أمبادوكليس وصياغة الكوزمولوجيا الوردية

هذه المقالة هي الجزء 8 من 9 في سلسلة مدخل إلى فلسفة ما قبل سقراط

أمبادوكليس وصياغة الكوزمولوجيا الوردية

يبدو أن الفلسفة تحتفظ دومًا بشيء من الميثة ذلك لأنها لا تكف عن التواصل مع اللا-فلسفة والقبفلسفة في نحتها للمفاهيم. نحت سرديات ومفاهيم جديدة يمر دائما من اللحظات التي سبقت مما يعرف بالتفكير الفلسفي والمنطقي, يعد ذلك عادة في الفلسفة.  إذا ما اخذنا بتعريف دولوز للفسلفة كترسانة معرفية لإبداع المفاهيم نجد أن التفلسف الأصيل يشترط انطلاقة أصيلة. الانطلاقة تلك تحدث في الماضي لا بوصفه أول الخط إنما بوصفه الكاوس/السديم المتمثل بالاقتصاد الفكري والجمالي اللانهائي. يقدم أمبادوكليس صياغة وردية للكوزمولوجيا من خلال بعض القصائد الفلسفية.

إن فلسفة أمبادوكليس قائمة على أساس متوتر, فهي تقول الجديد من خلال القديم, تمنطق الميثوي عبر أسطرة العالمي/الطبيعي. ذلك التوتر ربما كان انعكاسًا للتوتر السياسي في بلاد الإغريق آنذاك. نعرف من سيرة أمبادوكلس بأنه شاهد على أزمات سياسية كبيرة وقد تم نفيه أيضًا من بلاده, وهذا النفي أدى إلى اغتراب فلسفي بدوره, حيث يعود الفيلسوف إلى هزيود في تصوره للانحدار من العصر الذهبي إلى العصور الأقل سعادة ومعنًى.

حول الفيلسوف الوردي أمبادوكليس

كما هي الحال مع فلسفته, سيرة أمبادوكليس فيها الكثير من اللبس؛ لوجود خرافات وأساطير حول حياته ومماته. هو من فلاسفة ما قبل سقراط, ولد في (آكراغاس-Acragas) حوالي عام 490 ق.م وتوفي في في عام 444 ق.م. في (بيلوبينيز- Peloponness). نُسبت إليه الكثير من الألقاب بما في ذلك لقب الإله, ولقبه أرسطوطاليس بمؤسس البلاغة, في حين اعتبره جالينوس مؤسس الطب. كان له مريدين, اعتبروه شخصية مقدسة, وروجوا حوله الكثير من الأساطير والحكايات الخرافية. حادثة موته تعد قصة شعرية مميزة, فحسب الشاعر الإنكليزي ماثيو أرنولد, ألقى أمبادوكليس نفسه في حفرة بركانية في جبل إتنا لإقناع تابعيه بألوهيته.

من المعروف أنه كان فيلسوفًا وشاعرًا صوفيًا تأثره بالتراث الشعري الإغريقي وفلسفة فيثاغورس. له الكثير من الكتابات, لكنها فقدت ولم تبقى منها سوى 400 بيتًا من قصيدته “حول الطبيعة” وأقل من 100 بيت من قصيدة “التطهير”. [1]

أمبادوكليس والمقترب العلمي

رغم الهالة الأسطورية حول حياته والغموض الميتافيزيقي في آراءه الفلسفية, إلا أنه كان يتمتع بحس علمي فريد. هو أول من كشف الهواء الجوي من خلال التجربة, وله نظرية حول تطور الكائنات رغم غرابتها تحتفظ بشيء من روح العلم الطبيعي المعاصر. حسب نظريته في التطور, في البداية كانت هناك صنوف لا حصر لها من المخلوقات الفانية, منتشرة في بقاع الأرض, مختلفة الأشكال إلا ما كان أبدعه من منظر للرائي, فكان هنالك برءوس بغير أعناق, وأذرعة بدون أكتاف, وأعين بغير جباه. نشأ عن ذلك كائنات زاحفة لها أيد لا يحصى عددها, كائنات لها وجوه وصدور تتجه اتجاهات مختلفة وكائنات لها أجساد الثيران ووجوه الإنسان وكائنات تجتمع فيها الذكورة والإنوثة معصا, لكنها كانت عقيمة لا تلد. ولم يستطيع البقاء من هذا كله إلا بعض الأشكال دون غيرها.[2].

الجذور الأربعة عند أمبادوكليس

يعتقد أمبادوكليس بوجود أربعة عناصر أصيلة وهي: الهواء, والتراب, والنار والماء. وهناك قوتان تتحكمان بهذه العناصر, وهما الحب والكراهية. تلك العناصر والقوى غير مخلوقة ولا فانية, فهي أزلية وأبدية, لا ينقص منها عنصر ولا يُضاف لها عنصر. هذه العناصر هي التي تخلق كل الأشياء الموجودة في الكون, فكل موجود/مخلوق هو في الأصل عبارة عن مقادر معين من امتزاج تلك العناصر. [3]

القوى الرئيسة وفق أمبادوكليس

عكس العناصر الأربعة الرئيسة، الموجودات فانية ولا يمكن لها أن تدوم للأبد, بمعنى فهي تُخلق وتُفنى. ما يجمع بين هذه العناصر هو قوة الحب (=الصداقة)، وما يفرق بينها وسبب بفناءها هو قوة الكراهية. هاتان القوتان سرمديتان، إذ لا مجال لنهاية الحب أو الكراهية, كما أنها لا تتصارع بل تتناوب. فعندما يكون كل شيء مؤتلفًا بفعل الصداقة (=الحب) وجدنا الكراهية تشق طريقها رويدًا رويدًا أو تطرد الصداقة بالتدريج إلى أن تؤول العناصر إلى دور الإنفصال التام، حيث تغيب الصداقة تمامًا. بعدئذ وبحركة معاكسة، تدلف الصداقة من جديد إلى الكون وتطرد منه الكراهية. [4]

حسب الشاعر الإغريقي هزيود فأن العالم ينحدر أخلاقيًا، بالمعنى الميتافيزيقي للأخلاق. فالعالم في البداية كان يسوده الخير, حيث كان العصر الذهبي, ومن ثم جاء العصر الفضي وتلاه البرونزي إلى أن جاء عصر الشقاء, أي العصر الحديدي. هذه السردية انتقدها أمبادوكليس، لكن ليس على نحو سفسطائي حيث أن العالم يتجه نحو الأفضل. يرى أمبادوكليس بأن العصر الأول كان العصر الذهبي، فكانت قوة الحب هي السائدة، لكن هذا العصر انتهى بسيطرة قوة الكراهية، ولكن العصر الذهبي جاء من جديد وانتهى بعد ذلك. هكذا دواليك، عصر يلي آخر بحركة دائرية.

نظرية المعرفة عند أمبادوكليس

لأمبادوكليس نظرية رائدة في الأبستمولوجيا، نظرية الشبيه يدرك الشبيه. فالأشياء الماثلة أمامنا في العالم، هي مكونة من نفس العناصر التي نتكون منها نحن. فلم يعطي أمبادوكليس أي مكانة إستثنائية للإنسان، فهو شيء موجود بجانب الأشياء الأخرى. قدم شرحًا تفصيليًا للآلية التي ندرك بها الأشياء. نظريته التي انتقدها أرسطو وثيوفراستوس، هي أن كل الأشياء تعطي دفقًا لتدخل المسامات في أعضاء الحس. تلك الدفقات المسامات ذات أشكال وأحجام مختلفة، وبالتالي فإن بعض الدفقات السائلة فقط تدخل أعضاء حسية معينة إذا اجتمعت مع مسام بالحجم والشكل الصحيحين لاستيعابها. علاوة على ذلك، يتحقق الإدراك من خلال جذب التشبيهات: ندرك الألوان الفاتحة بالنار في العين، والألوان الداكنة من خلال الماء، وتتحقق الرائحة من خلال وجود الهواء في الخياشيم. [5]

مكانة أمبادوكليس في الفلسفة

رغم مرور أكثر من ألفين وخمسمائة عام، إلا أن آراء أمبادوكليس لا زالت قادرة على خلق الدهشة. يقدم أمبادوكليس صياغة وردية للكوزمولوجيا بتدشينه الحب والكراهية في عملية الخلق. هذه النظرة الرومانسية للعالم جديرة بالاهتمام الفكري والأدبي. فالأشياء مكونة من نفس العناصر التي نتكون منها، وهذا يفسح لنا مجالًا لأن ندركها. فنحن نعي الماء لوجود الماء في تكويننا وندرك الهواء وما هو من التراب والنار الآلية ذاتها. كما أن الطرح الأخلاقي حول تعاقب العصور، الذهبية والحديدية، يعطينا أملًا بنهاية المعاناة, كما هو محبط لأن هذه المعاناة لن تنتهي على نحو أبدي، فهي ستعود بفضل سيطرة الكراهية بشكل دوري.

اقرأ أيضًا هيراكليتس واستحالة الهوية

المصادر:

  1. https://www.britannica.com/biography/Empedocles
  2. برتراند راسل, تاريخ الفلسفة الغربية الكتاب الأول, ترجمة زكي نجيب, الهيئة المصرية, ص109.
  3. https://plato.stanford.edu/entries/empedocles/#RootForc
  4. اميل برهييه, تاريخ الفلسفة, م1, ترجمة جورج طرابيشي, دار الطليعة, ص89-90.
  5. https://iep.utm.edu/empedocl/#H5

فيلسوف الذرة الأول ديمقريطس

هذه المقالة هي الجزء 9 من 9 في سلسلة مدخل إلى فلسفة ما قبل سقراط

فيلسوف الذرة الأول ديمقريطس

تثير حول بدايات الفلسفة الكثير من التساؤلات الجوهرية، خاصةً فيما يتعلق بهوية الفلسفة وإشكال الأصول والمصادر الرئيسة. إلا أن الرابط الكائن بين الفلسفة والعلم يعد من أبرز الجوانب التي تحتاج إلى الإحاطة والتحليل؛ فالفلسفة لم تقدم علمًا إنما عاشت لحظات علموية. إحاطتنا بتلك اللحظات من شأنها أن تكون منعطفًا أنطولوجيًا، إذ أن علاقة العلم بالفلسفة لا تنكشف بالتناول التقليدي المألوف. تجربة فيلسوف الذرة الأول ديمقريطس, إذا ما حررناها من الإطار التاريخي ستساعدنا لأن نقترب من التوتر الموجود بين الفلسفة والعلم. مؤرخو العلم يركزون على تلك العلاقة الحميمة في اللحظات التي تجلى العلم بمفرده في القول الفلسفي. بينما مؤرخو الفلسفة يقدمون الفلسفة بوصفها الكينونة الأم للعلم والمعرفة، يتعاملون مع العلم على أنه الابن الضال للفلسفة. نحاول في هذا المقال أن نبين التواصل الدائم بين مسطحي المحايثة والمرجعي (على حد تعبير دولوز).

حول الفيلسوف الضاحك ديمقريطس

يُعرف عن ديمقريطس بأنه كان يثمن الابتهاج والسعادة في الحياة؛ فسُمي بالفيلسوف الضاحك. حسب بعض المصادر, ولد ديمقريطس في عام 460 ق.م. في أبديرا. بينما تزعم مصادر أخرى بأنه ولد في عام 490 ق.م. في مدينة ملطية-ميليتوس (ونيفري). حسب المصادر الموثوقة، كان قد سافر كثيرًا إلى الشرق، وعاش لفترة طويلة في مصر وبلاد الفارس قبل أن يعود إلى أبديرا. ولنعرف أكثر عن سيرته الفلسفية لا بد أن نشير إلى ثلاثة محاور هامة في حياته. (1)

علاقة ديمقريطس مع الموروث

كان يافعًا عندما كان انساغوراس شيخًا، بهذا فهو يعد بمثابة حلقة وصل بين ما يسمى بالفلسفة القبسقراطية والأفلاطونية. فمذهبه الذري فيه الكثير من روح الموروث وفيه ما يكفي من التحديث ليؤثر على الفلاسفة اللاحقين مثل أبيقور.

السفسطائية

إن حركة السفسطائية تعد من الحركات المثيرة للجدل والاعجاب في تاريخ الفلسفة، نظرًا لانتقاداتها اللاذعة بوجه الموروث الإغريقي الروحي والتقليدي الفلسفي. فهي التي أسست للعدمية البدائية والنسبية الأخلاقية على نحو واسع، بحيث تبرز في سياق مختلف تمامًا من السياق الفلسفي الإغريقي. ونظرًا لأنها كانت أكثر شعبية وتأثيرًا في المجتمع الإغريقي فمن المستحيل ألا يكون لهم تأثير بالغ في فلسفة ديمقريطس. اقرأ أيضًا السفسطائية وشجرة الفلسفة المحرمة

أفلاطون وسقراط

يتبين من معظم المصادر بأنه كان قد عاصر سقراط, علاقته مع سقراط غير واضحة, لكن اهماله من قبل أفلاطون قد يكون نتيجة وجود توتر حاد بينهما. يذكر المؤرخ ديوجين لاتيريوس بأن أفلاطون كان يكرهه كثيرًا ويتمنى ولو تُحرق كل كتبه. من النادر أن نجد أي فيلسوف غفل عنه أفلاطون في محاوراته، لكنه لم يذكر ديمقريطس ولو لمرة واحدة.

فيزياء ديمقريطس

مع أن الفلسفة بدأت من خلال فك ارتباط التفكير بالأسطورة, غير أن التفكير اللاهوتي او المنطق اللاهوتي ظل سائدًا. حتى فلاسفة الصيرورة احتاجوا إلى عنصر ميتافيزيقي وعزوا إليه الأصول، لكن مع ديمقريطس حدثت قفزة نوعية. كانت الصيرورة عند الملطيين وهيراكليطس تبدأ من الاصل الميتافيزيقي نحو ظلال الطبيعة. وهناك فلاسفة وقعوا في أسر اشكال الصيرورة وقالوا بأن التغير يستدعي وجود العدم، والعدم يستحيل أن نقول فيه شيئا أو أن نفكر فيه.

استطاع ديمقريطس أن ينفي ادعاء بارمنيدس من خلال تقديم مفهومين مهمين وهما الذرات والفراغ. الذرات هي اللبنات الأساسية في كل تكوين, بما في ذلك تكوين النفس البشرية, وهذه الذرات تتحرك في الخلاء/الفراغ. كما يقول راسل، فان الطرح الديمقريطي أقرب إلى البحث العلمي, ذلك لأنه اراد أن يفسر العالم دونما حاجة إلى فكرة العلة الغائية أو السببية (2).

إن التفكير الغائي لا يتوقف في ارجاع كل شيء إلى شيء سابق له ومن ثم يطرح الشيء -الله- الذي يغير ولا يتغير. إلا ان ديمقريطس فكر كما يفكر عالم, قال ببساطة أن الأشياء جميعها تتغير لأن الذرات تغير اماكنها.

إن الذرات هذه يستحيل فناؤها، فهي كانت منذ الأزل وستظل إلى الأبد في حركة دائمة، وهناك عدد لا نهائي من الذرات (3). إن الذرات تتصادم وتتنافر وتترابط مع بعضها لتشكيل الأجسام. فوجود أشياء متغيرة ومتباينة ما هو في الأصل إلا اختلاف في الارتباط بين الذرات (4).

في الأخلاق والسعادة عند ديمقريطس

عكس نظريته الفيزيقية, لا تتمتع أخلاقيات ديمقريطس بوجود نسق فلسفي أصيل, فهي على الأغلب ملاحظات عامة حول السعادة. يشير ديمقريطس إلى الحتمية المتأصلة في الطبيعة، فيقول: الضرورة عينت سلفًا كل الأشياء الكائنة والتي تكون والتي ستكون. إذا ما طبقنا فكرته هذه على حقل الأخلاقيات فأننا سنكون أمام معضلة أخلاقية ووجودية كبيرة، فإذا ما كانت سلوكيات الإنسان محكومة بالحتمية فأنه لا يتحمل مسؤولية افعاله. وفقًا للسفسطائية فأن السلوكيات ايضًا جزء من العالم الجاري, لذا فأنها تؤسس لعدمية أخلاقية, لكن ديمقريطس بدلًا من أن يورط نفسه مع العدمية فضل أن يناقض نفسه.

تشكل الصدفة في مبحث الأخلاق أهمية بارزة، وكأنها الفسحة التي يستطيع الإنسان التنفس منها, ويمارس حريته، فهو يقول في الصدفة بأنها تمنح الهبة العظمى للأمل (5). كما هي الحال مع أبيقور فأن ديمقريطس يضفي على الأخلاق صفة القصدية، ذلك لأن الأخلاق ليست غاية بحد ذاتها إنما تهدف إلى بلوغ السعادة.

إن مفهوم السعادة عند ديمقريطس غير واضح تمامًا, يعتقد البعض أن السعادة الديمقريطية هي نفسها السعادة الأبيقورية , بينما يشير آخرون إلى عكس ذلك. فكما يقول المؤرخ ديوجين فأن السعادة ليست هي اللذة ولكنها حالة تحيا فيها النفس بهدوء وأمان غير مزعجة بالخوف والخرافة. يؤكد ديمقريطس في شذرة بأن نفس الشيء خير وحقيقي بالنسبة للجميع لكن اللذة تختلف من فرد لآخر. (6)

ولإحاطة أكبر بمفهوم السعادة لا بد أن نشير إلى نقطتين مهمتين: السعادة حالة عقلية معرفية وليست حالة جسدية كما هو الوضع مع الأبيقورية. إن ما يمنح السعادة هو نفسه ما يمنح الجمال فيقول عن ذلك: اللذات العظيمة تشتق من التأمل في الأعمال الجميلة. (7)

فضلًا عن الجانب الجمالي للأخلاق فثمة صفة أخرى ملاصقة بالنظرية الأخلاقية ألا وهي العلم, فأننى نسعى إلى الجميل أي إلى السعادة من خلال التعليم والمعرفة. تأكيدًا على ذلك يقول: الجها بالأحسن هو علة الفعل الخاطئ.

طريق المعرفة عند ديمقريطس

لم يُحسم النقاش حول تحديد النسق المعرفي في فلسفة ديمقريطس, لا يعود السبب إلى نقص المصادر إنما إلى التنوع التأويلي. يصنفه أرسطو كفيلسوف ظاهري, بينما سكستوس يعتبره شكوكيًا في حين يعد فيلسوفًا حسيًا وفقًا لثيوقراسطوس.

يقول ديمقريطس في إحدى شذراته:

“على المرء أن يتعلم بأن وصول الحقيقة مستحيل”.

هذا الطرح يتطابق مع المقترب السفسطائي الأبستومولوجي, كما يؤمن مثل السفسطائيين بالصيرورة المعرفية ومبدأ الاتفاق. يقول في شذرة أخرى “نحن لا نعلم شيئا حقيقيًا عن أي شيء فكل رأي في حالة التغيير”.

ويمكننا أن نجانب أرسطو في تفسيره, فقوله في التغيير لا يعني غياب أي ثابت أو جوهر كما هي حال السفسطائية. إنه لا يقصي الحقيقة بل يعتبرها متوارية في اعماق الشيء/الظاهرة, وظاهر الشيء يقدم بعض المعطيات للعقل بحيث المعرفة من دونها غير ممكنة. فالحواس/التجربة هي بداية المعرفة لكنها ليست كلها, وهذا ما يؤكده كانت ايضًا.

كما يمكن اعتباره فيلسوفًا عقليًا لتأكيده على دور العقل الفاصل في العملية المعرفية, فهو يربط السعادة بالعقل وكذلك المعرفة.

مستويات المعرفة

وفقًا لسكستوس، للمعرفة مستويين عند ديمقريطس:

  • المعرفة غير الشرعية: وهي المعرفة التي نحصل عليها من الحواس, فهي غير شرعية لأن الحواس لا تستطيع أن تتعدى صفات الشيء والتي هي في الأساس خبرات حسية ولا وجود لها حقيقة. على سبيل المثال, نقول عن شيء ما بأنه مالح, فالملوحة نفسها غير موجودة في كيان الشيء.
  • المعرفة الشرعية: وهي المعرفة التي يقدمها العقل؛ لقدرته على تجاوز ظاهر الشيء إلى باطنه وجوهره.

لا ينكر ديمقريطس دور الحواس كما ذهب بعض الفلاسفة، لكنه لا يتمسك بها ايضًا، فهو يبين التواصل الموجود بين العقل والحواس. ذلك التواصل يؤدي إلى المعرفة، فأن الحواس تكون بمثابة بوابة العقل، فهو يستقبل منها المعطيات الرئيسة لتكوين معرفة صادقة وسليمة.

مكانة ديمقريطس في الفلسفة

ثمة الكثير من الآراء المتباينة حول فلسفة ديمقريطس، يعتقد البعض بأنه قد استلم نظريته من لوقيبوس وهناك من يؤيد أصالته. ما يهم هو أنه قاد حركة علمية أصيلة في الفلسفة اليونان القديمة، فهو الذي رفع الغطاء الميتافيزيقي عن العالم. حتى وإن لم نستطيع أن نقول بأن ديمقريطس هو فيلسوف الذرة الأول فيستحيل إقصاء فلسفته فهي فلسفة رائدة في إيقاظ وتنشيط التفكير العلمي.

قدم ديمقريطس نظرية متماسكة حول بنى الطبيعة، وقدم بعض الحكم والملاحظات الأخلاقية حول السعادة. كما أن نظرية الأبستومولوجيا لديه تمتاز بدقة علمية وفلسفية مميزة. فضلًا عن ذلك اسهاماته في علم الاجتماع وأصل المجتمع والدولة واللغة وأثرت في الأبيقورية وتركت بصمة مهمة في فلسفة ماركس، فقد كان موضوع أطروحة ماركس للدكتوراه.

المصادر:

  1. https://www.universetoday.com/60058/democritus-atom/
  2. برتراند راسل, تاريخ الفلسفة الغربية, الكتاب الأول, ترجمة زكي نجيب محمود, الهيئة المصرية 2010, ص128.
  3. نفس المصدر, ص127.
  4. https://plato.stanford.edu/entries/democritus/
  5. علي سامي النشار, ديمقريطس, الهيئة المصرية, ص106.
  6. نفس المصدر, ص109.
  7. نفس المصدر, ص103.

بارمنيدس والقفزة الأنطولوجية

هذه المقالة هي الجزء 6 من 9 في سلسلة مدخل إلى فلسفة ما قبل سقراط

بارمنيدس والقفزة الأنطولوجية

بعد أكثر من ألفي عام من قفزة بارمنيدس الأنطولوجية، يتناول هايدغر الوجود كمقولة لم تُفهم قط. إن بارمنيدس يمثل بداية الشك عند هايدغر فيما يخص هوية الوجود، فهي هوية زمانية رغم نفي بارمنيدس لزمانية الوجود. بيد أن تلك القفزة تعد أول مقترب فلسفي نحو تأسيس أصيل للأنطولوجيا. 

لنبي الأنطولوجيا بارمنيدس – بتعبير نيتشه- اقتصاد مثالي ومادي في الوقت ذاته؛ مما يجعل الأساس الفلسفي الملطي في أزمة معرفية. فهو رغم بدايته الفيثاغورية يفتح جبهات مختلفة ضد التراث والأسلاف. في هذا المقال سنسلط الضوء على فلسفة بارمنديس الأنطولوجية وعلاقات الوجود المكثفة مع اللغة والفكر وترسانة المعنى والحقيقة.

عن بارمنيدس

ولد (بارمنيدس- Parmenides) في إيليا في القرن الخامس قبل الميلاد حوالي 451-449 ق.م. يُقال عنه بأنه كان في البداية فيثاغوريًا ومن ثم بعد سنوات طويلة بدأ يثور على فلسفة فيثاغورس, فكون مذهبًا فلسفيًا خاصًا به [1]. بارمنيدز [بارمنيدس] أسس الأنطولوجيا (علم الوجود) عن طريق نظريته عن الوجود الثابت الذي يعبر عنه الفكر[2]. فهو يعد مؤسس المدرسة الإيلية الفلسفية. وفقًا لنيتشه كان بارمنيدس قد عاشر وعرف أناكسيمندرس وتأثر به. ويُقال أيضًا بأنه قد التقى بسقراط وهو في الستين من العمر. في محاورة لأفلاطون يتبين أن سقراط يناقش تلميذ بارمنيدس زينون حول مسألة الكثرة. تعد قصيدة (حول الطبيعة) لبارمنيدس أهم المصادر حول مذهبه الفلسفي الذي يعتبره البعض مذهبًا ماديًا بينما يتهمه آخرون بالمثالية.

المنعطف الإبستمولوجي

يبدو أن التساؤلات الإبستومولوجية كانت حاضرة في الفلسفة الملطية وكذلك عند هيراقليطس وفيثاغورس على نحو أصيل. إن الوجود ما قبل السؤال الفلسفي كان يشترط في معرفته وجود وسيط إلهي؛ وحيًا يُنزل على نبي في حالة التوحيد، أو رمزًا بحاجة لهيرمس في الحالة الوثنية. فالحقيقة كانت محجوبة، لا سبيل إلى معرفتها دون وسيط يقرره إله ما وكأن الوجود غير قابل للفهم بوسيلة إنسانية. الفلسفة الملطية حين أعلنت عن عنصر الوجود ومبدئه كانت بحاجة لبيان طريقتها للوصول إلى ذلك العنصر، وبما أن الدور الإلهي في التفسير كان مستبعدًا من الأساس فكل فيلسوف كان يعول على طريق خاص. منهم من تمسك بوساطة الحواس، ومنهم من ادعى امتلاك العقل للحقيقة والتأويل، أما هيراقليطس فجمع بين الأثنين؛ فالعالم ماثل أمامنا على شكل رموز تدركها الحواس ويفسرها العقل.

رأي بارمنيدس في العقل الوسيلة الوحيد لبلوغ الحقيقة. هذا التطرف العقلاني سينتقل من بعده إلى ديمقريطس ويخيم على معظم التاريخ الفلسفي لفترات طويلة. بين بارمنيدس أنه هناك طريقين لفهم العالم، طريق الحقيقة وطريق الظن. ليمهد الطريق أمام عقلانيته المحضة كان لا بد له من القضاء على مقولات أسلافه الأشهر؛ الحركة، والتغير والصيرورة. إننا نسلم بوجود حركة وصيرورة في الطبيعة/العالم لأننا ندرك العالم بواسطة الحواس. فالتغير والحركة هما أعظم الظواهر التي تظهر أمام الحواس يقينًا، ومن ثَمَّ فإن رفض بارمنيدس للتغير والحركة يعني رفضه للظاهر والمحسوس[3]. فطريق الظن عند بارمنيدس هو المعرفة المظنونة التي تقدمها الحواس.

في المقابل؛ طريق الحقيقة هو طريق العقل في الكشف، فالعقل يتجاوز المحسوس الظاهر الذي نراه يتحرك ويصير نحو الواقع الثابت. إن العقل قادر على إدراك حقيقة الواقع، غير أن حقيقة الواقع الذي يدركه العقل مادية [4]. ومن هناك تكون قفزة بارمنيدس الأنطولوجية في أفق عقلاني صارم.

الوجود عند بارمنيدس

إن مقولة الوجود، كما يقول هايدغر، تأتي في الفلسفة اليونانية على أنها غير قابلة للتعريف، فهي تعني كلية فارغة، أو هي بمعنى الحضور. تحمل هذه المقولة عند بارمنديس طابعًا ميتافيزيقيًا محضًا، فالوجود موجود وحسب، الوجود هو هو، لا معنى لطرح السؤال عن الوجود نفسه في سياق أنطولوجيا بارمنديس. يزعم الفيلسوف الإيلي بأن الوجود لا يكون ولا يفسد، لأنه كلٌ متكامل ووحيد التركيب، ثابت ولا ينتهي.[3]

فهو ينفي عن الوجود كل دلالات الصيرورة والحركة، ذلك لأنه كامل من جميع الجهات مثل كرة مستديرة متساوية الأبعاد من المركز، فهي ليست أكبر أو أصغر من هذا الاتجاه أو ذاك [4]. لذا فإن الوجود ثابت، فهو محدود من حيث المكان. لكن الزمان لا يحده، فهو أزلي، أي كائن على الدوام. كما ينفي الكثرة عن الوجود، على عكس هيراقليطس، فهو يؤمن بوجود واحد لا كثير.

الوجود واللغة والفكر

بالعودة مجددًا إلى فيلسوف الوجود هايدغر. نجد أنه يرفض أن يكون الوجود شيئا زمانيًا بل يربط بين الوجود واللغة. فاللغة بتعبيره هي بيت الوجود وأن اللغة تحدث الوجود. في طرح بارمنيدس الأنطولوجي نجد ذلك الربط الأصيل، فيمثل كلٌ من اللغة والوجود تخومًأ بالنسبة للآخر. يقول بارمنديس: “إنك لا تدري ما ليس بموجود –لأن ذلك مستحيل– بل لا يمكنك أن تنطق به؛ لأنه ما يمكن التفكير فيه وما يجوز وجوده شيء واحد في كلتا الحالتين”، وأيضًا: “إن الشيء الذي يمكن أن يكون موضوعًا للتفكير، هو هو بعينه واحد في كلتا الحالتين, لأنك لن تجد تفكيرًا بغير شيء موجود يدور حوله الكلام”.[5]

فالأسماء/العلامات اللغوية تُطلق على ما هو موجود بالفعل، وما يوجد في اللغة موجود بالضرورة، كما أن المفكر فيه لا يمكن ألا يكون موجودًا. طالما أن الوجود لا ينقسم إلى وحدات زمنية بل يمثل كلية واحدة فلا معنى للماضي أو المستقبل، إذ عندما نتحدث عن شخص ميت فأننا نتحدث عن موجود ما، فالموت لا يلقي بالكائن في اللا وجود/العدم. فكل قول هو قول في الوجود. [6]

اقرأ أيضًا: هيراكليتس واستحالة الهوية

مكانة بارمنيدس

يمثل الفيلسوف الإيلي بارمنيدس مرحلة مهمة في فلسفة ما قبل سقراط، لكونه قد وسع مفهوم وجود العنصر نحو أفق أنطولوجي خاص. يصور الوجود على أنه كروي، واحد ولا يقبل القسمة،كما ينفي عنه صفة الصيرورة والحركة التي سيطرت على التفكير الفلسفي لفترة. يعد بارمنيدس فيلسوفًا شاعرًا، ذلك لأنه قدم فلسفته على شكل قصيدتين؛ قصيدة “حول الطبيعة” وقصيدة “حول التغير”. وهو فيلسوف مادي عقلاني لا يعطي للحواس أي اعتبار معرفي، إنما يربط المعرفة بالتفكير المجرد ويربط الأخير باللغة، لهذا فإن بارمنيدس يمثل القفزة الأنطولوجية الأولى في الفلسفة القديمة.

المصادر

  1. https://www.worldhistory.org/Parmenides/
  2. عبدالغفار مكاوي, لم الفلسفة, ط1, مؤسسة هنداوي, 2020, ص112.
  3. فريدريك كوبلستون, تاريخ الفلسفة المجلد الأول, ترجمة إمام عبدالفتاح إمام, ط1, المشروع القومي للترجمة 2002. ص88.
  4. https://plato.stanford.edu/entries/parmenides/
  5. برتراند راسل, تاريخ الفلسفة الغربية الكتاب الأول, ترجمة زكي نجيب محمود, الهيئة المصرية, 2010, ص99.
  6. https://iep.utm.edu/parmenid/

هيراكليتس واستحالة الهوية

هذه المقالة هي الجزء 5 من 9 في سلسلة مدخل إلى فلسفة ما قبل سقراط

هيراكليتس واستحالة الهوية

يمثل بعض الفلاسفة، القدماء على وجه التحديد، رمزية تاريخية لا غير، لنقلهم الأسئلة الكونية من المحافل الدينية إلى دار الفلسفة. بيد أن هيراكليتس لا يزال يحتفظ بملكيته في الفلسفة، فهو ملهم الكثير من الفلاسفة ومقولاته تحولت إلى سرديات يقف عندها البحث الفلسفي إلى يومنا هذا. كان هيراكليتس موضوع أطروحة ماركس للدكتوراه كما يعد مصدرًا رئيسًا في المادية الماركسية. ويعترف هيغل بقيمته الفلسفية ويعطيه نيتشه اعتبارًا فلسفيًا كبيرًا، أما هايدغر فيجد فيه مادة دسمة للتأويل. فكما اعتبر هيراكليتس العالم كرموز استوجب تأويلها يرى هايدغر في مقولاته رموزًا مشفرة تحتاج التأويل. في هذا المقال سنسلط الضوء على استحالة الهوية عند هيراكليتس. ويُكتب بالعربية هيراكليتيس أو هيراكليتس أو هرقليطس.

حياة هيراكليتيس

تبدأ مع هيراكليتس مرحلة جديدة من تاريخ الفلسفة من حيث موقعة الحدث الفلسفي أو فيما يتعلق بالمنهج. ولد الفيلسوف في أفيسيوس في العقد الأول من القرن الخامس قبل الميلاد. لا نكاد نعرف شيئا عن حياته سوى ملاحظات نقلها بعض المؤرخين مثل ديوجين اللايرتسي. بالنسبة لفلسفته، بقت بعض الشذرات المنسوبة إليه مع مناقشة أفلاطون وأرسطوطاليس النقدية لآرائه. ثمة سمات مهمة في شخصيته يستوجب ذكرها لأهميتها في تشريح أفكاره ونظرياته المثيرة للجدل.

السخرية عن هيراكليتيس

كان هيراكليتيس يسخر من معظم فلاسفة وشعراء اليونان مثل هومر وهزيود. كان يعتبر نفسه الفيلسوف الأوحد ويزدري الآخرين جميعًا. هذه المركزية حول الذات دفعته إلى الانتحار.

مهاجمة الدين

كان ينفي القدسية عن الدين ويتهم رجال الدين بالمتاجرة بالمقدس.

الانعزال

مال هيراكليتيس إلى العزلة، وعُرف بشخصيته المكتئبة؛ فسمي بالفيلسوف الباكي. [1]

الصيرورة عن هيراقليطس

إن المساهمة الهيراكليتية في فكرة الصيرورة ما زالت تحتفظ ببريقها في الفلسفة وبصورة جمالية في الأدب والفن. مع أنها كانت تمثل حجر الزاوية في الفلسفة الملطية بيد أن تناول هيراكليتس لها يعد منعطفًا أصيلًا في الفلسفة.

هذا ما جعل من هيراكليتس فيلسوفًا معروفًا هو مقولته:

“لا ننزل إلى نفس النهر مرتين”

ويشكل هذا القول جوهر فلسفته.

يؤمن هيراكليتس بما يمكن تسميته باستحالة الهوية، فيقول: “لا شيء يستقر على حال، لا شيء يدوم” معلنًا لا واقعية الواقع [2].

فما نسميه بالواقع ما هو سوى جريان مستمر على جميع الأصعدة: الأنطولوجي، الكوزمولوجي، الأخلاقي والأبستومولوجي. لا يوجد استقرار مادي، ولا وجود لرأي صائب دومًا ولا قيمة أخلاقية تدوم. ذلك لأن “الزمن طفل يلعب بالدمى”[3]. فيقول” ننزل إلى النهر نفسه ولا ننزل، نكون ولا نكون”، وأيضًا “لا يمكن النزول إلى النهر نفسه مرتين”. [4]

اللوغوس وصراع الأضداد

إن النزعة الصوفية لدى هيراكليتس تجعله يميل إلى السردية الصوفية الأشهر، وحدة الوجود، وجود واحد وكثير في الحين نفسه. غير أن هذه الوحدة لا تشبه الوحدة الملطية، طاليس والماء، أناكسيماندر والأبيرون، أناكسيمينس والهواء. فهي وحدة توجد بوجود الاختلاف والكثرة مع أن هيراكليتس نفسه يتمسك بمبدأ العنصر الواحد، النار.

يعلن هيراكليتس بأن “العالم لم يخلقه إله أو بشر، فهو كان ويكون وسيكون إلى الأبد” [4] وإن هذا العالم يعيش حالة صراع دون أي أمل بالخلاص ذلك لأن العالم ما هو إلا هذا الصراع. فيقول على ذلك “إن الواحد لا يوجد إلا في توتر الأضداد، ذلك التوتر الأساسي والجوهري لوحدة الواحد”[5] ويعلق على جوهرية الصراع بقوله “علينا أن نعرف أن الحرب هي العامل المشترك في كل شيء، وأن الصراع هو العدالة، وأن جميع الأشياء تظهر وتختفي من خلال الصراع”[5].

وكان يعتبر ما قاله هومر (ينبغي أن ينتهي الصراع بين الآلهة والناس) بقوله “فهو لم يدرك أنه يدعو لخراب العالم، فلو استجيبت دعوته لاختفت جميع الأشياء”.[6] وهذا الصراع محكوم بعقل كلي، اللوغوس من خلال الطريق الصاعد والهابط التي تشكل تناغمًا خفيًا في الكون.

نظرية المعرفة

يدعي هيراكليتس بأنه تعلم ذاتيًا ودون حاجة إلى معلم. هذا الإدعاء من شأنه أن يثير الإشكال الإبستمولوجي التقليدي، أي مصدر المعرفة. فهل المعرفة/التعلم تذكر وحسب كما زعم سقراط؟ أم أن الحواس هي مصادر معرفتنا كما ذهب السفسطائيون؟

الاقتصاد الهيراكليتي لا يعتمد على مصدر واحد فقط. ويعتقد هيراكليتس بأن الكل واحد والواحد هو الله/لوغوس وهذا الكل/العالم منظم بشكل مفهوم. وما يساعدنا على الفهم هو العقل، التجربة الحسية.

بالنسبة للحواس يقول “أفضل ما هو قابل لأن يُرى ويُسمع ويُجرب” لكنه في شذرة أخرى يقلل من شأن الحواس لصالح العقل، العقل في علاقته مع الفهم اللغوي ويقول “تمثل العيون والآذان شهودًا مساكين لمن هم يمتلكون روح البرابرة”[7] مع أن العالم لا يوجد بل يصير إلا أنه يُفهم، فاستحالة الهوية المتأصلة في فلسفة هيراكليتس المادية لا تغطي الحقل الإبستمولوجي.

المعرفة ممكنة في عالم غير ممكن الوجود. بيد أنه فهم العالم عن طريق العقل لا يعني بأن الحقيقة توجد في العقل أو يمكن القبض عليها من خلال توجيه عين العقل نحو جهة الحقيقة.

إن العالم الماثل أمامنا تنوجد حقيقته داخل اللغة، اليونانية على سبيل الحصر. فاللوغوس لا يقدم حقيقته كما هي بل على شكل رموز مشفرة وأسرار واقعة في علامات لغوية؛ إن طريق المعرفة غير مباشر. فيقول بأن “الإله الذي توجد كاهنته في دلفي لا ينطق بالمعنى ولا يخفيه بل يكشف عنه بالرمز وحسب”. بذا، فأن هيراكليتس الصوفي يتفلسف ألغازًا وباستخدام أدوات خطابية غير مفهومة وسمي على أثر ذلك بالفيلسوف “الغامض”. [7].

رؤية هيراكليتس للعالم

إن هيراكليتس يصور العالم من خلال الصراع الموجود فيه، بحيث كل ما هو ماثل في العالم نتيجة حتمية للصراع الموجود بين الأضداد. هذا التصور له أبعاد كثيرة، فمن الناحية الأبستومولوجية فالحقيقة لا ترقد هنا أو هناك في حالة مستقرة. ومن الناحية الكوزمولوجية فالشيء محكوم بالتغيير والصيرورة وهو في حالة جريان مستمر. وحتى الجانب الأخلاقي لا يسلم من هذا الصراع، فما هو صائب يغدو خطأ والعكس صحيح. مع أن هيراكليتس كان ضد الله الدين والكهنوت لكنه يحيل العالم كله إليه، فهو الكل، وما الأشياء إلا وحداته وعناصره.

أناكسيمينس وإعادة تدوير عجلة الأصول

هذه المقالة هي الجزء 3 من 9 في سلسلة مدخل إلى فلسفة ما قبل سقراط

أناكسيمينس وإعادة تدوير عجلة الأصول

إن الاجوبة التي قدمها فلاسفة ملطية لا تمثل أهمية فلسفية بقدر السؤال الذي اخترقوا من خلاله تخوم التصور القبفلسفي. إن الخطوة الملطية بإتجاه الفلسفة كانت الأكثر جرأة ذلك لأنها نزعت الصفة المقدسة عن الكون. كأن العالم قد وضع كل ثروته الروحية والأخلاقية على هذا الرهان البدائي، فلم يبقى من شيء إلا وصار نحو/من الفلسفة. إن فقدان مصادر تلك الفلسفة الأصلية تحول بيننا وبين حقيقة ما كتبوه -كأجوبة- بيد أن السؤال الملطي الأول يبرز بقوة ويعلن عن ذلك الحضور الجليل. يقول الفيلسوف الفرنسي جان بيار فرنان عن تلك الحقبة: “يعود تاريخ أفول المعتقدات الخرافية إلى اليوم الذي وضع فيه الحكماء الأوائل النظام الإنساني موضع النقاش وسعوا إلى تعريفه في ذاته، وإلى ترجمته في صيغ تكون في متناول الفكر”(1). في هذا المقال سوف نسلط الضوء على أناكسيمينس وكيف قام بإعادة تدوير عجلة الأصول.

ما يشبه سيرة ذاتية للفيلسوف أناكسيمينس

المعلومات المتوفرة حول أناكسيمينس قليلة جدًا، كان قد ولد في مدينة ملطية (التركية حاليًا) عام 585ق.م. فهو إبن يورستراتوس الملطي (Eurystratos of Miletus) ويقال بأنه قد تلمذ على يد أناكسيماندر وكذلك بارمنيدس وثمة من يقول بأنه قد تأثر بفيثاغورس أيضا. عاش تحت الحكم الفارسي لفترة وشاهد على النزاعات التي كانت موجودة بين أيونيا والسلطة اليونانية.

وفقًا لكاتب سير فلاسفة اليونان، ديوجين لايرتيوس، الذي عاش في القرن الثاني والثالث قبل الميلاد، إن أناكسيمينس كان قد كتب آراءه الفلسفية في كتاب كان موجودًا حتى في العصر الهلنستي، إلا أن هذا الكتاب لم ينجو منه شيئًا. (2)

المبدأ الأول عند أناكسيمينس

إن الهواء في الأدبيات الإغريقية المبكرة، لم يكن يعتبر كعنصر طبيعي وحسب، بل روح العالم. لذا نجد بأن أناكسيمينس يتعامل مع الهواء على أساس أن كل ما هو موجود كان في البداية هواءا، وصار الهواء نارًا وحجارة وناسًا. ويرجع اختلاف ماهية الأشياء إلى الاختلاف الكمي في الهواء. (3)

التخلخل والتكثيف عند أناكسيمينس

وفقًا لأناكسيمينس، يختلف الهواء في جوهره عن أي شيء آخر حسب ندرته أو كثافته. فالهواء في أضعف حالاته يتحول إلى نار وعندما يتكثف يصير ريحًا، فغيمة وإن تكثف أكثر تحول إلى ماء فتراب ومن ثم حجارة. بإستخادم عمليتي التخلخل والتكثيف يفسر صيرورة الوجود المادي. التخلخل في الهواء يؤدي إلى الأشياء الأكثر خفة في حين أن عملية التكثيف تخلق ما هو أكثر سماكة.(3)

ما يعطي اعتبارًا فلسفيًا لآراء أناكسمينس هو أنه لم يستثني موجودًا كحالة خاصة في الوجود. ففي التصور الخرافي كان الإنسان يمثل وضعًا مميزًا في عملية الخلق. بل حتى الطبقات الإجتماعية لم تتمتع بنفس المزايا بحجة أنه ثمة فروق جوهرية بين طبقة وأخرى. الفلسفة الملطية رغم طابعها المادي المحض أثرت في الجوانب الإجتماعية أيضًا، فكون كل موجود مادة وحسب وكل إنسان يحمل الجوهر ذاته فلا مبرر لوجود طبقات تعطي رتب وجودية لطبقة دون غيرها ولفرد دون سواه.

الصيرورة بين أناكسيمينس وأناكسيماندر

إن صيرورة أناكسيماندر تحدث في زمن لانهائي، مكان بلا حد وماهية غير متعينة. إذ أن الأبيرون يفتقر إلى كل صفة من شأنها أن تعينه، سوى صفة الحركة. أما الصيرورة التي يفترضها أناكسيمينس تحدث داخل الهواء نفسه، وتعطيه الهوية في معادلة كمية. والاختلاف الآخر يكون على المستوى الأنطولوجي. إن الوجود حسب أناكسيماندر ضربة من العصيان والخروج عن الكيان السرمدي، الأبيرون، لذا فأن الوجود يحمل معنى سلبيًا في نظريته. في حين أن الوجود عند أناكسيمينس يحمل معنى إيجابيًا، الحضور الأوحد والأكثر إمكانًا ومعقولية.

إقرأ أيضا الفيلسوف أناكسيماندر والأبيرون

وجود الآلهة عند أناكسيمينس

مع أن أناكسيمينس سعى إلى اكتشاف السبب الأول للوجود وتنوع الظواهر والموجودات دون الاستعانة بأي خرافة أو إله. بيد أنه لم ينكر وجود الآلهة، إلا أن الآلهة هي بدورها قد وجدت من الهواء جنب إلى جنب باقي الموجودات. لكن إن صح هذا الادعاء فلا نعرف ما هو دور الآلهة تحديدًا طالما أن الوجود يصير وفقًا لعمليتين ماديتين، التخلخل والتكثيف.(4)

في كتابه مدينة الله، يبين القديس أغستينيوس أن أناكسيمينس لم ينكر وجود الله ولم يصمت حيال هذا الأمر. لكنه يؤكد بأن الآلهة قد ولدت هي نفسها من الهواء ولا يذكر أغستينيوس وظيفة الإله في عملية الخلق الأناكسيمنسية.(4)

يشير شيشرون (106-43 ق.م) إلى أن “أناكسيمينس قال بأن الهواء هو الإله وأنه يأتي إلى الوجود وهو لا يقاس ولانهائي ودائم الحركة”. (4)

تأثيره على الفلاسفة اللاحقين:

يرى البعض بأن تخبط اناكسيمانس الفلسفي كان بمثابة نكسة، خطوة إلى الوراء مقارنة بما قام به معلمه أناكسيماندر. فبعد أن استبعد الأخير الماء/العنصر الطاليسي كمبدأ أولي وأصيل القى التلميذ عنصرًا آخرًا، الهواء، أصلًا للعالم في فضاء التفلسف.

إن نظرية أناكسيمينس حول التغيير المتعاقب للمادة من خلال التخلخل والتكاثف لاقت رواجًا بين الكثير من الفلاسفة. قام هيراكليتس ببعض التطورات في النظرية وتناولها بارمنيدس نقدًا. وتبنى انكساغوراس جزئية نشأة المادة الأولية من نظرية أناكسمينس رغم الاختلافات الجذرية بينهما فيما يتعلق بماهية المادة. وجد أفلاطون في نظرية أناكسمينس تفسيرًا منطقيًا للتغيير أما في نظرية الأمراض لأبيقراط بات الهواء الأناكسمينسي حجر الأساس فيها وكذلك نظرية ديوجين الأبولوني(3).

ما تركه أناكسيمينس

أناكسيمينس (586-626ق.م) ترك خلفه كتابًا فقدناه مبكرًا، أي قبل ألفي عام. لا نعرف عنه الكثير، لا عن حياته ولا عن فلسفته، وما نعرف عنه يعود إلى كتابات أرسطو وأفلاطون وشيشرون وديوجين. فسر العالم تفسيرًا ماديًا محضًا، لم يترك للإله دورًا يلعبه في عملية الخلق رغم أنه لم ينكر وجوده. نظريته الأهم هي التي تقول بأن الوجود قائم على عمليتي التخلخل والتكثيف، وأن كل الموجودات لها الجوهر ذاته وهو الهواء الذي يتحرك ويصير بلا نهاية وبلا زمن.

المصادر:

  1. جان بيار فرنان، أصول الفكر اليوناني، ترجمة سليم حداد،ط2، مؤسسة مجد، 2008، ص118.
  2. https://www.philosophybasics.com/philosophers_anaximenes.html
  3. https://iep.utm.edu/anaximen/
  4. https://www.ancient.eu/Anaximenes/

الفيلسوف أناكسيماندر والأبيرون

هذه المقالة هي الجزء 2 من 9 في سلسلة مدخل إلى فلسفة ما قبل سقراط

الفيلسوف أناكسيماندر والأبيرون

إن الخوض في بدايات الفلسفة يكون مقلقًا لعدم وجود مصادرها بين أيدينا، إلا أن هذه المجازفة لا تخلو من المتعة. فحين نقطع مسافة زمنية من ألفي وخمسمائة عام نكون قد وصلنا إلى المعركة الأشرس للفكر ضد الأسطورة. شهدت بلاد الإغريق الكثير من الحروب، الأهلية تارة ومع الفرس تارة أخرى، إلا أن الحرب الأهم والأكثر إثارة كانت تلك التي أدت إلى بزوغ شمس التفلسف في ظلمة الإيمان. كان الفيلسوف أناكسيماندر قد رفع سقف الحرب إلى مستوى الأبيرون، حيث الموجود ينزع نفسه من العدم. في المقال هذا سنفتح أفق السؤال الفلسفي على دوامة اللانهائي لولادة المزيد من المعرفة بالفيلسوف الملطي الثاني.

الطريق إلى أناكسيماندر

عاش أناكسيماندر ما بين عامي (546_610) ق.م. تقريبًا، وكان معاصرًا لطاليس ويصغره سنًا. لا توجد سوى قطعة واحدة باقية ومنسوبة إلى أناكسيماندر فضلًا عن تعليقات من الآخرين مثل أرسطو الذي عاش من بعده، بقرنين من الزمن تقريبًا.(1)

هو أول فيلسوف قد كتب أطروحة فلسفية وكانت تسمى (حول الطبيعة). فُقد هذا الكتاب مع أنه كان متاحًا في زمن أرسطو و(ثيفراستوس-Theophrastus). يُقال قد عثر على نسخة من هذا الكتاب في مكتبة الإسكندرية، وتفيد بعض الأدلة بأنه كان متوفرًا في مكتبة تاورمينيا في صقلية.(2)

حاله حال طاليس، كان قد انشغل بالبحث العلمي أيضًا، وينسبون إليه الفضل في تصميم خريطة للعالم وكان يرى بأن الأرض أسطوانية الشكل.

أناكسيماندر ضد طاليس

كان يعتقد مواطنه طاليس بأن الماء أصل العالم وما الظواهر المختلفة إلا صور لحالات الماء. اعترض أناكسماندر وكانت حجته في ذلك أن العنصر الأولي لا يمكن أن يكون الماء ولا عنصرًا آخر غير الماء؛ لأنه لو كان بين هذه العناصر عنصر أولي لاكتسح العناصر الأخرى. يروى عنه أرسطو أنه قال: إن هذه العناصر المعروفة لنا  يعارض بعضها بعضًا؛ فالهواء بارد والماء رطب والنار حارة، وعلى ذلك فلو كان أحد هذه العناصر لانهائيًا لزالت العناصر الباقية اليوم، وإذن فلا بد أن يكون العنصر الأولي محايدًا في هذا الصراع الكوني.(3)

الأبيرون

إن الكائن الحقيقي [المبدأ الأول] لا يمكن أن يملك أية صفة محددة، وإلا فأنه يكون قد ولد ويصبح بذلك محكومًا بالزوال والموت ككل الأشياء الأخرى. ولكي لا تنقطع الصيرورة، فلا بد للكائن الأصلي إلا أن يكون غير محدد. فخلود الكائن الأصلي يقوم على خلوه من الصفات المحددة التي تقود إلى الموت.(4)

المبدأ الذي يفترضه الفيلسوف أناكسماندر هو الأبيرون، وهو يعني حرفيًا، اللانهائي على المستوى الزماني، اللامحدود من حيث المكان، اللامتعين من حيث الماهية. إن الأبيرون الذي يمتلك صفات إلهية، يحرك دوامة الوجود الدائرية بشكل أبدي، والموجودات تظهر بانفصالها وخروجها من تلك الدوامة.

إن عملية الانفصال هذه أبدية بالضرورة، وذلك لأن دوامة الأبيرون لا نهاية لها، وبالتالي فالموجودات والعوالم لا تكف عن الولادة والفناء في الأبيرون من جديد. (2). ومن الجدير بالذكر هو أن هذه الفكرة تؤدي إلى الإمكانات غير المحددة للأبيرون في خلق الأكوان والعوالم.

العدالة الكونية:

ما هو مربك في نظرية الخلق عند أناكسيماندر، هو أن الوجود/الحياة يمثل الخروج من قرار الأبيرون ومشيئته، فالأبيرون دون أن يقول (كن) تكون الكائنات، وبالتالي فالوجود خطيئة، والكائن/الموجود محكوم عليه بالعودة إلى الأبيرون والفناء فيه. إن كل الصيرورة طريقة مذنبة للتحرر من الوجود الأبدي، وهي ظلم يجب التكفير عنه بالموت.(5).

يؤمن الفيلسوف أناكسيماندر بعدالة الأبيرون المطلقة وكذلك بالصراع المتأصل في الوجود. فكل عنصر من العناصر لا يكف عن السعي في سبيل اتساع رقعة مُلكه، غير أن ثمة نوعًا من الضرورة أو القانون الطبيعي لا ينفك يرد التوازن إلى حيث كان. العدالة هنا معناها عدم مجاوزة الحدود المفروضة منذ الأزل.

أناكسيماندر ونظرية التطور:

قبل داروين ولامارك، كان الحديث عن تطور الكائنات سيبدو جنونًا، إلا أن أناكسيماندر كان قد فجر فكرة التطور في الوسط الإغريقي قبل ألفين وخمسمائة عام في سياق تناوله لفكرة الخلق والأبيرون. ما لدينا مما قاله في التطور قليل جدًا، لكن مع ذلك تستحق الفكرة التأمل فيها.

يقول بأن الأرض في البداية كانت عبارة عن سائل، بدأت الأرض بالتجمد مع الوقت، وبفعل الحرارة تبخر البعض من سائلها مشكلًا طبقات الهواء. نتيجة تفاعل الضدين، الحرارة والبرودة، تكونت أولى الكائنات الحية. كانت الكائنات بسيطة في البداية ومن ثم تطورت وتأقلمت مع البيئة. فسلف الإنسان كان سمكة وبعد انحسار الماء تأقلمت بعض الأسماك مع البيئة الجديدة. (6) إذ أن التطور بدأ من البحر بإتجاه اليابسة.

اقرأ أيضًا الفيلسوف طاليس وبداية القول الفلسفي

أناكسيماندر علامة فلسفية بارزة

رغم قلة معرفتنا بفلسفة أناكسيماندر إلا أنه يعد علامة فلسفية بارزة، ففكرة الأبيرون ما زالت تحتفظ ببريقها ولو بشكل شاعري. يعلق نيتشه على أسلوبه قائلًا: فكره وأسلوبه يشكلان حدودًا قصوى على طريق الحكمة الفائقة. ما يميز طرح أناكسيماندر حول الخلق والكون يمكن تأويله في سياق أخلاقي أيضًا، وكان نيتشه أول من توقف عند ذلك بإعجاب.

المصادر:

  1. غنار سكيربك ونلر غيلجي، تاريخ الفكر اليوناني، ترجمة د.حيدر حاج اسماعيل، ط1، المنظمة العربية للترجمة، 2012، ص47.
  2. https://iep.utm.edu/anaximan/
  3. برتراند راسل، تاريخ الفلسفة الغربية،الكتاب الأول، ترجمة زكي نجيب محمود، ط1، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2010، ص65.
  4. فردريك نيتشه، الفلسفة في العصر المأساوي الإغريقي، ترجمة سهيل القش، ط2، المؤسسة الجامعية، 1983، ص51.
  5. محمد حسن النجم، السفسطائية في الفكر اليوناني، ط1، بيت الحكمة العراقي 2008، ص35.
  6. https://www.famousscientists.org/anaximander/

الفيلسوف طاليس وبداية القول الفلسفي

هذه المقالة هي الجزء 1 من 9 في سلسلة مدخل إلى فلسفة ما قبل سقراط

الفيلسوف طاليس وبداية القول الفلسفي

إن البحث في فلسفة فيلسوف ما يمثل مشقات كبيرة، منها صعوبة إيجاد رأس الخيط في فلسفته والقبض على قلبها النابض. لكن في حالة فيلسوف لا نكاد نعرف عنه شيئا تتحول الصعوبة إلى نوع من الاستحالة والخيوط إلى طين وماء. كل البدايات تركت خلفها علامات دالة وكأنها كانت على وعي بما ستفعل بها الصيرورة، ومن خلال تلك العلامات تستمر في ترديد قولها لتجذب إلى نفسها المحاولات البحثية. غير أن بداية الفلسفة لم تترك لنا سوى ما يشبه أنين يصعب الكشف عنه وسط صراخ التاريخ وصخب جريان الزمن. في هذا المقال سنسعى إلى عرض بداية القول الفلسفي والفيلسوف طاليس.

جدل البداية

تثير موضوعة بداية الفلسفة في الجدالات الفكرية والتاريخية خصامات ثقافية وحتى سياسية في تحديد هوية المولود الفلسفي الأول. معظم فلاسفة الغرب ينسبون الفلسفة إلى الإغريق حتى وهم يتحدثون عن تأثير الثقافات الشرقية في الحضارة الإغريقية وفكرها. من أبرز الأصوات الداعمة لهذا الاتجاه، أرسطوطاليس، وهيغل، ونيتشه، وهايدغر، وراسل، ودولوز. في حين يشك بعض المؤرخين والمفكرين في هذا التحديد ويزعمون أن الفلسفة قد شقت خطاها من الشرق.

يذكر تلميذ فيثاغورس “يمليخيا” إن معلمه قد زار طاليس، وبعد أن وجده لا يشبه الشباب الآخرين، حثه على الإبحار إلى مصر والاختلاط، بالدرجة الأولى، في ممفيس وديوسبول، مع الكهنة حيث سيحصل منهم على كل ما يجعل منه حكيمًا(1). وتؤكد جميع المصادر أن طاليس نفسه كان قد سافر إلى مصر وبابل وفيهما تعلم الحكمة.

على جانب زيارات الفلاسفة الأوائل إلى الشرق، يتحجج البعض بأن الفلسفة والفكر الشرقي قد سبقا الفكر الإغريقي بقرون، فالألواح التي وصلت إلينا من بلاد الرافدين ومصر إلى جانب الكتابات المقدسة كآفستا والعهد القديم تحتوي على حكمة ومعرفة واسعة جدا في الأخلاق وعلم الطبيعة ومبحث المعرفة. غير أن فلاسفة الغرب يعتبرون الفكر الشرقي مجرد درب من دروب الإيمان، وحجتهم حول الأصل الغربي للفلسفة هي أن الفلسفة عكس ذلك تماما. يقول نيتشه: “يبرز طاليس كمعلم مبدع بدأ بسبر غور الطبيعة دون الاستعانة بالروايات الخيالية…فهذا هو بالتحديد الخط الذي يتميز به الفكر الفلسفي”.(2)

محاولة البحث عن طاليس

لا نعرف بعد إلا القليل عن حياة طاليس. المقتطفات الواردة عنه في كتابات أرسطو وهيرودوت وغيرهما من الفلاسفة والمؤرخين لا يأخذها أغلبية الباحثين على محمل الجد. كأية شخصية قديمة، هناك روايات أسطورية حول طاليس ولا تفتح لنا أي أفق في حياة الفيلسوف الأول. حسب المؤرخ ديوجين لايرتيوس (Diogenes Laërtius) ولد طاليس في دورة الألعاب الأولمبية التاسعة والثلاثون، حوالي 624 ق.م وتوفي في الدورة الثامنة والخمسين، حوالي 545 ق.م (3).

كانت انشغالات طاليس واسعة، فكان باحثًا في جميع مجالات المعرفة والفلسفة والتاريخ والعلوم والرياضيات والسياسة والجغرافيا والفلك. قدّم نظرياته في شرح العديد من الظواهر الطبيعية والجوهر الأساسي وشكل الأرض (4)

إن غياب الأدلة المباشرة لا يعني إنه لم يكن فيلسوفًا وعالمًا متميزًا. فمن جهة، نستنتج من اهتماماته ورحلاته إلى الشرق بأنه كان كثير المعرفة وواسع الإطلاع وشديد الشغف بهما. من جهة أخرى، فكون طاليس مؤسس المدرسة الطبيعية يعني أنه كان ذو تأثير كبير على التفكير الإغريقي.

التحرر من التصور الأسطوري

بداية القول الفلسفي هي  تحرر العقل من الأسطورة، ومن الأسئلة التي تلقي بظلالها على النقاش الفلسفي هو ماهية مصادر طاليس المعرفية. زار طاليس كل من بابل ومصر، ويقال بأن فكرته الرئيسة التي تقول بأن الماء هو المبدأ الأول كانت فكرة معروفة لدى البابليين (5). إلا أن ما يميز طاليس كما يؤكد أرسطوطاليس ويضعه في مرتبة الفيلسوف الأول هو أنه قد انتقل من التصور الأسطوري إلى التفكير المنطقي. في بلاد الأغريق شأنها شأن باقي امصار العالم، كان يُعتقد بأن الكون مخلوق وله خالق ولم يفكر الإغريق في طبيعة الكون إلا في سياق إيمانهم بالآلهة. أما طاليس فقدم تفسيرات قائمة على الملاحظة حول أصل الكون والمبدأ الأول (4).

فلسفة طاليس

المبدأ الأول عند طاليس

 كل ما نعرفه عن فلسفة طاليس هو أنه قال بأن المبدأ الأول هو الماء، أي أن الماء هو الأصل وأن العالم بتنوعه ما هو إلا حالات الماء. يقول نيتشه عن ذلك: “إن ما دفعه إلى ذلك إنما هو مسلمة ميتافيزيقية…إنها مسلمة أن (الكل هو واحد)”.

هذا المبدأ يؤكد بأنه لا فرق بين هذا الإنسان وتلك الشجرة وذلك الحجر إلا اختلاف في كمية الماء التي يتركب منها هذا الشيء وذاك، فالماء يصعد في الفضاء بخارًا ومن ثم يعود إلى الأرض مطرًا ويصيبه برد الشتاء فيصير ثلجًا. فكان الماء عند طاليس هو المادة الأولى التي صدرت عنها الكائنات وإليها تعود (6).

حسب راسل فأن قول طاليس بأن كل شيء مصنوع من الماء يمكن اعتباره فرضًا علميًا (7). بينما نيتشه له قول آخر، فيقول عن هذا المبدأ:

أولًا لأن هذه الجملة (الماء أصل كل الأشياء) تتناول بطريقة ما أصل الأشياء. ثانيًا لأنها منعزلة عن السرد الخيالي. ثالثًا لأنها تتضمن فكرة أن الكل واحد. حسب السبب الأول، ما زال طاليس ينتمي إلى طائفة المفكرين الدينيين والخرافيين، لكنه يخرج عن هذه الطائفة للسبب الثاني ويظهر لنا كمفكر في الطبيعة، أما السبب الثالث يجعل منه أول فيلسوف يوناني.(8)

الأخلاق عند طاليس

إن مبحث الأخلاق لم يلق اهتمامًا كبيرًا قبل سقراط رغم أن الأساطير اليونانية وقصائد هومر وهزيود ركزت على الأخلاق كثيرًا. لكن، ثمة إشارة واضحة في كتاب يمليخيا (فيثاغورس – حياته وفلسفته) على نظرية طاليس في الأخلاق. فيقول يمليخيا: ” تلقى (فيثاغورس) من طاليس عددًا من النصائح المفيدة، لا سيما تقدير الوقت، والامتناع عن النبيذ واللحوم وتلافي التخمة وضرورة الاعتدال في تناول الأطعمة اللذيذة”(9).

هذه النصائح والتي صارت بعد ذلك بمثابة نهج أخلاقي في فلسفة فيثاغورس، تقدم لنا صورة عن أخلاقيات طاليس. فيظهر كأنه أشبه بحكيم ومتصوف شرقي منه إلى فيلسوف يوناني.

اقرأ أيضًا الفلسفة الرواقية ووصفة حياة سعيدة

الفيلسوف طاليس وبداية القول الفلسفي

تحمل الفلسفة هوية غربية، نظرًا لما تملك من خصائص لم تتوفر في الشرق. لا يعني ذلك بأن الشرق لم يكن يفكر، إذ قدمت الحضارات الشرقية إسهامات كبيرة في شتى المجالات المعرفية والعلمية، إلا أن التفلسف لا يعني التفكير كما يقول دولوز. يبدأ القول الفلسفي مع طاليس، بسيطًا وغامضًا في آنٍ، طافيًا على السطح وعميقًا بنفس الرهبة. من تلك البساطة والعفوية بدأت الفلسفة تتوغل في مفاصل حضارتنا البشرية وتكشف الأسرار تارة وتلقي بالمعروف في المجاهل تارة اخرى.

المصادر

  1. يمليخا، فيثاغورس حياته وفلسفته، ترجمة زياد الملا، دار أمل الجديدة، ط1، 2017، ص17-18.
  2. نيتشه، الفلسفة في العصر المأساوي الأغريقي، ترجمة سهيل القش، المؤسسة الجامعية، ط2، 1983، ص49.
  3. brittannica
  4. internet Encyclopedia of Philosophy
  5. ancient
  6. زكي نجيب، قصة الفلسفة اليونانية، مؤسسة هنداوي، 2017، ص22-23.
  7. برنارد راسل، تاريخ الفلسفة الغربية – الكتاب الأول، ترجمة زكي نجيب، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2010، ص63.
  8. نيتشه، مصدر سابق، ص46.
  9. يمليخا، مصدر سابق، ص19

ثلاثة مباحث في فلسفة أبيقور

ثلاثة مباحث في فلسفة أبيقور

حين نلقي نظرة في تراثنا المعرفي، نستسلم لغبطة كبيرة لما بين أيدينا من كتب استطاعت الصمود لأكثر من ألفي عام. لا يزال بإمكاننا تسجيل حضورنا في بلاد أوروك لنقرأ كلكامش، ونسير مع سقراط في أثينا وهو يجادل الفلاسفة والسفسطائيين. أثرت تلك الكتب بشكل رهيب في واقعنا الثقافي، غير أن النظرة لو طالت سيأخذنا الحزن بعيدًا. ملايين الكتب كان مصيرها الفناء بسبب حروب سياسية ودينية وعوامل بيئية، فالكثير من الأسماء اختفت من ذاكرة التاريخ. كان أبيقور قد ألف 300 كتابًا، لم يصلنا منها سوى بعض الشذرات والرسائل. المصدر الأكثر أهمية في فلسفة أبيقور بين أيدينا الآن هو قصيدة لوكريتوس (حول الطبيعة). في هذا المقال سنسلط الضوء على ثلاثة مباحث من فلسفة أبيقور.

لمحة عن أبيقور ومدرسته

ولد أبيقور في (ساموس – Samos) عام 342 ق.م من عائلة فقيرة جدًا. وفي ساموس كان قد استمع إلى فيلسوف أفلاطوني يدعى (بامفيلوس – Pamphilus)  وبعد ذلك إلى (نوزيفان – Nousiphanes) من أتباع ديمقريطس(ص 535 تاريخ). إلا أن أبيقور يتباهى بأنه طفق يتفلسف وهو في الرابعة عشرة من العمر(1).

أسس أبيقور مدرسته عام 306 ق.م (311 حسب راسل) تزامنًا مع تأسيس المدرسة الرواقية. بينما سارت الرواقية تتطور في مذهبها الفلسفي في طريق طويل من مراحل التطور(2)، بقت المدرسة الأبيقورية قائمة نحوًا ستة قرون، وهو الذي وضع أساس مذهبه وأكمله ولم يزد معتنقو مذهبه شيئًا ذا قيمة ولا غيروا من آرائه (3).

لم يكن أبيقور يمثل مؤسسًا لمدرسة حاله حال زينون وحسب. ففي حين نجد في الرواقية من تجاوز بداياتها على نحو ديمقراطي وأضاف عليها، كان أبيقور يمثل شخصية مقدسة بالنسبة لأتباعه. بعد مرور مئتي سنة من وفاة المعلم وصفه لوكريتوس بالإله في أبيات شعرية:

(كان إلهًا، أجل إلهًا، فهو أول من اكتشف ذلك الاسلوب في الحياة الذي يقال له اليوم الحكمة، وهو من نجانا بفنه من عواصف عاصفة ومن ليل دامس وجعل حياتنا تدور في هدوء وضياء عظيمين.(4).

وكما كان بسيطًا في فلسفته، كان بسيطًا جدًا وهو يواجه الموت، ففي اليوم الأخير له في الحياة كتب لأحد اتباعه: “أكتب إليك في نهاية يوم سعيد من أيام حياتي، فأوصابي لا تفك طوقها عني وما عاد في مقدورها أن تزيد عما هي عليه؛ كل ذلك أقابله بفرح الذي أسكنته في نفسي ذكرى مناقشتنا الماضية.(5)

إقرأ أيضًا الفلسفة الرواقية ووصفة حياة سعيدة

أصل المجتمع:

إن النظرية التي يفسر فيها أبيقور أصل المجتمع واللغة والدين والقانون والملكية قريبة جدًا من الطرح الماركسي حول هذه المسائل.

في البداية، كان يعيش البشر في عزلة ويتكاثرون عشوائيًا، وما كان بإمكانهم أن يتواصلوا لفظيًا ولا كانت لهم مؤسسات إجتماعية. ويعزو أبيقور نجاة الإنسان من ويلات الطبيعية إلى القوة الجسدية الجبارة التي امتلكها عصرئذ، حيث كان في صراعات مستمرة. بفضل اكتشاف النار وظهور الأسرة والمشاعر الحارة تجاه الأزواج والذرية خفت حدة الصراعات تلك. في المرحلة هذه كان البشر في وضع يسمح لهم بالإتحاد ليكونوا في مأمن من أخطار الطبيعة كالوحوش البرية. فقاموا بتطوير أنواع مختلفة من المهارات التقنية، مثل الزراعة، بناء المنازل وكذلك اللغة.(6)

أن الأسماء في البداية نشأت بشكل طبيعي، بحيث كلما تعرض الإنسان إلى مثير من المثيرات، اطلق صوتًا معبرًا له. ونظرًا لإختلاف خصائص الإنسان الفيزيائية من بيئة لأخرى اختلف الاصوات التي انتجها الإنسان إستجابة للمثيرات، وذلك يعلل وجود لغات مختلفة. والنقاشات النظرية أدخلت مفردات جديدة في اللغة حتى وصلت لحالة متقدمة وهذا ما ساعد الناس في تكوين صداقات وتحالفات جديدة مما حقق المزيد من الأمن الإجتماعي.(6)

لم تكن هناك منافسة على السلع بعد، وبالتالي لم تكن هناك هناك صراعات وحروب. ومن جهة أخرى كانت المفردات اللغوية ما زالت تتوافق مع موضوعاتها البدائية ولم تكن بعد مصدرًا للإرتباك العقلي. ولكن بفضل التراكم التدريجي للثروة ، جاء الصراع على السلع ليؤثر على العلاقات الاجتماعية ، وظهر ملوك أو طغاة حكموا على الآخرين ليس بحكم قوتهم الجسدية ولكن بفضل الذهب. تم الإطاحة بهؤلاء المستبدين بدورهم، وبعد فترة من الفوضى العنيفة، وجد الناس أخيرًا حكمة العيش في ظل حكم القانون.(6)

الأخلاق:

حالها حال الرواقية، تختصر الأبيقورية الفلسفة في الأخلاق، وتعتبر الأخلاق كممارسة حياتية سليمة للوصول إلى حياة سعيدة خالية من الألم. يترتب على ذلك ابتعاد المدرسة هذه من كافة أشكال التعقيد وإبعاد الآلهة والتصورات الميتافيزيقية والمفاهيم المجردة عن الحالة الإنسانية.

تدور الأخلاق الأبيقورية حول فكرتين محوريتين: اللذة و(الطمأنينة-Ataraxia)، بشكل، تكون الطمأنينة تابعة للذة التي هي غاية. غائية اللذة وضعت الفلسفة الأبيقورية في مرمى الانتقادات ابتداءًا من الرواقية إلى يومنا هذا، فاللذة كانت ولا زالت قرينة الشر. غير أن أبيقور كان قد برر موقفه: “عندما نقول أن اللذة غاية لا نقصد الكلام عن لذة الفساق والمجانين”(7).

يجعل أبيقور من الرغبات مراتب؛ فهناك الطبيعية والضرورية كالرغبة في الاكل، وهناك طبيعية وغير ضرورية كالرغبة في نوع معين من الطعام، وهناك رغبات لا هي طبيعية ولا ضرورية كالرغبة في تاج أو تمثال. والحكيم هو من يعلم أن أعلى درجات اللذة يمكن بلوغه بإشباع النوع الأول من الرغبات. (7)

وحول علاقة اللذة بالسعادة والخير يقول أبيقور: “إننا نؤكد أن اللذة هي بداية وهي غاية الحياة السعيدة. فلو تعرفنا على ذلك على أنه الخير الأول، الفطري فينا، وأنها القاعدة التي ننطلق منها في تحديد ما ينبغي اختياره وما ينبغي تجنبه”(8).

وكون اللذة غاية لذاتها، لا يعني أن الفضائل الأخرى ليس لها أي اعتبار بل أن اللذة متجذرة فيها. فيقول عن ذلك: “ليس من الممكن أن نعيش في سعادة دون أن نعيش على نحو شريف، وعادل وحكيم، كما لا يمكن أن نعيش على نحو شريف وعادل وحكيم دون أن تكون سعيدًا. فالرجل العادل هو أكثر الناس تحررًا من القلق والإنزعاج، أما الرجل الظالم فهو فريسة دائمة لهذا القلق والإنزعاج”(9).

الميتافيزيقيا:

كان أبيقور شديد الحذر من إدخال دور الآلهة في فلسفته وشؤون الناس، لكنه درس ظاهرة الدين ووجود الآلهة دراسة دقيقة. فسر السلوك البشري البدائي وعلاقته بظهور الحالة الدينية وتطورها. فالظواهر الطبيعية كالرعد والبرق تُفسر على أن الآلهة غاضبة على خطايا البشر، في حين أن الناس البدائيين في مراحل ما قبل ظهور المجتمع رغم شعورهم بالرعب إزاء الظواهر الطبيعية وتفسيرهم لها بأنها من صنع الآلهة لم يحسبوها كعقوبة. رغم أن موقف أبيقور من الآلهة غير واضح لكنه أقرب إلى بروتوغوراس، فهو ينفي تدخل الآلهة في شؤون البشر.(6).

بسبب موقفه الحاد من الآخرة والعناية الإلهية وخلود النفس وعقاب الآلهة، كان يتم إتهامه بالإلحاد. أن أبيقور لا ينفي وجود الآلهة، لكن يضعها في عزلة تامة عن البشر وحياتهم. الآلهة كما يتصورها أبيقور، مختلفة عن المفهوم الشائع، فهو يقول بأن الآلهة خالدة في الفضاء البعيد ولا تهتم بأمرنا.(10)

نجد أن هذا الاهتمام الذي يعطيه أبيقور للآلهة آت عبر تفسيره الرئيس للألم ومشكلة اجتناب الخوف. يرى بأن الدين والخوف من الموت هما من أكبر مصادر الخوف، وهما متصلان أحدهما بالآخر. فالدين يشجع على الرأي القائل بأن الموتى أشقياء. أما أبيقور يجد في تدخل الآلهة في مجرى الطبيعة مصدر فزع وأن الخلود يقضي على كل أمل في النجاة من الألم.(11)  

الخلاصة:

إن المدرسة الأبيقورية استمرت لستة قرون إلا أن روح المذهب بقت كما هي، وظل التلاميذ يدافعون عن نظريات المعلم المبارك. هذه المدرسة يمكن القول بأنها مطبخ  السعادة البشرية، فهي لم تخوض معاركها في تخوم المنطق والرياضيات والمعرفة الخالصة. قالت قولها في الحياة ببساطة مفرطة، إن الحياة السعيدة هي تحقيق اللذة وتثبيط الألم، واللذة تكون في أبسط صورها. هذه اللذة مثلت الخيط الذي يربط كافة المباحث ببعضها، لا سيما المباحثة الثلاثة الرئيسة في فلسفة أبيقور.

المصادر:

  1.  امييل بريهييه، الفلسفة الهلنستية والرومانية، ترجمة جورج طرابيشي، الطبعة الأولى، دار الطليعة، ص94.
  2. برتراند راسل، تاريخ الفلسفة الغربية، الكتاب الأول، ترجمة زكي نجيب، الهيئة المصرية العامة 2010، ص375.
  3. زكي نجيب محمود وأحمد امين، قصة الفلسفة اليونانية، مؤسسة هنداوي، ص182.
  4. اميل برهييه، مصدر سابق، ص96-97.
  5. نفس المصدر، ص 124.
  6. https://plato.stanford.edu/entries/epicurus/#SociTheo
  7. اميل برهييه، مصدر سابق،ص110.
  8. فردريك كوبلستون، تاريخ الفلسفة، المجلد الأول، ترجمة إمام عبدالفتاح إمام، ط1، المشروع القومي، ص542.
  9. نفس المصدر، ص544.
  10. https://iep.utm.edu/epicur/#SH3e
  11. برتراند راسل، مصدر سابق، ص382.

الفلسفة الرواقية ووصفة حياة سعيدة

الفلسفة الرواقية ووصفة حياة سعيدة

إن الفلسفة تتخطى دومًا التخوم الذي يتم رسمه لها، ولا أمل بمستقبل أي تحديد، فهي تجد فريستها في الغاب المجهول. يساعدنا الشمول الفلسفي في إيجاد أي طريق للوصول وإلى أي أين نقصده. الفلسفة الرواقية هي من الفلسفات التي من شأنها أن تفند الإدعاءات التي ترى في الفلسفة كهوة وقطيعة مع الواقع المعاش. فالفلسفة الرواقية تقدم وصفة لحياة سعيدة إن صح التعبير.

في العصر الهلنستي شديد الخصوصية تبرز الرواقية على نحو مختلف في الفضاء الفلسفي العام المحتكر أفلاطونيًا وأرسطيًا. تجر الرواقية الفلسفة إلى شؤون حياة الفرد العامة حيث هواجس الإنسان الأصيلة المتمثلة بعيش حياة مستقرة لا أكثر. نحاول في هذا المقال أن نتناول المباحث الأهم في الفلسفة الرواقية.

لمحة عن العصر الهلنستي:

بعد وفاة الإسكندر الأكبر عام 320 ق.م. تبدأ مرحلة جديدة في بلاد الإغريق وأسقاع مختلفة من العالم، الحقبة الهلنستية. الطرق التي فتحها الفلاسفة الإغريق تصبح مؤهلة لخطوات أقدام جديدة وغير إغريقية. هذه الحقبة التي أمست فيها الثقافة اليونانية ملكًا مشتركًا بين جميع بلدان البحر الأبيض؛ بعد وفاة الإسكندر وحتى الفتح الروماني انتشرت الثقافة اليونانية رويدًا رويدًا، أمتدادًا من مصر وسوريا ووصولا إلى روما وأسبانيا. كانت أداة هذه الثقافة هي القونية وهي لهجة دارجة من اللغة اليونانية.(1)

في هذه الحقبة، ظلت أثينا مركزًا للفلسفة؛ لكن ليس بين هؤلاء الفلاسفة أثيني واحد، ولا حتى إغريقي واحد. فجميع الرواقيين المعروفيين بهذا الإسم في القرن الثالث قبل الميلاد كانوا من الأغراب والدخلاء قد قدموا من الأمصار الواقعة عند تخوم الحضارة اليونانية.(2)

معنى الرواقية:

الرواقية (ٍStoicism) مدرسة فلسفية من الحقبة الهلنستية أسسها زينون القبرصي حوالي 300 ق.م(3). لغةً، اشتقت من كلمة الشرفة أو الرواق (stoa poikilê) في أثينا وكانت  مزينة بلوحات جدارية حيث كان اعضاء المدرسة الرواقية يجتمعون ويقدمون محاضراتهم.(4)

الرواقيون:

 زينون هو مؤسس المدرسة وهو من قبرص، وخلف زينون في رئاسة المدرسة كليانتس، وخلفه كرسبوس. وبعد وفاة هذا الأخير خلفاه كل من زينون الطارطوسي وديوجينس السلوقي.(5) أما بالنسبة للرواقية الرومانية فمن أبرز أعلامها سينيكا و شيشرون وبانيتسوس وبوسيدونيوس.(5)

مصادر معرفتنا عن الرواقية:

ثمة مشكلة كبيرة نواجهها بهذا الخصوص، فليس بحوزتنا عمل واحد كامل من اعمال رؤساء المدرسة الرواقية الثلاثة: زينون، كلينتاس وكريسبوس(4). يقال بأن كريسبوس وحده قد ألف 165 كتابًا، ولم يبقى من كل تلك الأعمال سوى شذرات. الأعمال الكاملة التي لدينا الآن من التراث الرواقي تعود إلى الفترة الرومانية، سينيكيا، أبيكتيتوس والإمبراطور ماركوس وهي أعمال أخلاقية صرفة(4).

الفلسفة والحياة:

رغم التأثير الأفلاطوني الواضح على بلاد الإغريق عصرئذ، إلا أن الرواقية قد شقت طريقًا جديدًا في الفلسفة. لا تعتبر الرواقية الفلسفة تسلية ممتعة أو حتى هيئة معرفية خالصة، إنما كطريقة عيش أو ممارسة حياتية مفيدة وذات معنى(4). لذلك، نجد بأنها تعارض كل من الأفلاطونية والأرسطية.

العلاقة التي تؤسسها الرواقية مع المعرفة تنطلق من كون أن المعرفة والسلوك في إرتباط وثيق، فمعرفتنا الصادقة بالعالم تؤدي إلى سلوكيات مناسبة. كما ذهبوا إلى أن مبحثي الفلسفة، المنطق والفيزياء مرتبطان وتركيزهما الأساسي هو الأخلاق(6).

وإذا ما تأملنا حياة الرواقيين نجد بأنهم كانوا أكثر إنشغالًا بالفضيلة لا بالمعرفة المحض كما هي الحال في التراث الفلسفي. وعلى ذلك يقول سينيكا: “الفلسفة ليست أي شيء، إنما هي العلة الطبيعية للحياة، أو المعرفة الحلوة بالحياة، أو هي فن تنظيم الحياة الطبيعية. لن تخطأ إذا قلت أن الفلسفة هي قانون الحياة”(7)

نظرية المعرفة:

إن الرواقية تختار الجبهة المضادة للجبهة الأفلاطونية، فهي تستبعد أن يكون الواقع محض ظلال كما ذهب أفلاطون. فالبنسة للرواقية معرفة الواقع ممكنة وذلك من خلال التجربة المباشرة معه وذلك من خلال الإدراك الحسي.

خلال التاريخ الفلسفي، كانت الحقيقة تمثلًا هاجسًا كبيرًا، فمن الفلاسفة من قال بإستحالة الوصول إليها ومنهم من توكل على العقل. إلا أن الرواقية لا تحسب حسابًا كبيرًا للحقيقة طالما أنها مستقرة في الإدراك الحسي ولا تتطلب صفة لا تتوافر لدى الفرد العادي(8). غير أن هذا لا يعني بأن نظرية المعرفة لدى الرواقيين واضحة جدًا، فهم أولًا يرفضون الإستقلال الذاتي للمواضيع الفلسفية، وثانيًا يرفضون إمكانية تحقيق المعرفة في حقل معين دون غيره، ويزعمون بأن الشخص الخير هو الذي يفهم الطبيعيات وجيد في المنطق أيضًا.

المعرفة تنطلق من الشيء الحسي الذي يترك صورة في النفس، وهذه الصورة قد تكون مموهة أحيانًا. ففي تلك الحالة التمثيل المحيط هو المعيار الذي بإمكانه إدراك الصورة الصادقة وللوصول إلى إدراك أعمق فالعلم هو السبيل. كما تزعم بأن الشيء الحقيقي تبعث فينا شعورًا قويًا وواضحًا وإعتقادًا بأنها حقيقة. ما يجعل من هذه النظرية ألا تبدو متماسكة جدًا هو أنها تارة تبدو حسية وتارة تجريبية وتارة أخرى حدسية.(6)

الأخلاق:

الإعتبارات الرواقية للأخلاق تتسم بطابع مركزية الأخلاق في الفلسفة، لكونها تمثل الجهاز التنظيمي في فن العيش. لو شئنا أن نطرح في المدرسة الرواقية السؤال عن كيفية عيش حياة سعيدة، سيكون جواب زينون (الجريان الحسن للحياة) أو (العيش في وفاق) وسيجيب كريبسيبوس (العيش وفقًا ما تشاء الطبيعة)(4). النظرة الرواقية هذه آتية من الرؤية التي تفيد بأن الكون معقول والسلوك الجيد هو بدوره معقول.

يدعي الرواقيون أن ما هو خير مفيد لمالكه في كل الظروف، ولتفادي التناقض تصنف الرواقية بعض الأشياء بين الجيد والسيء. أما الفضائل الكبرى التي من شأنها أن تتضمن حياة خيرة فهي: الحكمة، العدالة، الشجاعة والإعتدال.(4)

قاعدة العيش وفقًا للطبيعة:

التصور الرواقي هذه يختلف عن التصور الكلبي القديم، ذلك لأن تصور الكلبية للطبيعة كان تصورًا بدائيًا وغريزيًا. في حين أن الرواقية تجد في الكون ضربة من العقل، أي هو معقول لكونه محكومًا بالقانون الإلهي، وهذا القانون لا يمكن أن يكون غير صحيحًا. فالخضوع للنظام الطبيعي هو الخضوع للعقل الإلهي. يمكن القول بأن أخلاق الرواقية تتسم بطابع الحتمية، ذلك طالما أن الإنسان جزء من النظام الطبيعي فلا يمكن له أن يخطأ، فذهب زينون إلى أن أكل لحم الإنسان، وزنا المحارم والمثلية الجنسية ليس خطأ في ذاتها(9). لكن ما هو ليس بخطأ لا يعني أنه من الفضائل، فالأمور الطبيعية هذه لا هي من الخيور ولا الشرور. فالإنسان يختلف عن سائر الموجودات لكونه يمتلك عقلًا، وهذا العقل هو الذي يؤدي إلى الفضيلة، وهذا يعني إن مفهوم الفضيلة إنسانوي بحت.

الخلاصة:

تقدم لنا الفلسفة معونة كبيرة عندما يتعلق الأمر بكيفية طرح أسئلتنا، كما تساعدنا في الحصول وابتكار الأجوبة. غير أن ذلك قد لا يحدث في الفضاء العمومي وبالنسبة لمن هم لا يهتمون بالشأن الفلسفي. بيد أن الفلسفة الرواقية تأخذ منعطفًا جديدًا، فهي تختزل الفلسفة في علاقتها مع الحياة المعاشة بصورة مباشرة. ذلك لا يعني أن الرواقية تهمل المباحث الأخرى أو تتاكسل في الحديث الفلسفي التقليدي، إنما تأتي بطرح تكون الحياة هي النقطة المركزية في كل المباحث.  

إقرأ أيضًا كيف تنظر الفلسفة إلى مفهوم الوعي؟

المصادر:

  1. امييل بريهييه، الفلسفة الهلنستية والرومانية، ترجمة جورج طرابيشي، الطبعة الأولى، دار الطليعة، ص34
  2. نفس المصدر، ص37
  3. زكي نجيب محمود وأحمد امين، قصة الفلسفة اليونانية، مؤسسة هنداوي، ص169.
  4. https://plato.stanford.edu/entries/stoicism/#Eth
  5. https://www.britannica.com/topic/Stoicism/Ancient-Stoicism
  6. https://iep.utm.edu/stoicism/#H3
  7. فردريك كوبلستون، تاريخ الفلسفة، المجلد الأول، ترجمة إمام عبدالفتاح إمام، ط1، المشروع القومي، ص528
  8. اميل بريهييه، ص54.
  9. فردريك كوبلستون، ص 530

تاريخ الموسيقى

قصة الموسيقى

بَنَت الموسيقى علاقة آمنة مع كينونة الإنسان القلقة. فمن جهة هي الصديق الأقدم، إذ أن علاقتنا معها تعود إلى أكثر من أربعين ألف عام. وهي من جهة أخرى الصديق الأقرب نظرًا لما تقوم به الموسيقى في وحدتنا. فهي تفتح عزلتنا على العالم بأرضه وسمائه، شره وخيره. وهي أيضًا الصديق الذي يحمل رسالتنا إلى الحضارات التي قد توجد في الفضاء المظلم. فمركبة فوياجر التي تبحر في الفضاء منذ خمسة عقود من الزمن تحمل رسالة ضميرنا في أسطوانة ذهبية. سوف أبين بإيجاز تاريخ الموسيقى منذ بداياتها الغامضة إلى مراحل تطورها.

ما الموسيقى وكيف بدأت؟

للوهلة الأولى، نستعد للإجابة على هذا السؤال بثقة كاملة، وكأن موضوعة الموسيقى بسيطة كصفاء الموسيقى نفسه. لكن، سؤال الماهيات دائما ما يحدث صعوبة من نوع خاص؛ ذلك لأنه يلقي بنا بين طرق كثيرة ومتداخلة. فهل سؤال (ما الموسيقى) سؤال تشريحي؟ تاريخي؟ فني؟ أو حتى فلسفي؟

يبدو أنه من المستحيل أن نحدد الموسيقى تحديدًا دقيقًا، ذلك لأن النقاش حول أصل الموسيقى يفتح حدودها على نشاطات بشرية وغير بشرية مختلفة. قد تُعتبر الأصوات التي تصدرها الحيوانات ولا سيما الطيور موسيقى، حتى الأصوات الناتجة عن ظواهر طبيعية كالمطر قد تكون لها اعتبارات موسيقية.

يصر العلماء على أنسنة تاريخ الموسيقى، ذلك لأن الموسيقى تختلف عن الأصوات التي تصدرها الحيوانات كإشارات للتواصل. بيد أن سؤالنا لا يزال يحتاج إلى التحديد، فالكلام مثلًا، قد يكون ضربة موسيقية. والأدوات التي استخدمها المزارعون لتخويف الحيوانات قد تعتبر أدوات موسيقية.(1)

تشير الدراسات العلمية على أن الموسيقى سبقت الكلام بفترة طويلة جدًا. ذلك لأن أسلافنا البدائيين، قبل أن يتمكنوا من نطق الحروف الساكنة كان بإمكانهم أن يصدروا شيئا يشبه اللحن أو النغمة الموسيقية.

كما تركز بعض الدراسات على الأصل الحركي للموسيقى، التصفيق، الحركات الإيقاعية والأصوات التي كانت تُصدر من أحجار الصوان التي كان الإنسان يستخدمها منذ عصور قديمة جدًا. غير أن الفرضية الأكثر ترجيحًا تؤكد على أن الغناء جاء أولًا، وربما أول الغناء كان غناء الأم وهي تنوم طفلها.(1)

لماذا كانت الموسيقى؟

تشير الدراسات الأنثروبولوجية على أن غاية ممارسة الإنسان للفعل الموسيقي كانت الرقص أو الترفيه أو الاتصال أو الطقوس:

الرقص:

تخبرنا الأنثروبولوجيا أنه عندما كان تنخرط مجموعة بشرية في عمل ما كانوا يعملون بشكل إيقاعي – يظهر ذلك في عمل الحصاد – وتمتماتهم كانت تتحول إلى نوع من الغناء. كما نجد أن الرقص من النشاطات القديمة جدًا وأي رقص كان يصحبه شيئا من الموسيقى.(1)

الترفيه:

سواء على المستوى الشخصي أو الجماعي، لعبت الموسيقى دورًا بارزًا، لا سيما في العمل الجماعي. كما أن علاقة الأم بالطفل كانت ولا زالت فيها الكثير من الموسيقى والغناء، المسافر في سفراته الطويلة كان يجد في الموسيقى أنيسًا ورفيقًا لدربه الطويل.(1)

الاتصال:

في أفريقيا وأجزاء واسعة من العالم لعبت الموسيقى دور التلغراف والتواصل، بين الفرد وذاته، داخل الجماعة وحتى بين الإنسان والطبيعة.

الطقوس:

الحضور الموسيقي في الطقوس الدينية والإجتماعية التي تمارس حتى يومنا هذا، لها جذور قديمة قدم العلاقات الإنسانية. أن الطقوس التي مارستها الشعوب والمجموعات البدائية كان للموسيقى حضور بارز فيها. نظرًا لأن الطقوس ولا سيما الدينية كانت تعبر عن علاقات روحية مقدسة، بين الإنسان والإنسان أو بين الإنسان والسماء، إذ يمكن القول بأن الموسيقى كانت حضورًا إلهيًا في الطقس البشري.(1)

الموسيقى والدين:

إن لفظة الموسيقى مشتقة من موزس (Muses) ويذكر هزيود تسعة من الموزيات اللاتي كن آلهات، كان والدهن زيوس وكانت أمهن ميموري (Memory). كما أن أبولو أيضًا يعد من آلهة الموسيقى، وفي الأساطير المصرية بيس(2).

حسب أسطورة خلق الإنسان في الديانة الإيزيدية، حلت الروح في جسد آدم المصنوع من الطين وسط عزف الملائكة على آلتي الدف والشباب (شاز وقدوم)، ولا زالت الإيزيدية تقدس الآلات الموسيقية وتمارس طقوسها مع العزف الموسيقي.

في الأديان الأخرى أيضًا، ثمة الكثير من الاهتمام بالموسيقى. فالفرق الصوفية في الإسلام اهتمت بالموسيقى، كما شاعت بين الكثير من الفرق الغنوسية. وفي الكنيسة المسيحية أيضًا نجد الترانيم الدينية والموسيقى حاضرة في الطقوس الكنسية.

اقرأ أيضًا: كيف يكون النشوء مع والدين من نفس الجنس عامل للإصابة بالاكتئاب ؟

الآلات الموسيقية الأقدم:

اكتشف العلماء مزامير (Geisenklösterle Flutes) مصنوعة من عظام الحيوانات و عاج الماموت في كهف في جنوب ألمانيا، وعمر هذه المزامير 43000 سنة(3). يرى الباحثون أن العزف يعد من السلوكيات التي ميزت الإنسان العاقل عن نياندرتال، ذلك لأن العزف ساعدهم على تكوين شبكات إجتماعية أكبر ربما تكون قد ساعدتهم على توسيع أراضيهم على حساب إنسان نياندرتال(3).

أبواق توت عنخ آمون (Tutankhamun’s Trumpets):

تم اكتشاف هذه الأبواق في مقبرة توت عنخ آمون في عام 1922 ويزيد عمرها عن 3000 عام. وهي تعد من أقدم الأبواق المكتشفة، ومن الجدير بالذكر أن هذه الأبواق ما زالت صالحة للعزف.(4)

مزامير جيهاو:

تم اكتشاف هذه المزامير في موقع جيهاو الأثري في الصين، ويقدر عمرها بين 7000 و 9000 سنة.(4)

ليثيوفون:

وهي عبارة عن آلة مصنوعة من الحجر، واكتشفها علماء الآثار في فيتنام وعمرها يقدر بين 4000 و10000 عام.(4)

آلة الثيران (Bullroarer):

وهي من الآلات الموسيقية الطقسية التي استُخدمت في الكثير من الثقافات للتواصل عبر مسافات طويل، وعمرها 30000 سنة.(4)

مزامير بالوليثك ( Paleolithic flutes):

يقدر عمرها بين 35000 إلى 40000 سنة.

فلوت Divje Babe:

هذا المزمار تم اكتشافه في سلوفينيا وعمره أكثر من 40000 سنة.

فلوت Geisenklösterle :

تم اكتشاف ثلاثة مزامير في كهف Geisenklösterle وتعتبر من الآلات الموسيقية الأقدم التي اكتشفت حتى الآن وعمرها 43000 سنة.(4)

موسيقى على مدى العصور:

الفترة المبكرة:

تبدأ هذه الفترة من القرن الحادي عشر إلى القرن الرابع عشر. ترتبط هذه الفترة بالموسيقى الكنسية. كان هذا الشكل الموسيقي بسيطًا نسبيًا بخط موسيقي واحد ومن ثم خطين وثلاثة. ومن رواد هذه المرحلة دي فيرتي وماشوت ولانديني.(5)

عصر النهضة:

تعتبر هذه الفترة التي بدأت من القرن الخامس عشر إلى القرن السابع عشر عصرًا ذهبيًا على جميع الأصعدة الفنية. وتطورت الموسيقى بشكل ملحوظ فيه. برز النص الموسيقي الكوريالي في هذا العصر وبات فيه الكثير من التنوع والتباين، على سبيل المثال، تعزيز قسم معين من خلال جزء صوتي يتناقص مؤقتًا ومن ثم يعود من جديد في لحظة خاصة من التركيز. وبعد ذلك ابتعد الموسيقيون عن نظام التناغم التقليدي نحو نظام النغم المركزي أي المفتاح. يعتبر دولاند، تاليس، فيكتوريا وألونسو لويو من الأسماء البارزة لعصر النهضة.

العصر الباروكي:

من القرن السابع عشر إلى النصف الثاني من القرن الثامن عشر، حدث انفجار موسيقى على جميع المستويات. يعد هذا العصر بداية ظهور الأوركسترا والأوبرا والكونشيرتو والسوناتا. ومن أسماء البازة في هذه الفترة: مونتيفيردي، كوريلي وأليساندرو ساكلارتي.

العصر الكلاسيكي:

يعد هذا العصر عصر السوناتا المتقدمة والسيمفونيات التي ما زلنا نستمع إليها بشغف وحب كبير، فهذا هو عصر باخ وموزارت وهايدن. بدأ هذا العصر من النصف الثاني من القرن الثامن عشر حتى النصف الأول من القرن التاسع عشر.

العصر الرومانسي:

بدأت آلة البيانو تبرز بشكل قوي في المقطوعات الموسيقية. تتميز هذه الفترة بالعلاقة القوية بين الفن والمشاعر الإنسانية الجياشة، والموسيقى من الفنون التي توغلت في حالة الإنسان النفسية وعبرت عنها. ويعد بيتهوفن وشوبان وفاكنر من النجوم الساطعة في سماء الموسيقي لهذا العصر.

الخلاصة:

يقول نيتشه إنه لولا الموسيقى لكانت الحياة خطأ. ويقول سيوران إن موسيقى باخ هي الحجة الوحيدة التي تبرهن على أن خلق الكون لا يمكن اعتباره فشلًا تامًا. هذا الشيء العجيب الذي أبدعه الإنسان قبل آلاف السنوات يعد طفرة في التاريخ، إذا ما تحدثنا بلغة إنسانية صرفة يمكن القول بأن الموسيقى من أكثر الإبداعات البشرية التي تستحق الوقت عندها بإحترام. أن الموسيقى ربما بدأت عند الأم وهي تحاول أن تهدئ طفلها، أو ربما عندما حاول الإنسان أن يقلد الطبيعة. كما أن العلاقات الإجتماعية في المجموعات البشرية البدائية لعبت دورًا تأسيسيًا في ظهور الموسيقى والعكس صحيح.

مع مرور الزمن تحولت الموسيقى إلى نوع من الدين والتقديس تارة، ورسالة حربية تارة وشكل من أشكال التواصل العاطفي تارة أخرى. لكن، يمكن القول بأن الموسيقى صارت قيمة فنية خالصة مستقلة عن الغايات الأخرى منذ عصر النهضة. وفي العصر الكلاسيكي والرومانسي وصلت إلى قمة الجمال، وقد يكون هذا ما دفع شوبنهاور ليعتبر الموسيقى نوعًا من الحرية والخلاص من إرادة الحياة العمياء.

إقرأ أيضًا: ما هو الرابط بين الرياضيات والموسيقى؟

المصادر:

  1. Frontiersin
  2. Encyclopedia
  3. BBC
  4. Oldest
  5. Naxos

تاريخ الكتابة

ما الذي له اليد الطولى في وصول العالم إلى ما هو عليه الآن؟ بالطبع، ليس هناك سبب واحد للتطور الحضاري. لكن ثمة أسباب معينة كانت وراء انتقال البشرية من استخدام العصا إلى استخدام الأجهزة الذكية. قد يقول البعض بأن النار هي مفتاح الحضارة، وهم محقون في ذلك. وقد يعول البعض على الخيال الأسطوري الذي مهد إلى معرفتنا الحالية بالعالم والكون، وهم بدورهم على الصواب. بيد أن الكتابة هي العنصر الأكثر فاعلية في رحلة الإنسان الشاقة نحو المزيد من المعرفة. هذه الأداة التي أُستخدمت قبل آلاف الأعوام في بلاد ما بين النهرين لأغراض تجارية هي الحارس الوحيد لاقتصادنا المعرفي. فتاريخ التقدم البشري هو على الأغلب تاريخ الكتابة، أو على الأقل لما كان هناك أي نقاش دون وجود هذه العلامات ذات البعدين. فسنخصص هذا المقال في البحث عن تاريخ الكتابة.

ما قبل الكتابة

إذا كانت اللغة المنطوقة هي أساس بناء علاقة أفقية مع الآخر في حدود زمانية ومكانية محددة، فالكتابة هي دعوة للحوار العمودي بين الأسلاف والاخلاف. تسعى اللغة المنطوقة إلى أهداف آنية وتواصل آني سرعان ما يُنسى. في حين، الكتابة هي مقاومة الزمن في سعي مستمر نحو أهداف طويلة المدى.

مع أن الكتابة لعبت دورًا مشابهًا للدور الذي لعبته النار في الحضارة البشرية، إلا أن تاريخ الكتابة فتي وقصير جدًا. اللغة المنطوقة سبقت المكتوبة بآلاف السنين ولا نعرف لماذا تكاسل البشر في هذا الاكتشاف. لكن، الكتابة ما هي إلا شكلٌ من أشكال التواصل الحر العمودي؛ ترك البشر الكثير من الرموز الأخرى لإقامة علاقة معنا. فالرسومات الفنية على جدران الكهوف تمثل بدورها نوعًا من اللغة المكتوبة ومع تفسير تلك الرسومات يمكن فهم الكثير عن الحالة البشرية قبل عشرات الآلاف من الأعوام.

الكتابة هي المظهر المادي للغة المنطوقة. ويُعتقد بأن البشر قد طوروا هذا المظهر المادي حوالي (50000 إلى 35000 ق.م) كما هو واضح من الرسوم الكهفية في عصر إنسان كرو-ماجنون. فتلك الرسومات كانت تعبر عن مفاهيم من الحياة اليومية، كرحلة صيد وما وقع فيها من الأحداث على سبيل المثال(1).

تاريخ الكتابة

الرموز الممهدة للكتابة

كان السلف المباشر لخط بلاد ما بين النهرين عبارة عن جهاز تسجيل (Recording Device) يتكون من قطع طينية ذات أشكال متعددة. تم العثور على الكثير من تلك الاشكال الطينية الهندسية مثل المخاريط والأسطوانات والأقراص والاشكال البيضوية  وهي تعود إلى 8000 إلى 3000 ق.م. هذه الاشكال تجسدت رموز دلالية ونظام من الإشارات لنقل المعلومات. على سبيل المثال، كان المخروط والكرة يمثلان على التوالي مقدارًا صغيرًا أو كبيرًا من الحبوب(2). بيد أن هذه الاشكال لم يكن لها سياق قواعدي. قثلاثة مخاريط وثلاث بيضات متناثرة بأي شكل من الأشكال كان من المقرر ترجمتها “ثلاث سلال من الحبوب، وثلاث أوعية زيت”(2).

الكتابة التصويرية

بعد أربعة آلاف عام، أدى النظام الرمزي (Token System) إلى الكتابة. حيث حل الخط (Script) محل العدادات (Counters) في كل من بلاد السومر وعيلام عندما كانت الأخيرة تحت الحكم السومري في فترة 3500 ق.م. كان يتم تخزين الرموز (Tokens) في مظاريف طينية مسدودة، من المرجح كانت تمثل الديون، ويقوم المحاسبين بوضع علامة خطية على تلك المظاريف. وتلك العلامات كانت أولى علامات الكتابة(2). بيد أن التحول هذا لم يكن كبيرًا ولم تتحرر الكتابة بعد من نظام الرمز سوى في تحويل الرموز من ثلاثية الأبعاد إلى ثنائية الأبعاد. كان الخروج الرئيسي الوحيد من نظام الرمز يتمثل في إنشاء نوعين متميزين من العلامات(signs): الرسوم التصويرية المحفورة(incised pictographs) والأرقام المؤثرة (impressed numerals). بدأ هذا المزيج من العلامات في التقسيم الدلالي بين العنصر المحسوب والرقم(2).

اقرأ أيضًا: ملخص كتاب دروس من التاريخ لويل ديورانت

اللوغرام

المرحلة الثانية في تطور الكتابة تبدأ من حوالي 3000 ق.م. وذلك عند إنشاء علامات صوتية، بحيث تحولت العلامة الكتابية من عالم البصر إلى عالم السمع.

مع بناء الدولة، تطلبت اللوائح الجديدة تسجيل أسماء الأفراد الذين استلموا البضائع المسجلة على الألواح الطينية. وكانت العلامة الكتابية تكون بمثابة صورة ومحاكاة للعلامة المنطوقة، على سبيل المثال، يمكن كتابة اسم ربيع بعلامة دالة لفصل الربيع. وفي حال العبارات كان يتم استخدام رموز دالة وحسب لا الأفعال. هذه المرحلة من تطور خط بلاد ما بين النهرين والتي تميزت بإنشاء العلامات الصوتية، لم تؤدي فقط إلى فصل الكتابة عن المحاسبة ، بل أدت أيضًا إلى انتشارها من سومر إلى المناطق المجاورة، الحضارة المصرية على سبيل المثال(2).

ظهور الأبجدية

بدأت المرحلة الثالثة من تطور الكتابة حوالي 1500 ق.م مع اختراع الأبجدية. الأبجدية الأولى والتي تسمى بالسينائية (Porto-Sinaitic) والتي نشأت في أرض لبنان الحالية تأسست على حقيقية أن كل لغة تتألف من عدد محدد من الحروف وكل حرف يمثل صوتًا(2).

وكان قد حدث الانتقال من الكتابة المسمارية إلى الأبجدية في الشرق الأدنى القديم على مدى قرون. هذه الثورة المعرفية العظمى صدرها الشرق إلى بلاد الأغريق من خلال التجار الفينيقيين أبان القرن الثامن قبل الميلاد.

الجدير بالإشارة هو أن الفيضانات التي كانت تحدث في بلاد ما بين النهرين كان لها دور في ابتكار الأبجدية. حيث وجدت المجتمعات التي بنت المدن المبكرة أنها بحاجة إلى الاحتفاظ بسجلات لمخزوناتها وممتلكاتها وتجارتها(3).

الكتابة في مصر

منذ عام 3200 ق.م فصاعدًا، ظهرت الكتابة المصرية الهيروغليفية على ألواح عاجية صغيرة تُستخدم كملصقات للبضائع الجنائزية في المقابر. و تم العثور على الكتابة بالحبر باستخدام فرش وأقلام القصب لأول مرة في مصر. عُرفت هذه الكتابة بالحبر في اليونانية بالهيراتيكية (النص الكهنوتي) ، في حين أن الأحرف المنحوتة والمرسومة التي نراها على الآثار تسمى الهيروغليفية (المنحوتات المقدسة).

وكان للكتابة في مصر وظيفتان: الأولى كانت احتفالية وكانت كتابة منحوتة، والأخرى كانت في خدمة الإدارات الملكية والمعابد وكانت مكتوبة(4).

الكتابة في الصين

تطورت الكتابة في الصين من طقوس العرافة باستخدام عظام أوراكل عام 1200 قبل الميلاد. يبدو أن الكتابة الصينية نشأت بشكل مستقل، حيث لا يوجد دليل على انتقال ثقافي في هذا الوقت بين الصين وبلاد ما بين النهرين. تضمنت ممارسة العرافة الصينية القديمة نقوشًا على العظام أو الأصداف التي تم تسخينها بعد ذلك حتى تشققها. ومن ثم يتم تفسير الشقوق بواسطة العراف (Diviner) إذا كان هذا العراف قد حفر “الثلاثاء القادم سوف تمطر” و “الثلاثاء القادم لن تمطر” فإن نمط الشقوق على العظم أو الصدفة سيخبره ما هو الحال. بمرور الوقت ، تطورت هذه النقوش إلى النص الصيني(1).

تسجل عظام أوراكل هذه (شفرات كتف الثيران والسلاحف) الاسئلة التي طُرحت على النسب الملكي حول مواضيع متنوعة مثل تناوب المحاصيل والحرب والولادة وحتى وجع الأسنان. حتى الآن، تم العثور على ما يقرب من 150000 نموذج لمثل هذه العظام، تحتوي على أكثر من 4500 رمز مختلف، يمكن تحديد العديد منها على أنها أسلاف الأحرف الصينية التي لا تزال مستخدمة حتى اليوم(4).

الخلاصة

منذ اختراع الكتابة في بلاد ما بين النهرين بدأت الحضارة ترتقي أكثر فأكثر. فاللغة قديمة جدًا، لكنها لم تكن قادرة على القيام بوظيفتها الكاملة دون وجود الكتابة. العالم نفسه لما كان سيكون بهذا الشكل لولا الهبة التي قدمتها لنا الكتابة. لما كنا سنعرف ملحمة جلجامش ولا الفلسفة اليونانية ولا كتاب مبادئ الرياضيات ولا حتى النصوص الدينية. ثمة أمر مثير للإهتمام في تاريخ الكتابة ألا وهو حدوثها الحتمي. إذ أن الكتابة كانت ستكون حتى دون أن يجازف السومريون؛ فحسب الأدلة التاريخية تمكن الصينيون من اختراع نظام للكتابة خاص بهم بمنأى عن السومريين. والكتابة لم تأتي فجأة بشكلها الحالي إنما تطورت بما يخدم الحاجات البشرية.

المصادر:

  1. ancient.eu
  2. sites.utexas.edu
  3. sciencedirect
  4. bl.uk

فلسفة التنوير وتفكيك المقدس

فلسفة التنوير وتفكيك المقدس

يجب ألا ننظر إلى كل فلسفة باعتبارها حالة تراكمية أو مجموعة من التأملات المجردة التي لا أثر لها في الواقع. كل فلسفة تتأثر بعصرها وتؤثر فيه، إذ يمكن أن نقول بأن الفلسفة لا تفسر العالم وحسب بل تشارك في تغييره أيضًا. ففلسفة التنوير من الفلسفات التي غيرت وجه العالم على نحو جذري وقادت محاولات تفكيك الخطاب المقدس. في القرن الثامن عشر برزت حركة التنوير بشكل مدهش في أوربا وقضت على معظم السرديات التأسيسية في السياسة والفلسفة والاخلاق. في هذا المقال سنسلط الضوء على أهم جوانب وافكار فلسفة التنوير وتداعياتها.

مفهوم التنوير:

في النصف الأول من القرن الثامن عشر، جاء جان جاك روسو بسردية فلسفية سرعان ما تحولت إلى شبح يهدد أوربا. لم تكن سردية التنوير وليدة الصدفة أو حادث عرضي من تاريخ التخبط الفلسفي، إنما كانت مدفوعة بروح الثورة العلمية آنذاك. فكانت للاكتشافات العلمية والتقدم الصناعي دور بارز في حث العالم نحو إيجاد منهجية جديدة لتفسير العالم، إذ أن الحجة الدينية التقليدية كانت تسقط أمام الدليل العلمي. لهذا، نجد في أولى كتابات التنوير الشغف الكبير بالعلم، ففي كتابه (رسائل فلسفية) يتحدث فولتير عن نيوتن بإجلال. حيث اثبتت قوانين نيوتن بإن العالم قابل للتفسير والوصول إلى الحقائق القطعية ممكن.  شعر الإنسان بأن مفاتيح الأسرار الكونية لم تعد بيد السلطة الدينية؛ وهذا ما دفعه للتمرد ضد كافة اشكال التبعية ولإعادة النظر في مكانته.

يحمل التنوير دلالتين ثوريتين: كينونة الإنسان عابرة للهويات الوطنية والدينية والقومية، وبالتالي له وجود كوني. قدرة العقل الإنساني على بناء عالم مضيء ومتنور، بالتالي الإنسان مشروع التنوير. ففي الدلالة الأولى اطاح التنوير بالقوالب الدينية والطبقية التي وضع فيها الإنسان واعلن القطيعة مع التراث القديم. وفي الدلالة الثانية ايقظ القدرة الفكرية للفرد لمعارضة الدور الدين الإرشادي في الفكر والعمل(1).

التنوير الفرنسي:

حمل الفلاسفة الفرنسيون قضية التنوير نحو الأمام مثل مونتسكيو وفولتير وروسو وديدرو وكويسناي وألمبيرت، ولعبوا دورًا بارزًا في زرع روح التفكير المستقل وعرض العقلانية. كما هاجموا عدم المساواة والقسوة والاستغلال في المجتمع الفرنسي وبشروا بمستقبل ليبرالي وتقدمي حر(2). والثورة الفرنسية كانت ثمرة هذه الجهود الفلسفية.

مونتسكيو:

ردًا على الطروح القومية التي تنظر إلى الآخر نظرة دونية وعدائية يقول مونتسكيو بأنني إنسان بالضرورة وفرنسي بالصدفة (3). وسخر من المجتمع الفرنسي وهاجم نظام الحكم المطلق الذي انشأه لويس الرابع عشر والكنيسة الكاثوليكية وجميع طبقات المجتمع(4). في كتابه (روح القوانبين) دعا مونستكيو إلى نظام دستوري من شأنه أن يخدم مصالح الشعب الفرنسي، كما أكد على أن حرية الافراد لا يمكن أبدًا أن تكون آمنة بدون فصل سلطات الحكومة إلى ثلاثة أجهزة مستقلة – تشريعية وقضائية وتنفيذية(2).

فولتير:

يعد فولتير من الفلاسفة الأكثر ارتباطًا بالتنوير ليس فقط لما له من أطروحات تنويرية، فدخوله السجن كان بمثابة توقيع فلسفي على الثورة الفرنسية. هاجم نظام الحكم رغم الاستبداد والعادات والمفاهيم السائدة في المجتمع واعتبر الكنيسة الكاثوليكية كوكر للخرافات ومركزًا للتعصب وترسيخ العبودية(2).

روسو:

فتح جبهته أولًا ضد العقلانية المتمثلة بديكارت، وأسس لعقلانية خصبة قادرة على مواجهة المشاكل الاجتماعية والسياسية. ودافع عن الحريات والحقوق المدنية وحق التمرد ضد النظام حين يفشل في خدمة الناس(2).

التنوير الإنكليزي:

يمثل التنوير الإنكليزي الحجر الأساس لفلسفة التنوير، فاكتشافات نيوتن العلمية هي التي الهمت فلاسفة التنوير الفرنسي. كان لتوماس هوبز وديفيد هيوم وآدم سميث حضورًا مميزًا في بلورة فكرة التنوير على جميع الاصعدة. شارك هوبز في إرساء العقد الاجتماعي والنظام السياسي. أما هيوم فكان رائد التجريبية ونقد الدين، ففسر هيوم الحالة الإنسانية في ضوء العلم التجريبي. وانطلاقًا من دراساته التجريبية انتقد هيوم اللاهوت والمعجزات والتفسيرات الأسطورية. بينما آدم سميث فهو مهندس النظام الاقتصاد السياسي(5).

التنوير الألماني:

وصل التنوير ألمانيا متأخرًا مقارنة مع فرنسا وبريطانيا، كمان أن التنوير الألماني كان يختلف كثيرًا عن باقي الحركات التنويرية لقربه الشديد من الميتافيزيقيا. كان كانط من أبرز فلاسفة التنوير في ألمانيا. حول مفهوم التنوير يقول كانط “التنوير هو انعتاق المرء من حالة العجز الذاتي. العجز هو عدم قدرة المرء على استخدام فهمه الخاص دون توجيه الآخر. اذا لم يكن سبب هذه الحالة، من عدم النضج الذاتي، هو نقص في ملكة الفهم، فهو بالأحرى، نقص في الشجاعة والاقدام لإستخدامها دون إرشاد الاخر. لذلك، يكون شعار التنوير إذن: تحلّ بالشجاعة لاستخدام عقلك بنفسك”(6). فكانط كان من انصار الحرية الفردية، بوصفها الأفق المناسب لفهم العالم.

موقف التنوير الديني:

لم يكن لفلسفة التنوير طرح موحد حول مسألة الإيمان، لكن كان هناك تأويل موحد للأساطير والخرافات الدينية. رفض التنوير العقل الأسطوري والخرافات وسلطة الكنيسة المطلقة.  كانت هناك أربعة اشكال للدين في عصر التنوير: الربوبية، دين القلب، الإيمانية والإلحاد.

الربوبية:

تمثل الربوبية الشكل الديني الأكثر ارتباطًا بعصر التنوير، ووفقًا لها، فأنه بإمكاننا أن نستدل إلى الخالق من خلال العقل وهذا الخالق هو الذي يدير الكون وله خطة، ولا يتدخل الخالق في شؤون الخلق. كما رفضت الربوبية الإيمان الأعمى بالمعجزات وكذلك رفضت ألوهية المسيح بل اعتبرته معلمًا صالحًا(2).

دين القلب:

رفض هذا الاتجاه الطرح الربوبي بحجة أنه يخلق هوة بين الخالق والمخلوق، ويصور الخالق على أنه مجرد مهندس للكون. كان روسو من مؤمني دين القب، فوفقًا لروسو الدين قائم على المشاعر الإنسانية(2).

الإيمانية:

كان كانط من الفلاسفة المؤمنين، وهو أكثر فيلسوف ساهم في نقد الدين التقليدي. يؤمن هذا الإتجاه بإلوهية المسيح وقيامته، فضلًا عن الإيمان بالكتاب المقدس. بالنسبة لوجود الله فهو يقع في حدود المعرفة القبيلة، بحيث يصعب على الإنسان الوصول إلى الكينونة الإلهية السامية على العالم سواء عن طريق التجربة أو العقل. لكن نجد لدى كانط بأنه كان يستدل إلى وجود الله من خلال تصميم الكون والضمير.

الإلحاد:

يعلن الإلحاد حضوره في التنوير الفرنسي بشكل أكبر، فطبقًا لدينيس ديدرو يجب أن نبحث في مبادئ النظام الطبيعي داخل العمليات الطبيعية وليس في كائن خارق متعال على العالم(2).

موقف التنوير الاخلاقي:

قبل عصر التنوير، في الغرب كان التفكير الاخلاقي يتمحور حول العقيدة الدينية المتعلقة بالله والحياة الآخرة. لكن مع بزوغ نجم التنوير، تم قطع اوصال الاخلاق مع تلك الحياة الافتراضية وربطوها بالحياة الدنيا نفسها، داخل الإطار الفلسفي بشكل عام وداخل المجتمع إلى حد ما. فالسعادة بعدما كانت تتحقق برضى السماء والزهد صارت خاصية لعلاقات الإنسان في سياق العالم الحسي.

كانت للحروب المذهبية والقومية في فترة ما قبل التنوير دلالات اخلاقية خطيرة، إذ أن الاخلاق الدينية فشلت في وقف سفك دماء ملايين البشر بل كانت تبرر لتلك الجرائم أحيانًا، ومن هنا برزت الحاجة لإرساء أسس اخلاقية علمانية قادرة على احتواء الإشكالات الاخلاقية.

واجه فلاسفة التنوير تحديات كبيرة في تحديد النظام الاخلاقي، لهذا كان هناك تباين بين الآراء التي ناقشت المسألة الاخلاقية. توماس هوبز كان يميل إلى الاخلاقية الذاتية، ربط بين القيمة الاخلاقية والموضوع الاخلاقي من خلال الانطباع الفردي. فما هو خير هو  موضوع الرغبة أو الشهية، وما هو شر هو موضوع الكراهية والنفور، ورفض هوبز وجود ما هو خير بذاته أو العكس(2). هذه الفكرة فيها نوع من التناقض مع روح التنوير الداعية للعقلانية والموضوعية.

في الطرف المقابل كان كل من صامويل كلارك وإيريل شافتسيري يرفضان نظرة هوبز ويؤكدان على أن ذاتية هوبز تتناقض مع حرية الآخر. وأكدا على اخلاقية موضوعية، بحيث ما هو خير هو ما يحقق مصلحة الجميع(2).

في ألمانيا كان الطرح الاخلاقي مختلفًا، كانت الاخلاق ما زالت تتألق في سماء الميتافيزيقيا. كان يعتبر كانط الحكم الاخلاقي من الاحكام القبلية. رفض كانط النسبية الاخلاقية، فالكذب مثلًا، غير اخلاقي مهما كانت الظروف والاسباب.

اقرأ ايضًا: فلسفة الجنس والجنسانية

موقف التنوير السياسي:

كانت الثورات الإنكليزية (1688) والأمريكية (1877-1783) والفرنسية (1789-1799) قد تأثرت وأثرت في الحركة الفلسفية آنذاك. ففلاسفة التنوير كانوا ينظرون إلى الانظمة السياسية والاجتماعية عصرئد على أنها هشة بما يكفي لتسقط أمام النقد العقلاني؛ لكونها محاطة بالأساطير الدينية والتقاليد الغامضة(2). كان يصعب في عصر تكتشف فيه القوانين التي تحكم الكون أن يؤمن الإنسان بسلطة تفرض عليه العبودية بحجج واهية. كانت تطلعات التنوير تتجه نحو بناء مجتمع يحترم حرية الفرد والمساواة والتنوع الديني والعقائدي. وكان كتاب توماس هوبز اللفياثان يعد كتابًا تأسيسيًا لنظرية التنوير السياسية، ومع أن هوبز كان مناصرًا للسلطة المطلقة إلا أنه كان يؤمن بسلطة يشارك فيها الجميع وتحقق مصلحة الافراد.

 لكن آراء روسو كانت الأكثر إثارة لكونها كانت تمس علاقة الفرد مع السلطة على أساس أن الإنسان غاية والسلطة وسيلة. رأى روسو بأن الديمقراطية الخالصة هي الشكل الوحيد للحكومة التي يمكن من خلالها أن يحقق فيها الفرد حريته. وحرية الفرد تكون ممكنة من خلال الإرادة العامة التي هي إرادة الجهاز السياسي العام، وهذا الجهاز يختاره ويحدده الأفراد بكامل إرادتهم(2).   

موقف التنوير الجمالي:

حسب ما يلاحظه كاسيير فأن القرن الثامن عشر لم يكن عصر الفلسفة وحسب بل هو عصر النقد ايضًا، إذ كان النقد مركزيًا في عصر التنوير. كان لازدهار الجماليات علاقة طردية مع ميول العصر، ألكسندر بومغارتن يعد مؤسس منهجية الجماليات للتنوير، وبالنسبة لومغارتن علم الجماليات هو علم الحواس أو الإداراك الحسي. لم يعول التنوير على الجماليات النومينية والمثالية، إنما بحث في العلاقة الجمالية بين الموضوع الجميل والذات المدركة والمتعة الناتجة منها(2).

وفي ألمانيا أسس كريستان وولف لعقلانية ميتافيزيقية للتفكير الجمالي، ويؤكد على أن الجمال حقيقة مدركة من خلال الشعور بالمتعة. يرى وولف بأن الجمال هو الكمال الموجود في الموضوع، فالموضوع فيه نسق وترتيب وانسجام، وبالتالي فأننا نقول عن شيء ما جميل لما له من الانسجام والكمال. لذا، طبقًا لوولف الجمال هو الإداراك الحسي للكمال(2).  

الخلاصة:

منذ أن سادت الفلسفة الأرسطية العالم -المسيحي خاصة- لم تحدث ثورة فلسفية تضاهي ثورة التنوير. فعصر النهضة لم يحقق الكثير إلا على المستوى الفني والجمالي، والعقلانية ابت أن تتحرر من المنطق القديم. ما حققه التنوير أثر في كل العالم، سواء من خلال إعادة تأويل وتفكيك النص المقدس أو نقد الخطاب السياسي والإجتماعي أو تبنيه المنهجية العلمية. كما يقدم التنوير تحديات قاسية لكل مجتمع يدعو إلى التغيير، فكل محاولة إصلاحية تلازمها ضرورة إعادة هيكلة الخطاب الديني والسياسي، لا يمكن لأي تقدم أن يحصل فعليًا دون أن تكون العقلانية والمنهجية العلمية أداةً لها. إذ أن التنوير هو دعوة إلى تفكيك كل خطاب ديني ودنيوبي.

المصادر:

  1. https://plato.stanford.edu/entries/enlightenment/#RatEnl
  2. https://www.historytuitions.com/world-history/french-revolution/#Role_of_Philosophers_in_French_Revolution
  3. https://plato.stanford.edu/entries/montesquieu/
  4. https://www.encyclopedia.com/humanities/culture-magazines/french-literature-during-enlightenment
  5. https://www.encyclopedia.com/religion/encyclopedias-almanacs-transcripts-and-maps/enlightenment-philosophy
  6. http://www.columbia.edu/acis/ets/CCREAD/etscc/kant.html

السفسطائية وشجرة الفلسفة المحرمة

السفسطائية وشجرة الفلسفة المحرمة

يمثل تاريخ اليونان القديم خصوبة معرفية مميزة في مسيرة الإنسان المعرفية. قليلًا ما نجد من حديث أو حوار ثقافي إلا ويسجل الإغريق القدماء حضورهم. كأن كل بداية فعلية هي إغريقية بالضرورة بغض النظر عما قدمته الحضارات الشرقية من إسهامات ومشاركات في الثقافة البشرية. فالفلسفة وإن لم نتفق مع التطرف الغربي بشأن أصلها اليوناني فهي تألقت في سماء تلك البلاد أكثر من غيرها. وربما لولا الإغريق لما دخلت الفلسفة في الفضاء العمومي بهذا الثقل ولما دار كل هذا الجدل حولها. لكن ثمة هناك مفارقة في البحث المعرفي ألا وهي تهميش التراث السفسطائي بشكل واضح ومزعج، وكأن السفسطائية هي شجرة الفلسفة المحرمة. بالكاد نجد له حضورًا في الكتب التي تبحث في تاريخ الفلسفة رغم طابع هذا التراث من حيث حداثته وفرادته عن كل تداول فلسفي آخر. فسنخصص هذا المقال لمناقشة آراء السفسطائية حول مواضيع محددة لفتح حوار مختلف مع تاريخ الفلسفة ولإعادة النظر في ملف السفسطائيين.

معنى السفسطائية

لغةً، تعني لفظة السفسطائي الشخص الحكيم، وهي تقابل لفظة الفيلسوف والتي يعنى بها الشخص الذي يحب الحكمة. السفسطائي يدعي أنه الحكيم، وكان بروتوعوراس هو أول من تجرأ ليطلق على نفسه الحكيم رغم التحديات الكثيرة. فالحكيم في التراث الإغريقي كان يطلق على هوميروس وهزيود والحكماء السبعة والانبياء(1)، فالسفسطائي يردم الهوة بين الإنسان والحكمة، عكس الفيلسوف الذي يجد في نفسه محبًا للحكمة وحسب وكأنها محرمة عليه أو يستحيل الوصول إليها. وذلك لكون الآلهة ومن يتواصلون معها مباشرة يحملون شعلة الحكمة، والفيلسوف هو الذي يتوق إليها.

مفهوم السفسطائي والسفسطة واجه الكثير من الاعتراضات والانتقادات من قبل الفلاسفة لا سيما أفلاطون. حتى تحول هذا المفهوم إلى نوع من الاستخفاف في يومنا هذا، فيُطلق على كل ما هو بديء سفسطة، فيصنفهم هيغل في الخانة المضادة للفلسفة أو اللا فلسفة(2). غير أن السفسطائية تمثل حركة تنويرية بطروحها الجريئة ومواقفها الإنسانية المدافعة عن الحقوق الكونية للإنسان في القرنين الخامس والرابع قبل الميلاد، فهي الأصل الحقيقي للحداثة وتشعباتها.

اقرأ أيضًا: ملخص كتاب قصة الفلسفة اليونانية لزكي نجيب محمود وأحمد أمين

السفسطائيون ونتاجاتهم

فقدنا الكثير من الكتب القيمة من جميع الحضارات نتيجة تدمير المكتبات لأسباب سياسية والتغيرات البيئية التي تسببت بتلف الكثير من المخطوطات والكتابات، وكانت لكتابات السفسطائيين حصة الأسد من التدمير، فهم كانوا منبوذين ومطاردين حتى من قبل الإغريق نفسهم وتعرضت معظم كتاباتهم للحرق. بجانب عدد بسيط جدا مما وصل إلينا من كتاباتهم الخاصة، لمحاورات أفلاطون دور مهم في الكشف عن افكارهم، وسوف نستعرض بعضًا من الاعمال المنسوبة إليهم وفقًا لمتبقيات تاريخية:

  • بروتوغوراس: في الحقيقة، حول الآلهة، حول بنية المجتمع الأصيلة، حول العالم الآخر، حول الفضائل وحول الدستور.
  • جورجياس: هيلين، بالاميد،الخطبة الأولمبية، الخطبة الجنائزية وحول اللا وجود.
  • بروديكوس: حول الوجود وطبيعة الإنسان.
  • أنتيفون: الحقيقة، السياسة وتفسير الاحلام.
  • هيبياس: الطروادة، نصائح، اسماء الشعوب وسجل ابطال الأولمبياد.
  • ثراسيماخوس: النص العظيم، الخطابة، الدستور والشفقة.

ثورة السفسطائية ضد التراث الإغريقي القديم

 الاساطير الأغريقية حول نشأة الكون والحقيقة وطبيعة الإنسان وكذلك قصائد هوميروس وهزيود تمثل التراث الإغريقي الأصيل الذي لم يتجرأ أحد المساس بها أو الخروج عن ظلها. فهذا التراث يؤكد بعض الحقائق المدعية، كالأصل الإلهي للعالم، والأصل الإلهي للقوانين والتشريعات. في حين، يزعم السفسطائيون بأن العالم ما هو إلا مادة لا دخل للآلهة والأرواح بها, وأن القوانين شأن بشري. فيقول السفسطائي كريتياس بأن البشر هم من اخترعوا الآلهة لترهيب الناس عند الخروج عن التقليد(2). وحول أصل القوانين، يدعي بروتوغوراس بأن القوانين تُخترع وتُعدل من قبل البشر بما يناسب منفعتهم. ويقول أيضًا بأن حياة الإنسان البدائية كانت وحشة ولا تخضع لأي قانون مما دفع بالبشر إلى سن القوانين لوقف العدوان المتبادل بينهم. ونظرًا لأن القوانين بحد ذاتها لم تكن فعالة إلا بعد الكشف عن الجريمة فقالوا بوجود آلهة ترى كل شيء وتعاقب المجرم (3).

كما كان للسفسطائيين رأي مخالف لرؤية هزيود وهومر والأساطير الإغريقية حول مجرى التاريخ والزمن. فكان الإيمان الراسخ هو أن التاريخ عبارة عن دورات، من الأفضل إلى الاسوأ. فكان يُعتقد بأن الدورة الأولى كانت تمثل سلالة ذهبية، بحيث لم تكن هناك حروب وسلوكيات شريرة ومؤذية. ومن ثم جاءت الدورة الفضية والتي كانت اسوأ من الذهبية وأفضل من البرونزية التي تلتها وهي بدورها كانت أحسن من الدورة الحديدية. فيقول هيزيود: “ليتني لم أكن من بشر الجيل الخامس بل متتُ قبله فالسلالة التي توجود الآن هي سلالة حديدية”. رفض السفسطائيون هذا التفسير، وقالوا بأن الماضي يمثل حالة وحشية وأن الإنسان يتقدم نحو الأفضل دوما، وأن الحاضر لا يخضع للماضي وأن المستقبل مفتوح.

ثورة السفسطائية ضد الفلسفة الطبيعية

يُقال بأن ديمقريطس قد فقأ عينيه ليبرهن بأن الحواس غير ضرورية لمعرفة الصدق والحقيقة. كما كان بارمنيدس و هيراكليتس وانكسيمانس وانكسيماندرس يرفضون دور الحواس في الوصول إلى الحقائق. وكان العقل هو الوسيط الوحيد بين الإنسان والحقيقة. بينما يؤكد السفسطائيون بأنه فقط من خلال الحواس المعرفة ممكنة. فيقول جورجياس بأن العقل الخالص من حيث هو مختلف عن الادراك الحسي او حتى كمعيار صحيح كالادارك الحسي محض خرافة(4). وبالنسبة للجوهر، كان فلاسفة ما قبل سقراط يزعمون بأن الظاهر لا يعبر عن حقيقة الأشياء إنما الجوهر أو الباطن، إلا أن السفسطائيون تمسكوا بالظاهر على أنه موضوع البحث، كما رفضوا إمكانية وجود حقائق ثابتة.

منهج البحث عند السفسطائية

قال أمبادوقليس أن الشبيه يدرك الشبيه، وزعمت المدرسة الذرية بأن الموضوع يأتي أولًا في المعرفة. وبعضهم قال بأن للأشياء حقيقة وكيفية ثابتة ومستقلة عن الذات. لكن السفسطائي بروتوغوراس يجد بأن المعرفة شأن إنساني وللذات الإنسانية الدور الأهم في الموقف الإدراكي. وله قول شهير في ذلك: “الإنسان هو مقياس الأشياء جميعا، مقياس وجود ما يوجد منها ومقياس لا وجود ما لا يوجد منها(3). ويرى السفسطائيون بأن المعرفة لا تتعلق بالموضوع المعروف وحده بل بالذات العارفة أيضًا(5). إذن، فالإنسان هو نقطة الانطلاق في الوصول إلى المعرفة. لكن هذا لا يعني بأنهم من دعاة الذاتية الذين رفضوا وجود عالم مستقل عن ادراكنا.

طبيعة وإمكانية المعرفة

لم تكن السفسطائية مذهبًا لتروج لحكمة معينة، لذا، ثمة خلاف بين السفسطائيين حول الأبستومولوجيا. فقال جورجياس باستحالة المعرفة، إذ أكد بأنه “لا يوجد شيء على الإطلاق، وإن وجد لا يمكن فهمه، وإن فُهم لا يمكن نقله للآخرين”. لكن بروتوغوراس كان يؤمن بإمكانية المعرفة. بيد أن المعرفة عند بروتوغوراس لا تشمل الميتافيزيقيا بل تقتصر على العالم المادي الموضوعي من حيث ظهوره لنا. وهذا الظهور ليس بظهور ثابت. فالعالم يظهر لي بشكل ويظهر لغيري بشكل مختلف. فيقول بروتوغوراس بأن الأشياء تكون بالنسبة لي كما تبدو لي إنما تكون لغيري كما تبدا لهم”(3).

والنبسية كما فهمها السفسطائيون -على الأقل بعضهم-  تختلف عن النسبية التي شاعت بين الاوساط العدمية. فما يجعل من معرفة العالم نسبية هو كون العالم في حالة حركة وصيرورة مستمرة والإنسان نفسه جزء من عالم الصيرورة. فكلا من العالم والإنسان يصيران. وبهذا الصدد يقول بروتغوراس: “لا شيء يوجد بذاته أو يكون في ذاته وأنك لا تستطيع بأي حال من الاحوال أن تعبر عن شيء ما تعبيرًا صحيحًا، فما أن نفسر شيء ما يتحول إلى شيء آخر من حيث الكيفية” (6).

كان الفيلسوف هيراكليتس يقول بأنه لا يمكن أن تنزل في النهر نفسه مرتين وذلك لأن النهر قد تغير في المرة الثانية. لكن السفسطائي كاريتليوس تجاوز هيراكليتس بقوله “لا تستطيع أن تنزل في نفس النهر حتى مرة واحدة طالما أن الصيرورة تجرف كل شيء”( 7). السفسطائية ترى في كل رأي بأنه صادق لأن الرأي لا يحتمل الكذب كيفما كان. فالكذب هو التعبير عن اللا وجود بالتالي فهو بدوره غير موجود وأن كل رأي يعبرعن الوجود فهو صادق بالضرورة. لكن كيف يكون لرأي ونقيضه نفس الدرجة من الصدق؟ هنا، تأتي السفسطائية بمفهوم التلاؤم. العالم يصير والإنسان يصير وهناك لقاءات مستمرة بين الإنسان والعالم وفي كل لحظة لقاء هناك تلاؤم ويظهر العالم بكيفية معينة للمدرك. وليس هناك رأي اصدق بل هناك الرأي الأحسن الذي يكون في خدمة الإنسان والمجتمع البشري أكثر.

وجود ومعرفة الآلهة

بالنسبة للآلهة يقول بروتوغوراس من المستحيل أن نعرف إذا كان هناك إله أم لا نظرًا لما يكتنفه الموضوع من الغموض ولقصر العمر. هذا الرأي اللاأدري لم يمر مرور الكرام فتم إحراق كتبه وحُكم عليه بالإعدام بتهمة الإلحاد، فهرب منهم ومات غرقًا(6). ويجد أمبريكوس بأنه لو شاءت الصدفة لشخص ما أن يعرف حقيقة الآلهة بشكل تام فسيظل هو نفسه على غير علم بصواب رأيه(8). وعن شكل وتجسيد الآلهة. يقول كسينوفون بأن كل شعب تصور آلهة على الشكل الذي يريده ولو تمكنت الخيول أن تصف الآلهة لوصفتها على شكلها(3). ويقول بروديكوس بأن البشر استنتجوا وجود الآلهة من أشياء ذات معنى في حياتهم مثل الشمس والانهار والنار، فديونيزوس ليس بإله الخمر إنما هو الخمر نفسه(3). تأرجحت السفسطائية بين الإلحاد واللاادرية في هذه القضية. ولهذه الآراء بصمة واضحة في الفلسفات المعاصرة.

الحرية والفضيلة

كان للإغريق نظرة دونية تجاه الآخرين ويسمون كل من هو غير أغريقي بالبربري، ورأوا في أنفسهم نوع مميز من البشر. كما كان التراث الإغريقي الروحي والفلسفي يؤمن بأن الإنسان يولد حرًا أو عبدًا وبالتالي المساوة بين جميع البشر والطبقات غير ممكنة كان هوميروس يعتبر بأن الاقدار السماوية شاءت أن يكون هناك عبيد واحرار ولا يمكن لأحد أن يتجاوز تلك الاقدار، وديمقريطس نفسه دعم هذا الرأي. غير أن السفسطائية انزلت القوانين من السماء إلى الأرض وقوضت فرضية التراث حول الاحرار والعبيد. فيقول هيباس أننا نحن والبرارة أخوة في الطبيعة. ورفض أنتيفون التمييز بين الإغريقي والبربري وقال قوله الشهير”خلقنا الخالق احرارًا وليس هناك من هو عبد بالطبيعة”(4).

وبالنسبة للفضيلة، لم تكن السفسطائية تؤمن بوجود فضيلة ثابتة، بل نظرت في المسألة نظرة منفعية براغماتية. أي ما يقع في حدود الفضيلة هو ما يخدم المجتمع الإنساني وهاجم السفسطائيون الأخلاق التقليدية اليونانية لكونها قائمة على أسس متناقضة مع الطبيعة.

مكانة الثورة السفسطائية في التاريخ الفلسفي

الرأي الشائع عن السفسطائية هو أنها كانت حركة من الدجالين الذين يلعبون بالكلمات والحجج لإقناع الناس بأمور لا قيمة لها. وحين نقرأ محاورات أفلاطون نجد بأنهم كانوا يسقطون واحدًا تلو الآخر أمام سقراط لضعف حججهم. في حين السفسطائية يمكن أن تعتبر فلسفة تنويرية لجرأتهم على تقويض الكثير من الأفكار الفلسفية والدينية آنذاك، دفعوا ارواحهم ثمن آرائهم الإنسانية. كما أن التراث السفساطئي كان غنيًا لدرجة أن الفلسفات الحديثة مثل الوجودية والبراغماتية والهرمونوطيقية قد تشربت منه. فهذه الشجرة المحرمة تستحق أن نجازف بعض الشيء للوصول إلى ثمارها

اقرأ أيضًا: قضية موت الفلسفة ومساءلة العلم

المصادر:

  1. https://iep.utm.edu/sophists/
  2. https://www.britannica.com/topic/Sophist-philosophy/Humanistic-issues
  3. https://plato.stanford.edu/entries/sophists/
  4. محمد حسين النجم، السوفسطائية في الفكر اليوناني، منشورات الحكمة 2008 ص119
  5. http://etheses.dur.ac.uk/4023/
  6. https://plato.stanford.edu/entries/protagoras/#MythProt
  7. https://aeon.co/ideas/can-you-step-in-the-same-river-twice-wittgenstein-v-heraclitus
  8. برتراند راسل، تاريخ الفلسفة الغربية، ترجمة زكي نجيب محمود، ص76.
  9. حامد خليل، الإنسان عند السفسطائيين، المجلة العربية للعلوم،ص32.

فلسفة الجنس والجنسانية


فلسفة الجنس والجنسانية

ما هو مثير في الجنس هو وجوده خارج الأمور العادية طيلة التاريخ، لم يُعتبر قط كنشاط عادي يُمارس خارج الاعتبارات الأخلاقية. حيث كان ولا يزال موضوع الخلافات العظمى والجوهرية.

يمثل الجنس حالة غريبة في تاريخ التحريم والتقديس، كأنه من المحال أن يؤخذ الجنس دون شروط وملاحظات مسبقة. كما يقع الجنس غالبًا على التخوم الفاصلة بين الرؤى والمذاهب والتوجهات الفكرية والدينية والسياسية.

كان الجنس قديمًا كواهب الكينونة تارة، ومفسدها تارة أخرى. حيث نجد شعوبًا قد قامت بتقديس الجنس وبناء المعابد للأعضاء التناسلية، ونجده لدى شعوب أخرى وهو في خانة الشر الكبير.

منذ القِدم وإلى الآن وجدلية التحريم والتقديس مستمرة، ففي عالمنا اليوم هناك معسكرين:

  • المعسكر الذي يجد في الجنس وسيلة للانجاب والتكاثر وممارسته تكون ضمن شروط وتحديدات دينية.
  • المعسكر الآخر يرى في الجنس حق شخصي يحدده الفرد بإرادته الحرة، بل ويمثل ركناً رئيسًا في الحداثة.

    في هذا المقال سنبين بعضاً من جوانب فلسفة الجنس أو الجنسانية، و سنناقش الطروحات المختلفة حول هذا اللغز الكوني.

الجنس في الحضارات القديمة


نقرأ في ملحمة جلجامش كيف تمكنت بغيٌ من ترويض الوحش أنكيدو الذي كان” يجوب السهوب والتلال ويأكل العشب ويرعى الكلأ مع حيوانات البر ويسقى معها عند مورد الماء “(1). ومن ثم بعد أن “تعلم الوحش فن المرأة، فانجذب إليها، ولبث أنكيدو يتصل بالبغي ستة ايام وسبع ليال“(1).

ثمة الكثير من الإشارات المهمة في هذا النص، إذ أن الجنس قادر على تغير التصميم أو الماهية. فإنكيدو صنعته الآلهة وحشًا؛ حتى حولته بغيٌ إلى إنسان يشعر ويحب ويصادق بواسطة الجنس.

وفي الحضارة الرومانية كان الجنس جانبًا طبيعيًا من جوانب الحياة، ولم يكن هناك تمييز بين الجنس المغاير أو الجنس المثلي -لم يكن هناك حتى اعتراف لغوي بأن المثلية الجنسية تختلف عن الجنس المغاير- والتي يمكن الاستمتاع بها طالما أن طرفيها مشاركين برغبتهما(2). كما كانت هناك مهرجانات خاصة بالجنس مثل مهرجان (Lupercalia).

لوحة جدارية من مدينة بومبي الرومانية، تعود للقرن الأول الميلادي، مكتشفة في غرفة نوم منزل سينتناريو.


في معظم الحضارات القديمة كانت هناك آلهة للخصوبة والولادة والجنس، وهذا ما يدلنا إلى كونية الجنس في الخطاب الإنساني.
ففي الصين القديمة كان هناك (هو تيابانو–Hu Tiabano) إله المثلية الجنسية. والإله (يو لوي–Yue Loe) كان يساعد الأفراد في إيجاد الزوج وكانت في يده خيوط القدر.

الإلهة أفروديت تركب عربة يجرها الإلهان أريوس وهايميروس_ 400_450ق.م

ولدى الأغريق كان هناك أيروس بن أفروديت وهو المسؤول عن الرغبات والجاذبية الجنسية، وفي الهند كانت راتي إلهة الانجذاب الجنسي(3).

تاريخ فلسفة الجنس والجنسانية

تقتضي ضرورة التوضيح أن نفرق بين الجنس كموضوع رئيس في الفلسفة وبين الجنس كعنصر من عناصر الحياة الزوجية.

الحضارة الإغريقية

نجد في فلسفة ما قبل سقراط بعض الإشارات إلى الجنس ضمن قالب العلاقة الزوجية كما هو الحال مع فيثاغورس وأرخميدس وبعض السفسطائيين، لكنهم لم يتطرقوا إليه كمسألة فلسفية بحتة.

بدأ أفلاطون يفلسف الجنس في محاورتي الندوة وفيدروس، ووصفه بأنه شغف قوي لامتلاك ما هو خير وجميل. أما تلميذه أرسطوطاليس لم يحسن الحديث عن أيروس بشكل مستقل، واكتفى بضمه إلى موضوع الفضيلة والعفة في كتابه (الأخلاق النيقوماخية)(4).

العصر الهنلستي

وفي العصر الهيلنستي، كات ثمة هناك مدرستين: الأبيقورية والرواقية.

تصنف الأبيقورية الجنس ضمن الرغبات الطبيعية غير الضرورية، بحيث يجب اشباعها بشكل معتدل دون أن تسيطر تلك الرغبات على الإنسان(5).

أما الرواقية لم تجد في الجنس ما هو ضروري، لذا فضلت الحب النقي والصداقة على النشاط الجنسي.

العصور الوسطى

أما في العصورالمظلمة حسب تعبير فرانشيسكو بتراركا، يصف القديس أوغسطين الجنس كغواية وشر عظيم، ويدعو إلى عدم ممارسة الجنس إلا بهدف الإنجاب لأن الأطفال هم الثمرة الوحيدة المهمة للنشاط الجنسي(6).

ولدى الأكويني الجنس وسيلة طبيعية للتكاثر داخل إطار زواج شرعي، وكل نشاط جنسي آخر يعتبررذيلة وضد إرادة الله(7).

عصر النهضة

حرر الفن الجسد من الاتهامات الدينية وارتفع به إلى فضاءات أيروتيكية وجمالية مختلفة، بحيث صار للجسد العاري نوعاً من الفضيلة. ولم يكن الفن يُمارس بمعزل عن الدين إنما في بيوت الدين نفسها، لذا نجد بدايات تصوير ونحت الأجساد العارية في الكنيسة. حيث تم تصويرالمسيح والأنبياء والقديسين على جدران الكنائس(8).
ومع بداية من القرن السادس عشر صار الجنس يشكل موضوعًا ذو شأن في الخطاب الفلسفي، ناقش ميشيل دي مونتين النشاط الجنسي في كتابه(قوة الخيال).

كما ذكر ديكارت في (عواطف الروح)، وديفد هيوم في رائعته (مقال في الطبيعة البشرية) أن العلاقة الجنسية تتكون من ثلاثة عناصر متنافرة: اللطف والشهوة والاستجابة الجمالية.

عصر التنوير

ناقش روسو الموضوع في سياق حياته في كتاب الاعترافات. بينما وصف كانط الجنس كرغبة شريرة ومدمرة للطبيعة البشرية. بينما حرر ماركيز دي ساد الجنس من كل القيود الممكنة وأباحه بشكل عام.

ودافع جون ستيورات ميل عن تعدد الزوجات والحرية الجنسية وبيوت الدعارة. بيد أن نيتشه لم يبالي بموضوع الجنس كثيرًا بل انتقد الحرية الجنسية لكونها تفسد طبيعة الإنسان.

القرن العشرين

كانت كتابات فرويد الأكثر جرأة في مجال الجنس، واعتبره الحجر الأساس في بناء الشخصية(4). أما برتراند راسل كان أقرب في بداية كتاباته إلى ستيورات ميل، وفي النهاية لم يكن مع الممارسات الجنسية خارج الزواج.

أما سارتر ربط بين حرية الآخر والجنس. ولكن العلاقة الجنسية وفقًا لسارتر تنتهي بالسادية أو المازوشية وبالتالي النشاط الجنسي يكون بمثابة انتهاك حرية الآخر(4).

أما ميشيل فوكو كان الأكثر إثارة للجدل، فقد كان مثلي الجنس من جهة وربط بين الجنس والسلطة من جهة أخرى. حيث ميز بين الجنس والجنسانية وفقًا للسياق الذي تجد فيه السلطة نفسها، ففرق بين التجارب الثلاث في تطور موضوع الجنس.

في اليونان القديمة كانت تجربة الجنس هي تجربة الذات. وفي المسيحية كانت تجربة الجسد، وفي الغرب ظهرت التجربة الجنسانية ما بين القرن السابع عشر والتاسع عشر(9). في حين وصف بول ريكور الجنس بأنه نهر الحياة.

الميتافيزيقيا المعادية للجنس

تدعي الميتافيزيقيا المتشائمة بأن الشخص الذي يرغب جنسيًا بشخص آخر، يجعل من ذاك الشخص موضوعًا للجنس قبل وأثناء النشاط الجنسي.

يقول كانط في (المحاضرات الأخلاقية): “يحول الجنس المحبوب إلى موضوع للشهية وهذا بحد ذاته يعد تدميرًا للطبيعة البشرية“(10). ويُقام هذا الادعاء على أن الوجود الإنساني سامي أو على حد تعبير كانط غاية -لا وسيلة.


حين يتحول الإنسان إلى موضوع يصبح كأي شيء آخر، بحيث يجوز ممارسة الكثير من الخداع للوصول إليه. وبعد قضاء الحاجة الجنسية، يصبح المحبوب شيئا مستهلكًا يمكن الاستغناء عنه.

فيصف برنارد بريم الأمر: “التفاعل الجنسي هو في الأساس تلاعب جسدي وعاطفي ونفسي وحتى عقلي“(10).إن هذا التفاعل يعد انتهاكًا بحق ذات الآخر، وذلك لأن الجوانب الجنسية منه تكون هدفًا لرغبتنا مع إهمال كل جانب آخر.

وهنا يقول كانط: “الجنس ليس ميل إنسان نحو إنسان آخر، بل فقط نحو جنس الآخر، أي الجانب الجنسي وحده يكون موضوع الرغبة”(10). علاوة على ذلك، يفقد الطرفين شخصيتهما، وذلك لأن الطرف الأول يفقد إرادته بخضوعه لرغبته الجنسية وبالتالي يستهدف الطرف الآخر إلى أن يفقد هو بدوره شخصيته إلى حد الاستهلاك.

يذهب كانط بعيدًا في هذا الاتجاه ويقول: “إذا كان الرجل يريد اشباع رغباته، وتريد المرأة اشباع رغبتها؛ يثير كل منهما رغبة الآخر، وهنا تتلاقي ميولهما، لكن الهدف ليس الطبيعة البشرية إنما الجنس، فيذهب كل منمها إلى افساد طبيعة الآخر البشرية، ويجعلان من الإنسانية أداة لإشباع شهواتهما وميولهما، وبالتالي ينزلان بالإنسان إلى مستوى الطبيعة الحيوانية“(10).

الميتافيزقيا الداعمة للجنس


تفترض الميتافيزيقيا المتفائلة أن الجنس هو آلية ترابط، تجمع الناس معًا بشكل طبيعي جنسيًا ولا جنسيًا في نفس الوقت.

ويتضمن النشاط الجنسي إرضاء الذات والآخر، ويولد تبادل المتعة كلاً من الامتنان والمودة، والتي بدورها تعمّق العلاقات الإنسانية وتجعلها أكثر جوهرية عاطفيًا.

كما يرى هذا الاتجاه في الجنس أكثر من مجرد جماع بين زوجين، بل يمثل الجنس قيمة كونية حتى خارج الزواج ودون أن يكون الهدف هو الانجاب، وهنا يدافع راسل عن الجنس بأنه يحافظ على كرامة الإنسان وطبيعته(11).

ويبين بول ريكور بأنه “حين يتعانق كائنان، هما لا يعرفان ماذا يفعلان، لا يعرفان ماذا يريدان، لا يعرفان عما يبحثان، لا يعرفان ماذا يجدان…الجنس بلا معنى لكنه يمتاز بكونه يعيد ربط الكائن البشري بقوة كونية“. ويضيف “أن الحياة وحدها بعينها كونية، كلية لدى الكل، وأن شأن البهجة الجنسية أن تجعلنا نشارك في هذا اللغز“(12).

الحق الطبيعي عند توما الأكويني


يستنتج توما الأكويني بأن ما هو طبيعي في النشاط الجنسي هو دافع الانخراط في الجماع عند الجنسين، ويعتبر الجماع آلية صممها الله لضمان الحفاظ على الأنواع الحيوانية بما فيها البشر.

وبالتالي فإن ممارسة هذا النشاط هو التعبير الطبيعي الأساسي عن الطبيعة الجنسية للإنسان. لأن الله صمم كل عضو من أعضاء الجسم لتأدية وظيفة معينة، فالعضوين الذكري والأنثوي هما من صنع الله ووظيفة الأول هو زرع الحيوانات المنوية في الثاني. وأن ايداع الحيوانات المنوية في أي مكان آخر غير العضو الأنثوي يعد خروجًا عن التصميم الذي أراده الله والحكمة الإلهية(10).

ويعتبر الأكويني الاستمناء والمثلية واستخدام أعضاء غير جنسية في الفعل الجنسي أنشطة مخلّة ومهينة وشاذة. وذلك لأنه كما الهدف من أعضاء الجسم واضح فإن الغاية من الجنس واضحة أيضًا وهي الإنجاب.

الأخلاق العلمانية عند توماس ناجل

يرفض توماس ناجل أخذ الأكويني بما هو مشترك بين الإنسان والحيوان، لذا نجد ناجل يركز على ما هو مختلف بين الإنسان والحيوان. أي ما يميز حياة الإنسان الجنسية عن الحياة الجنسية للحيوان.

ويجادل ناجل بأن الانحراف الجنسي لدى البشر يجب أن يُفهم على أنه ظاهرة نفسية وليست فيسيولوجية تشريحية كما ذهب الأكويني. وذلك لأن الجانب النفسي للإنسان هو الذي يميزنا عن الحيوان، وبالتالي فإن كل حساباتنا حول النشاط الجنسي الطبيعي يجب أن تعترف بأن نفسية الإنسان فريدة ومميزة(10).

إن النفسية الطبيعية للإنسان تكون واضحة حينما يستجيب كل طرف بإثارة جنسية حين يلاحظ الإثارة الجنسية للطرف الآخر (10). أي العلاقة الطبيعية، هي أن يشعر الطرفين بالإثارة الجنسية، وفي هذا اللقاء يكون كل طرف مدركًا بنفسه وفي نفس الوقت يدرك الطرف الآخر على أنهما يمثلان ذاتًا وموضوعًا في تجربتهما الجنسية المشتركة، بمعنى ألا يكون أحدهما إلغاءً ونفيًا للطرف الآخر. بذا، فأن الانحراف الجنسي هو غياب هذا الوعي المشترك بدور الطرفين في العملية.

ولا يعتبر ناجل المثلية أو الجنس الشرجي أو استخدام الأعضاء غير الجنسية والأدوات والجنس غير الهادف للانجاب نشاطًا شاذا، طالما تتحقق رغبة الطرفين الواعية. أما الاستمناء والاغتصاب من الانحرافات الجنسية وذلك لعدم تحقيق رغبة الطرف الآخرأوغيابه.

الخلاصة

في البداية اتخذ الجنس موقعًا خاصًا في الخطاب الأسطوري للحضارات القديمة، ومع بداية التفلسف اليوناني تحول إلى موضوع خاص لمناقشات عقلية.

وفي العصور المظلمة استسلم للنقاش اللاهوتي والحكم الكنسي. ومع عصر النهضة صار الجنس موضوعًا فنيًا في السياقات الجمالية، إلى أن صار مسألة من مسائل الفلسفة من جديد ابتداءً من القرن السادس عشر.

وبات بات له مكانة في الحقل العلمي مع فرويد. ومع بروز الحركات النسوية والمثلية وتطور البحوث السايكولوجية والاجتماعية والانتروبولوجية وحتى الفزيولوجية في موضوع الجنس، صار للجنس مكانة مختلفة في الخطاب الفلسفي وحتى الديني.

لكن الإشكال الجنسي سيظل قائمَا في الخطاب الإنساني نظرًا لما يحمله من قيمة في صنع السرديات الحداثية أو في خلق جدالات أخلاقية.

المصادر

1- طه باقر، ملحمة كلكامش، ص41-42.

2- ancient.eu

3- theoi

4- encyclopedia

5- themontrealreview

6- thebodyissacred

7- theo.kuleuven.b

8- bbc

9- plato.stanford

10- iep.utm.edu

11- russell-j

12- فتحي المسكيني، هجرة إلى الإنسانية، الطبعة الأولى 2016، منشورات الاختلاف،ص58-59

معنى الحياة في الرهان المعرفي

معنى الحياة في الرهان المعرفي

جئتُ لا أعلم من أين ولكني أتيت
ولقد أبصرتُ قدامي طريقًا فمشيت
وسأبقى ماشيًا إن شئت هذا أم أبيت
كيف جئتُ؟ كيف أبصرتُ طريقي؟
لستُ أدري!

يثير إيليا أبو ماضي في قصيدة الطلاسم أكثر القضايا قدمًا في تاريخ السؤال البشري. اعتاد الإنسان أن يستفسر عن معنى وجوده في سياقات متباينة ووضع فرضيات كثيرة للوصول إلى إجابة مقنعة، بحيث يمكن وصف المسيرة البشرية بأنها مسيرة موجهة نحو إيجاد معنى للحياة.

وحتى تبدو الحياة ذات قيمة ومعنى، كان على الإنسان أن يتجاوز ظاهرها المادي ويدعي بأنه ثمة هناك جوهر يسكن العالم/الوجود. وهذا ما دفعه إلى تصورات أسطورية في البداية، فقام بأسطرة كل شيء وعرَفه في ظل قوى خفية.

لكن مع مرور الوقت لم يكف الناس عن طرح هذا السؤال بل احدثوا بعض التغيرات في سياقها وحسب. فمنهم من ادعى بأن المعنى يكمن في علاقاتنا الروحية، ومنهم من انزل المعنى إلى مستوى الجسد وقال بأن حياة ذات معنى تتحقق بتحقيق رغباتنا الشخصية. في حين رأى بعضهم في صنع معنى من قبل الفرد كحل حاسم، لكن اخذ اليأس بعضهم من هذا السؤال وقالوا بأن الحياة تفتقر إلى القيمة والمعنى أساسًا.

وفي هذا المقال، سوف نسلط الضوء على النظريات التي ناقشت معنى الحياة.

المنظور الديني:

مسألة معنى الحياة من المسائل المفضلة في النقاش الديني. وقد يحدث أن يتفرد الدين في تقديم الإجابة؛ وذلك لأن الدين نفسه قائم على وجود معنى للحياة سلفًا. ويتمادى في هذا الجانب ويرى في تلك الغاية قيمة أكثر مما تحمله الحياة، لأن تلك الغاية تسبق الحياة ومتقدمة عليها.
على رغم من وجود ديانات كثيرة تتنازع فيما بينها في أكثر القضايا جوهريةً، إلا أن هناك وجهة نظر بهذا الخصوص. وهي: حياة ذات معنى تتطلب وجود الله والإيمان به. بمعنى أن وجود الله جنبًا إلى جنب مع الارتباط المناسب به ضروريين وكافيين لتأمين حياة ذات معنى(1).

يرى الدين في حياة الفرد على أنها جزء من خطة الله في خلق الكون، وما يجعل من حياته ذات قيمة كبيرة ومعنًى نهائي هو أنه يساعد لله في تحقيق تلك الخطة وذلك القصد الإلهي، وإذا ما فشل الفرد في فعل ما يريده الله، يسود اللا معنى في حياته(2).

وفي هذا الصدد يكتب الفيلسوف بليز باسكال: “هذه الهاوية اللانهائية لا يمكن ملؤها إلا بما هو لا متناه وثابت، أي بالله نفسه”. ويعترف القديس أوغسطينيوس: “لقد صنعتنا لنفسك. وقلوبنا مضطربة إلى أن تستقر فيك”(1).

المنظور العلمي:

السؤال عن معنى الحياة إذا ما طُرح في سياق علمي سيحدث الكثير من المغالطات لسببين على الأقل.

أولًا: هناك شيء من الأنانية البشرية في هذا السؤال، إذ نبحث عن معنى يتوافق مع مصالحنا الإنسانية. وهذا السؤال يفترض مسبقًا بأن المعنى يُقاس على الإنسان. أي الإنسان هو العنصر المحكي في تحديد المعنى؛ والعلم لا يمكنه التعامل مع مسألة كهذه. فالإنسان مجرد حلقة تطورية وكيان حيوي كسائر الكائنات.

ثانيًا: لا يتعامل العلم مع غاية الأشياء بالمعنى الذي نريده إنما مع آلية عملها، واستنتاج قيمة أو معنى من هذه الآلية لا يعدو أن يكون أكثر من تأويل فلسفي أو ديني.

ويخبرنا العلماء أن الوجود نشأ من تفاعل عشوائي بين المواد الكيميائية والغازات، وإذا كان له معنى فهو كئيب وضيق جدًا.

فالإنسان حاله حال الأميبا وغيرها من الكائنات، معنى حياته هو انتشار المادة الجينية، هذا صحيح وفي نفس الوقت مؤسف(3). تشبه الحياة لعبة، الهدف منها هو الإستمرار في اللعب.

استطاعت بعض الجينات والأنساب النبيلة من البقاء في اللعبة لفترة أطول، ولكن أين هو المعنى في لعبة لم يسن قواعدها أحد، وفي النهاية لا يمكن الفوز بها. إذن ليس هناك ثمة معنى جوهري للبقاء على قيد الحياة(4). ويعلق لورانس كراوس على ذلك ويقول: “حقيقة تطورنا على هذا الكوكب هي مجرد حادث كوني، والاشخاص الذين يعتقدون بخلاف ذلك من المحتمل أنهم يعانون من وهم ديني”(5).

الطبيعانية أو المذهب الطبيعي:

هناك طبيعانية ذاتية وأخرى موضوعية. الأولى تتميز بكونها متفائلة، فهي تدعي بأن حياة ذات معنًى قوي ممكنة حتى ولو لم يكن هناك إله أو عالم ما بعد الحياة أو فوقها.

وهي تسلم بأن حياة ذات معنى تختلف من شخص لآخر وتقوم على حصول الفرد ما يريده بقوة أو من خلال تحقيق أهداف محددة ذاتيًا أو من خلال تحقيق ما يعتقد المرء أنه مهم حقًا، كما الاهتمام بشيء ما أو حبه بصدق من شأنه أن يجعل الحياة ذات معنى(1).

لكن يؤخذ على هذا المذهب تطرفه الذاتي، فتطبيقه سيكون بمثابة تبرير لكل الأفعال الشنيعة والوحشية طالما أن الأشخاص الذين يقومون بهكذا أفعال يجدون راحة وطمأنينة فيها.

في الطرف المقابل هناك، الطبيعانية الموضوعية. يحاول المذهب الموضوعي معالجة الفجوات التي تتخلل المذهب الذاتي، وهو يؤكد بأن حياة ذات معنى تتأسس على التواصل الفعال والمناسب مع الحقائق الموضوعية المستقلة عن عقل الفرد(1).

ومن الجدير بالقول هو أن الموضوعية لا ترفض الذاتية دائمًا. بل نجد أحيانا أنها ترى في الجانب الذاتي كشرط مهم لتحقيق حياة ذات معنى، وبهذا الصدد تقول سوزان وولف: “ينشأ المعنى عندما يلتقي الانجذاب الذاتي مع الجاذبية الموضوعية”(2).

المنظور الوجودي:

يقسم البعض الوجودية إلى وجودية دينية وأخرى ملحدة، لكن كما يقول بول ريكور التصنيف شأن بيداغوغي وليس معرفي.

ومن جانب آخر يرفض كبار الوجوديين فكرة التمذهب، أي لا يدعون وجود فلسفة وجودية أو موجودية بحتة. لكن هناك نوع من التوافق بين ما نطلق عليهم فلاسفة الوجودية حول إشكال المعنى.

فهم يرفضون وجود معنى للحياة، أي معنًى جاهز، لكنهم يعولون على إمكانية خلق معنى ما في سياق الحرية الفردية. وهذه الحرية كما يقول سارتر، يتم تحديدها بمعزل عن أي تحديد مسبق من قبل الإله أو من خلال قيم أو معرفة موجودة سلفًا”(6).

ولأن الوجودية تخرج الإنسان إلى سياق مختلف عن سياق وجود باقي الكائنات. فهي تركز على الوجود الإنساني على أنه نمط خاص من الكينونة كما يقول هايدغير. فالإنسان حين يلقى في الوجود لا يحمل معه أي معنى أو جوهر، بل هو من يقوم بصنع معنى لوجوده بعد أن يدركه على نحو خاص(6).

وهنا يقول هايدغر في كتابه الأهم (الكينونة والزمان): “السؤال عن معنى الحياة هو السؤال حول كيفية عيش حياة أصيلة، حياة تكون حياتنا نحن دون أن تكون محددة مسبقًا في المجتمع، وأن تعيش حياة أصيلة هي أن تختارها بنفسك”(7).

ولنيتشه فكرة مشابهة، فهو يرسم صورة الإنسان على أنه جسر لا هدف، ويؤكد على أنه مهما كان معنى الحياة أو سيكون، فهو معنًى أرضي وليس سماويًا، ومعنى الحياة هو أن يتم خلقه لا اكتشافه(7).

المنظور العدمي:

ما هو جدير بالإشارة إليه في البداية، أن ما يجعل العدمية مختلفة عن الوجودية هو كونها ترفض حتى إمكانية خلق المعنى.

فهي لا ترفض وجود معنى جاهز وحسب بل تشك حتى في مزاعم الوجودية حول إمكانية صنع معنًى ما؛ وذلك لأنه حياة ذات معنى غير ممكنة على الإطلاق. تركز العدمية على عنصرين مهمين في حياة الإنسان، الشعور بالملل وعدم الرضى، بحجة أن الملل يصف الحياة بشكل كاف على أنها بلا معنى، كما أن حياة الإنسان تفتقر إلى القدر المطلوب من الرضى ليمنحها معنى(1).

وتؤكد بأن ما من شأنه أن يجعل الحياة ذات قيمة إما لا يمكن أن يوجد أو لا يمكن الحصول عليه. كما تزعم بوجود شيء ما في الحالة الإنسانية تمنع المعنى من الظهور(2).

خلاصة:

معنى الحياة من القضايا التركيبية كما يقول أدوارد مور. فمهما حاولنا أن نجعل منها قضية موضوعية نسقط في فخ الذاتية. حكمنا على طبيعة الأشياء لا يتعدى كونه تأويلًا شخصيًا منا، وحتى تلك الاحكام تتغير حسب الزمن وتأخذ مكانها أحكام أخرى. لكن مع ذلك، من الضروري أن يستمر الإنسان في بحثه عن المعنى، وقد يكون البحث هو نفسه المعنى. لا يمكن التغاضي عن أهمية البحث طالما أن السؤال لا يتوقف عن الظهور، ويعد من الاسئلة الحاضرة على الدوام في ظل عالم لا يسكت فيه صوت الحرب. في الوقت ذاته قد يساعدنا هذا السؤال لأن نعيد النظر في الكثير من السرديات التي تربطنا بالعالم وبالآخرين وبأنفسنا.

المصادر:

Exit mobile version