مفهوم الاستهلاكية وعلاقتها بالاقتصاد

مفهوم الاستهلاكية وعلاقتها بالاقتصاد

لا يمكن للمرء أن يعيش دون استهلاك المواد الأساسية للحياة كالغذاء والمأوى والملابس، ومن هنا تأتي أهمية العمل لكسب المال. كما أن حاجة الأفراد للخدمات والسلع الاستهلاكية هي ما تبقي عجلة الاقتصاد في دورانها. وتمثل الاستهلاكية (Consumerism) مفهوماً أساسياً في هذه العلاقة الاقتصادية بين الأفراد المستهلكين والسلع أو البضائع التي يقومون باستهلاكها.

مفهوم الاستهلاكية في التاريخ

لا يعد مفهوم الاستهلاكية جديداً، إذ يعود إلى أيام الثورة الصناعية في أوروبا في القرن الثامن عشر. إذ لعب تطور الصناعة دوراً أساسياً في انتشار الاستهلاكية. قبل هذه الثورة، كان الإنتاج ضيق النطاق، ومقتصراً على بعض العائلات التي تعمل في منازلها. وعليه، انعكست ندرة المنتوجات وغلاء أسعارها سلباً على الاستهلاك، وجعلته مقتصراً على الطبقة التي تستطيع أن تنفق. أما بعد الثورة الصناعية، أدى الاعتماد على السياسات الاقتصادية الرأسمالية إلى نشوء العديد من المصانع. وهذه المصانع بدورها كانت قادرة على إنتاج كميات ضخمة من المنتوجات على مستوى كبير. وعليه، بات الاستهلاك أمراً واقعاً. بل أصبح هنالك المزيد من السلع الجديدة التي لم تكن تستهلك من قبل، وكان لا بدّ من ترويجها لزيادة استهلاكها وتصريفها. وبهذا، كان التغيير في نمط الإنتاج نقلة نوعية بالنسبة للاستهلاك عمّا سبق الثورة الصناعية [1].

الاستهلاكية والأفراد والاقتصاد

ولكن هل الاستهلاكية أمر إيجابي أم سلبي؟ في الواقع، يمكن النظر إليها بأكثر من طريقة، وبالتالي إسنادها سمات سلبية أو إيجابية وفق ذلك.

من جهة، تعتبر الاستهلاكية مفهوماً اقتصادياً يعزز فكرة أن زيادة استهلاك البضائع والخدمات هو أمر مرحبٌ به ومحفزٌ لنمو الاقتصاد. إذ إن تشجيع المستهلكين على الإنفاق هو من الأهداف الأساسية للسياسات الاقتصادية. ومن هذا المنظور، تُعتبر الاستهلاكية عاملاً إيجابياً يساهم في النمو الاقتصادي [2].

ولكن من جهةٍ أخرى، ومع الوقت، أصبحت الاستهلاكية دلالةً على ربط سعادة الأفراد ورفاههم بالمادية واقتناء المزيد من البضائع والسلع. وهذا ما يعطيها طابعاً سلبياً، ويجعل من الأفراد ضحايا لاستهلاك ما ليس لهم حاجة إليه بالضرورة. حيث أدخل عصر ما بعد الحداثة أنماط إنتاجٍ واستهلاكٍ جديدةً، تقوم على تعزيز الرغبة بتجميع المقتنيات، حتى غير الضرورية منها. وتتطور هذا الرغبة إلى حاجةٍ ملحةٍ للامتلاك والاستهلاك بشكل عشوائي. وتكون النتيجة استنزاف الموارد الطبيعية واختلال التوازن البيئي. إذ يتطلب ارتفاع مستوى الاستهلاك ارتفاعاً موازياً في مستوى الإنتاج. ويؤدي تسارع الإنتاج بدوره إلى زيادة المخلفات والآثار السلبية على البيئة [3].

إضافة لذلك، أصبح مصطلح الاستهلاكية يستخدم للدلالة على حركةٍ تهدف لحماية المستهلكين. حيث يسعى أنصار هذه الحركة إلى التأكيد على أهمية إعلام المستهلكين بما يشترون، وبممارسات التغليف والإعلان عن البضائع التي تقدم لهم. كما يتم التأكيد على ضمانات المنتج وتحسين معايير السلامة. وبهذا المعنى، تكون الاستهلاكية عبارة عن مجموعة سياسات تسعى لتنظيم المنتجات والخدمات وطرق التصنيع ومعاييره. بالإضافة إلى ضبط عمل الباعة ومسؤولي الإعلانات، وكل هذا في خدمة المشترين ولصالحهم [3].

أهمية الاستهلاكية في نمو الاقتصاد

إذاً، فالاستهلاكية هي أمرٌ مهمٌ لحياة الأفراد، وإن كانت في بعض الأحيان تنطوي على مبالغة غير ضرورية. كما أنها عاملٌ فعالٌ في الاقتصاد ونموه. وتكمن فعاليتها بكونها مؤشراً على رفاه الشعب وجاهزيته للإنفاق. وهذا ما يضمن دوران النقود في الاقتصاد. وبالمقابل، يعتبر انخفاض مستوى الاستهلاكية مؤشراً على مشاكل دفينة كارتفاع معدل البطالة بين الأفراد، أو ارتفاع سعر الفائدة. وبهذا، تساعد على الإشارة إلى الخلل في النظام الاقتصادي، إن وجد، وتحسينه بطريقة معينة تقود الأفراد إلى المزيد من الاستهلاك [2].

التقليلية في الاقتصاد في مواجهة الاستهلاكية المفرطة

تتغذى الرأسمالية على استهلاك الأفراد. فنظام الاقتصاد الرأسمالي يشجع دائماً على المزيد من الاستهلاك كي يصبح أقوى وأكثر استدامة. ومن هنا كانت التقليلية (Minimalism) هي النمط المقابل أو المضاد، والذي يهدف إلى تقليص الاستهلاك إلى أدنى حد ممكن. ولكن هذا لا يعني التخلي عن الممتلكات أو تجنب الاستهلاك لمجرد فكرة التخلي. ولكن يركز هذا الفكر على مواقف الأفراد من مفهوم الاستهلاك والامتلاك، ورغبتهم باقتناء المزيد أو عدم ذلك.

وتركز التقليلية على إيلاء الاهتمام لما يستحق ذلك فعلاً. فالعلاقات مع العائلة والأصدقاء وإمضاء الوقت برفقتهم هي أهم من الممتلكات والمشتريات التي نسعى للحصول عليها. هذا لا يعني التخلص من كل ما نملك أو الإحجام عن الشراء. بل ببساطة، يُطلب منا كأفرادٍ أن يكون سلوكنا الاستهلاكي واعياً ومدركاً لما هو مهم، وأن نولي المزيد من الاعتبار لأمور كنا قد أغفلناها، وهي أمور لا تتطلب الاستهلاك أو الإنفاق. أي أننا بحاجة إلى إعادة ترتيب للأولويات، مع القليل من التفكير فيما نستهلكه وفي أهميته أو حاجته المرجوة [4].

هل يجب ألا نستهلك؟

في الواقع، إن عدم الاستهلاك هو أمر مستحيل، بل لا منطقي. فنحن نحتاج إلى الطعام والدواء واللباس والمواد المتنوعة التي تشكل جزءاً أساسياً من حياتنا اليومية. لهذا لا يمكن النظر للاستهلاكية على أنها ذات تأثيرٍ سلبي بالمطلق في حياتنا. ولكن كما تدعو التقليلية، من الضروري التفكير فيما نسعى لاستهلاكه. ومن المهم أيضاً أن نكون نحن المسيطرين على السلع، لا أن نصبح سلعة في يد الاستهلاكية ومنتجاتها.

اقرأ أيضاً: مفارقة إيكاروس، كيف يقتلك ما كان السبب في نجاحك؟

المصادر

  1. History of Consumerism
  2. Consumerism
  3. What is Consumerism
  4. Minimalism, Consumerism, and Creativity

نموذج العوالم الثلاثة، ما سر اختفاء العالم الثاني؟

نموذج العوالم الثلاثة، ما سر اختفاء العالم الثاني؟


العالم الثالث مصطلح شائع التداول للإشارة للبلدان النامية، أو البلدان الأقل تطور. بالرغم من أن هذه المفاهيم تندرج تحتها فئة كبيرة من البلدان معظمها غير متجانسة لا من ناحية الثقافة ولا الاقتصاد.

تُعد هذه البلدان متخلفة بالقياس ببلدان العالم الأول. أو البلدان التي تتضمن الدول المتطورة ثقافيًا واقتصاديًا وتكنولوجيًا. وتتمثل في بلدان الغرب عمومًا، ولكن بالإضافة إلى إشكالات حصر عدد هائل من الدول تحت تصنيف واحد، نلاحظ غياب مفهوم “العالم الثاني”، فما سر اختفائه؟

نموذج العوالم الثلاثة:

أول من أشار لمفهوم العالم الثالث هو المؤرخ والديمغرافي الفرنسي “ألفريد سوفيه” في مقالٍ نشره عام 1952، وهي الحقبة التي تلت الحرب العالمية الثانية وظهرت فيها الحرب الباردة وهي حرب جيوسياسية نشبت عقب الحرب العالمية الثانية بين القطبين الأقوى وهما الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي، أو ما يعرف بالمعسكر الغربي “الرأسمالي”، والمعسكر الشرقي “الاشتراكي“.

وضح سوفيه أن دول العالم يمكن تقسيمها إلى ثلاث مجموعات كل منها يتميز بخصائص معينة، وهذه المجموعات هي:

– العالم الأول:

وهي الدول الرأسمالية، أو ما يشار إليه بالمعسكر الغربي، وتشمل الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها، وتتضمن دول أميركا الشمالية وأوروبا الغربية واليابان واستراليا. وتتميز هذه الدول باقتصاد رأسمالي.

 – العالم الثاني:

وتضمن هذا العالم الدول الاشتراكية متمثلة بالاتحاد السوفيتي وحلفائه. وتميزت باقتصاد مسبق التخطيط، وهي القوة الثانية الجبارة في الاقتصاد العالمي في مواجهة دول العالم الأول.

– العالم الثالث:

أشار سوفيه إلى الدول التي لم تنطبق عليها صفات دول العالم الأول أو الثاني اسم دول العالم الثالث. وجمع بذلك جميع الدول التي لم تتحالف مع المعسكر الشرقي أو الغربي وبقيت على الحياد. ووصف حالة هذه الدول بأنها شبيهة بحالة عامة الشعب قبيل الثورة الفرنسية.

بين النموذج والنظرية:

طور ماو زيدونغ نظرية “العوالم الثلاثة” بشكل مخالف لنموذج سوفيه في سبعينيات القرن العشرين. فتصنيفه لم يقسم العالم لدول تتبع المعسكر الغربي أو الشرقي فقط وإنما نظريته اقتصادية-سياسية.

العالم الأول في نظرية العوالم الثلاثة:

تضمنت الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد السوفيتي، كونها حسب مفهومه الدول الأكثر ثراءً والدول التي تملك السلاح النووي، وهي الدول الإمبريالية، والإمبريالية-الاشتراكية.

العالم الثاني:

ويشمل اليابان، وكندا، وأستراليا، وأوروبا، وهي بلدان لا تملك أسلحة نووية، لكنها تبقى أثرى من دول العالم الثالث، أي هي في الوسط بين الدول الأقوى والأضعف.

العالم الثالث ” الماويّ”:

يتضمن بلدان قارة أفريقيا، وأميركا اللاتينية، ومعظم قارة آسيا، وهي بلدان فقيرة مُستعمرة من قبل البلدان الأكثر قوةً وثراءًا.

انهيار الاتحاد السوفيتي واندثار مفهوم “العالم الثاني”

مع انهيار منظومة الاتحاد السوفيتي عام 1991 وانتهاء الحرب الباردة، أخذ مفهوم العالم الثاني بالتلاشي. بالرغم من أن مفهوم العالم الثاني يشير أحيانًا إلى بلدان مستقرة اقتصاديًا مقارنًة ببلدان العالم الثالث شديدة الفقر، وهنا نرى خلطًا في المفاهيم بين نظرية ماو زيدونغ ونموذج سوفيه. وفي الواقع ما زالت مصطلحات العالم الأول والثالث مستخدمة وشائعة جدًا بالرغم من اختفاء العالم الثاني.

ما وراء العالم الثالث:

لم ينتهِ العد عند العالم الثالث، إذ نشأت دول أكثر تخلفًا وشكلت هذه الدول العالم الرابع والخامس. وتشمل هاتين المجموعتين حسب الأمم المتحدة، البلدان الأقل تطورً والأشد فقرًا. وتتضمن المجتمعات البدائية أو القبائل التي تعيش بمعزل عن الحضر. بالإضافة إلى البلدان الأشد فقرًا والتي تتميز بنمو سكاني مرتفع وانخفاض في معدل الدخل القومي وارتفاع شديد في عدد الوفيات.

لنا أن نتساءل الآن، أين عالمنا العربي من هذه التصنيفات؟ في الوقع لا يوجد تصنيف واحد يوضح مجموعة غير متجانسة من البلدان، فكل بلد معين يتميز بخصائص جغرافية وسكانية واقتصادية واجتماعية وثقافية. وبالرغم من تشابه بلدين في جانب أو آخر إلا أنهما لا يتطابقان تمامًا. ونموذج العوالم أو حتى النظرية الماويّة تعجزان عن توضيح الفروقات بين بلدان العالم عن طريق حجزها في نطاقٍ ضيقٍ من الصفات والخصائص.

المصادر:

mometrix
tandfonline
investopedia
maoistwikia
investopedia
nationsonline
fifthworld

Exit mobile version