فلسفة العلوم: كيف ترى الفلسفة النظريات العلمية؟

هذه المقالة هي الجزء 5 من 11 في سلسلة مدخل إلى الفلسفة وفروعها

فلسفة العلوم: كيف ترى الفلسفة النظريات العلمية؟

فلسفة العلوم (Philosophy of Science) قد يبدو هذا العنوان غريباً، وقد يثير تساؤلاً حول علاقة العلم بالفلسفة. ولكن في الواقع، تعد فلسفة العلوم إحدى فروع الفلسفة، وتتطرق في دراستها إلى طرائق البحث والنظريات العلمية. تناقش هذه الفلسفة على وجه التحديد ما الذي يمكن اعتماده تحت تسمية “علم” ولماذا، إضافة إلى طرح منهجيات معينة لفهم مدى مصداقية النظريات العلمية [1].

وقد أثبتت الفلسفة فائدتها للعلوم، إذ تعمل على توضيح العديد من المفاهيم من خلال أبحاثها ودراساتها. ويسهم هذا التوضيح المفاهيمي في تحسين دقة المصطلحات العلمية واستخداماتها في الأبحاث ذات الصلة. كما يساعد في إجراء استقصاءات تجريبية جديدة. حيث تختلف كيفية فهم التجارب وإجرائها مع اختلاف الأطر المفاهيمية. وكلما تعرّفت هذه الأطر أكثر، أصبح من الممكن إجراء مزيد من البحوث والدراسات [2].

التوجهات ضمن فلسفة العلوم

إذا أردنا دراسة فلسفة العلوم من منظور واسع نسبياً، يمكننا الذهاب إلى مقاربتين مختلفتين حول طبيعة العلم بحد ذاته. فلا يوجد هنا تركيز على نظرية علمية محددة دون سواها. كما لا تتم دراسة موضوع أو تخصص واحد كعلم الأحياء، أو الفيزياء. بل يكمن الاختلاف بين هاتين المقاربتين في تعريفهما لطبيعة النظريات العلمية التي يمكن أن تُصنف على أنها نظريات جيدة. إضافة لذلك، تملك كل منهما وجهة نظر مختلفة حول ما يجب أن نأمل الحصول عليه من النظريات العلمية، بصفتنا متلقين للعلم. وبدقّة أكبر، يتمثل الاختلاف في الهدف من العلم، والنتيجة التي ينبغي أن تصل إليها النظريات العلمية [1].

أما عن هذين التيارين أو التوجهين ضمن فلسفة العلوم، فهما الواقعية العلمية (Scientific Realism) واللاواقعية العلمية (Scientific Anti-Realism).

الواقعية العلمية

يمكن تعريفها بطرق عدة، وباختصار، تمثل الواقعية العلمية موقفاً تجاه النظريات العلمية ينص على أن هدف هذه النظريات هو إيصالنا إلى الحقيقة. أي أن النظريات العلمية هي تلك التي تنجح، من خلال المصطلحات العلمية النظرية، بتفسير ما يحدث في العالم المرئي (كدراسة علم الفلك للكواكب) وغير المرئي (كدراسة الفيزياء للبروتونات والإلكترونات). ويوجد هنا توجه نحو فكرة الحقيقة التي يجب على النظريات العلمية أن تؤدي إليها. أي أن لهذه النظريات جانباً معرفياً، لأنها تمنحنا مظاهر معرفية مرتبطة بالعالم، بما في ذلك المظاهر غير المرئية منه [3].

وفق الواقعية العلمية، يكمن هدف العلم في إعطاء تفسيرات وتوصيفات صحيحة لما يحدث في العالم. ويمكن في هذا السياق الحديث عن جانبين للنظرية العلمية، هما الجانب المعنوي أو الدلالي (semantic) والجانب المعرفي (epistemic). بالنسبة للجانب المعنوي، يجب أن نفهم لغة النظرية العلمية والمصطلحات المستخدمة فيها. وهذا يعني أن يكون لهذه المصطلحات دلالات في العالم الخارجي يمكننا ربطها بها. على سبيل المثال، عندما تتحدث النظرية عن الكواكب، ينبغي لنا أن نعرف دلالة كلمة “كوكب” ونفهم معناها وما تمثله في العالم الخارجي [1].

أما بالنسبة للجانب المعرفي، يجب أن نصدق النظريات العلمية على أنها صحيحة بالنسبة لما تطرحه من أفكار حول العالم أو الأشياء التي تدل عليها. فنص النظرية العلمية يهدف إلى إعطاء شرح وتفسير لظواهر العالم. لهذا لا بد أن نصدق أنها صحيحة، ولو بشكل تقريبي، بمعنى توافقها مع الحقائق الصحيحة في الطبيعة [1].

اللاواقعية العلمية

تضم اللاواقعية العلمية أفكاراً مختلفة، من أهمها التجريبية البنائية والتي طورها بشكل رئيسي الفيلسوف الأمريكي فراسن (Bas van Fraassen) في ثمانينيات القرن الماضي. وتختلف اللاواقعية عن الواقعية في تحديدها للهدف من النظريات العلمية [1]. وفقاً للتجريبية البنائية، يسعى العلم لإعطاء نظريات دقيقة من الناحية التطبيقية، لكن ليس بالضرورة نظريات صحيحة. فلا يشترط لقبول نظرية ما على أنها نظرية علمية أن تثبت صحتها. بل يكفي أن تكون دقيقة عملياً [4]. وتتفق هذه النظرية مع الواقعية العلمية في الجانب المعنوي أو الدلالي. أي أنها تركز أيضاً على ضرورة فهم المصطلحات العلمية التي تستخدمها النظرية، وربط هذه المصطلحات بالعالم ودلالاتها فيه. لكن يكمن الاختلاف في الجانب المعرفي. فهنا لا يشترط أن نؤمن بصحة النظرية كي نعتبرها نظرية علمية جيدة. بل نلجأ إلى التجربة العملية التي يجب أن تكون دقيقة [1].

يتمحور التركيز هنا حول الجوانب المرئية من العالم، والتي يجب أن تكون دقيقة عملياً. وتنطوي الدقة العملية أو التطبيقية في النظرية على حسن إعطاءها لتفسير صحيح للظواهر المرئية. باختصار، يجب للنظرية أن تكون قادرة على احتواء الظواهر المرئية التي نؤمن بوجودها كي تكون نظرية علمية. أي أنه، بالنسبة للتجريبية البنائية، لا تنطوي صحة تفسير الظواهر المرئية التي نصدقها في النظرية العلمية على صحة تفسير الظواهر غير المرئية، ولا مشكلة بهذا في النظرية العلمية [5].

الفلسفة والعلوم

إذاً تختلف وجهات النظر الفلسفية في طريقة رؤيتها للنظريات العلمية. وفي الواقع، هذا الاختلاف يغني العلوم ويوسع النطاق المعرفي الذي تجري الأبحاث ضمنه – إما بناء على توسيع الإطار المفاهيمي، أو بناء على نقد الافتراضات العلمية. إذ يمكن للفلسفة أن تكون على مستوى من الفعالية في تأثيرها على صياغة نظريات جديدة تكون قابلة للاختبار، وتساهم في وضع مسارات جديدة لأبحاث تطبيقية [2].

اقرأ أيضاً: فلسفة العقل وعلاقة العقل بالجسد

المصادر

  1. Coursera: Massimi, Michela, et al. Introduction to Philosophy [MOOC]. Coursera.
  2. Why Science Needs Philosophy
  3. Stanford Encyclopedia of Philosophy – Scientific Realism
  4. Constructive Empiricism – Paul Dicken
  5. Stanford Encyclopedia of Philosophy – Constructive Empiricism

النظرية والتجربة عند بويل وهنري مور ونقد الفرضية العلمية

هذه المقالة هي الجزء 9 من 9 في سلسلة محطات مهمة عن الثورة العلمية

النظرية والتجربة عند بويل وهنري مور ونقد الفرضية العلمية

ماذا يحدث عندما يفسر أشخاص مختلفون التجربة نفسها بطرق مختلفة؟ هم لم ينفوا التقرير التجريبي ذاته، أي أنهم لم ينفوا حقيقة أن استخراج الهواء من مضخة الهواء، سيبقي قطعتا الرخام ملتصقتين في الهواء. لكن ما سبب الجدل والخلاف بينهم هو افتراض بويل نفسه!

بالنسبة لبويل، لم تنفصل قطعتا الرخام عن بعضهما نظرًا لاختلاف ضغط الهواء في قمة قطعتي الرخام وفي القاع. كانت هذه نظرية بويل عن الزنبرك أو مرونة الهواء. ومع ذلك، فإن أشخاصًا آخرين -بسبب معتقداتهم اللاهوتية أو الميتافيزيقية- لم يقبلوا رأيه.

شرح الآخرون ما حدث في مضخة الهواء بطرق مختلفة. لم يقبل فرانسيس لينوس مثلًا نظرية مرونة الهواء. إذ افترض لينوس أن بعض الهواء المخلخل كان يشغل المساحة الكاملة في مضخة الهواء بالفعل لكن هناك شيء آخر مثل الخيط يحافظ على قطعتي الرخام ملتصقتين في الهواء. [1]

هنري مور وروبرت بويل

كذلك هنري مور، الذي انتقد ادعاء بويل بافتراض أنه إذا حدث امتصاص للهواء من مضخة الهواء حقًا، فستميل الطبيعة لإعادة ملئه بمجرد غياب قوة تعيقه. واعتبر أن هذا ينطوي على افتراض أساسي مفاده أن المادة ستعيد ملء الفراغ. اعتقد هنري مور أن الفلسفة الميكانيكية وحدها -كالتي اعتمدت عليها نظرية مرونة بويل- لا يمكنها تفسير الظواهر.

ظن هنري أن وجود كائن غير مادي ضروري لشرح الظواهر التي تلاعبت بها بمضخة الهواء. في هذا المثال، يمكننا أن نرى كيف يمكن لمعتقدات المرء أن تؤثر على الطريقة التي يصف بها الظاهرة ذاتها. لم تكن تلك سمة من سمات العلم الحديث، بل هي سمة من سمات العلم بشكل عام. تعتبر العلاقة بين النظرية والتطبيق من أكثر القضايا تعقيدًا في النهج العلمي. [2]

لفترة وجيزة، اعتبر أن التجارب الحديثة المبكرة تستخدم فقط لاختبار الفرضيات والنظريات. هذا يعني أنها صُممت خصيصًا لتأكيد أو رفض الادعاء النظري، كما رأينا بالفعل في مثال تجربة المثانة لتأكيد الفرضية القائلة بأن الهواء يتحول إلى ماء بسبب البرد. بعد ذلك، أصبح للتجارب -حتى في الفترة الحديثة المبكرة- وظائف أكثر من مجرد اختبار للفرضيات. غالبًا ما تستخدم التجارب للإجابة على الأسئلة المفتوحة وصياغتها بشكل مختلف. بعبارة أخرى، صممت التجارب خصيصًا لتوفير معلومات حول ظاهرة ما؛ معلومات لم تكن موجودة في السؤال الأولي المطروح وهو أمر جديد حقًا بالنسبة للعلماء حينها. لكن هذا لا يعني أن التجارب مستقلة تمامًا عن النظرية. لا تزال التجارب مصممة للإجابة على سؤال معين، مما يجعلها مصممة للنظرية. [4]

بين بويل ونيوتن و نقد الفرضية العلمية

قَبِل بويل استخدام الفرضيات إذا كانت مؤقتة. واعتبر أن التجارب ستوفر معلومات كافية في النهاية لتوضيح المعرفة النظرية المثبتة. من ناحية أخرى، اعترض نيوتن على استخدام الفرضيات في الفلسفة الطبيعية، واعتقد بضرورة البحث في الطبيعة دون أي التزامات نظرية. ومع ذلك، استندت تحقيقاته الخاصة إلى بعض الفرضيات الأساسية، مثل النظرية الجسيمية للمادة.

اعتقد روبرت بويل أنه يمكن للفرضيات أن تصبح جزءًا من الفلسفة التجريبية إذا كانت تخمينية، ورأى أن التجربة ستخلق في النهاية معرفة يقينية. لكن رفض إسحاق نيوتن قبول الفرضية في الفلسفة التجريبية، معتبرًا إياها عائق على التحقق العلمي. واختلفا في أن المعرفة النظرية الوحيدة المقبولة هي تلك التي يجب أن تكون مستنبطة بالكامل من النتائج التجريبية.

الفرضية العلمية بين الأمس واليوم

تقدم مناهجنا الحديثة اليوم الطريقة العلمية كمرادف لاختبار الفرضيات. ومع ذلك، فإن الفرضيات هي مجرد أفكار حول كيفية عمل الطبيعة، أو ما أسماه العالم والفيلسوف ويليام ويويل من القرن التاسع عشر “التخمينات السعيدة”. وتنظم الفرضيات تفكيرنا بشأن ما قد يكون صحيحًا، بناءً على ما لاحظناه حتى الآن. فإذا كان لدينا تخمين حول كيفية عمل الطبيعة، فإننا نجري تجارب لاختبار التخمين.

في العلوم الكمية، يتمثل دور النظرية في إيجاد نتائج التخمين بالاقتران مع الأشياء التي نعرفها. ربما تكون الفرضية الأكثر شهرة في كل العلوم هي أن الأنواع الجديدة تنشأ من فعل الانتقاء الطبيعي على الطفرات العشوائية. بنى تشارلز داروين فرضيته على ملاحظة بعض الأنواع خلال رحلته الشهيرة إلى جزر غالاباغوس. فرضية داروين -عندما كانت مجرد فكرة- تنطبق على كل أشكال الحياة، في كل مكان وفي جميع الأوقات، مشحونة بقوة تنبؤية.

اختبرت أجيال من علماء الأحياء فرضية داروين تلك وبنت عليها مع مجموعة واسعة من الاكتشافات الجديدة. أصبحت نظرية التطور الآن راسخة باعتبارها الركيزة المركزية لعلم الأحياء، وكذلك مدعومة بالأدلة مثل أي نظرية في العلوم. ولكن ما الذي كان سيكتبه داروين لو أنه اضطر إلى كتابة مقترح بحثي لتمويل رحلته على متن سفينة بيجل الشهيرة؟ لم تكن لديه فرضية الانتقاء الطبيعي حينها بالطبع، أي قبل الرحلة. لقد نشأت فرضيته من الملاحظات ذاتها التي ينوي القيام بها. إذا كتب، بصدق، أن “الجزر المعزولة التي سنزورها هي مختبرات طبيعية ممتازة لمراقبة ما سيحدث للأنواع الوافدة إلى منطقة جديدة”، فسيُحكم على مقترحه البحثي وفقًا لمعايير اليوم باعتباره مقترح رحلة صيد بدون فرضية قوية. [3]

هل استخدم نيوتن الفرضية العلمية رغم نقده لها؟

ماذا عن نيوتن نفسه رغم احتجاجه على استخدام الفرضية؟ حدد نيوتن المتغيرات الصحيحة لمشكلة حركة الكواكب وهي القوة والزخم. لكن إذا وضعنا أنفسنا مكان نيوتن لنقرأ مقترحه البحثي بعيون اليوم، سنجده يكتب مثلاً: “أفترض أن العزم والقوى هي المتغيرات الصحيحة لوصف حركة الكواكب. أقترح تطوير طرق رياضية للتنبؤ بمداراتها، وسأقارنها مع الملاحظات الحالية “.

أعمال نيوتن لم تكن تخمينًا حول كيفية عمل الطبيعة، ولكنها أفضل طريقة لوصف الحركة رياضيًا، والتي من خلال نجاحها الواسع رسّخت مفاهيم بديهية للقوة والزخم والطاقة.

“لم أتمكن حتى الآن من اكتشاف سبب خصائص الجاذبية هذه من الظواهر، ولن أضع فرضيات. فكل ما لم يتم استنتاجه من الظواهر يجب أن يسمى فرضية؛ والفرضيات، سواء كانت ميتافيزيقية أو مادية، أو قائمة على صفات غامضة أو ميكانيكية، ليس لها مكان في الفلسفة التجريبية. ففي هذه الفلسفة يتم استنتاج افتراضات معينة من الظواهر، وبعد ذلك يتم تحويلها إلى عامة عن طريق الاستقراء.”

إسحاق نيوتن

دوامات الجاذبية لرينيه ديكارت وكريستيان هيغنز

كتب نيوتن ردًا على نظريات دوامة الجاذبية التي وضعها رينيه ديكارت وكريستيان هيغنز. إذ تخيلا أن ما يسمى بالفضاء الفارغ مليئًا في الواقع بدوامات من الجسيمات غير المرئية التي اجتاحت الكواكب في مداراتها. فكرة الدوامة هي بالتأكيد تخمين حول كيفية عمل الجاذبية. لكنه ليس التخمين المفيد للغاية. إن فكرة الجسيمات غير المرئية التي تكشف عن نفسها فقط من خلال التأثيرات على الكواكب البعيدة التي يصعب الوصول إليها هي فكرة مطاطة وليست محددة بما يكفي لتقديم تنبؤات قابلة للاختبار. بلغة فيلسوف العلوم في القرن العشرين كارل بوبر، لا يمكن دحضها بسهولة.

لم يقدم نيوتن قصة عن آلية خيالية تفسر سبب الحفاظ على الزخم أو كيفية نشوء الجاذبية. بدلاً من ذلك، صاغ قواعد بسيطة تصف كيفية تحرك الكواكب. وكما تبين فيما بعد أنها تفسر كيف يتحرك كل شيء تقريبًا في الظروف العادية. وكما كانت رؤية نيوتن قوية، فإن وصفه للجاذبية كان أيضًا ذو خاصية مقلقة تتمثل في ذلك “الأثر المخيف الذي يقع” من الشمس على الكواكب، وفي الواقع من كل كتلة على كل كتلة أخرى.

الفرضية بين نيوتن وأينشتاين والعلم الحديث

استغرق الأمر 250 عامًا أخرى لشرح الأصل المادي للجاذبية. فكانت فرضية ألبرت أينشتاين حول الجاذبية ميكانيكية، بخلاف نيوتن، حيث تحني الكتلة الفضاء. ونتيجة لذلك، تنحني الخطوط المستقيمة بالقرب من الأجسام الضخمة، بما في ذلك مسار الضوء من النجوم البعيدة التي تمر بالقرب من الشمس في طريقها إلى تلسكوباتنا. لقد استغرق أينشتاين سنوات لتطوير معادلات رياضيات لإظهار أن وصف نيوتن، الذي كان متسقًا مع العديد من الملاحظات، كان مجرد تقدير. كما استغرق سنوات لصياغة تنبؤات مذهلة للأشياء التي تحدث للكتل الضخمة مثل الانهيار في الثقوب السوداء أو عندما تتحرك الكتل الكبيرة بسرعة هائلة مثل موجات الجاذبية.

فلماذا يتركز التمويل البحثي الحديث في يومنا هذا على البحث المبني على الفرضيات؟ إن التصميم التجريبي القائم على الفرضيات هو الأنسب لبعض المجالات المؤثرة، وخاصة البيولوجيا الجزيئية والطب. يدرس الباحثون في تلك المجالات أنظمة معقدة وغير قابلة للاختزال (كائنات حية)، ولديهم تحقيقات تجريبية محدودة، وغالبًا ما يُجبرون على العمل بمجموعة بيانات صغيرة. لا مفر من أن يكون البروتوكول التجريبي الأكثر شيوعًا في هذه المجالات هو الضغط على نظام حي معقد من خلال إعطائه عقارًا أو مادة كيميائية ثم قياس بعض الاستجابة غير المباشرة ذات الصلة. ويعتقد البعض أن هذه التجارب تعيش وتموت من خلال الاختبار الإحصائي، مما دفعهم إلى نقد الفرضية العلمية.

عن نقد الفرضية العلمية اليوم

يعتقد البعض أن هذا نموذج ضيق للغاية لما يمكن أن تكون عليه التجارب. ففي العلوم الفيزيائية، يصبح الباحثون أكثر قدرة على التعامل مع النظام المهتمون بدراسته وتبسيطه. كما يتمتعون أيضًا بتقنيات تجريبية أقوى من نواحٍ عديدة وتعتبر امتدادات لحواس الإنسان. تسمح تلك التقنيات برؤية المادة، والاستماع إلى كيفية رنينها استجابة لتعرضها لضغوط من المجالات الكهرومغناطيسية، ليشعر الباحث بكيفية استجابتها للدفع الحساس على مقياس النانو.

حين تتمكن من القيام بهذه الأشياء، يمكن أن تصبح التجارب أكثر بكثير من مجرد اختبار فرضيات، أي اختبار ما إذا كان تغيير X يؤثر على Y بدلالة إحصائية. في الواقع، يمكن النظر إلى تاريخ العلم باعتباره تطورًا لطرق جديدة لاستكشاف الطبيعة. لم يكن تلسكوب هابل الفضائي مدفوعًا بفرضية بل رغبة في النظر بعيدًا في عمق الكون. تمكّن الأرصاد والبيانات المأخوذة من هابل والتلسكوبات الحديثة الأخرى من صياغة واختبار فرضيات جديدة حول الكون المبكر. غالبًا ما يعتمد التقدم في العلم على التقدم في كيفية قياس شيء مهم. وبعد قرن من أينشتاين، أكدت أجهزة الكشف فائقة الحساسية توقعه لموجات الجاذبية.

تعتمد هذه الكواشف على أفكار ذكية لاستخدام الليزر وقياس التداخل لقياس تغيرات طفيفة للغاية في المسافة بين نقطتين على الأرض. ما كان لهذا العمل أن يصبح مدفوعًا بالفرضية، إلا بالقول بأن النسبية العامة تتنبأ بموجات الجاذبية. وبالمثل، غالبًا ما يعتمد التقدم في العلوم الكمية على التقدم في قدرتنا على حساب عواقب الفرضيات الموجودة بالفعل.

في تقييم مقترحات البحث اليوم، يعتقد البعض أنه يجب يكون المعيار الرئيسي هو ما إذا كان المقترح البحثي سيساعدنا في الإجابة عن سؤال مهم أو الكشف عن سؤال جديد كان يجب طرحه. فهل تتفق مع نقد الفرضية العلمية اليوم كمعيار في المقترحات البحثية أم أنها ضرورية حقًا؟

المصادر:
[1] Journals Index copernicus
[2] Jstor
[3] Physics Today
[4] Futurelearn: The Roots of the scientific Revolution

الأدوات العلمية عند كافنديش وروبرت هوك

هذه المقالة هي الجزء 8 من 9 في سلسلة محطات مهمة عن الثورة العلمية

يرتبط التحقق من الطبيعة ارتباطًا وثيقًا بالأدوات والمختبرات. وقد ناقشنا فيما كيف خضعت التجارب للرقابة. ومع ذلك، ومن أجل التحكم في الطبيعة وظروفها، هناك حاجة إلى بعض الأدوات الأكثر تعقيدًا، وأحيانًا لظروف أكثر تحديدًا ودقة. يمكن إرجاع استخدام الأدوات إلى أوائل العصر الحديث. سنستعرض معًا بعض الأمثلة على استخدام الآلات والأدوات في القرن السابع عشر وما صاحبه من رفض ونقاشات لجدوى استخدام الأدوات العلمية كالمجهر والتليسكوب لاستكشاف الطبية.

الأدوات

بشكل عام، تميزت الأدوات إلى نوعين:
– رياضية، تستخدم للرسومات والحسابات.
– وعلمية، تستخدم لتحليل الظواهر وتعميمها.

الفرق بين الأدوات الرياضية والعلمية

استخدمت الأدوات الرياضية منذ العصور القديمة، وتحسنت كثيرًا في أوائل العصر الحديث. بعض الأمثلة على ذلك هي البرجل والمسطرة. كما تحسنت أيضًا الأدوات الفلكية، مثل الأسطرلاب والساعات الشمسية. من جهة أخرى، إلا أن الأدوات العلمية استخدمت لأغراض مختلفة. فازدهرت صناعة الأدوات العلمية في القرنين السابع عشر والثامن عشر.

استخدمت بعض تلك الأدوات العلمية في تصحيح وتحسين الحواس. المجهر والتلسكوب أمثلة لذلك، فهما إما يكبران ما هو صغير لدرجة صعوبة رؤيته بالعين المجردة، مثل البكتيريا، أو يقربان ما هو بعيد بحيث لم نتمكن من ملاحظته من قبل، مثل النجوم.

تقدم أدوات أخرى معلومات دقيقة عندما تفقد حواسنا القدرة على التمييز الدقيق، كما في حالتي الحرارة والضغط. المعلومات التي يقدمها المعيار الحراري والبارومتر وزجاج الطقس، هي أكثر دقة بكثير من أحاسيسنا الجسدية.

أدوات أخرى

هناك أدوات أخرى تعمل كنماذج أو نظائر للظواهر الطبيعية، وتُستخدم عندما لا يتمكن المُختبِر من الوصول إلى ظروف دقيقة، أو لدراسة حدث لا يتكرر. كما رأينا بالفعل في مثال بيكون لاستخدام المثانة المعلقة في الثلج لإعادة إنتاج الظروف التي يمكن أن نجدها بشكل طبيعي في الكهف.

مع ذلك، لا تنتج هذه الظواهر بشكل مصطنع فحسب. بل يمكن للمساعي العلمية أن تذهب إلى ما هو أبعد من ذلك. يمكن أن تخلق ظروفًا لا تحدث في الطبيعة! ولكن لتلك الظروف القدرة على إمدادنا بمعلومات مهمة عن الطبيعة ونشاطها.

مضخة الهواء مثال جيد على ذلك. فهي قادرة على أن تفرغ مساحة ما من الهواء. يمكن للمضخة مساعدتنا في دراسة كيفية حدوث الظواهر المختلفة في هذه الظروف. ينطبق الشيء نفسه عند عزل ظاهرة ما لاكتشاف انتظامها من خلال تهيئة الظروف المثالية لحدوثها. فكر مثلاً في مهد نيوتن، المصمم خصيصًا لإثبات الحفاظ على الزخم والطاقة.

في الوقت الحاضر، يحتفظ العلماء بأدواتهم في مختبرات مصممة خصيصًا لنشاط وحيد. مختلفون عن بعضهم البعض حسب مجال البحث. أما في أوائل العصور الحديثة، كانت العديد من الأماكن تقوم بدور مختبرات اليوم. حينها، استخدمت كل تلك الأماكن الأدوات السابقة مثل: الحدائق، والمختبرات الفلكية، والمعاهد الطبية، وكذلك الخزانات الشخصية والكليات الجامعية.

سمات استخدام الأدوات الحديثة

هناك سمتان مهمتان لاستخدام الأدوات الحديثة مبكرًا نود التأكيد عليها. أولاً، كما رأينا في مثال المثانة، تم استخدام مواد شائعة كأدوات علمية، وليس فقط تلك المصممة خصيصًا لنشاط واحد محدد.

أولًا، استخدمت الأشياء والمصنوعات اليدوية الشائعة أثناء التحقق والاختبار واكتسبت مكانة أداة علمية من منظور منهجي. المرايا والعدسات المستخدمة في الحياة اليومية تمكنت حينها من إحداث تأثيرات مدهشة، فأصبحت أدوات للبحث البصري في القرن السادس عشر. أدت العدسات والمرايا إلى اكتشاف قانون الانكسار مثلًا.

ثانيًا، يحتاج المجرب إلى التدريب قبل استخدام الأدوات، أي يحتاج إلى معرفة كيفية قراءة المعلومات التي توفرها الأداة. إذ لا يمكن استخدام الأدوات حتى البسيطة -مثل التلسكوب أو المجهر- بدون تعليمات مسبقة. لن يفهم المرء ببساطة ما يرى من خلال عدساتهم.

على سبيل المثال، لم تقبل اكتشافات جاليليو التلسكوبية بسهولة، إذ لم ير كل معاصريه ما رآه في تليسكوبه. يحدث تداخل في الرؤية بين الشيء قيد الدراسة وتشوه الصورة الذي تصنعه حواسنا. تعالوا نحلل بشيء من التفصيل الحجج المؤيدة والمضادة لاستخدام المجاهر.

مؤيدو الأدوات ومعارضوها

كانت الأدوات دافعًا للجدل في القرن السابع عشر، إذ تناولت إحدى المناقشات الرئيسية استخدام التلسكوب. أدت اكتشافات جاليليو للبقع الشمسية إلى نظرية تتعارض مع فلسفة أرسطو. أثار الأمر انتقادات أعضاء الكنيسة الكاثوليكية، إذ لم يوافقوا على النتائج النظرية لاكتشافات جاليليو السماوية القائلة بأن العالم فوق القمري (سماء النجوم الثابتة في الفكر الأرسطي)، الذي ظل لفترة طويلة حقيقة راسخة، هو أمر خاطئ وقابل للتغيير تمامًا كالعالم دون القمري (ما بين الأرض والقمر).

لم تزعزع الآلات المعتقدات اللاهوتية فحسب. القناعات الميتافيزيقية أيضًا أصبحت في مهب الريح. إذ أصبح ما يتعلق بالبنية الداخلية للأجسام ووصول الإنسان إلى هذه البنية عقبة أيضًا في إنشاء منهجية بحث. انتقدت كافنديش الفيلسوف هوك -وهو أحد أهم مروجي المجهر- الذي جاء كتابه “Micrographia” أول أكثر الكتب مبيعًا في الجمعية الملكية وكانت منهجيته مهمة جدًا للمجتمع العلمي آنذاك. فعلى عكس هوك، اعتبرت كافنديش أن الأجسام المكبرة لن تجلب معرفة جديدة ومفيدة. استندت هذه الحجة إلى افتراضها أن المجهر لا يمكنه رؤية أسباب الحركة والبنية الحقيقية للمادة. واعتقدت كافنديش أن البنية الحقيقية للمواد لا يمكن تصورها إلا عن طريق العقل.

الفحص المجهري لروبرت هوك

في كتاب “الفحص المجهري – Micrographia” لروبرت هوك والمكتوب عام 1665م، ناقش روبرت هوك في هذا الكتاب فائدة المجهر. قدم هوك أيضًا سلسلة من الرسومات لما يمكن رؤيته من خلال المجهر، وأشهر رسوماته هو عين ذبابة والخلية النباتية. اعتبر روبرت هوك المجهر إضافة إلى الحواس البشرية الناقصة والضعيفة، تمامًا كالنظارات الطبية التي تعالج مشاكل إبصارنا.

عارضت مارجريت كافنديش في كتابها “ملاحظات على الفلسفة التجريبية – Observations upon experimental philosophy” المنشور عام 1668 طرح هوك. ارتكز رفض كافنديش على التشوه الذي قد تحدثه العدسات وانكساراتها وظلال الكائنات الدقيقة تحت المجهر وما قد يسببه ذلك من مشكلات. تخيلت كافنديش أن التكبير الذي تصنعه العدسة المكبرة للقمل قد يجعلنا نظنه كسرطان البحر مثلًا بسبب اختلاف الأحجام وتشوه الرؤية بسبب استدارة الأشياء على غير طبيعتها.

اعتبرت كافنديش أن اعتراضها على ما يحدث في المجهر يمكن تعميمه على باقي الحواس أيضًا وبالتي رفضت استخدام مثل هذه الأدوات. وعلى عكس ما تعتقد من مواقفها، فلم تكن كافنديش جامدة محافظة في آرائها، فقد رفضت كلاً من الفلسفة الأرسطية والفلسفة الميكانيكية الجديدة لديكارت وهوبز وأعضاء المجتمع الملكي، ودافعت عن المادية الحيوية – النظرية التي بموجبها تتكون كل الأشياء في الطبيعة من مادة حيوية وذاتية الحركة مثلًا.

روبرت هوك في مواجهة مارجريت كافنديش

تمثل أحد أهداف المشروع العلمي لروبرت هوك في بناء تلك الأدوات المساعدة للحواس على إدراك العالم الطبيعي بشكل أفضل. كان المجهر والتلسكوب -بالنسبة لهوك- الأكثر أهمية. نظر روبرت إلى المجهر والتلسكوب كركيزة أساسية في التفاعل بين الإنسان والعالم المحيط.

اعتقد هوك أنه باستخدام المجهر يمكن للبشر الوصول إلى عالم جديد؛ عالم المخلوقات الصغيرة غير المرئية للعين، وعالم جسيمات المادة. كان روبرت هوك -كأعضاء آخرين في الجمعية الملكية- من داعمي نظرية المادة الجسيمية الديكارتية. وهكذا، اعتبر أنه بمرور الوقت ومع تحسن المجهر، سيتطور الأمر إلى حد كبير، بحيث سنتمكن من رؤية جسيمات المادة وتركيبها وحركاتها من خلال عدسات المجهر. كما اعتبر هوك أن المجهر -من خلال جعل الجسيمات وحركاتها مرئية- سيقدم أدلة حاسمة ضد النظرية الأرسطية للمادة والشكل.

مفهوم كافنديش عن الطبيعة

كان لدى مارجريت كافنديش مفهوم مختلف عن الطبيعة عن مفهوم روبرت هوك. فبالنسبة لها، لا يمكن تصور حركات المادة إلا عن طريق العقل والحواس البشرية. اعتقدت كافنديش أن البشر لن يتمكنوا من رؤية حركة المادة حتى بمساعدة الأدوات. كما اعتقدت أن البصر قد يصل فقط إلى الأشكال الخارجية للأشياء. ومع ذلك، رفضت كافنديش حتى أن الأشكال الخارجية التي تُرى من خلال المجهر هي بالفعل أشكال حقيقية للأشياء واعتبرتها مجرد تشوهات ناتجة عن العدسات والأضواء والظلال تتداخل مع الجسم والعدسات.

الحجة الثانية التي قدمتها كافنديش تتعلق بالعلاقة بين الطبيعي والاصطناعي. المشكلة التي أثارتها هي إلى أي مدى يكون شكل الجسم المكبر -والذي يختلف تمامًا عما تراه العين المجردة- هو شكله الحقيقي. بسبب العدسات، قد لا يكون ما نراه هو الشيء الطبيعي، ولكن صورة مختلفة لذلك الكائن.

أكدت كافنديش أنه إذا كانت المعرفة العلمية مبنية على تلك الصورة، فقد يؤدي الأمر إلى نظريات ومعلومات خاطئة. هكذا، تفاعلت المعتقدات الميتافيزيقية واللاهوتية مع الفلسفة التجريبية لتشكيل ثورة العلم الحديث. ولكن لم يتوقف أثر روبرت هوك واكتشافاته المذهلة عنده، بل امتد إلى نيوتن ولكن في ذلك مقال آخر. فمساهمات روبرت هوك في الرياضيات والأحياء والفلك هائلة والفضل في ذلك للأدوات العلمية. فقد اكتشف الخلية الحلية باستخدام الميكروسكوب والنجم الخامس في كوكبة الجبار باستخدام التليسكوب، وغيرها من الاكتشافات والمساهمات، مما قوى حجته وحفر اسمه في التاريخ.

المصادر:
Margaret Cavendish and Scientific Discourse in Seventeenth-Margaret Cavendish and Scientific Discourse in Seventeenth-Century England Century England

Margaret Cavendish’s Critique of Experimental Science

Oxford Academic: Robert Hooke: Physics, Architecture, Astronomy, Paleontology, Biology

Robert Hooke: English scientist who discovered the cell

صراع ويليام هارفي وديكارت، صدام بين التجريبية والعقلانية

هذه المقالة هي الجزء 6 من 9 في سلسلة محطات مهمة عن الثورة العلمية

صراع ويليام هارفي وديكارت على أنقاض جالينوس

هيمنت تعاليم الفيزيائي اليوناني القديم “جالينوس” على الفكر الطبي الغربي لما يقرب من 1400 عام. لذا فليس من المستغرب أن التفسيرات الفيزيولوجية المنطقية الجديدة للظواهر قوبلت بمقاومة. رفض ديكارت وهارفي وجهة نظر جالينوس القائلة بأن الدم يتحرك ببساطة للأمام والخلف من خلال نفس الوعاء. [1]

قال هارفي أن القلب عبارة عن مضخة عضلية تضخ الدم إلى جميع أنحاء الجسم ثم تعود إلى القلب، وهو ما شكك فيه ديكارت. كما عارض تفسير هارفي لطبيعة الانقباض والانبساط، كل هذا دون مساعدة من أي أدوات دقيقة.

يعكس مفهوم علم وظائف الأعضاء عند ديكارت تفانيه في بناء نظام فلسفي موحد، يضم الفيزياء والرياضيات وعلم النفس وعلم الكونيات ونظرية المعرفة وجوانب معينة من الدين. لقد نظر ديكارت إلى الجسم بطريقة ميكانيكية، واعتبره مجموعة من الآلات. وأنه يمكن تحويل وظائف الجسم المختلفة إلى نماذج ميكانيكية مماثلة للساعة والآلات التي تعتمد على الروافع والبكرات.

رفض ديكارت نظرية المضخة الآلية القلبية لويليام هارفي!

على الرغم من هذه الميول الآلية الدافعة لقبول ديكارت لأفكار هارفي، رفض ديكارت فكرة أن القلب هو مجرد مضخة تدفع الدم إلى الجسد. يعكس هذا جزئيًا اعتقاد ديكارت بأن الإرادة تتحكم في جميع العضلات. لم يعلم ديكارت بإمكانية وجود عضلات لاإرادية من الأساس.

على الرغم من اعتراف ديكارت بأن بعض الحركات العضلية، مثل رد فعل اليد التلقائي للوخز، يمكن أن ينتج عنه فعل انعكاسي، إلا أنه رفض فكرة الانقباض العضلي اللاإرادي.

اعتقد ديكارت أن القلب لا يمكن أن يكون مضخة، بل هو فرن. يسخّن الفرن القلبي جزيئات صغيرة في الدم، مما تسبب تمددها على الفور. هذا التمدد الديناميكي والمفاجئ للدم داخل القلب تسبب في تضخم العضو مما أجبر الصمامات الأذينية البطينية أن تنغلق، وتفتح الصمامات شبه القمرية.

عندما ينطلق الدم الحار في الشريان، يتمدد الشريان، وهو ما كان مرئيًا للعين المجردة ويمكن الشعور به حينذاك. تخيل ديكارت أنه عندما يبرد الدم، فهو يأخذ مساحة أقل، وتنهار الشرايين والأوردة – كما يفعل القلب نفسه. لكنه اتفق مع هارفي على أن الدم يعود إلى القلب من خلال نظام من الأوردة، لكن الدم الحار هو الذي يحرك الدورة الدموية وليس القلب نفسه.

عندما يعود الدم البارد إلى القلب من أجزاء مختلفة من الجسم، يختلط بكمية صغيرة من الدم باقية في القلب. هذا الدم المتبقي وفقًا لديكارت، يمتلك خاصية تشبه الخميرة التي تسبب تمدد الدم العائد إلى البطين، وبالتالي بدء العملية مرة أخرى. لذلك، شبّه ديكارت القلب بالفرن.

لم يفكر ديكارت في القلب على أنه عضلة، ولم يتخيل أن حركته نتيجة لانقباض عضلي لا إرادي كما اعتقد هارفي. لكن تغير حجم القلب وشكله لأن الدم داخله يتمدد بسرعة مع تسخينه وإجباره على الخروج إلى نظام الأوعية الدموية بينما يبرد بسرعة أثناء دورانه في الجسم. [5]

صدام بين العقلانية والتجريبية

الفارق الرئيسي بين ديكارت وهارفي هو الفارق بين العقلاني والتجريبي. فويليام هارفي كان تجريبيًا يصل إلى استنتجاته بالتجربة. أما ديكارت، فحاول توفيق العالم مع نظرة فلسفية عقلانية. وقد بدا لنا من ذلك الصراع نشأة ملامح منهج وليد بين الأرسطية والديكارتية، هو المنهج التجريبي. لكن لم يظهر المنهج التجريبي على الفور بالطبع، كما لم تمت الأرسطية على الفور.

حتى الديكارتيين أمثال مالبرانش استمروا في استخدام مصطلحات المادة والشكل في تصورهم للعالم المادي. فالفلسفة الطبيعية الأرسطية قدمت مجموعة من المفاهيم التي ساعدتها على البقاء.

مع تطور العلم في القرن السابع عشر، لم يتخلص أتباع ديكارت من مفهوم الشكل بالكلية، بل أعادوا تفسيره ليناسب أفكارهم. بالتالي، يمكننا القول أن أفكار ديكارت والأرسطية كان لهما أثر كبير على علماء ومفكرين القرن السابع عشر. ورغم هدم ديكارت للأرسطية، إلا أنها كانت تعود في الأمور التي يغيب التفسير العلمي التجريبي الدقيق عنها في كثير من الأحيان.

المصادر

[1] Hurst JW: Robert C. Schlant. (Profiles in Cardiology[Eds. Hurst JW andFye WB]). Clin Cardiol1999;602–605

ملخص كتاب النسوية وفلسفة العلم د. يمنى طريف الخولي

في مطالع ثمانينات القرن العشرين ظهرت فلسفة العلم النسوية في العالم الغربي وتتطورت حتى عصرنا هذا، وباتت من ملامح المشهد الفكري كتيار يُمثل إضافة حقيقية لفلسفة العلوم، ونظريات المعرفة العلمية (الإبستمولوجيا) والمنهج العلمي (الميثودولوجيا). جاءت فلسفة العلم النسوية لترفض التفسير الذكوري المطروح للعلم بنواتجه السلبية، وتحاول تفعيل مجالات وقيم مختلفة خاصة بالأنثى، جرى تهميشها بحكم السيطرة الذكورية، في حين أنها يجب أن يفسح لها المجال لتقوم بدور أكبر لإحداث توازن منشود في مسار الحضارة والفكر. وقبل أن نستكمل اسهامات النسوية، لنتعرف معًا عنها أولًا.

ما هي النسوية؟

حركة سياسية تهدف إلى غايات اجتماعية، تتمثل في حقوق المرأة وإثبات ذاتها ودورها. فهي نشأت لتضم كل جهد عملي أونظري لتحدي ومواجهة ونقد النظام البطريركي (الأبوي) في المجتمع الغربي القائم على علاقات اجتماعية تكون فيها المرأة ذات وضع أدنى وخاضعة لصالح الرجل، وتفرض عليها قيود تمنع عنها إمكانيات النماء.

ظهر مصطلح (النسوية-Feminism) في نهايات القرن التاسع تحديدًا عام 1895، إلا أن كانت للنسوية جذور منذ مراحل سحيقة من التاريخ الأنثروبولوجي العصر الأمومي، فكانت المرأة هي المؤسسة الاجتماعية، وتميزت بذلك الحضارة المصرية القديمة فشاركت المرأة في النشاط الاقتصادي والمشاغل العامة بل والحكم، فاقتصرت وراثة العرش في عصر ما قبل الأسرات على فرع الأمهات، حتى تم الاعتراف بحقهم في الحكم فتولت الملكة (مريت نيت) عرش مصر كأول امرأة في التاريخ تتولى الحكم، وحكمت مصر عشرين عامًا. أمّا إذا بحثنا في التاريخ الغربي البادىء من الإغريق، نجد أنه يقر بدونية المرأة، فأكد أرسطو على أن الأنوثة نقص وتشوه، وأن المرأة امرأة لأنها ينقصها أن تكون رجلًا، وبالتالي الرجل هو الأرقى ويجب أن يكون الحاكم، حتى أن العلم التجريبي حين اشتد ساعده إبان العصر الحديث انضم إلى تلك المسيرة الجائرة خصوصًا عن طريق البولوجيا وعلم النفس ومثال على ذلك علم الكرانيولوجي أي علم الجمجمة وقياس أحجامها، حيث أجريت أبحاث الذكاء والقدرات الذهنية على حجم المخ، واستنتجوا قلة معدل الذكاء عند النساء لصغر أحجام أدمغتهم.

بشائر ظهور النسوية

جاءت بشائر ظهور النسوية في المجتمع الغربي من متغيرات الواقع الأوروبي على مشارف القرن التاسع عشر، وسبقها أيضًا بعض الحركات النسوية على يد الكاتبة (ماري ولستونكرفت) في صدور كتاب باسم دفاعًا عن  حقوق المرأة، وجاءت بنتها من بعدها لتأكد أن المرأة إذا تلقت التعليم نفسه الذي يتلقاه الرجل لكانت مساوية له. وانطلاقًا من الثورة الصناعية واكتشاف الماكينات ظهرت المرأة في المصنع كقوة عمل منافسة للرجل، إلا أنها كانت تحصل على راتب أقل، وشاركت في الثورة الفرنسية للمطالبة بالمساواة، مثلما شاركت المرأة المصرية في ثورة 1919 كعلامات بارزة في التاريخ النسوي.

النسوية الليبرالية

لم تكن الليبرالية في حد ذاتها فلسفة نسوية، فكانت آراء (جون لوك) الأرب الروحي لليبرالية تتوجه لخضوع المرأة لزوجها بأنه شيء مطلق لا علاقة له بالمتغيرات الاجتماعية، وسبقه في الرأي (جان جاك رسو) الذي أراد أن تكون المرأة بغيًا وراهبة في آن واحد وقلص دورها في الجنس والإنجاب، وبحث عن المساواة في عالم الذكور فقط. ولكن علينا الاعتراف أن نضج الليبرالية في القرن التاسع عشر فتح الأبواب للحركة النسوية بما فعلته من تقويض السلطة البطريركية، وظهر على إثرها الفيلسوف (جون ستيورات مل) ليكون بلا جدال أبرز رائد فلسفي للنسوية لصدوره كتاب (استبعاد النساء) الذي يمكن اعتباره مانفستو الحركة النسوية، ويُعد مل الليبرالي الوحيد الذي شرع في تطبيق مبادىء الليبرالية على النساء، ليطالب بحقوقهن في التعليم والمساواة أمام القانون. ولايمكن فصل مل عن زوجته هارييت تيلور مل النسوية التي طالبت بحق النساء في التصويت، فمثل الثنائي تطبيقًا لحقوق المرأة في تيار الليبرالية.

النسوية الاشتراكية

قامت الاشتراكية من أجل إعادة توزيع الثروة والسلطة في المجتع، والنضال من أجل المساوة والعدالة الاجتماعية. ولم يفتها التأكيد على أن أن قهر المرأة بؤس خلفته الرأسمالية، فكان الاشتراكي الفرنسي الرائد (شارل فورييه) أول من استخدم وضع النساء في المجتمع مقياسًا لتقدمه وتقدم المجتمع، وهذا ما طوره (ماركس) في مخطوطات عام 1884، حين أعلن أن تقويم مسألة تطور الإنسان ككل يتأتي من تقويم تطور علاقة المرأة بالرجل، واتبعه رفيقه  (فريدريك إنجلز) في اعتبار النسوية موضوعًا رئيسيًا وأخرج في العام نفسه مؤلفه الثاقب (أصل الأسرة والملكية الخاصة والدولة)، وأيضًا المفكرة الماركسية (روزا لوكسمبورج) التي أكدت على تحرر النساء بالتطور الاقتصادي.

الموجة النسوية الأولى

كانت الحركة النسوية في منتصف القرن التاسع عشر على أشدها، ففي أمريكا عام 1848 عقد مؤتمر (سينيكا فولز) للمرأة وحضره 40 رجلًا و250 امرأة، وبذلك يُعد المؤتمر الأول للحقوق المرأة وظل يُعقد سنويًا حتى نشوب الحرب الأهلية عام 1861، وفي عام 1855 تأسس الاتحاد النسائي الوطني بأمريكا، وفي عام 1869 تأسست جمعية المرأة الأمريكية للحقوق السياسية ثم اندمجت مع الجمعية الوطنية الوطنية لحقوق المرأة عام 1890، ويعد ما بين 1880 و1910 أكثر مراحل النسوية توهجًا، واقتحمت النساء مجال التعليم العالي والبحث العلمي، وأنشئت أول كلية للبنات في إنجلترا، وجرى اعتماد مصطلح النسوية وكانت (كلارا زاتكين) من أبرز نساء الحركة في تلك الأونة. واعتمد 8 مارس عيدًا عالميًا للمرأة.

أمّا عن المشرق العربي، ففرضت النسوية وجودها خصوصًا في مصر وتونس والشام وعلا وطيس النقاش حول إصلاح حال المرأة، إلا أن المرأة العربية كانت تتمتع في ذلك الوقت بحقوق تجاهد من أجلها المرأة الغربية، مثل التصرف بأموالها وحقها في أولادها، ولا يمنع أنها كانت تعاني من أمور أخرى مثل الطلاق الجزافي، وتعدد الزوجات، وظهر في الشرق حركات مناهضة تطالب بحق المرأة في التعليم فألقى (بطرس البستاني) خطابه عن تعليم النساء وأخرج (رفاعة الطهطاوي) كتابه المرشد الأمين في تعليم البنين وأشار أن تعليم الفتاة أهم من تعليم الفتى، وافتتح الخديو (إسماعيل) المدرسة السنية لتعليم البنات، وبلغت النسوية ذروتها في كتابي (قاسم أمين) تحرير المرأة والمرأة الجديدة.

الموجة النسوية الثانية

كانت وليدة أيدولوجية ظروف اقتصادية واجتماعية معينة مثل زوال الاستعمار ومناهضة التميز العنصري، خاصة في مرحلة ما بعد الحداثة التي ارتفعت فيها النسوية إلى مستوى النظرية والفلسفة الصريحة والسؤال الإبستمولوجي وفلسفة العلم. ساعدت التكنولوجيا تخفيف عبء الأعمال المنزلية لدى النساء، وساعد التطور الصحي على صحة المرأة فلم تعد بحاجة لإنجاب 15 طفلًا ليعش منهم 7، وأصبح من الممكن الاكتفاء بطفل واحد مع وسائل منع الحمل وتوافر إمكانيات تنظيم الحياة، فتحققت المزيد لفرص النساء خارج إطار دورها الأنثوي.

النسوية الراديكالية

أرادت نسوية القرن العشرين أن تكون أعمق وأشمل من الليبرالية والاشتراكية، فأرادت أن تكوت راديكالية أي جذرية، فاتفقت على مواجهة قضية قهر المرأة، وانقسمت إلى راديكالية تحررية نادت بالقضاء على الأسرة لعدم وجود مساواة فيها، ورأت أن إنجاب الأطفال باب من العبودية لها، كانت أبرزهن (شولاميت فايرستون) التي تطلعت إلى تحرير المرأة من الحمل والإنجاب بالتقنيات الحديثة مستعينة بالخيال العلمي، ورأت التحرريات المتطرفة استبدال المركزية الأنثوية بالمركزية الذكورية، ودافعن عن الجنسية المثلية.

والقسم الآخر من الراديكالية هو الراديكالية المثقفة ذات طابع أكاديمي رصين فرضت نفسها على برامج الدراسة في جامعات شتى، وهدفت إلى رؤية ثقافية حضارية، عبرت عن ذلك في الفنون والأدب والموسيقى وعلم النفس والاقتصاد النسوي، وظهرت الفلسفة النسوية عام 1970 كمنهاج لإعادة تأريخ الفلسفة برؤيات أنثوية متكاملة.

الفلسفة الأم للنسوية المعاصرة وظهور الفلسفة النسوية

إذا ذكرت الفلسفة النسوية فيجب أن نذكر الفيلسوفة الوجودية (سيمون دي بوفوار) وكتابها (الجنس الثاني) لعام 1948 الذي يمكن اعتباراه إنجيل الحركة النسوية بأسرها، لما ذكرته من قضايا المرأة، وفتحت فيه بابًا لميلاد مفهوم (الجنوسة-gender) ليشير إلى عدم الفوارق البيولوجية، فهي لم تستخدم مصطلح الجنوسة ولكنها دخلت في تحليلات تثبت أن البولوجيا ليست قدرًا محتومًا، لتصل بأنه لا يوجد فوارق نوعية حادة بين الجنسين، مع ضرورة النظر إلى الوقائع السيكولوجية، ودعت النساء ليناضلن من أجل حقوقهن ككيانات بشرية كاملة وليس كجنس ثان.

وظهر تيار (النسوية الفينومينولوجية) فتاولت منهاج فلسفي يعتمد إلى تحليل الخبرة الحية والعينية للنساء التي تميز بها، ووعيهن بجنسهن وجنوستهن، وظهرت أيضا الفلسفة الفرنسية المحدثة بنظريات (جاك لاكان) حول أصول الفروق بين الجنسين حتى جعلتها من أسس الوعي والهوية الأنثوية، ولعل بفضل الفيلسوفة (لوسي إيرجاري)، التي استفادت من لاكان وجعلت مفهوم الخيالية جوهر العقلانية، وأردت التحرر من هيمنة المنطق الذكوري. ومع الثمانينات وصلت النسوية إلى فروع الفلسفة الشاقة، وهي الميتافيزيقا والإبستمولوجيا والميثودولوجيا وفلسفة العلوم.

نشأة فلسفة العلم النسوية

نشأت فلسفة العلم النسوية على أساس تفسير ظاهرة العلم الغربي في سياق الجنوسة وتأثيرها على مفرداته ومشاريعه، كمعالجة نقدية جذرية. وبدأت تظهر الإسهامات النسوية في الدوريات والمجلات الفلسفية، فتشاركت الفيلسوفة الأمريكية (ساندرا هاردنج) مع (ميريل هينتيكا) بتجميع الإسهامات في مجلد بعنوان (اكتشاف الواقع: المنظورات النسوية للإبستمولوجيا والميتافيزيقا والميثودولوجيا وفلسفة العلم) وصدر عام 1983، ليعد العام عام الميلاد الرسمي لفلسفة العلم النسوية. وكانت أهداف النسوية:

-النساء قادرات على ممارسة العلم، عن طريق إعادة قراءة تاريخ العلم، والتنقيب عن دور المرأة فيه، مثل دور (روزاليندا فرانكلين) التي كان لها دور حاسم في اكتشاف التركيب المزدوج للشفرة الوراثية، ولم يُعترف بدروها فيه.

-إزاحة العقبات التي تعوق النساء عن الإسهام في العلم

-تصحيح المعلومات الخاطئة عن بيولوجيا المرأة

-نقد قيم العلم وأهدافه ومعاييره ومحركاته ومنهاجه وممارسته

وطبقًا لـ (ساندرا هاردنج) تشكلت فلسفة العلم من التقاء وتجادل ثلاث مقاربات نسوية، وهي التجربية النسوية والموقف النسوي وما بعد الحداثة.

فلسفة العلم تفتح الباب للنسوية

كانت فلسفة (توماس كون) بكل ما فيها من تفسير تاريخ العلم من مفهوم الثورة وأن العلم ليس نسقًا واحدًا، مقدمة ضرورية لفلسفة العلم النسوية، ومع انفتاح الأفق التاريخي، والحضاري والاجتماعي والإنساني الشامل أمام فلسفة العلم، وفتح الباب على مصراعيه أمام الفلسفة النسوية للعلم، للنظر إلى العلم كإحدى بنيات المجتمع البطريركي، وبالتالي نقد الذكورية السائدة فيه. وبدا العلم الحديث أكثر من أي بنية أخرى استحقاقًا للمعاجة النسوية.

الإبستمولوجيا النسوية

الإبستمولوجيا هي نظرية المعرفة، وأحد الفروع الثلاثة الأساسية للفلسفة (المعرفة، الوجود، القيمة)، وتبحث الإبستمولوجيا النسوية عن الأسئلة الأساسية، أي شروط المعرفة ومصادرها وتضيف إليها تأثير دور الجنوسة في عملية المعرفة. وكان أحد المعالم البارزة لميلاد الإبستمولوجيا النسوية الصريحة مقال نشرته (لورين كود)  في مجلة ما وراء الفلسفة لعام 1981 تطرح فيه سؤال: هل جنس العارف مهم من الناحية الإبستمولوجية؟ الإجابة التقليدية هي النفي طبعًا، لكن (كود) تقدمت بإجابة نسوية مختلفة تمامًا، أن العملية المعرفية من المنظور النسوي تؤدي إلى الحرية والمسئولية والفضائل المتصلة بالإخلاص والشجاعة، والأفكار النمطية عن المرأة تعوق هذه العملية الإيجابية، لأنها تصب المرأة في قالب ينكر عليها المسؤولية الفعالة، قد يكون بسبب أنهن يقدمن عقلًا يلعب فيه الشعور دورًا أكبر. إن الشعور مصدر من مصادر الفهم، وبالمثل نتيجة من نواتج الفهم، إنه يتوشج في العملية المعرفية من رأسها إلى أخمص قدميها. ومثال على ذلك (بربارة ماك كلينتوك) الحائزة على جائزة نوبل لأبحاثها في جينات نبات الذرة، مصورة أنها كانت تشعر أن الكروموسومات أصدقاء لها.

الميثودولوجيا النسوية

تتفق المثودولوجيا النسوية مع النظرة المحدثة للمنهج العلمي التي ترى أسبقية الفرض على الملاحظة، وبالتالي خلق الفرض العلمي بإبداع، وليس مجرد تعميم الوقائع المستقرأة من الواقع، ولكنها تتحدث عن طريق الانصات إلى الطبيعة كصديق يحكي لك عن نفسه ومع الانصات يغدو العلم حوارًا مع الطبيعة بدلًا من كونه محكمة تفتيش. وتكشف عن واقع المماراسات العلمية والتنظيمات الاجتماعية وتوزيع السلطة والجوائز والمنح في المجتمع العلمي وعلاقات الباحثين، على أساس أن كل هذا يسهم في تشكيل النظرية العلمية.

فلسفة العلم فلسفة للبيئة

نعود إلى العلم بقيمه الذكورية، التي أفصح عنها فرانسيس بيكون وتمثلت للنظر إلى الطبيعة كآخر يمكن استغلاله وغزوه والسيطرة عليه، فحين أن النسوية ارتبطت بالحركة الخضراء والاتجاهات العديدة للمحافظة على البيئة، وصيغ مصطلح النسوية والبيئة ليعبر عن العلاقة الحميمة بين الطرفين. وساهمت في صياغته عالمة الفيزياء الهندية (فاندانا شيفا) وأوضحت التماثلات بين اختزالية العلم الغربي وبين التطور الرأسمالي، من حيث أن كلا الطرفين يشتركان في الاستغلال، العلم يستغل الطبيعة ويحيلها إلى طرف والرأسمالية تستغل المرأة وتحيلها إلى طرف سلبي.

فلسفة العلم ضد الاستعمارية

سادت مركزية الحضارة الغربية بفضل المد الاستعماري، وقهرت ثالثوث الأطراف: المرأة والطبيعة وشعوب العالم الثالث، وجاءت فلسفة العلم النسوية ترفض التراتب الهرمي في العلم والحضارة نازعة تقويض مركزية العالم الذكوري، وتحريرًا للمرأة والبيئة. والتقت النسوية العربية في موجتها الثانية مع المجتمعات المتحررة من الاستعمار في آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية، والتقت في الخلاص من قهر الرجل الأبيض. وظهر في مجتمعنا العربي نساء مقاومات أمثال شفيقة محمد أول شهيدة في ثورة 1919 وجميلة أبوحريد وسناء المحيدلي وغيرهن...

وأخيرًا لقد قامت النسوية كي لا تظل المرأة آخر بالنسبة للرجل، وسارت قدمًا حتى وصلت إلى فلسفة العلم الشاملة.

تحميل الكتاب

انظر أيضًا

Exit mobile version