وجماعات أخرى، يظهر استعراض نتائج هذا النوع من الدراسات أن هناك علاقة قوية بين نسبة المساحات الخضراء والصحة النفسية، وعلاقة أقل مع مستويات الصحة العامة.

لاحظت تلك الدراسات أن العلاقة بين المساحات الخضراء والصحة العامة تكون أقوى في الفئات التي تمضي في العموم وقتًا أطول داخل المنزل، مثل المسنين وربات البيوت. ولذلك قد يكون توفير مساحات خضراء مناسبة من وسائل سد الفجوة الصحية بين الأغنياء والفقراء.

بشكلٍ عام، يعتبر الباحثون في مجال البيئة أن العائد الصحي المباشر للطبيعة يرجع إلى أربع فوائد رئيسية:  تحسين جودة الهواء، توفير النشاط البدني، توفير بيئة للانسجام المجتمعي، وتقليل التوتر.

الأشجار جزء من المدن أيضًا!

بالإضافة إلى تلك العوائد الصحية المباشرة، فإن لوجود المساحات الخضراء وبالأخص الأشجار في النسيج العمراني فوائد بيئية وعمرانية لا تقل أهمية. فبالإضافة إلى الفوائد الصحية مثل تبريد حرارة الجو وتقليل انبعاثات الكربون، تساعد الأشجار في الحد من فيضان مياة الأمطار وزيادة قدرة الأرض على الامتصاص، وخفض مستوى الضوضاء.

هناك دراسات حول تقنيات أفضل لزراعة الأشجار في المدن بحيث تنمو بشكلٍ طبيعي لأقصى حجم ممكن لها، عوضًا عن استخدام الأوعية التقليدية التي توضع داخل الأرصفة الاسمنتية. وذلك بوسيلة أنظمة تسمح بمساحة أكبر للأشجار بالنمو في تربة خصبة وتتعرض للتهوية والمياة بشكلٍ طبيعي.

منظومة «GreenBlue Urban» لزراغة الأشجار بحيث تحصل على أكبر مساحة ممكنة من التربة لنمو الجذور.

الطبيعة وسط العمران: التخطيط المحب للطبيعة

أدى التوسع في الأبحاث حول أهمية الطبيعة للصحة والاستدامة في المدن إلى ظهور ما يسمى التخطيط المحب للبيئة «Biophilic Urbanism». مبادئ البايوفيليا -أو حب الطبيعة- تهدف لدعم الارتباط بالطبيعة، واستغلال الموارد الطبيعية المتاحة بشكلٍ مسؤول، والتخطيط العمراني بناءً على الظروف المناخية والحاجات البيئية المحلية.

يمكن لتطبيق مبادئ البايوفيليا ودمج الطبيعة بشكلٍ فعّال في النسيج الحضري أن يساهم في رفع مستوى الصحة البدنية والنفسية والاجتماعية للسكان. وهذا يشمل المشاريع الصغيرة كتطوير الحدائق الخلفية للأحياء والمشاريع الأكبر كإزالة الطرق السريعة من المدن وإحلال الطبيعة مكانها. هناك مدنٌ كثيرة على مستوى العالم بدأت في اعتماد خطط بيئية ضمن خططها العمرانية والتطويرية والاقتصادية، من ضمنها مدن كبرمنجهام وبرشلونة وتورونتو.

تصميمات محبة للطبيعة

كما لا يخفى على كثيرين فإن هناك ميلًا لدى المعماريين على مستوى العالم لدمج الطبيعة والخضرة في تصميماتهم. ولكن على عكس ما يعتقد الكثيرون فإن مصطلح «العمارة الخضراء» لا يعني إحاطة المباني بالأشجار والخضرة وحسب، بل هو مرادف لمفهوم «العمارة المستدامة» والتي تخلق توازنًا بين احتياجات المبنى والمحيط الحيّزية والاقتصادية والبيئية والاجتماعية. ولكن بالطبع فإن إدراج الطبيعة والخضرة داخل المشاريع المعمارية والحضرية يدخل ضمن مفاهيم الاستدامة.

أحد أشهر المباني التي قد توصف بأنها «محبة للطبيعة – Biophilic» هي أبراج «بوسكو فيرتيكالي»، والتي تشبه الغابات العمودية. ومن الأمثلة الأحدث لذلك مبنى مقر شركة أمازون الجديد.

بالطبع، فإن المدن والأحياء المقامة حاليًا لا يتاح لها حرية إنشاء الحدائق والمساحات الخضراء والمباني “الخضراء” كما تريد نظرًا لقيود المساحات والسكن، ولذلك فهناك توجه متزايد في الانتشار عالميًا وهي الحدائق الصغيرة التي تقام في المساحات الفارغة بين المباني، وهو توجه ضمن ما يسمى بالعمارة البينيّة «In-between Architecture». ومن أمثلة هذه المشاريع «حدائق الشارع» في سان فرانسيسكو أو «السحابة الخضراء» في بعض مدن الصين الحديثة.

إزالة السيارات.. لإفساح المجال للطبيعة

التخطيط البايوفيلي يشتمل أيضًا على مفاهيم حضرية مثل مفهوم «المدن المكثفة – Compact Cities»، أي تصميم المدن لتكون ذات كثافة سكانية ووظيفية عالية وفي نفس الوقت تسمح بإدارة واستعمال أفضل وأكثر توازنًا للمساحات داخل المدينة، بالإضافة إلى اعتمادها على شبكة مواصلات عامة قوية. تشهد مدن أوروبية كثيرة انتشار هذا النمط من التوسع والتخطيط لقدرته على الموازنة بين الاحتياجات الاجتماعية والاقتصادية والبيئية في إطارٍ أكثر استدامة على المستوى البعيد.

مظهر آخر من مظاهر هذا التخطيط المحب للبيئة هو اتجاه متزايد في المدن حول العالم اليوم وهو إزالة الطرق لإفساح المجال للأماكن العامة والمساحات الخضراء، كما فعلت مدينة بوسطن بإزالتها الطريق السريع رقم 93 واستبدلته بمحورٍ أخضر من الحدائق والأماكن العامة -تحت اسم «روز كينيدي جرينواي»- بهدف توفير متنفسٍ بيئي وصحي للسكان الأقل قدرة. أو كما فعلت مدينة «تشيونغي تشون» الكورية بإزالتها طريقًا سريعًا مع جسرٍ علوي كان فوق مجرىً مائي،  لتعيد المياه إلى مجاريها -حرفيًا- وتفتتح المنطقة كمزار سياحيّ بيئيّ. ووجه المشروع ذو التكلفة العالية الكثير من الانتقادات في البداية ولكنها اختفت بعد انتهائه وظهور نتائجه البيئية والاجتماعية والاقتصادية الناجحة.

قد تبدو هذه الأفكار والمشاريع نوعًا من الترف والرفاهية في نظر البعض، ولكن في ظل أزمة كورونا الحالية فإن الاهتمام بالمساحات الخضراء والقدرة على الوصول إليها لجميع السكان قد ازداد، إلى درجة أن القضية تثير جدلًا ونقاشًا في وسط المخططين والمعماريين. وسط إشادة بمدن مثل مدينة بونتيفيدرا الإسبانية التي اتخذت خطوات للحد من استخدام السيارات، ما سمح للسكان بالخروج بشكلٍ آمن للطرق. وكما أسلفنا فإن مشاكل الاستدامة والبيئة والصحة العامة في المدن هي ما تدفع بشكلٍ رئيس هذه الخطط لإعادة الطبيعة إلى المدينة، لخلق متنفس للسكان بعيدًا عن ضوضاء الطرق وتلوثها.

البيوفيليا: كيف نعيد صلة الإنسان بالطبيعية؟

البيوفيليا: كيف نعيد صلة الإنسان بالطبيعية؟

إذا طلب منك أن تتخيل بيئة للاسترخاء التام، فالاحتمالات هي أن أول صورة تتبادر إلى الذهن هي مكان محاط بالطبيعة، سواء كانت غابة، أو جبال، أو بحر. نادراً ما يتخيل المرء مكتبًا أو مركزًا تجاريًا كمصدر للراحة والاسترخاء. ومع ذلك، فإن غالبية الناس يقضون ما يقرب من 80-90 ٪ من وقتهم في داخل المباني، ذهابًا وإيابًا من منازلهم إلى أماكن عملهم. يبحث المعماريون والمصممون الآن عن حلول تصميمية من شأنها أن يتردد صداها جيدًا في المستقبل، لذلك اتجهوا إلى “البيوفيليا” كمصدر مهم للإلهام الذي يعزز الرفاهية والصحة والراحة النفسية.

ما هي البيوفيليا؟

منذ أقدم الحضارات، كانت الطبيعة بمثابة الموئل الطبيعي للبشر، حيث توفر المأوى والغذاء. ولكن في العصر الحديث، أدت الثورات الصناعية والتكنولوجية إلى إعادة تشكيل الطريقة التي يتفاعل بها البشر مع الطبيعة. يُترجم مصطلح “البيوفيليا – Biophilia” إلى “حب الكائنات الحية” حيث في اليونانية القديمة تعني “فيليا”: الحب أو الميل نحو. وبالرغم أن المصطلح يبدو جديدًا نسبيًا وبدأ يزداد استخدامه تدريجيًا في مجالات العمارة والتصميم الداخلي، إلا أن عالم النفس (Erich Fromm) استخدمه لأول مرة في عام 1964، ثم قام عالم الأحياء (Edward O.Wilson) بنشره في الثمانينيات عندما اظهر كيف يؤدي التمدن إلى انقطاع الصلة مع الطبيعة.

لماذا نحتاج البيوفيليا في تصميم أماكن عملنا؟

أجريت الكثير من الدراسات حول فوائد دمج الطبيعة في أماكن العمل. حيث يقضي الموظف متوسط 8-9 ساعات يوميًا في الجلوس داخل المكتب، وهذه العادة تؤثر في النهاية على جسم الإنسان. وتشمل الآثار السلبية: انخفاض معدلات الأيض، وزيادة خطر الإصابة بمرض السكري وأمراض القلب، وزيادة خطر الاكتئاب، وآلام أسفل الظهر والرقبة. في الآونة الأخيرة، قام المعماريون بدمج البيوفيليا في أماكن العمل الحديثة، مما أدى إلى زيادة الإنتاجية والإبداع والانخفاض في غياب الموظفين. بمعنى آخر، كلما كان المكتب يبدو وكأنه ليس مكتب، كانت النتائج أفضل.

ما هو (التصميم البيوفيلي – Biophilic Design)؟

المبدأ الرئيسي وراء البيوفيليا بسيط إلى حد ما: ربط البشر بالطبيعة لتحسين الرفاهية. ولكن كيف يمكن للمهندسين المعماريين تحقيق هذا الصدد؟ ببساطة من خلال دمج الطبيعة في تصاميمهم. تتمثل الإستراتيجية الرئيسية في جلب خصائص الطبيعة إلى الفراغات الداخلية، مثل الماء والمساحات الخضراء والضوء الطبيعي وعناصر مثل الخشب ذو المظهر الطبيعي والحجر. ويعد استخدام الكتل والأشكال النباتية بدلاً من الخطوط المستقيمة سمة من سمات التصميمات البيوفيلية، بالإضافة إلى إقامة علاقات بصرية طبيعية، على سبيل المثال التباين بين الضوء الطبيعي والظلال.

في حين أن هناك العديد من الطرق لدمج البيوفيليا في التصميم، فإن أحد الحلول الشائعة هو استخدام الخشب. فالخشب مادة طبيعية متعددة الاستخدامات، ويخلق اتصالًا رائعًا بالخارج. وأظهرت الدراسات أن الخشب الذي تظهر فيه انسجته يريح الجهاز العصبي اللاإرادي، مما يؤدي إلى انخفاض الاستجابة للإجهادات.
عندما يتعلق الأمر بالمظهر، فالخشب يوفر اتصال بصري فريد مع الطبيعة، بسبب وفرة الأنواع والقوام والألوان. سواء أكان يستخدم كأرضيات أو ألواح أو أثاث، فإن جاذبية تلك المادة عالمية. بينما يختار بعض المعماريين تلميع الخشب لإضافة مظهر أكثر جمالًا، يستخدم آخرون المادة كما هي وتسليط الضوء على تعقيد التصميم الذي توفره أنسجة الخشب.

وعندما يتعلق الأمر بالوظيفة، يمكن استخدام الأخشاب في جميع أنواع الفراغات الداخلية (المكاتب والفنادق والمطاعم والمنازل) لتوفر نفس الصلة البصرية والعاطفية مع الطبيعة. وفي كثير من الأحيان، يجمع المعماريين بين الخشب والمساحات الخضراء مع وفرة من ضوء النهار الطبيعي لإنشاء لوحة غنية بالبيوفيليا التي تعزز الرفاهية.

المصدر: مقالة Dima Stouhi على موقع ArchDaily

Exit mobile version