ما هي الحرب الهجينة وخصائصها ولماذا هي مهمة اليوم؟

هذه المقالة هي الجزء 10 من 10 في سلسلة نبذة عن أقسى الجرائم البشرية، الحروب وأنواعها

تُظهر الدراسات الحديثة حول الحروب في أفغانستان والعراق مدى تكلفة الحروب الشاملة من حيث الخسائر البشرية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية بغض النظر عن مدى تفاوت قدرات الأطراف المتصارعة أو الخصوم. بسبب التقدم التكنولوجي السريع وظهور الحرب غير المتكافئة، يمكن أن تكون الحروب الشاملة غير فعّالة حتى في مواجهة القوى التي لديها موارد ونفوذ أقل نسبيًا. وبالتالي، قد يصبح النصر احتمالًا صعبًا للغاية.

لكن هذا لا ينذر بتلاشي الصراعات، بل بتغير ديناميكيات الحرب. وظهور استراتيجيات جديدة كاستراتيجية الحرب الهجينة وهي ما سنتعرف عليه في مقالنا هذا.

مفهوم الحرب الهجينة

لا يعد مفهوم الحرب الهجينة مفهومًا جديدًا، فهو قديم قدم الحرب، ولطالما لجأ الإنسان إلى أساليب الخداع والمناورة.

“إخضاع العدو دون قتال هو ذروة المهارة”.

صن تزو في كتابه “فن الحرب” [1]

شاع المفهوم الحديث للحرب الهجينة من قبل فرانك هوفمان في عام 2007، وهو جندي سابق في مشاة البحرية الأمريكية وباحث دفاعي. وعرّفها قائلًا “تتضمن الحروب الهجينة مجموعة من أنماط الحرب المختلفة، بما في ذلك القدرات التقليدية والتكتيكات والتشكيلات غير النظامية والأعمال الإرهابية، والعنف العشوائي والإكراه والفوضى الإجرامية.” [1]

ويمكن القول إن تكامل الأساليب التقليدية وغير النظامية للحرب ميّز هذه الحروب الهجينة عن أشكالها التاريخية. [3] ويحاول مصطلح الحرب الهجينة فهم التعقيد الذي تتسم به حروب القرن الـ21، والتي تتضمن تعدد الفاعلين، ويطمس الفروق التقليدية بين أنواع النزاع المسلح، وحتى بين الحرب والسلام.

كما يُستخدم أيضًا لوصف الطابع المتغير للحرب المعاصرة، لأسباب ليس أقلها التعقيد والفتك المتزايدين للجهات الفاعلة العنيفة غير الحكومية، والإمكانات المتزايدة للحرب السيبرانية.[3] لكن على الرغم من التعريفات الكثيرة لها، إلّا أنّ مفهومها متنازع عليه ولا يوجد لها تعريف متفق عليه عالميًا. وتعرضت للكثير من الانتقادات بسبب افتقارها إلى الوضوح المفاهيمي. [2] لذا، فمن المهم إيجاد تعريف واضح ومحدد لها، لتتمكن الدول من إدراك التهديدات الهجينة وتفعيل آليات للاستجابة لها ولأدواتها.

أدوات الحرب الهجينة

تستلزم الحرب الهجينة تفاعلًا أو اندماجًا بين أدوات القوة التقليدية وغير التقليدية وأدوات التخريب. ويتم مزج هذه الأدوات والوسائل بطريقة متزامنة لاستغلال نقاط ضعف الخصم. وتشمل مجموعة متنوعة من الأنشطة وتستخدم الأدوات المختلفة لزعزعة استقرار المجتمع من خلال التأثير على صنع القرار فيه. وتشمل الأدوات التالية:

  • التدخل في الانتخابات.
  • التضليل ونشر الأخبار الكاذبة.
  • الهجمات السيبرانية.
  • هجمات الطائرات بدون طيار.
  • التأثير المالي والضغط الاقتصادي. [4]
  • التدريبات العسكرية على الحدود وواسعة النطاق، والاستعراضات العسكرية والإكراه والتخويف.[2]
  • زعزعة الثقة بين الحكومات والشعوب، وإفقاد السلطة للشرعية.[2]
  • استخدام وسائل التواصل الاجتماعي الرقمية للتأثير على الشعوب.[2]

وتمنح هذه الأدوات الحروب الهجينة القدرة على تحقيق النصر بدون قتال. وتميزها بخصائص تجعلها حروب قادرة على تغيير موازين القوى لصالح الطرف الأضعف في الحروب غير المتكافئة.

خصائص الحرب الهجينة

ما يميّز الحرب الهجينة هي قدرتها على دمج عدّة أساليب في وقت واحد وتحقيق الأهداف بأرخص السبل وبأفضل النتائج. فبخلطها بين الأدوات الحركية وغير الحركية تلحق الضرر بالدولة الخصم بالطريقة المثلى. ومع غياب الحد الفاصل بين الحرب والسلم أو ما يسمى بالمنطقة الرمادية يصبح من الصعب تفعيل الحرب أو المواجهة المباشرة.

تكاليفها ومخاطرها منخفضة بشكل ملحوظ. فبدلًا من إرسال الدبابات والطائرات وخوض معارك دامية، تكتفي هذه الاستراتيجية بتمويل نشر المعلومات المضللة أو التعاون مع أطراف أخرى غير حكومية كحرب بالوكالة. محققة بذلك إخضاعاً للعدو بدون قتال. [2]

من خصائص الحرب الهجينة المميزة أيضًا هو جانب الغموض والإسناد. حيث تنشئ الجهات الفاعلة جانب الغموض بحكمة وتعمل على توسيعه ونشره. بعبارة أخرى، تصبح الدولة المستهدفة إما غير قادرة على اكتشاف هجوم مختلط أو غير قادرة على نسبته إلى دولة قد تكون هي من تقوم به أو ترعاه. ويصبح من الصعب على الدولة المستهدفة تطوير استراتيجية دفاعية مناسبة.

كما تسمح هذه الحرب بتقويض الخصم على جبهتين، الأولى وهي جبهته المادية؛ العسكرية والبنية التحتية والاقتصادية. أمّا الجبهة الأخرى فهو شرعية سلطة وثقة الشعب بها.[2] وبذلك تدمّر العدو المستهدف من الداخل وتجعله مشتتًا بين صراعاته الداخلية ومواجهة هجمات العدو الهجينة. ويسمح تأثير تكنولوجيا المعلومات الناشئة للجهات الفاعلة الحكومية وغير الحكومية باستهداف صانعي القرار والجمهور من خلال وسائل الإعلام المعولمة والمتشابكة والإنترنت. [4] وتستخدم الحرب الهجينة عدّة تكتيكات عسكرية، فإضافة إلى استخدام الوكلاء قد تلجأ إلى حرب العصابات أوالمتمردين أوالإرهابيين. [3]

ما الذي يجعل هذا الاستراتيجية تحوّلا مهمًا في الصراعات اليوم؟

غيّرت هذه الاستراتيجية الشكل التقليدي للصراع. فقد تمّكن الاتحاد الروسي من ضم شبه جزيرة القرم، مستخدمًا أسلوب التضليل الإعلامي. حيث أنّه في الـ13 من مارس عام 2014، ظهر في شبه الجزيرة مجموعات مسلحة ترتدي الزي العسكري الروسي وتحمل سلاحه ولكن بدون شارات أو دلالات تدل على انتمائه إلى أي طرف، وقامت باحتلال مطار ومجموعة قواعد عسكرية أوكرانية، وأطلق عليهم “الرجال الخضر الصغار”. أظهرهم الإعلام الروسي كدليل على الرضا الشعبي من المدنيين الأوكران فيها. ودعوة منهم للتدخل الروسي والدخول إلى شبه الجزيرة وذلك ما حصل بالفعل.[6]

كما استخدموها في حربهم الحالية ضدّ أوكرانية فمن الهجمات السيبرانية إلى استخدام الطائرات من دون طيّار وغيرها من التكتيكات التي تشير إلى حرب هجينة فيها. وفي المقابل استخدم الأمريكان استراتيجيات مضّادة كحجب المواقع الروسية عن الشبكة أو تدخل شركات عملاقة ك”ميتا” أو نشر الإنترنت الفضائي من قبل المليادير الأمريكي إيلون ماسك. [5]

يمكن لهذا الاستراتيجية تحقيق مكاسب صفرية في مواجهة الخصوم. كضم مناطق كاملة بلا إراقة دماء أو توجيه ضربات موجعة للخصوم قادرة على شلّ حركتهم لفترات طويلة بأرخص السبل وأبسطها.

وفي الختام لا تغيّر الحرب الهجينة طبيعة الحرب. حيث يظل الإكراه في صميم الحرب الهجينة كما هو الحال مع أي شكل من أشكال الحرب. ويبقى الهدف هو نفسه، وهو اكتساب ميزة جسدية أو نفسية ليخسر الخصم. ومما لا شك فيه أنها تمثل تحديًا لمؤسسات الأمن القومي لمواجهة مجموعة واسعة من التهديدات التي يمكن وصفها بالحرب الهجينة. وخاصة أنّها قد تؤذن بصعود قوى عالمية جديدة قد تلقي بعصر القطبية الواحدة في غياهب النسيان.

المصادر:

1- Economist
2- Nato.int
3- marshallcenter
4- carnegieeurope
5- orfonline
6- e-ir.info

الحرب البيولوجية سلاح في يد العلماء تظهر جانبهم المظلم

هذه المقالة هي الجزء 7 من 10 في سلسلة نبذة عن أقسى الجرائم البشرية، الحروب وأنواعها

لطالما اتبع الإنسان كل الطرق الأخلاقية واللا أخلاقية في الحروب. فتحقيق النصر والغلبة كان الهدف الوحيد حتى ولو على حساب بشر ومخلوقات بريئة لا ناقة لها في تلك الحروب ولا جمل. وتميل الجيوش والدول إلى اللجوء إلى الأساليب الأرخص والأسرع والأكثر بطشًا. فلجأت إلى استعمال الأسلحة البيولوجية (القنبلة الذرية للرجل الفقير)  فكانت الحروب البيولوجية وهي ما سنتعرف عليه في مقالنا هذا.

ما هي الحروب البيولوجية؟

الحرب البيولوجية هي الاستخدام المتعمد للكائنات الحية، أو السموم المشتقة منها. والتي تسبب المرض أو الموت للإنسان أو الحيوانات أو النباتات، في نزاع أو هجوم إرهابي. [1]

استخدم الإنسان السموم لأغراض الاغتيال منذ فجر التاريخ. ليس فقط ضد الأعداء الأفراد ولكن أيضًا ضد الجيوش أحيانًا. ومع ذلك، فإن تأسيس علم الأحياء الدقيقة من قبل لويس باستير وروبرت كوخ قدّم آفاقًا جديدة للمهتمين بالأسلحة البيولوجية. إذ سمح باختيار العوامل وتصميمها بالطرق العلمية. [2] مما نقل الحروب البيولوجية إلى مستوى آخر بسبب تلك الأسلحة.

وبالإضافة إلى التطبيقات العسكرية الاستراتيجية أو التكتيكية. يمكن استخدام الأسلحة البيولوجية في الاغتيالات السياسية. وإصابة الماشية أو المنتجات الزراعية للتسبب في نقص الغذاء والخسارة الاقتصادية. وخلق كوارث بيئية، وانتشار المرض والخوف وانعدام الثقة بين الحكومة والشعب. [4]

وأنواع الأمراض اللي تستخدم كأسلحة كثيرة، ومنها أنواع قد انقرضت بالفعل تم تخزينها في مختبرات في الكثير من الدول أو قديمة تمت تطويرها في مختبرات سرية.

أنواع الأوبئة المستخدمة كأسلحة بيولوجية

يمكن استخدام أي كائن حي مسبب للأمراض (مثل البكتيريا أو الفيروسات أو الفطريات أو البريونات أو الريكتسيا). أو السموم مثل السموم المشتقة من الحيوانات أو النباتات أو الكائنات الحية الدقيقة أو المواد المماثلة المنتجة صناعياً في الأسلحة البيولوجية. ويمكن تطويرها لجعلها أكثر ملاءمة للإنتاج الضخم والتخزين والنشر كأسلحة.[4]

واستخدم الإنسان الأوبئة المعدية كالطاعون عبر التاريخ. لكن لم يكن من الواضح ما إذا كانت أي من هذه الهجمات قد تسببت في انتشار المرض.[3] ومن أشهر الأنواع التي استخدمت في العصور الحديثة هي الجمرة الخبيثة التي استخدمت منذ الحرب العالمية الأولى وحتى مطلع القرن العشرين في الولايات المتحدة الأمريكية. والحمى النزفية التي يسببها الفيروس كفيروس إيبولا وغيره.[3] ومرض الجدري الذي تثير احتمالات انتشاره مخاوفًا حقيقية وخاصة مع تضاؤل عدد الناس الملقحين ضده، [2] ومرض التولاريميا، وداء البروسيلات، والكوليرا، والتهاب الدماغ، والتسمم الغذائي، والرعام والببغائية وحمى كيو، والتيفوس، والبكتيريا المقاومة للمضادات الحيوية المختلفة. [3]

وتتكون الأسلحة البيولوجية بشكل عام من جزئين، العامل المسبب للمرض وطرق نقله.

أنظمة نقل الأسلحة البيولوجية

يمكن أن تتخذ أنظمة نقل الأسلحة البيولوجية عدة أشكال. وقد صنعت برامج صناعة الأسلحة البيولوجية قنابل يدوية وصواريخ من أجل إيصال أسلحة بيولوجية لوجهتها. كما صممت عدد من البرامج خزانات الرش لتركيبها في الطائرات والسيارات والشاحنات والقوارب. كما كانت هناك جهود موثقة لتطوير أجهزة توصيل لعمليات الاغتيال أو التخريب. بما في ذلك مجموعة متنوعة من البخاخات والفرش وأنظمة الحقن. وكذلك وسائل تلويث الطعام والملابس.[4] وطوِّرت الصواريخ البالستية العابرة للقارات المحملة بالأمراض أيضًا.

وعلى الرغم من قبح هذه الأسلحة إلّا أن العديد من الدول استخدمتها في حروب شاملة وهناك العديد من الأمثلة عليها في التاريخ.

الحروب البيولوجية في العصور التاريخية القديمة

الحرب البيولوجية قديمة قدم الحضارة ويشير هذا التسلسل التاريخي إلى بعض الأمثلة:

  • في عام 1155 قام الإمبراطور بربروسا بتسميم آبار المياه بالجثث البشرية في مدينة تورتونا في إيطاليا.
  • وفي عام 1346  قذف المغول جثث ضحايا الطاعون فوق أسوار مدينة كافا، في شبه جزيرة القرم.
  • في عام 1763 وزّع البريطانيون بطانيات مرضى الجدري على الأمريكيين الأصليين.
  • وفي عام 1797 غَمر نابليون السهول حول مانتوا بإيطاليا لتعزيز انتشار الملاريا.
  • وفي عام 1863 باع الكونفدراليون ملابس مرضى الحمى الصفراء والجدري لقوات الاتحاد في الولايات المتحدة الأمريكية.

أمّا في العصور الحديثة فقد اختلفت الأسلحة والاستراتيجيات المختلفة في الحرب حيث بدأت الدول بتطوير منظومات متكاملة وخاصة مع تصاعد الحرب الشاملة وصولًا إلى الحربين العالميتين الأولى والثانية، التي وصلت فيها الحرب البيولوجية إلى الذروة. وزادت الحرب الباردة من حدّة السريّة وخاصة بعد ظهور الحلول الدبلوماسية والقانونية من معاهدات واتفاقيات وغيرها. واستعملت كل من ألمانيا وبريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية واليابان الأسلحة البيولوجية بطرق وحشية مختلفة.

الحرب البيولوجية الألمانية

كان الجيش الألماني أول من استخدم أسلحة الدمار الشامل البيولوجية والكيميائية، خلال الحرب العالمية الأولى. وعلى الرغم من أن هجماتها بالأسلحة البيولوجية كانت على نطاق صغير إلى حد ما، لم تحقق نصرًا ساحقًا في عمليات سرية باستخدام كل من الجمرة الخبيثة والرعام. وبإصابة الحيوانات مباشرة أو تلويث علف الحيوانات في العديد من البلدان المعادية لها.[3] ما دفع الدول الأوربية إلى تشكيل برامج سلاح مماثلة لمواجهتها، وعلى رأسها بريطانيا.

الحرب البيولوجية البريطانية

تبيّن في الأمثلة السابقة أن البريطانيون كانوا سبّاقين إلى اعتماد الأمراض كسلاح فتّاك، وتحديدًا بعد انتهاء الحرب بلا تحقيق سلام شامل. بالإضافة إلى تقارير استخباراتية كاذبة ومقلقة، حرّضت دول أوروبية مختلفة على برامج الحرب البيولوجية الخاصة بها، قبل وقت طويل من اندلاع الحرب العالمية الثانية، وعلى رأسها المملكة المتحدة، التي أطلقت برنامج أبحاث الأسلحة البيولوجية. حيث أنشأ السير فريدريك بانتينج، مكتشف الأنسولين الحائز على جائزة نوبل، ما يمكن تسميته بأول مركز أبحاث خاص للأسلحة البيولوجية في عام 1940 بمساعدة رعاة من الشركات. كما قامت بريطانيا بالضغط على حلفائها الفرنسيين والأمريكيين للقيام بتجارب وأبحاث مشابهة خشية هجوم بيولوجي تشنّه ألمانيا.

وعلى الرغم من أنّ النازيين لم يفكروا بجديّة في استخدام الأسلحة البيولوجية إلّا أنّ حلفاءهم اليابانيين كانوا شرسين وعديمي الرحمة في تجاربهم وهجماتهم البيولوجية.[3]

الحرب البيولوجية اليابانية على الصين

شرع اليابانيون في برنامج واسع النطاق لتطوير أسلحة بيولوجية خلال الحرب العالمية الثانية. واستخدموها في النهاية في غزوهم للصين. حيث اعتقد والد برنامج الأسلحة البيولوجية الياباني، القومي الراديكالي شيرو إيشي قائد الوحدة 731 المسؤولة عن تنفيذ الهجمات البيولوجية [5]. أن مثل هذه الأسلحة ستشكل أدوات هائلة لتعزيز الخطط الإمبريالية اليابانية.

وعندما أصبح رئيسًا لبرنامج الأسلحة البيولوجية الياباني خلال تلك الفترة، قتل ما يصل إلى 600 سجين سنويًا في تجارب بشرية في واحد من مراكزه ال26 فقط ليصنف كسفاح. كما اختبر اليابانيون ما لا يقل عن 25 من العوامل المسببة للأمراض المختلفة على السجناء والمدنيين الأبرياء. وخلال الحرب، سمم الجيش الياباني أكثر من ألف بئر مياه في القرى الصينية لدراسة تفشي الكوليرا والتيفود. وأسقطت الطائرات اليابانية البراغيث الموبوءة بالطاعون فوق المدن الصينية وربما تكون قد وزعتها عن طريق المخربين في حقول الأرز وعلى طول الطرق. واستمرت بعض الأوبئة التي تسببت فيها لسنوات وقتلت نحو أكثر من 30 ألف شخص في عام 1947.

كان اليابانيون معروفين بشراستهم وبطشهم ولجوئهم إلى أعنف الأساليب في القتال، وظهر ذلك جليًا في معركتهم ضدّ الولايات المتحدة الأمريكية خلال الحرب العالمية الثانية.

الحرب البيولوجية اليابانية على الولايات المتحدة الأمريكية

طوّر الجيش الياباني خطة يائسة لمهاجمة الساحل الغربي لأمريكا بأسلحة بيولوجية. وبدأ كل شيء خلال الأشهر الأخيرة من الحرب، نتيجة اقتراب قوات الحلفاء من الجزر اليابانية. مما جعل قيادة الجيش الإمبراطوري الياباني أكثر يأسًا من أي وقت مضى لوقف تقدمهم، فاضطرت لأن تلجأ لكل الفرص المحتملة للفوز. فلجأت لهجمات “بانزاي” الجماعية ضد القوات الأمريكية. كما اعتمدت على هجمات كاميكازي الانتحارية بكثرة. وكانت تلك من الأساليب التي أتبعتها في أقصى درجات يأسها من الفوز.

وعلى الرغم من صرامة تلك الأساليب التي تسببت في خسائر كبيرة في صفوف الحلفاء المتقدمين، إلا أنها لم توقفهم. وبعد معارك أوكيناوا وإيو جيما، كان الحلفاء على أعتاب الجزر اليابانية، يستعدون لغزو جماعي.

في تلك الأيام الأخيرة اليائسة من الحرب، توصل اليابانيون إلى خطة محفوفة بالمخاطر من شأنها أن تشكل جريمة حرب وهي مهاجمة جنوب كاليفورنيا بأسلحة بيولوجية. وكان إنجاز تلك المهمة على يد الوحدة 731 سيتطلب نشر أكبر غواصات تم صنعها سرًا على الإطلاق لتغطية آلاف الأميال قبل الصعود إلى السطح لإطلاق طائرات من شأنها إسقاط الأسلحة البيولوجية على مدن أمريكية غير متوقعة.

وتم تجهيز خمس غواصات طويلة المدى جديدة من فئة I-400، وهي أكبر الغواصات التي تم بناؤها حتى عصر الغواصات النووية البالستية في الستينيات. كان من المخطط لها أن تسافر من اليابان إلى كاليفورنيا حاملة كل واحدة منها ثلاث طائرات من طراز آيتشي M6A. وبمجرد الاقتراب من سان دييغو، ستطلق الغواصات الطائرات المسلحة بقنابل تحتوي على براغيث مصابة بالطاعون. وكان من المقدر لها أن تصبح مهمة انتحارية، لعدم وجود فرصة تقريبًا لبقاء الطيارين أحياء، وفرصة صغيرة لبقاء الغواصات وأطقمها على قيد الحياة.

تم التخطيط لإطلاق العملية في 22 سبتمبر 1945. ولكن في 6 و 9 أغسطس، ألقت الولايات المتحدة قنابل ذرية على مدينتي هيروشيما وناغازاكي اليابانيتين على التوالي، فاستسلمت اليابان في 15 أغسطس. [5] وانتهت العملية التي لم يكن ليعلم مدى الأذى الذي كانت ستسببه للولايات المتحدة الأمريكية.

بعد فترة طويلة من استسلام اليابانيين، استخدمت قوات إيشي أيضًا بعض عملائها ضد الجيش السوفيتي. لكن لم يؤكد ما إذا كانت الإصابات في كلا الجانبين ناجمة عن هذا الانتشار المتعمد للمرض أو عن طريق العدوى الطبيعية.

وبعد انتهاء الحرب، أدان السوفييت بعض الباحثين اليابانيين في مجال الحرب البيولوجية بارتكاب جرائم حرب. لكن الولايات المتحدة منحت الحرية لجميع الباحثين في مقابل الحصول على معلومات عن تجاربهم البشرية. [3]

حرب الولايات المتحدة الأمريكية البيولوجية

ركّز الجهد الرئيسي خلال الحرب العالمية الثانية على تطوير القدرات لمواجهة هجوم ياباني بأسلحة بيولوجية. لكن الوثائق تشير إلى أن الحكومة الأمريكية لم تركّز على الدفاع فحسب بل ناقشت فكرة الهجوم أيضًا، وقامت بالعديد من التجارب، كاستخدام الأسلحة المضادة للمحاصيل. و بعد فترة وجيزة من انتهاء الحرب، شرع الجيش الأمريكي في اختبارات في الهواء الطلق. حيث عرّض حيوانات الاختبار والمتطوعين من المدنيين الأبرياء لكل من الميكروبات المسببة للأمراض وغير المسببة للأمراض. كما أدى إطلاق البكتيريا من السفن البحرية قبالة سواحل فرجينيا وسان فرانسيسكو إلى إصابة العديد من الأشخاص. بما في ذلك حوالي 800 ألف شخص في منطقة باي وحدها. وتم إطلاق الهباء الجوي الجرثومي في أكثر من 200 موقع. وكان الاختبار الأكثر شهرة هو تلوث نظام مترو نيويورك عام 1966 ببكتيريا جلوبيجي العصوية. وهي بكتيريا غير معدية تستخدم لمحاكاة إطلاق الجمرة الخبيثة، لدراسة انتشار العامل الممرض في مدينة كبيرة.[3]

خلال الحرب، أطلقت الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي برامج أسلحة بيولوجية واسعة النطاق. تضمنت تلك البرامج تطوير بخاخات رذاذ قادرة على إيصال العوامل البكتيرية والفيروسية بالطائرة أو الصواريخ الباليستية. [2]

وفي الواقع، كان الاتحاد السوفييتي سبّاقًا إلى تلك البرامج، ونفذّ تجارب تسببت بخسائر بشرية فادحة.

حرب الاتحاد السوفييتي البيولوجية

على الرغم من توقيعهم على اتفاقية الأسلحة البيولوجية والتكسينية. فقد أسس الاتحاد السوفيتي برنامج ” Biopreparat” أي الاستعداد البيولوجي. وهو مشروع حرب بيولوجي عملاق، وظّف في ذروته أكثر من 50 ألف شخص في مختلف مراكز البحث والإنتاج. كان حجم ونطاق جهود الاتحاد السوفييتي مذهلين حقًا، فقد أنتجوا وخزنوا أطنانًا من عصيات الجمرة الخبيثة وفيروس الجدري. بعضها لاستخدامه في الصواريخ الباليستية العابرة للقارات. إضافة إلى البكتيريا المقاومة للمضادات الحيوية المختلفة، بما في ذلك الطاعون. كما عملوا على فيروسات الحمى النزفية المسببة لمرض إيبولا، وهي بعض أكثر مسببات الأمراض فتكًا التي واجهتها البشرية.

لكنّ تلك التجارب تسببت في وفيات كثيرة لمواطني الاتحاد. حيث في عام 1971، تفشى مرض الجدري في مدينة أرالسك الكازاخستانية وقتل ثلاثة من الأشخاص العشرة المصابين. و يُعتقد أنهم أصيبوا من مركز أبحاث الأسلحة البيولوجية في جزيرة صغيرة في بحر آرال. [3] وفي عام 1979، قتل 100 شخص وعدد لا يحصى من الماشية بعد الإطلاق العرضي لجراثيم الجمرة الخبيثة من مصنع للأسلحة البيولوجية في مدينة سفيردلوفسك الروسية.[2] إضافة إلى بيع لحوم مسمومة من حيوانات ملوثة بالجمرة الخبيثة في السوق السوداء حيث تم الكشف في النهاية أنه كان بسبب حادث في مصنع للأسلحة البيولوجية. كانت السرية المحيطة بهذا البرنامج مذهلة للغاية، وخاصة في فترة الحرب العالمية الثانية.

ومع انهيار الاتحاد السوفيتي، توقفت معظم هذه البرامج وتم التخلي عن مراكز البحث أو تحويلها للاستخدام المدني. ومع ذلك، لا يعلم أحد ما الذي يعمل عليه الروس اليوم وماذا حدث للأسلحة التي أنتجوها. و يخشى خبراء الأمن الغربيون الآن من أن بعض مخزونات الأسلحة البيولوجية ربما لم يتم تدميرها أو قد تكون سقطت في أيدٍ أخرى. ويتصاعد اليوم الخوف من استخدام الأسلحة البيولوجية كسلاح للإرهاب الدولي، وقد حدث ذلك سابقًا.[3]

هل استخدام الأسلحة البيولوجية حكر على الحكومات؟

الإجابة هي قطعًا لا، فلا يتطلب إنتاج الأسلحة البيولوجية أكثر من عالم خبير ومختبر مزوّد بالمعدات اللازمة. فالخرائط الجينية للفيروسات والبكتيريا والكائنات الدقيقة الأخرى القاتلة متاحة بالفعل على نطاق واسع في المجال العام. على سبيل المثال، نشرت مجلة علمية رائدة الشفرة الوراثية الكاملة لمسببات الكوليرا.

ويعمل الباحثون على رسم خرائط الجينوم لأكثر من 100 ميكروب آخر. بما في ذلك البكتيريا التي تسبب الجمرة الخبيثة والطاعون. فأي عالم يملك رغبة التدمير يمكنه استخدام هذه المعلومات لمحاولة استنساخ سلالات شديدة الضراوة من البكتيريا والفيروسات.

وهناك الكثير من علماء الأحياء المجهرية في العالم الذين يتقاضون أجورًا منخفضة. والذين قد يكونون متحمسين للعمل مع عملاء عديمي الضمير. مما ينتج “أمراض مصممة” غير قابلة للشفاء، مثل الجمرة الخبيثة المقاومة للبنسلين، أو “الفيروسات الخفية” التي تصيب المضيف ولكنها تبقى صامتة حتى يتم تنشيطه بواسطة محفز خارجي. كالتعرض لمادة كيميائية غير ضارة في العادة. [2]

إضافة إلى أن وجود مخزون لدى الدول من الأمراض كالجدري مثلًا قد يمثل قنبلة موقوتة قد تنفجر في أي وقت. حيث قام كل من الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة الأمريكية بتخزين الكثير من الجمرة الخبيثة.[2] ووقوع هذه المخازن في الأيدي الخطأ قد يتسبب في كارثة إنسانية حقيقية.

علي سبيل المثال، تسبب الهجوم بغاز السارين عام 1995 داخل مترو أنفاق طوكيو من قبل طائفة نهاية العالم اليابانية أوم شينريكيو، بمقتل 13 شخصًا وإدخال الآلاف إلى المستشفيات. إضافة إلى سلسلة من الهجمات الفاشلة عبرالتسمم الغذائي والجمرة الخبيثة بالقرب من القصر الإمبراطوري، ومطار طوكيو وقاعدتين عسكريتين أمريكيتين. [2]

كما نشرت طائفة دينية السالمونيلا التي أدت إلى انتشار التهاب الكبد والالتهابات الطفيلية والإسهال الشديد والتهاب المعدة والأمعاء، في الولايات المتحدة للتدخل في الانتخابات المحلية.[3]

وللأسف لا تعدّ الهجمات الإرهابية رغم سوءها المخاطر الوحيدة للجوء الحكومات والجماعات والأفراد إلى هجمات الحرب البيولوجية.

مخاطر الحرب البيولوجية

لا تتضمن اتفاقية الأسلحة البيولوجية والتكسينية آليات للتحقق. لذا يمكن لأي دولة أن تتهم دولة أخرى بوجود السلاح لديها. فبالرغم من أنّ العديد من هذه المزاعم قد تبين أنها خاطئة فيما بعد. لكن تم استغلالها إما كدعاية أو كذريعة للحرب، كما شوهد مؤخرًا في حالة حرب العراق. [3] أو الحرب الروسية الأوكرانية مع اتهام روسيا لأوكرانيا بأنها تستخدم الطيور لشنّ هجمات بيولوجية عليها.

إضافة إلى وجود اتهامات كاذبة باستخدام الأسلحة البيولوجية، مما يبرز صعوبة التمييز بين الأمراض التي تحدث بشكل طبيعي والحوادث والاستخدام المتعمد، [4] مثل ما حدث مع فيروس كورونا مثلًا.

إضافة إلى استخدام الكثير من الأمراض كذرائع أو نشرها كإشاعات لاستخدامها كذرائع مستقبلًا. كنظرية المؤامرة القائلة بأن فيروس نقص المناعة البشرية المكتسب هو سلاح بيولوجي. التي لا تزال حية في أذهان بعض الناس. فاعتمادًا على من يسأل، قيل أنّ علماء المخابرات الروسية أو الأمريكية هم من طوروا فيروس نقص المناعة البشرية، إمّا لإلحاق الضرر بالولايات المتحدة أو لزعزعة استقرار كوبا.

إضافة إلى عدم معرفة مدى الضرر الذي قد يسببه استخدام هذه الأمراض على الإنسان وبقية الأحياء على حد سواء. وخاصة أنّ الكثير من الأمراض وخاصة الفيروسية منها قابلة للتحور والتبدل. وقد لا تملك الدول آليات دفاعية ضدها لحماية مواطنيها.

عمليًا، لم تمتنع أي دولة لديها القدرة على تطوير أسلحة الدمار الشامل عن القيام بذلك. لكن وجدت عدّة محاولات وجهود دبلوماسية ودولية للحد من انتشار هذه الأسلحة.

الجهود الدبلوماسية للحد من انتشار الأسلحة البيولوجية

وقعت خلال الحرب العالمية الأولى معاهدة عام 1925 لحظر استخدام الأسلحة البيولوجية خلال الحروب المستقبلية. لكن لم توقع الولايات المتحدة ولا اليابان على المعاهدة قبل اندلاع الحرب العالمية الثانية. لذا تم تطوير الجمرة الخبيثة وغيرها من الأسلحة البيولوجية سراً من قبل كلا البلدين. وكذلك من قبل ألمانيا والاتحاد السوفيتي وبريطانيا العظمى.

وفي عام 1969، أصدر الرئيس ريتشارد نيكسون أمرًا تنفيذيًا من جانب واحد وغير مشروط ينهي برنامج الأسلحة البيولوجية الأمريكي. وتم تدمير جميع المخزونات الأمريكية بحلول عام 1972. وفي نفس العام، وقعت 160 دولة معاهدة تحظر جميع استخدامات الأسلحة البيولوجية والكيميائية. وصدقت 143 دولة في النهاية على المعاهدة. بما في ذلك الولايات المتحدة وروسيا والعراق وإيران وليبيا وكوريا الشمالية. لكن 52 دولة لم توقع على الاتفاقية، بما في ذلك إسرائيل.

لكن على الرغم من النوايا النبيلة. إلا أن معاهدة عام 1972 تفتقر إلى أي أحكام مهمة للتنفيذ أو التحقق. نتيجة لذلك، حافظ عدد من الموقعين على المعاهدة على برامج نشطة للأسلحة البيولوجية.[3] أي أن المعاهدتين فشلتا إلى حد كبير في منع البلدان من إجراء أبحاث حول الأسلحة الهجومية وإنتاج أسلحة بيولوجية على نطاق واسع، لعدم وجود آليات للسيطرة أو الرقابة الدورية.

لذا يجب على الدول تطوير آليات دفاعية للتخفيف من آثار الهجمات البيولوجية أو منعها. وعليها تطوير أجهزة عالية التقنية قادرة على الكشف الفوري عن البكتيريا والفيروسات القاتلة في البيئة، والتشجيع على إنتاج وتخزين لقاحات جديدة. إضافة إلى المطالبة بعمليات تفتيش دولية متبادلة لضمان الامتثال للمعاهدة.[2] فالاستعداد لهذا الحدث ومنعه يجب أن يشمل أيضًا تنسيقًا متعدد القطاعات. ولتبادل المعلومات حول الاستعداد لتفشي الأمراض وهجمات الأسلحة البيولوجية والاستجابة لها.[4]

ختامًا إننا نميل إلى القول إنه لن يستخدم أي شخص سليم العقل هذه الأشياء على الإطلاق. وفي الواقع إنّ الخاسر الأكبر من هذه الحروب الرخيصة هو الإنسان البريء والمذنب على حد سواء. لأنّ تأثيرات هذه الحروب يمتد إلى مستخدم أسلحتها نفسه. وهي أقرب ما تكون إلى حروب انتحارية شاملة لا يعرف مداها أو نهايتها.

المصادر:

1- Sciencedirect
2- Stanford
3- Ncbi
4- UN
5- Sandboxx

ما هي حرب العصابات؟

هذه المقالة هي الجزء 5 من 10 في سلسلة نبذة عن أقسى الجرائم البشرية، الحروب وأنواعها

قد لا تصدّق في أيامنا هذه فكرة قدرة جيش غير منظم على هزيمة جيشٍ نظامي بكامل عتاده الحربي. وخاصة مع تطوّر الأسلحة والاستراتيجيات والتكتيكات العسكرية. لكنّ أهل مكة أدرى بشعابها. والشعوب المقاومة والتي تحمل عقيدة النضال قادرة على دحر أعتى الجيوش وإلحاق أشدّ الخسائر بها، عبر استخدامها لتكتيكات حرب العصابات وهو ما سنتعرف عليه في مقالتنا هذه.

تعريف حرب العصابات؟

نوع من الحروب تخوضها قوّات غير نظامية. عبر قيامها بعمليات سريعة على نطاق ضيق ضدّ القوّات المسلحة التقليدية والشرطة، وفي بعض الأحيان ضدّ قوّات متمردة منافسة. إمّا بشكل مستقل أو بالتزامن مع استراتيجية سياسية – عسكرية أكبر.[1]

يتميز هذا النوع من الحروب بالكمائن والغارات المفاجئة والأساليب غير النظامية للقتال. وتصبح وحشية وفوضوية وغير منظمة في كثير من الأحيان.[2]

ولها دور كبير في تغيير مجريات الأحداث والمعارك. فتمركزها في الأرياف والمناطق المحيطة في المدن منحها هالة من الرعب النفسي للخصوم. فكانت تكتيكًا مهمًا في الحروب النفسية. ورغم ما قد تكتنفه من عيوب إلّا أنّها تحولت إلى مظهر رئيسي في الصراعات وخاصة بعد قيام الحرب الباردة.

تأخذ هذه الحرب طابعًا عقائديًا وأيديولوجيًا. فأغلب الحروب قامت بغرض التحرير والاستقلال ولذلك تنال شهرة واسعة وشعبية كبيرة. وتتلقى كل أشكال الدعم من الرأي العام سواء أكان دعمًا ماديًا أو دعمًا بالعنصر البشري. [1]

واستخدم مصطلح حرب العصابات لأول مرة في القرن الـ19 لوصف المعارك التي خاضها الجنود الأسبان والبرتغاليون غير المنظمين ضد جيش نابليون. وأخذت شهرتها منذ ذلك الحين لتمكن أولئك القروين من هزيمة جيش بذلك الحجم وإخراجه من شبه الجزيرة الإيبيرية. وتزايد دورها بشكل كبير خلال الحرب العالمية الثانية. [1]

ورغم حداثة المصطلح إلا أنّ حرب العصابات قديمة قدم التاريخ وهناك الكثير من الأمثلة التاريخية عليها.

أمثلة عن حرب العصابات

حرب العصابات في العصور القديمة

في عام 512 قبل الميلاد، انحنى الملك المحارب الفارسي داريوس الأول، والذي حكم أكبر إمبراطورية وقاد أفضل جيش في العالم، لتكتيكات الكر والفر التي اتبعها البدو الرحل. مما دفعه لمغادرة أراضيهم وراء نهر الدانوب.

كما واجه الملك المقدوني الإسكندر الأكبر (356-323 قبل الميلاد) معارضة حرب العصابات الجادة. وتغلب عليها عبر تعديل تكتيكاته وكسب قبائل مهمة إلى جانبه.

كما تم استخدام عمليات حرب العصابات وشبه حرب العصابات لأهداف عدوانية في القرون التالية من قبل الفايكنج، الذين اجتاحوا أيرلندا وإنجلترا وفرنسا. واستخدمها المغول الذين غزوا الصين وأرعبوا وسط أوروبا.

وفي القرن الثاني عشر، تعرقل الغزو الصليبي للعرب أحيانًا بسبب تكتيكات حرب العصابات التي اتبعها السلاجقة. [1]

حرب العصابات في العصور الحديثة

أصبحت حرب العصابات حديثًا عاملًا مساعدًا مفيدًا للاستراتيجيات السياسية والعسكرية المهمة والتقليدية داخل أراضي العدو وفي المناطق التي يحتلها. فبعد هزيمة الفرنسيين على يد الثوار الإسبان بقرنين ازدهرت حرب العصابات. حيث حاول الثوار والمناضلون مجابهة الاستعمار عبثًا في كل من الهند والجزائر والمغرب وبورما (ميانمار) ونيوزيلندا والبلقان.
كما استخدمت القبائل العربية بقيادة الأمير فيصل الأول تكتيكات حرب العصابات لإخراج العثمانيين من أراضيهم خلال فترة الحرب العالمية الأولى. وفي عام 1927 رفع الزعيم الشيوعي ماو تسي تونغ علم التمرد الريفي الذي استمر لمدة 22 عامًا.[1] والذي طوّر من تكتيكات الحرب ووسائلها حتى وصل إلى النصر الذي صنع الصين التي نعرفها اليوم.

وخلال فترة الحرب العالمية الثانية أصبحت الأيديولوجية السياسية عاملًا أكثر وضوحًا في حملات حرب العصابات العديدة. حيث استخدمها الشيوعيون المحليّون في معظم البلدان التي غزتها ألمانيا وإيطاليا واليابان. وخلال الحرب الباردة، دعم الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة سلسلة من حركات التمرد والتمرد المضّاد في حروب بالوكالة. [1] والتي كانت حرب العصابات تكتيكها الحربي الرئيسي.

بعد عام 1948 واجه الكيان الصهيوني حرب عصابات شنّها الفدائيون الفلسطينيون. وهو صراع طويل الأمد وما زال مستمرًا إلى اليوم. [1]

غيّرت حرب العصابات مصائر الكثير من الشعوب وحررتها من الاستعمار. حيث أخرج الثوار الجزائريون الاحتلال الفرنسي من أراضيهم. وأنهت الحكم البريطاني في كينيا وقبرص. وأطاح فيديل كاسترو في كوبا بنظام باتيستا المترنّح والفاسد والمدعوم من الولايات المتحدة الأمريكية في عام 1959. [1] وتختلف الدوافع والأهداف وراء قيام هذه الحرب.

الدوافع من قيام حروب العصابات

قد لا يخفى على البعض السمعة السيئة لهذا النوع من الحروب. ويعود ذلك إلى أنّ الحكومات والجيوش المنظمة التي تواجهها تروّج لها على أنّها عمل همجي تخريبي. وبسبب غياب التنظيم ووضوح الرؤية السياسية في أغلبها والذي يؤدي أحيانًا إلى فشلها في النهاية وزعزعة الاستقرار فحسب. لكنّ الحقيقة أنّها قد تحمل في طياتها أهدافًا نضالية نبيلة. وغالبًا ما يكون هدفها تحقيق العدالة وكسب الحقوق. كمقارعة الاحتلال والتحرر من العبودية أو مواجهة الدكتاتوريات الشمولية.

قد تحمل في العصور الحديثة دوافع وأهداف مختلفة وخاصة لدى الأصوليين المتطرفين. كالقاعدة وداعش وغيرها. أو دوافع سياسية وأيديولوجية أو قومية انفصالية. [1] ولكن على الرغم من الفوضى التي قد تنضوي عليها، ذلك لا يعني غياب الاستراتيجيات والتكتيكات التي تعد أبرز مظاهرها.

الاستراتيجيات والتكيتكات

تتمثل الاستراتيجية العريضة التي تقوم عليها حرب العصابات الناجحة بالمضايقات المطولة معتمدة تكتيكات دقيقة ومرنة ومصممة لإرهاق العدو. تجسّد هذه الاستراتيجية العوامل السياسية والاجتماعية والاقتصادية والنفسية التي يخضع لها العنصر العسكري في كثير من الأحيان. ولكن دون التقليل من الأهمية القصوى للدور العسكري.

ومن الأمثلة الهامة على هذه الاستراتيجية كان الاستراتيجية التي وضعها لورنس العرب 1916-1918 في الجزيرة العربية. والتي كان الغرض الأساسي منها بناء القيادة العربية المتماسكة المتمثلة بالأمير فيصل. إضافة إلى إحداث خسارة نفسية في صفوف العثمانيين عبر قطع خطوط الإمداد، عبر تدمير سكة الحجاز.

لجأ ماو تسي تونغ إلى استراتيجية حرب العصابات لتحقيق غاية استيلاء الشيوعيين على الصين. حيث أدرك أنّ ذلك يتطلب حربًا طويلة الأمد ضد الجيش التقليدي. وأكدت حملة حرب العصابات التي شنها ماو على مدى أكثر من عقدين على التكتيكات المرنة القائمة على عنصري المفاجأة والخداع، والهجوم في العمق، وتوجيه الضربات الخاطفة، والمواجهة فقط في حالة النصر المضمون أو الانسحاب من الأرض.

كسب الدعم الشعبي من الاستراتيجيات الهامة أيضًا. فهو مصدر للتمويل والسلاح والمؤن والقوة البشرية، عبر الترهيب أو نشر الفكر عبر وسائل الإعلام.

إضافة إلى ما سبق، يعد كسب الدعم الخارجي من الاستراتيجيات الهامة أيضًا، وتوحيد الصفوف والتنظيم وإيجاد الهدف السياسي الواضح.[3] واستراتيجية الترهيب المنظم عبر الاغتيالات المنظمة لقادة ومرؤوسي العدو. أو ارتكاب مجازر جماعية، بهدف الترهيب واستمرار الولاء والتمويل والحماية لهم. أو لإجبار الحكومات على الدخول في مفاوضات، رغم أنّ المفاوضات غالبًا ما تفضي لحدوث انشقاقات داخلية.

من المهم لقائد المجموعات تطوير أساليبه وتكتيكاته بشكل مستمر، لأنّ هذه الحروب طويلة الأمد.[3] ومن التكتيكات الهامة المستخدمة: تكتيك الهروب الوهمي، وعمليات الوحدات الصغيرة، والتشكيلات الفضفاضة، واللباس غير الرسمي، والحركة السريعة، والانضباط في إطلاق النار، واستخدام الرعب والكمين والهجوم المفاجئ. [3]

تظهر حرب العصابات أهمية وجود عقلية عسكرية فذة لتنظيم الهجمات. ولكنّ نوع السلاح المستخدم يلعب دورًا هامًا أيضًا في حسم الصراع أو توجيهه في كثير من الأحيان.

الأسلحة المستخدمة

بداية كانت العصابات تلجأ لاستخدام السلاح الأبيض، ثم تحوّلت إلى سرقة سلاح العدو وتنظيم هجمات منظمة على مستودعات الذخيرة. وكثيرًا ما استخدمت بنادق محلية الصنع. وقنابل يدوية وشراك خداعية وألغام. إضافة إلى قنابل المولوتوف والقنابل البلاستيكية (المتفجرة البلاستيكية) رخيصة الثمن والفعالة للغاية في ظل ظروف معينة.

و أضاف الانتشار العالمي للأسلحة خلال عقود الحرب الباردة بعدًا جديدًا لقدرات حرب العصابات. حيث قدمت القوى العظمى والدول الأخرى بنادق هجومية حديثة ومدافع رشاشة ومدافع هاون. وأسلحة متطورة مثل القذائف الصاروخية والصواريخ المضادة للدبابات والصواريخ المضادة للطائرات. كما أدى انهيار الاتحاد السوفيتي وتحول بعض جمهورياته إلى دول مستقلة إلى بيع المزيد من الأسلحة.[1]

وفي الختام، أطلق على ممارسي حرب العصابات اسم المتمردين أو المرتزقة على مر القرون. حيث دأب القادة العسكريون المحبطون على تسميتهم بالإرهابيين والخارجين عن القانون. في حين وصفهم آخرون بالمحاربين الوطنيين وقادة الحروب الثورية الصغيرة. و بغض النظر عن المصطلحات، تباينت أهمية حرب العصابات بشكل كبير عبر التاريخ.

تقليديًا، كانت سلاح احتجاج يستخدم لتصحيح الأخطاء الحقيقية أو المتخيلة التي تُفرض على شعب إما من قبل حكومة حاكمة أو من قبل محتل أجنبي. لذا يمكننا القول أنّها حققت نجاحات ملحوظة أحيانًا وعانت من هزائم كارثية في أحيان أخرى.

المصادر:

1- Britannica
2- Battlefields
3- Britannica

ما هو القانون الدولي وكيف بدأت العلاقات الدبلوماسية؟

القانون الدولي

عرف القانون الدولي على أنه وسيلة لربط البلدان وحل النزاعات عن طريق الحوار والتفاوض بدلًا من الحرب. ولضمان حماية وسير المصالح بين الدول. وللقانون الدولي نوعان من المصادر؛ أصلية وثانوية. المصادر الأصلية هي التي يرجع إليها لاكتشاف القواعد القانونية وتحديد مضمونها. على عكس المصادر الثانوية التي لا تنشئ قوانين دولية بل يستعان بها للدلالة على وجود إحدى قواعد القانون الدولي ولمعرفة طريقة تطبيقها.

المصادر الأصلية

  • الاتفاقيات الدولية العامة والخاصة التي تضع قواعد معترفاً بها صراحةً من جانب الدول المتنازعة.
  • العرف الدولي المعتبربمثابة قانون دل عليه تواتر الاستعمال.[1]
  • التشريعات الداخلية والمقصود منها هو المبادئ العامة للقانون الداخلي التي يمكن تطبيقها على النطاق الدولي عند عدم وجود مصدر قانوني آخر.

المصادر الثانوية أو الاستدلالية

  • اجتهاد المحاكم مثل محكمة العدل الدولية ومحكمة التحكيم الدولية الدائمة وهي المصدر الاستدلالي الأول للقانون الدولي.
  • الاتفاقيات الثنائية التي تبرم بين دولتين لا أثر لها في خلق قواعد عامة تحكم العلاقات الدبلوماسية. وسبب ذلك راجع إلى نوع هذه الاتفاقيات والغرض الذي تقوم من أجله كتقرير تبادل التمثيل الدبلوماسي بين دولتين. وعلى هذا، فإن الاتفاقيات الثنائية لا ترسم إلا البنود العريضة للعلاقات الدبلوماسية بين دولتين. ولا يجوز التمسك بها في العلاقات مع الدول الأخرى التي ليس طرفاً فيها.

المعاهدات الدولية

أدت النزاعات الطائفية على مدى التاريخ إلى الحروب. وإحدى أشرس هذه الحروب هي حرب الثلاثين عاماً. حيث كانت الإمبراطورية الرومانية أهم أطرافها، وبين الدول الأوربية نتيجة للخلافات الدينية بين مؤيدي الكنيسة ومناهضيها ولأسباب سياسية أخرى. واستخدمت فيها جيوشاً من المرتزقة أدت الى جرائم حرب فادحة.

تعتبر «معاهدة وستفالية-«Treaty of Westphalia الموقعة عام 1648 نقطة الانطلاق في تاريخ القانون الدولي بالنسبة لموضعه الحالي. فقد اختتمت بها حرب الثلاثين عاماً. وكان الهدف منها تسوية النزاعات بشكل عام والنزاعات الدينية بشكل خاص. وقد تعهد ملوك السويد وفرنسا بضمان شروط هذه المعاهدة. [2]

غير أن هذا لا يعني أن الاتفاقات الدولية لم يكن لها وجود قبل ذلك التاريخ. فبعضها ذات صفة عارضة، لا يحكمها سوى بضعة قواعد عرفية نتيجة التقاليد. والبعض الآخر لاعتبارات دينية أو فلسفية، مما يجعلها تختلف في أسسها عن مبادئ القانون الدولي المعروف حالياً.

أقدم سوابق الحد من استخدام أسلحة الدمار الشامل

كان استخدام الفيلة في الجيوش الرومانية إما ممنوعاً أو غير مشجع عليه. ولذلك عقدت «معاهدة أفاميا-Treaty of Apamea» عام 188 ق.م التي أنهت الحرب بين روما والمملكة السلوقية في سورية. وأجبر الرومان الملك السلوقي (أنطيوخوس الثالث) على تدمير قوته الأساسية وهي الفيلة. ويمكن اعتبار هذا الشرط من أقدم المحاولات القانونية للحد من استعمال أسلحة الدمار الشامل في الحروب. حيث كان استخدمت الفيلة في الحروب كسلاح تدميري فتاك. [3]

العلاقات الدبلوماسية في عهدها الأول

كانت العلاقات الدولية في العصور القديمة ضيقة ومحدودة لا تتعدى الشعوب المتجاورة. وكان موضوعها في أغلب الأحيان عن الحروب التي شنتها هذه الشعوب على بعضها، وما تتضمنه من تحالف سابق أو صلح لاحق.

الشعوب الآسيوية والإفريقية

وجدت في العصور القديمة علاقات دولية قوية بين الشعوب الآسيوية والإفريقية كشفت عنها آثار بابل وآشور ومصر والصين والهند. فلقد أبرم حاكم مصر رمسيس الثاني معاهدة مع خاتوسل ملك الحيثين عام 1278ق.م من أجل إقامة سلام وتحالف دائم بينهما.[4]

اليونان

كانت مدن اليونان القديمة الوحدات السياسية المتعاملة مع بعضها، وشهدت هذه المدن أنظمة حكم وفلسفات مختلفة. ومرت بثلاثة مراحل، تمثلت المرحلة الأولى في حملة الأعلام البيضاء حيث أصبغت على هؤلاء سلطة شبه دينية. ووضعوا تحت حماية الإله هرمس. أما المرحلة الثانية فهي مرحلة الخطباء وهي مستوى أعلى من مستوى الأعلام البيضاء. وكان اختيار المبعوثين يتم من بين الحكماء والفلاسفة. أما المرحلة الثالثة فكانت مرحلة ازدهار نظام الدولة المدنية. [5]

الرومان

اعتمدت الإمبراطورية الرومانية على مبدأ السيطرة واخضاع شعوب المناطق الأخرى وفرض سلطانها عليهم. وبالرغم من ذلك، ظهر بها مجموعة من القواعد القانونية التي تحكم العلاقات التي تنشأ بين الرعايا الرومان وبين رعايا الشعوب التابعة لروما لضمان حمايتهم ومنع استرقاقهم على عكس الشعوب والقبائل الأخرى.

المراجع

  1. المركز الديمقراطي العربي 2016
  2. شبكة الجزيرة الإعلامية 2017
  3. History world
  4. Oxford University press
  5. المركز الديمقراطي العربي

ما هي الحرب الباردة وكيف أنهكت العالم؟

هذه المقالة هي الجزء 3 من 10 في سلسلة نبذة عن أقسى الجرائم البشرية، الحروب وأنواعها

أعلن الرئيس الأمريكي ترومان استسلام اليابان ونهاية الحرب العالمية الثانية بعدما ألقت الولايات المتحدة قنبلتين ذريتين على مدينتي هيروشيما وناغازاكي اليابانيتين في 6 و 9 أغسطس 1945 على التوالي [2]. وفي 8 مايو 1945، انتهت الحرب العالمية الثانية في أوروبا. وبعدها بأشهر قليلة في ذات العام، تم التوقيع على وثائق الاستسلام الرسمية على متن السفينة يو إس إس ميسوري. وانتهت الحرب العالمية بشكل رسمي [1]، ليبدأ بعدها عهد الحرب الباردة وهي ما سنتعرف عليه في مقالنا هذا.

ما هي الحرب الباردة؟

الحرب الباردة هي منافسة سرية ومقيدة في ذات الوقت، نشأت بعد الحرب العالمية الثانية بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي وحلفائهما. شنّت الحرب الباردة على جبهات سياسية واقتصادية ودعائية وبلجوء محدود لاستخدام السلاح. تم استخدام المصطلح لأول مرة من قبل الكاتب الإنجليزي جورج أورويل في مقال نُشر عام 1945 للإشارة إلى ما توقع أنّه سيكون مأزقًا نوويًا بين “دولتين أو ثلاث دول عظمى وحشية، تمتلك كل منها سلاحًا قادرًا على الفتك بالملايين في بضع ثوان”[3].

أظهر استخدام الأسلحة الذرية التفوق التكنولوجي لأمريكا، ولكنه زاد أيضًا من حدّة التوتر مع الاتحاد السوفيتي، ممهدًا الطريق للحرب الباردة.[2] وسعى الاتحاد السوفييتي إلى إقامة أنظمة شيوعية في أوروبا الشرقية لحمايته من أي تهديد محتمل من ألمانيا. وخشي الأميركيون والبريطانيون من الهيمنة السوفييتية على أوروبا الشرقية ووصول الأحزاب الشيوعية إلى السلطة في أوروبا الغربية.[3]

بداية الحرب الباردة

اشتعلت الحرب الباردة بين عامي 1947-1948، عندما أدت المساعدة الأمريكية المقدمة للدول أوروبا الغربية بموجب خطة مارشال إلى وضعها تحت النفوذ الأميركي.[3]

وفي عام 1949 شكلّت الولايات المتحدة وحلفاؤها الأوروبيون منظمة حلف شمال الأطلسي (الناتو). وهي قيادة عسكرية موحدة لمقاومة الوجود السوفييتي في أوروبا. وفي العام ذاته أنهى الاتحاد السوفييتي احتكار الولايات المتحدة الأميركية للسلاح الذري بتفجيره رأسه الحربي الأول [3]. ليبدأ معه سباق التسلح بين الدولتين. إضافة إلى وصول الشيوعيون الصينيون إلى السلطة. وبلغت الحرب الباردة الذروة في خمسينات القرن الماضي.

الحرب الباردة في خمسينات القرن العشرين

اندلعت الحرب الكورية عام 1950، حيث دعم الاتحاد السوفييتي حكومة كوريا الشمالية الشيوعية ودعمت الحكومة الأميركية حكومة كوريا الجنوبية واستمرت الحرب حتى عام 1953. [3]

هدأ التوتر بين الدولتين بين عامي 1953 و 1957، ويرجع ذلك إلى حد كبير إلى وفاة زعيم الاتحاد السوفييتي جوزيف ستالين. لكن رغم ذلك تم الإعلان عن تشكيل حلف وراسو في عام 1955. وهو منظمة عسكرية تضم دول التكتل السوفييتي. وتم قبول ألمانيا الغربية في حلف الناتو في العام ذاته.[3] وانتقلت بعدها الحرب الباردة في الستينات إلى مستوى آخر.

الحرب الباردة في ستينات القرن العشرين

خلال الستينات بدأت الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد السوفييتي بتطوير الصواريخ العابرة للقارات. وفي عام 1962 نصب السوفييت سرًا في كوبا صواريخ قادرة على شنّ هجوم نووي على المدن الأميركية. وهو ما أدى إلى اندلاع أزمة الصواريخ الكوبية والتي تسببت في تزايد وتيرة الصراع بين الدولتين إلى حد الخوف من قيام حرب شاملة بينهما، ولكنّ الصراع انتهى عند التوصل إلى اتفاق سحب الصواريخ.[3]

ونتيجة التخوّف من اندلاع حرب نووية شاملة بين الدولتين وقعتا على اتفاقية حظر الأسلحة النووية في عام 1963. ليبدأ بعدها سباق التسلح سرًا بين الدولتين. [3] ولكنّ هدأ التوتر في السبعينات قليلًا.

الحرب الباردة في سبعينات القرن العشرين

شهدت فترة السبعينات تخفيفًا من حدّة الصراع بين القوتين العملاقتين. حيث عقدت محادثات للحد من من الأسلحة الاستراتيجية تمخض عنها اتفاقيتا SALT 1 عام 1972 و SALT 2 عام 1979. وحدّتا الاتفاقيتين من ترسانة الدولتين الصاروخية. [3] لكنّ سباق التسلح بقي مستمرًا في الثمانينات. ومارست الدولتان نفوذهما على بلدان العالم الثالث في تلك الفترة وكانت الحرب بالوكالة أبرز مظاهر ذلك النفوذ.

نماذج عن حروب بالوكالة خلال فترة الحرب الباردة

تجنبت الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي المواجهة العسكرية المباشرة خلال فترة الحرب الباردة تخوفًا من استخدام الأسلحة الذرية. وانخرطتا في عمليات قتالية فعلية فقط لمنع الحلفاء من الانضمام إلى الجانب الآخر أو الإطاحة بهم إن فعلوا. حيث أرسل الاتحاد السوفيتي قوات للحفاظ على الحكم الشيوعي في ألمانيا الشرقية (1953)، والمجر (1956)، وتشيكوسلوفاكيا (1968)، وأفغانستان (1979). [3]

أمّا الولايات المتحدة فقد أطاحت بحكومة يسارية في غواتيمالا (1954)، ودعمت غزوًا فاشلاً لكوبا (1961)، وغزت جمهورية الدومينيكان (1965) وغرينادا (1983). [3]

ولم تكن الحرب بالوكالة نمط الصراع الوحيد خلال الحرب الباردة، حيث كان للصراع بين القطبين العملاقين أشكال أخرى.

أشكال الصراع في الحرب الباردة

لم يقتصر التنافس بين الدولتين على سباق التسلح أو الحروب ضد الشيوعية. بكل كان صراعًا أيديولوجيًا بين الفكرين الاشتراكي والرأسمالي أيضًا. وإضافة إلى ذلك كانت حرب الجاسوسية في أوجها. كما تنافست الدولتان لإثبات هيمنتهما التكنولوجية في سباق الفضاء لمدة 20 عامًا. وكان للاتحاد السوفييتي السبق بإطلاق سبوتنيك-1 في عام 1957، وهو أول قمر اصطناعي. بينما كانت الولايات المتحدة الأمريكية أول من يرسل رجلًا إلى القمر في عام 1969. وبقي التنافس قائمًا حتى منتصف السبعينات حيث بدأت الدولتان بالتعاون في مهمات مشتركة [4]

كما اكتسبت لعبة الشطرنج أهمية سياسية هائلة، وسرعان ما أصبحت رمزًا للكرامة الوطنية لدى السوفييت. وعومل عباقرة الشطرنج السوفييت كأصول قومية وأبطال وطنيين. واستخدموهم كدعاية خلال الحرب الباردة للدلالة على عظمة ثقافتهم. وسيطر الروس كأسياد للعبة حتى انتزع منهم الأمريكي بوبي فيشر اللقب عندما هزم سباسكي في عام 1972. [5] وكان لهذه المواجهة وقع قوي، حيث كان لها أبعاد فكرية وعقائدية كبيرة بين الطرفين.

نهاية الحرب الباردة

بحلول منتصف ثمانينيات القرن الماضي ومع وصول الرئيس جورباتشوف إلى السلطة، تغيّرت الحياة خلف ستار الاتحاد السوفييتي الحديدي. وحصلت الانتفاضات الديمقراطية في دول الكتلة السوفيتية. حيث كان يصارع الفوضى الاقتصادية والسياسية. وأقامت الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي علاقة أكثر انفتاحًا، حتى توصلتا إلى معاهدة نووية في عام 1987 قضت على فئة من الصواريخ الأرضية الخطرة بشكل خاص من ترسانات الدولتين. [5]

أقام الرئيس جورباتشوف إصلاحات اقتصادية. لكنّها أضعفت حزبه الشيوعي وسمحت للسلطة بالانتقال إلى روسيا والجمهوريات الأخرى المكونة للاتحاد السوفيتي. وفي أواخر عام 1991 انهار الاتحاد السوفيتي وولدت 15 دولة مستقلة. وتزعم روسيا زعيم منتخب ديمقراطيًا ومعادٍ للشيوعية. فانتهت بذلك الحرب الباردة بين الدولتين.[3]

ختامًا، نقلت الحرب الباردة البشرية إلى مرحلة جديدة من الصراع، نتيجة تخوّف الدول من حدوث حرب نووية ستودي بكل أشكال الحياة على الأرض. كما حدّت من انتشار الأسلحة النووية نتيجة الاتفاقات التي حدثت خلالها والتي وضعت شروطًا قاسية لحيازة تلك الأسلحة. كما أظهرت أنّ الإنسان قادر على تحقيق السلام بشكل أو بآخر حتى ولو بحرب باردة!

المصادر
1- Nationalww2museum
2- Titanmissilemuseum
3- britannica
4- Nationalgeographic
5- Globalhistory

ما هي الحرب بالوكالة؟

هذه المقالة هي الجزء 4 من 10 في سلسلة نبذة عن أقسى الجرائم البشرية، الحروب وأنواعها

حروب أهلية وصراعات على مناطق نفوذ وثورات وانقلابات عسكرية بقيت آثارها لعقود وغيّرت الخارطة السياسية لعدّة دول ومصائر شعوب بأكملها. وفي كثير من الأحيان تحدث تلك الحروب تحت مسميات وشعارات خلابة، ولكن في حقيقتها لم تكن أكثر من وسيلة وأداة في أيدي القوى العظمى لتحقيق استراتيجياتها التوسعية. فمن صراع الكوريتين إلى باكستان وأفغانستان والشرق الأوسط ووصولًا إلى الحرب الروسية الأوكرانية. قائمة تطول من حروب دامية وصراعات طويلة الأمد وجميعها تصنف كحروب بالوكالة، فما هي الحرب بالوكالة؟ هذا ما سنتعرف عليه في مقالنا هنا.

ما هي الحرب بالوكالة؟

تحدث الحرب بالوكالة عندما تحرّض قوّة عظمى أو تلعب دورًا رئيسيًا في دعم وتوجيه طرف ما إلى نزاع. ولكنها لا تقوم إلا بجزء صغير من القتال الفعلي نفسه. [1] وتتناقض الحرب بالوكالة ليس فقط مع الحرب التقليدية – عندما تتحمل الدولة عبء دفاعها (أو الهجوم) – ولكن أيضًا مع مفهوم التحالف. أي لا يمكننا تصنيف أي تحالف كحرب بالوكالة. [1]

وقد تم استخدامها لقرون عدّة لكن استخدامها بالشكل السائد الذي نعرفه بدأ بشكل خاص منذ عام 1945. [2] ومن وسائلها الدعم اللوجستي وتقديم المعلومات الاستخباراتية واستخدام قوات العمليات الخاصة والطائرات بدون طيار. حيث يقوم الوكيل بكامل المهام القتالية والعمليات المباشرة على الأرض.

ما أسباب لجوء الدول إلى الحرب بالوكالة؟

وصف الرئيس الأميركي دوايت أيزنهاور الحروب بالوكالة ذات مرة بأنها “أرخص تأمين في العالم”. بينما قال الرئيس الباكستاني ضياء الحق عنها أنها “تبقي النزاع متأججًا” في مناطق الصراع القائمة [2]. وتلجأ الدول إلى اعتماد هذه الاستراتيجية لعدّة أسباب وهي:

  • أنّ قتال السكان المحليين سيخفف الخسائر البشرية للقوى العظمى الداعمة لهم [1]. ولأنّ الوكلاء في الغالب أكثر قبولًا في مجتماعتهم المحلية.
  • ويمكّن الوكيل الراعي من الحصول على معلومات أكثر عن المجتمعات المحلية وخاصة إذا ما كان الوكيل قوّة حرب عصابات. فالعصابات المحلية تملك معرفة كاملة بتضاريس وسكان البلد ويمكنهم الاندماج مع السكان المحليين بطريقة يستحيل أن تفعلها قوة أجنبية.
  • هذا النوع من الحروب يقلل من احتمالية تحفيز رد فعل قومي أو وطني والذي غالبًا ما يحصل عند التدخلات الأجنبية. [1]
  • افتقار الدول إلى القوة العسكرية اللازمة للقيام بتدخل مباشر أو حرب شاملة يدفعها إلى التأثير عبر الحدود باستخدام وكلاء لها. مثل دعم طهران للحوثيين في اليمن الذي يمنحها نفوذًا هناك.[1]
  • كما أن الحرب بالوكالة تعد حربًا رخيصة [2] مقارنة بالتدخل العسكري المباشر.
  • وقد تساعد الإيديولوجيا المشتركة سواء أكانت إيديولوجيا دينية أو سياسية.
  • يمكن استخدام الوكيل لحسم الصراع أو جعله مقتصرًا على نطاق جغرافي أو بشري.[1]
  • نقل مناطق الصراع إلى أراضي الوكيل الذي قد تصبح أرضه ساحة معركة. مما يجعل أطراف النزاع الحقيقيين محافظين على قوتهم البشرية المحاربة وبنيتهم التحتية وسلامة مواطنيهم.

وقد توجد عوامل تخص دولة بعينها لاستخدام هذا النوع من الحروب كما هو الحال مع الولايات المتحدة الأمريكية عرّابة الحروب بالوكالة. حيث أنّ خسارتها في حرب فيتنام [3]، دفعتها للجوء إلى استراتيجيات أقل تكلفة. إضافة إلى زيادة مكانة وأهمية الشركات العسكرية الخاصة في القتال الحربي المعاصر, كما جاء الاستخدام المتزايد للفضاء السيبراني كمنصة لشن الحرب بشكل غير مباشر وصعود الصين كقوة عالمية عظمى من الأسباب المهمة. [2]

سلبيات لجوء الدول إلى الحرب بالوكالة

على الرغم من كل ما سبق إلّا أن الحرب بالوكالة تنضوي على الكثير من المخاطر وهي:

  • يتصرف الوكلاء بشكل ثابت وفقًا لمصالحهم ودوافعهم، مما يخلق توترًا لراعي الوكيل. فالراعي قد لا يتمكن من السيطرة على الوكيل نهائيًا وخاصة إذا ما كان الوكيل قويًا.
  • قد يجر الراعي إلى صراع غير مرغوب فيه نيابة عن وكيله. أو قد يتصرف الوكيل بتهور بسبب ثقته العمياء في أنّ راعيه سيقدم له دعمًا ويجعلهم آمنين من المشاكل.
  • غالبًا ما يكون الوكلاء فاسدين ووحشيين وغير كفؤين، وخاصة في حال كانوا ميليشيات مسلحة أو قوة حرب عصابات غير مدربة بشكل كامل.
  • إضافة إلى اساليبها الهمجية التي تسيء لسمعة الراعي في المحافل الدولية.
  • غالبًا ما يدفع حصول وكيل ما على دعم من قبل دولة ما إلى تحرك الدول الأخرى لزيادة دعم وكلائها (كما حدث في لبنان على سبيل المثال). وهذا ما يؤدي إلى تفاقم الصراع وزيادة قوة الوكيل الذي يتعامل مع فوضى الرعاة هذه على أنها ورقة رابحة لزيادة استقلاليته.
  • بمجرد أن يبدأ الراعي بتمويل الوكيل يصبح مضطرًا إلى الاستمرار في ذلك لمدى طويل.
  • صعوبة الحصول على وكلاء جيدين وقادرين على تزويد الراعي بالمعلومات الدقيقة.
  • قد يحدث صدام مع وكيل الراعي الخصم والذي سيكون مسيئًا وغير كفؤ بالضرورة. مما قد يؤثر على قدرة الدولة على تحقيق أهداف سياستها الخارجية المرجوة.

أدّت الحروب بالوكالة إلى أزمات إنسانية لا حصر لها، ونزوح أعداد هائلة من السكان المحليين خارجيًا وداخليًا. فعلى سبيل المثال، قدّرت الأمم المتحدة إن ما لا يقل عن 12 مليون شخص فروا من ديارهم منذ الغزو الروسي لأوكرانيا. [4] إضافة إلى أزمات الوقود والأزمات الاقتصادية والتي من المحتمل أن تتضاعف تأثيراتها في المستقبل. لذا فمن الضروري فهم وقراءة هذه الحروب بشكل جيد لأنّ احتمال استمرارية حدوثها في المستقبل كبير.

المصادر:

  1. brookings
  2. Tandfonline
  3. Wikipedia
  4. bbc

ما هي الحرب الشاملة؟

هذه المقالة هي الجزء 2 من 10 في سلسلة نبذة عن أقسى الجرائم البشرية، الحروب وأنواعها

غيّرت الحروب الشاملة العالم وحولته إلى الشكل الذي نعرفه اليوم، مؤدية إلى انهيار امبراطوريات وصعود أخرى. متجاوزة بتأثيرها الحدود الجغرافية التي تحدث فيها بسبب تأثيرها على الثقافة والإيديولوجية والاقتصاد والسكان. وسنتعرف في مقالتنا هذه عن هذا النوع من الحروب. فما هي الحرب الشاملة؟

ما هي الحرب الشاملة؟

عرّفت الحرب الشاملة على أنّها صراع عسكري يكون فيه أطراف النزاع مستعدين لتقديم كل التضحيات اللازمة من أرواح وموارد لتحقيق النصر المطلق. [1] وهي على عكس الحرب المحدودة التي يستخدم بها أجزاء من قوة المتحاربين وشعوبهم ومواردهم المادية [2]، حيث تؤدي بسبب شموليتها إلى التعبئة العامة الكاملة للقوى البشرية وموارد الحرب.

الفرق بين الحرب الشاملة والحرب المحدودة

ما يميّز الحرب المحدودة عن الشاملة أيضًا بأن المتحاربين يحددون عمدًا أهدافهم السياسية والعسكرية من الحرب وحجم وطبيعة القوات والوسائل التي تشترك في الصراع ومناطق القتال، والأهداف المطلوب تدميرها أو الاستيلاء عليها. ولذلك يختلف مجال ومدة الحروب المحدودة اختلافًا كبيرًا طبقًا للقيود التي تفرضها الأطراف المتحاربة.[2] أما الحرب الشاملة فتستلزم حشد كل القوات وتوجيهها إلى الخصم بغرض تدميره اقتصاديًا وعسكريًا. فيتضاءل التمايز بين المقاتلين وغير المقاتلين بل ويختفي أحيانًا تمامًا نظرًا لأن الأطراف المتعارضة تعتبر كل الموارد البشرية تقريبًا، حتى غير المقاتلة منها، جزءًا من المجهود الحربي. [3]

على الرغم من الغموض الذي يكتنف الفوارق بين نوعي الحرب إلّا أنّ المؤرخين والقادة العسكريين وصنّاع السياسات دأبوا على استخدام المصطلحين لأغراض تقسيم التاريخ إلى عصور. وأيضًا كوسيلة للترويج للحرب الشاملة باعتبارها أقصى أشكال النزاع. [5]

2 – لماذا تلجأ الدول لهذا النوع من الحروب؟

أدى التوسع الاقليمي إلى التزامات مختلفة في الحروب، أضف إلى ذلك الحاجة لضمان نصر سريع ليتم استخدامه كمفتاح للمساومة الدبلوماسية المفيدة. فغياب النصر السريع يخلق احتمالًا لقيام الانقسامات السياسية التي قلبت تاريخيًا ميزان القوى المنتصرة في العاصمة لصالح القوات المنسحبة [4]. مما قد يضطر الأطراف المتحاربة إلى استخدام كامل قوتها لإضعاف الخصوم، إضافة إلى استهداف المدنيين خوفًا من تمردهم. لأن حقيقة الغزو والاحتلال تولد التماسك، وتقلل من القيود المفروضة على التعبئة العسكرية، وتزيد من الاستعداد لتحمل التكاليف. [4]

3 – أمثلة عن الحروب الشاملة

استخدم مصطلح الحرب الشاملة لأول مرة في القرن التاسع عشر. حيث حدد العلماء “الحرب الشاملة” كفئة منفصلة من الحرب [8]. لكن صنفت الكثير من الحروب تاريخيًا كحروب شاملة، مثل الغزو المغولي خلال العصور الوسطى [6]. فقد اجتاح مناطق بأكملها ودمّر حضارتها وقتل سكانها العزّل. كما استخدم هذا المصطلح كإشارة إلى الحروب النابليونية التي أطلقت عليها تسمية الحرب المطلقة في مصادر أخرى. واعتبر بعض المؤرخين  معركة بوردينيو بين فرنسا وروسيا عام 1812 أول حرب شاملة في التاريخ [7]. في حين قال آخرون ذلك عن الحرب الأهلية الأميركية [1].

وتعد الحربان العالميتان الأولى والثانية مثالًا دامغًا في التاريخ عن فظاعة وهول الحروب الشاملة. حيث حشدت الحرب العالمية الأولى جميع الدول الأوروبية تقريبًا ومستعمراتها في حرب شاملة بتكاليف باهظة. ليس فقط للأفراد العسكريين الذين فُقدوا في المعركة، ولكن لمجتمعات بأكملها. مما أثر بشكل كبير على التمويل والثقافة والصناعة. [3]

ووصلت الحرب العالمية الثانية في شمولها إلى أقصى الدرجات مع استعمال الأسلحة النووية في هيروشيما ونكازاغي. فوضعت الدول أمام خيارات قاسية وجعلتها تدرك حجم الأهوال التي قد يسببها ذلك النوع من الحروب. إلّا أنّ الحروب الشاملة بقيت خيارًا متاحًا للدول ولكن في أقصى درجات النزاع، كحرب أميركا على العراق في عام 2003.

ورغم وجود أنواع وتصنيفات أخرى للحروب إلّا أنّ الحروب الشاملة هي الأكثر دموية لما تسببه من هلاك للإنسانية إن لم تحكمها ضوابط وقوانين رادعة. ورغم أننا نعيش في أكثر العصور سلامًا إلّا أنّ أهوال تلك الحروب وتأثيراتها باقية إلى يومنا هذا.

المصادر:

1- Britannica
2- Wikipedia
3- Lumenlearnin
4- Jstor
5- Owlcation
6- Wikipedia
7- History.princeton.edu

كيف بدأت الحرب ولماذا تحدث؟

هذه المقالة هي الجزء 1 من 10 في سلسلة نبذة عن أقسى الجرائم البشرية، الحروب وأنواعها

الحرب كلمة ذات وقع قاس ومليء بمشاهد الدمار والحزن والعنف غير المبرر. فهي أعلى درجات النزاع بين الدول والجماعات، ووسيلة الدول لبسط هيمنتها ونفوذها. وهي حالة النزاع المسلح بين دولتين أو أكثر أو مجموعات داخل بلد ما.[2] لذا سنعرف في هذا المقال كيف بدأت الحرب ولم تحدث؟

ما هو تعريف الحرب؟

عادة ما يستخدم العسكريون هذا المصطلح للإشارة إلى الأعمال العدائية بين الجماعات المتنافسة المتساوية في درجة القوة بدرجة كافية لجعل نتيجة صراعها غير مؤكدة لبعض الوقت. [1] ويضاف إلى هذا التعريف عند دراسته من منظور العلوم الاجتماعية شروط محددة. فغالبًا ما يستخدم علماء الاجتماع هذا المصطلح للإشارة إلى النزاع الذي يبدأ وفقًا للإجراءات والصيغ المعترف بها اجتماعيًا. [1]

إلّا أنّ التعريف الأكثر انتشارًا للحروب، هي أنّها صراع طويل الأمد بين الجماعات السياسة متضمنًا أعمالًا عدائية طويلة الأمد ومهولة. [1]

لم تحدث الحروب؟

هناك العديد من الأسباب الممكنة لتفسير الحروب مثل:

  • التنافس على الأراضي والموارد.
  • المنافسات التاريخية.
  • الدفاع عن النفس ضد معتدٍ أو معتدٍ محتمل.[2]

ولا بدّ أنّ أسباب قيام الحروب في الوقت الحالي أكثر تعقيدًا مما سبق. فغالبًا ما كان الصراع يحدث للحصول على الموارد وخاصة في فترات الأوبئة والجفاف. أو للاستحواذ على الأراضي الأكثر خصوبة أو الثروات كالذهب. وصولًا إلى الحروب التي حدثت بغرض التوسع أو تحقيق الطموحات السياسية.

أمّا في الوقت الراهن قد تحدث الحروب لأسباب اقتصادية أو صراعات دينية أو بغرض تجارة السلاح. وقد يكون سبب الحرب هو ردع خصم محتمل أظهرت مؤشرات ما أنّه قد يكون معتديًا في وقت ما في المستقبل.

لا تأتي الحروب عادة من العدم، فهي غالبًا ما تكون نتيجة خلاف متصاعد يؤدي لحدوث تفاقم للنزاع ومن ثمّ الحرب. وتختلف الآليات وجملة التطورات التي قد تؤدي إلى الحروب. وغالبًا ما تكون معقدة وتستلزم دراسة متعمقة للتاريخ البشري. [2] ولكن كيف بدأت الحرب في تاريخ البشر؟

كيف بدأت الحرب؟

تشير المصادر التاريخية إلى أنّ أول حرب “مسجلة” في التاريخ، حدثت في إحدى أقدم الحضارات في العالم وهي حضارة ما بين النهرين. وهي معركة حدثت بين سومر وعيلام في عام 2700 ق.م. وسُجّل فوز السومريين في تلك المعركة. [2] وقد أكدّت التنقيبات الأثرية أنّ العنف الجماعي موغل في القدم، فقد سبق أن حدث في فترات زمنية أقدم. إذ قدّمَت رفات 61 فردًا مدفونين في مقبرة جبل الصحابة دليلًا فريدًا وجوهريًا على ظهور العنف الجماعي في وادي النيل في نهاية أواخر العصر الجليدي أي حوالي 11000 ق.م. [4] والذي سجّل كأقدم مثال على العنف الجماعي في التاريخ البشري واعتبر كأقدم حرب في مصادر أخرى.

تميزت نهاية العصر البليستوسيني المتأخر وبداية الهولوسين بتغيرات مناخية كبيرة. وكانت الظروف المناخية شديدة الجفاف في وادي النيل خلال النصف الثاني من العصر الجليدي. [4] مما يقدم سببًا للنزاع بين جماعات الصيادين المتواجدة هناك والتي على ما يبدو أنّها كانت في حالة صراع على الموارد. وقد أكدّت الدراسات والتحليلات وجود حالة من العنف المتكرر بين تلك الجماعات [4]. مما يؤكد أنّ حالة الصدام تلك لم تحدث بشكل عشوائي. وما أكدّ أنّها حالة عنف جماعية هو ظهور دلائل على رابطة قوية تجمع بين تلك الوحدات الاجتماعية. مثل وجود مجموعات حجرية يعتقد أنّها تمثل تقليدًا ثقافيًا يعكس هوية المجموعة. إضافة إلى وجود مقابر كبيرة.

منذ اكتشاف مقبرة جبل الصحابة في الستينيات من القرن الماضي، تم اعتبارها أقدم دليل على الحرب المنظمة الناجمة عن القيود البيئية. [4]

هل الحرب قاصرة على البشر؟

في الحقيقة لا، فحالة العنف الجماعي تلك موجودة أيضًا في مملكة الحيوانات الوحشية. حيث تتجمع الشمبانزي لتوسيع الأراضي، ويغزو النمل مستعمرات أخرى لأخذ العبيد. [3] كما تقوم الدبابير اليابانية العملاقة بمهاجمة خلايا النحل والتي ترد بدورها بأعمال انتقامية منها عبر حرق الدبابير بحرارة أجسادها.

بالعودة للشمبانزي، الأقرب للبشر، ينفذ الشمبانزي غارات متعمدة على المجتمعات المجاورة، لضم الأراضي. [3] وأكدّت الدراسات أنها قادرة على القتل العمد لأبناء جنسها، وساهمت تلك الدراسات في فهم تطور العنف البشري [6]. وبالتأكيد لم يتعلم الشمبانزي ذلك السلوك من البشر، حيث أكدّت الأبحاث ذلك بعد جدال طويل أُثبت من خلاله أنّ سلوكها ليس تقليدًا للبشر الذين دمروا موائلها [5]. حيث لم تظهر حالة العنف هذه لدى أنواع الأخرى من القرود كالمكاك وغيرها.

ووفقًا للدراسات، فإن القتل استراتيجية تكيفية توفّر فوائد إنجابية مهمة بالمعنى التطوري. مما يزيد من الوصول إلى الموارد مثل الأرض أو الطعام أو الزوج. وبالتالي يزيد من فرص عيش الأفراد لفترة كافية للتكاثر ونقل جيناتهم إلى أجيال المستقبل. [6]

ورغم دموية هذا الصراع إلا أنّه لا يمكننا أن ننكر دوره في نشأة الحضارات التي قامت على التوسع والسيطرة على الأراضي والثروات. بالإضافة إلى دور تلك الحضارات التوسعية في نشر الثقافات والاندماج الحضاري. وفي جميع الأحوال يدرك الإنسان المعاصر حجم الخسائر الذي قد تسببه الحروب في أيامنا هذه لذا يجب أن تصبح آخر ما قد يلجأ إليه لحل الصراعات.

المصادر

1- Britannica
2- Owlcation
3- Nationalgeographic
4- Nature
5- sciencedaily
6- sciencedaily

القوانين القديمة وفجر الضمير البشري

أين وجد أقدم تدوين للقانون؟

على الرغم من اكتشاف الآلاف من الألواح المسمارية في مواقع عديدة من الشرق القديم، لم يعثر حتى الآن على «مدونة قانونية-law code».
على غرار المدونات القانونية المكتشفة في بلاد ما بين النهرين (مدونات أور نمو وليبت عشتار وحمورابي). وينطبق ذلك على الأرشيفات السورية القديمة، كأرشيفات (ممالك ماري وأوغاريت وألالاخ) أو غيرها من الأرشيفات التي تحتوي على مجموعات خاصة أو قليلة من القوانين. [1]

وقد تم اكتشاف أقدم مدونة في العالم في الأرشيف الملكي الإيبلائي والتي تعود إلى حوالي عام 2400 ق.م. احتوت المدونة على حالات وتطبيقات من «قانون الدعوى أو السوابق القضائية -Case Law » بالإضافة لوجود قواعد قانونية تسجل القانون العام في المملكة. [2]

وذكرت البعثة الأثرية الإيطالية وعلى رأسها «باولو ماتييه-Paolo Matthiae» أن أهم ما وجد في أرشيف إيبلا هي النصوص التاريخية والنصوص القانونية. حيث يوجد في الأرشيف بعض المعاهدات الدولية وعقود البيع والشراء. [3]

الوثائق القانونية في ممالك سورية القديمة

تعددت الآثار المادية القانونية المكتشفة في سورية القديمة، لأنها كانت موضع أقدم تدوين للقانون في التاريخ المكتوب. ومن الجدير بالذكر أنه قد تم نشر أقدم لوح مسماري قانوني سوري في عام1897 م [4]. كما تدل الوثائق على أن أقدم دليل على وجود مدارس للقانون قد عثر عليه في إيبلا من الألف الثالث ق.م. حيث سمح للنساء أيضاً بالدخول إلى هذه المدارس، وكانت العدالة محط اهتمام الحاكم والمحكومين على حد سواء. وقد ورد في أحد رسائل مملكة ماري الموجهة لملكها أن “الحكم السعيد يشتمل على أيام العدل والمساواة”. وكان ابتعاد الملك عن العدل كافياً لخلعه في مملكة أوغاريت. [5]

الآثار المادية القانونية

الأختام المنقوشة

يعد استخدام الأختام في الشرق القديم عميق الجذور. فقد استخدم الناس الأختام المسطحة في البداية، ثم انتقلوا إلى استخدام الأختام الأسطوانية في النصف الثاني من الألف الرابع قبل الميلاد. وقد أدى الختم الغايات التي صنع من أجلها على مر الزمن وهي:

  • تمييز الملكية الشخصية والتعريف بالفرد أو المؤسسة
  • ختم الوثائق أو البضائع لضمان عدم العبث بها
  • ختم الاتفاقات بين الأفراد والمعاهدات بين الدول للتأكيد على شرعيتها، فكان استخدام الختم في هذا المجال بمثابة التوقيع. [6]

الكرات الطينية المختومة

أما الكرات الطينية فهي قطع صغيرة من الطين استخدمت كأختام للسلال والأواني والأوعية والجرار الفخارية. حيث يضغط مالك الآنية أو الوعاء بختمه على الطين الطري وبذلك يحمي ملكيته المودعة في المخزن من السرقة.

ويمكن اعتبار الكرات الطينية المختومة من أقدم الآثار المادية القانونية المكتشفة. فقد عثر على مئات من الكرات الطينية المختومة يعود تاريخها إلى أواخر الألف السابع قبل الميلاد (حوالي 6100ق.م). وتدل هذه الكرات على نظام متطور وقديم للإدارة. [7]

نبذة عن أقدم قوانين العالم القديم

قوانين مجتمع مصر القديمة ومحاكمة ماعت

تشير المخطوطات لدى قدماء المصريين على مدى أهمية النظام والقواعد الاجتماعية والقيم الأخلاقية العليا. ابتداء من قوى الطبيعة وحتى الشعائر التي على البشر أن يقيموها من أجل الآلهة. وإن أراد الملك حقاً أن يحافظ على التوازن، يكمن جوهر عمله أن يسعى ليعمل الناس بمقتضاها وأن يجعلهم يحترمونها. وتتضمن قوانين ماعت التي يعود تاريخها لحوالي 2500 قبل الميلاد على 42 قانوناً أشبه بالوصايا. يحاكم المتوفى بتلك الوصايا في محكمة العالم الآخر عما اقترفه من أعمال في حياته السابقة. القوانين تشير إلى الضوابط الأخلاقية واحترام الغير والرشوة والسرقة. وتعتبر نموذجاً لمحكمة مدنية لتحقيق الانضباط والعدل في المجتمع. [8]

قانون أور نمو أقدم القوانين في بلاد الرافدين

كان الملك السومري أور نمو مؤسس أول شريعة قانونية في التاريخ التي سبقت شريعة الملك البابلي حمورابي (2050-2100 ق.م).

لقد أدرك أور قوة المعتقدات الدينية في التأثير على السلوك الشخصي ولذا قدم قوانينه على أنها واردة من الآلهة. وقد تضمنت 57 قانوناً كتبت على ألواح من الطين، وتم اكتشاف العديد منها. وتمكن العلماء من إعادة صياغة وترجمة هذه القوانين، وكانت بدايتها بإقامة العدل والقضاء على الفساد. كما تضمنت أيضاً المسائل الاجتماعية والجنائية، كالطلاق والقتل والاغتصاب وفرض عليها العقوبات والغرامات بحسب كل جرم تم اقترافه. [9]

المصادر:

1. Raymond, Westbrook. Social Justice and Creative Jurisprudence in late Bronze Age Syria. 2001.

2. Stephanie, Dally. Mari and Karana- two old babylonian cities. 2002.

3. Akkermans (Peter), and other. Investigating the Early Pottery Neolithic of Northern Syria : New evidence from Tell Sabi Abyad. s.l. : American Jornal of Archaeology, 2006.

4. كونه (هارتموت). الأختام الأسطوانية قي سورية بين 3300-330 ق.م. [المترجمون] قاسم طوير علي أبو عساف. برلين : جامعة توبنغن, معهد اللغات الشرقية القديمة.

5. الفاروقي(حارث). المعجم القانوني. بيروت : مكتبة لبنان، 1982.

6. Bonneterre, (Daniel). The structure of violence in the kingdom of Mari. 1995. p. 15.

7. السواح (فراس). موسوعة تاريخ الاديان. . : دار علاء الدين للنشر والتوزيع، 2004.

8. Mark, Joshua J. https://www.worldhistory.org/Egyptian_Religion/. World History Encyclopedia. [Online] January 20, 2016.

9. —. https://www.worldhistory.org/Ur-Nammu/. World History Encyclopedia. [Online] June 16, 2014.

ملخص كتاب سيكولوجية الجماهير لغوستاف لوبون

نشر كتاب “سيكولوجية الجماهيرˮ أول مرة عام 1895 لمؤلفه غوستاف لوبون، والذي يعد مؤسس علم نفسية الجماهير. وسنستعرض هنا ملخصًا موجزًا للكتاب.

مقدمة سيكولوجية الجماهير (عصر الجماهير)

تبدو الانقلابات الكبرى التي تسبق عادةً تبدل الحضارات محسومةً بتحولات سياسية ضخمة كالغزو أو قلب السلالات المالكة. ولكن الدراسة المتفحصة تكشف غالبًا أن السبب الحقيقي هو التغير العميق الذي يصيب أفكار الشعوب. أما الأحداث الضخمة التي تتناقلها كتب التاريخ فليست إلا الآثار المرئية للمتغيرات اللامرئية التي تصيب سيكولوجية الجماهير وعواطفها.

إن العصر الذي ندخل فيه الآن هو بالفعل عصر الجماهير. فالجماهير هي القوة الوحيدة التي تتزايد هيبتها وجاذبيتها باستمرار، ولا يستطيع شيء تهديدها. ونشأت قوة الجماهير أولًا عن نشر بعض الأفكار التي زرعت في النفوس ببطء، ثم بالتجميع المتدرج للأفراد من خلال الروابط والجمعيات. وإن معرفة سيكولوجية الجماهير (علم نفس الجماهير) تشكل المصدر الأساسي لرجل الدولة الذي يريد ألّا تحكمه الجماهير.

الكتاب الأول (روح الجماهير)

الخصائص العامة للجماهير، القانون النفسي لوحدتها الذهنية

الخصائص الأساسية للفرد المنخرط في الجمهور هي تلاشي الشخصية الواعية، وهيمنة الشخصية اللاواعية، وتوجه الجميع إلى نفس الاتجاه بواسطة التحريض والعدوى للعواطف والأفكار، والميل إلى تحويل الأفكار المحرّض عليها إلى فعل وممارسة مباشرة.

ومن أسباب ظهور هذه الصفات، اكتساب الفرد بواسطة العدد المتجمع فقط شعورًا عارمًا بالقوة، والعدوى العقلية أو الذهنية للعواطف والأفعال في الجمهور.

“لا يوجد في التجمع الذي يشكله جمهور ما حاصلٌ ومتوسط للعناصر، وإنما يوجد فقط تركيب وخلق للخاصيات. وهذا يشبه ما يحصل في مجال الكيمياء. فبعض العناصر المستخدمة في التركيب كالقواعد والحوامض مثلًا تتداخل في بعضها البعض وتتركب من أجل تشكيل مادة جديدة مزودة بخصائص مختلفة عن تلك الخصائص التي كانت تتحلى بها العناصر المفردة قبل تركيبها”.

جوستاف لوبون

عواطف الجماهير وأخلاقياتها

الخصائص الأساسية للجماهير

  • سرعة انفعال الجماهير وخفّتها ونزقها.

إذ تكون الانفعالات التحريضية التي تخضع لها الجماهير مهيمنةً وقوية إلى درجة أنها مستعدة للموت من أجلها.

  • سرعة تأثر الجماهير وسذاجتها وتصديقها لأي شيء.

نجد الجمهور غالبًا في حالة ترقب مهيأة لتلقي أي اقتراح، ويفرض أول اقتراح يظهر نفسَه مباشرة بواسطة العدوى والانتشار، فخلق الأساطير التي تنتشر بسهولة في أوساط الجماهير ينتج عن سرعة التصديق والتضخيم الهائل للأحداث.

  • عواطف الجماهير، تضخيمها وتبسيطها.

بساطة عواطف الجماهير وتضخيمها يحميانها من عذاب الشكوك وعدم اليقين.

  • تعصّب الجماهير واستبداديتها ونزعتها المحافظة.

“إن الاستبداد والتعصب يشكلان بالنسبة للجماهير عواطف واضحة جدًا، وهي تحتملها بنفس السهولة التي تمارسها. فهي تحترم القوة ولا تميل إلى احترام الطيبة التي تعتبرها شكلًا من أشكال الضعف. وما كانت عواطفها متجهة أبدًا نحو الزعماء الرحيمين وطيبي القلب، وإنما نحو المستبدين الذين سيطروا عليها بقوة وبأس. وهي لا تقيم تلك النصب التذكارية العالية إلا لهم. وإذا كانت تدعس بأقدامها الديكتاتور المخلوع فذلك لأنه قد فقد قوته ودخل بالتالي في خانة الضعفاء المحتقرين وغير المهابين. إن نمط البطل العزيز على قلب الجماهير هو ذلك الذي يتخذ هيئة القيصر. فخيلاؤه تجذبها، وهيبته تفرض نفسها عليها، وسيفه يرهبها”.

جوستاف لوبون
  • أخلاقية الجماهير.

الجماهير غير مهيأة لاحترام النزعة الأخلاقية فيما يخص بعض الأعراف والتقاليد الاجتماعية، أما بالنسبة لبعض الصفات كالإخلاص والنزاهة والتضحية بالذات فهي قادرة على أرفع أنواع الأخلاقية، ولكنها تبرهن على انحطاط أخلاقيتها غالبًا.

أفكار، ومحاجّات عقلية، ومخيلة الجماهير

  • أفكار الجماهير.

وتقسم إلى أفكار طارئة تتشكل تحت تأثير اللحظة كالانبهار بفرد أو عقيدة ما، وأفكار أساسية تقدم لها البيئة والوراثة والرأي العام استقرارًا كبيرًا كالأفكار الدينية والديمقراطية والاجتماعية. ولا تهيمن الأفكار إلا إذا اتخذت هيئة بسيطة جدًا وتجسدت في سيكولوجية الجماهير على هيئة صور، فتدخل إلى اللاوعي وتصبح عاطفة متماسكة. وإذا كان يلزم وقت طويل كي تترسخ الأفكار، فإنه يلزم وقت لا يقل عنه طولًا كي تزول.

  • المحاجّات العقلية للجماهير.

ترتكز المحاجّات العقلية المؤثرة على الجماهير على ترابطات بين أشياء متنافرة ليس بينها إلا علاقات سطحية ظاهرية. كما أن الجماهير تعمّم حالات فردية وخصوصية، وهاتان هما الخاصيتان الأساسيتان للمنطق الجماعي.

  • خيال الجماهير.

تأسست مقدرة الفاتحين وقوة الدول على قاعدة الخيال الشعبي، وإن معرفة سيكولوجية الجماهير وفن التأثير على مخيلتها تعني معرفة فن حكمها.

“لم أستطع إنهاء حرب الڤاندي إلا بعد أن تظاهرت بأني كاثوليكي حقيقي، ولم أستطع الاستقرار في مصر إلا بعد أن تظاهرت بأني مسلم تقي. وعندما تظاهرت بأني بابوي متطرف استطعت أن أكسب ثقة الكهنة في إيطاليا. ولو أتيح لي أن أحكم شعبًا من اليهود لأعدت من جديد هيكل سليمان”.

نابليون في مجلس الدولة الفرنسي

الأشكال الدينية التي تتخذها كل قناعات الجماهير

للعاطفة الدينية خصائص بسيطة جدًا، عبادة إنسان يعتبر خارقًا للعادة، والخوف من القوة التي تعزى إليه، كما أن الخضوع الأعمى لأوامره مظهر مهم، واستحالة أية مناقشة لعقائده، والرغبة في نشر هذه العقائد، والميل لاعتبار كل من يرفضون تبنيها أعداءً. ولذلك فالتعصب وعدم التسامح يشكلان المرافق الطبيعي لها.

الكتاب الثاني (آراء الجماهير وعقائدها)

العوامل البعيدة المشكلة لعقائد الجماهير وآرائها

تمهد هذه العوامل الأرضية لانبثاق الأفكار الجديدة، إذ تجعل الجماهير قادرة على تبني بعض القناعات وغير مؤهلة لتبني قناعات أخرى.

  1. العِرق.

وهو أهم من كل العوامل الأخرى مجتمعة، إذ يمكن للمقترحات الاجتماعية أن تمارس فعلًا مهمًّا، ولكنه مؤقت دائمًا إذا كانت مضادة لمقترحات العِرق أي لكل سلسلة الأسلاف.

  • التقاليد الموروثة.

تمثل التقاليد خلاصة العِرق، ولا يمكن لأية حضارة أن توجد بدونها، أي بدون روح قومية، والجماهير تعارض بإصرار أية محاولة لتغييرها.

  • الزمن.

إن بعض الأفكار التي يمكن تحقيقها في فترة ما تبدو مستحيلة في فترة أخرى، فالزمن يراكم بقايا العقائد والأفكار وتولد منها أفكار عصر ما، فهو يجعل كل العقائد تتطور وتموت، فبه تمتلك قوتها وبه تفقدها.

  • المؤسسات السياسية والاجتماعية.

لقد حصلت حروب دموية لفرض مؤسسات تعزى إليها مقدرة خارقة على خلق السعادة، فالمؤسسات تؤثر على روح الجماهير لأنها تولد انتفاضات كهذه، ولكنها لا تمتلك أية فضيلة.

  • التعليم والتربية.

يتيح التعليم المقدم في بلد ما استشراف مصير هذا البلد ومستقبله، فمع التربية والتعليم تتحسن سيكولوجية الجماهير وروحها أو تفسد، فهما مسؤولان عن ذلك جزئيًا.

العوامل المباشرة التي تساهم في تشكيل آراء الجماهير

تؤدي هذه العوامل إلى التمردات الشعبية أو الإضرابات. وهي التي تدفع أغلبية من الشعب إلى الوصول بشخص ما إلى السلطة أو إسقاط حكومة معينة.

  1. الصور، والكلمات، والشعارات

ترتبط قوة الكلمات بالصور التي تثيرها، والكلمات التي يصعب تحديد معانيها بدقة هي التي تمتلك أحيانًا أكبر قدرة على التأثير. مثلًا، ديمقراطية، اشتراكية، حرية، …إلخ.

  • الأوهام.

تحوّل الجماهير نظرها عن الحقائق التي تزعجها وتفضل تأليه الخطأ إذا ما جذبها، فمن يعرف كيف يوهمها يصبح سيدها، ومن يحاول قشع الأوهام عن أعينها يصبح ضحية لها.

  • التجربة.

تشكل التجربة المنهجية الوحيدة الفعالة تقريبًا لزرع حقيقة ما في روح الجماهير، وإن التجارب التي عاشها جيل ما غير ذات جدوى بالنسبة للجيل اللاحق، فالأحداث التاريخية التي تضرب عادة مثلًا للموعظة لا تفيد شيئًا، وتكمن فائدتها الوحيدة في البرهنة على ضرورة تكرار التجارب من عصر إلى عصر لتمارس بعض التأثير.

  • العقل.

يعدّ العقل عاملًا سلبيًا في التأثير.

محرّكو الجماهير، ووسائل الإقناع التي يمتلكونها

  1. محرّكو الجماهير.

إن القادة ليسوا رجال فكر غالبًا، وإنما رجال ممارسة وانخراط، وغالبًا ما يكونون خطباء ماهرين، إذ تعطي كثافة الإيمان لكلامهم قوة تحريضية كبيرة، فالكثرة تصغي دائمًا إلى الإنسان المزود بإرادة قوية.

  • وسائل العمل التي يستخدمها المحركون أو القادة.

التأكيد، والتكرار، والعدوى. إذ يشكل التأكيد المجرد من البراهين الوسيلة الموثوقة لإدخال فكرة ما في روح الجماهير، والشيء المؤكد يرسخ في النفوس بواسطة التكرار إلى درجة أنه يقبل كحقيقة برهانية، وعندما يتاح لتوكيد ما أن يكرّر كثيرًا وبالإجماع، يتشكل عندئذٍ ما ندعوه بتيار الرأي العام، وتتدخل الآلية الجبارة للعدوى.

  • الهيبة الشخصية.

وهي نوع من الجاذبية الساحرة التي يمارسها فرد أو عقيدة ما على روح الجماهير، ولها نوعان أساسيان.

  • الهيبة المكتسبة، ويصنعها اسم العائلة والثروة والشهرة وهي أكثر انتشارًا.
  • الهيبة الشخصية، وهي ذات طبيعة مختلفة جدًا وتشكّل مَلَكَةً مستقلة عن الألقاب والسلطات، ويمارس من يمتلكونها سحرًا مغناطيسيًا على المحيطين بهم بما فيهم أندادهم، والنجاح أحد أهم العوامل التي تشكلها، إذ تختفي دائمًا مع الفشل.

محدودية تغير كلّ من عقائد الجماهير وآرائها

  1. العقائد الثابتة.

وهي العقائد الإيمانية الكبرى والتي تدوم قرونًا عديدة وترتكز عليها حضارة بأكملها، مثل أفكار الإصلاح المسيحي (لوثر) والأفكار الديمقراطية والاجتماعية.

“أما العقائد الكبرى العامة فذات عدد محصور جدًا. وتشكلُها وتلاشيها يمثلان بالنسبة لكل عرق تاريخي نقاط الذروة في تاريخه. إنها تشكل الهيكل العظمي للحضارات”.

جوستاف لوبون
  • الآراء المتحركة للجماهير.

وهي طبقة سطحية من الآراء والأفكار، تتموضع فوق العقائد الراسخة، وتولد وتموت باستمرار، مثل النظريات التي توجه الفنون والآداب. وتتزايد هذه الآراء لأن العقائد القديمة تفقد هيمنتها على النفوس تدريجيًا، وبسبب ظهور الصحافة ونشرها لأكثر الآراء اختلافًا. وينتج عن هذه الأسباب المختلفة ظاهرة جديدة جدًا في تاريخ العالم؛ وهي عجز الحكومات عن قيادة الرأي العام.

الكتاب الثالث (تصنيف الفئات المختلفة من الجماهير ودراستها)

تصنيف الجماهير

تقسم الجماهير إلى

جماهير غير متجانسة.

  1. جماهير مغْفَلَة (أسماء أفرادها غير معروفة)، كجماهير الشارع.
  2. جماهير غير مغْفَلَة، كهيئات المحلّفين والمجالس البرلمانية.

جماهير متجانسة

  1. الطوائف، كالطوائف السياسية والدينية.
  2. الزمر، كالزمرة العسكرية والزمرة العمالية.
  3. الطبقات، كالطبقة البورجوازية والطبقة الفلاحية.

تشكل الطائفة المرحلة الأولى من مراحل تشكل الجماهير المتجانسة، إذ تحتوي على أفراد من ثقافات ومهن وأوساط مختلفة أحيانًا، ولا رابطة بينها إلا العقيدة والإيمان.

وتمثل الزمرة أعلى درجات التنظيم التي يقدر عليها الجمهور، ولا تشمل إلا أفرادًا من نفس المهنة، أي ذوي تربية وأوساط متماثلة تقريبًا.

وتتشكل الطبقة من أفراد ذوي أصول مختلفة توحّدهم بعض المصالح وبعض عادات الحياة والتربية المتشابهة.

الجماهير المدعوة بالمجرمة

وتمتلك نفس الخصائص العامة لجميع أنواع الجماهير، فجرائم الجماهير ناتجة عمومًا عن تحريض ضخم، والأفراد الذين ساهموا فيها لا يعدّون أنفسهم مجرمين، بل يقتنعون أنهم أطاعوا واجبهم.

محلّفو محكمة الجنايات

نعثر في هذا الجمهور على الخصائص الأساسية، فهيئات المحلّفين تتأثر جدًا بالعواطف ومسحورة بمظاهر الهيبة، وإن هذه الهيئات الديمقراطية في تشكيلتها تبدو أرستقراطية في عاطفتها وميولها. والقرارات المتخذة متماثلة أيًا تكن تركيبة الهيئة المحلّفة ومهما اختلفت وتنوعت.

الجماهير الانتخابية

وهي جماهير غير متجانسة، ونعثر في قراراتهم على تأثير القادة المحركين وعلى دور التوكيد والتكرار والعدوى والهيبة الشخصية، فالوعود المبالغ فيها تولّد آثارًا ضخمة على الناخبين في لحظتها، والناخب لا يهتم لاحقًا بمسألة التحقق فيما إذا كان المرشح قد التزم بوعوده أم لا، بل إنه ينسى ذلك تمامًا. وإن تصويت الجماهير يعبر غالبًا عن آمال العِرق وحاجياته اللاواعية.

المجالس النيابية

وهي جماهير غير متجانسة وغير مغْفَلَة، وتمثل آراءً متطرفة، فالأفراد يميلون دائمًا إلى تضخيم قيم مبادئ أحزابهم عندما ينخرطون في جمهور ما. وإن قابلية التحريض والعدوى تظل محدودة في المجالس النيابية؛ فلكلّ حزب محركوه وقادته.

“إن المجالس النيابية السياسية هي آخر محلّ في الأرض يمكن للعبقرية أن تشع فيه. فلا أهمية فيه إلا للفصاحة الخطابية المتناسبة مع الزمان والمكان، وللخدمات المقدمة للأحزاب السياسية لا للوطن. أما الجمهور العادي فيتلقى هيبة القائد المحرك ولا يدخل في سلوكه أية مصلحة شخصية ولا ينتظر جزاءً ولا شكورا”.

جوستاف لوبون

والمجالس النيابية ليست جماهيرًا بالمعنى الاصطلاحي إلا في بعض الأوقات، فأعضاؤها يحققون فردانيتهم في حالات عديدة، ولذلك يمكنها أن تصوغ قوانين ممتازة.

وعلى الرغم من صعوبات تسييرها، فإنها تمثل أفضل طريقة وجدتها الشعوب لحكم ذاتها، ولا يهددها إلا خطران:

  1. التبذير الإجباري للميزانية، وهو نتيجة لمطالب الجماهير كزيادة الرواتب والتي تتطلب فرض ضرائب جديدة.
  2. التقييد التدريجي للحريات الفردية، ويتجلّى بالنسبة لكل البلدان بسنّ عدد هائل من القوانين التشريعية، فالشعوب تقبل بفرض الإكراهات القسرية كل يوم لأنها تقع ضحية الوهم القائل بأنه كلما زدنا عدد القوانين فإن المساواة والحرية تصبحان مضمونتين أكثر.

إن دورة الحياة لشعب ما، الانتقال من حالة البربرية إلى حالة الحضارة عن طريق ملاحقة حلم ما، ثم الدخول في مرحلة الانحطاط والموت ما إن يفقد هذا الحلم قوته.

يمكنك قراءة المزيد من ملخصات الكتب من هنا.

دوامة الصمت، لماذا نخاف من إبداء رأينا؟

دوامة الصمت مصطلح برز في سبعينات القرن الماضي، وهو نموذج يوضح قابلية الفرد لإبداء الرأي. وما الذي يجعل العديد من الناس خائفين من إبداء رأيهم. طرحت الباحثة في العلوم السياسية إليزابيث نويل-نيومان نظريتها في نموذج التي أطلقت عليه اسم دوامة الصمت، فما هي هذه الدوامة؟

دوامة الصمت Spiral of silence

منذ أن قدمت الباحثة إليزابيث نويل نيومان نظريتها المسماة دوامة الصمت. لقيت هذه النظرية صدىً واسعًا؛ وذلك لأهميتها في شرح تكوين الرأي العام في بيئة إعلامية. تحاول هذه النظرية أن تفسر كيفية تفاعل استهلاك الجمهور للوسائط الإعلامية. ذلك بالإضافة لمحاولة شرح عملية التفاعل بين المجموعات الرئيسية، وكيف يتفاعل هذان العنصران لتشكيل الآراء في المجتمع. [1]

النموذج اللولبي أو الحلزوني Spiral model


تطرح النظرية فكرة مرادها أنه بمرور الزمن سيحدث تأثير لولبي متصاعد spiraling effect. يصبح فيه الرأي السائد أكثر وضوحًا وأهمية من آراء أقل أهمية. ساعدت هذه النظرية بشكل كبير في تفسير التفاعلات التي تتم وجهًا لوجه في وسائل الإعلام، والتي تساعد في تشكيل بنية الرأي العام. تتميز افتراضات نظرية دوامة الصمت المترسخة في علم النفس الاجتماعي، بأنها مثيرة للجدل إلى حد ما. وذلك يعود لأن افتراضات نويل نيومان تتعارض مع وجهات النظر الشائعة عن الفرد العقلاني المستقل. ولكنها من أبرز النظريات التي يتم تكرارها في العلوم الاجتماعية. [2]

كيفية تشكل دوامة الصمت

تعتمد فكرة النظرية على أنه في حالة معينة بمتلك جميع الأفراد طريقة بديهية لمعرفة الرأي العام السائد. ويتم تشكل الدوامة هذه أو تعزيزها عندما يتحدث شخص في رأي الأغلبية بثقة لدعم رأي الأغلبية. بالتالي، يبدأ الأفراد بالابتعاد عن تعبير رأيهم وذلك نتيجة للخوف من الانعزال عن باقي المجتمع، أو نتيجة الخوف من عواقب مخالفتهم للرأي العام السائد. يتم اختبار التأثير اللولبي إلى درجة أنه ينشط دوامة هبوطية حيث تتراكم باستمرار المخاوف لدى الفرد أو الأفراد أصحاب رأي الأقلية المخالف للرأي السائد، بالتالي، لا يتم التعبير عن رأي الأقلية مطلقًا. [1]

دوامة الصمت الهبوطية
المصدر

الأجزاء الأربعة الرئيسية لنظرية دوامة الصمت

سعت نويل نيومان في نظرية دوامة الصمت إلى شرح كيف يعتمد رأي الفرد على آراء الآخرين من حوله. كما وضحت التفاعل الكامن وراء كيفية كسب الاتجاهات “trends” الدعم العام والانتشار. قامت بتلخيص المبادئ الرئيسية لدوامة الصمت في أربعة افتراضات.

الافتراض الأول: الجهاز شبه الإحصائي

أول افتراض تشير فيه نويل نيومان بأن كل فرد يمتلك عضوًا أو جهازًا “شبه إحصائي” وظيفته مراقبة الرأي العام حول قضية معينة. وأوضحت أن أسهل طريقة للعثور على الرأي السائد هي عن طريق عرضه قي الأماكن العامة. يشير المعنى شبه الإحصائي أن التفاعل الاجتماعي هو جوهر هذه النظرية. البشر بشكل عام ميالون إلى تجنب الأفعال التي تجعل منهم غير محبوبين. لذلك في سعيهم إلى ضمان محبة الآخرين لهم يحاولون التمسك بالرأي العام السائد وإخفاء أو قمع آرائهم الحقيقية. [3]
يجب عرض الرأي السائد بشكل متكرر على وسائل الإعلام، ويمكن مراقبته بعدة أشكال منها التغطية الإعلامية والمراقبة البيئية أو المناقشة الشخصية للقضايا. وتجادل نويل نيومان والعديد من العلماء أن وسائل الإعلام أهم وسيلة لنشر الرأي العام. ونظرًا لأن القضية يجب أن تكون قضية أخلاقية يلعب الإعلام دورًا هامًا في نشرها كونها مثيرة للجدل وذلك من خلال جذب مشاعر الجماهير. [4]

الافتراض الثاني: الرأي العام وعملية تشكل دوامة الصمت

وفي هذا الافتراض تفحص الباحثة دور الرأي العام والتفاعل بين الآراء الشعبية في العملية المتصاعدة لتحرك الدوامة. وعرفت الرأي العام على أنه وسيلة من الشعبية؛ وهو الرأي الذي يمكن التعبير عنه دون خوف . الجدير بالذكر أن هذه النظرية تشجع الأفراد من أصحاب رأي الأقلية على التزام الصمت. بالرغم من ذلك، عند تحديد فهم القضية المطروحة بشكل صحيح، يمكن لهذه الآراء المخفية أن تبطل جزءًا من النظرية. عندما تُخفى هذه الآراء فهي تمنع تشكيل مزيج متنوع من الآراء. مثلًا إن لم يعبر الفرد عن رأي غير شعبي مدعوم بالإحصاءات قبل العملية المتصاعدة “تصاعد الدوامة”، فإن الرأي الشائع بعد عملية التصاعد لن يأخذ بعين الاعتبار الرأي غير الشائع حتى لو كان مدعمًا بإحصاءات.إن الرأي الشائع قد لا يملك حججًا قويةً، ولكنه نظرًا لشيوعه ينجذب الجمهور له. [3]
عملية التصاعد اللولبي تنظر إلى الآراء على أنها شعبية أو غير شعبية، ولا تصنفها إن كانت صحيحة أو خاطئة، وذلك يعود إلى أن القضايا تكون في مرحلة المناقشة في مرحلة ما قبل الدوامة، وحتى بعد تحديد رأي الأقلية سيبقى هناك البعض من المؤيدين لرأي الأقلية لكونها صحيحة أخلاقيًا. إن عملية التصاعد هي السمة الأساسية للنظرية ومن خلالها يتأسس الرأي السائد، وبالتالي، فإن الآراء التي تبديها الأقلية يتم دفعها لأسفل الدوامة من قبل رأي الأغلبية، وعلى مرور الزمن يتكون لدى الناس تصورًا أن هناك رأي عام سائد. آراء الأقلية سوف تبقى محبوسة في قاع الدوامة، وبمكن أن تجد لنفسها دعمًا، وبالتالي فإنها لا تختفي تمامًا. [3]

الافتراض الثالث: تهديد الانعزال

بعد انتهاء عملية تصاعد الدوامة اللولبية، يظهر رأي الأغلبية الساحق مجبرًا الناس على اتباعه. ويجد العديد من الباحثين أن إمكانية تعبير الفرد عن رأيه تزداد بزيادة الدعم الاجتماعي الذي يحصل عليه والعكس صحيح. تم تصور هذا الالتزام باتباع الرأي العام بأنه شبيه بالرقابة الاجتماعية. وإن أعرب الفرد عن رأي مخالف لرأي الأغلبية سوف يوجاه العزلة بالتأكيد، تم وصف هذه العزلة بأنها تهديد قسري يفرضه المجتمع على الأفراد. ووضح الباحثون أن تهديد العزلة هذا يأتي من من المجموعات المرجعية للفرد مثل الأصدقاء والعائلة ومجموعة الأقران. ومع تزايد استخدام الوسائط الرقمية أصبح المجتمع المعولم أكثر ارتباطًا ببعضه، وقد توحي هذه الوسائط الرقمية بانطباع بأن هناك إجماع أكثر أو أقل لقضية معينة مما هو موجود بالفعل. [3]

الافتراض الرابع: احتمالية التعبير عن الرأي

ينص الافتراض الرابع على احتمالية قيام الفرد بالتعبير عن رأيه بشكل علني، ومن المرجح أن يبقى الرأي العام هو السائد بشكل حازم. وذلك يعود لموضوع اعتياد الناس على الدفاع عن رأي معين وإدانة ما يخالفه. لذلك فإن زيادة عدد تخلق ضغطًا شديدًا للحفاظ على الوضع الراهن. بالرغم من ذلك فإن هذا لا يمنع بعض الافراد من التعبير عن آرائهم دون الاكتراث برأي المجتمع. ويتصفون هؤلاء الأفراد بقلة تأثير دوامة الصمت عليهك، وهذا لأن تفكيرهم الاستراتيجي يساعدهم على تحقيق أهدافهم بدلًا من أن يشتت اهتمامهم الرأي العام السائد. [3]

الرأي العام وعلاقته بوسائل الإعلام

إن وسائل الإعلام هي نافذة العالم لرؤية ما يحدث ومعرفة كل شيء، فمن البديهي التأثر الشديد بأي خبر يأتي من هذه الوسائل. وبمعنى آخر، إن وسائل الإعلام تصوغ طريقة تفكير المشاهدين. في إطار نظرية دوامة الصمت تشكل وسائل الإعلام أفكار المشاهدين من خلال ضخ الأفكار المختلفة. عند قيام وسائل الإعلام بدعم قضية بشكل متكرر بطريقة تراكمية ومتسقة ، فسوف تحظى هذه القضية بتأييد الجماهير، وتشكل بالتالي الرأي العام. إن الرأي العام غير محدود بمكان أو زمان إنما يعيش مع المجتمع الحالي في زمنه الراهن. ويعمل الرأي العام كآلية لتحديد الرقابة الاجتماعية، وسوف يتغير هذا الرأي العام مع تغير الزمان والمكان، كما أنه يعمل على استقرار المجتمع وتكامله لأن النزاعات سوف تحلها عملية دوامة الصمت لصالح رأي الأغلبية، وهذا ما يسمى بوظيفة التراكم للرأي العام. [1]

تأثير دوامة الصمت على وسائط التواصل الاجتماعي والوسائط الإلكترونية

تجسد وسائط التواصل الاجتماعي ثلاث خصائص وهي إنشاء ملفات عامة ضمن نظام محدود. عرض قائمة بالأشخاص الذين يتشاركون مع بعضهم بأمور معينة، ومن ثم عرض هذه الروابط واجتيازها. بشكل عام يعرف أغلبية الأشخاص من هم في قائمة أصدقائهم، وهذا له تأثير مهم في تحرك دوامة الصمت، إن كان الناس يعرفون بعضهم في الفضاء الإلكتروني. هذا يشير إلى أن تهديد الصمت أو الإسكات إنما يعود من جماعات مرجعية على عكس المجتمع ككل. بالتالي سوف تكون الجماعات المرجعية قادرة على التمييز المنطقي للأيديولوجية الفريدد للشخص وذلك لتعزيز أو معارضة رأيه. إن تأثير الإسكات قد لا يكون واضحًا في تفاعلات الأوساط الرقمية، ويمكن تخفيف تأثير دوامة الصمت في التفاعلات الإلكترونية عن طريق الترابط العالمي للإنترنت.

نقد نظرية دوامة الصمت

تحتوي هذه النظرية على عدة ثغرات أبرزها أصوات الأقليات والانترنت. فيما يخص الانترنت لا يشعر الفرد بخوفه من كون صوته من أصوات الأقليات ويمكنه التعبير عن رأيه في هذه الساحة. أما فيما يخص رأي الأقلية، يبدو أن هناك العديد من الناس الواقعين خارج تأثيرات دوامة الصمت ولن يخافوا من نشر آرائهم علنًا. [4]

إن نظرية دوامة الصمت تسلط ضوءًا مهمًا حول كيفية تشكيلنا لأفكارنا وإن كانت هذه اللأفكار هي أفكارنا حقًا أم تم خداعنا لنعتقد أنها أفكارنا. عندما نبتعد عن بيئة وسائل الإعلام والمنصات الرقمةي شديدة التحيز سوف نكون قادرين على استخلاص استنتاجاتنا الخاصة من آراء الأغلبية حولنا.

المصادر:

1- scienceabc
2- noelle-neumann.de
3- inquiriesjournal
4- masscommtheory

مصانع الترول ودور ديمتري موراتوف في الكشف عنهم

قررت لجنة نوبل النرويجية منح جائزة نوبل للسلام لعام 2021 لكل من ديمتري موراتوف وماريا ريسا “لجهودهما في حماية حرية التعبير، وهو شرط مسبق للديمقراطية والسلام الدائم.”

وتقول لجنة نوبل عن سبب منحها جائزة نوبل للسلام لصحفيين هذا العام أن عمل الصحافة الحرة والمستقلة والقائمة على الحقائق تهدف إلى الحماية من إساءة استخدام السلطة والأكاذيب والدعاية للحرب. وكما تؤكد أيضا اللجنة أنها مقتنعة بأن حرية التعبير وحرية المعلومات تساعدان على توفير ضمان إعلام حر للجمهور. فبدون حرية التعبير وحرية الصحافة، سيكون من الصعب النجاح في تعزيز الأخوة بين الدول ونزع السلاح وخلق نظام عالمي أفضل لتحقيق النجاح في عصرنا. ولذلك فإن جائزة نوبل للسلام لهذا العام تعبر بقوة عن وصية الراحل ألفريد نوبل.

من هو ديمتري موراتوف

موراتوف هو صحفي روسي ورئيس تحرير صحيفة «نوفاجا جازيتا – Novaja Gazeta» الروسية. وقد قام بتحرير الصحيفة بين عامي 1995 و2017. في عام 2007، حصل موراتوف على جائزة حرية الصحافة الدولية من لجنة حماية الصحفيين. وتُمنح هذه الجائزة للصحفيين الذين يظهرون الشجاعة في الدفاع عن حرية الصحافة في مواجهة الاعتداءات أو التهديدات أو السجن. كما حصل على وسام جوقة الشرف عام 2010 بدرجة فارس. ويعد وسام جوقة الشرف أعلى وسام فرنسي يتم منحه. وحصل أيضًا في عام 2010، على جائزة الحريات الأربع لحرية التعبير في مدينة ميدلبورج بهولندا عن صحيفة نوفاجا جازيتا.

سبب منح موراتوف جائزة نوبل للسلام

تقول لجنة نوبل عن أسباب منح «ديمتري أندرييفيتش موراتوف» جائزة نوبل للسلام أنه قد دافع على مدى عقود عن حرية التعبير في روسيا في ظل ظروف صعبة بشكل متزايد.

فقد قام عام 1993، بتأسيس الصحيفة المستقلة نوفاجا جازيتا. وقد أصبح رئيسًا للتحرير في هذه الصحيفة منذ عام 1995، وقد ظل كذلك لمدى 24 عامًا. وتعد نوفاجا جازيتا هي الصحيفة الأكثر استقلالية في روسيا اليوم. وتتخذ الصحيفة موقفًا نقديًا بشكل أساسي تجاه السلطة. وقد جعلت الصحافة القائمة على الحقائق والنزاهة المهنية في الصحيفة مصدرًا مهمًا للمعلومات حول الجوانب الخاضعة للرقابة في المجتمع الروسي والتي نادرًا ما تذكرها وسائل الإعلام الأخرى. فمنذ إنشائها في عام 1993، نشرت نوفاجا جازيتا مقالات انتقادية حول مواضيع متنوعة. وتتراوح مواضيع الصحيفة بين الفساد وعنف الشرطة والاعتقالات غير القانونية والتزوير الانتخابي و«مصانع الترول – Troll Factories» إلى استخدام القوات العسكرية الروسية داخل روسيا وخارجها.

وقد تعرضت صحيفة نوفاجا جازيتا للعديد من المضايقات والتهديدات والعنف والقتل. فمنذ بداية الصحيفة، قتل ستة من الصحفيين العاملين بها، بمن فيهم «آنا بوليتكوفسكايا – Anna Politkovskaya». وتشتهر آنا بوليتكوفسكاياب بأنها قد كتبت مقالات توضح حقيقة الحرب في الشيشان. وعلى الرغم من عمليات القتل والتهديدات المستمرة، فقد رفض رئيس التحرير موراتوف التخلي عن سياسة الصحيفة المستقلة. وقد ظل موراتوف يدافع باستمرار عن حق الصحفيين في كتابة أي شيء يريدونه حول ما يريدون، طالما أنهم يلتزمون بالمعايير المهنية والأخلاقية للصحافة.

مصانع الترول

ما هي مصانع الترول

يأتي الاسم من مصطلح «ترول – Troll»، وهو الشخص الذي ينضم إلى مناقشة على وسائل التواصل الاجتماعي مثل فيسبوك أو توتير، على سبيل المثال، وينشر تعليقات موجهة نحو رأي معين. وقد تم استخدامها في روسيا لنشر التعليقات في وسائل الإعلام الغربية لنشر تصريحات تشيد بالرئيس فلاديمير بوتين وتنتقد الفساد وسوء توزيع الثروة في الغرب.

يعمل الترول في مباني عديدة في روسيا. قد يبدو شكل المبنى الخارجي مبنى عادي تمامًا لأحد الشركات ويتم وضع أحد اللافتات فوق المبنى حتى لا يثير أي شبهات. يتم العمل في غرف تضم حوالي 20 شخصًا يتحكم فيهم ثلاثة محررين. كان المحررون يفحصون المنشورات ويفرضون غرامات إذا اكتشفوا أن الكلمات قد تم قصها ولصقها، أو كانت مخالفة للأيدولوجيا الروسية. بدأ البعض العمل هناك حيث كان مرتب الشخص أعلى من متوسط العمل في إدارة أي من صفحات التواصل الاجتماعي الأخرى. فقد روى أحد الشهود الذين عملوا هناك أنه قد حصل على 790 دولار شهريًا مقابل العمل في مصانع الترول.

وقد كان للعاملين في صحيفة نوفاجا جازيتا دورًا مهمًا في الكشف عن مصانع الترول. فقد عمل بعض الصحفيين هناك لفترة من الوقت حتى يستطيعوا تقديم وصف مفصل عما كان يحدث في داخل هذه المصانع.

مصانع الترول والانتخابات الرئاسية الأمريكية

تم اصدار لائحة اتهام رسمية، في عام 2018 في الولايات المتحدة الأمريكية، بحق عدد من المواطنين الروس والشركات الروسية. وقد تم اصدار اتهام رسمي لهم بالتدخل في الانتخابات الرئاسية لعام 2016. لم يتم استخدام مصطلح مصانع الترول في اللائحة بشكل صريح ولكن تم توجيه الاتهام لوكالة أبحاث الإنترنت التي تعتبر أحد مصانع الترول. فقد كانت وكالة أبحاث الإنترنت تستخدم حسابات وسائل التواصل الاجتماعي في الولايات المتحدة منذ عام 2014. وقد جاء في لائحة الاتهام أن وكالة أبحاث الإنترنت، ومقرها في سانت بطرسبرغ، كان يعمل بها ما بين 200 إلى 300 شخص، وكان حوالي 80 منهم يركزون على الولايات المتحدة. وتم أدارت الوكالة مجموعة من الحسابات على مواقع التواصل الاجتماعي تبدو مثل الأمريكيين. وقد قامت بذلك لمحاولة دفع الأمريكيين أو التأثير عليهم للاعتقاد بأشياء تريدها الحكومة الروسية.

كيف تتجنب مصانع الترول

لا يقتصر وجود مصانع الترول في أمريكا فقط. ففي تحقيق أجرته شبكة CNN  الإخبارية كشفت فيه أن مصانع الترول موجودة بشكل مكثف في العديد من الدول الأفريقية.

ربما قد لا يمكنك معرفة من الشخص الجالس خلف كل شاشة يكتب تعليقًا على أي من وسائل التواصل الاجتماعي. وقد بالفعل استدعاء العديد من الرؤساء التنفيذيين لشركات التواصل الإجتماعي لجلسات استماع في الكونجرس الأمريكي بخصوص هذا الموضوع. ومن الممكن أن نتمكن قريبًا من معرفة الهوية الحقيقية لجميع الموجودين على وسائل التواصل الاجتماعي.

ورغم ما قد يمثله ذلك من تحدٍ لبعض الأشخاص الموجودين في الدول الديكتاتورية التي قد يسهل عليها ذلك فيما بعد تتبع معارضيها ومضايقتهم. ولكن حتى اللحظة فهناك العديد من الحسابات الوهمية التي تنشر العديد من التعليقات المضللة والموجهة. ولذلك من المهم تحديد المكان الذي تقوم بالحصول على معلوماتك منه. فتعليقات الفيسبوك أو توتير ليست المكان الأمثل لتبني أيدولوجية معينة أو حتى الحصول على وصفة طبية أو معلومة علمية. فقد قدمت وكالة أبحاث الإنترنت حسابات تتحدث مثل الأمريكيين الحقيقيين تمامًا. مما أوقع العديد من الأمريكيين في أحد المغالطات المنطقية وهي «مغالطة التنميط – implicit stereotype». فها هو شخص ما يتحدث مثلك تمامًا يجعل المعلومات التي قد لا تصدقها عادةً مقنعة.

المصادر

[1] Noble Prize Website

[2] The Guardian

[3] CNN

[4] US Today

علاقة الموسيقى بالسياسة: الموسيقى في خدمة الأنظمة السياسية

هذه المقالة هي الجزء 4 من 11 في سلسلة أثر الموسيقى وتطورها

لا يخفى على أحد دور الموسيقى كأداة للترفيه والمتعة وكناتج ثقافي وجمالي، لكنها أيضًا جزءٌ لا يتجزأ من حياة المجتمع الذي تنشأ فيه وتتوجه إليه. تساهم الموسيقى في تشكيل سلوكنا الاجتماعي والأخلاقي وفي التأثير عليه وتغييره، كما تؤثر على نظرتنا للهوية والدين والسياسة. الموسيقى قادرة أيضًا على توحيد الحشود وتحريكها وإثارة الحماس فيها. من هنا، يظهر دور الموسيقى الاجتماعي والسياسي. فكيف يمكن وصف علاقة الموسيقى بالسياسة؟ وكيف يتم استخدام الموسيقى في خدمة البروباغندا؟

كيف رأى الفلاسفة علاقة الموسيقى بالسياسة؟

لطالما شكّلت الموسيقى مادة دسمة للنقاش الفلسفي، وقد كتب الفلاسفة منذ القِدم عن السلطة والقوة التي تمتلكها الموسيقى، ممّا يمهّد لدورها في السياسة.

لعلّ أفلاطون من أوائل الفلاسفة الذين نسبوا للموسيقى قوة التأثير، فقد آمن أفلاطون أن الموسيقى تمتلك “تأثيرًا على الروح”، وصنّف الموسيقى بين “الموسيقى الجيّدة” و”الموسيقى السيئة”. (1) كما اعتبر أنه يجب إتقان الموسيقى في سبيل خدمة الشجاعة والفضيلة. وكانت الموسيقى حاضرة في تصورّه للمدينة الفاضلة. كما لأفلاطون كذلك لأرسطو، تُعتبر الموسيقى أداة مهمة في تعليم الأطفال وتثقيفهم أيضًا. (2)

في عصر التنوير، كتب الفيلسوف جان جاك روسو عن دور الموسيقى في السياسة، فقد ربط بين الموسيقى واللغة، والمشاعر التي تكمن في المجتمع وتحدّد العلاقات فيه. كذلك ركز روسو على الجانب العاطفي في العلاقات الاجتماعية، وقدرة الموسيقى على الإقناع بأيديولوجيات سياسية، بدون استخدام القوة. (3) ويذكر روسو الأغنية السويسرية التقليدية “ranz des vaches”، التي منعت السلطات السويسرية بثها أو غناءها أمام الجنود السويسريين في القتال، لأنها تدفعهم غالبًا إلى البكاء والرغبة بالعودة إلى وطنهم. (2)

وقد يكون الفيلسوف الألماني “ثيودور أدورنو” أحد أكثر الفلاسفة الذين درسوا تأثير الموسيقى على السياسة وتأثرها بها. فقد كان ناقدًا شديدًا للرأسمالية، واعتبر أن الموسيقى أصبحت بخدمة الإنتاج. ورأى أدورنو أن إنتاج موسيقى شعبية بمعايير شبه موحّدة بهدف زيادة نسب الاستماع إليها وبيعها، يسفّه مع الوقت قيمة الموسيقى وقدرة المستمعين على تقدير واستساغة قيمتها الفنية. إن الموسيقى الجيدة بالنسبة لأدورنو هي القادرة على إثارة الحس النقدي عند المستمع، بحيث تحثه على عيش حياة تحمل قدرًا أكبر من الحرية والاستقلالية. (4)

الموسيقى في خدمة الأنظمة السياسية:

تُدرك الأنظمة والأحزاب السياسية أهمية الموسيقى وتأثيرها على الشعوب، وهي غالبًا تستخدمها في سبيل بث الأيديولوجيات التي تؤمن بها.

في عصر النهضة في أوروبا وتحديدًا في إيطاليا، نشأ تيار موسيقي أوبيرالي يهدف إلى وصف وشرح الأدوار والعمليات السياسية، والتعبير عن استدامة وشرعية المجتمع المنظم. وبعد النجاح الكبير لهذا التيار الموسيقي في السياسة، استخدمته الكنيسة، واستبدلت به تعدد الأصوات في الموسيقى (polyphony) الذي كان معتمدًا سابقًا.

في أمثلة أكثر حداثة، أسّس الاتحاد السوفياتي خلال الحرب العالمية الثانية الفرق الموسيقية لتحريض العسكر وتشجيعهم معنويًا في القتال. كذلك استخدم النازيون أغاني ألمانية شعبية في خدمة بروباغندا الحزب النازي. بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، تولّى مجلس الاستراتيجية النفسية التابع لوكالة المخابرات المركزية في الولايات المتحدة الأميركية مسؤوليات عدة، كانت إحداها الإشراف على بث ونشر الأغاني القومية. (5)

بين الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، استغلت العديد من الأنظمة السياسة في دول أفريقية، مثل جمهورية زائير وكينياـ الموسيقى لجمع تأييد الشعوب حولها. في جمهورية كونغو الديمقراطية، تشكل موسيقى ال”ليبانجا – Libanga” جزءًا مهمًا من الموسيقى التقليدية والإرث الفني السياسي، وهي موسيقى قائمة على تمجيد القادة السياسيين والحشد حولهم.

يمكن أيضًا ذكر العديد من الأغاني العربية في هذا السياق، لعلّ أشهرها هي أغاني المطربة أم كلثوم للملك فؤاد والملك فاروق والرئيس جمال عبد الناصر.

حتى الآن، تستخدم الموسيقى في الكثير من الدول لمرافقة الحملات الانتخابية، وهي تهدف للتأثير عاطفيًا على الناخبين، وإثارة صور وروابط معينة بحسب اختيار الموسيقى.

الموسيقى في الأناشيد الوطنية

قد تكون الأناشيد الوطنية من أبرز أوجه استخدام الموسيقى في السياسة. فهي لا تجسّد نظامًا سياسيًا فقط، بل هوية وطنية وثقافية كاملة.

على الرغم من بساطة أنغامها وكلماتها عادةً، تحتل الأناشيد الوطنية مرتبة هامة، تمامًا كالأعلام الوطنية، وهي تحظى باحترام عال. وذلك لأن النشيد الوطني لا يقتصر على كونه موسيقى وكلمات فقط، بل هو هوية جامعة قادرة على خلق شعور بالانتماء والقوة، يرافق الشعوب في كل مناسباتها الهامة.

تناولنا في هذا المقال جانبًا واحدًا من دور الموسيقى في السياسة. فرغم استخدامها من قبل الأنظمة السياسية لنشر البروباغندا الخاصة بها، تستخدم الموسيقى أيضًا في الكثير من الأحيان كأداة مقاومة في وجه الأنظمة السياسية والاقتصادية والثقافية وغيرها. وتعرضت في الكثير من الأحيان للقمع والمنع من النشر. ويدل كل ما سبق على العلاقة الوطيدة التي تجمع الموسيقى بالسياسة، وتأثيرها الضخم على المجتمع بكافة عناصره.

المصادر
1- francemusique.fr
2- cairn.info
3- Jstor.org
4- Coursera
5- Wiley Online Library

نموذج العوالم الثلاثة، ما سر اختفاء العالم الثاني؟

نموذج العوالم الثلاثة، ما سر اختفاء العالم الثاني؟


العالم الثالث مصطلح شائع التداول للإشارة للبلدان النامية، أو البلدان الأقل تطور. بالرغم من أن هذه المفاهيم تندرج تحتها فئة كبيرة من البلدان معظمها غير متجانسة لا من ناحية الثقافة ولا الاقتصاد.

تُعد هذه البلدان متخلفة بالقياس ببلدان العالم الأول. أو البلدان التي تتضمن الدول المتطورة ثقافيًا واقتصاديًا وتكنولوجيًا. وتتمثل في بلدان الغرب عمومًا، ولكن بالإضافة إلى إشكالات حصر عدد هائل من الدول تحت تصنيف واحد، نلاحظ غياب مفهوم “العالم الثاني”، فما سر اختفائه؟

نموذج العوالم الثلاثة:

أول من أشار لمفهوم العالم الثالث هو المؤرخ والديمغرافي الفرنسي “ألفريد سوفيه” في مقالٍ نشره عام 1952، وهي الحقبة التي تلت الحرب العالمية الثانية وظهرت فيها الحرب الباردة وهي حرب جيوسياسية نشبت عقب الحرب العالمية الثانية بين القطبين الأقوى وهما الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي، أو ما يعرف بالمعسكر الغربي “الرأسمالي”، والمعسكر الشرقي “الاشتراكي“.

وضح سوفيه أن دول العالم يمكن تقسيمها إلى ثلاث مجموعات كل منها يتميز بخصائص معينة، وهذه المجموعات هي:

– العالم الأول:

وهي الدول الرأسمالية، أو ما يشار إليه بالمعسكر الغربي، وتشمل الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها، وتتضمن دول أميركا الشمالية وأوروبا الغربية واليابان واستراليا. وتتميز هذه الدول باقتصاد رأسمالي.

 – العالم الثاني:

وتضمن هذا العالم الدول الاشتراكية متمثلة بالاتحاد السوفيتي وحلفائه. وتميزت باقتصاد مسبق التخطيط، وهي القوة الثانية الجبارة في الاقتصاد العالمي في مواجهة دول العالم الأول.

– العالم الثالث:

أشار سوفيه إلى الدول التي لم تنطبق عليها صفات دول العالم الأول أو الثاني اسم دول العالم الثالث. وجمع بذلك جميع الدول التي لم تتحالف مع المعسكر الشرقي أو الغربي وبقيت على الحياد. ووصف حالة هذه الدول بأنها شبيهة بحالة عامة الشعب قبيل الثورة الفرنسية.

بين النموذج والنظرية:

طور ماو زيدونغ نظرية “العوالم الثلاثة” بشكل مخالف لنموذج سوفيه في سبعينيات القرن العشرين. فتصنيفه لم يقسم العالم لدول تتبع المعسكر الغربي أو الشرقي فقط وإنما نظريته اقتصادية-سياسية.

العالم الأول في نظرية العوالم الثلاثة:

تضمنت الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد السوفيتي، كونها حسب مفهومه الدول الأكثر ثراءً والدول التي تملك السلاح النووي، وهي الدول الإمبريالية، والإمبريالية-الاشتراكية.

العالم الثاني:

ويشمل اليابان، وكندا، وأستراليا، وأوروبا، وهي بلدان لا تملك أسلحة نووية، لكنها تبقى أثرى من دول العالم الثالث، أي هي في الوسط بين الدول الأقوى والأضعف.

العالم الثالث ” الماويّ”:

يتضمن بلدان قارة أفريقيا، وأميركا اللاتينية، ومعظم قارة آسيا، وهي بلدان فقيرة مُستعمرة من قبل البلدان الأكثر قوةً وثراءًا.

انهيار الاتحاد السوفيتي واندثار مفهوم “العالم الثاني”

مع انهيار منظومة الاتحاد السوفيتي عام 1991 وانتهاء الحرب الباردة، أخذ مفهوم العالم الثاني بالتلاشي. بالرغم من أن مفهوم العالم الثاني يشير أحيانًا إلى بلدان مستقرة اقتصاديًا مقارنًة ببلدان العالم الثالث شديدة الفقر، وهنا نرى خلطًا في المفاهيم بين نظرية ماو زيدونغ ونموذج سوفيه. وفي الواقع ما زالت مصطلحات العالم الأول والثالث مستخدمة وشائعة جدًا بالرغم من اختفاء العالم الثاني.

ما وراء العالم الثالث:

لم ينتهِ العد عند العالم الثالث، إذ نشأت دول أكثر تخلفًا وشكلت هذه الدول العالم الرابع والخامس. وتشمل هاتين المجموعتين حسب الأمم المتحدة، البلدان الأقل تطورً والأشد فقرًا. وتتضمن المجتمعات البدائية أو القبائل التي تعيش بمعزل عن الحضر. بالإضافة إلى البلدان الأشد فقرًا والتي تتميز بنمو سكاني مرتفع وانخفاض في معدل الدخل القومي وارتفاع شديد في عدد الوفيات.

لنا أن نتساءل الآن، أين عالمنا العربي من هذه التصنيفات؟ في الوقع لا يوجد تصنيف واحد يوضح مجموعة غير متجانسة من البلدان، فكل بلد معين يتميز بخصائص جغرافية وسكانية واقتصادية واجتماعية وثقافية. وبالرغم من تشابه بلدين في جانب أو آخر إلا أنهما لا يتطابقان تمامًا. ونموذج العوالم أو حتى النظرية الماويّة تعجزان عن توضيح الفروقات بين بلدان العالم عن طريق حجزها في نطاقٍ ضيقٍ من الصفات والخصائص.

المصادر:

mometrix
tandfonline
investopedia
maoistwikia
investopedia
nationsonline
fifthworld

العِرق والعنصرية في علم الاجتماع

هذه المقالة هي الجزء 8 من 9 في سلسلة مقدمة في علم الاجتماع

مع دخولنا السنة الواحدة والعشرين من الألفية الثالثة، ما زالت الممارسات العنصرية متواجدة بقوة، ولو بنسب متفاوتة، في جميع المجتمعات. رغم النبذ الظاهر للأيدولوجيات العنصرية التي سادت في القرون الماضية، لكنها باقية. ما زال لون بشرتك يؤثر على فرصك في التعليم والعمل والصحة والاقتصاد والسياسة، حتى في أكثر الدول تقدمًا. وقد أثارت حركة «Black lives matter» قضية العنصرية مؤخرًا في الولايات المتحدة الأميركية والعالم. بيّنت الحركة أن ما يحدث ليس مجرد ممارسات فردية، بل هي جزء من أنظمة اجتماعية كاملة قائمة على التمييز. فكيف يعرّف علم الاجتماع العِرق والعنصرية؟ وكيف يفسّر هذا العلم العنصرية في العالم الحديث؟

تعريف العِرق والإثنية (أو الأصل الإثني)

 بحسب علم الاجتماع، يُعتبر مفهوم «العِرق- Race» بناء اجتماعي يقوم على تصنيف الجنس البشري إلى  فئات مختلفة، على أساس الخصائص الجسدية (كلون البشرة وشكل العيون) والثقافية. ويُعد هذا المفهوم حديثًا نسبيًا، أي أنه بدأ مع اكتشاف القارة الأميركية والسيطرة عليها من قبل الأوروبيين. عرف الأوروبيين عن أنفسهم أنهم “بيض”، وتكرر الأمر مع فترة الاستعمار الأوروبي للدول الأفريقية، أي في القرن السابع عشر. ومن هنا، تم تصنيف البشر إلى العرق الأبيض والأسود والأصفر.

أما «الانتماء الإثني- Ethnicity» فهو، بحسب معظم علماء الاجتماع، مختلف عن العِرق. الانتماء الإثني يشمل الأصول المشتركة والتاريخ والممارسات الثقافية، وبالتالي هو مفهوم أكثر مرونة ويتخذ طابعًا ذاتيًا إجمالًا. وتتقاطع الإثنية مع الجنسية أحيانًا ولكنهما غير متطابقتين. فمن الممكن أن يكون شخصان من جنسية مشتركة (أميركية مثلًا) ومن أصول إثنية مختلفة (عربية أو لاتينية أو أفريقية).

العِرق والإثنية هما مفهومان اجتماعيان، أي أنهما لا ينتجان عن فروقات حقيقية بيولوجية، بل عن فروقات بناها المجتمع ثقافيًا على مر الزمن.

تعريف العنصرية

يعرّف علم الاجتماع العنصرية بعنصرين أساسيين. العنصر الأول هو الأيديولوجية العنصرية التي تؤمن بفوقية عِرقٍ على آخر، بيولوجيًا أو ثقافيًا أو أخلاقيًا. أما العنصر الثاني فهو الممارسات (الفردية والاجتماعية) التي تقوم على التمييز بين الأعراق المختلفة.

نبذة تاريخية عن مفهوم العِرق: الوهم الذي ما زال يسيطر على العالم

انتشرت في القرنين السابع عشر والثامن عشر نظريات علمية زائفة (Pseudoscience)  كنوع من التبرير للاستعمار الأوروبي للدول الأفريقية، الذي رافقه الكثير من الظلم والقتل والاستغلال، والذي كان حافلًا بالإبادات الجماعية وأنظمة العبودية والإتجار بالبشر.

نذكر مثلًا نظرية عالم النبات السويدي «كارولوس لينايوس- Carolus Linnaeus»، الذي صنف البشر، في سنة 1735، إلى أربعة “أعراق”:

– العِرق الأميركي ذو اللون الأحمر، وقد وصفه بأنه عنيد وانفعالي، ومحكوم بعاداته وتقاليده.
– العِرق الآسيوي “الشاحب مع شعر أسود”، وقد وصفه أنه متكبّر ومحكوم بالآراء.
– العرق الأفريقي “الأسود”، و اعتبره كسولًا ومهملًا وماكرًا، ومحكوم بشهواته.
– العِرق الأوروبي “الأبيض” واعتبره عِرقًا متفائلًا و مُبتكرًا، وهو محكوم بالقوانين.

كذلك انتشرت، بين أواخر القرن التاسع عشر والقرن العشرين، نظرية «الداروينية الاجتماعية – Social Darwinism» التي طبقت مبادئ نظرية الانتقاء الطبيعي التي طرحها داروين لتفسير العلاقة بين الأنواع، على البشر. ويعتبر عرّابو هذه النظرية، أمثال البريطاني «هربرت سبنسر- Herbert Spencer» والأميركي «ويليام غراهام سامنر- William Graham Sumner» أن المجتمعات تتطور من خلال الانتقاء الطبيعي. كما اعتبر العرابون أن “البقاء للعرق الأصلح”. وقد خدمت هذه التفسيرات للنظرية الرأسمالية والتيار السياسي المُحافظ، وسياسات الاستعمار.

وعلى الرغم من عنصرية هذه الأفكار وعدم ثباتها، انتشرت في كل العالم وزرعت بذور التمييز والتفرقة التي ما زلنا نحصدها حتى اليوم.

كيف قارب علم الاجتماع مفاهيم العرق والعنصرية؟

يمكن الحديث عن مرحلتين مختلفتين من المقاربة السوسيولوجية لمفهوم العنصرية.

المرحلة الأولى تمتد بين أواخر القرن التاسع عشر ومنتصف القرن العشرين. وقد كان علم الاجتماع في تلك الفترة يعتبر أن العنصرية تقتصر على الممارسات الفردية. كما تأثر علماء الاجتماع في الفترة نفسها بالداروينية الاجتماعية، فبدل أن يدرسوا العنصرية كمشكلة اجتماعية، استخدموا الافتراضات العنصرية نفسها لتبريرها.

من الاستثناءات القليلة لهذه المرحلة هي نظرية عالم الاجتماع الأميركي «دو بوا – W.E.B. du Bois». كان دو بوا أول أميركي من أصول أفريقية يحصّل درجة الدكتوراه في جامعة هارفرد. كان دو بوا ناشطًا حقوقيًا في محاربة العنصرية. وقد كان من أوائل علماء الاجتماع الذين درسوا الجذور السياسية والاقتصادية للعنصرية. كما طرح “دو بوا” في كتابه الشهير «The Souls of Black Folk» (عام 1903) نظرية الوعي المزدوج، التي تفترض أن الفرد المنتمي إلى جماعة مظلومة يعيش صراعًا داخليًا بين نظرته إلى نفسه ونظرة الجماعة الظالمة إليه، التي غالبًا ما تكون نظرة من الاحتقار والدونية.

أما المرحلة الثانية، فهي تمتد بين منتصف القرن العشرين حتى يومنا هذا. تناول علم الاجتماع فيها موضوع العنصرية بنظرة اجتماعية شاملة.

بدأت هذه المرحلة مع انتهاء الحرب العالمية الثانية، التي بلغت فيها العنصرية أعلى مستوياتها، ودفعت البشرية ثمن هذه العنصرية غاليًا.

تفسيرات العلماء للعنصرية تجاه المغتربين

حاول بعض العلماء تفسير العنصرية تجاه المغتربين أو اللاجئين بالاختلافات بينهم وبين الآخرين. واعتبروا أن العنصرية تختفي وحدها عندما “ينصهر” هؤلاء مع مجتمعهم الجديد. لكن هذه النظرية لم تكن كافية بالنسبة إلى علماء الاجتماع.

في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، ترافقت حركة الحقوق المدنية مع ازدياد الهجرة وسقوط الاستعمارات. مما أدى إلى نبذ العنصرية و انخفاض السلوكيات العنصرية العلنية. لكن هذا كله لم يكن كافيًا لإنهاء التمييز العنصري، بل استُبدلت العنصرية العلنية القديمة بأنواع أخرى من التمييز. شملت أنواع التمييز الأخرى توزيع الثروة والعمل والسكن والتعليم والأحكام القضائية وغيرها. ومن هنا، وُلدت نظريات اجتماعية جديدة ومعاصرة لتفسير العنصرية.

نظرية التكوين العرقي

طرح العالمان الأميركيان «أومي و وينانت – Omi and Winant» نظرية التكوين العرقي. تربط نظرية التكوين العرقي الإطار العرقي بالأحداث التاريخية الاقتصادية والسياسية، وهو بناء اجتماعي-ثقافي بحت، يتغير عبر الزمن.

تفسير بونيلا سيلفا

ي عام 1997، اعتبر العالم الأميركي «بونيلا سيلفا – Bonilla-Silva» أن الأنظمة الاجتماعية العنصرية تخلق وتعزز الأيديولوجيات العنصرية. بدورها الأنظمة نفسها. فبحسب ماركس وانجلز “إن أفكار الطبقة الحاكمة هي الأفكار الحاكمة في كل عصر”. وبما أن ال”بيض” هم من يتحكمون بالسياسة في أميركا، من الطبيعي أن تنتشر أيديولوجيتهم العنصرية.

تقاطع باتريسيا هيل كولينز

كما تشير عالمة الاجتماع «باتريسيا هيل كولينز – Patricia Hill Collins» إلى تقاطع (Intersectionality) قضية التمييز العنصري مع كل قضايا التمييز الطبقي والجندري، ولا يمكن درس كل منها على حدة.

التحيز الضمني

بالإضافة إلى ذلك، يتم الحديث في علم الاجتماع وعلم النفس الاجتماعي عمّا يسمى بالتحيز الضمني (Implicit Bias)، وهو الاعتقاد الضمني وغير الواعي بفوقية عرق على آخر. وقد لا يظهر هذا النوع من التحيز في الدراسات الاستقصائية أو الأسئلة، بل هو يظهر بشكل غير مباشر في السلوكيات خلال الحياة اليومية. وهي غالبًا ناتجة عن أحكام مسبقة أو صور نمطية تجاه فئات معينة. حتى أن بعض العلماء اقترح أن هذه النظرة العنصرية الدونية قد تصيب الفرد تجاه عرقه نفسه. وقد أثارت هذه الفكرة جدلًا واسعًا بين اعتبار هذه النظرية لمجرد إلقاء اللوم على الضحية، وبين اعتبار النظرة الذاتية جزء من المشكلة.

ختامًا، إن  العنصرية لا تظلم الجماعات التي تتعرض لها فقط، بل هي تظلم البشرية جمعاء لأنها تحرمها من الاستفادة من طاقات رهيبة يملكها أفراد من أعراق مختلفة، لكنها تبقى رازحة تحت وزن التمييز الثقيل. فمتى ستتخلص البشرية من وهم الأعراق؟

إقرأ أيضًا: تعريف الحركة النسوية وتاريخها

المصادر

American Sociological Association
Britannica
Elsevier

Exit mobile version