ما هو العنف السياسي؟

هذه المقالة هي الجزء 7 من 9 في سلسلة مقدمة في علم الاجتماع

يحيط بنا العنف في كل مكان على اختلاف درجاته وأنواعه، في العائلة والمدرسة والعمل والإعلام والمجتمع. حتى أنه يطال وسائل التسلية والترفيه من أفلام وألعاب فيديو وغيرها. يخلق العنف أزمات عميقة للبشرية، لذلك كان دائمًا مادة دسمة للدراسات. كثرت النظريات المفسرة للعنف في مختلف الحقول العلمية: علوم النفس والاجتماع والسياسة وعلوم الجينات وعلم الإنسان والتاريخ وغيرها. ورغم أننا لم نتوصل حقيقةً إلى الإجابة على السؤال حول ما إذا كان العنف فطريًا أم مكتسبًا! فإننا واثقون أن العوامل الإجتماعية تلعب دورًا جوهريًا في زيادة نسبة العنف أو على العكس، الحد منها. ولعلّ أكثر العوامل تأثيرًا هو الحالة السياسية للمجتمع، والعنف السياسي المُمارس من قبل الأنظمة والمجموعات والأفراد. فما هو العنف السياسي؟ وما هي أنواعه؟ وكيف يؤثر على حياتنا كأفراد، وعلى علاقاتنا مع الآخرين والدولة؟

مفهوم العنف السياسي

يمكن تعريف العنف السياسي بكل استخدام للقوة أو السلطة. قد يمارسه أفراد أو مجموعات أو دول، بهدف تحقيق أغراض سياسية. ويشمل كل أنواع الأذى الجسدي والضغط النفسي الهادفة إلى إخضاع الشعوب.

ويشمل هذا العنف الصراع بين دول مختلفة من جهة، والصراع في الدولة نفسها من جهة أخرى.

ومن الأمثلة على العنف السياسي الحروب (الخارجية أو الأهلية) والاستعمار والتسلح والاغتيالات والإبادات الجماعية والعمليات الإرهابية والثورات والتمرد والشغب والإنقلابات. كما يطال أيضًا القمع و/أو الحرمان الذي يمكن أن يمارسه النظام السياسي بحق الشعب، كحرمانه من حقوقه المدنية والاقتصادية والاجتماعية الأساسية، وقمعه لحرية التعبير.

دفعت البشرية على مر التاريخ – وما زالت – أثمانًا باهظة للعنف السياسي، من الضحايا والدم والدمار والأضرار الاقتصادية والاجتماعية والصحية الهائلة، لذلك تُعتبر دراسته ضرورة في محاولة الحد منه وجعل العالم أقرب إلى السلام.

أنواع العنف السياسي

تتعدد تصنيفاته، إما بحسب أطرافها أو حجمها أو مدى خرقها للأنظمة الاجتماعية و لحدود الدولة ومدى قانونيتها و/أو مشروعيتها.

يعتبر بعض العلماء الثورات أو الانقلابات مثلًا جزءًا من التحركات التي تحمل عنفًا سياسيًا شرعيًا. فهي غالبًا تنتج عن قمع النظام السياسي لأي حالة تغييرية ديمقراطية أو سلمية. فيكون سلك طريق الوسائل العنيفة حل وحيد متبقي أمام فئة معينة لتحقيق تغيير سياسي أو لإستعادة حقوقها.

إذا تبنّينا التصنيف المبني على أساس الأطراف المنفذة والمتلقية لها، يمكن اختصاره على الشكل التالي:

– العنف الموجه من دول إلى أخرى أو من مجموعة دول إلى مجموعة أخرى: الحروب والحروب الاستعمارية والاحتلالات.
– العنف القائم بين النظام السياسي لدولة و فئة أخرى غير رسمية: مثل حالات التمرد والشغب والثورات والانتفاضات (فيكون في هذه  الحالة عنفًا متبادل بين الطرفين).
– عنف أحادي الجانب، الموجه من السلطة إلى الشعب عامةً أو مجموعات أو أفراد منه: مثل العنف الانتخابي (تهديد و أذى جسدي و/أو نفسي يطال المرشحين أو الناخبين بهدف ضمان النتيجة لصالح طرف معين)، الاغتيال  (التصفية الجسدية) والإعدام السياسي والقمع من خلال الأجهزة الأمنية والتعذيب والحرمان من الحقوق الأساسية كالأمن والغذاء والسكن والتعليم والعمل والضمانات الاجتماعية.
– العنف الممارس من قبل أفراد أو مجموعات (غير رسمية) باتجاه أفراد آخرين: مثل الإرهاب.
– العنف الممارس بين فئات اجتماعية (غير رسمية): مثل الصراعات الإثنية.

تجدر الإشارة إلى أن أنواع العنف السياسي تتداخل في الكثير من الأحيان فيما بينها، حتى أنها تتداخل مع العنف الاقتصادي والاجتماعي بشكل كبير.

كيف يؤثر العنف السياسي على الأفراد والمجتمع ككل والدولة؟

من الصعب أن نحصي فعليًا الآثار الضخمة التي تتركها أعمال العنف السياسي، وهي تختلف كثيرًا بحسب نوع الأعمال العنفية المُمارسة وحجمها والإطار الاجتماعي والتاريخي لها.

على الصعيد الفردي، تثبت الدراسات أن العنف السياسي يؤثر مباشرةً على الصحة النفسية. فتزيد في المجتمعات المعنفة سياسيًا نسبة الأشخاص المصابين بأمراض الاكتئاب والقلق و اضطرابات ما بعد الصدمة. كما يؤثر العنف أيضًا على نوعية الخدمات التي يحصل عليها المواطنون، وغالبًا ما يكون ملازمًا للدول النامية، فلنا أن نتخيّل مدى تأثيره مع رداءة الخدمات وعدم استقرار الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية على نوعية حياة الأفراد.

أما عن علاقة الأفراد بالدولة والحياة السياسية، فتوضح مجموعة من الدراسات ازدياد نسب العزلة عن المشاركة في أي ،أنشطة سياسية، وفقدان الثقة بالدولة، كما تتعطل قدرة الأفراد على المشاركة في عمل جماعي، فيميل الأشخاص في هذه الحالة إلى الفردية.

على مستوى المجتمع، يساهم العنف السياسي بزيادة العنف الاجتماعي بشكل مباشر، بسبب انعدام الشعور بالأمان، فتزداد حالات الفوضى الاجتماعية وحالات التمييز للفئات الأكثر ضعفًا وتهميشًا. وقد تطفو الأيديولوجيات المتطرفة لتعبّر عن أحاسيس الخوف والترهيب الجماعي. كما تتعاظم الآفات والمآسي الاجتماعية، وعلى رأسها التهجير واللجوء. تضعف قدرة المجتمع على التعاضد لحل الأزمات وعلى التنظيم وتتهشم الشبكات الاجتماعية.

على صعيد الدولة، غالبًا يترافق مع ضعف في المؤسسات العامة، وفقدان المواطنين بهذه المؤسسات. وينتشر الفساد ليصبح جزءًا لا يتجزأ من تسيير أعمال الدولة. إذا كان العنف السياسي موجه من قبل النظام نفسه، غالبًا ما تكون نتائجه المدمرة على الأفراد والمجتمع، أدوات إضافية لفرض سلطته وإعدام محاولات التغيير.

يتوّج العنف السياسي كل أنواع العنف الأخرى وصولًا حتى إلى العنف العائلي، فلا بد أن تبدأ مجابهة العنف من خلال الحد من العنف السياسي أولًا. ولا بد من الاعتراف أن السياسة أقرب لنا مما يُخيّل إلينا، فهي تنحت كل تفاصيل حياتنا الفردية والاجتماعية. أما التخلف، الذي ينسبه البعض إلى شعوب معينة، فالأجدر أن ننسبه إلى الأنظمة السياسية التي تسيطر على هذه الشعوب.

إقرأ أيضًا: ما هو الامتثال الاجتماعي؟

المصادر:

NCBI
Science direct
Wiley

تعريف الحركة النسوية وتاريخها

هذه المقالة هي الجزء 6 من 9 في سلسلة مقدمة في علم الاجتماع

نتمتع كنساء في يومنا هذا بالعديد من الحقوق، من حق التصويت والترشح إلى حق القيادة والتعلم والعمل. وقد يخيّل إلينا أن هذه الحقوق مُكتسبة لجميع البشر بطبيعتها. لكن الحقيقة أن هذه الحقوق جاءت نتيجة لعناء طويل من النضال النسوي. في المقابل، نواجه في حياتنا اليومية الكثير من مواقف التهميش والتمييز والتحرش والعنف تجاه المرأة، ممّا يؤكد حاجتنا إلى المزيد من النضال النسوي. فما هو تعريف الحركة النسوية؟ كيف نشأت؟ وما هو تاريخها؟

ما هي الحركة النسوية؟

تُعرّف الحركة النسوية (المعروفة بالـFeminism) بالحركة السياسية والاجتماعية والثقافية الداعية إلى المساواة بين الرجل والمرأة على الصعيد الاقتصادي والسياسي والاجتماعي، ومحاربة جميع أنواع التمييز الجندري. وهي لا تشمل فقط النضال الحقوقي المباشر، بل أيضًا الفلسفة النسوية التي تؤمن بالمساواة والتي تُلهم النساء حول العالم للدفاع عن حقوقهن.

رغم أن الحركة النسوية نشأت في الغرب، إلا أنها توسّعت في جميع مناطق العالم، وتأثرت بمختلف التيارات الثقافية والفلسفية والاجتماعية والاقتصادية، ممّا خلق العديد من المدارس الفكرية النسوية (الراديكالية، الاشتراكية-الماركسية، الرأسمالية، الأناركية، …) تقع كلها تحت مظلة الأيدولوجية النسوية، ولكنها تختلف في الأهداف والاستراتيجيات.

حاربت الحركة النسوية في سبيل الحقوق المدنية للنساء (حقوق الملكية والتصويت والتعليم والعمل)، بالإضافة إلى حماية المرأة من العنف المنزلي والتحرش والاغتصاب، وحرية التصرف بالجسد والحصول على الرعاية الإنجابية وصولًا إلى تحسين شروط العمل والحق في إجازة الأمومة والأجور العادلة، وغيرها الكثير من القضايا التي تتعرض فيها المرأة للتمييز.

تاريخ الحركة النسوية

رغم أن كلمة “النسوية” لم تنتشر قبل السبعينيات إلا أن الأفكار النسوية نشأت منذ زمن قديم، نتيجة التمييز ضد المرأة الذي كان سائدًا في المجتمعات القديمة. وتقسم الحركة النسوية إلى موجات أربع أساسية، كانت مسبوقة بنضالات نسائية عديدة.

كان أفلاطون من أوائل الـ”نسويين”، فقد اعتبر في كتابه “الجمهورية” أن النساء يمتلكن قدرات مماثلة لقدرات الرجال، وهنّ قادرات على الحكم والدفاع عن بلادهنّ.

في روما القديمة، منع القانون النساء من وراثة الذهب والتزين به كما وضع القانون قيودًا على حركة النساء ولباسهن. فقادت النساء تظاهرات عارمة اعتراضًا على القانون. وكان ذلك في القرن الثالث قبل الميلاد.

لكن بقت هذه الأزمنة، حتى العصور الوسطى، دامسة ومظلمة في مجال حقوق النساء. وبقت الأصوات المُطالبة بالمساواة خافتة.

تعتبر الفرنسية «كريستين دو بيزان- Christine de Pizan » الفيلسوفة النسوية الأولى التي رفعت الصوت، في أوائل القرن الخامس عشر، في وجه كراهية المرأة وتهميشها. أما في بريطانيا، فقد بدأ الحديث عن حقوق المرأة في القرن السادس عشر، فحين انتشرت مقاطع تسخر من المرأة. نشأت في المقابل حركة أدبية نسوية تدافع عن حق النساء في التعليم والعمل.

كريستين دو بيزان

تأثّرت الحركة النسوية بعصر التنوير الذي نشر مبادئ العدالة والحريات والحقوق. رغم أن فلاسفة التنوير تناولوا الصراع الطبقي وأهملوا التمييز ضد المرأة، إلا أن المفكرات في عصرالتنوير سرعان ما أثرن قضايا النساء. أطلقن بدورهن “إعلان حقوق المرأة والمواطنة” على غرار “إعلان حقوق الرجل والمواطن” الذي لم يعترف بحقوق النساء. أطلقت الكاتبة ماري ولستونكرافت كتابها “دفاعًا عن حقوق المرأة”، الذي طرحت فيه حق المرأة في تساوي فرصها مع الرجل في مجالات العمل والتعلم والسياسة.

الموجة الأولى من الحركة النسوية

انطلقت الموجة الأولى في الحركة النسوية بين القرنين التاسع عشر والعشرين، بعد أن تأثر المفكرون بفلاسفة عصر التنوير والمناهضة لنظام العبودية.

حاربت الحركة النسوية في موجتها الأولى من أجل الحق في الملكية ومعارضة زواج المتعة وتملّك المرأة والأولاد من قبل الرجل. ثم انتقلت إلى تعزيز قوة المرأة السياسية، فطالبت بالحق في التصويت والمشاركة في القرار السياسي.

في بريطانيا، أدت النضالات النسوية لإعطاء حق التصويت للنساء (اللواتي يبلغن ال21 سنة) في العام 1928. أما في الولايات المتحدة الأميركية، فقد ضمنت الحق التصويت للنساء في كل الولايات في العام 1919. ظهرت الموجة الأولى من النسوية أيضًا في إيران واليابان وألمانيا وأوستراليا ونيوزيلندا وغيرها من البلدان، وطالبت النساء بحقهن في التصويت في مختلف مناطق العالم.

الموجة الثانية من الحركة النسوية

بدأت هذه الموجة في أوائل الستينيات وامتدت حتى أواخر الثمانينيات. وقد ركزت الحركة النسوية في هذه الفترة على المفاهيم الثقافية الذكورية التي تعيق تحرر المرأة وحمايتها. فقد استمر التمييز الذي يحصر المرأة في دورها النمطي في التدبير المنزلي ورعاية الأطفال.

في العام 1974، أطلقت المنظمة الدولية للنساء حملة لتحقيق العدالة القانونية بين النساء والرجال. كما أن انتشر شعار “الشخصي سياسي” الذي أطلقته الكاتبة النسوية “كارول حانيش”، والذي أعاد تعريف السياسة في معنى أوسع وأشمل، ألقت الضوء على العلاقة الوثيقة بين التجارب الشخصية والخاصة وبين البنى السياسية والاجتماعية لمجتمع معين.

أدت الموجة الثانية إلى دخول المرأة في مجالات عمل واسعة وقوننة حق المرأة في الصحة الإنجابية وتكريس حقوقها المدنية.

إعلان لمسيرة مسائية في اليوم العالمي لعام ١٩٧٥

الموجة الثالثة من الحركة النسوية:

في بداية التسعينات، بدأت الموجة الثالثة من الحركة النسوية. رغم أنها استمدّت قوتها من الموجة الثانية التي خلقت للمرأة أسس استقلاليتها الاقتصادية وتحررها الثقافي من المفاهيم النمطية، إلا أن الموجة الثالثة أتت لتصحح أخطاء الموجة الثانية، والتي تمثلت بحصرية الحركة النسوية بالمرأة ذات البشرة البيضاء من الطبقة الوسطى والعليا (خصوصًا في الولايات المتحدة الأميركية). فأتت الحركة النسوية في موجتها الثالثة لتشمل النساء من مختلف الأعراق والإثنيات، ومن مختلف الطبقات الاجتماعية.

وعملت الموجة الثالثة لتعزيز صورة المرأة ككائن قوي، بدل من تصويرها بصورة نمطية ضعيفة وخاضعة أو محصورة بالإثارة الجنسية والتسليع، وذلك من خلال الأفلام والبرامج التعليمية للأطفال وغيرها. كذلك أعادت الموجة الثالثة تعريف الجندر (أي الهوية الجنسية) المختلف عن الجنس البيولوجي.

الموجة الرابعة من الحركة النسوية:

رغم عدم الاتفاق على وجود الموجة الرابعة، يعتبر العديد من علماء الاجتماع والمفكرين أن الموجة الرابعة بدأت في سنة 2012، مع استخدام مواقع التواصل الاجتماعي لإثارة قضايا النساء ونشر الأفكار النسوية. وقد أثارت قضية فتاة هندية تعرضت لاغتصاب جماعي (وتوفيت إثر الحادثة) غضبًا عارمًا للنساء حول العالم. وبدأت هذه الموجة بالتركيز على قضايا حماية النساء من التحرش والاغتصاب والتنمر الجسدي (body shaming).

رغم التقدم الكبير الذي أحرزته النساء في المجال الحقوقي في القرن الأخير، إلا أن وضع النساء في العالم متفاوت جدًا بين مختلف الدول والطبقات الاجتماعية. وتوضح أرقام منظمة الأمم المتحدة التمييز ضد المرأة في الكثير من المجالات، بحيث لا تتعدى مشاركة النساء في المجالس الدولية نسبة 23%، وتتعرض الملايين من الفتيات للزواج المبكر (قبل 18 سنة)، وتتعرض مرأة من كل خمس نساء في العالم للعنف الجسدي و/أو الجنسي من شريكهن. وتثبت هذه الأرقام أن الحركة النسوية ما زالت حاجة ملحة لضمان وصول المرأة إلى أدنى حقوقها الإنسانية.

مصادر:

Britannnica
History.com
UN Women

إقرأ أيضًا: اليوم العالمي لمناهضة العنف ضد المرأة

أبرز ملامح أجندة جو بايدن العلمية

كانت فترة رئاسة «دونالد ترامب» فترة عصيبة في تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية؛ بسبب قراراته وتوجيهاته الانعزالية التي أدت إلى تآكل مكانة بلاده كرائدة عالمية في مجال البحث العلمي والتعاون الدولي وتهميش الحقائق.

الآن وبعد إعلان فوز «جو بايدن» في انتخابات رئاسية محتدمة، ما هي أبرز ملامح أجندة جو بايدن العلمية؟ وهل سيستطيع «بايدن» إعادة مكانة بلاده كقِبلة للعلماء والباحثين؟ وما هي أهم الأولويات العلمية والبحثية في أجندته الرئاسية؟ وكيف سيقوم بتنفيذها في دولةٍ انقسم فيها الرأي العام بشدة؟

فلا شك أن مجرد تولي «جو بايدن» منصبه في 20 يناير المقبل، ستُتاح له فرصة تغيير العديد من السياسات التي تبنتها إدارة ترامب. تلك التي أسفرت عن تأخر الولايات المتحدة عن ملاحقة تسارع أبحاث العلوم والصحة العامة والتخاذل عن المشاركة في حل المشكلات العالمية.

إدراة ترامب في مواجهة الأزمات العالمية

إن أسلوب تعامل الرئيس الأمريكي «دونالد ترامب» مع الأزمات العالمية مثل: جائحة كوفيد-19، أزمة تغير المناخ، وتهميش الحقائق واعتماد الاخبار المضللة، تجاهل دور العلماء والعاملين في وكالات الصحة العامة مثل (مراكز السيطرة على الأمراض والوقاية منها، كذلك إدارة الغذاء والدواء). وعدم الالتزام بالقوانين والمعاهدات الدولية. كل ذلك كان مرعبًا للغاية، عبر عنها الباحثون بأنها أزمة وطنية على عكس أي أزمة شوهدت من قبل.

أزمة جائحة كوفيد-19 في أجندة جو بايدن العلمية

سعى «ترامب» مرارًا إلى التقليل من شأن هجوم الفيروس التاجي. كما سعى إلى التقليل من شأن معارضة الجهود الحكومية والمحلية لإحتواء الأزمة. فقد أغلق الطريق أمام التواصل مع الدول والمنظمات العالمية خلال حربها ضد الفيروس. لا سيما حينما قرر سحب الثقة من منظمة الصحة العالمية-WHO -منتقدًا المنظمة لدعمها الصين حيث بدأ تفشي المرض- وإيقاف التمويل الذي تشتد الحاجة إليه من قِبل منظمة الصحة لمكافحة الفيروسات مثل فيروس كورونا وفيروس شلل الأطفال، والأمراض الأخرى على مستوى العالم. كما زعم «ترامب» أن التوجيهات والتقارير الصادرة عن مراكز السيطرة على الأمراض، تعمد إلى إبطاء اختبار اللقاح بهدف الإضرار بفرص إعادة انتخابه.

في هذا الصدد، نجد أبرز ملامح أجندة جو بايدن العلمية هو إعادة الولايات المتحدة للمشاركة في مواجهة الوباء من جديد، والتي بدأ تنفيذها في شهر مارس هذا العام. فقد كوَّن «بايدن» فريقًا خاصًا للتعامل مع تبعيات فيروس كورونا المستجد، الفريق الذي يضم العديد من الشخصيات البارزة في مجال الطب والصحة العامة. ويعمل الفريق على تكثيف برامج الاختبار وتتبع العمل مع المسئولين لتنفيذ إجراءات السلامة وتعزيز مرافق الصحة العامة، ذلك للمساعدة في السيطرة على انتشار فيروس كورونا المستجد وإعادة بناء برامج التأهب للأوبئة التي أوقفتها إدارة ترامب.

كما وعد الفريق بالاستماع إلى العلم. وأشاد العلماء بتلك الخطوات، لأنها ستعطي الفرصة للوكالات الحكومية للقيام بعملها بشكل صحيح. هذا بالإضافة إلى إعادة فتح طرق التواصل مع الدول الأخرى بشأن أبحاث الحرب ضد فيروس كورونا المستجد. كم االتزم بإعادة دعم منظمة الصحة العالمية مرة أخرى.

أزمة تغير المناخ

فيروس كورونا المستجد ليس هو القضية الخلافية الوحيدة التي سيواجهها الرئيس «بايدن»ز فبعد أن تحرك «ترامب» لسحب الولايات المتحدة رسميًا من اتفاقية باريس للمناخ عام 2015، وتراجعه عن تنفيذ بعض اللوائح التي تهدف إلى الحد من الغازات الدفيئة ووصفة للإحترار العالمي بأنه “خُدعة”! أصبحت مشكلة المناخ أيضَا من المشكلات التي تترأس جدول أعمال «بايدن».

فقد وضع خطة لحملة بتكلفة 2 تريليون دولارًا أمريكيًا، هي أساس برنامج أطلق عليه برنامج المناخ الأكثر عدوانية على الإطلاق. سيقوم البرنامج على استثمارات الطاقة النظيفة واعتماد البنية التحتية منخفضة الكربون. كما تهدف خطة بايدن إلى توليد كهرباء نظيفة بنسبة 100٪ بحلول 2035، بصافي انبعاثات “صفر” بحلول 2050. والسؤال الأهم هنا، ماهي الخطوات التي ستسير بها تلك البرامج الضخمة؟

أوضح «بايدن» أن الولايات المتحدة ستنضم مجددّا  إلى اتفاقية باريس للمناخ، سعيًا منه لأن تصبح بلاده شريكًا نشطًا مع أكثر من 190 دولة التزمت بالحد من انبعاثات الغازات المسببة للاحتباس الحراري. بالإضافة لتعيين لجنة صديقة للمناخ في وكالة حماية البيئة، والتحرك سريعًا لاستعادة وتعزيز اللوائح المناخية والبيئية التي تراجعت في عهد «ترامب».

ميادين بحثية أخرى تشغل أجندة جو بايدن العلمية

أبحاث علوم السرطان

بالإضافة إلى تعزيز أساليب التعامل مع الوباء وتغير المناخ، سيكون لدى الرئيس بايدن الحماس لإعطاء الأبحاث العلمية دورها المستحق من جديد. فسيستعين «بايدن» بالخبراء لتنسيق السياسة العلمية وإنشاء محاور بحثية في البيت الأبيض. وتعتبر علوم السرطان هي المجال البحثي الأكثر وضوحًا «لبايدن». لاسيما بعد وفاة ابنه عن عمر 46 عامًا في عام 2015 بسبب سرطان الدماغ. فقد ترأس «بايدن» مبادرة حكومية انطلقت عام 2016 تحت إسم “Cancer moonshot”  التي تهدف إلى تسريع وتيرة التقدم والبحث العلمي حول مرض السرطان من خلال التنسيق مع المؤسسات والباحثين لتبادل البيانات والنتائج.

مجال الفضاء

يعد مجال استكشاف الفضاء أحد المجالات القليلة التي بذلت فيها إدارة «ترامب» جهودًا كبيرة. فما هي خطة «بايدن» في هذا المجال؟ وهل سيستطيع تغيير المسار الذي حدده «ترامب» للتقدم في مجال الفضاء؟

إنه لأمر غير معروف، خاصةً أن «بايدن» لم يكن منخرطًا بعمق في قضايا السياسة الفضائية. ومع ذلك أعرب عن حماسه للإهتمام بمجال الفضاء. من ناحية أخرى، يشير الخبراء إلى أن وكالة ناسا قد لا تغير مسارها بشكل كبير في عهد الرئيس «بايدن»، فهي ملتزمة بمواصلة استكشاف الفضاء. لكن لا أحد يعلم ما هي توجيهات إدارة «بايدن» إزاء ما يجب تنفيذه في برنامج الانتقال البشري للفضاء التابع لوكالة ناسا. إذ وجه «ترامب» الوكالة سابقَا للتركيز على هبوط البشر على القمر بحلول عام 2024. فهل مازال سطح القمر على الموعد الذي حدده ترامب؟ أم سيكون لـ «بايدن» موعدًا آخر؟

حظر السفر إلى الولايات المتحدة الأمريكية

لم يهمل «بايدن» أيضًا القرارات الخاصة بإدارة ترامب المتعلقة بالهجرة وحظر السفر، طالت بعضًا من الدول المسلمة. التي قللت من جاذبية الولايات المتحدة كوجهة للطلاب والباحثين الأجانب.

فقد تعهد «بايدن» بإلغاء حظر السفر وتسهيل الأمر على العلماء والمهندسين الأجانب، الحاصلين على درجة الدكتوراه. للبقاء بشكل دائم في الولايات المتحدة. كما اقترح زيادة عدد التأشيرات المتاحة للعمال ذوي المهارات العالية.

هكذا تبدو الملامح الأولى لأجندة جو بايدن العلمية. التركيز على البحث العلمي والأمن القومي والسيطرة على ما خلفته فترة إدارة «ترامب» للبلاد. وتغيير رسائل الصحة العامة ومعالجة حالة انعدام الثقة العامة التي طالت المجتمع الدولي تجاه بلاده. من أجل إعادتها إلى مكانتها الريادية في البحث العلمي.

لكن، أيمكن لفترة رئاسية واحدة مدتها 4 سنوات أن تضع الولايات المتحدة على طريق التعافي؟

المصادر:

nbcnews

ncbi

washingtonpost

nature

nature

newscientist

the conversation

نظرية اللعبة: اللعب التعاونية

هذه المقالة هي الجزء 4 من 5 في سلسلة مقدمة في نظرية اللعبة

نظرية اللعبة: اللعب التعاونية

وظفت إحدى الشركات تسنيم (مصممة غرافيك) ومحمد (مبرمج) من أجل بناء موقع إلكتروني لها. تمنح الشركات المصممين غالبًا ١٢٠ دولار بينما تمنح المبرمجين ١٥٠ دولار، إلا أن الأمر مختلف بالنسبة لتسنيم ومحمد، لأنهما سيعملان كفريق الآن. ستمنحهما الشركة ٣٠٠ دولار. فكيف سيقوم الاثنان بتقسيم المبلغ بينهما؟

من منظور نظرية اللعبة، يعتبر محمد وتسنيم لاعبان في «لعبة تعاونية-Cooaporative Game» مفادها تقسيم المكافأة. لحل مسألة التقسيم هذه، ستستعمل نظرية اللعبة «قيم شابلي- Shapley Values» ومفهوم آخر يعرف بـ «المساهمة الهامشية-Marginal Contribution».

قيم شابلي والمساهمة الهامشية

المساهمة الهامشية للاعب هي ما يضيفه هذا اللاعب على المجموع. بطريقة أخرى، إذا عمل محمد وحده على البرمجة فسيحصل على ١٥٠ دولار، لكن إذا أضيفت تسنيم إلى الفريق، سيحصل الاثنان على ٣٠٠ دولار. في هذه الحالة تكون المساهمة الهامشية لمحمد ١٥٠ دولار، ولتسنيم ١٥٠ دولار أيضا.

بنفس الطريقة، إذا عملت تسنيم وحدها ستحصل على ١٢٠ دولار، لكن ما أن يضاف محمد إلى الفريق، يحصل الاثنان على ٣٠٠ دولار. مما يعني أن المساهمة الهامشية لتسنيم تقدر ب ١٢٠ دولار، ولمحمد ب ١٨٠ دولار.

لتحديد المبلغ الذي سيحصل عليه كل من تسنيم ومحمد، سنقوم بحساب قيمة شابلي لكل لاعب ولذلك يكفي ضرب كل مساهمة هامشية ممكنة باحتمالية وقوع هذه المساهمة. فمثلا في حالة تسنيم، نقوم بضرب ١٢٠ ب ١/٢، و١٥٠ ب ١/٢، ثم نقوم بحساب المجموع فنحصل على ١٣٥. بنفس الطريقة يحصل محمد على ١٦٥ دولار (لحساب قيمة شابلي، توجد صيغة رياضية أكثر عمومًا نناقشها بالتفصيل في مقال قادم). لاحظ أن مجموع القيمتين يساوي ٣٠٠ دولار.

مسألة الانتخابات كلعبة تعاونية

تهدف هذه المسألة إلى معرفة تأثير كل حزب على نتائج الانتخابات البرلمانية. يتكون البرلمان من ١٠٠ عضو من ٤ أحزاب موزعة كما يلي: ٤٥، ٢٥، ١٥، ١٥ عضوًا. ما قيمة تأثير كل حزب على النتائج إذا تم اعتماد مبدأ الأغلبية (٥١ صوتا على الأقل للمصادقة على القرار) في حالة المصادقة على قرارٍ ما؟ قد تظن أن الإجابة هي: ٤٥٪، ٢٥٪، ١٥٪، ١٥٪. إلا أن استعمال قيم شابلي يظهر نتائج أخرى.

نظرًا لعدد اللاعبين (٤ أحزاب)، سنستعمل هذا الموقع الذي يقوم بحساب قيمة شابلي لكل لاعب، فيكفي إدخال نتيجة التحالفات الممكنة للاعبين. فمثلا، إن تحالف الحزب الأول (٤٥ صوتًا) مع الثاني (٢٥ صوتًا) ، فحتمًا سيتم قبول القرار ولن نحتاج إلى أصوات الآخرين. من جهة أخرى، مجموع صوت أعضاء الحزب الثالث والرابع فقط (١٥، ١٥ صوتًا)، وهو عدد لا يؤدي إلى المصادقة على القرار. سنشير إلى حدث المصادقة على القرار بالقيمة 1، بينما لعدم المصادقة بالقيمة صفر.

بعد ملء الجدول في الموقع، يتبين لنا أن قيمة تأثير الأحزاب هي: ٥٠٪ (٤٥ عضوًا)، ١٦.٦٧٪ (٢٥ عضوًا) ، ١٦.٦٧٪ (١٥ عضوًا) و١٦.٦٧٪ (١٥ عضوًا). هذا راجع إلى العدد الكبير للأصوات للحزب الأول، لكنه بالأساس يعود إلى ضعف عدد أصوات الأحزاب الأخرى.

وأخيرًا بعد أن تطرقنا لمشكلة تقسيم المكافأة ومسألة الانتخابات، لا بد أنك تستطيع التفكير في مواقف تدفعك لاستعمال النظرية في حياتك اليومية (تقسيم جائزة مالية مع باقي أعضاء الفريق، ملاحظة تأثير أصوات دول حق الفيتو في منظمة الأمم المتحدة). ترقب مزيدًا عن اللعب التعاونية وتطبيقاتها في المقال القادم.

اقرأ أيضًا عن نظرية اللعبة

المصادر:

Coursera
Ucdavis
UBC

طاعون النيوليبرالية الذي ترك الولايات المتحدة غير مهيأة للكورونا، حوار مع نعوم تشومسكي

طاعون النيوليبرالية الذي ترك الولايات المتحدة غير مهيأة للكورونا، حوار مع نعوم تشومسكي


نظرًا إلى وصول عدد الوفيات الناجمة عن فيروس كورونا في الولايات المتحدة إلى 150,000 حالة وفاة، تقرأون الآن هذا اللقاء المترجم مع الفيلسوف والناشط السياسي، وعالم اللسانيات واسع الشهرة، ومؤلف ما يفوق المائة كتاب: البروفيسور نعوم تشومسكي. الذي يوضح فيه كيف من وجهة نظره أدت عقود من السياسات النيوليبرالية إلی تمزيق شبكة الأمان الاجتماعي والمؤسسات العامة، وترك الولايات المتحدة غير مستعدة لأزمة صحية كبرى كالأزمة الحالية، ويدعونا إلى ضرورة فهم جذور هذا الوباء. وهذا في حواره التالي مع الصحافيتين ايمي جودمان ونيرمين الشيخ من موقع الديموقراطية الآن.

تشومسكي:

في البداية علينا أن نعلم أن ثمة أوبئة أخرى قادمة وربما تكون أسوأ.
لقد كنا حتى الآن محظوظين. ذلك أن الأوبئة بشكل عام أمر خطير للغاية، وثمة العديد من الاحتمالات فيما يتعلق بأمرها. مثلًا، كل تلك الأوبئة التي حدثت في السنوات العشر أو الـ خمسة عشر الماضية، كان الفيروس الذي نتحدث عنه إما قاتلًا بكثرة ولكنه ليس معديًا جدًا، مثل الإيبولا، أو معدٍ جدًا لكنه ليس قاتلاً بكثرة، مثل COVID-19.
ما الذي قد يحدث في حال عانينا وباءًا قادمًا معديًا جدًا وقاتلا بكثرة على حد سواء؟ سنكون في ورطة كبيرة، وسنعاني ما هو أسوأ بكثير من وضعنا الحالي وأسوأ مما يسمى بـ “الإنفلونزا الإسبانية”، والتي كان يجب أن تسمى ‘إنفلونزا كانساس” حسب منطق ترامب (يسمي الرئيس الأمريكي فيروس كورونا بالفيروس الصيني). ذلك أنها نشأت في كانساس منذ قرن مضى. ربما نواجه ما هو أسوأ من ذلك بكثير.

البروفيسور نعوم تشومسكي

ثمة طرق وجدت للتعامل مع هذه الجائحة، كان العلماء على دراية بأن وباءًا آخر محتملًا قد يكون آتيًا، وذلك بعد وباء السارس فى عام 2003، لقد حذر العلماء من ذلك وعرضت السياسات التي كان بالإمكان تنفيذها. لكن ذلك لم يحدث، ويرجع ذلك جزئيًا إلى الاختلالات المؤسسية العميقة. إذ لا يمكن لشركات الأدوية، والتي تعد الكيان المفترض الاعتماد عليه في هذا الشأن، من خلال المنطق الرأسمالي. أن تنفق المال في محاولة لمنع وقوع كارثة بعد عشر سنوات من الآن. لكن تركيزها ينصب على محاولة كسب المال العاجل وفي الغد. هذه طريقة سير النظام. لذا تم استبعاد شركات الأدوية من المنطق الرأسمالي.
أما فيما يخص الحكومة، من الممكن لها إجراء معظم البحوث الأساسية عن اللقاحات والأدوية، أو كلها تقريبًا. لذا كان بإمكانهم الشروع في الأمر، وإنشاء مختبرات، مستغلين الموارد غير المحدودة. لكن الحكومة تشكل – حسب تعبير الرئيس ريجان في الثمانينات وهو يوضح سياسته في عدم التدخل- المشكلة وليس الحل. إن الطاعون النيوليبرالي يحول دون إتمام أي من ذلك، بمعنى أننا يجب أن نتسلم مسؤولية اتخاذ القرارات من أيدي الحكومة، وهي المسؤولة عن التقصير؛ فيتحول الأمر إلى يد طغيان القطاع الخاص، غير الخاضع للمساءلة، هذا هو معنى شعار ريغان. وهذا هو المبدأ الأساسي للنيوليبرالية. الذي يعاني منها العالم منذ 40 عاما، باستثناء أقلية ضئيلة تمكنت من أن تصبح غنية وقوية للغاية.

ورغم ذلك، بقيت ثمة اجراءات ممكنة للحكومة الأمريكية. على سبيل المثال، عندما تولت إدارة أوباما مقاليد الحكم، وفي الأيام القليلة الأولى، اتصل أوباما بالمجلس الاستشاري العلمي الرئاسي، الذي أنشأه جورج بوش الأب، وقد كان يحمل احترامًا للعلم. وطلب أن يضعوا معًا برنامجًا للتعامل مع الأوبئة، وبالفعل جاؤوه بتقرير بعد أسبوعين، وتم تنفيذه. وظل الأمر على ذلك حتى كانون الثاني/يناير 2017.

وبعد أن تسلم ترامب منصبه، في الأيام القليلة الأولى، فكك النظام بأكمله. ويعتبر هذا جزء من سياسة كرة التحطيم العام التي نهجها ترامب، بمعنی: “علينا أن ندمر كل ما فعله أوباما”. لأنها الطريقة الوحيدة ليبدو وكأنه يفعل شيئًا.

وكانت ثمة برامج لعلماء أميركيين يعملون في الصين مع زملاء صينيين في محاولة للكشف عن الفيروسات التاجية (عائلة كورونا) وتحديدها. إنه عمل خطير جدًا وبعضهم فقد حياته. لكنهم كانوا ينجحون في الكشف عن الفيروسات، والتعرف إليها واختبارها. وذلك في معهد مدينة ووهان لعلم الفيروسات، التي هي مركز نشوء هذا الوباء، وألغى حينها ترامب البرنامج.

وقد نفذت في وقت متأخر من أكتوبر 2019 عمليات محاكاة لوباء تحذر مما سيحدث. ولم تعر إدارة ترامب الأمر أي اهتمام. ولهذا السبب، بمجرد أن أصاب الوباء أخيرًا، كانت الولايات المتحدة غير مستعدة على الإطلاق. ناهيك عن ذكر سلسلة التقاعس البشع والإجراءات التي تبعت ذلك، كرفض ترامب الاعتراف بالأمر برمته لبضعة أشهر!
وبينما كان هذا يحدث في الولايات المتحدة، كانت لبلدان أخرى ردات فعل. مثل آسيا وأوقيانوسيا وأستراليا ونيوزيلندا. كوريا الجنوبية، التي كانت واحدة من أول الأماكن التي أصابها الوباء، تعاملوا مع الأمر بعقلانية. حددوا أماكن الخطر، وسيطروا عليها، وأجروا الفحوص، وتعقبوا المخالطين.
أبلغت فيتنام – التي يبلغ طول حدودها مع الصين 1400 ميلا- عن صفر وفيات. وأدت كل من كوريا الجنوبية وتايوان ونيوزيلندا واستراليا بشكل جيد. حتى أوروبا، لقد تأخروا بما لا يستهان به، لكنهم تصرفوا أخيرًا. وقد انخفض المنحنى بشكل حاد منذ شهر مارس لمعظم أوروبا. والبعض الآخر، مثل النرويج وألمانيا، يبلي بلاء حسنًا في هذا الصدد. حتى أن حركة السفر عبر جنوب إيطاليا تكاد تكون طبيعية.

ويذكر أن الأمر تطور إلی درجة أن أوروبا، قد حظرت الزوار الأمريكيين من دخول حدودها. لقد نبذت الولايات المتحدة، لدرجة أنه لا يُسمح للأميركيين بالذهاب إلى بلدان أخرى. الأمر شبيه إلى حد كبير بما حدث في البرازيل. إذ أن الرئيس البرازيلي (بولسونارو) كان ينكر الأمر برمته “إنها مجرد إنفلونزا خفيفة. لا تقلقوا بشأن ذلك، البرازيليون أقوياء. نحن لا نهتم”. وتحتشد في الشوارع اجتماعات كبيرة من أنصار بولسونارو اليمينية للرقص والاحتفال ونشر الفيروس، ولا يجد بولسونارو في ذلك غضاضة.

جريمة حالية أخرى تزلزل العالم هي تدمير غابات الأمازون. وأثر هذا يمتد إلى العالم بأسره، وليس على البرازيل فحسب، وتشير التوقعات العلمية إلى أن الأمازون حسب مسارنا الحالي سيتحول في غضون 15 عامًا تقريبًا من بالوعة بحتة لثاني أكسيد الكربون، إلى مصدر صافٍ لانبعاثه، وهي التي يطلق عليها أحيانًا رئتا الأرض. لامتصاصها كميات هائلة من ثاني أكسيد الكربون.
إن الأمازون، حسب المسار الذي نحن فيه سائرون، ستتحول إلى ما يشابه حشائش السافانا، لا غابة كما هي الآن. وهذا مدمر للبرازيل وللعالم بأكمله. ذلك أنها واحدة من مصادر الأكسجين الرئيسة في العالم.

وعلى جميع الأصعدة، نحن نهوي بجنون نحو كارثة شاملة تحت قيادة متعصبين معتلين اجتماعيًا. كما لو أن الشياطين قررت أن تتولى أمر الجنس البشري ودفعهم إلى التدمير الذاتي. تحاول الكثير من دول العالم، بل معظمها منع حدوث ذلك، ولكن الولايات المتحدة والبرازيل تتسابقان بتفانٍ نحو الهاوية.

وهذا يأخذنا إلى الانتخابات القادمة، لعل ما سبق ذكره هو السبب في أنها أخطر وأهم انتخابات في التاريخ. لماذا نعد ترامب، وقد يبدو هذا أمراً مبالغا فيه -لكنه صحيح- أخطر شخصية في تاريخ البشرية؟
الحزب الجمهوري اليوم هو أخطر منظمة في تاريخ البشرية. يمكنك مقارنة ترامب، على سبيل المثال، بهتلر.
خذ مثلًا إعلان وانسي في عام 1942، حيث دعا إلى قتل جميع اليهود، وعشرات الملايين من السلاف، أما ما نواجهه الآن هو تدمير المجتمع الأنساني بأكمله. لم يسبق لنا مواجهة شيء من هذا القبيل قطّ.

فيما يخص الحزب الجمهوري، نحن نعرف كيف آل به الأمر إلى هذا. بالعودة إلى عقد من الزمان أو نحو ذلك، كان جون ماكين، عام 2008، مرشحاً للرئاسة. كان برنامجه ضعيفًا للغاية، لكنه احتوى بعض السياسات بصدد الاحتباس الحراري العالمي. وبدأ الكونجرس الجمهوري يأخذ في الحسبان ظاهرة الاحتباس الحراري، عبر سياسات للحد من تفاقمها. لكن الإخوة (كوخ)، وهم أصحاب شركة الطاقة، كان لهما رأي آخر، إذ عملوا لسنوات لمنع هذا، أطلق ديفيد كوخ، أحد الإخوة الذي توفى مؤخراً، حملة ضخمة للتأكد من أن الحزب الجمهوري سينكر الأمر. قد رشى الأخوان أعضاء مجلس الشيوخ، وأرهبوا الآخرين بالتهديد بشن حملات مضادة ضدهم، وشنوا حملة ضغط ضخمة، وبالفعل تخلى الحزب عن كل جهوده للتعامل مع تغير المناخ. إنها الآن حفلة يسودها النكران الكامل.

-الصحافية إيمي غودمان: بينما تتحدث عن هذا الأسلوب الإنكاري وتجاهل العلم، فيما يخص أولًا أزمة المناخ وصولا إلى الوباء، إذ يهدد كلاهما الحياة على الأرض، يعقد الرئيس ترامب الآن مؤتمرًا صحفيًا يوميًا لفيروس كورونا دون حضور العلماء، لديك مثلا كل من أنتوني فاوتشي، كبير علماء الأمراض المعدية، بالإضافة إلى د.(بيركس)، لن يكونا جزءًا من هذا المؤتمر الصحفي. هل تعتقد أن على الصحفيين الحاضرين للاجتماع الامتناع عن الحضور ما لم يتواجد هناك العلماء، وما لم يرتد الرئيس ترامب الكمامة؟

-تشومسكي:
نعم، أعتقد ذلك، كما أعتقد أنه ينبغي عليهم أن يفعلوا أكثر من ذلك بكثير، وأن يشيروا باستمرار إلى ما قلته قبل قليل: وذلك أننا نتعامل مع أخطر شخصية في تاريخ البشرية، مدعومة بأخطر منظمة في تاريخ البشرية، وأن نفصح عن الحقائق. ليس فقط فيما يخص هذا الوباء، بل والتهديد الأكثر خطورة بكثير لكارثة بيئية، والتهديد المتزايد والجدي للحرب النووية.

في رأيي، يجدر بكل صحيفة أن تضع على صفحتها الأولى صورة من الساعة المؤقتة لانتهاء العالم. لعلك تعلم عن هذا الموضوع، في يناير من كل عام، تجمع مؤسسة (bulletin it the atomic scientists) -وهي المجلة العلمية الرئيسية التي تتناول قضايا أمن العالم- العلماء والمحللين السياسيين في محاولة لإعطاء تقدير لحالة الأمن العالمي. وهذا بدأ بعد وقت قصير من القنبلة الذرية، وينفذ هذا سنويٗا على التوالي منذ 75 عاما. إذ ينُقل مؤشر الساعة -بشكل متذبذب – إلی نقطة أقرب أو أبعد قرب منتصف الليل، اعتمادًا على مدى خطورة الوضع العالمي. وساعة منتصف الليل تعني أن أمرنا قد انتهى.

في كل عام مر على ترامب في منصبه، اقترب مؤشر الدقيقة من منتصف الليل!
قبل عامين، وصل إلى أقرب مما كان عليه في أي وقت مضى. وفي كانون الثاني/يناير الماضي، تخلى المحللون عن الدقائق؛ إذ انتقلوا إلى الثواني. مائة ثانية حتى منتصف الليل ومنذ كانون الثاني/يناير، جعل ترامب كل واحدة من القضايا التي أثاروها هؤلاء الخبراء أسوأ. وهذه القضايا ثلاث رئيسية: الأولى بالطبع هي خطر الحرب النووية، والثانية خطر حدوث كارثة بيئية، والثالثة هي تدهور الديمقراطية. والتي تدرج إلى جانب الأخرتين لمجرد فكرة أن وجود ديمقراطية حية يمكن الجمهور المطلع، من المشاركة بهدف أن يكون لدينا أي أمل في الهروب من الأزمتين الوجوديتين الأخرتين.

ومنذ كانون الثاني/يناير، نجح ترامب في جعل الأزمات الثلاث أسوأ. مسألة الأسلحة النووية على سبيل المثال، أصبحت أسوأ بكثير بفضل تصرفات ترامب. وبطبيعة الحال، فإن الأزمة البيئية تزداد سوءًا، ذلك أن ترامب يتجه الآن نحو زيادة الاعتماد على استخدام الوقود الأحفوري الأخطر، ويضيق على محاولات التقليل من ذلك عبر ممثليه عند وكالة حماية البيئة وآخرين، كما يضيق على الجهود الساعية إلى التخفيف من حدة الأزمة من خلال الوسائل التنظيمية.
أما الديمقراطية، شأنها واضح جدًا. قد أفرغت السلطة التنفيذية أساسًا من الأصوات المستقلة. ولم يبق سوى المتملقين مع شعارات مثل “نحن أرسلنا الله لإنقاذ اسرائيل”.

أما المفتشين الذين فرضهم الكونغرس، لرصد المخالفات من الهيئات التنفيذية، فقد تم انتقائهم كذلك. والواقع أن ترامب بذل كل ما في وسعه لإذلال السناتور الجمهوري البارز تشارلز غراسلي، الذي أمضى معظم حياته المهنية في فرض هؤلاء المراقبين. أما محامي المنطقة الجنوبية من نيويورك الذي حاول النظر داخل مستنقع ترامب قد انتهى به الأمر إلى الطرد.
كان الكونغرس، المدار حاليا بواسطة ماكونيل، يُدعى أعظم هيئة للشورى في العالم. والآن هو بمثابة نكتة. لا يقوم بأيّ شورى ولا يفعل شيئًا أساسًا سوى محاولة تدبير أكبر عدد ممكن من تعيينات القضاة الشباب اليمينيين المتطرفين حتى يتمكنوا من حزم السلطة القضائية لجيل كامل. بالإضافة إلى إيجاد طرق لضخ الأموال في جيوب الأغنياء، كما حدث عند الفضيحة الضريبية. هذا هو مجلس الشيوخ، أعظم هيئة شورى. أما مقترحات مجلس النواب بشأن التشريع فيقابلها ماكونيل بالطرد، ولا يلقي بالًا، وكأن هذا ليس دور مجلس الشيوخ.

بالعودة إلى موضوعنا، لهذا السبب أرى أنه يجب وضع ساعة انتهاء العالم على واجهة كل صحيفة. علينا أن نعي ما الذي تفعله الولايات المتحدة بنفسها والعالم. يجب أن يكون هذا محط انتباه الجميع، وثمة العديد من الأشياء الأخرى الواجب القيام بها. مثل احتجاجات كبيرة، في كل مكان، اعتراضا على استخدام القوة العسكرية لاحتلال المدن الأمريكية وسحق المنشقين السلميين. وهذا أمر لا يمكن تحمله في أي ديمقراطية فعالة. لا يمكننا الجلوس ومشاهدة ذلك يحدث، ترك ذلك يعني المضي خطوة خطوة نحو كارثة حقيقية.

المصدر موقع الديموقراطية

اقرأ أيضًا: مترجم، عالم ما بعد فيروس كورونا للكاتب يوفال نوح حراري

كيف تؤجج اللامساواة نار وفيات كورونا ؟

كيف تؤجج اللامساواة نار وفيات كورونا ؟

على الرغم من أن عدد سكان الولايات المتحدة والبرازيل والمكسيك مجتمعين لا يتجاوز 8.3% من إجمالي سكان العالم، إلا أن وفيات هذه الدول الثلاث جراء فيروس كورونا المستجد تشكل 64% من وفيات العالم بأكمله.
كما أن وفيات ثلاث دول أوروبية (بريطانيا و إسبانيا وإيطاليا) تشكل 60% من وفيات أوروبا. على الرغم من أن مجموع سكانها لا يتجاوز 38% من سكان القارة. إذ نجد أعداد وفيات أقل بشكل ملحوظ في دول شمال ومنتصف أوروبا مقارنة بهذه الدول الثلاث.

ثمة عوامل عدة مسؤولة عن معدل الوفيات جراء مرض COVID-19، منها: كفاءة القيادة السياسية، ومدى مناسبة استجابة الحكومة للأزمة، وتوافر الأسرّة لاستقبال المرضى في المستشفيات، وأوضاع السفر الدولي، بالإضافة إلى هيكل الفئات العمرية للسكان.
ومع ذلك، يبدو أن ثمة سمة هيكلية عميقة تلعب الدور في تشكيل هذه العوامل، ألا وهي دخل البلاد وتوزيع الثروة.

تملك الولايات المتحدة، بالإضافة إلى البرازيل والمكسيك ارتفاعًا في المدخول يصاحبه عدم مساواة في توزيع الثروة. حسب البنك الدولي فإن معامل جيني (وهو مقياس لعدالة توزيع الدخل تعني عنده علامة 100 عدم مساواة كاملة، وعلامة 0 المساواة التامة في الدخل) للسنوات الأخيرة (2016-2018) كان يساوي 41.4 في الولايات المتحدة، و53.5 في البرازيل، أما في المكسيك فكان 45.9.

للولايات المتحدة معامل جيني الأعلى بين الاقتصادات المتقدمة، بينما تعد البرازيل والمكسيك بين الأكثر ارتفاعا في عدم المساواة على الإطلاق.
أما في أوروبا، فتسجل إيطاليا وإسبانيا وبريطانيا: 35.6 و 35.3 و 34.8، على التوالي في معامل جيني، وبذلك تفوق نظيراتها الشمالية والشرقية، مثل فنلندا (27.3)، النرويج (28.5) ، الدنمارك (28.5)، النمسا (30.3) ، بولندا (30.5)، والمجر (30.5).

من الجدير بالذكر أن الارتباط بين معدلات الوفيات لكل مليون وعدم المساواة في الدخل، بعيد عن أن يكون الإجابة المثالية؛ ذلك أن عوامل أخرى ذات أهمية كبيرة يجب أخذها بعين الاعتبار.
على سبيل المثال، يعتبر مقدار عدم المساواة في فرنسا على قدم المساواة مع ألمانيا، لكن معدل وفيات COVID-19 عندها أعلى بكثير. كما أن معدل الوفيات في السويد أعلى بكثير مما هو عليه في جيرانها، رغم أنها تتمتع بالمساواة بشكل أعلى نسبياً، لأن السويد قررت الحفاظ على سياسات الإبعاد الاجتماعي طوعية بدلاً من إلزام المواطنين بها. وسجلت بلجيكا -التي تقوم نسبياً على المساواة- معدلات وفاة عالية جدًا، ويرجع ذلك جزئيًا إلى قرار السلطات بالإبلاغ عن حالات الوفاة المحتملة جنباً إلى جنب مع حالات الوفاة المؤكدة بـCOVID-19.

إن ارتفاع عدم المساواة في الدخل كارثة اجتماعية من نواح عديدة. كما ذكرت (كيت بيكيت) و(ريتشارد ويلكنسون) بشكل مقنع في كتابين مهمين، “مستوى الروح”و”المستوى الداخلي”. إذ يؤدي ازدياد عدم المساواة بالمجمل إلى تدهور الظروف الصحية العامة، ما يزيد بشكل كبير من احتمالية الوفاة جراء COVID-19.

علاوة على ذلك، يؤدي ارتفاع مستوى عدم المساواة إلى انخفاض التماسك والثقة الاجتماعيين، بالإضافة إلى المزيد من الاستقطاب السياسي، وكل ذلك يؤثر سلبًا على قدرة الحكومات واستعدادها لاعتماد تدابير رقابية قوية. فإن عدم المساواة المرتفع يعني أن نسبة أكبر من العمال ذوي الدخل المنخفض -من عمال النظافة والصيارفة والحراس وعمال التوصيل والصرف الصحي وعمال البناء وعمال المصانع – عليهم أن يستمروا في حياتهم اليومية، حتى في ظل خطر التعرض للإصابة. يعني كذلك المزيد من الأشخاص ممن يعيشون في البيئات المزدحمة، وبالتالي المزيد ممن لا يقدرون على عزل أنفسهم عن خطر الوباء.

يشكل القادة الشعبويون سببًا لتفاقم العواقب الوخيمة لعدم المساواة.
قد انُتخب كل من الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، والرئيس البرازيلي يير بولسونارو، ورئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون من قبل مجتمعات تعاني عدم التساوي، والانقسام الاجتماعي، بدعم العديد من الناخبين الساخطين من الطبقة العاملة (عادة ما يكونون من الرجال البيض والأقل تعليماً، ممن يسخطون علی وضعهم الاجتماعي والاقتصادي المتدهور). لكن سياسة الاستياء هذه تصطدم بسياسة السيطرة على الوباء. ذلك أن سياسة الاستياء تتجنب رأي الخبراء، وتستخف بالأدلة العلمية، وتسخط على علية القوم الذين يطلبون منهم عبر الإنترنت التزام المنزل بينما هم لا يملكون رفاهية فعل ذلك.

تعاني الولايات المتحدة من عدم التكافؤ، والانقسام السياسي بشكل كبير جدًا، وتدار بطريقة سيئة للغاية في ظل حكم ترامب لدرجة أنها تخلت بالفعل عن أي استراتيجية وطنية متماسكة للسيطرة على التفشي. إذ نقلت جميع المسؤوليات إلى حكومات الولايات كل على حدى وإلى الحكومات المحلية، والتي تركت لتدفع الخطر عن نفسها بمفردها.
وصل الأمر أنه في بعض الأحيان، قد لجأ المتظاهرون اليمينيون المدججون بالسلاح إلى الاحتشاد في عواصم الولايات لمعارضة القيود المفروضة على النشاط التجاري والتنقل الشخصي. حتى الكمامات لم تسلم من التسييس: ذلك أن ترامب يعارض ارتداءها، وكان قد اعتبر مؤخرا أن بعض الناس يفعلون ذلك لمجرد التعبير عن معارضته. والنتيجة أن أتباعه يصرون علی عدم ارتداءها، وأن الوباء، الذي بدأ في الولايات الديمقراطية، يضرب الآن قاعدة ترامب في الولايات الجمهورية بشدة.

علاوة على ذلك، تحاكي سياسة البرازيل والمكسيك السياسة الأمريكية. ذلك أن بولسونارو والرئيس المكسيكي أندريس مانويل لوبيز أوبرادور هم شعبويون بطريقة تشبه ترامب، فهم يسخرون من الفيروس، ويزدرون مشورة الخبراء، ويستيهينون بالمخاطر، ويرفضون إجراءات الحماية الشخصية أشد الرفض. ويأخذون بيد بلادهم إلى كارثة مشابهة لتلك التي خلقها ترامب.

وباستثناء كندا وأماكن قليلة أخرى، دمرت دول أمريكا الشمالية والجنوبية بسبب الفيروس، لأن نصف الكرة الأرضية الغربي بأكمله تقريبًا يتشارك في إرث من عدم المساواة والتمييز العنصري. وحتى تشيلي التي تتمتع بحكم جيد، سقطت ضحية للعنف وعدم الاستقرار في العام المنصرم، بسبب عدم المساواة الشديد والمزمن. في هذا العام، كانت تشيلي (إلى جانب البرازيل وإكوادور وبيرو) من أعلى الدول في العالم في معدلات الوفاة جراء COVID-19

كما أسلفنا، ليس عدم المساواة هو الحكم النهائي. فالصين غير متكافئة إلى حد ما ( 38.5 درجة في مقياس جيني)، لكن حكوماتها الوطنية والمحلية تبنت إجراءات رقابة صارمة بعد التفشي الأول في مدينة ووهان، وكبحت انتشار الفيروس. أدى التفشي الأخير في بكين، بعد أسابيع من عدم تسجيل حالات مؤكدة جديدة، إلى تجديد عمليات الإغلاق والفحص.

ومع ذلك، نشهد مرة أخرى في معظم البلدان الأخرى العواقب الوخيمة لعدم المساواة الجماعية: الإدارة غير المستقرة، وانعدام الثقة الاجتماعية، ووجود أعداد كبيرة ممن لا يستطيعون حماية أنفسهم من الأخطار المحدقة. وما يثير القلق، أن الوباء نفسه يفاقم حالة عدم المساواة بشكل أكبر.

فبينما يزدهر الأغنياء الآن عن طريق العمل عبر الإنترنت (ارتفعت على سبيل المثال، ثروة جيف بيزوس مؤسس أمازون بمقدار 49 مليار دولار منذ بداية العام، بفضل التحول الملحوظ إلى التجارة الإلكترونية)، يفقد الفقراء وظائفهم ومعها صحتهم وحيواتهم. ومن المؤكد أن عواقب عدم المساواة ستأخذ في الازدياد، إذ تعمل الحكومات المتعطشة للإيرادات على تقليص الميزانيات والخدمات العامة الضرورية للفقراء.

لكن لكل شيء ثمن. ففي غياب حكومات متماسكة وجديرة بالثقة بوسعها إبداء استجابة وتنفيذ استراتيجية وبائية جيدة ومستدامة من أجل الانتعاش الاقتصادي، سينزلق العالم لمزيد من موجات عدم الاستقرار الناتجة عن المزيد من الأزمات العالمية.

مترجم عن جيفري ساكس، أستاذ التنمية المستدامة والسياسة الصحية في جامعة كولومبيا.

المصدر:

project-syndicate

تاريخ العنصرية في امريكا

تاريخ العنصرية في امريكا

توالت الممارسات العنصرية في الولايات المتحدة الأمريكية منذ الوهلة الأولى لتأسيسها. وطالت هذه الممارسات العديد من الأعراق والأجناس كالهنود الحمر والأمريكيين ذوي الأصل الياباني والأمريكيين ذوي الأصل الأفريقي وتنوعت أهدافها ما بين الاستغلال الاقتصادي والسعي لإثبات فكرة سمو العرق الأبيض وتميزه عن سواه من الأعراق. في هذا المقال سنأخذك في جولة تاريخية تتعرف فيها عن نماذج من تاريخ العنصرية في امريكا.

 العنصرية ضد السكان الأصليين

بمجرد وصول المستكشفون الأوربيون لشواطئ أمريكا الشمالية، قام الوافدون الجدد على المنطقة بسلسة أعمال ممنهجة لإخضاع السكان الأصليين وغزو أراضيهم. أعتقد الأوربيون بأن السكان الأصليين متوحشون ووثنيون فسعوا إلى إجبارهم على اعتناق مبادئ الحضارة الأوروبية ونشر التعاليم المسيحية بالقوة. أدت تلك الأعمال إلى إبادات جماعية بحق السكان الأصليين وتهجيرهم من أراضيهم إضافة إلى محاولات القضاء على الإرث الثقافي للسكان الأصليين  فضلاً عن الاستيعاب القسري من خلال مؤسسات مثل المدارس السكنية وإنشاء “المحميات الهندية”. بالإضافة إلى ذلك ، سعوا إلى تكوين صور نمطية من خلال الأعمال السينمائية ووسائل الإعلام على أن السكان الأصليين متوحشون ومتعطشون للدماء وذلك تبريرًا لجرائمهم. وتُعد مجزرة غنادينهوتن من أشهر المجازر التي اُرتكبت بحق الهنود الحمر. فنتيجة للازدراء والعنصرية المتزايدة ضد السكان الأصليين ، أقدمت مجموعة من رجال الميليشيات البيضاء  في عام 1782على قتل 96 من هنود ديلاوير المسيحيين في ولاية  بنسالفينيا، حيث قاموا بضربهم حتى الموت باستخدام مطرقات خشبية وفؤوس. ولكي تتخيل عزيزي القارئ حجم المجازر التي ارتكبت بحق السكان الأصليين يكفي أن تعرف الإحصائية التالية: أصدرت حكومة الولايات المتحدة الأمريكية أكثر من 1500 تصريح لشن الحروب والغارات على الهنود الحمر ونتيجة لذلك تقلص عدد سكان الهنود الحمر مع نهاية آخر حرب في آواخر القرن التاسع عشر إلى 283000 نسمة وذلك من أصل حوالي 5 مليون إلى 15 مليون نسمة من السكان الأصليين الذين كانوا يعيشون في أمريكا الشمالية عندما وصل إليها المستكشف كولومبس عام 1492.

مجزرة غنادينهوتن عام 1782

جماعة كو كلوكس كلان العنصرية

تأسست جماعة «جماعةكو كلوكس كلان-ku klux klan» -أو ما تُعرف اختصارًا ب«KKK»- إبان الحرب الأهلية الأمريكية التي انتصر فيها الشمال على الجنوب. جاء تأسيس هذه الجماعة كردة فعل على قوانين إلغاء العبودية التي سنتها الحكومة الاتحادية الأمريكية وتمددت لتشمل كل ولاية جنوبية تقريبًا بجلول عام 1870 وأصحبت رمزًا لمقاومة الجنوبيين لسياسات عصر إعادة الإعمار التي تبنها الحزب الجمهوري آنذاك والتي تهدف لتحقيق المساواة السياسية والاقتصادية لذوي البشرة السوداء. وشن أعضاؤها حملات سرية من الترهيب والعنف موجهة ضد الزعماء الجمهوريين البيض والسود على حدٍ سواء. وعلى الرغم من تمرير الكونغرس قانونًا يهدف إلى الحد من إرهاب جماعة كلان، إلا أن الجماعة رأت أن هدفها الأساسي -استعادة سيادة البيض -تحقق من خلال الانتصارات الديمقراطية في المجالس التشريعية للولايات عبر الجنوب في سبعينيات القرن التاسع عشر. بعد فترة من التراجع، أعادت الجماعات البروتستانتية البيضاء إحياء كلان في أوائل القرن العشرين، وأحرقت الصلبان وشهدت مسيرات واستعراضات ومسيرات تدين المهاجرين والكاثوليك واليهود والسود والعمل المنظم. وشهدت حركات الحقوق المدنية في ستينيات القرن الماضي ارتفاعًا في العنف من قبل جماعة كو كلوكس كلان ،بما في ذلك قصف المدارس والكنائس السوداء والعنف ضد النشطاء البيض والسود في الجنوب.

تاريخ العنصرية في امريكا

نشأة جماعة كو كلوكس كلان ونزعتها الدينية المتطرفة

أُعلن عن تأسيس أول فرع لجماعة كو كلوكس كلان عام 1866 في مدينة بولاسكي بولاية تينيسي الأمريكية. ووقف خلف تأسيس الجماعة من يُسمون أنفسهم بالمحاربين القدامى وأعضاء الجيش الكونفدرالي الذين قاتلوا السود في الحرب الأهلية وكانوا يرفضون إعادة توحيد الولايات المتحدة.  وفي صيف عام 1867، التقت الفروع المحلية للجماعة في مؤتمر تنظيمي وأسست ما أطلقوا عليه “إمبراطورية الجنوب غير المرئية”. اختار المؤسسون الجنرال الكونفيدرالي الرائد ناثان بيدفورد فورست كأول زعيم للجماعة وكان يُطلق عليه لقب “المشعوذ العظيم” و يرجع أصل تسمية هذه الجماعة إلى الكلمة اليونانية «kyklos» والتي تعني حلقة أو دائرة. عُرفت الجماعة بطابعها الديني المتشدد حيث كانت تستفتح مؤتمراتها بحرق الصليب ويرتدي أعضاؤها زي الأشباح مع قناع ذي شكل مخروطي حتى يظن السود أن أرواح جنود الكنفدراليين القتلى ظهرت لتنتقم منهم. ومع مرور الوقت خفت بريق هذه الجماعة نتيجة لتضييق الحكومة والقوانين عليهم حتى أتى القسيس «وليام جوزيف سيمونز-William Joseph Simmons» الذي أعاد الحياة إلى جماعة كلان وتضاعف أعداد الجماعة حتى وصلت إلى ذروتها في عشرينيات القرن الماضي بحوالي خمسة مليون عضو وهذا رقم كبير مقارنةً بعدد سكان الولايات المتحدة الأمريكية في ذالك الوقت. أطلق القسيس جوزيف سيمونز على نفسه لقب المشعوذ الإمبراطوري وألّف كتاب يعتبر بمثابة الكتاب المقدس ُيدعى «كلوران-Kloran» ويحتوي على تشريعات وطقوس خاصة بالجماعة وأيضًا مراسيم الاجتماعات والحفلات.

طقوس جماعة كو كلوكس كلان

قوانين جون كرو

وهي عبارة عن مجموعة من القوانين الحكومية والمحلية التي شرعت الفصل العنصري. يُعود أصل تسميتها إلى شخصية هزلية متخلفة لتعمم الفكرة بأن كل السود على هذه الشاكلة. استمرت هذه القوانين منذ حقبة ما بعد الحرب الأهلية حتى عام 1968 وكانت تهدف إلى تهميش الأمريكيين ذوي الأصل الأفريقية من خلال حرمانهم من الحق في التصويت أو الوظائف أو الحصول على التعليم أو غيرها الفرص. غالبًا ما واجه أولئك الذين حاولوا تحدي قوانين جيم كرو الاعتقال والغرامات والعقوبات بالسجن والعنف والموت. تعددت أساليب الفصل العنصري في مختلف الولايات الأمريكية إذ كانت بعض الولايات تمنع ركوب ذوي البشرة السوداء مع الأمريكيين البيض في المواصلات العامة وكانت هناك مرافق مخصصة لذوي البشرة السوداء ويمنع عليهم مشاركة البيض المأكل والمشرب ودورات المياه والمدارس. وبعض الولايات خصصت مقطورات محددة من القطار للسود ودور سينما وكراسي انتظار مقسمة على أساس اللون.

الفصل العنصري في دورات المياه

العنصرية ضد الأمريكيين من أصل ياباني

قصف سلاح الجو الياباني ميناء “بيرال هاربور” في هاواي عام 1941 وأعقب ذلك القصف حملات عنصرية ضد الأمريكيين ذوي الأصل الياباني في سيناريو مشابه لما حدث للمسلمين في أمريكا بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر. أصبح الأمريكيون اليابانيون أهدافًا للمضايقة والتمييز والمراقبة الحكومية باعتبارهم جواسيس للإمبراطور الياباني آنذاك. لم يقف الأمر عند هذا الحد، ففي عام 1942 وقع الرئيس الأمريكي فرانكلين روزفلت أمرًا تنفيذيا يسمح باعتقال الأمريكيين اليابانيين واعتبرهم أعداء للدولة. أُرسل أكثر من نصف 120 ألف أمريكي ياباني إلى المخيمات بالرغم من أنهم ولدوا وترعرعوا في الولايات المتحدة ولم تطأ أقدامهم أبدًا أرض اليابان وكان نصف الذين أرسلوا إلى المخيمات من الأطفال. ووفقًا لتقرير نشرته هيئة نقل الحرب والتي كانت تدير المخيمات عام 1943 أنه تم إيواء الأمريكيين اليابانيين في “ثكنات مغطاة بطبقة من الهيكل البسيط وبدون سباكة أو مرافق للطبخ “. هذه المساكن المكتظة كانت قاتمة ومحاطة بأسلاك شائكة حتى أن الرئيس روزفلت نفسه  أطلق عليهن اسم معسكرات الاعتقال. يمكنك مشاهدة تلك المعسكرات عزيزي القارئ في الموسم الثاني مسلسل «The Terror».

المصادر

history1

history2

history3

washingtonpos

britannica

The Reconstruction Era

legacy

من جورج فلويد إلى الدمى السوداء، هل تحققت المساواة حقًا في أمريكا؟

من جورج فلويد إلى الدمى السوداء، هل تحققت المساواة حقًا في أمريكا؟ ما بين صرخة مارتن لوثر كينج الإبن: “عندي حلم :I have a dream”، وصرخة جورج فلويد تحت أقدام الشرطي الأمريكي في 25 مايو 2020: “لا أستطيع التنفّس :I can’t breath” أكثر من نصف قرن، تخللتها أحداث كبرى، اعتقد البعض فيها أن العنصرية قد انتهت بالكامل، لتوقظ صرخات جورج أمريكا على كابوس مُفزع حاول السياسيون الأمريكيون واحدًا تلو الآخر حجبه عن الشعب الأمريكي بشتى الطرق. الواقع الأمريكي يقول أن المساواة قد أصبحت كاملة بين البيض والسود، إذ وصل باراك أوباما الأمريكي من أصول أفريقية للحكم في 2009 ليصبح الرئيس رقم 44 للبلاد وقضى فترتين رئاسيتين حتى 2017، فكيف وصلنا إلى جورج فلويد؟ أو كما يُعنون مقالنا، من جورج فلويد إلى الدمى السوداء، هل تحققت المساواة حقًا في أمريكا؟ دعونا نضع الأمور في نصابها أولاً، ونفهم سبب الانتفاضة الحالية.

خطبة مارتن لوثر كينج جونيور i have a dream

لماذا انتفض الأمريكيين من أصل أفريقي الآن تحديدا؟

بجانب حادث فلويد، هناك عوامل اقتصادية أيضًا، فالكورونا تلقي بظلالها على الأحداث. فقد ملايين الأمريكيين وظائفهم، إذ وصل معدّل البطالة في أبريل 2020 حوالي 14.7% وبالطبع كان للأمريكيين من أصول أفريقية نصيب أكبر من غيرهم، فهم يعانون من التمييز بسبب العرق في الوظائف، فبالرغم من أن السود يمثلون 1 إلى 8 من السكان، إلا أنهم يمثلون رُبع الفقراء في الولايات المتحدة الأمريكية. فمن لا يملك مدخرات كافية تساعده بعد فقدان وظيفته سيعاني بشده حتى يحصل على وظيفة جديدة لقلة المعروض، وهو ما يمثل ضغطًا شديدًا على الكثير من الأسر الأمريكية من أصل أفريقي أكثر من غيرها، لكن هل هو الجانب الاقتصادي وحده أم أن هناك جوانب أخرى تحتاج لتسليط الضوء عليها؟ هل المشكلة في القوانين؟ أم في التركيبة السكانية؟ أم هو اليمين الأمريكي المحافظ؟ أم هي التركيبة النفسية للجماهير؟

التعليم

قد تتعدد المشكلات والأسباب وراء حادث جورج فلويد، لكن دعنا نضع أصابعنا في هذا المقال على جانب قد يغيب على الكثيرين، ألا وهو التعليم. وللتعليم في أمريكا أصول عنصرية قديمة وغريبة، وكما قال الرئيس الأمريكي جونسون في أحد مقولاته:

“التعليم ليس المشكلة، لكنه الفرصة”

إذن كيف أضاعت أمريكا تلك الفرصة؟

الفرصة التي أتاحتها الدمى السوداء

ليندا براون وطفليها

دائمًا ما نجد الدمى في محلات الألعاب أو بين أيدي الأطفال، ولكن دخلت بعض الدمى إلى واحدة من أكبر قاعات المحاكم احترامًا في الولايات المتحدة، وذلك في قضية تُعرف باسم “براون ضد مجلس التعليم” أو “Brown v. board of education”، القضية التاريخية لعام 1954 التي ألغت في نهاية المطاف الفصل العنصري تحت شعار “منفصل لكن متساوي” في الولايات المتحدة، سمع قضاة المحكمة العليا الحجج والمرافعات الشفوية وبحثوا في ملفات القضايا، لكن لم يمنعهم كل ما سبق من أن يعتبروا دمى لطفلين، أحدهما بيضاء والأخرى سوداء – أسلحة غير متوقعة في معركة مكافحة التمييز العنصري. كانت الدمى جزءًا من مجموعة من التجارب النفسية الرائدة التي قام بها الثنائي مامي وكينيث كلارك، وهما فريق يتكون من زوج وزوجة من علماء النفس الأمريكيين الأفارقة الذين كرّسوا عمل حياتهم لمكافحة التمييز العنصري ضد الأطفال وعلاجهم من آثاره.

سبب تسمية القضية يعود لفتاة تُدعى ليندا براون والتي قرر والدها أوليفر براون أن يقدّم لها في مدرسة صيفية للبيض فقط في توبيكا وهو ما قوبل بالرفض، مما دعاه لرفع القضية.

التجربة

أظهرت غالبية الأطفال الأمريكيين من أصل أفريقي تفضيلهم للدمى البيضاء بدلاً من الدمى السوداء خلال “اختبار الدمى”، وهو ما اعتبره كلاركس نتيجة للتأثيرات الضارة للفصل العنصري. ساعد عمل آل كلاركس وشهادتهما في القضية -التي أصبحت معروفة تاريخيًا باسم “قضية براون ضد مجلس التعليم”- قضاة المحكمة العليا بل والعالم كله على فهم بعض الآثار الباقية للفصل العنصري على الأطفال المتضررين. بالنسبة لكلاركس، أظهرت النتائج آثار مُدمّرة للحياة في مجتمع رافض للأمريكيين من أصل أفريقي. كانت تجربتهم، التي تضمنت دمى ذات بشرة بيضاء وأخرى سوداء، بسيطة بشكل مخادع ولم يتوقعه أحد.

د.دينيث كلارك يتابع أحد الأطفال الأمريكيين من أصل أفريقي وهو يختار في تجربة الدمي

كان على كلاركس دهن دمية بيضاء باللون البني من أجل الاختبارات، إذ لم تُصنع الدمى الأمريكية الأفريقية في ذلك الوقت بعد، ثم طُلب من الأطفال تحديد الدمى الأفضل بعدد من الأسئلة مثل: تلك التي يرغبون في اللعب بها، أو تلك التي تبدو “بيضاء”، أو “ملونة”، أو “زنجية”، أو “جيدة” أو “سيئة”. أخيرًا، طُلب منهم تحديد الدمية التي تشبههم تمامًا.

جميع الأطفال المُختبرين كانوا من السود بالطبع، وجميعهم باستثناء مجموعة واحدة التحقوا بمدارس منفصلة أي مدارس للسود فقط وفقا لقوانين عُرفت باسم قوانين جيم كرو للفصل العنصري، وتحديدًا قرار المحكمة المعروف باسم “براون الثاني”. فَضّل معظم الأطفال الدمية البيضاء عن الدمية الأفريقية. كان بعض الأطفال يبكون ويهربون من الغرفة عندما يُطلب منهم تحديد الدمية التي تشبههم، وهذه النتائج أزعجت الزوجين كلاركس لدرجة أنهم أخّروا نشر استنتاجاتهم.

هل كان قرار براون الثاني ضد الفصل العنصري أم معه؟

كان قرار براون الثاني مُصاغا للقضاء على التمييز العنصري وإلزام المقاطعات بمنح فرص تعليمية متساوية لمواطنيها دون تمييز عرقي، لكن بسبب ديباجة النص الفضفاضة ” … بأقصى سرعة ممكنة” والتي استخدمها بعض المتعصبين من أجل وقف تنفيذ القرار لسنوات والإضرار بالمواطنين الأمريكيين من أصل أفريقي.

كان لدى الزوجة مامي كلارك صلات مع النضال القانوني المتنامي لمكافحة الفصل العنصري، فقد عملت في مكتب أحد المحامين الذين ساعدوا في إرساء أسس قضية “براون ضد مجلس التعليم”. وعندما علمت (الجمعية الوطنية للنهوض بالملونين أو الأفارقة الأمريكيين) NAACP بعمل آل كلاركس، طلبوا منهم المشاركة في قضية ستُدرج لاحقًا في الدعوى الجماعية المرفوعة حينها إلى المحكمة العليا. لذا توجه الزوج كينيث كلارك إلى مقاطعة كلارندون بولاية كارولينا الجنوبية لتكرار تجربته مع الأطفال السود هناك. وذكر في وقت لاحق أنها كانت تجربة مرعبة، خاصة عندما تعرّض مضيفه NAACP للتهديد في حضوره. وقال د.كينيث كلارك عن تلك التجارب: “كان علينا أن نختبر هؤلاء الأطفال”. “لقد رأى هؤلاء الأطفال أنفسهم أقل شأنًا وقبلوا الدونية كجزء من الواقع”.

لم يكن إجراء تجربة الدمى بالمحكمة أمر سهل

كان ثورغود مارشال حريصًا على استخدام تجربة آل كلاركس في أكبر قضية جماعية وهي “براون ضد مجلس التعليم”، ولكن لم يقتنع الجميع. وكتبت المؤرخة مارثا مينو ما قاله المحامي الحقوقي سبوتسوود روبنسون وهو ممثل NAACP: “من الجنون والإهانة إقناع محكمة بدمى سخيفة”. لكن المحكمة لم توافقه الرأي. شهد كينيث كلارك في ثلاث من المحاكمات وساعد في كتابة ملخص لجميع استشهادات العلوم الاجتماعية للمحاكمات الخمس التي استُخدمت في قضية المحكمة العليا. وأخبر القضاة والمحلفين أن تفضيل الأطفال الأمريكيين من أصل أفريقي للدمى البيضاء يمثّل ضررًا نفسيًا عززه الفصل العنصري. وقال أمام هيئة المحلفين في قضية بريجز (إحدى القضايا المتفرعة من القضية الرئيسية “براون ضد مجلس التعليم”، “أرى أن التأثير الأساسي للفصل هو ارتباك وتضارب المفاهيم لدى الأفراد عن أنفسهم وصورهم الذاتية”. وآمن بأن الشعور بالنقص الناجم عن الفصل كان له عواقب حقيقية مدى الحياة – عواقب بدأت قبل أن يتمكن الأطفال من معرفة أي شيء حول العِرق. كان عمل وشهادة آل كلاركس جزءًا من قضية أوسع نطاقا جمعت خمس حالات وغطت تقريبًا كل جانب من جوانب الفصل العنصري المدرسي – بالرغم من ذلك، يعتقد بعض المؤرخين بأن اختبارات الدمى لعبت دورًا ضئيلًا نسبيًا في قرار المحكمة. لكن أصداء نتائج تجربة الدمى تكمن في الرأي الجمعي لقضاة المحكمة العليا.

قرار تاريخي

كتب رئيس المحكمة ايرل وارن في حكمه التاريخي: “فصل الأطفال السود من نفس العمر والمؤهلات عن الآخرين فقط بسبب العرق، يولّد شعورًا بالدونية فيما يتعلق بوضعهم في المُجتمع، وهو ما قد يؤثر على قلوبهم وعقولهم بطريقة يمكن أن تصبح غير قابلة للمحو”. ساعد عمل كلاركس في القضاء على الفصل العنصري في الولايات المتحدة. اليوم، تُعرض إحدى الدمى السوداء في موقع براون التاريخي ضد مجلس التعليم في كانساس. لكن تبقى التحيزات العنصرية التي وثقها الزوجان في ثلاثينيات وأربعينيات القرن العشرين موجودة.

فرصة مُهدرة!

في عام 2010 ، نفّذت الـ CNN نسخة حديثة من الدراسة باستخدام صور كرتونية للأطفال وشريط ألوان أظهر مجموعة من درجات لون البشرة – ووجدت نتائج مشابهة بشكل مذهل للنتائج التي أظهرتها تجربة كلاركس. في الاختبار الجديد، اختبرت باحثة تنمية الطفل مارجريت بيل سبنسر 133 طفلاً من مدارس تحوى مزيج عرقي وشرائح دخل مختلفين. نظرت الدراسة هذه المرة إلى الأطفال البيض أيضًا. وعلى الرغم مما بدا أن الأطفال السود لديهم وجهات نظر أكثر إيجابية تجاه الدمى السوداء، إلا أن الأطفال البيض حافظوا على انحياز شديد تجاه الصور البيضاء. تقول سبنسر للسي إن إن: “ما زلنا نعيش في مجتمع يقلل من قيمة السود ويرفع من قيمة البيض” . قد لا تكون قوانين جيم كرو العنصرية موجودة في نصوص القانون ومحاكم الولايات المتحدة اليوم، ولكن التحيز العرقي ما زال موجودًا ونرى آثاره ممتدة عبر الأجيال. أهدرت الولايات المتحدة نصف قرن منذ تلك التجربة لمعرفة أهمية القضاء على التمييز العنصري للمجتمع الأمريكي ومستقبله.

عنصرية الألفية الثالثة

تغيّرت بالطبع ثقافة الإنكار لدى الأمريكّيين العاديّين بشكلٍ كبير، وهو ما أثبتته دراسات استقصائيّة على مدى عقود عديدة ماضية، تُخبرنا بأنّ هناك قطّاعات كبيرة من الأمريكيّبن تعترف بتبنّي وجهات نظرٍ تمييزيّة حتّى في أمريكا الحديثة، فعلى سبيل المثال، واحد من كل عشرة أمريكييّن أقرّ بتحيزه ضد الأمريكيين من الأصول المختلفة. كما وجد استطلاع الإيكونومست عام 2018 أنّ 17٪ من الأمريكيين يعارضون الزواج بين عرقين مختلفين، و19٪ يعارضون الزواج من المجموعات العرقية “الأخرى”، و 18٪ يعارضون الزواج من السود، و17٪ يرفضون الزواج من البيض، و15٪ يرفضون الزواج من اللاتينيين. بل ويعتقد البعض أن قوانين المجمّع الانتخابي والمسؤولة عن انتخاب الرئيس الأمريكي هي بذاتها قوانين عنصرية، فهي تمنح بعض الولايات رغم عدد السكان الكبير وزن أقل في انتخاب الرئيس بالطريقة غير المباشرة بسبب نشأتها القديمة العنصرية. كما أن فرص العائلة الأمريكية من أصول أفريقية للمعاناة من الفقر هي ضعف فرص العائلات الأمريكية البيضاء أو الأمريكيين الأسيويين، وهو ما ينعكس بالطبع على الفرص التعليمية المتاحة لهم. تلك النتائج إن تدل، فهي تدل على عنصرية متجذّرة تحتاج لمواجهة مستمرة وإجراءات أقوى للقضاء عليها، قد تتباطأ فيها الولايات المتحدة وتحتاج لمحررين جدد للقيام بهذا الدور.

لا نعتقد بأن الأمر يقتصر على الولايات المتحدة الأمريكية، ولكن يحتاج الأمر لسرد في مقال آخر، فما رأيك عزيزي القارئ؟ إذا أجريت تجربة الدمى على أطفالك في بلدك أينما كنت، فأيهما سيختار، الدمية البيضاء أم السوداء؟

لماذا تأخذ الاحتجاجات السلمية منعطفا عنيفا؟

اشتعلت الولايات المتحدة الأمريكية مؤخرا بمظاهرات مناهضة للعنصرية وذلك بعد مقتل جورج فلويد، وهو رجل من العرق الأسود، على يد أحد رجال الشرطة. ورغم اعتبار أميركا إحدى أكثر الدول ديمقراطية وحرية، انتشرت أعمال عنف وشغب وتخريب بين المتظاهرين. يتناول مقالنا اليوم في ضوء هذه الأحداث سلوك الجماهير من وجهة نظر علم الاجتماع، كما سنناقش لماذا تأخذ الاحتجاجات السلمية منعطفا عنيفا؟

يندرج سلوك الجماهير في الاحتجاجات ضمن مايدعى في علم الاجتماع بالسلوك الجماعي، فماذا يعني ذلك؟!

يستخدم علماء الاجتماع هذا المصطلح لوصف السلوكيات البشرية العفوية نسبيا ضمن الحشود أو الحركات الاجتماعية أو أثناء الكوارث أو الأحداث الدارجة Trends or Fads أو في أوقات الذعر.

قد يبدو هذا التعريف سهلا لكنه في الحقيقة ليس كذلك، حيث نلاحظ أنه لا يصف ظاهرة أو مؤسسة محددة بعينها فالحشود تصف مجموعة من الناس أما الكوارث فهي حدث اجتماعي أو بيئي، أما الذعر فهو شعور أو حالة للفرد، أما الحركات الاجتماعية فهي نوع من المنظمات. وفي الحقيقة يطرح هذا التنوع تساؤلا هاما عما يربط هذه المجالات المختلفة مع بعضها؟!!

حسنا، يمكن أن نتفق أن السلوك الجماعي يصف المستجدات الطارئة على بيئة ما والغير محددة بقواعد ثقافية خاصة. لكي نوضح أكثر: فالكوارث البيئية حدث طارئ قد يخرج عن سيطرة المؤسسات المعنية ويهدد حياة الناس، فهنا إذا الحدث مستجد وتصرفات الأفراد بخصوصه ليست لها قواعد موضوعة مسبقا. أما التحركات الجماعية كتلك التي نجدها في المظاهرات: فقد تبدو منظمة لكنها حدث طارئ ولا يمكن التنبؤ بمساره وبالتالي ليست هناك قواعد محددة لسلوكيات الأفراد أو الجماعات ضمنه خاصة في حال حصول النزاعات.

حاول الباحثون على مدى سنين طويلة تفسير السلوك الجماعي عبر نظريات عدة ركزت أكثر على الحشود والحركات الاجتماعية وأعمال الشغب:

نظرية العدوى Contagion Theory

طور الباحث الفرنسي Gustave le Bon هذه النظرية عام 1895 حيث يطرح من خلالها أن السلوك الجماعي عاطفي وغير عقلاني وناجم عن تأثير الجماعة في الحشد. فعندما يكون الفرد لوحده يكون منطقيا، ولكن يصبح وكأنه منوم مغناطيسيا ضمن الحشود وبالتالي لايتحكم بوعيه وغرائزه ويمكن أن يصبح عنيفا ومتوحشا.

استمرت أصداء هذه النظرية حتى القرن العشرين، حيث تم نقدها من قبل باحثين اعتبروا أن السلوك الجماعي أكثر عقلانية مما اعتقده Le Bon، وأن الأفراد غير خاضعين للتأثير المعدي للحشد.

نظرية التقارب Convergence theory

تبعا لهذه النظرية فإن السلوك الجماعي ليس ناجما عن تأثير الحشود على الأفراد بشكل عاطفي، وإنما تقترح أن الحشد هو انعكاس للأفراد الذين ينضمون إليه. فعندما يطرأ حدث ما، سيرغب الأفراد بالتصرف بطريقة معينة و سيتقاربون مع اولئك الذين يشاركونهم المشاعر والرغبات ليعكس بذلك الحشد المتشكل منهم معتقداتهم.

على سبيل المثال، عندما يجتمع أفراد متطرفون دينيا، فقد يرتكبون أعمال عنف بدافع الكراهية تجاه مجموعات أخرى.

قد لا يقوم الفرد لوحده بأعمال العنف هذه، ولكن كما نجد في هذه النظرية فإن عنف الحشد في مثالنا السابق انعكاس لمعتقدات أفراده.

نظرية المعيارية الناشئة Emergent Norm Theory

تبعا ل Ralph H. Turner و Lewis M. Killian الذين عرضا هذه النظرية في منتصف القرن العشرين، لا يكون الناس أثناء التفاعل في السلوك الجماعي متأكدين من كيفية التصرف. وبينما يناقشون سلوكهم المحتمل والمسائل الأخرى ذات الصلة، تظهر القواعد التي تحكم سلوكهم، ومن ثم يقوم الانضباط الاجتماعي والعقلانية بتوجيه السلوك.

إذا تعتبر هذه النظرية السلوك الجماعي أكثر عقلانية من نظرية العدوى. لكنها تنظر إليه على أنه أقل قابلية للتنبؤ به مما تقترحه نظرية التقارب، حيث تفترض أن الناس لا يتشاركون بالضرورة المعتقدات والنوايا قبل انضمامهم إلى الحشد.

نظرية القيمة المضافة Value-Added Theory

طرح Neil Smelser هذه النظرية عام 1963 لتصبح أكثر تفسيرات السلوك الجماعي شيوعا وتأثيرا. وتقترح نظرية القيمة المضافة أن الحركات الاجتماعبة وأشكال السلوك الجماعي الأخرى تظهر فقط عند ظهور عدة حالات معينة ك:

الإجهاد الهيكلي Structural starain أو ما يمكن أن ندعوه كذلك بالضغط الاجتماعي: فالقيود الخاصة بهيكلية المجتمع قد تدفع الناس للغضب والإحباط وتشكيل حركات اجتماعية.

المعتقدات العامة: وهي المعتقدات التي يتشاركها الناس حول أسباب المشاكل وطرق حلولها، فإذا اجتمعوا على أن هذه المشاكل هي ذنبهم أو أن الاحتجاج لن يقوم بحلها، فلن يقوموا بالتظاهر.

ظهور عوامل طارئة: فالأحداث الفجائية قد تشعل فتيل السلوك الاجتماعي، كانتشار أخبار عن حوادث عنف للشرطة في المدن تجاه الناس.

نقص السيطرة الاجتماعية: يكون السلوك الجماعي أكثر احتمالا عندما لا يتوقع الأفراد الذين ينوون المشاركة القبض عليهم أو إيذائهم أو معاقبتهم.

تم انتقاد هذه النظرية لكونها غامضة فهي مثلا لا توضح مدى الضغط الاجتماعي الواجب وجوده حتى تظهر الحركات الاجتماعية. كما وجد أن السلوك الاجتماعي لا يقتصر على الشروط التي ذكرها Smelser.

حسنا، نأمل أن نكون قد وضحنا السلوك الاجتماعي وتفسيراته العامة قبل أن ننتقل لنقطة أكثر تحديدا: السلوك العدائي ضمن المظاهرات والاحتجاجات

لماذا تتحول الاحتجاجات السلمية إلى عنيفة؟!

حسنا سنقوم بتفسير أعمال العنف والشغب بناء على آراء العديد من الخبراء:

دور الشرطة في تحريض العنف:

إن ردة فعل الشرطة تجاه الاحتجاجات وعلاقتهم مع المجتمع المحلي مهمة جدا، حيث يمكن للعناصر المدربة جيدا تجنب حصول العنف في المظاهرات ومثالا على ذلك: انضمام عناصر الشرطة في كامدن ونيوجيرسي في أميركا للمحتجين في مسيرهم المناهض للعنصرية وذلك في سياق الأحداث الراهنة في الولايات المتحدة الأمريكية.

من جهة أخرى، يمكن أن تشعل عدة مواجهات بسيطة مع الشرطة فتيل التوتر، خصوصا مع كون الشرطة تتصرف بكلية (وحدة متجانسة) تجاه الحشود، مما قد يعزز فكرة ( هم ضدنا) في عقول المتظاهرين خاصة مع شعورهم بأن عنف الشرطة غير مبرر وقد يكسبهم شعورا بأن العنف بحد ذاته شرعي في مثل هذه الظروف.

إذا، هل تعتقد بعد كل هذا أن العنف في المظاهرات ناجم عن مجرد فعل ورد فعل بين الجماهير والشرطة؟ حسنا، قد يكون هذا أعقد من ذلك بقليل.

قام Jonathan Pinckney (وهو باحث في المقاومة غير العنيفة والديمقراطية والعنف السياسي) بدراسة بيانات من قاعدة بيانات الحملات العنيفة وغير العنيفة ونتائجها NAVCO 3.0 Dataset، وأيضا دراسة ثلاث حالات مقارنة، ليجد بذلك أن احتمال تحول التظاهرات السلمية إلى عنيفة يرتفع مع زيادة معدل القمع بشكل مستمر على فترة طويلة من الزمن. مما يوضح بأن هذه الانعطافات العنيفة ليست مجرد ردة فعل عاطفية، وإنما ناجمة عن تراكمات محسوبة داخل الوعي مع الزمن.

دور وجهات النظر الأخلاقية:

عندما نشاهد شيئا لا أخلاقيا، تتولد بداخلنا مشاعر قوية بوجوب حماية فهمنا للأخلاق

Marloon Moojiman: أستاذ مساعد في قسم السلوك المنظم في جامعة رايس

عندما تشعر أن شيئا أو نظاما ما معطلا، ستود أن تفعل شيئا صارما لتظهر أن ذلك غير مقبول. فعلى سبيل المثال: في الحالات المتطرفة من الشغب يظن شخص ما أن الإجهاض عمل مناف للأخلاق، فيقوم بحرق عيادة للإجهاض. وقس على ذلك.

وإن لوسائل التواصل الاجتماعي في زمننا الحالي دورا في إكساب القضايا صفة أخلاقية وتصعيد وتيرة العنف. وفي هذا السياق قام باحثون في معهد Brain and creativity بدراسة على 18 مليون تغريدة على تويتر في فترة الاحتجاجات في بالتيمور 2015، حيث ارتفعت معدلات الاعتقال عند رواج التغريدات ذات الخطاب الأخلاقي وتضاعف العنف تقريبا بالتزامن مع انتشار ذلك الخطاب.

التنازلات الحكومية:

تبعا ل Jonathan Pinckney، ترتبط التنازلات الحكومية بانهيار حالة السلم، ربما لأنها تقسم الحركات إلى معتدلين ومتطرفين. حيث يحاول المتطرفون إثبات أنفسهم من خلال العنف.

دور التنظيم:

قد تظن أن الحملات الأكثر تنظيما هي الأكثر سلمية، تبعا ل Pinckney فإن البيانات تشير لعكس ذلك، فالحملات ذات الهيكلية الهرمية والغير واضحة الخلافات أكثر عرضة للعنف من تلك ذات الهيكلية المتوازية ( غير الهرمية) والتي توضح خلافاتها السياسية. حيث أن روح المشاركة والنقاش تسهل من الحفاظ على حالة السلم.

النهب والتخريب كجزء من الاحتجاج:

كثيرا ما نتساءل عن سبب النهب والتخريب في الاحتجاجات، وحسب الباحثين قد يكون هذا الفعل جزءا من الاحتجاج.

تبعا ل بروفسور Clifford Stott ( خبير في سلوك الجماهير وشرطة النظام العام في جامعة كيلي) فإن ” النهب تعبير عن القوة، فمثلا قد يشعر الشرطة المواطنين السود بانعدام القوة، لذا يصبحون أكثر قوة من الشرطة أثناء أعمال الشغب”.

وأيضا يناقش Stott أن دراسات لأعمال شغب سابقة تشير لكون المحلات التي يتم نهبها تابعة لأعمال كبرى، وهنا برتبط النهب بالشعور بعدم المساواة في مجتمع رأسمالي.

ما يؤيد وجهة النظر هذه قيام المتظاهرين في أعمال الشغب في لوس أنجلوس عام 1992 بطلاء محلات الأقليات بطلاء خاص ليتجنب الناس تخريبها.

إذا، ترتبط أعمال النهب والتخريب بعاطفية الأحداث ونمطها بالنسبة للناس. حيث قد يميل الناس في الأحداث السياسية الصرفة التي لا تنطوي على التمييز الاجتماعي للصدام مع الشرطة أو تحطيم نوافذ المحال، لكن قد لا يقومون بالنهب.

بالتأكيد، الأمر معقد وخاصة مع اختلاف دوافع الناس وفروقاتهم الفردية، فقد يتم استغلال الأحداث من قبل الفئات الإجرامية المشاركة.

المصادر:

MIT

UMN

Political Violince at a glance

Psychological today

BBC

كارل ماركس والفرق بين الشيوعية والاشتراكية ؟

بعد مرور أكثر 200 عام على مولد الفيلسوف والاقتصادي الشهير كارل ماركس والمرتبط اسمه بالشيوعية التي غيرت من شكل عالمنا المعاصر قد تفاجأ بعدم وجود أي دولة شيوعية في تاريخ العالم بأكمله! وما الفرق بين الشيوعية والاشتراكية ؟

هناك دول وصفت نفسها بأنها شيوعية مثل الصين وكوريا الشمالية لكن تعريفيا لم توجد أبدًا دولة قائمة على المبادئ الشيوعية كاملة، إذن:

  • فمن هو كارل ماركس؟
  • وما هي الشيوعية؟
  • وما علاقتها بالاشتراكية؟
  • وما الفرق بين الشيوعية والاشتراكية؟

«لا يكفي تفسير العالم بل يجب تغييره».

من هو كارل ماركس؟

«كارل هاينريش ماركس-Karl Heinrich Marx» ولد في 5 مايو 1818 بمدينة ترير، مقاطعة الراين، في بروسيا [ألمانيا] وتوفي في 14 مارس 1883 بلندن، إنجلترا، وهو فيلسوف، واقتصادي، وعالم اجتماع، ومؤرخ، وصحفي واشتراكي ثوري. لعبت أفكاره دورًا هامًا في تأسيس علم الاجتماع وفي تطوير جميع الأنظمة الاشتراكية، ويعد أحد أعظم الاقتصاديين في التاريخ، نشر العديد من الكتب خلال حياته أهمُها بيان الحزب الشيوعي (1848) -مع فريدريك إنجلز- و كتاب رأس المال (1867–1894).

كارل ماركس

تدرب ماركس أولا ليصبح فيلسوف ثم تحول عن الفلسفة في منتصف العشرينات من عمره نحو الاقتصاد والسياسة، ورغم انفصاله عن الفلسفة فإن كتاباته اللاحقة كانت ذات صلة كبيرة بالنقاشات الفلسفية المعاصرة؛ خاصة في فلسفة التاريخ والعلوم الاجتماعية والفلسفة الأخلاقية والسياسية.

«الفقر لا يصنع ثورة وإنما وعي الفقر هو الذي يصنع الثورة .. الطاغية مهمته أن يجعلك شيخًا فقيراً، الطاغية مهمته أن يجعل وعيك غائباً».

فقد كانت نظرية ماركس للتاريخ تتمحور حول تتابع وتطور أشكال المجتمع والقوى الإنتاجية البشرية، يرى ماركس أن العملية التاريخية تسير عبر سلسلة ضرورية من أنماط الإنتاج وتتميز بالصراع الطبقي حتى تبلغ ذروتها مع الشيوعية.

أطلق ماركس أسم البرجوازيين على طبقة الأغنياء والملاك والبروليتاريا على الطبقة العاملة، ورأى أنه يجب إحداث تغير عام بحيث تمتلك البروليتاريا أدوات الإنتاج بدلا من البرجوازيين وعلى كل الأفراد في المجتمع العمل بمساواة وهذه هي الاشتراكية التي رأى ماركس أنها خطوة في الطريق بعد الرأسمالية ونحو الشيوعية.

«حتى اليوم كان تاريخ أي مجتمع هو تاريخ الصراعات الطبقية فيه».

وأعتمد تحليل ماركس الاقتصادي للرأسمالية على نسخته من نظرية العمل مقابل القيمة، ويتضمن تحليل الربح الرأسمالي باعتباره استخلاص القيمة الفائضة من البروليتاريا التي تتم أستغلالها من البرجوازيين. يأتي تحليل التاريخ والاقتصاد معًا في تنبؤات ماركس بالانهيار الاقتصادي الحتمي للرأسمالية لتحل محلها الشيوعية.

ومع ذلك رفض ماركس التكهن بالتفصيل حول طبيعة الشيوعية ، بحجة أنها ستنشأ بطريقة طبيعية خلال العمليات التاريخية، ولم يكن يريد تحقيق مثال أخلاقي محدد مسبقًا، وكانت فكرته الأساسية هي أنه في فترة الانتقال من الملكية إلى الديمقراطية في أوروبا تم استغلال العمال والمزارعين الأوروبيين بقسوة من طبقة الملاك الأغنياء وهذا خلق ظلم اجتماعي متوارث.

كيف نشأت الاشتراكية والشيوعية؟

«تاريخ البشرية هو تاريخ البحث عن الطعام».

نبعت كلا الفلسفتين من الرغبة في القضاء على الطبقات الاجتماعية واستغلال طبقة الملاك للطبقة العاملة المنتجة؛ تلتزم كلا من الاشتراكية والشيوعية بالمبدأ القائل بأن الموارد الاقتصادية يجب أن تكون مملوكة بشكل جماعي للجمهور وتسيطر عليها منظمة مركزية، ولكنها تختلف في إدارة ومراقبة الاقتصاد، فما الفرق بينهما؟

ما هي الاشتراكية؟

الاشتراكية هي عقيدة اجتماعية اقتصادية تدعو إلى الملكية العامة بدلاً من الملكية الخاصة أو السيطرة الفردية على الممتلكات والموارد الطبيعية. وفقا للنظام الاشتراكي لا يعيش الأفراد أو يعملون في عزلة ولكنهم يعيشون بالتعاون مع بعضهم البعض، لذا فكل ما ينتجه الأفراد هو إلى حد ما منتج اجتماعي.

وكل شخص يساهم في إنتاج سلعة يحق له الحصول على حصة فيه، وبالتالي يجب على المجتمع ككل امتلاك أو على الأقل السيطرة على الممتلكات لصالح جميع أعضائه.

في الاشتراكية، يقرر الشعب بنفسه من خلال المجالس المحلية والمجالس المنتخبة شعبيا كيفية عمل الاقتصاد، وهذا يجعل الاشتراكية نظامًا ليبراليًا لأن غالبية الناس لديهم رأي حول كيفية إدارة الدولة، وتؤيد الاشتراكية وجهة النظر القائلة بأنه ينبغي توزيع السلع والخدمات بناء على إنتاجية الفرد.

وهناك نوعان من الملكية في الاشتراكية:

  1. الملكية الشخصية التي يمكن للفرد أن يمتلكها ويستمتع بها.
  2. الملكية الصناعية المخصصة للاستخدام الإنتاجي للمجتمع.

مثلا يمكن للأفراد الاحتفاظ بكاميراتهم الرقمية ولكن لا يمكنهم الاحتفاظ بمصنع ينتج كاميرات رقمية، وبينما يمكن الاحتفاظ بالممتلكات الشخصية إلا أن الاشتراكيين يتأكدون من أنه لن يتم استخدام أي ملكية خاصة كأداة للقمع والاستغلال.

ويعتبر الاشتراكيون الرأسمالية تهديدًا للمساواة والمصلحة العامة، لكنهم يعتقدون أنه لا توجد حاجة للقضاء على الطبقة الرأسمالية لأنه يمكن أن تستخدم كأداة جيدة في الانتقال إلى الاشتراكية طالما أنها خاضعة لسيطرة صحيحة، ويؤمن الاشتراكيون أيضا أن الرأسمالية يمكن أن توجد في دولة اشتراكية والعكس صحيح.

ما هي الشيوعية؟

الشيوعية هي عقيدة سياسية اقتصادية تهدف إلى استبدال الملكية الخاصة والاقتصاد القائم على الربح بالملكية العامة والسيطرة المجتمعية على الأقل على وسائل الإنتاج الرئيسية (مثل المناجم والطواحين والمصانع) والموارد الطبيعية للمجتمع. وبالتالي فإن الشيوعية هي شكل من أشكال الاشتراكية – شكل أعلى وأكثر تقدمًا.

لكن الشيوعية تسيطر على اقتصادها من خلال حزب واحد متسلط ومن ثم تتميز بأنها محافظة لأن الاقتصاد يعمل على أساس قرارات النخبة. وتعتقد الشيوعية أنه يجب توزيع الثروة على الجماهير بناءً على احتياجات الفرد، وفيها تكون جميع السلع والخدمات ملكية عامة لاستخدامها والتمتع بها من قبل جميع السكان بلا تملك!

ومن وجهة نظر الشيوعيين لا بد من تدمير الرأسمالية كليا من أجل إفساح المجال نحو مجتمع لا طبقي.

أهم 5 فروق بين الاشتراكية والشيوعية:

  1. الاشتراكية نظام اقتصادي بينما الشيوعية نظام اقتصادي وسياسي.
  2. في الاشتراكية: تدار موارد الاقتصاد ويسيطر عليها الناس أنفسهم من خلال الكوميونات أو المجالس، بينما في الشيوعية  ترتكز الإدارة والسيطرة على عدد قليل من الأفراد في حزب واحد متسلط.
  3. يوزع الاشتراكيون الثروة على الناس بناء على الجهود الفردية التي يبذلها الفرد، في حين يقوم الشيوعيون بتوزيع الثروة على أساس احتياجات الفرد.
  4. يستطيع الاشتراكيون امتلاك عقارات شخصية بينما لا يستطيع الشيوعيون ذلك.
  5. تسمح الاشتراكية للرأسمالية بالوجود وسطها بينما تسعى الشيوعية للتخلص من الرأسمالية.

«تبدأ منطقة الحرية من حيث يتوقف العمل المحدد بالضرورة »

لذا بناء على مبادئ الشيوعية فأن كل الدول التى تظن أنها شيوعية هي في الحقيقة اشتراكية، حتى الاتحاد السوفيتي كان يسمى رسميًا «اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية»!

المصادر:

ما هي تداعيات قرار دونالد ترامب في قطع تمويل منظمة الصحة العالمية؟

ما هي تداعيات قرار دونالد ترامب في قطع تمويل منظمة الصحة العالمية؟ أعلن دونالد ترامب في الرابع عشر من شهر أبريل أن حالة الطوارئ الصحية العالمية كانت الوقت المثالي لسحب التمويل الأمريكي لمنظمة الصحة العالمية التي تتمثل مهمتها في مكافحة الطوارئ الصحية في العالم. من المنتظر أن يكون لهذا القرار تداعيات كبيرة في الاستجابة العالمية لجائحة فيروس كورونا المستجد.

تساهم الولايات المتحدة الأمريكية بأكثر من 400 مليون دولار أمريكي للمنظمة سنويا (بالرغم من أنها كانت لم تسدد 200 دولار أمريكي بعد)، حيث أنها أكبر جهة مانحة للمنظمة وتمثل تبرعاتها أكبر بعشر مرات تلك التي تساهم بها الصين. واتهم ترامب المنظمة بسوء التغطية والتعامل مع الوباء في مرحلة الانتشار الأولي للفيروس في الصين، وعدم اتخاذ موقف صارم مع الصين.

من هم أعضاء منظمة الصحة العالمية؟

تأسست منظمة الصحة العالمية سنة 1948، تتجلى مهمتها في التوجيه والتنسيق في مجال الصحة العالمية لتحسين صحة سكان العالم. وتعرف مفهوم الصحة كالتالي:

“الصحة هي حالة كاملة من الرفاه البدني، والعقلي، والإجتماعي وليس فقط غياب المرض أو العجز.”

يمكن لمختلف منظمات المجتمع المدني والمنظمات الدينية مراقبة اجتماعات منظمة الصحة العالمية، لكن يسمح للبلدان فقط أن تكون الأعضاء. تحضر الدول الأعضاء كل شهر ماي اجتماعا في جنيف لمناقشة ومراجعة سياسة وعمل المنظمة والموافقة على الميزانية. ويصل عدد الدول الأعضاء في منظمة الصحة العالمية 194 دولة.

من هي الجهات التي تمول منظمة الصحة العالمية؟

تتلقى المنظمة جزء كبير من التمويلات من مصدرين رئيسيين:
– رسوم عضوية البلدان ويتم تقديرها بحساب الناتج المحلي وحجم السكان، لكن لم يتم الرفع من هذه الرسوم منذ الثمانينات بعد تجميد مستوى المدفوعات.
– المصدر الثاني هو التبرعات، حيث عادة ما تخصص هذه التبرعات التي تقدمها الحكومات والمنظمات الخيرية لتمويل مشاريع أو مبادرات محددة. وهذا يعني أن المنظمة ليست قادرة على إعادة تخصيص هذه التبرعات في حالة الطوارئ مثل جائحة فيروس كورونا المستجد.

هل سبق وأن سحبت الدول تمويلاتها من قبل؟

على مدى أكثر من 70 عاما، فشلت عدد من الدول في دفع رسوم عضويتها في الوقت المحدد. أعلن الإتحاد السوفياتي في السابق انسحابه من المنظمة ورفض دفع رسوم عضويته لعدة سنوات، وعند انضمامه لمرة أخرى سنة 1955 قام بمناقشة تخفيض رسومه السابقة فتمت الموافقة عليه. شوهدت العديد من الحالات التي كانت المنظمة على وشك إعلان إفلاسها بسبب عدم دفع الدول لرسومها لكن في النهاية تصرفت العديد من الحكومات بمسؤولية ودفعت رسومها.

ما هي تداعيات قرار دونالد ترامب في قطع تمويل منظمة الصحة العالمية؟ 

إذا تم تفعيل هذا القرار، فسيتسبب ذلك في إفلاس منظمة الصحة العالمية في منتصف الجائحة. وقد تلجأ المنظمة إلى فصل الموظفين في عز محاولاتها لمساعدة البلدان المنخفضة والمتوسطة الدخل في إنقاذ الأرواح. كما ستفقد المنظمة قدرتها على تنسيق الجهود الدولية حول أبحاث اللقاحات وتوفير معدات لحماية العاملين في المجال الطبي وتقديم المساعدة التقنية والخبرة لمكافحة الجائحة.

أما إذا مددت الولايات المتحدة القرار بخفض التمويل ليشمل مبادرات صحية أخرى تنسقها المنظمة فمن المحتمل أن تفقد ساكنة البلدان المنخفضة الدخل إمكانية الحصول على الأدوية الحيوية والخدمات الصحية ما سيسبب في فقدان المزيد من الأرواح. ومن المنتظر أن تؤثر هذه القرارت على المصالح الإستراتيجية للولايات المتحدة على المدى الطويل.

المصادر: The Conversation , World Health Organization, The Guardian

مترجم: كيف سيكون عالم ما بعد كورونا؟ أربعة احتمالات مستقبلية

عالم ما بعد كورونا؟

  • أين سنكون بعد ستة أشهر، سنة، عشر سنوات من الآن؟ 
  • أستلقي مستيقظا في الليل أتساءل ما يخبئه المستقبل أحبائي، وأصدقائي وأقاربي الضعفاء.
  • أتساءل ماذا سيحدث لعملي، على الرغم من أنني محظوظ أكثر من كثيرين: أحصل على أجر مرضي ويمكنني العمل عن بعد. 
  • لكن لا يزال لدي أصدقاء يعملون لحسابهم الخاص ويتوقعون البقاء لأشهر بدون أجر، وأصدقاء فقدوا وظائفهم بالفعل. 
  • أصاب الفيروس التاجي الاقتصاد بشدة موازية لما أصاب البشر، فماذا سنفعل 

هناك عدد من الحلول المستقبلية المحتملة، وكلها تعتمد على كيفية استجابة الحكومات والمجتمع للفيروس التاجي وتداعياته الاقتصادية. نأمل أن نستخدم هذه الأزمة لإعادة البناء، وإنتاج شيء أفضل للإنسانية، لكننا أيضًا قد ننزلق إلى شيء أسوأ.

أعتقد أننا يمكن أن نفهم وضعنا -وما قد يكمن في مستقبلنا- من خلال النظر إلى الاقتصاد السياسي للأزمات الأخرى. يركز بحثي على أساسيات الاقتصاد الحديث: سلاسل التوريد العالمية والأجور والإنتاجية. أنظر إلى الطريقة التي تساهم بها الديناميكيات الاقتصادية في تحديات مثل تغير المناخ وانخفاض مستويات الصحة العقلية والبدنية بين العمال. لقد جادلنا بأننا بحاجة إلى نوع مختلف تمامًا من الاقتصاديات إذا أردنا بناء مستقبل عادل اجتماعيًا وسليم بيئيًا. وفي مواجهة أزمة COVID-19 أصبح هذا أكثر وضوحًا من ذي قبل.

إن الاستجابات لوباء COVID-19 هي ببساطة تضخيم الديناميكية التي تدفع الأزمات الاجتماعية والبيئية الأخرى: إعطاء الأولوية لنوع من القيمة على الأنواع الأخرى. لعبت هذه الديناميكية دورًا كبيرًا في توجيه الاستجابات العالمية لـ COVID-19. لذا مع تطور الاستجابات للفيرو ، كيف يمكن أن يتطور مستقبلنا الاقتصادي؟

عالم ما بعد كورونا؟

من منظور اقتصادي، هناك أربعة حلول مستقبلية محتملة: 

  • الانحدار إلى البربرية والفوضى
  • الرأسمالية القوية
  • الاشتراكية المتطرفة
  • التحول إلى مجتمع مدني متحد مبني على المساعدات المتبادلة. 

نسخ من جميع هذه الأحتمالات المستقبلية ممكنة تمامًا، وإن لم تكن مرغوبة.

التغييرات الصغيرة لم تعد مجدية:

إن الفيروس التاجي مثله مثل تغير المناخ؛ جزء من مشكلة هيكلنا الاقتصادي. على الرغم من أن كلاهما يبدو أنهما مشاكل «بيئية» أو «طبيعية» إلا أنهما مدفوعان اجتماعياً.

نعم، يحدث تغير المناخ بسبب امتصاص غازات معينة للحرارة، لكن هذا تفسير ضحل للغاية لفهم تغير المناخ، نحتاج إلى فهم الأسباب الاجتماعية التي تبقي على انبعاث الغازات الدفيئة، وبالمثل COVID-19 نعم السبب المباشر هو الفيروس، لكن إدارة آثاره تتطلب منا أن نفهم السلوك البشري وسياقه الاقتصادي الأوسع.

معالجة كل من COVID-19 وتغير المناخ أسهل بكثير إذا قمت بتقليل النشاط الاقتصادي غير الضروري، في حالة تغير المناخ إذا أنتجت أشياء أقل  فإنك تستخدم طاقة أقل فتنبعث منها غازات دفيئة أقل، COVID-19 إذا اختلط الناس ببعض تنتشر العدوى؛ يحدث هذا في المنازل وأماكن العمل وفي الرحلات، لذا تقليل ذلك كله قد يقلل الأزمة.

ربما يساعد تقليل الاتصال بين الأشخاص أيضًا في استراتيجيات التحكم الأخرى، تتمثل إحدى إستراتيجيات التحكم الشائعة في تفشي الأمراض المعدية في تتبع الاتصال والعزل، حيث يتم تحديد المخالطين للشخص المصاب، ثم عزلهم لمنع أنتشار المرض، يكون هذا أكثر فاعلية عند تتبع نسبة عالية من جهات الاتصال، كلما قل عدد المخالطين قل عدد الذين يجب تتبعهم والوصول إلىهم.

يمكننا أن نرى من تجربة ووهان أن إجراءات الإبعاد والإغلاق الاجتماعي مثل هذه فعالة. الاقتصاد السياسي مفيد في مساعدتنا على فهم سبب عدم أتباعهم في وقت سابق في البلدان الأوروبية والولايات المتحدة.

اقتصاد هش

الإغلاق يضغط على الاقتصاد العالمي، نحن نواجه ركودا خطيرا وقد دفع هذا الضغط بعض قادة العالم للدعوة إلى تخفيف إجراءات الإغلاق.

حتى مع إعلان 19 دولة حالة من الإغلاق، دعا الرئيس الأمريكي دونالد ترامب والرئيس البرازيلي جاير بولسونارو إلى التراجع عن تدابير التخفيف. دعا ترامب الاقتصاد الأمريكي إلى العودة إلى طبيعته في غضون ثلاثة أسابيع (لقد قبل الآن أنه يجب الحفاظ على التباعد الاجتماعي لفترة أطول).

 قال بولسونارو: «يجب أن تستمر حياتنا، يجب الحفاظ على الوظائف … يجب علينا -نعم- العودة إلى طبيعتها».

في المملكة المتحدة وفي هذه الأثناء قبل أربعة أيام من الدعوة إلى إغلاق لمدة ثلاثة أسابيع كان رئيس الوزراء بوريس جونسون أقل تفاؤلًا؛ قائلاً إن المملكة المتحدة يمكن أن تحول المد في غضون 12 أسبوعًا. ومع ذلك، حتى لو كان جونسون على صواب يبقى الأمر أننا نعيش مع نظام اقتصادي يهدد بالانهيار عند الوباء التالي.

إن أسباب إنهيار الاقتصاديات واضحة إلى حد ما، توجد الشركات لتحقيق الربح. إذا لم يتمكنوا من الإنتاج لا يمكنهم بيع الأشياء، هذا يعني أنهم لن يحققوا أرباحًا، مما يعني أنهم أقل قدرة على توظيفك. 

يمكن للشركات القيام -على مدى فترات زمنية قصيرة- الاحتفاظ بالعمال الذين لا يحتاجون إليهم على الفور: فهم يريدون أن يكونوا قادرين على تلبية الطلب عندما يعود الاقتصاد إلى الارتفاع مرة أخرى. ولكن إذا بدأت الأمور تبدو سيئة حقًا فهي كذلك. لذا، يفقد المزيد من الناس وظائفهم أو يخشون فقدان وظائفهم. لذلك يشترون أقل وتبدأ الدورة بأكملها مرة أخرى وننطلق نحو الكساد الاقتصادي.

في الأزمات العادية فإن الوصفة الطبية لحل هذا الأمر بسيطة تساهم الحكومة، وتنفق حتى يبدأ الناس في الاستهلاك والعمل مرة أخرى. (هذه الوصفة هي ما يشتهر به الاقتصادي جون ماينارد كينز).

لكن التدخلات العادية لن تنجح هنا لأننا لا نريد أن يتعافى الاقتصاد -على الأقل ليس على الفور- الهدف الأساسي من الإغلاق هو منع الأشخاص من الذهاب إلى العمل حيث ينشرون المرض. اقترحت إحدى الدراسات الحديثة أن رفع إجراءات الإغلاق في ووهان (بما في ذلك إغلاق أماكن العمل) في وقت قريب جدًا قد تشهد الصين ذروة ثانية للحالات في وقت لاحق من عام 2020.

جيمس ميدواي، اقتصاد الحرب أم اقتصاد السلم؟

كما كتب الاقتصادي جيمس ميدواي فإن الآستجابة الصحيحة لـ COVID-19 ليست اقتصاد زمن الحرب «مع زيادة هائلة في الإنتاج» لكن بدلاً من ذلك  نحتاج إلى اقتصاد «ضد الحرب» وخفض الإنتاج بشكل كبير. وإذا أردنا أن نكون أكثر مقاومة للأوبئة في المستقبل (و لتجنب أسوأ التغيرات المناخية) نحن بحاجة إلى نظام قادر على تقليص الإنتاج بطريقة لا تعني فقدان سبل العيش.

لذا ما نحتاجه هو عقلية اقتصادية مختلفة تميل إلى التفكير في الاقتصاد على أنه الطريقة التي نشتري بها ونبيع الأشياء، ولا سيما السلع الاستهلاكية، لكن هذا ليس ما يجب أن يكون عليه الاقتصاد أو يحتاج إليه. إن الاقتصاد في جوهره هو الطريقة التي نأخذ بها مواردنا ونحولها إلى الأشياء التي نحتاجها للعيش، بالنظر إلى هذا  يمكننا أن نبدأ في رؤية المزيد من الفرص للعيش بشكل مختلف تسمح لنا بإنتاج أشياء أقل دون زيادة البؤس.

لطالما اهتمت أنا والاقتصاديون الإيكولوجيون/البيئيون الآخرون بمسألة كيف تنتج أقل بطريقة اجتماعية عادلة، لأن التحدي المتمثل في إنتاج أقل هو أمر أساسي أيضًا في معالجة تغير المناخ،  كلما زاد إنتاجنا للغازات الدفيئة التي تنبعث منها. إذا كيف يمكنك تقليل كمية الأشياء التي تقوم بها مع إبقاء العمال في وظائفهم؟

تتضمن الاقتراحات تقليل مدة أسبوع العمل أو كما ذكرت بعض أعمالي الأخيرة يمكنك السماح للأشخاص بالعمل بشكل أبطأ و بضغط أقل. لا ينطبق أي من هذين مباشرة على COVID-19 حيث يتمثل الهدف في تقليل الاتصال بدلاً من الإنتاج، ولكن جوهر المقترحات هو نفسه، عليك أن تقلل من اعتماد الناس على الأجر/الراتب ليتمكنوا من العيش.

ما هو الاقتصاد؟

المفتاح لفهم الردود على COVID-19 هو السؤال عن الغرض من الاقتصاد، حاليا الهدف الأساسي للاقتصاد العالمي هو تسهيل تبادل الأموال، هذا ما يسميه الاقتصاديون «قيمة التبادل».

الفكرة السائدة للنظام الحالي هو أن قيمة التبادل هي نفس قيمة الاستخدام. على أساس أن الناس سينفقون الأموال على الأشياء التي يريدونها أو يحتاجون إليها وهذا الفعل من إنفاق المال يخبرنا شيئًا عن مدى تقديرهم لـ «استخدامه» هذا هو السبب في أن الأسواق تعتبر أفضل طريقة لإدارة المجتمع، فهي تسمح لك بالتكيف وهي مرنة بما يكفي لمطابقة القدرة الإنتاجية مع قيمة الاستخدام.

ما يوضحه COVID-19 هو مدى كذب معتقداتنا حول الأسواق في جميع أنحاء العالم تخشى الحكومات من تعطل الأنظمة الحيوية أو تحميلها بشكل زائد: سلاسل التوريد، والرعاية الاجتماعية، ولكن بشكل أساسي الرعاية الصحية وهناك الكثير من العوامل المساهمة في ذلك ولكن أول اثنين هم:

أولاً، من الصعب جدًا جني الأموال من العديد من الخدمات المجتمعية الأساسية ويرجع هذا جزئيًا إلى أن نمو إنتاجية العمل هو المحرك الرئيسي للأرباح: القيام بالمزيد بعدد أقل من الموظفين. فهم عامل تكلفة كبير في العديد من الشركات، وخاصة تلك التي تعتمد على التفاعلات الشخصية مثل الرعاية الصحية، ونتيجة لذلك يميل نمو الإنتاجية في قطاع الرعاية الصحية إلى أن يكون أقل من بقية الاقتصاد  وترتفع تكاليفه أسرع من المتوسط.

ثانيًا، الوظائف في العديد من الخدمات المهمة ليست تلك التي تميل إلى أن تكون ذات قيمة عالية في المجتمع. توجد العديد من أفضل الوظائف مدفوعة الأجر فقط لتسهيل التبادل ولكسب المال. إنهم لا يخدمون غرضًا أوسع للمجتمع: فهم ما يسميه عالم الأنثروبولوجيا ديفيد جرابر «وظائف خادعة/bullshit jobs» ومع ذلك -لأنهم يجنون الكثير من المال- لدينا الكثير من المستشارين وصناع الإعلانات الضخمة والقطاع المالي الضخم. في هذه الأثناء لدينا أزمة في الرعاية الصحية والاجتماعية حيث يضطر الناس غالبًا إلى ترك وظائف مفيدة يستمتعون بها، لأن هذه الوظائف لا تدفع لهم ما يكفي للعيش!.

وظائف لا طائل منها

وظائف لا طائل منها!

حقيقة أن الكثير من الناس يعملون في وظائف لا طائل من ورائها هي جزئياً سبب عدم استعدادنا للرد على COVID-19. يبرز الوباء أن العديد من الوظائف ليست ضرورية ومع ذلك نفتقر إلى عدد كاف من العاملين الرئيسيين للاستجابة عندما تسوء الأمور.

يضطر الناس إلى العمل في وظائف لا طائل من ورائها لأنه في مجتمع حيث تكون قيمة التبادل هي المبدأ الموجه للاقتصاد، فإن السلع الأساسية للحياة متاحة بشكل رئيسي من خلال الأسواق. هذا يعني أن عليك شرائها ولشرائها تحتاج إلى دخل  يأتي من وظيفة.

الجانب الآخر من هذه العملة هو أن الاستجابات الأكثر جذرية (والفعالة) التي نشهدها لتفشي COVID-19 تتحدى هيمنة الأسواق وقيمة التبادل. في جميع أنحاء العالم تتخذ الحكومات إجراءات بدا قبل ثلاثة أشهر أنها مستحيلة. في إسبانيا تم تأميم المستشفيات الخاصة. في المملكة المتحدة أصبح احتمال تأميم وسائل النقل المختلفة حقيقيًا جدًا، وأبدت فرنسا استعدادها لتأميم الشركات الكبرى.

وبالمثل نشهد انهيار أسواق العمل. توفر بلدان مثل الدنمارك والمملكة المتحدة دخلًا للناس لمنعهم من الذهاب إلى العمل. هذا جزء أساسي من الإغلاق الناجح. هذه التدابير أبعد ما تكون عن الكمال. ومع ذلك فإنه التحول من مبدأ أن على الناس العمل من أجل كسب دخلهم والتحرك نحو فكرة أن الناس يستحقون أن يتمكنوا من العيش حتى إذا لم يتمكنوا من العمل.

يعكس الاتجاهات السائدة في الأربعين سنة الماضية. خلال هذا الوقت ، كان يُنظر إلى الأسواق وقيم الصرف على أنها أفضل طريقة لإدارة الاقتصاد ونتيجة لذلك تعرضت الأنظمة العامة لضغوط متزايدة للتسويق، ليتم تشغيلها كما لو كانت شركات تجارية يتعين عليها كسب المال. وبالمثل أصبح العمال أكثر تعرضًا للسوق، فقد أزالت عقود الساعات الصفرية والاقتصاد الكبير طبقة الحماية من تقلبات السوق التي كانت توفرها العمالة الطويلة الأجل والمستقرة.

يبدو أن COVID-19 يعمل عكس هذا الاتجاه، حيث يأخذ الرعاية الصحية وسلع العمل من السوق ويضعها في أيدي الدولة التي تنتجها لأسباب عديدة بعضها جيد والبعض سيئ. ولكن على عكس الأسواق ، لا يتعين عليهم الإنتاج مقابل قيمة التبادل وحدها.

هذه التغييرات تعطيني أمل وتوفر الفرصة لإنقاذ العديد من الأرواح. حتى أنهم يشيرون إلى إمكانية التغيير على المدى الطويل الذي يجعلنا أكثر سعادة ويساعدنا على معالجة تغير المناخ. ولكن لماذا استغرقنا وقتًا طويلاً للوصول إلى هنا؟ لماذا كانت العديد من البلدان غير مهيأة للغاية لإبطاء الإنتاج؟ الجواب يكمن في تقرير حديث لمنظمة الصحة العالمية: لم يكن لديهم «عقلية» الصواب.

خيالنا الاقتصادي

كان هناك إجماع اقتصادي واسع النطاق لمدة 40 عامًا وقد حد هذا من قدرة السياسيين ومستشاريهم على رؤية الشقوق في النظام ، أو تخيل البدائل. هذه العقلية تقودها إلى معتقدان مرتبطان:

  1. السوق هو ما يوفر جودة حياة جيدة، لذلك يجب حمايته
  2. سيعود السوق دائمًا إلى طبيعته بعد فترات قصيرة من الأزمات

هذه الآراء مشتركة بين العديد من الدول الغربية لكنهما أقوى في المملكة المتحدة والولايات المتحدة وكلاهما بدا أنهما مستعدان بشدة للرد على COVID-19.

في المملكة المتحدة تم تسريب ملخص ما قيل في اجتماع خاص لكبار مساعدي رئيس الوزراء تجاه COVID-19 على أنه استخدام «مناعة القطيع» حماية الاقتصاد وإذا كان ذلك يعني أن بعض «أصحاب المعاشات قد يموتون للأسف»!. 

أنكرت الحكومة ذلك، ولكن ماذا إذا كانت التلك حقيقية فليس من المستغرب. في مناسبة حكومية في وقت مبكر من الوباء أن يقول لي موظف حكومي كبير: «هل يستحق الأمر الاضطراب الاقتصادي؟ إذا نظرت إلى تقييم جودة للحياة، ربما لا».

هذا النوع من الآراء مستوطن في فئة النخبة ويمثلها بشكل جيد مسؤول تكساس الذي جادل بأن العديد من كبار السن «سيموتون بسرور بدلاً من رؤية الولايات المتحدة تغرق في ركود اقتصادي»!. تعرض وجهة النظر هذه العديد من الأشخاص الضعفاء للخطر (وليس كل الأشخاص الضعفاء من كبار السن) وكما حاولت أن أوضح هنا فهو خيار زائف.

أحد الأشياء التي يمكن أن تفعلها أزمة COVID-19 هو توسيع هذا الخيال الاقتصادي. بينما تتخذ الحكومات والمواطنون خطوات كانت تبدو قبل ثلاثة أشهر مستحيلة، فإن أفكارنا حول كيفية عمل العالم يمكن أن تتغير بسرعة، دعونا نلقي نظرة على المكان الذي يمكن أن يأخذنا إليه هذا التخيل.

احتمالات عالم ما بعد كورونا

لمساعدتنا في رؤية المستقبل سأستخدم تقنية من مجال دراسات المستقبل. تأخذ عاملين تعتقد أنهم مهمين في المستقبل، وتتخيل ما سيحدث في ظل مجموعات مختلفة من تلك العوامل.

العوامل التي أريد أن آخذها في الحسبان هي القيمة والمركزية. تشير القيمة إلى كل ما هو مبدأ موجه لاقتصادنا. هل نستخدم مواردنا لزيادة قيمة التبادلات والأموال، أم نستخدمها لزيادة قيمة الحياة؟ تشير المركزية إلى الطرق التي يتم بها تنظيم الأشياء، إما عن طريق الكثير من الوحدات الصغيرة أو بواسطة قوة قيادة واحدة كبيرة. يمكننا تنظيم هذه العوامل في شبكة والتي يمكن بعد ذلك ملؤها بالسيناريوهات. لذا يمكننا التفكير فيما قد يحدث إذا حاولنا الاستجابة للفيروس التاجي بالمجموعات الأربعة المتطرفة:

  1. رأسمالية الدولة: استجابة مركزية، إعطاء الأولوية لقيمة التبادل
  2. البربرية: استجابة لامركزية تعطي الأولوية لقيمة التبادل
  3. اشتراكية الدولة: استجابة مركزية، وإعطاء الأولوية لحماية الحياة.
  4. المساعدة المتبادلة: الاستجابة اللامركزية إعطاء الأولوية لحماية الحياة.
أربعة أحتمالات مستقبلية

المستقبل الأول: رأسمالية الدولة

رأسمالية الدولة هي الاستجابة المهيمنة التي نراها في جميع أنحاء العالم في الوقت الحالي. ومن الأمثلة النموذجية المملكة المتحدة وإسبانيا والدنمارك.

يستمر المجتمع الرأسمالي في الدولة في السعي وراء قيمة التبادل باعتبارها الضوء الموجه للاقتصاد. لكنها تعترف بأن الأسواق في أزمة تتطلب الدعم من الدولة. بالنظر إلى أن العديد من العمال لا يستطيعون العمل لأنهم مرضى  أو خائفون على حياتهم، فإن الدولة تتدخل بطريقة دعم بتقديم الائتمان من الخزانة وتسديد الدفعات المباشرة للشركات.

التوقعات هنا هي أن هذا سيكون لفترة قصيرة. الوظيفة الأساسية للخطوات التي يتم اتخاذها هي السماح لأكبر عدد ممكن من الشركات بمواصلة التداول. في المملكة المتحدة على سبيل المثال لا يزال يتم توزيع المواد الغذائية في الأسواق (على الرغم من أن الحكومة خففت قوانين المنافسة). عندما يتم دعم العمال مباشرة يتم ذلك بطرق تسعى إلى تقليل الاضطراب في الأداء الطبيعي لسوق العمل. لذا على سبيل المثال كما هو الحال في المملكة المتحدة يجب على أصحاب العمل التقدم بطلب للحصول على المدفوعات وتوزيعها. ويكون حجم المدفوعات على أساس قيمة التبادل التي عادة ما يخلقها العامل في السوق بدلاً من فائدة عمله!.

هل يمكن أن يكون هذا سيناريو ناجح؟ ممكن، ولكن فقط إذا ثبت أن COVID-19 لا يمكن السيطرة عليه خلال فترة قصيرة. مع تجنب الإغلاق الكامل للحفاظ على أداء السوق لا يزال من المحتمل أن يستمر انتقال العدوى. في المملكة المتحدة لا يزال البناء غير الأساسي مستمرًا، مما يجعل العمال يختلطون في مواقع البناء لكن تدخل الدولة المحدود سيصبح من الصعب الحفاظ عليه إذا ارتفع عدد القتلى. ستؤدي زيادة المرض والموت إلى إثارة الاضطرابات وتعميق الآثار الاقتصادية مما يجبر الدولة على اتخاذ المزيد والمزيد من الإجراءات الجذرية لمحاولة الحفاظ على أداء السوق.

المستقبل الثاني: الهمجية/البربرية

هذا هو السيناريو الأكثر قتامة الهمجية هي المستقبل إذا واصلنا الاعتماد على قيمة التبادل كمبدأ توجيهي ومع ذلك نرفض تقديم الدعم لأولئك الذين يخرجون من الأسواق بسبب المرض أو البطالة فهو يصف حالة لم نرها بعد.

تفشل الشركات ويتضور العمال جوعًا لعدم وجود آليات لحمايتهم من الحقائق القاسية للسوق. لا يتم دعم المستشفيات بتدابير استثنائية، وبالتالي تصبح مرهقة ويموت  الناس. الهمجية هي في نهاية المطاف دولة غير مستقرة تنتهي بالدمار أو الانتقال إلى أحد أقسام الشبكة الأخرى بعد فترة من الدمار السياسي والاجتماعي.

هل يمكن أن يحدث هذا؟ القلق هو أنه يمكن أن يحدث عن طريق الخطأ أثناء الوباء، أو عن طريق القصد بعد ذروة الوباء. الخطأ هو إذا فشلت الحكومة في التدخل بطريقة كبيرة بما يكفي خلال أسوأ وقت للجائحة. قد يتم تقديم الدعم للشركات والأسر ولكن إذا لم يكن ذلك كافيًا لمنع انهيار السوق في مواجهة الأمراض المنتشرة ، فستحدث الفوضى وقد تُرسل المستشفيات أموالاً إضافية وأشخاصًا، ولكن إذا لم يكن ذلك كافيًا فسيتم إبعاد المرضى بأعداد كبيرة.

من المحتمل أن تكون هناك إمكانية للتقشف الشديد بعد أن يكون الوباء قد بلغ ذروته، وتسعى الحكومات إلى العودة إلى الوضع «الطبيعي». وقد تم تهديد هذا في ألمانيا سيكون هذا كارثيا. ليس أقله أن تأجيل تمويل الخدمات الحيوية أثناء التقشف قد أثر على قدرة البلدان على الاستجابة لهذا الوباء.

سيؤدي الفشل اللاحق للاقتصاد والمجتمع إلى اضطرابات سياسية واجتماعية ، مما يؤدي إلى فشل الدولة وانهيار كل من أنظمة رعاية الدولة والمجتمع.

المستقبل الثالث: اشتراكية الدولة

تصف اشتراكية الدولة أول مستقبل يمكن أن نراه مع تحول ثقافي يضع نوعًا مختلفًا من القيمة في قلب الاقتصاد. هذا هو المستقبل الذي نصل إليه بتمديد التدابير التي نراها حاليًا في المملكة المتحدة وإسبانيا والدنمارك.

المفتاح هنا هو أن تدابير مثل تأميم المستشفيات والمدفوعات للعمال لا تعتبر أدوات لحماية الأسواق ، ولكن طريقة لحماية الحياة نفسها. في مثل هذا السيناريو تتدخل الدولة لحماية أجزاء الاقتصاد الضرورية للحياة: إنتاج الغذاء والطاقة والمأوى على سبيل المثال، بحيث لا تعد الأحكام الأساسية للحياة على أهواء السوق. تقوم الدولة بتأميم المستشفيات، وتوفر السكن مجانًا. وأخيرًا فإنه يوفر لجميع المواطنين وسيلة للوصول إلى سلع مختلفة – سواء الأساسيات أو أي سلع استهلاكية يمكننا إنتاجها بقوة عاملة مخفضة.

لم يعد المواطنون يعتمدون على أصحاب العمل كوسطاء بينهم وبين المواد الأساسية للحياة. تتم المدفوعات لجميع الأشخاص مباشرةً ولا تتعلق بقيمة الصرف  بدلاً من ذلك ، فإن المدفوعات هي نفسها للجميع (على أساس أننا نستحق أن نتمكن من العيش، لمجرد أننا على قيد الحياة) ، أو أنها تستند إلى فائدة العمل. عمال السوبرماركت، وسائقو التوصيل، ومكدسات المستودعات، والممرضات، والمدرسون، والأطباء يصبحون محل الرؤساء التنفيذيون.

من الممكن أن تظهر اشتراكية الدولة كنتيجة لمحاولات رأسمالية الدولة وتأثيرات الوباء المطول. إذا حدث ركود عميق وكان هناك خلل في سلاسل التوريد بحيث لا يمكن إنقاذ الطلب عن طريق نوع السياسات الكينزية القياسية التي نراها الآن (طباعة الأموال، مما يسهل الحصول على القروض وما إلى ذلك) ، فقد تتولى الدولة الإنتاج.

هناك مخاطر على هذا النهج – يجب أن نكون حذرين لتجنب الاستبداد. ولكن حسنًا، قد يكون هذا أفضل أمل لنا ضد تفشي COVID-19 الشديد، دولة قوية قادرة على حشد الموارد لحماية الوظائف الأساسية للاقتصاد والمجتمع.

المستقبل الرابع: المساعدة المتبادلة

المساعدة المتبادلة هي المستقبل الثاني الذي نعتمد فيه حماية الحياة كمبدأ توجيهي لاقتصادنا. لكن في هذا السيناريو، لا تقوم الدولة بدور محدد. وبدلاً من ذلك  يبدأ الأفراد والمجموعات الصغيرة في تنظيم الدعم والرعاية داخل مجتمعاتهم.

تتمثل المخاطر في هذا المستقبل في أن المجموعات الصغيرة غير قادرة على تعبئة نوع الموارد المطلوبة بسرعة لزيادة فعالية الرعاية الصحية مثلاً. ولكن يمكن أن تساعد المساعدة المتبادلة على منع انتقال العدوى بشكل أكثر فاعلية، من خلال بناء شبكات دعم مجتمعية تحمي قواعد العزل الضعيفة والشرطية. يرى الشكل الأكثر طموحا لهذا المستقبل تنشأ هياكل ديمقراطية جديدة. تجمعات المجتمعات القادرة على تعبئة موارد كبيرة بسرعة نسبية. يتحد الأشخاص معًا لتخطيط الاستجابات الإقليمية لوقف انتشار المرض و (إذا كانت لديهم المهارات) لعلاج المرضى.

أمل وخوف

هذه الرؤى هي سيناريوهات متطرفة وخطط عامة، ومن المرجح أن تختلط ببعضها البعض. خوفي هو الانتقال من رأسمالية الدولة إلى البربرية. أملي هو مزيج من اشتراكية الدولة والمساعدة المتبادلة: دولة قوية وديمقراطية تحشد الموارد لبناء نظام صحي أقوى، وتعطي الأولوية لحماية الضعفاء من نزوات السوق وتستجيب وتمكن المواطنين من تكوين مجموعات المساعدة المتبادلة بدلاً من عمل وظائف لا معنى لها.

ما نأمل أن يكون واضحًا هو أن كل هذه السيناريوهات تترك بعض أسباب الخوف، ولكن أيضًا بعض الأمل. يبرز COVID-19 أوجه القصور الخطيرة في نظامنا الحالي. من المرجح أن تتطلب الاستجابة الفعالة لهذا التغيير الاجتماعي الجذري. لقد جادلت بأن ذلك يتطلب تحركًا حادًا بعيدًا عن الأسواق واستخدام الأرباح كطريقة أساسية لتنظيم الاقتصاد، الجانب التصاعدي لهذا هو إمكانية بناء نظام أكثر إنسانية يجعلنا أكثر مرونة في مواجهة الأوبئة المستقبلية والأزمات الوشيكة الأخرى مثل تغير المناخ.

يمكن أن يأتي التغيير الاجتماعي من العديد من الأماكن ومع العديد من التأثيرات، لكن المهمة الرئيسية بالنسبة لنا جميعًا هي المطالبة بأن تأتي الأشكال الاجتماعية الناشئة من أخلاقيات تقدر الرعاية والحياة والديمقراطية. المهمة السياسية المركزية في هذا الوقت من الأزمة هي الحياة (وتكاد تكون منظمة) حول هذه القيم.

المصدر: What will the world be like after coronavirus? Four possible futures

مترجم: عالم ما بعد فيروس الكورونا للكاتب يوفال نوح حراري

عالم ما بعد فيروس الكورونا للكاتب يوفال نوح حراري يوضح فيه يوفال نوح حراري ماهية عالم ما بعد فيروس الكورونا مستعرضا تخوفاته وما نحتاجه لتشكيل عالم أفضل بدلًا من عالم منعزل شديد الرقابة يقتص من حرياتنا، فيقول:

“إن مطالبة الناس بالاختيار بين الخصوصية والصحة هو في الواقع أصل المشكلة، لأنه خيار زائف. يمكننا -وينبغي أن- نتمتع بالخصوصية والصحة معًا. يمكننا أن نختار حماية صحتنا ووقف وباء الفيروس التاجي؛ ليس عن طريق إنشاء أنظمة مراقبة استبدادية، ولكن عن طريق تمكين المواطنين.”

يوفال نوح حراري

إليكم المقال:

تواجه البشرية الآن أزمة عالمية، ربما كانت أكبر أزمة في جيلنا، ويُحتمل أن تشكّل القرارات المُتخذة خلال الأسابيع القليلة المقبلة من الشعوب والحكومات عالمنا لسنوات قادمة. لن ينحصر تأثيرها على أنظمة الرعاية الصحية فقط ولكن ستشكّل اقتصادنا وسياستنا وثقافتنا. يجب علينا أن نتصرف بسرعة وحسم، ويجب أن نأخذ بعين الاعتبار العواقب طويلة المدى لأعمالنا. عند الاختيار بين البدائل، يجب أن نسأل أنفسنا ليس فقط عن كيفية التغلب على التهديد المباشر، ولكن أيضًا عن نوع العالم الذي سنعيش فيه بمجرد مرور العاصفة. نعم، ستمر العاصفة، وستبقى البشرية على قيد الحياة، سيظل معظمنا على قيد الحياة – لكننا سنعيش في عالم مختلف.

ستصبح العديد من تدابير واجراءات الطوارئ قصيرة الأجل من عناصر الحياة الأساسية في المستقبل. هذه هي طبيعة حالات الطوارئ، فهي تسرّع من العمليات التاريخية والقرارات التي قد تستغرق في الأوقات العادية سنوات من المداولات، ولكن تُمرر في حالات الطوارئ في غضون ساعات. يُدفَع بالتقنيات غير الناضجة وحتى الخطرة للخدمة، فمخاطر عدم القيام بأي شيء أكبر. تبدو دُوَل بأكملها كفئران في تجارب اجتماعية واسعة النطاق. ماذا قد يحدث عندما يعمل الجميع من المنزل ويتواصلون فقط عن بُعد؟ ماذا قد يحدث عندما تُقدّم كل المدارس والجامعات محتواها مباشرة على الإنترنت؟

في الأوقات العادية، لن توافق الحكومات والشركات والمجالس التعليمية على إجراء مثل هذه التجارب. لكن هذه الأوقات ليست عادية. في وقت الأزمة هذا، نواجه خيارين مهمين بشكل خاص. الخيار الأول بين المراقبة الشمولية وتمكين المواطنين. والثاني بين العزلة القومية والتضامن العالمي.

المراقبة الحيوية أو “المراقبة تحت الجلد”

من أجل وقف الوباء، يجب على جميع السكان الامتثال لإرشادات معينة. هناك طريقتان رئيسيتان لتحقيق ذلك. إحدى الطرق هي أن تراقب الحكومة الشعب، وتعاقب أولئك الذين يخالفون القواعد. اليوم، ولأول مرة في تاريخ البشرية، تتيح التكنولوجيا مراقبة الجميع طوال الوقت. قبل خمسين عامًا، لم يكن باستطاعة المخابرات السوفيتية KGB مراقبة 240 مليون مواطن سوفيتي على مدار 24 ساعة، ولا يمكن للـ KGB معالجة جميع المعلومات التي تم جمعها بشكل فعّال. اعتمدت وكالة المخابرات السوفيتية (KGB) سابقًا على عملاء ومحللين بشريين، ولم تتمكن من توظيف شخص لمراقبة كل مواطن. ولكن يمكن للحكومات الآن أن تعتمد على أجهزة استشعار وخوارزميات قوية في كل مكان بدلاً من الأشخاص.

استخدمت عدة حكومات بالفعل أدوات المراقبة الجديدة في معركتها ضد جائحة فيروس الكورونا. أبرز حالة هي الصين؛ من خلال مراقبة الهواتف الذكية للأشخاص عن كثب، والاستفادة من مئات الملايين من كاميرات التعرف على الوجوه، وإلزام الأشخاص بفحص درجة حرارة أجسامهم وحالتهم الطبية والإبلاغ عنها. لا يمكن للسلطات الصينية أن تحدد فقط حاملي الفيروس المشتبه بهم، ولكن أيضًا تتبع تحركاتهم وتتعرف على أي شخص اتصلوا به. تحذّر مجموعة من تطبيقات الهاتف المحمول المواطنين من اقترابهم من المرضى والمصابين.

لا يقتصر هذا النوع من التكنولوجيا على شرق آسيا. إذ سمح رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو مؤخرًا لوكالة الأمن الإسرائيلية بنشر تكنولوجيا المراقبة المخصّصة عادة لمحاربة الإرهابيين لتعقب مرضى فيروس الكورونا المستجد. وعندما رفضت اللجنة الفرعية البرلمانية المعنية الموافقة على الإجراء، صدمها نتنياهو بـ “مرسوم الطوارئ”.

المراقبة البيومترية، يمكنك أن تجعل قضية المراقبة البيومترية بمثابة إجراء مؤقت يُتّخذ أثناء حالة الطوارئ. لكن للأسف، للتدابير المؤقتة عادة سيئة في تجاوز حالات الطوارئ

قد نتجادل بأنه لا يوجد جديد في كل هذا. ففي السنوات الأخيرة، استخدمت كل من الحكومات والشركات تقنيات أكثر تعقيدًا من أي وقت مضى للتتبع والمراقبة والتلاعب بالناس. ومع ذلك، إذا لم نكن حذرين، فقد يمثل الوباء فاصلاً هامًا في تاريخ المراقبة. ليس فقط لأنها ستسمح بنشر أدوات المراقبة الجماعية في البلدان التي رفضتها حتى الآن، ولكن أكثر من ذلك لأنها تشير إلى تحوّل كبير من المراقبة “فوق الجلد” إلى “تحت الجلد” أي من المراقبة الفوقية للمراقبة الداخلية. ما نعلمه حتى الآن، هو معرفة الحكومة للروابط التي ينقرها إصبعك على شاشة هاتفك الذكي. ولكن مع اجراءات الفيروس الطارئة، يتحول الاهتمام إلى رغبة في معرفة درجة حرارة إصبعك وضغط الدم تحت الجلد.

إحدى المشاكل التي نواجهها في تشكيل موقفنا من المراقبة تكمن في عدم معرفتنا لكيفية مراقبتنا، وما قد تجلبه السنوات القادمة. تتطور تكنولوجيا المراقبة بسرعة فائقة، وما بدا أنه خيال علمي منذ 10 سنوات أصبح قديمًا اليوم. كمثال، تخيّل حكومة افتراضية تطالب بأن يرتدي كل مواطن سوارًا بيولوجيًا يراقب درجة حرارة الجسم ومعدل ضربات القلب على مدار 24 ساعة في اليوم. تُجمَع البيانات الناتجة وتُحلَّل بواسطة الخوارزميات الحكومية، وستعرف الخوارزميات أنك مريض حتى قبل أن تعرف أنت. كما ستعرف أيضًا أين كنت، ومن قابلت. يمكن تقصير سلاسل العدوى بشكل كبير، بل ويمكن كسرها تمامًا. بمقدورنا القول أن مثل هذا النظام قادر على إيقاف الوباء في غضون أيام. تبدو الأمور رائعة، أليس كذلك؟

لم تدرك أن هذا سيعطي الشرعية لنظام مراقبة جديد مرعب. إذا كنت تعلم، على سبيل المثال، أنني نقرت على رابط Fox News بدلاً من رابط CNN، فيمكن هذا أن يخبرك شيئًا عن آرائي السياسية، وربما يكشف لك عن شخصيتي “وهو ما حدث مع Cambridge analytica”. ولكن إذا تمكنت من مراقبة ما يحدث لدرجة حرارة جسدي وضغط الدم ومعدل ضربات القلب أثناء مشاهدة مقطع الفيديو، فيمكنك معرفة ما يجعلني أضحك أو أبكي، وما قد يجعلني غاضبًا حقًا.

من المهم أن نتذكر أن الغضب والفرح والملل والحب هي ظواهر بيولوجية مثل الحمى والسعال. يُمكن للتكنولوجيا نفسها التي ترصُد السعال أن تحدد الضحكات أيضًا. إذا بدأت الشركات والحكومات في جمع بياناتنا البيومترية “الحيوية” بشكل جماعي، فيمكنهم التعرف علينا بشكل أفضل بكثير مما نعرف حتى أنفسنا، ومن ثَمّ لا يمكنهم فقط التنبؤ بمشاعرنا ولكن أيضًا التلاعب بها وبيعنا أي شيء يريدونه – سواء كان ذلك منتجًا أو شخصية سياسية. ستجعل المراقبة البيومترية أساليب Cambridge Analytica تبدو وكأنها من العصر الحجري. تخيّل كوريا الشمالية في عام 2030، عندما يضطر كل مواطن إلى ارتداء سوار المراقبة البيومترية على مدار 24 ساعة في اليوم. حينها، إذا استمعت إلى خطاب القائد العظيم والتقط السوار علامات الغضب، فقد انتهت حياتك.

لن تتوقف معرفتي عند كوني خطرًا صحيًا على الآخرين، ولكن ستمتد إلى معرفتي بأي العادات تساهم في تحسين حالتي الصحية

يمكنك بالطبع أن تجعل قضية المراقبة البيومترية بمثابة إجراء مؤقت يُتّخذ أثناء حالة الطوارئ. ستزول المراقبة حالما تنتهي حالة الطوارئ. لكن للأسف، للتدابير المؤقتة عادة سيئة في تجاوز حالات الطوارئ، خاصة وأن هناك دائمًا حالة طوارئ جديدة تلوح في الأفق. على سبيل المثال، أعلنت إسرائيل، حالة الطوارئ خلال حرب الاستقلال عام 1948، والتي بررت مجموعة من الإجراءات المؤقتة مثل الرقابة على الصحافة ومصادرة الأراضي إلى اللوائح الخاصة لصنع الحلوى (أنا لا أمزح). كسبت حرب الاستقلال منذ فترة طويلة، لكنها لم تعلن أبدًا انتهاء حالة الطوارئ، وفشلت في إلغاء العديد من الإجراءات “المؤقتة” منذ عام 1948 (أُلغي مرسوم الطوارئ في عام 2011).

عندما تنخفض الإصابة بفيروس الكورونا المستجد إلى الصفر، يُمكن لبعض الحكومات المتعطشة للبيانات أن تتذرّع بحاجتها إلى إبقاء أنظمة المراقبة البيومترية في مكانها لخشيتها من حدوث موجة ثانية من الفيروس مثلاً، أو لوجود سلالة جديدة من فيروس إيبولا تتطور في وسط أفريقيا، أو لأن …. أعتقد أنك قد فهمت الفكرة. كانت هناك معركة كبيرة تدور رحاها في السنوات الأخيرة حول “حق الخصوصية”، وقد تصبح أزمة الفيروس نقطة تحوّل في المعركة. فعندما يُتاح للأشخاص الاختيار بين الخصوصية والصحة، فعادة ما يختارون الصحة.

شرطة الصابون

إن مطالبة الناس بالاختيار بين الخصوصية والصحة هو في الواقع أصل المشكلة، لأنه خيار زائف. يمكننا -وينبغي أن- نتمتع بالخصوصية والصحة معًا. يمكننا أن نختار حماية صحتنا ووقف وباء الفيروس التاجي؛ ليس عن طريق إنشاء أنظمة مراقبة استبدادية، ولكن عن طريق تمكين المواطنين. في الأسابيع الأخيرة، نظمت كوريا الجنوبية وتايوان وسنغافورة بعض أنجح الجهود المبذولة لاحتواء وباء الفيروس التاجي. فبالرغم من استخدام هذه البلدان لبعض تطبيقات التتبع، إلا أنها اعتمدت بشكل أكبر على تكثيف اختبارات الفيروس، وعلى تقارير صادقة، وعلى التعاون المتبادَل مع جمهور تمت توعيته. المراقبة المركزية والعقوبات القاسية ليست الطريقة الوحيدة لجعل الناس يمتثلون للإرشادات المفيدة. يمكن للمواطنين إذا عرفوا الحقائق العلمية، ووثقوا في السلطات العامة وما تخبرهم به من حقائق، أن يفعلوا الشيء الصحيح حتى بدون أن يراقبهم الأخ الأكبر “تعبير من رواية 1984 يستخدم للإشارة إلى مراقبة السلطة للمواطنين بهدف توجيههم والسيطرة عليهم”. عادة ما يصبح جمهور من أصحاب الدوافع الذاتية المستنيرة أكثر قوة وفعالية بكثير من جمهور من الخاضعين لقوة الشرطة والجاهلين. ضع في اعتبارك مثال غسل الأيدي بالصابون، “هل يستوجب علينا تعيين شرطة خاصة لإجبار المواطنين على غسل أيديهم بالصابون؟”. كان هذا أحد أعظم التطورات على الإطلاق في نظافة الإنسان، إذ ينقذ ملايين الأرواح كل عام. بينما نعتبر غسل الأيدي بالصابون أمرًا مُسلّمًا به الآن، لكن لم تُكتَشف أهميته علميًا إلا في القرن التاسع عشر. في السابق، حتى الأطباء والممرضات انتقلوا من عملية جراحية إلى أخرى دون غسل أيديهم. واليوم يغسل مليارات الأشخاص أيديهم يوميًا، ليس لأنهم يخافون من شرطة الصابون، ولكن لأنهم يفهمون الحقائق. أغسل يدي بالصابون لأنني سمعت عن الفيروسات والبكتيريا، أفهم أن هذه الكائنات الدقيقة تسبب الأمراض، وأنا أعلم أن الصابون يمكن أن يزيلها. ولكن لتحقيق مثل هذا المستوى من الامتثال والتعاون، فأنت بحاجة إلى الثقة. يحتاج الناس إلى الثقة بالعلم، والثقة بالسلطات العامة، والثقة بوسائل الإعلام. على مدى السنوات القليلة الماضية، قوّض السياسيون غير المسؤولين عمدًا الثقة في العلوم والسلطات العامة ووسائل الإعلام. الآن قد يميل هؤلاء السياسيون غير المسؤولين إلى السير في الطريق السريع نحو الاستبداد، بحجة أنه لا يمكنك الوثوق في الجمهور لفعل الشيء الصحيح.

عادة، لا يمكنك إعادة بناء الثقة التي تآكلت لسنوات بين عشية وضحاها. ولكن ما نحن فيه ليس بأجواء عادية. في الأزمات، يمكن للعقول أيضًا أن تتغير بسرعة. يُمكن أن تقع في شجار مرير مع أشقائك لسنوات، ولكن بمجرد حدوث طارئ، تكتشف فجأة خزّانًا خفيًّا من الثقة والوُد، وتُهرعوا لمساعدة بعضكم البعض. لم يفت الأوان لإعادة بناء ثقة الناس في العلوم والسلطات العامة ووسائل الإعلام، بدلاً من بناء نظام مراقبة. يجب علينا بالتأكيد الاستفادة من التقنيات الجديدة أيضًا، ولكن هذه التقنيات يجب أن تُمكّن المواطنين. أنا أؤيد مراقبة درجة حرارة جسمي وضغط دمي، ولكن لا ينبغي استخدام هذه البيانات لترسيخ حكومة قوية، ولكن ينبغي أن تُمكنني هذه البيانات من اتخاذ خيارات شخصية أكثر استنارة، وكذلك تُمكنني من محاسبة الحكومة على قراراتها.

إذا تمكنت من تتبع حالتي الطبية الخاصة على مدار 24 ساعة في اليوم، فلن تتوقف معرفتي عند كوني خطرًا صحيًا على الآخرين، ولكن ستمتد إلى معرفتي بأي العادات تساهم في تحسين حالتي الصحية. وإذا تمكنت من الوصول إلى إحصاءات موثوقة حول انتشار الفيروس وتحليلها، فسأتمكن من الحكم ما تخبرني به الحكومة من حقائق وما إذا كانت تتبنى السياسات الصحيحة لمكافحة الوباء أم لا. عندما يتحدث الناس عن المراقبة، تذكّر أن نفس تكنولوجيا المراقبة يمكن للحكومات استخدامها لمراقبة الأفراد – ويمكن للأفراد أيضًا استخدامها لمراقبة الحكومات.

وبالتالي فإن وباء الفيروس التاجي هو اختبار رئيسي للمواطنة. يجب على كل منا في الأيام المقبلة أن يختار الثقة في البيانات العلمية وخبراء الرعاية الصحية مقابل نظريات المؤامرة التي لا أساس لها والسياسيين الذين يخدمون أنفسهم. إذا فشلنا في اتخاذ القرار الصحيح، فقد نجد أنفسنا نبيع أغلى حرياتنا، معتقدين أن هذه هي الطريقة الوحيدة لحماية صحتنا.

نحن بحاجة إلى خطة عالمية

الخيار الثاني المهم الذي نواجهه هو بين العزلة الوطنية والتضامن العالمي. إن كلا من الوباء نفسه والأزمة الاقتصادية الناتجة عنه مشكلتان عالميتان. لا يمكن حل أي منهما بشكل فعال إلا من خلال التعاون العالمي.

أولاً وقبل كل شيء، من أجل هزيمة الفيروس، نحتاج إلى مشاركة المعلومات عالميًا. هذه هي الميزة الكبرى للبشر على الفيروسات. لا يمكن للفيروس التاجي في الصين والفيروس التاجي في الولايات المتحدة تبادل النصائح حول كيفية إصابة البشر. ولكن يمكن للصين أن تُعلم الولايات المتحدة العديد من الدروس القيّمة حول الفيروس التاجي وكيفية التعامل معه. ما يكتشفه طبيب إيطالي في ميلانو في الصباح الباكر قد ينقذ الأرواح في طهران في المساء. عندما تتردد حكومة المملكة المتحدة بين العديد من السياسات، يمكنها الحصول على المشورة من الكوريين الذين واجهوا بالفعل معضلة مماثلة قبل شهر. ولكن لكي يحدث هذا، نحتاج إلى روح من التعاون والثقة العالميين.

يجب على البلدان أن تبدي استعدادًا لتبادل المعلومات بشكل مفتوح وتواضعًا للحصول على المشورة، ويجب أن تمتلك القدرة على الثقة في البيانات والأفكار التي تتلقاها. نحتاج أيضًا إلى جهد عالمي لإنتاج وتوزيع المعدات الطبية، وعلى الأخص مجموعات الاختبار وأجهزة التنفس. فبدلاً من محاولة كل دولة القيام بذلك محليًا وتكديس أي معدات يمكنها الحصول عليها، يمكن لجهد عالمي مُنسّق أن يُسرّع الإنتاج إلى حد كبير، ويضمن توزيع المعدات المُنقِذة للحياة بشكل أكثر عدالة. مثلما تقوم الدول بتأميم الصناعات الرئيسية خلال الحرب، فقد تتطلب منا الحرب البشرية ضد الفيروس التاجي “إضفاء الطابع الإنساني” على خطوط الإنتاج الضرورية. يجب أن تستعد الدولة الغنية صاحبة العدد القليل من حالات الإصابة بالفيروس لإرسال معدات ثمينة إلى بلد فقير يعاني من كثرة الحالات، واثقة من أن الدول الأخرى ستهب لمساعدتها إذا احتاجت المساعدة لاحقًا.

حتى لو قامت الإدارة الحالية في نهاية المطاف بتغيير مسارها ووضعت خطة عمل عالمية، فإن القليل سيتّبع زعيمًا لا يتحمل المسؤولية مطلقًا، ولا يعترف أبداً بالأخطاء، ينسب كل الفضل لنفسه ويترك كل اللوم للآخرين.

قد نفكر في جهد عالمي مماثل لتجميع العاملين في المجال الطبي. يُمكن للبلدان الأقل تأثراً في الوقت الحالي أن ترسل موظفين طبيين إلى المناطق الأكثر تضرراً في العالم، من أجل مساعدتهم وقت الحاجة، ومن أجل اكتساب خبرة قيّمة. وتبدأ المساعدة في التدفق في الاتجاه المعاكس بانعكاس التحولات الوبائية لاحقًا.

هناك حاجة حيوية للتعاون العالمي على الصعيد الاقتصادي أيضًا. بالنظر إلى الطبيعة العالمية للاقتصاد وسلاسل التوريد، سنصبح أمام فوضى وأزمة عميقة إذا حاولت كل حكومة بشكل منعزل معالجة الوضع في تجاهل تام للحكومات الأخرى. نحن بحاجة إلى خطة عمل عالمية وبسرعة.

شرط آخر هو التوصل إلى اتفاق عالمي بشأن السفر، فتعليق جميع الرحلات الدولية لأشهر سيتسبب في صعوبات هائلة، ويعرقل الحرب ضد فيروس كورونا. تحتاج الدول إلى التعاون من أجل السماح لعدد قليل على الأقل من المسافرين الأساسيين بمواصلة عبور الحدود مثل العلماء والأطباء والصحفيين والسياسيين ورجال الأعمال. يُمكن القيام بذلك من خلال التوصل إلى اتفاقية عالمية بشأن الفحص المسبق للمسافرين في بلدهم. ستكون أكثر استعدادًا لقبول المسافرين في بلدك إذا تأكدت من فحصهم بعناية قبل صعودهم على متن الطائرة.

في الوضع الحالي ولسوء الحظ، لا تفعل البلدان أي من هذه الأشياء. لقد أصيب المجتمع الدولي بالشلل الجماعي. أليس منكم رجل رشيد؟ كان المرء يتوقع أن يرى قبل أسابيع اجتماع طارئ للقادة العالميين للتوصل إلى خطة عمل مشتركة. تمكن قادة مجموعة السبع من تنظيم مؤتمر بالفيديو هذا الأسبوع فقط، ولم تسفر عنه أي خطة من هذا القبيل.

في الأزمات العالمية السابقة – مثل الأزمة المالية لعام 2008 ووباء إيبولا 2014 – تولت الولايات المتحدة دور القائد العالمي. لكن الإدارة الأمريكية الحالية تخلت عن منصب القائد. لقد أوضحت أنها تهتم بعظمة أمريكا أكثر من اهتمامها بمستقبل البشرية.

لقد تخلت هذه الإدارة حتى عن أقرب حلفائها، عندما حظرت جميع رحلات السفر من الاتحاد الأوروبي، ولم تكلف نفسها عناء إعطاء الاتحاد الأوروبي إشعارًا مسبق – ناهيك عن التشاور مع الاتحاد الأوروبي حول هذا الإجراء الجذري. قامت بتخريب علاقاتها مع ألمانيا عندما قدّمت مليار دولار إلى شركة دواء ألمانية لشراء حقوق احتكار لقاح جديد Covid-19. حتى لو قامت الإدارة الحالية في نهاية المطاف بتغيير مسارها ووضعت خطة عمل عالمية، فإن القليل سيتّبع زعيمًا لا يتحمل المسؤولية مطلقًا، ولا يعترف أبداً بالأخطاء، ينسب كل الفضل لنفسه ويترك كل اللوم للآخرين.

إذا لم يُملأ الفراغ الذي خلفته الولايات المتحدة من قبل دول أخرى، فلن تتوقف صعوبة الأمر على إيقاف الوباء الحالي فحسب، بل سيستمر إرثه في تسميم العلاقات الدولية لسنوات قادمة. ومع ذلك، فكل أزمة هي فرصة. نأمل أن يساعد الوباء الحالي البشرية على إدراك الخطر الحاد الذي يشكله الانقسام العالمي.
تحتاج البشرية إلى الاختيار. هل نسير في طريق الانقسام، أم سنتبنى طريق التضامن العالمي؟ إذا اخترنا الانقسام، فلن يؤدي ذلك إلى إطالة أمد الأزمة فحسب، بل سيؤدي على الأرجح إلى كوارث أسوأ في المستقبل. إذا اخترنا التضامن العالمي، فسننتصر على الفيروس التاجي وعلى جميع الأوبئة والأزمات والتحديّات المستقبلية التي قد تهاجم البشرية في القرن الحادي والعشرين.

تُرجم عن مقال الكاتب يوفال نوح حراري في Financial Times

ما هو تأثير فيروس كورونا على الاقتصاد العالمي ؟

مع انتشار فيروس كورونا أو مايعرف بالفيروس التاجي، انخفضت أسعار الأسهم. منذ ذروته في فبراير، انخفض مؤشر S&P 500 بنسبة ١٧٪؜  وهو مؤشر سوق الأسهم الذي يتتبع أسهم ٥٠٠ شركة أمريكية ذات رؤوس أموال كبيرة. وهي تمثل أداء سوق الأسهم و يستخدمه المستثمرون كمعيار للسوق ككل، حيث تتم مقارنة جميع الاستثمارات الأخرى. أن خطر فيروس كورونا على الاقتصاد العالمي أكبر بكثير من المخاطر الصحية. إذا كان الفيروس يؤثر بشكل مباشر على حياتك فمن المرجح أن يكون ذلك من خلال منعك من الذهاب إلى العمل، أو التسبب بطردك من العمل أو إفلاس عملك.

تعتبر تريليونات الدولارات التي تم مسحها من الأسواق المالية هذا الأسبوع مجرد البداية، إذا لم تتدخل حكوماتنا. وإذا استمر الرئيس «ترامب-Trump» في التعثر في تعامله مع الوضع، فقد يؤثر ذلك أيضًا على فرص إعادة انتخابه. وقد حدد «جو بايدن-Joe Biden» على وجه الخصوص فيروس كورونا على أنه ضعف لترامب، واعدًا بقيادة “ثابتة ومطمئنة” خلال ساعة الحاجة الأمريكية.

في جميع أنحاء العالم، تسبب فيروس كورونا بوفاة ٤٣٨٩ مع ٣١ حالة وفاة أمريكية حتى اليوم. لكنها سوف تشل الملايين من الناحية الاقتصادية، خاصة وأن الوباء شكل عاصفة مثالية مع انهيار سوق الأسهم، وحرب نفطية بين روسيا والمملكة العربية السعودية، وانتشار حرب فعلية في سوريا إلى أزمة مهاجرة محتملة أخرى.

يدعونا فيروس كورونا إلى النظر للوراء باعتباره اللحظة التي تعطلت فيها الخيوط التي تربط الاقتصاد العالمي؛ والشركات الناشئة والمتنامية مثل الأعمال التجارية والتي قد تنتهي بدفع الثمن.

بنفس أهمية مكافحة الفيروس إن لم يكن أكثر أهمية هو تطعيم اقتصاداتنا ضد جائحة الذعر القادم. يمكن أن تأتي المعاناة الإنسانية في شكل مرض وموت. ولكن من الممكن أيضًا تجربة عدم القدرة على دفع الفواتير أو خسارة منزلك.
تكافح الشركات الصغيرة على وجه الخصوص مع إيقاف تزويدها بالمؤن، وتركها بدون منتجات أو مواد أساسية. أدى إغلاق المصانع في الصين إلى انخفاض قياسي في مؤشر مدير المشتريات في البلاد والذي يقيس ناتج التصنيع. الصين هي أكبر مصدر في العالم ومسؤولة عن ثلث التصنيع العالمي، لذا فإن مشكلة الصين هي مشكلة الجميع حتى في خضم حرب تجارية بين البيت الأبيض و «بكين-Beijing».

كل هذا يجعل الأمر أكثر مدعاة للقلق من استمرار الحكومات في اعتبارها أزمة صحية وليست اقتصادية. لقد حان الوقت لتولى الاقتصاديون المسؤولية عن الأطباء، قبل أن ينتشر الوباء الحقيقي.

على الرغم من أن الصين تتحمل العبء الأكبر من التكلفة الاقتصادية والبشرية للفيروس، فإن الكثيرين في بكين سيشهدون بريقًا فضيًا في ضعف الاقتصاد الأمريكي، وإلهاءًا عن حروب ترامب التجارية التي بدا أنها تتصاعد دون نهاية في الأفق.

متزامنة تمامًا مع الفيروس التاجي، اندلعت حرب نفط روسية سعودية. على المدى القصير، يمكن لكل من موسكو والرياض تحمل انخفاض أسعار النفط بنسبة ٣٠٪؜ بين عشية وضحاها. لكن أعمال الغاز الصخري في أمريكا لا يمكنها ذلك حيث إن عملية التكسير الأكثر تكلفة تعني أن جزءًا كبيرًا من قطاع النفط الأمريكي لن يكون موجودًا ببساطة إذا بقيت أسعار النفط عند أدنى مستوياتها التاريخية، مما يؤدي إلى عمليات الإغلاق وفقدان الوظائف وربما حتى حالات الركود على مستوى الدولة.

دفع الرئيس ترامب من خلال التخفيضات الضريبية على الرواتب المتأخرة ومساعدة العمال لكل ساعة عمل وهي إجراءات ستساعد أصحاب العمل والموظفين على حد سواء على البقاء. في المملكة المتحدة، كشف المستشار «ريشي سوناك-Rishi Sunak» اليوم عن ميزانية مخصصة لفيروس كورونا. لكن يحتاج الجميع إلى التفكير بشكل أكبر إذا كانوا يريدون التعامل بشكل صحيح مع كيفية تغيير هذا العامل الجديد للوضع الراهن.

الأمر لا يتعلق فقط بالفيروسات التاجية وأسعار النفط أو حتى الاقتصاد العالمي. بل يمثل انعكاس لميزان القوى بين الشرق والغرب. كان مركز هذا، على مدى السنوات ال ١٠ الماضية، سوريا. بعد عقد من الصراع على الأرض، يبدو أن المواجهة تصاعدت الآن من حرب بالوكالة إلى صراع اقتصادي.

شهدت القوى العظمى الناشئة في روسيا والصين ما يعتبره الكثيرون بتدخل أمريكي في سوريا وهم يحاولون الآن تعزيز رؤيتهم لعالم متعدد الأقطاب. وبدلاً من السماح للسعودية حليفة الولايات المتحدة بقيادة أسواق النفط من خلال «كارتل أوبك-OPEC cartel»، تريد روسيا والصين إعادة تشكيل الأسواق العالمية وأرصدة القوى لصالحها.

من أجل البقاء على قيد الحياة خلال هذه التحولات، ستحتاج الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وغيرها لحماية مستقبل أعمالهم، كبيرها وصغيرها، والبحث عن فرص للاستفادة من النظام الاقتصادي العالمي الجديد، وليس إنكاره. إن تجاهل هذه التغييرات التي سببها فيروس كورونا على الاقتصاد العالمي سيكون أكثر ضررا من أي جائحة مرضية.

إذا استمر تفشي المرض بعد شهر نيسان (أبريل) بكثير سيكون من الصعب تجنب الركود الكامل والأسوأ من ذلك، أن أسعار الفائدة طويلة الأجل قريبة بالفعل من الصفر مما يحد بشدة من قدرة الاحتياطي الفيدرالي على تعزيز الاقتصاد الأمريكي. يمكن أن تساعد السياسة المالية مثل تخفيض ضريبة الرواتب، على الرغم من أن ما يحد من الاستهلاك في هذا الوقت ليس نقص المال بل عدم الرغبة في الإنفاق.
لذا، ما إذا كانت الأسواق تبالغ في رد الفعل يعتمد على احتمال استمرار التفشي. يبدو أن الأسواق تتوقع أن يستمر تأثير الوباء لفترة أطول من شهرين. لكن القدرة على التحمل تعتمد إلى حد كبير على تدابير الاحتواء وصناع السياسات لدينا.

المصادر: Independent

CNN 

اقرأ ايضًا باحثة مصرية تطور اختبار الكورونا المستجد في جونز هوبكينز

 

ما مصير البحث العلمي المشترك بعد خروج المملكة المتحدة من الإتحاد الأوروبي؟

ما مصير البحث العلمي المشترك بعد خروج المملكة المتحدة من الإتحاد الأوروبي؟

في الساعة الحادية عشرة من مساء يوم 31 يناير، كان الباحثون بين أولئك الذين يشعلون الشموع بمناسبة خروج المملكة المتحدة من الإتحاد الأوروبي. معظم العلماء لم يوافقوا على خروج بريطانيا من الإتحاد الأوروبي، فقد اشترك العلماء في تأسيس حملة وطنية لإجراء استفتاء ثان على عضوية البلاد في الإتحاد الأوروبي، خشية أن يؤدي هذا الانقسام إلى تدمير الإتحاد الذي عمل على تعزيز التعاون والنهوض بالمعرفة طيلة الأعوام السبعة والأربعين الماضية, لكنها باءت بالفشل بعد تفعيل البريكست.

ما مصير البحث العلمي المشترك بعد خروج المملكة المتحدة من الإتحاد الأوروبي؟

ستكون الأشهر الأحد عشر المقبلة فترة غير مؤكدة مع دخول المملكة المتحدة إلى المرحلة الانتقالية حيث يتعين عليها أن تتفاوض على شروط علاقاتها مع الإتحاد الأوروبي في المستقبل. ولا يعرف الباحثون في المملكة المتحدة بعد ما إذا كانوا سيشاركون في برامج البحوث المشتركة للإتحاد الأوروبي. كما أصبح مستقبل العديد من الباحثين في الإتحاد الأوروبي الذين يريدون أن يعيشوا في بريطانيا بين أيدي وكالة البحوث والإبداع في المملكة المتحدة-UK Research and Innovation، وليس بين أيدي وزارة الداخلية في المملكة المتحدة، أي المؤسسة التي عملت طيلة قسم من العقد الماضي على وضع وتنفيذ السياسات الرامية إلى الحد من الهجرة إلى المملكة المتحدة.

لطالما كانت البحوث من الإهتمامات المحورية بالنسبة للوحدة الأوروبية. ففي عام 1973، انضمت بريطانيا إلى ما هو أسمى من “الجماعة الإقتصادية الأوروبية”، والتي أصبحت فيما بعد الإتحاد الأوروبي. لقد انضمت إلى منظمة أُسست لتعزيز عدد من المبادئ التي تتمحور بالأساس على حل النزاعات عن طريق التفاوض والتسوية، أهمية اتخاد الأمم المتجاورة قراراتها معا وتحقيق مصالح جميع الأعضاء مادام بوسع الدول الغنية مساعدة الدول الفقيرة.

وضعت جميع هذه المبادئ من أجل هدف واحد وهو تجنب تكرار الحرب الوحشية التي خرج منها مؤسسو الإتحاد الأوروبي. وكان علماء القارة الأوروبية جزءاً كبيراً من الحرب العالمية الثانية، وهذا هو السبب الذي جعل مهندسي الكتلة يخططون لكي تصبح البحوث المشتركة (خاصة في التكنولوجيا) جزءاً من وحدة التكتل الأوروبي. وقد ألهمت فكرة “التعاون البحثي وأهميته في بناء السلام” تكتلات إقليمية أخرى في أفريقيا وأمريكا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي.

ومع تبلور الإتحاد الأوروبي، كان بعض القادة العلميين البريطانيين متشككين في التعاون مع زملائهم الأوروبيين. ولكن الشكوك تلاشت مع وضوح الفوائد المترتبة على إنشاء منطقة أبحاث أوروبية (لا تختلف عن تلك المتواجدة في الولايات المتحدة) والتمويل وحرية التنقل في التكتل.

فقد حصل الباحثون البريطانيون على ثاني أكبر حصة من أموال الإتحاد الأوروبي في بلادهم (بعد المزارعين). ولغاية يونيو 2019، كان التمويل يتعدى مليار يورو سنويا (1,1 مليار دولار أميركي). وخصص جزء كبير من هذا المبلغ للمشاريع التعاونية ذات الأثر المجتمعي، مثل الدراسة الاستقصائية الاجتماعية الأوروبية European Social Survey التي تتتبع المواقف الإجتماعية المتغيرة في 38 بلد أوروبي، وبرنامج السماء النظيفة (Clean Sky Programme)، الذي يعمل فيه باحثون من 27 بلدا للحد من انبعاثات الكربون في الطائرات والضوضاء، ومبادرة الأدوية المبتكرة Innovative Medicines Initiative، حيث يتعاون الباحثون لتطوير أدوية للحالات التي تعاني من نقص الخدمات مثل السل.

حرية التنقل

وإدراكا من الحكومة لما قد تخسره، فإنها تجري تحقيقا بشأن ما إذا كان بوسع بريطانيا أن تدفع للإنضمام إلى برامج الإتحاد الأوروبي. ولكن في الوقت نفسه، كان الوزراء يستعدون لإحتمال عدم حدوث ذلك. وذلك لأن عضوية المملكة المتحدة في برامج البحوث في الإتحاد الأوروبي ستتطلب شكلاً من أشكال حرية التنقل. ولحد الوقت الحالي، قالت حكومة المملكة المتحدة إن حرية التنقل يجب أن تنتهي. ويتوقف الإنضمام إلى برامج الاتحاد الأوروبي أيضا على شروط علاقة المملكة المتحدة مع الإتحاد الأوروبي في المستقبل. فهناك وجهات نظر متباينة داخل الحكومة بشأن مدى قرب بريطانيا من قوانين وأنظمة شركائها السابقين في الإتحاد الأوروبي. ولكن من منظور الباحثين والمجتمع ككل، تعد الفوائد المترتبة عن هذا النظام أكبر من تلك المترتبة على الانتقال في الإتحاد الأوروبي، على الأقل في الوقت الراهن.

فمن مصلحة الجميع أن تستمر بريطانيا في التوافق مع أطر صنع القرار في القارة بشأن البيئة، البيانات، سلامة الأغذية، وعلوم الحياة الواسعة. إن القضايا البيئية دولية بطبيعتها، لذلك ليس هناك معنى أو منطق إذا باشرت بريطانيا في خلق معاييرها الخاصة، أو التوافق مع أقلية من البلدان. وينطبق الشيء نفسه على اللوائح التنظيمية المتعلقة بالتكنولوجيات مثل تلك المعنية بتحرير الجينات والذكاء الإصطناعي. ويتعين على الباحثين في المملكة المتحدة أن يشاركوا في الجهود العالمية.

أمنية رالف داهرندورف

الفيلسوف الألماني البريطاني رالف داهرندورف

كتب الفيلسوف الألماني البريطاني رالف داهرندورف الكلمات التالية بسبب إحباطه سنة 1995 عندما وجدت حكومة محافظة سابقة في المملكة المتحدة نفسها في حالة من الاضطراب بسبب علاقة بريطانيا بالإتحاد الأوروبي:

“يرى الكثيرون أن الإتحاد الأوروبي نموذج يحتذى به، ويجب أن تكون بريطانيا جزء منه”

كان داهرندورف في وضع حيث كان بوسعه أن يرى العلاقة بين بريطانيا والإتحاد الأوروبي من جوانب عدة. فقد كان بوسعه أن يرى كيف فسر البعض عضوية الإتحاد الأوروبي باعتبارها خسارة للسيادة في دولة ما بعد الإمبريالية. ولكن بوصفه لاجئاً من ألمانيا النازية، رحبت به بريطانيا، لذلك أدرك أيضاً الأهمية التي يتمتع بها الإتحاد الأوروبي الرافض لعودة الحكم الاستبدادي في أوروبا.

سيتم رفض رغبة داهرندورف، ولكن من الضروري ألا تسمح كل من المملكة المتحدة والدول الأعضاء الـ 27 المتبقية ومؤسسات الإتحاد الأوروبي بالتقليل من أهمية تلك المهمة بسبب البركست.

إن الإتحاد الأوروبي موجود لحماية الديمقراطية وسيادة القانون. ويكفل استمرار السلام والرخاء عن طريق التفاوض والتسوية، وحرية السفر والتجارة، وعن طريق مساعدة القوي للضعيف. وتحفز جميع هذه المبادئ بالمعرفة والبحث والابتكار. وهذه قيم يتعين على كل دولة أن تتطلع إليها، بما في ذلك المملكة المتحدة حتى لو لم تعد جزءاً من الإتحاد الأوروبي.

المصدر: هنا

Exit mobile version