قضية موت الفلسفة ومساءلة العلم

قضية موت الفلسفة ومساءلة العلم

لم تعد الفلسفة تشكل رؤية معرفية وحسب في سعينا للوصول إلى الحقائق واليقينيات. فهي صارت رؤيا جمالية في سياق تعاملنا مع ذواتنا ومع أشياء العالم. فهي لا تمثل تراكم معرفي بقدر ما تكون تراثًا روحيًا نحمله معنا كمصدر من مصادر أنفسنا العميقة؛ لذا، فعلاقتنا مع الفلسفة تحمل مفارقة عجيبة، فرغم أن الفلسفة غالبًا ما تشير إلى ما هو عصي على القراءة، سرديات فيها الكثير من الالتباس، مقولات تحيل واقعنا الحسي إلى أفق مجرد ومثالي ولغة بالكاد تفهم، إلا أننا نشعر بأن الفلسفة هي من تصون ذواتنا وعلاقاتنا.
الحديث عن موت الفلسفة لا يشبه الحديث عن الميتات التي جاءت بها الحداثة وما بعد الحداثة كموت الإله أو موت المؤلف أو موت الناقد. ففي هذا المقال سنسلط الضوء على مبررات هوكنغ وتايسون وكراوس وغيرهم من العلماء الذين ادعوا بأن الفلسفة ميتة وغير نافعة في عالمنا الذي يتقدم فيه العلم، كما سنبين الرؤى المدافعة عن الفلسفة والقضايا التي يمكن للفلسفة وحدها طرحها ومناقشتها.

حول ماهية الفلسفة والعلم وحدودهما:

بعض الفلسفات نفت وجود عقل مجرد وبعضها ركزت على الحدس وأخرى وثقت بإمكانية الحواس في الوصول إلى الحقيقة وأخرى لجأت إلى التجربة في مساعيها المعرفية. رغم ذلك، الفلسفة هي شيء والعلم شيء آخر، لكل منهما أدواته وطرقه ومنهجيته. يمكن تعريف الفلسفة على أنها استخدام العقل المجرد لفهم الأشياء مثل طبيعة العالم والوجود (1). في حين أن العلم هو الدراسة الدقيقة لبنية وسلوك العالم المادي من خلال الملاحظة والقياس والتجربة وتطوير النظريات لوصف نتائج هذه الأنشطة(2) . لكن هذا التحديد المفاهيمي يتلاشى في الكثير من النقاط التي تتداخل فيها الفلسفة مع العلم أو العكس. من السهل أن نقول بأن إسهامات فيثاغورس وديكارت وباسكال في علم الرياضيات كانت علمية بحتة. لكن كيف يمكن تحديد هوية الانشغال الفلسفي – الإغريقي على سبيل الذكر- في قضايا علمية، مثل طبيعة العالم، أصل الحياة، بنية المادة، المسائل الاجتماعية والنفسانية؟ هناك من الفلاسفة (أنكسيماندر مثلا) من قالوا بأن الكائنات انحدرت من أصل واحد، ومنهم من قال أن الموجودات تتكون من ذرات مثل ديمقريطس، وهناك من ذهب ليقول بأن النجوم هي عبارة عن شموس تدور حولها كواكب كالارض وعليها حضارات. ومن جانب آخر، هل يمكن أن نسلم بسهولة بأن كل ما يكتبه العلماء هو بالضرورة علم؟ ثمة علماء ناقشوا مسائل أخلاقية، اجتماعية، ثقافية وسياسية دون الاعتماد على التجربة والقياس. يرى لورانس كراوس بأن انشغال الفلاسفة في القضايا الفيزيائية هو علم ولا قيمة أو تأثير للفلسفة في التطور العلمي الحالي(3). بينما الفيزيائي الشهير فيكتور ستينجر قبل فترة وجيزة من وفاته، قال بأنه عندما يتحدث علماء الفيزياء حول الكون فأنهم يشاركون في تقليد فلسفي عظيم يعود لآلاف السنين؛ فلا مفر من أن الفيزيائيين هم أيضا فلاسفة (4). والفيلسوف كارل ياسبرس يؤكد على استقلالية كل من الفلسفة والعلم، غير أنه لا يرى في تلك الاستقلالية نوع من الانفراد والانفصال التام، فثمة علاقة جوهرية بين العلم والفلسفة، إذ يقول بأن طريق العلم لا غنى عنه للفلسفة، لأن وحدها المعرفة بهذا الطريق تمنع الفلسفة من تقديم ادعاءات غير سليمة وذاتية لفهم الواقع وفي الجانب الآخر فإن الوضوح الفلسفي لا غنى عنه لحياة ونقاء العلم الحقيقي ولا يستطيع العلم أن يفهم نفسه من دون الفلسفة(5).

العلم وموت الفلسفة:

يقول ستيفن هوكنغ في مقدمة كتاب التصميم العظيم بالنص: الفلسفة ماتت ولم تحافظ على صمودها أمام تطورات العلم الحديثة، وخصوصًا في مجال الفيزياء. وأضحى العلماء هم من يحملون مصابيح الاكتشاف في رحلة التنقيب وراء المعرفة (6). ما قاله هوكنغ فتح جبهة ربما كانت متوقعة بين العلم والفلسفة. وصف الفيلسوف جوليان باجيني هذه المزاعم بأنها طموحات العلم الامبريالية، فثمة هناك قضايا تمس الوجود الإنساني لا شأن للعلم بها(4). في حين يأتي لورانس كراوس ليعلق على هذا التوتر بين الفلسفة والعلم ويقول بأنه من الطبيعي أن يشعر المهتمين بالشأن الفلسفي بالتهديد ولهم كل الحق في أن يشعروا بالتهديد طالما العلم وحده يتقدم، ويؤكد بأنه في النهاية المصدر الوحيد للحقائق هو الاكتشاف العلمي(4). سارا كل من نيل ديغراس تايسون والحاصل على جائزة نوبل ستيفن وينبرغ على خطى هوكنغ وكراوس، فيقول الأول بان العلم يمضي قدمًا وتبقى الفلسفة غارقة وعديمة الفائدة، فهي ميتة بالفعل، ويزعم الثاني بأن الفلسفة غير فعالة بشكل غير معقول(4).

ما يمكن للفلسفة وحدها أن تقوله:

انزل سقراط الفلسفة من السماء إلى الأرض – على حد تعبير شيشرون- بعد أن وضع الذات الإنسانية في مرمى السؤال الفلسفي. بمجرد أن قال سقراط “اعرف نفسك” صارت هذه النفس أو الذات مسألة لا تقل غموضا عن أصل العالم، المسألة التي فجرتها الفلسفة الطبيعية. ربما، الأسئلة البدائية وجدت لنفسها من يطرحها في عالمنا اليوم، لكن هل إعادة التفلسف إلى السماء عبر التلسكوب، تشكل تهديدًا على السؤال السقراطي القديم؟ إذا ما توقفنا قليلًا عند حجة هوكنغ، نلاحظ بأنه لا ينظر إلى الفلسفة أكثر من مجرد أسئلة طرحها بعض الفلاسفة قبل أكثر من ألفي عام حول طبيعة العالم المادي وأصله، وبالتالي فالفيزياء لا تحتاج إلى صحبة الفلسفة في إيجاد الأجوبة. لكن ثمة سؤال يلوح في الأفق، حتى ودون أن يعلن هوكنغ موت الفلسفة. ماذا بإمكان الفلسفة وحدها أن تقوله اليوم؟

الواقع:

اعتبر أفلاطون عالم الصيرورة أي عالمنا المحسوس ما هو إلا ظل عالم حقيقي، وكل ما هو موجود نسخة غير أصلية من المثل. في حين زعم الواقعيون بأن العالم المحسوس هو العالم الوحيد الحقيقي وللأشياء وجود مستقل عنا والصورة التي نكونها عنها تعبر تماماً عن ماهيتها، هذا بالنسبة للفلسفة. أما بالنسبة للعلم فهناك طروح في غاية الغرابة، فبحسب المبدأ الهولوغرافي فإن عالمنا رباعي الأبعاد مجرد ظلال على حدود زمكان أكبر وخماسي الأبعاد. كما أن هوكنغ نفسه يفلسف هذه المسألة في فصل “ما الواقع” من كتابه التصميم العظيم ويجد بأنه يمكن معرفة الواقع وما هو عليه الوجود من خلال الواقعية المعتمدة على النموذج. مع أن هوكنغ لا يستخدم العقل وحده في تفسير الواقع، لكنه مع ذلك يتفلسف في هذا الشأن، لأن البحث في ماهية الواقع ولو في سياق علمي يعد مشاركة في التراث الفلسفي بالنسبة لإشكال الماهية.

علاقتنا بالعالم:

قبل فترة وجيزة من وفاته خرج هوكنغ بتصريحات خطيرة ومرعبة حول مصير الأرض، وحذر العالم من نهاية وشيكة للحضارة البشرية وذلك بسبب الحروب النووية والتغير المناخي وتطور الذكاء الاصطناعي. أن هذه التصريحات فيها دعوة إلى التفلسف؛ طالما أن العلم ليس لديه ما يقوله بشأن تلك الكوارث. فالحرب والتسبب بالتغير المناخي والقلق بشأن الذكاء الاصطناعي تعد من الإشكالات الأخلاقية وبالتالي الفلسفية. يدعو الفيلسوف لوتشيانو فلوريدي إلى إعادة النظر في مهمة الفلسفة، فهو ينتقد الحركة الفلسفية الحالية لانشغالها عن العالم الرقمي والانصراف في مناقشة قضايا لا تمت إلى العالم بصلة، ويؤكد على ضرورة إعادة تأويل انطولوجيا الأشياء والبحث في قضايا تخص العالم الرقمي وضمن شروطه(7). ما يمكننا استنتاجه مما قاله هوكنغ، هو أن العالم موجه نحو كوارث حقيقية وما نستنتجه مما يقوله فلوريدي هو أن مهمة الفلسفة هي منع وقوع تلك الكوارث من خلال تقديم تفسير جديد للعالم؛ فكل كارثة تعبر عن نوع العلاقة التي تربطنا بالعالم، وهذه العلاقة تُفسر وتُصحح فلسفيًا لا علميًا. إذ، يمكن للفلسفة تحشيد الجهود في زيادة التفاهم المتبادل في المجتمع لمعالجة القضايا المشتركة ذات أهمية سواء في التعليم أو السياسة أو البيئة(8).

ثالوث المعنى والقيمة والحقيقة بين الفلسفة والعلم:

نجد بأن الكثير من العلماء يدافعون عن المثلية الجنسية، ومنهم من يرفع شعارات حقوق المرأةً، فضلا عن دفاعهم عن الحريات. فكيف لهذه المسائل أن تكون ذات معنى في حدود العلم؟ القيمة التي نضيفها على الأشياء حتى وإن كانت لها أبعاد منفعية فهي تخرج عن كل سياق علمي بل وعليه أيضًا. ثمة أسئلة كثيرة نواجهها اليوم وهي تشكل أهم أركان العالم المدني المعولم. متى يكون القتل الرحيم أمرًا صحيحًا؟ ما هي الحقوق العالمية التي يجب أن يتمتع بها البشر؟ هل للحيوانات حقوق؟ هذه الأسئلة مهمة، لكن لا يستطيع البحث العلمي تقديم جواب علمي صِرف، يمكن للعلم أن يساعدنا في التعرف على الأمراض المزمنة وتاريخ حقوق الإنسان والحيوان، وهذه المعرفة من شأنها أن تكون مصدر إلهام لآرائنا وقراراتنا، لكن العلم نفسه لا يستطيع أن يصدر أي أحكام حول ما إذا كانت هذه الحالات صحيحة أم خاطئة (8)، فهي تدخل في مجال فلسفة الأخلاق. وثمة الكثير من القضايا الأخرى التي لا يستطيع العلم مناقشتها مثل الحكم الجمالي والهدف من الحياة ومعنى أن نكون ونحيا.

خلاصة:

التقدم العلمي على مر العصور لم يقتصر على تقديم صورة واضحة ودقيقة لأول مرة في تاريخنا عن العالم وعن أنفسنا، بل أثر حتى في الجانب الروحي والوجداني والأخلاقي ولو بشكل غير مباشر؛ فنظرية التطور مثلًا، دفعتنا لأن نعيد طرح السؤال السقراطي – اعرف نفسك – في سياق جديد. كما أن علم الكونيات قدم مواد ومواضيع جمالية ألهمت الكثير من الأدباء. في الطرف الآخر، نحن البشر كائنات تتفلسف غريزيًا، إذ، نطرح من تلقاء أنفسنا اسئلة حول معنى حياتنا وحقيقة الأشياء وقيمتها. ربما لا تستطيع الفلسفة أن تكتشف كواكب أخرى صالحة للحياة ولا شأن لها في إيجاد لقاح ضد فايروس كورونا، لكنها بالفعل مسؤولة عن تفسير حياتنا وتقلباتها وأزماتها في ظل جائحة كورونا على سبيل الذكر. وإذا ما اردنا أن ندرك حقيقة حاجتنا للفلسفة من الضروري أن نطرح بعض الاسئلة ونتأملها، على سبيل المثال، في ظل التقدم العلمي السريع على كافة مستوياته لماذا تفاقمت أزماتنا ومشاكلنا، سواء كانت على الصعيد الفردي أو الجماعي؟

المصادر:


1- https://dictionary.cambridge.org/dictionary/english/philosophy
2- https://dictionary.cambridge.org/dictionary/english/science
3- https://www.scientificamerican.com/article/the-consolation-of-philos/
4- https://www.scientificamerican.com/article/physicists-are-philosophers-too/
5- http://inters.org/jaspers-philosophy-existence
6- Hawking, Stephen. The Grand Design. P10
7- https://valenzine.medium.com/luciano-floridi-philosophy-439cd5014235
8- https://www.nature.com/articles/s41599-018-0163-z
9- https://undsci.berkeley.edu/article/0_0_0/whatisscience_12

العلاج النفسي الوجودي والبحث عن جذور مشاكلنا

العلاج النفسي الوجودي والبحث عن جذور مشاكلنا

لم تعد تكتفي ذات الإنسان الفرد بمواجهة مجتمعها وقضاياه، فهي صارت ذات عالمية. كما أن العالم لم يعد مجرد مجموعة من الدول والثقافات المغلقة على نفسها، فهو عالم واحد في مشكلاته بالنسبة لكل فرد منا. شهد العالم حربين عالميتين حصدتا أرواح ملايين البشر، غير أن من لم يشهدوا المعارك لم يفكروا في تلك الحربين، والكثيرين منهم لم يسمعوا بهما حتى. لكن الآن، تغريدة واحدة قادرة على هز كيان ملايين البشر، كل صغيرة وكبيرة في العالم باتت تخصنا حيثما كنا. هذا وفضلا عن الأزمات الاقتصادية ومشاكل التفاوت الطبقي وخطابات الكراهية وبروز قيم جديدة تناقض موروثنا الثقافي والأخلاقي. في عالم كهذا، غالبا ما نشعر باللا جدوى من محاولاتنا في تغيير يومنا للأفضل، نواجه صعوبة في تغطية مصاريفنا اليومية، نشعر بأن اللا معنى يكتسح العالم. نستطيع القول بأننا نعاني من مشاكل وجودية بحتة؛ لذا، فإن العلاج الوجودي قد يستطيع مساعدتنا في إضفاء معنى لحياتنا وتفعيل إمكاناتنا لمواجهة المعاناة المستمرة.

العلاج النفسي الوجودي:

حسب فيلسوف القرن العشرين باول تيليش، يواجه العلاج النفسي الوجودي هواجس الحياة المطلقة المتمثلة بالوحدة والمعاناة وانعدام المعنى ضمن قالب من العدل والصدق والتي يمكن تشخيصها في كل فرد منا وذلك لكونها متجذرة في تجاربنا الشخصية(1). فهذا النوع من العلاج لا يبحث في ماضي الفرد والتاريخ المرضي في العائلة. وبدلًا من إلقاء اللوم على أحداث من الماضي فالعلاج الوجودي يرى فيه بصيرة لتصبح أداة لتعزيز الحرية والإصرار(2). وأغلب الأساليب المستخدمة في العلاج الوجودي تركز على المسؤولية وحرية الاختيار وذلك لأن الكينونة التي تعاني من المشاكل اختيرت لأن تكون ذلك، بمعنى أن الفرد قد اختار هذه المعاناة أو الطريقة المؤدية إليها، لذا، فالمعالج النفسي كما يقول إرفين يالوم هو رفيق درب المريض، يساعده من خلال التعاطف والدعم لاستنباط البصيرة وتحديد الاختيارات وتهيئة أفق مناسب لملاقاة الذات.
يعتمد العلاج الوجودي على بعض الأفكار الرئيسة الكامنة وراء الوجودية كفلسفة، وهي:

  • نحن مسؤولون عن اختياراتنا الشخصية.
  • الاختيارات التي نتخذها تجعلنا أفرادًا مميزين، ونحن نعيد تشكيل أنفسنا باستمرار من خلال تلك الخيارات.
  • نحن من نصنع لنا معنى في الحياة.
  • القلق خاصية طبيعية في حياة الإنسان.
  • يجب أن نتصالح مع القلق لنعيش بشكل أصيل(3).

رواد العلاج الوجودي:

كان أوتو رانك من بين المعالجين الوجوديين الأوائل الذين سعوا بنشاط نحو هذا التخصص، وبحلول منتصف القرن العشرين رفع كل من باول تيليش ورولو ماي وإرفين يالوم أفق النظرية الوجودية في العلاج النفسي من خلال كتابات تأسيسية لها، كما أثرت الوجودية في المدارس والنظريات الأخرى مثل العلاج المنطقي الذي طوره فيكتور فرانكل وعلم النفس الإنساني، وهناك جمعية باسم التحليل الوجودي تأسست في عام 1998، وتم إنشاء المجتمع الدولي للمستشارين الوجوديين في عام 2006(4).

الفرضيات الوجودية المتعلقة بالشخص:

التعامل مع المريض أو العميل تحدده الاعتبارات التي نعطيها له وذلك من أجل بناء ثقة قوية والتي هي أساس كل علاج نفسي. لذا فالعلاج الوجودي ينطلق من تصورات أو فرضيات أساسية لنبني عليها علاقتنا مع المريض، والتي هي:
1- كل الكائنات الحية تتمركز حول ذاتها وتسعى جاهدة للمحافظة على التمحور أو التمركز، وهذه هي المشكلة التي يقع فيها المريض أثناء المعالجة.
2- الكائنات البشرية لديها النزعة وإمكانية مشاركة الآخرين والخروج من دائرة التمحور الذاتي.
3- المرض أو الاضطراب طريقة يسعى الفرد من خلالها إلى الحفاظ على كينونته.
4- الكائنات البشرية يمكن أن تشترك في مستوى معين من الوعي الذاتي الذي يتيح لها تجاوز الوضع الآني أو الموقف الفوري والنظر إلى مجالات أرحب تسمح بكم هائل من الاحتمالات(5).

مراحل الوعي الذاتي:

كل فرد منا يمر في مراحل مختلفة، ولكل منها مشاكلها وتحدياتها وخصائصها الحيوية والمعرفية، السابقة تؤثر في اللاحقة، وهكذا فإن شخصيتنا في مرحلة الشباب غير مستقلة تمامًا عن التجارب التي عشناها في الطفولة والمراهقة. والوعي الذاتي من الأسس الرئيسة في علم النفس الوجودي، وهذا الوعي يمر بأربع مراحل:
1- البراءة والطهارة: تظهر قبل ولادة الوعي بالذات وهي تمثيل واقعي وخاصية للرضيع.
2- العصيان: تشمل هذه المرحلة الطفولة والمراهقة حيث يسعى الفرد إلى تكوين قوة داخلية تكفل له تأمين حقوقه الخاصة، ومن علامات هذه المرحلة العدوانية والانحراف.
3- الوعي الطبيعي بالذات: وهي المرحلة التي نعني عندما نتحدث عن الشخصية السوية، حيث ان الشخص قادر على التعليم والاستفادة من أخطائه والعيش كفرد مسؤول.
4- مرحلة الوعي الإبداعي: تتضمن القدرة على رؤية شيء ما خارج نطاق التصورات والقيود العادية وذلك باكتساب واكتشاف شيء خاطف ولماح من الحقيقة الموضوعية كما تظهر في الواقع(5).

القضايا الأربع في التشخيص:

عكس المدارس التقليدية ومنها التحليلية والسلوكية، لا يعول العلاج الوجودي على الجانب الحيوي للفرد أو البيئة التي تحيطه، فالفرد أكثر من مجرد كائن يخضع لشروط البيئة، كما يتعدى كيانه الحيوي؛ فهو في مواجهة مستمرة وحوار لا ينقطع مع الوجود في كليته. لذا فالمعالج النفسي الوجودي بدلًا من أن يعود إلى ماضي الفرد أو يحلل البيئة الثقافية والفيزيائية المحيطة به، يمضي قدمًا نحو المخاوف الكامنة في الإنسان والتي تحول بينه وبين حياة مستقرة. وهذه القضايا أو المخاوف التي تقف وراء الاضطرابات النفسية هي:

  • الحرية والمسؤولية.
  • الموت.
  • العزلة.
  • اللا معنى(6).

ما هي الاضطرابات التي يمكن معالجتها وجوديًا؟


طالما أن الناس عادة ما يقعون في إشكالية عدم التمييز بين المشكلة النفسية والاضطراب النفسي؛ يقتضي الأمر توضيح الفرق بينهما. فعندما نفقد شخصًا عزيزًا علينا مثلاً، نجد بأننا لا نرغب في الأكل، نواجه صعوبة في النوم أو ننام لساعات طويلة، نفقد شغفنا بممارسة النشاطات التي كنا نستمتع بها، لا نؤدي واجباتنا المدرسية أو المهنية بصورة جيدة، نعيش حالة حزن شديد وحتى الرغبة في الموت. ففي هذه الحالة لدينا مشكلة نفسية، وهي ستزول مع الوقت، ويمكننا أيضا حلها عن طريق تقنية حل المشكلات أو الدعم النفسي، وإذا ما أردنا أن نزور معالجًا نفسيًا فجلسات نفسية قليلة كافية لنستعيد حيويتنا وشغفنا.
لكن، حينما نجد فجأة بأن صحتنا النفسية بدأت تتدهور وتستمر معنا أعراض الاكتئاب: فقدان الشهية، فقدان أو زيادة الوزن، الأرق أو النوم لساعات كثيرة، الأفكار الانتحارية، الحزن الشديد والتشاؤم، نوبات من البكاء، صعوبة في التركيز، لأسابيع ودون وجود سبب واضح؛ فهذا يعني لدينا اضطراب نفسي (الاكتئاب) ويجب أن نزور معالجًا نفسيًا. ومعالجة الاضطراب تستغرق شهورًا من الجلسات النفسية. والعلاج النفسي الوجودي من بين الأساليب العلاجية الكثيرة التي يمكن أن يلجأ إلى استخدامها المعالج النفسي. والاضطرابات التي يمكن للعلاج الوجودي التعامل معها، هي كالتالي:

  • القلق.
  • اضطراب الشخصية الاعتمادية.
  • الاكتئاب.
  • «اضطراب الكرب التالي للصدمة النفسية – PTSD»
  • «اللامبالاة – Apathy»
  • الخجل.
  • الاستياء.
  • الغضب والعدوانية.
  • اليأس والشعور باللا معنى.
  • الذهان(6).

ملخص:

ليس العلاج النفسي الوجودي هو الوحيد الذي يمكن الاعتماد عليه مع الاضطرابات المذكورة؛ مستوى تعليم المريض، عمره وطبيعة الاضطراب تحدد الاساليب والتقنيات التي يلجأ إليها المعالج النفسي، كما أنه يمكن استخدام أكثر من اسلوب وتقنية في الخطة العلاجية. غير أن هذا العلاج فعال مع الاضطرابات التي يكون سببها الشعور بلا معنى الحياة وعدم الجدوى من العيش مع الظروف والاستسلام لها، وبما أن السوداوية من الاعراض البارزة للكثير من الاضطرابات النفسية فالعلاج الوجودي بإمكانه مساعدة المريض في تصحيح تصوراته ومفاهيمه حول الحياة وعلاقاته مع الآخرين.

مصادر:


1- psychology today

2_ Counselling Directory
3_ positive psychology
4- good therapy
5- باربرا انجلر، مدخل إلى نظريات الشخصية، ترجمة فهد بن عبدالله، ص420-421.
6- healthline

Exit mobile version