الحب من منظور علم النفس التطوري

هذه المقالة هي الجزء 6 من 10 في سلسلة 9 موضوعات في علم النفس التطوري

الحب من منظور علم النفس التطوري

كتب فيه الفلاسفة والأدباء ما لا يُحصى من الكتب. روي عنه ما لا يُحصى من الحكايات في الأفلام والروايات. ألهم الموسيقيين والرسامين والشعراء، وغُزلت حوله ملاحم الأساطير والمعجزات. إنه الحب، واحد من أهم المشاعر الإنسانية، وقد يكون أكثرها تعقيدًا. رغم أنه شغل حيزًا كبيرًا من الحياة الثقافية والفكرية والفنية للإنسان، إلا أن العلم بقي خجولًا وعاجزًا لفترة طويلة أمامه باعتبار أن دراسته وتفسيره بشكل موضوعي أمر شبه مستحيل. حتى أن تعريف الحب نفسه يعتبر مهمة شاقة، نظرًا لاختلاف تجاربنا البشرية فيه. لكن تطور علوم الأحياء والجينات وعلم النفس سمح للعلوم بفهم شعور الحب بشكل أعمق. وبدوره، بحث علم النفس التطوري عن جذور هذا الشعور وأسبابه التاريخية، إذن ما هو الحب من منظور علم النفس التطوري ؟ وكيف يفسّره؟

ما هو الحب؟

الحب بطبيعته مفهوم معقّد وواسع ويحمل عددًا من المعاني، فقد يُقصد به الحب الرومانسي الذي يجمع شخصين في ارتباط عاطفي، وقد يعني أيضًا حب الأم والأب لأطفالهم أو حب الأصدقاء أو المحبة بكل ما تعنيه. لكن ما يعنينا في هذا المقال تحديدًا هو الحب الرومانسي.

لم يجتمع الفلاسفة والأدباء حول تعريف موحّد للحب، ولا حول تفسير واضح له. في علم النفس، تعدّدت النظريات حول الحب لكن الأكثر شيوعًا هي نظرية مثلث الحب لعالم النفس الاجتماعي ستيرنبرج. وقد اعتبر أن الحب يتألف من ثلاثة عناصر أساسية هي الشهوة والحميمية والالتزام.

لكن كون الحب شعورًا بشريًا عامًا موجودًا في كل المجتمعات وعند مختلف الشعوب، يمكن اعتباره سمة بشرية ذات أساس فيزيولوجي. فنحن نشعر الحب بأجسادنا، بأعراض شبه مرضية، من دقات القلب السريعة إلى الأرق ورعشة الجسد وغيرها. ورغم أننا نشير في الحب غالبًا إلى القلب، إلا أن الحب ينبع من الدماغ، ويرتبط بشكل مباشر بـ«الناقلات العصبية – Neurotransmitters» كالدوبامين والأوكسيتوسين.

أما من ناحية علم النفس التطوري، فقد حاول الباحثون تفسير الحب كسمة تطورية ساهمت في تحسين النجاح الإنجابي و/أو فرص البقاء على قيد الحياة. وقد أثبتوا فعلًا عددًا من الوظائف التكيّفية للحب، بالإضافة إلى عدد من الدلائل التي تشير إلى جذور الحب التطورية.

الوظائف التكيّفية للحب

يعتمد علم النفس التطوري بشكل أساسي على نظرية الانتقاء الطبيعي. فتنتقل الجينات المساهمة في زيادة النجاح الإنجابي وفرص البقاء على قيد الحياة من جيل إلى الآخر. ويعتبر علم النفس التطوري أن الحب نفسه نتيجة للانتقاء الطبيعي، نظرًا للوظائف التكيفية التالية:

  • رعاية الأطفال: مع تطوّر البشر وزيادة حجم دماغهم، ازدادت حاجة الأطفال للرعاية لوقت طويل. ففي حين تولد الكثير من الحيوانات بأدمغة شبه مكتملة، يولد أطفال البشر بأدمغة غير كاملة. يحتاج أطفال البشر طفولة طويلة تمتد حتى 15 عامًا ليصبح الطفل ناضجًا وواعيًا ومستقلًا. من هنا، أصبحت رعاية الأطفال مهمة شاقة تستنزف الكثير من الوقت والطاقة. ساهم الحب في خلق علاقة التزام بين الوالدة والوالد، مما سهّل مهمة رعاية الأطفال. وزادت قدرتهما على تأمين الموارد المادية والنفسية لهم وبالتالي تزداد فرص بالبقاء على قيد الحياة ونقل الجينات.
  • زيادة احتمالية الحمل والإنجاب: تتميّز إناث حيوانات الشيمبانزي بخصائص جسدية ظاهرة خلال فترة «الشبق –Estrus» ، فيتم التزاوج حصرًا في هذه الفترة التي تمتاز بخصوبة عالية مما يرفع احتمالية الحمل.

أما عند إناث البشر، فتتكرر فترة الإباضة شهريا، وهي قصيرة نسبيًا ولا تُظهر خصائص جسدية واضحة. لذلك من المهم أن تكون العلاقة بين المرأة والرجل طويلة الأمد لزيادة احتمالية الحمل وبالتالي الإنجاب. بالإضافة إلى ذلك، فإن تعدد الأزواج لمرأة واحدة يزيد من احتمالية تسمّم الحمل، وبالتالي فعلاقة الزواج الأحادي تعزّز احتمالية الإنجاب.

  • أهمية رعاية الأب: بيّنت دراسة لبيئة السكان الأصليين في شرقي باراغواي أن الأطفال الذين ينعمون برعاية الأب خلال السنين الخمس الأولى من حياتهم تصبح لديهم فرصة مضاعفة للبقاء على قيد الحياة مقارنة بالأطفال الذين فقدوا آبائهم في أول حياتهم. وهذه الدراسة ما هي إلا دليل جديد على أن الحب الذي يضمن بقاء الوالد إلى جانب أطفاله، يعزز فرصتهم في البقاء على قيد الحياة.

كيف ساهم الحب في تنمية القدرات المعرفية والاجتماعية؟

ساهمت العلاقات الطويلة الأمد في بناء القبائل والمجموعات التي تعزز فرصها بالنجاة. لكن الحياة ضمن القبائل تطلبت بالمقابل قدرات اجتماعية عالية تسمح بالتعاون والتضامن وكشف الغشاشين وغيرها.

كما أن العلاقات العاطفية نفسها تشكل واحدة من أكثر العلاقات تعقيدًا، نسبة للتعلّق النفسي الكبير بين الفردين. وهي بالتالي تنتج مع الوقت مصاعب اجتماعية معقّدة. ونظرًا للدافع الذي شكله الحب، ساهم بشكل مباشر بصقل القدرات الفكرية والاجتماعية التي تميزنا كبشر عن باقي الكائنات، والتي شكلت الركيزة الأساسية لبناء المجتمعات المتقدمة والثقافات بشكلها الحالي.

“الحب قماشة تقدمها الطبيعة ويطرزها الخيال”.

فولتير

الحب ليس فقط شعور عظيم وتجربة إنسانية راقية، لكنه أيضًا الشعور الذي ساهم في المحافظة على حياة أسلافنا وانتشارهم في بقاع الأرض، وفي تنمية قدراتنا العقلية والاجتماعية لنصبح ما أصبحنا عليه اليوم.

المصادر

Researchgate
Science direct
Harvard Health Publishing

كيف عرف ستيرنبرج الحب؟ وما العوامل التي تضمن حدوثه؟

هذه المقالة هي الجزء 9 من 21 في سلسلة مقدمة في علم النفس

كيف عرف ستيرنبرج الحب؟ وما العوامل التي تضمن حدوثه؟

الحب، إنه الشعور الأروع على الإطلاق. التجربة التي نتوق لها جميعًا ونحاول فك شفرتها. ونتمنى لو نجد إجابات سهلة عنها. لكن ما هو الحب؟ وهل حقًا استطاع العلماء فك شفرته؟

كيف عرف ستيرنبرج الحب؟

علم النفس الاجتماعي هو الفرع الذي يهتم بدراسة مشاعر الحب والانجذاب، وقام علمائه بتجارب جمة للتوصل إلى تعريف للحب وتحديد عوامل نجاحه. تطرق عدد من العلماء إلى تعريف الحب، لكن الأشهر بينهم وضعه العالم روبرت ستيرنبرج في ثمانينات القرن الماضي وعُرف نظرية مثلث الحب.

وتُفسِر هذه النظرية الحب أنه شعور يتكون من ثلاثة عناصر أساسية: الحميمية، والشهوة، والالتزام. الحميمية هي شعور القرب والتواصل، أو بمعنى آخر مشاركة الأمور الشخصية التي لا تتشاركها مع أي شخص آخر. والشهوة هي الرغبة أو الانجذاب الجسدي. والالتزام هو وضع عنوان للعلاقة أنها علاقة حب ومن ثم اتخاذ قرار الالتزام -على المدى الطويل- بها. وهكذا رأى ستيرنبرج أن وجود هذه العناصر ثلاث يعني تكامل الحب وتمامه. لكن ماذا يحدث عند وجود عنصر واحد من العناصر الثلاث؟ أو اثنان؟ أو لا عناصر على الإطلاق؟

أنواع الحب

هذا هو الجزء الأكثر تشويقًا من نظرية ستيرنبرج، فيمكن القيام بعمليات تبادلية بين العناصر الثلاث للتوصل إلى الأنواع المختلفة من الحب في أغلب العلاقات البشرية. وسنتطرق أولًا إلى العلاقات ذات العنصر الواحد:

  • الصداقة: عند وجود الحميمية أو شعور القرب والتواصل فقط، وغياب الرغبة والالتزام، نحصل على علاقات الصداقة، أو الإعجاب، التي يمكن أن تتطور إلى علاقات حب لاحقًا.
  • الافتتان: عند وجود الرغبة فقط، وغياب الحميمية والالتزام نحصل على الافتتان. وهي علاقات تقوم على الانجذاب الجسدي فقط دون معرفة عميقة أو قرار بالالتزام. ويكون تأثيرها عادةً قوي للغاية، ومن المحتمل أن ينمو إلى علاقات حب لاحقًا.
  • الحب الخاوي: عند وجود الالتزام فقط، وغياب الحميمية والرغبة نحصل على علاقات الحب الخاوي. ويظهر هذا كمرحلة أخيرة في العلاقات التي تسوء بمرور الوقت فيقرر طرفاها الالتزام من أجل الأطفال أو المظهر العام أو أسباب مادية. أو كمرحلة أولى في علاقات الزواج التقليدي التي تتم بدون معرفة مسبقة.

وثانيًا، العلاقات ذات العنصرين:

  • الحب الرومانسي: عند وجود الحميمية والرغبة وغياب قرار الالتزام نحصل على الحب الرومانسي. وهي علاقات تقوم على القرب والتواصل الجسدي دون أي قرار بالالتزام على المدى الطويل.
  • العشرة/الصداقة المقربة: عند وجود الحميمية والالتزام وغياب الرغبة نحصل على علاقات مثل الصداقة المقربة أو الزواج بدون جنس. أي علاقات تقوم على القرب وقرار الالتزام دون أي اتصال جسدي.
  • الحب الوهمي: عند وجود الشهوة والالتزام وغياب الحميمية نحصل على علاقات الحب الوهمي أو الحب الأبله. ونجد هذا في علاقات الزواج المتسرع قصير المدى.
  • أما عند غياب العناصر الثلاث نحصل على علاقات اللاحب، وهي العلاقات التي تربطك بالغريب الذي يمر بجانبك في الشارع. فلا توجد حميمية ولا شهوة ولا قرار بالالتزام.
  • وأخيرًا، الحب المتكامل وهو الحب الذي يتضمن العناصر الثلاث بدرجات متفاوتة خلال مراحل مختلفة من العلاقة. وهو الشكل الأمثل للحب في نظر ستيرنبرج.

كيف يحدث الحب؟

بحث علماء النفس الاجتماعي في الحب، وحاولوا فك شفرته، لكن جميع التجارب والنتائج التي وصلت إلينا تخص الانجذاب وليس الحب. باعتباره الخطوة الأولى التي يمكن أن تتطور لاحقًا إلى علاقات حب. وبهذا توصل علماء النفس إلى سبع عوامل/متغيرات لحدوث الانجذاب، منها ثلاثة عوامل رئيسية واضحة التأثير، وأربعة عوامل أخرى قوية أيضًا لكنها أقل وضوحًا وربما يغفل عنها الكثير.

أولًا، العوامل الثلاث الرئيسية:

  • «التقارب-Proximity»

هل حلمت يومًا بالغريب المثالي الذي ستلتقيه صدفة في ليلة ماطرة، تتبادلان حديثًا رائعًا ثم تقعان في الحب؟ باختلاف بعض التفاصيل -من المحتمل أنه صباح صيفي لا ليلة ماطرة- يمكننا القول أن أغلبنا اختبر هذا الأمر، الذي يمكن أن نصفه بالخرافة الثقافية. فيرى علماء النفس أنه من المرجح أنك ستنجذب لشخص مجاور لك، شخص يقع في حيز مكاني قريب عوضًا عن الغريب الرائع، وهذا هو مبدأ التقارب.

  • «التشابه-Similarity»

هل سمعت عن القاعدة الفيزيائية أن الأقطاب المتشابهة تتنافر والمختلفة تتجاذب؟ ربما سمعت بها قبلًا ورأيت من حاولوا تطبيقها على علاقاتهم. لكن علماء النفس الاجتماعي أثبتوا فشلها، ووجدوا أنه كلما زاد التشابه بين شخصين كلما زادت احتمالية انجذابهما لبعضهما. وذلك لعدد من الأسباب أهمها: أنه شعور رائع! تواجدك مع شخص يشبهك في نفس المكان يسهل التواصل بينكما، ويعطي نوع من التوكيد لكل منكما عندما تتبنيان نفس الرأي. فتزيد الثقة فيما تقولان وتتحمسان لقول المزيد.

  • «الألفة-Familiarity»

عرض العلماء مجموعة من الكلمات بلغة غريبة على عدد من الأشخاص لثوان معدودة، ثم عرضوا مجموعة أكبر من الكلمات الغريبة من بينها الكلمات التي رآها المشاركون سابقًا، ثم سألوهم: مع العلم أنكم لا تعرفون معنى أى من هذه الكلمات لكن أيها تفضلون؟ وجاءت إجابات المشاركين أنهم يفضلون الكلمات القديمة التي رأوها في المرة الأولى، حتى وإن لم يتذكروا رؤيتها من قبل!

وهذا هو تأثير الألفة، الذي يمكن تطبيقه على البشر بكل تأكيد. فيجد علماء النفس أننا نميل وننجذب للأشخاص اللذين نألفهم ونشاركهم نفس البيئة.

العوامل الأقل وضوحًا

الأربعة عناصر الأقل وضوحًا وهم:

  • «تأثير السقوط-Pratfall Effect»

من المعروف أننا ننجذب للأشخاص المهرة الأكفاء، الذين يدرون دورهم في الحياة. وهذا أمر طبيعي تمامًا لكنه غير مشوق، فمتى تحدث الإثارة؟

تحدث الإثارة حينما يرتكب الشخص الماهر خطأ أحمق، فيتضاعف إعجابنا به! وهذا ما يُعرف بتأثير السقوط. يشعرنا وقوع الشخص الماهر في الخطأ بشعورًا جيدًا حيال أنفسنا، نراه فجأة أكثر إنسانية وتواضعًا وقربًا، ونشعر أنه يشبهنا في نهاية المطاف، فننجذب له أكثر.

أشهر التجارب التي تفسر تأثير السقوط قام بها العالم إليوت أرنسون وجاءت النتائج مذهلة. أُجريت التجربة على طلاب جامعيين، طُلب منهم الاستماع إلى تسجيل صوتي للمتقدمين إلى تمثيل الجامعة في مسابقة تليفزيونية. التسجيل الأول لطالب مثالي، يحصل على علامات ممتازة ويشترك في كثير من الأنشطة. والتسجيل الآخر لطالب متوسط، علاماته جيدة، وأقل انخراطًا في أنشطة الجامعة. ثم سُأل المشاركون عن الطالب الذي يفضلونه؟

فذهب أغلبهم بالطبع إلى اختيار الطالب المثالي. لكن الأمر لم يتوقف هنا، استمر التسجيل الصوتي وسمع الطلاب قرقعة وضوضاء وبعدها شخص يقول: “اللعنة، لقد سكبت القهوة على بذلتي الجديدة”، سُأل المشاركون مجددًا عن الطالب الذي يفضلونه، فارتفع تقديرهم للطالب المثالي الذي سكب القهوة كثيرًا. ولسوء الحظ، انخفض تقديرهم للطالب المتوسط الذي سكب القهوة أكثر. وبهذا وجد ارنسون أن تأثير السقوط يعمل في كلا الاتجاهين، فيرفع من جاذبية الشخص الماهر، ويقلل من جاذبية الشخص المتوسط.

الجاذبية الجسدية

المظهر هو أحد الأمور المزعجة التي يرفض أغلبنا الاعتراف بأهميتها، فنقول لأنفسنا أنه ليس عادلًا أن الانجذاب الجسدي له أهمية في الحياة، خصوصًا إذا وجدنا أنفسنا خارج تصنيف الجاذبية الجسدية. وإذا سألت مجموعة من طلبة الجامعة عن الصفات التي يبحثون عنها في علاقاتهم، سيقولون لك صفات مثل التفاهم والذكاء وحس الفكاهة والتعاون، أما المظهر فليس هامًا للغاية. أما الحقيقة أنه إذا قابلت شخصًا للمرة الأولى، ولم يعجبك مظهره فمن المرجح أنك لن تراه ثانيةً.

أحد الدراسات التي بحثت أهمية الجاذبية الجسدية تُدعى «تجربة الشعر المستعار المجعد-The frizzy wig experiment». استعان القائمون على هذه التجربة بممثلة يراها أغلب الناس جذابة، وغيروا مظهرها لتصبح أقل جاذبية باستخدام شعر مستعار مجعد. كانت الممثلة تقابل مجموعة من الشباب وتطرح عليهم عددًا من الأسئلة ثم تعطيهم تقييمًا. وعندما كانت الممثلة أقل جاذبية لم يهتم المشاركون بتقييمها سواء كان إيجابيًا أم سلبيًا. أما عندما ظهرت الممثلة بهيئتها الجذابة، فرحوا بتقييمهم الإيجابي كثيرًا، واستاء هؤلاء الذين حظوا بتقييم سلبي، بل وطالبوا بإعادة المقابلة!

وهكذا توضح لنا هذه التجربة أننا نتأثر برأي الأشخاص الجذابين، ونعطيه أهمية كبيرة على عكس الأشخاص الأقل جاذبية. وهذا أمر غير عادل وغير منطقي لكنه عمليًا موجود. وتوضح أيضًا التناقض الكلاسيكي بين ما نعتقد أنه تافه وغير هام، وما يُثبت عمليًا أنه أكثر أهمية. لكن لحسن الحظ تثبت هذه الدراسات أيضًا أن الجاذبية الجسدية مهمة في تحديد نجاح المقابلات الأولى فقط، أما نجاح العلاقات على المدى الطويل فيحدده عوامل أقل سطحية من المظهر بالطبع.

«تأثير المكسب والخسارة-Gain loss effect»

هناك صفة تطورية اكتسبها البشر على مر الزمان، وهي حساسيتهم وانتباههم للتغيير. وهذا أمر طبيعي لأن الاستقرار يعني الأمان، أما التغيير فهو مؤشر للخطر أو فرصة جديدة، وقد يساعد التنبه لهذا التغيير على الاستمرار والبقاء. لكن كيف يحدث هذا في حالات الحب والانجذاب؟
هناك شخصان، أحدهما يحبك ويظهر مشاعره لك بصورة مستمرة، والآخر ينمو انجذابه لك مع الوقت. أيهما سيجذب انتباهك أكثر؟
الإجابة هي الشخص الثاني، الذي ينمو تقديره لك مع الوقت، حتى وإن كان متوسط مشاعره أقل من الشخص الأول. وهذا هو تأثير المكسب. التغير المفاجيء والنمو التدريجي للمشاعر يجذب الانتباه أكثر من المشاعر الثابتة.
ويمكن تطبيق ذلك أيضًا على المشاعر السلبية، فلا يقع عليك الأذى بسبب شخص يكرهك ويُظهر لك هذا دائمًا. وإنما يأتي الألم من تقدير الأشخاص المرتفع الذي يتلاشى بمرور الوقت. وهذا هو تأثير الخسارة، أو تحول المشاعر من إيجابية إلى سلبية بمرور الوقت.

«الإسناد الخاطيء لأسباب الإثارة-Misattribution of arousal»

يحدث هذا الأمر عندما تشعر بالإثارة الجنسية لكنك لا تعلم السبب، فتفسره تفسيرًا خاطئًا وتعتقد أنه حب أو انجذاب.
ولفهم هذا العامل ودوره في حدوث الانجذاب قام العلماء بعدد من التجارب، أشهرها «تجربة الجسر المتهالك-Rickety bridge experiment»، أُجريت هذه التجربة على جسر عالٍ ومتهالك يقع في مدينة فانكوفر بكندا، وعلى جسر آخر أكثر استقرارًا وثباتًا يؤدي إلى نفس الوجهة. استعان العلماء بممثلة جذابة، كانت تستوقف الذكور الذين يعبرون كلا الجسرين وتطلب منهم مساعدتها في استبيان ما ثم تعطيهم رقمها وتخبرهم أن يتواصلوا معها إذا أرادوا معرفة النتيجة.

وجد القائمون على التجربة أن هؤلاء الذين عبروا الجسر المتهالك اهتموا بالممثلة وتواصلوا معها بالفعل، على عكس هؤلاء الذين عبروا الجسر الآمن. وفسر العلماء ذلك أن عبور الجسر المرتفع المتهالك مرتبط بزيادة ضربات القلب وسرعة التنفس والتعرق. لذلك أسقط المشاركون هذه الإثارة على الممثلة الجذابة واعتقدوا أنهم منجذبون لها.

قام العلماء بتجربة أخرى طلبوا من المشاركين فيها وضع سماعات رأس تضخم صوت ضربات القلب بينما يتصفحون أحد المجلات الإباحية، ثم اختيار صورتهم المفضلة. جاءت النتائج أن أغلب المشاركين اختاروا الصورة التي زادت ضربات قلبهم عند رؤيتها. لكن الحيلة هنا، أنهم لم يستمعوا إلى نبص قلبهم الحقيقي وإنما إلى تسجيل صوتي لضربات القلب يقوم المسئول بتسريعه عشوائيا عند أي صورة. وبهذا يقع هؤلاء الأشخاص في فخ الإسناد الخاطيء للإثارة، فيعتقدون أن ضربات قلبهم المتسارعة دليل على الانجذاب والحب.

وهنا يجب القول أن هذا المفهوم تحديدًا له آثار أكثر خطورة في الواقع، منها: ضحايا العلاقات المسيئة والعنف المنزلي. ما يحدث أن هؤلاء الأشخاص لا يدركون أنهم في علاقات مسيئة، حيث يسبب لهم الصراخ والشجار والغصب إثارة من نوع ما، تُترجم خطئًا أنها حب. فيرددون عبارات مثل: لم يكن ليصرخ بي لو لم يكن يحبني. وبالطبع هذا خاطيء وغير حقيقي تمامًا.

خاتمة

تعرفنا على نظرية مثلث الحب لستيرنبرج، والعناصر الثلاثة الضرورية التي وضعها لتكامل الحب وتمامه، وهي الحميمية والشهوة والالتزام. بالإضافة إلى أنواع الحب المختلفة التي تنشأ عند وجود عنصر واحد فقط أو اثنين أو لا شيء على الإطلاق. كما تعرفنا على سبع عوامل تؤثر في حدوث الانجذاب الذي يمكن أن يتطور إلى حب. منها ثلاث ذات تأثير واضح وهي التقارب والتشابه والألفة. وأربع أقل وضوحًا وهي تأثير السقوط والانجذاب الجسدي وتأثير المكسب والخسارة واالإسناد الخاطيء للإثارة. لذا ربما حين تجتمع بأصدقائك المرة القادمة، ناقشوا علاقاتكم في ضوء عناصر الحب الثلاث لستيرنبرج، وربما تصدمك النتائج!

اقرأ أيضًا: متلازمة ستوكهولم: تعاطف الضحية مع جلادها

المصادر

Exit mobile version