الديمقراطيّة عند المفكّر جورج طرابيشي

يُعتَبر الكاتب والمفكّر جورج طرابيشي من أهمّ المفكّرين والناقدين في العصر الحديث. حيث اشتُهِرَ بترجماته الغزيرة لفرويد وهيغل وسارتر وغيرهم. كما اشتهر بمشروعه الفكري الضخم «نقد نقد العقل العربي» الذي جاء ردّاً على مشروع محمد عابد الجابري «نقد العقل العربي». وعمل أيضاً على تحديد الإشكاليّات التي تعيق تطوّر المجتمعات العربيّة. وفي مقدمتها إشكاليّة الديمقراطيّة الأكثر إلحاحاً على الساحة العربيّة. فالإشكاليّة، على عكس المشكلة التي يتم حلّها بطريقةٍ علميّةٍ برهانيّة، هي طرحٌ يتناول مسألةً تخضع لأجوبةٍ متعددةٍ متناقضةٍ أحياناً. تختلف هذه الإجابات باختلاف أدوات المعرفة وبتطور النظرة التاريخيّة. فهي لا تتحرّى عن جوابٍ بقدر ما تحاول إعادة صياغة السؤال. من هنا تناول طرابيشي الإشكاليّة الديمقراطيّة في عدّة مستويات ومحاور في محاولة تصويب المفاهيم. فكيف حلّل جورج طرابيشي الإشكاليّة الديمقراطيّة في العالم العربي؟

الديمقراطيّة في العالم العربي

يتبنى المثقّف العربيّ اليوم تحت ضغط التأخر الفكريّ والسياسيّ والعسكريّ في مواجهة الغرب، وفي محاولة اللحاق بالمجتمعات المنتجة للحداثة، الديمقراطيّة كأيديولوجيا خلاصيّةٍ تمتلك الحلّ السحريّ لجميع القضايا بعد فشل المشاريع القوميّة والاشتراكيّة التي عوّل عليها سابقاً. لكنّ الديمقراطيّة، كما يراها جورج طرابيشي، هي نتاج تطوّر المجتمع وتقدمه وليست مفتاح هذا التطوّر. حيث يحتاج ترسيخها إلى جهدٍ مضاعفٍ في فكر الفرد وبنية المجتمع. فهي وإن كانت شرطاً أساسياً لا يحدث الإقلاع دونه، لن تعطي الهدف منها دون توافر كافة العوامل الأخرى. وإذا تمّت ممارسة الديمقراطيّة في مجتمعاتٍ غير مؤهّلةٍ أو تمّ فرضها بطريقةٍ ميكانيكيّةٍ أدّت إلى نتائج كارثيّةٍ. وهو ما يظهر في التجارب التاريخيّة في أمريكا المكارثيّة والجمهوريّة الفرنسيّة الرابعة وغيرها من الأمثلة.

والديمقراطيّة التمثيليّة وعلى الرغم من أصولها اليونانيّة هي اختراع الطبقة البرجوازيّة التي صنعت الحداثة. تظهر لظهورها وتغيب لغيابها. لذلك لا تظهر الديمقراطيّة في المجتمعات الاشتراكية والشيوعيّة ولا في دول العالم الثالث. فالثورات الوطنيّة اليساريّة والانقلابات العسكريّة التي اجتاحت الوطن العربي قضت على الطبقة البرجوازيّة المترهّلة أساساً والمنحدرة من صلب الإقطاع وبالتالي على الديمقراطيّة في سبيل ترسيخ سلطتها المطلقة. لذلك تدفع المجتمعات العربيّة اليوم ثمن تغييب البرجوازيّة من خلال ضغط السلطات الفوقيّة السّاعية لترسيخ دكتاتوريّتها، وضغط الحركات الشعبيّة الأصوليّة والمنذرة بقطعٍ أكبر مع قيم الحداثة والديمقراطيّة.

الديمقراطيّة بين قمع السلطة والتشدّد الدينيّ

« الأنظمة العربيّة لا تتحمّل انتخاباً حراً، والمجتمعات العربيّة لا تتحمّل رأياً حراً »

جورج طرابيشي

تصوّر التحليلات الشعبويّة المأزق الديمقراطيّ في العالم العربيّ على أنّه نتيجةٌ منطقيّةٌ لانفراد الدولة في التحكّم في مصائر الشعب دون أن يكون للمجتمع المدنيّ دورٌ في الحكم. أمّا جورج طرابيشي فيرى أنّ ضعف الدولة وقلّة حضورها هو السبب في هذا المأزق دون إغفال دور ضعف المجتمع المدنيّ ومحدوديّة فعاليته في هذا الإشكال. فالدولة واقعةٌ تحت عدوان السلطة الدكتاتوريّة التي كسرت احتكار الدولة للتنظيم وللعنف الشرعيّ ومارست العنف ضد الدولة والمجتمع على السواء. لذلك لابدّ من إعادة الاعتبار إلى الدولة وسلطة القانون من أجل حلّ الإشكاليّة الديمقراطيّة.

تقدّم الديمقراطيّة عن طريق مبادئ فصل السلطات وحقوق الإنسان علاجاتٍ ناجعةً لمحاولات مراكمة المزيد من السلطة في يد الدولة. لكّن انتشار الطائفيّة والتقوقع الدينيّ في المجتمعات العربيّة تقوّض الديمقراطيّة. فالأكثريّة داخل البرلمان ليست أكثريّةً حزبيةً وإنّما أكثريّةٌ دينيّةٌ طائفيّة والتصويت لا يكون إلّا في خدمة المصالح الدينيّة أو الإثنيّة. كما يدخل التشدد الدينيّ في صدامٍ عنيفٍ مع مبادئ حريّة الفكر والاعتقاد الأساسيّة في كلّ نظامٍ ديمقراطي باستخدام سلاح التكفير الذي يتراوح تأثيره بين العنف المعنوي والسجن وحتّى القتل. لذلك فإّن المبادئ الديمقراطيّة واقعةٌ بين ضغط الرِّقابة السياسيّة للسلطة وضغط الرِّقابة الشعبيّة الدينيّة.

يرى جورج طرابيشي أنّ تحديث النظام الاجتماعي والتعليمي وبالتالي تحرير العقل العربيّ من الجهل من شأنه ترسيخ الظاهرة الديمقراطيّة على أساسٍ اجتماعي. لذلك لن يتمّ ترسيخ الديمقراطيّة ولن تكون حريّة صندوق الاقتراع واقعاً ما لم يتم تحرير الفكر في المجتمعات العربيّة. فمجتمعٌ يريد الديمقراطيّة في السّياسة لا بد أن يقبلها في الفكر والدين.

المصادر: كتاب هرطقات للكاتب جورج طرابيشي

ملخص كتاب التجديد والتحريم والتأويل للكاتب نصر حامد أبو زيد

صدر كتاب التجديد والتحريم والتأويل للكاتب نصر حامد أبو زيد عام 2010. يُعتبر هذا الكتاب خطوةً في المشروع التأويليّ، الذي كرّس الدكتور نصر جهوده فيه لمحاولة تجديد الفكر الدينيّ وتحرير العقل من التزمّت والنزعة الأصوليّة عن طريق صياغة قراءةٍ معاصرةٍ متجدّدةٍ تقتضي مواجهة التأويلات التقليديّة. فالتجديد عنده ليس رغبةً شخصيّةً، بل هو حاجةٌ ملحّةٌ في ضوء المتغيرات التاريخيّة والاجتماعيّة دون المسّ بالطبيعة الإيمانيّة للخطاب القرآنيّ. وعلى الرغم من ذلك، أثارت أفكاره زوبعة انتقاداتٍ من أصحاب العقل الفقهيّ انتهت إلى محاكمته وتفريقه عن زوجته بحجّة الارتداد عن الدين. فماذا قال أبو زيد في كتاب التجديد والتحريم والتأويل؟

«التجديد في أيّ مجالٍ لا ينبع من رغبةٍ شخصيّةٍ أو هوىً ذاتيٍّ عند هذا المفكّر أو ذاك، بل هو أمرٌ ملحٌّ لإطلاق الطاقات وتحريك حالة الركود التي تعاني منها مجتمعاتنا، وهو تعبيرٌ عن المسؤوليّة.»

نصر حامد أو زيد

أهميّة تجديد الخطاب الديني

تظهر الحاجة إلى التجديد عندما تتأزّم الأوضاع السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة. فتدخل الأمّة في حالةٍ من الركود واجترار إنجازات وانتصارات الماضي هرباً من انكسارات وخيبات الحاضر. والتجديد عمليّة تواصلٍ خلّاقٍ بين الماضي والحاضر. فهو خروجٌ من التقليد الأعمى وإعادة إنتاج الماضي باسم الأصالة، وتحررٌ من التبعيّة الفكريّة للغرب باسم التطور.

التجديد في ضوء المتغيّرات الاجتماعيّة

ظهرت في القرن التاسع عشر، واستقرت في القرن العشرين، قناعةٌ بأنّ مجتمعاتنا دخلت مرحلة الحداثة بسبب التغيّر الكبير الذي حدث في البنية السياسيّة وبدايات تشكّل الدولة الحديثة. ولكنّ الهزيمة المدوّيّة في حرب عام 1967 أظهرت أنّ مجتمعاتنا ما تزال مجتمعاتٍ تقليديّةٍ. وأنّ آليّات اتخاذ القرارات آليّاتٌ غير مؤسّساتيّةٍ تابعةٌ لرغبة القائد. استوجب ذلك إعادة قراءة التراث، ليس بهدف التقليد وإعادة الإحياء، بل بهدف النقد واستخلاص النتائج وفق رؤيةٍ حداثيّةٍ.

تقوم الجماعات السياسيّة وأنظمة الحكم المستبدّة بمحاولة توظيف الدين لتحقيق غاياتٍ شخصيةٍ أو حزبيةٍ مستغلّةً تدخّل الدين في كلّ مجالات الحياة. فتعمل على السيطرة على الشعوب من خلال التحالف مع أو الضغط على رجال الدين. يتولّد الخطر هنا من أن يؤدي خلط الدين بالسلطة إلى تحميل الدين مسؤوليّة الظلم السياسيّ. كما حدث سابقاً عندما سببت ممارسات الكنيسة الضرر للدين المسيحيّ في أوروبا. لذلك يجب أن يدخل التنوير وإعمال العقل في كلّ المسائل الدينيّة المحرّم على العقل الغوص فيها من أجل تحريرها من سيطرة الفقهاء وهدم الجدار الذي يحاولون تشييده بين العامّة والخاصّة.

تتشارك الحركات الأصوليّة الفزع من التجديد و التأويل العصريّ للإسلام فيما بينها حتى وان اختلفت مذاهبها. وتعتبر أنّ الآراء التي طرحها السلف صائبةً بسبب قربهم التاريخيّ من العصر الذهبيّ للإسلام، ولأنهم أكثر تقوى من المعاصرين. فأصبحت كلمة التأويل والتفكير النقديّ عندهم رمزاً لمحاولات هدم الإسلام، خاصّةً وأنها ارتبطت بصراعاتٍ سياسيّةٍ تاريخيّةٍ. واعتبرت محاولةً لإرضاء الغرب دون التمييز بين الغرب السياسيّ الذي تحكمه العلاقات والمصالح والغرب الحضاريّ بما يشمله من فكرٍ وفلسفةٍ وفنون. أدى ذلك إلى المزيد من الانغلاق والتقوقع على الذّات ورفض كلّ محاولةٍ لقراءةٍ عصريّةٍ للدين تنطلق من المتغيرات الاجتماعية والثقافيّة.

التجديد في مواجهة التحديات الخارجيّة

تحاول العولمة صنع دينٍ جديدٍ قائمٍ على قوانين السوق والعمل. وهو دينٌ لا يُقهَر ولا يُعطي وعوداً بالرحمة والعدالة والانتقام من الظلم. لذلك فمن الطبيعيّ أن تقاوم كافة المجتمعات- بما فيها المجتمعات التي صنعت الحداثة- هذا الدين وقوانينه القاسية التي صنعها الأقوياء للسيطرة على المجتمع. وقد تمكّن الدين الجديد من احتواء تأثير الأسلحة القديمة المستخدمة في مواجهته والمتمثّلة في الحفاظ على التراث. وعرف كيف يوظفها جيداً في دعوى مكافحة الإرهاب وصراع الحضارات، بحجّة الحفاظ على السلم العالميّ وحريّة حركة السوق. لذلك ينبغي استخدام أسلحةٍ جديدةٍ تكشف وحشيّته، وتساهم ببناء حضارةٍ قادرةٍ على استيعاب الاختلافات والتناقضات عن طريق فتح أبواب العلم والمعرفة والحريّة.

ساهمت مشاريع الحداثة وإعادة التأويل بفصلها بين الإسلام والمسلمين بتمجيد الماضي في مقابل إدانة الحاضر. ولم يتمّ نقد الماضي إلّا في مرحلة الانشطار والتشظي الفكري والثقافي. وساهم ظهور التعليم المدنيّ بدل المدارس الدينيّة المنتشرة حينها في توسيع الفجوة الثقافيّة بين خرجيّ المدرستين. تزامن هذا مع انتشار خطاب الاستشراق الذي يركز على أنّ الإسلام هو المشكلة والعقبة التي تفصل العرب عن التطور والحداثة. مما أدى إلى ظهور خطابٍ دفاعيٍ لتبرئة الإسلام من تخلّف المسلمين. وهكذا ظهر تيار الإصلاح الدينيّ الذي تحالف أحيانا مع السلطة، وهاجمها أحيانا بحسب اختلاف وتوافق المصالح.

التجديد يحصّن الدين من التوظيف السياسيّ

إنّ محاولة نسب التخلّف الاجتماعيّ إلى مشكلةٍ في بنية العقل الإسلاميّ بمعزلٍ عن الظروف الاجتماعيّة والتطورات التاريخيّة تفتقر إلى الصحّة والعقلانيّة. لأنّ السبب الحقيقي يكمن في تفشي الجهل والظلم الاجتماعي والقمع السياسي. لذلك يرى نصر حامد أبو زيد أنه يجب علينا، من أجل نظرةٍ نقديّةٍ متوازنةٍ ونافعة، تأمّل التاريخ الإسلاميّ بوصفه تاريخ المسلمين بوصفهم بشراً وليس تاريخاً مقدساً. كما لا ينبغي فصل الإسلام عن المسلمين لأنّ هذا الفصل يؤدي إلى رسم صورةٍ طوباويّةٍ لدينٍ مثاليٍّ لا يتأثّر بالمتغيّرات الاجتماعيّة.

يمثّل التحليل النقديّ ضرورةً لا بديل عنها لفهم الدين بوصفه خطاباً إنسانيّاً ناتجاً عن البشر أنفسهم دون المساس بقدسيّة المصدر. ونلاحظ تبدّل وتطوّر هذا الخطاب بوضوحٍ وتفاعله مع المتغيّرات خلال مراحل التأسيس الأولى. لذلك فالخطاب القرآنيّ هو خطابٌ حيٌ متفاعلٌ يتطلّب دائماً إعادة قراءةٍ وتأويل من جيلٍ إلى آخر. يجب أن تتم هذه القراءة دون إغفال تأثير العوامل السياسيّة مثل الظلم الاجتماعيّ والقضايا التي تتعلّق بالصراع بين الطبقات. وتميّز هذه القراءة للعوامل السياسيّة بين التواصل الطبيعي وعلاقات التفاعل الحتميّة، وبين محاولات استغلال الدين وتوظيفه سياسياً.

الفن وخطاب التحريم

نستطيع من خلال تحليل الخطاب الدينيّ التعرّف على المناخ الفكريّ العام. فالخطاب الدينيّ، بوصفه جزءاً من الخطاب الثقافي، يزدهر عندما يكون المجتمع متحرراً ومنفتحاً وإنسانيّاً. ويسوده التعصّب وعداء الآخر عندما يختنق المناخ العام.

لماذا يسبب الفنّ فزعاً لخطاب التحريم؟

الفنّ كمثالٍ على تأثر تحليل الخطاب الديني بالمناخ الفكري العام، هو ممارسة أقصى درجات الحريّة. حيث يتحرر الإنسان من خلال الفنّ من قيود الفكر واللّغة والجسد، ويبني بواسطته عالمه الخاص. لذلك يكره المتشددون- تشدّداً دينياً كان أم اجتماعيّاً- الفنّ، لأنهم يخلطون ما هو معياريٌّ بما هو فنيٌّ. فهم يسعون، بسبب فزعهم من الحريّة، إلى منع التغيير والحفاظ على اللحظة التاريخيّة والسياسيّة بهدف جعلها أبديّةً. فيتحدثون عن ضوابط ومعايير الحريّة قبل أن تبدأ الممارسة. وهو ما يعاكس الروح الأساسيّة للفنّ الذي يسعى، من خلال الغوص في آفاقٍ مجهولةٍ، لكسر وتأسيس معايير جديدةً تُكسر بدورها في تجاوبٍ مع التقدم العلمي والفكري.

هل تحرّم الأديان الفنّ؟

يظهر ارتباطٌ عضويٌّ واضحٌ بين الدين والفن. لدرجةٍ لا يتصور معها دينٌ بلا فن. يتجلى هذا الارتباط بوضوحٍ في الصور والأيقونات في المسيحيّة، وصيغ الأدعية والصلوات ذات الصياغة الشعريّة الواضحة في كلّ الأديان، فضلاً عن الموسيقى المصاحبة للصلوات في الكنائس والترتيل في قراءة القرآن. بالإضافة إلى تغلغل الفنّ المعماريّ في التصميم الداخلي والخارجي للمساجد والكنائس.

كان الإسلام قد حطّم الأصنام في بداياته حرصاً على التوحيد النقيّ الخالي من شبهة الشرك. لكنّ تحريمها ليس تحريماً أبدياً لفن النحت والتصوير، بدليل أنّ المسلمين لم يحطموا التماثيل في البلدان المفتوحة. فهو تحريمٌ نابعٌ من إدراك متغيرات التاريخ. وازدهر فنّ الموسيقى والغناء في الفضاءات الإسلاميّة. فترتيل القرآن وتجويده هو فنٌ موسيقيٌّ بامتياز. فالإسلام أدرك أنّ الفنّ حاجةٌ إنسانيّةٌ لا يمكن الاستغناء عنها. ويمتلئ القرآن بالأدوات الفنيّة من تصويرٍ وعرضٍ وتخييل. فهو نصٌ أدبيٌ بامتياز انبهر به العرب قبل التشريع والنبوءات. فطبيعته البلاغيّة هي التي دفعت الكثيرين منهم إلى الإيمان به أو الإقرار له بالتمييز والزعم، في محاولة تفسير تفوّقه، بأنه سحرٌ مبينٌ.

أحدث الإسلام تطوراً جديداً في فهم ظاهرة الشعر التي كانت قبل الإسلام مرتبطةً بتصوّر أنّ الشعراء يتلقون الوحي من الجن. تطلّب ذلك التمييز بين مفهوم النبوّة وظاهرة الشعر. فإن كان الشعر وحياً من الجنّ فإنّ القرآن وحيٌ من الملائكة دون الاستغناء عن الحاجة للشعر في الإسلام. من هنا نرى أنّ تحريم الشعر هو تحريمٌ أيديولوجيٌّ بعيدٌ عن الدين. فالشعر بقي موجوداً في عصر النبي وازدهر بعده أيضاً في بلاط الخلفاء. لذلك فإنّ قضية تحريم الفن هي قضية تحريم الحريّة الاجتماعيّة بحجّة الرقابة وحماية الأخلاق. وهو ما يؤمّن مصالح السلطتين السياسيّة والدينيّة في السيطرة على المجتمع ويتفقا عليه بصور مختلفة يعبر عنها كل منهما بأدواته.

جذور إشكاليّة تأويل القرآن

وردت كلمة التأويل في القرآن أكثر من كلمة التفسير التي غالباً ما تأخذ معنى تفسير معاني الكلمات المفردة في مقابل تفسير القصد العام في كلمة التأويل. فالتفسير تمهيدٌ للتأويل. ومع ذلك فقد اتخذت لفظة التأويل معنىً سلبياً في وجدان الإنسان العربيّ وفضّل عليها لفظة التفسير. فاتخذ التأويل تدريجياً- مع التطور الاجتماعي والصراع الفكري والسياسيّ- معنى تحريف القرآن لإثبات ضلالات أخرى. وازداد العداء له مع تنامي الصراعات السياسيّة المرتكزة على تطوّر الفكر الشيعي والاعتزالي والمتصوّف.

رغم ذلك ومع التقدم الحضاريّ وتعدد المرجعيات، ظهرت التأويلات المختلفة بسبب الاختلافات الأيديولوجيّة وتجدد الحركة الفكريّة. فتنازعت الأطراف المختلفة على تحديد مفهوم التأويل. حيث حاول علماء الفقه كبح هذه التأويلات ومصادرتها إلى تأويلٍ واحدٍ صالحٍ لكلّ زمانٍ ومكان. بينما صاغ المعتزلة نظريةً ترى أنّ للفهم مستوياتٍ ومثلها للغموض. وجعلوا المعرفة العقليّة مقياساً للفهم وبالتالي للتفسير. في حين بنى الفكر الحنبلي مذهبه على النقل ومنع الاجتهاد وإرجاع كل المسائل إلى القرآن الذي يفسر بعضه بعضاً، أو إلى الحديث في غياب النص القرآني، ثم أفعال الصحابة. وكان للعوامل السياسيّة والخارجيّة الدور الأبرز في ترسيخ أو اضمحلال تأثير هذه التيارات في الحياة اليوميّة.

التأويل في العصر الحديث

تمّ إقفال باب الاجتهاد بإحكامٍ وتقييد العقل الإسلامي ليتحوّل من التفكير والإنتاج إلى التقليد والتكرار. وأخذ المسلمون لعدة قرونٍ كتب الأقدمين مراجع لهم، وتجنبوا كلام الفلاسفة وأصحاب المنطق العقلي باعتبارهم مضلّلين. ولكنّ الوعي بالهزيمة الفكريّة والعسكريّة وإشكاليّات الاحتكاك بالفكر الأوروبيّ المعاصر دفعت المسلمين إلى استدعاء التراث وخاصّةً الفكر المعتزلي لمواجهة هذه التحديات. فتبنى محمد عبده في منهجه الفكريّ الجامع بين التراث والعلوم العصرية، أنّ هدف التفسير هو تنوير العقل الإسلامي من خلال القرآن. فالقرآن عنده ليس كتاب تاريخٍ، بل هو كتاب هدايةٍ وموعظةٍ للمسلمين ولغيرهم. والله يخاطب البشر على قدر عقولهم لذا فمن الطبيعي أنّ يتطوّر هذا الخطاب بتطوّر العقول.

انقسم المفسرون في العصر الحديث إلى تيّارين مختلفين متصارعين. فبينما تبنّى الأول منهج السلف، واحتكم إلى النقل عنهم والالتزام بتفسيرهم، لتظهر منهم لاحقاً حركة الإخوان المسلمين. اتّبع الآخر، على الرغم من التهديدات والتضييق الممارس ضده، المنهج العقليّ. فقالوا أنّه يجب ألّا نبحث عن الصدق التاريخيّ فيما ورد في القرآن من قصص. حيث أمّنت تلك القصص، التي كانت متداولةً في ذلك العصر، التواصل بين القرآن والنصوص الدينيّة السابقة عليه. فلو كان القرآن جديداً تماماً على العرب حينها لما فهموه ولا آمنوا به. فالجِدّة في القرآن هي جِدّةٌ في الإسلوب والتشريع.

يتخذ الصراع بين منهجي السلف والخلف في التأويل شكلاً دموياً بعد أن كان صراعاً ثقافياً فكرياً. وسيطر أهل السلف الذين هددوا كلّ فكرٍ تجديديٍ على ساحة التفسير. لذلك وجب علينا إيجاد مقاربةٍ جديدةٍ لتأويل القرآن تأويلاً إنسانيّاً معتدلاً لتجاوز حالة الركود الفكريّ التي عانى منها الفكر العربيّ طويلاً.

نظرةٌ جديدةٌ في أفق التأويل

تحوّل النصّ الصامت الذي حُفِظَ في قلوب المسلمين إلى نصٍّ مقروءٍ بعد عمليّة التدوين وإعادة الترتيب والتنقيط، مما أدى إلى تجاهل طبيعته الأصليّة التداوليّة بوصفه خطاباتٍ متعددة المستقبلين التاريخيّن. فالتعامل مع القرآن بوصفه نصاً يقلل من حيويّته ويتجاهل دوره في الحياة اليوميّة. لتجنّب ذلك لابدّ من توظيف أدوات النقد التاريخيّ وعلم الدلالة، المرفوضة في سياق الدراسات القرآنيّة التقليديّة، من أجل قراءةٍ معاصرةٍ للقرآن من خلال النظر في الخطاب القرآنيّ باعتباره عمليّة تواصلٍ ذات خطاباتٍ متنوعةٍ بين الله والنبي.

فمن منظور نصر حامد أبو زيد، يجب التركيز على حيويّة القرآن وتعدد التفاسير في كلّ سياقٍ يتم الاستشهاد به. فكلّ استشهادٍ يتضمّن تفسيراً جديداً. ويجب بالمثل الابتعاد عن تلخيص القرآن حين يتمّ التعامل معه بصفته نصّاً جامداً كما تفعل الحركات الإسلاميّة المعاصرة عندما تحدد سلوك الفرد وحركة المجتمع في قوالب محدّدة. أوقعت هذه القراءة الجامدة المفسّرين في مشكلة التناقض في الآيات القرآنيّة. فاتّبع الفقهاء قاعدة الناسخ والمنسوخ لرفع هذا التناقض. وغاب عن ذهنهم أنّ سياقات القرآن لا يمكن فهمها إلّا وفق منهجٍ تأويليٍ ينظر إلى القرآن بوصفه خطاباً وحواراً. فاختلاف الأحكام ليس تناقضاً وإنّما هو أفقٌ مفتوحٌ أمام المجتمع للاختيار وفق الظروف المتغيّرة.

القرآن بوصفه خطاباً

ينطلق التفسير المفتوح للقرآن في مواجهة التفسيرات الكليانيّة والسلطويّة، من اختلاف الطبيعة الإنسانيّة واختلاف معنى الحياة. فالخطاب القرآنيّ هو عمليّة نقاشٍ ومحاورةٍ تتم وفق متغيرات المتحاورين. والقرآن لا يمثّل خطاباً أحاديّ الصوت، فهو خطابٌ حواريٌ تتعدد الأصوات فيه من صوت المقدّس إلى صوت المَلَك وصوت الإنسان. ويتحول هذا الخطاب إلى سجالٍ مع المشركين يتطور من خلاله الإعجاز البلاغيّ والأسلوبيّ للقرآن من خلال المقارنة بينه وبين الشعر وسجع الكهنة. ويتخذ مع المؤمنين أسلوب الحوار الذي تمّ من خلاله صياغة الأوضاع الفقهيّة.

المصادر: كتاب التجديد والتحريم والتأويل لِ نصر حامد أبو زيد

ملخّص كتاب عنف الدكتاتوريّة لِستيفان زفايغ

نُشرَ كتاب عنف الدكتاتوريّة عام 1936 للكاتب النمساويّ الشهير ستيفان زفايغ. اشتُهِرَ زفايغ، المنتمي إلى مذهب النيو-رومانتيكيّة، بإبداعه الروائيّ حيث تُرجِمت رواياته إلى لغاتٍ مختلفةٍ، واقتُبِست في الأعمال السينمائيّة العالميّة. يطلِقُ زفايغ في هذا الكتاب صرخة تحذيرٍ لألمانيا، بشكلٍ خاص، وإلى العالم أجمع بعد وصول النازيّة إلى السلطة. لذلك اختار قصّة كفاح اللاهوتيّ، إنسانيّ المذهب، سيباستيان كاستيليو، ضدّ دكتاتوريّة جان كالْفِن، الذي يُعدّ أحد أبرز قادة حركة الإصلاح الدينيّ، صاحب السلطة والنفوذ في كامل العالم البروتستانتيّ، لينبّه العالم إلى الخطر المحدق به. أراد زفايغ لقارئه أن يقارن وقائع عصره مع الأحداث التاريخيّة التي تبدو للوهلة الأولى ماضياً بعيداً. فهو كتابٌ يدافع عن الحريّة والسلام في وجه العنف والدكتاتوريّة. فماذا قال زفايغ؟ وماهي رسائله إلى العالم في كتاب عنف الدكتاتوريّة؟

“إذا نجحت عقيدةٌ ما مرّةً في الاستيلاء على آلة الدولة ووسائل الضغط التابعة لها، فهي تطلق الإرهاب من غير ترددٍ، وتخنق الكلمة في حلق من حاول مسّ سلطتها المطلقة، إن لم تخنق حلقه ذاته”

ستيفان زفايغ

الدكتاتوريّة ضد الحريّة

يتجدّد في كل زمانٍ صراع الحريّة ضدّ الوصاية، الإنسانيّة ضدّ التعصّب، فلا يكاد سؤال الحدود الفاصلة بين السلطة والحريّة يغيب عن ذهن كلّ الشعوب في كلّ الأزمنة. فالحريّة بدون سلطةٍ فوضى، والسلطة في غياب الحريّة فسادٌ وطغيان. وقد أثبت التاريخ ميل الشعوب إلى التسليم لنظامٍ يعفيهم من إعمال الفكر، فهم يفضّلون تسليم أمورهم إلى منقذٍ يفرض حلوله الجاهزة لتعقيدات حياتهم. وهكذا يظهر الأنبياء الاجتماعيّون والدينيّون.

يظهر رجلٌ ذو موهبةٍ ليعلن بطريقةٍ حاسمةٍ أنّه، وحده، يمتلك الحقيقة المطلقة ليخلق مثاليّةً جديدةً عمادها الوحدة والطهارة. فيتخلى عموم الشعب عن حريّتهم مستسلمين للانقياد دون أدنى مقاومة. عندها، ينقاد السلطويّون إلى المزيد من التسلّط ويحاولون فرض عقيدتهم على الجميع دون استثناء. هكذا تغدو أدنى معارضةٍ لأفكارهم، التي تصير دستوراً، جريمةً في حق الدولة. حتى أصحاب أنقى الحقائق وأطهرها يلجؤون إلى العنف ويعلنون الحرب ضدّ الحريّة الإنسانيّة خلال سعيهم الحثيث لفرض أيديولوجيّتهم.

ولأنّ كل ضغطٍ يقود، عاجلاً أم آجلاً، إلى الثورة، ولأنّ الذهن يعرف دوماً كيف يقاوم كلّ تبعيّةٍ، وعلى الرغم من أنّ غالبيّة أصحاب الصوت الحرّ والنظرة الإنسانيّة لا يتجاسرون على الكفاح ضدّ القمع ويلتزمون نظرةً حزينةً لواقعهم المرعب، تظهر نفوسٌ حرّةٌ تتملّص من القمع الجماعيّ وتدافع عن حقّ المرء في قناعةٍ ذاتيّةٍ ضدّ المهووسين بفكرةٍ أحاديةٍ متسلّطةٍ.

هكذا كان كاستيليو، الذي وقف صامداً أمام دكتاتوريّة كالْفِن، أعنف دكتاتوريّات القرن السادس عشر، مدافعاً عن المبدأ الأساسيّ لحركة الإصلاح الدينيّ التي قامت على شعار «الحريّة للإنسان المسيحي»، موجهاً صرخة الضمير الإنسانيّ الرافض للعنف بعد إقدام كالْفِن على حرق ميغيل سيرفيت حياً بسبب آرائه اللاهوتيّة.

صعود كالْفِن للسلطة

قاد القسيس فاريل عمليّة تحوّل مدينة جنيف، التي كانت تحت حكمٍ ديمقراطيٍ، من الكاثوليكيّة إلى البروتستانتيّة. فتمّ انتزاع الصور المقدّسة من الكنائس وطُردَ رجال الدين الكاثوليك من المدينة. ولكن، وإن كان فاريل قادراً على قلب النظام القديم، فهو غير قادرٍ على بناء نظامٍ جديد. فلجأ فاريل إلى كالْفِن صاحب الأفكار الملهمة في بناء مجتمعٍ بروتستانتيٍّ مثالي.

مراحل الصعود

اعتنق كالْفِن البروتستانتيّة واضطرّ للهجرة من فرنسا إلى مدينة بازل هرباً من الاضطهاد الدينيّ. وأدرك مبكراً أنّ الكنيسة البروتستانتيّة مهددّةٌ بالانشطار إلى فرقٍ عديدةٍ ذات طابعٍ محليٍّ وطني. لذلك كتب مؤلّفَهُ الأشهر «تعاليم الديانة المسيحيّة». وهو من أهم منجزات الإصلاح، ومن أكثر الكتب تأثيراً على أحداث التاريخ. فإن كان لوثر هو من بدأ حركة الإصلاح، فإن عبقريّة كالْفِن التنظيميّة هي من منعت انشطارها وضياعها.

أعجِبَ فاريل بنظرة كالْفِن الثاقبة وثبات رأيه، فهو لم يتراجع يوماً، ولو بشكلٍ بسيطٍ، عن أيٍّ فكرة من أفكاره، ولم يقبل من خصومه إلّا الصمت والتسليم. ففي مواجهة كالْفِن، إمّا أن يحطّمه المرء أو يتحطّم أمامه. فأصرّ على تولي كالْفِن زمام الأمور في جنيف. في النهاية وافق مجلس المدينة على تعيينه في منصب «قارئ الكتابات المقدّسة» وهو أعلى منصب دينيّ في المدينة.

قدّم كالْفِن لمجلس المدينة كتاب التعليم الديني الهادف إلى تعليم الناس أسس العقيدة الإنجيليّة الجديدة. ووقع صدامٌ بينه وبين أعضاء المجلس حول صلاحيّاته. فمطلب كالْفِن كان سلطةً مطلقةً وطاعةً عمياء في سبيل تحويل أفكاره النظريّة إلى واقعٍ عمليٍ. ولم يكن ليسمح بأيّ حريّةٍ في العقيدة أو الحياة العامة. ولم يتردّد في استخدام العنف والإرهاب في محاولة فرض نهجه. حاول عندها أعضاء المجلس عزل كالْفِن ونفيه من المدينة متمسّكين بقيمهم الديموقراطيّة بعدما تيقّنوا أنّ المزايا المؤقتة للدكتاتوريّة وللنّظام الصارم إنّما تُدفَع على حساب حريّة وحقوق الفرد. لكنّ خوفهم من انعدام الاستقرار وإعجاب الأغلبيّة بنموذج كالْفِن التنظيميّ جعلهم يرضخون لسلطة الدكتاتور.

مدينة كالْفِن الفاضلة

بدأ كالْفِن عمليّة تحويل المجتمع، وفق مبادئه النظريّة، بكلّ ما لدى شعبه من مشاعر وأفكار إلى نظامٍ أحاديٍّ وفق آليّةٍ صارمةٍ تُلزِمُ الناس بالعيش حسب طريقةٍ صحيحةٍ مطابقةٍ لإرادة الله وتعاليمه. تجاوز كالْفِن مطالب الإصلاح الدينيّ وابتعد عن أفكاره الأوّليّة. فقد بدأ الإصلاح كحركة تحرّرٍ أخلاقيٍّ تريد وضع الإنجيل في متناول الجميع لِيُكوّن كلّ فردٍ قناعته الذاتيّة بدلاً من سلطة البابا في روما. ولكنّ كالْفِن انتزع بلا هوادةٍ كلّ أشكال الحريّة الفكريّة ووضع خاتمةً لكلّ تأويلات تعاليم الله.

أسّس كالْفِن مدينته على أساس التعفّف والصرامة. فالإنسان -حسبه- يجب أن يعيش في خضوعٍ وإذعانٍ ورفضٍ لكلّ ملذّات الحياة. لذلك حرّم كلّ أشكال الفن وألغى الاحتفالات الدينيّة ووحّد ملابس الناس وعادات أيامهم وعلاقاتهم. وكما في كلّ دكتاتوريّةٍ، أسّس إدارةً تسهر على تطبيق تقاليده الرهيبة. تحقّق هذه الإدارة مع كلّ المواطنين بشكلٍ دوريٍّ وتفحص إيمانهم وتتدخل في كلّ تفاصيل حياتهم، فانعدم مفهوم الحياه الخاصّة تماماً. يشعر الإنسان في ظلّ هذا الإرهاب الأخلاقيّ بأنّه مذنبٌ دائماً وأنّه معرّضٌ في أيّ لحظةٍ للعقاب؛ مصادرة أملاكه، طرده من المدينة، أو حتى حرقه حياً. فيتحوّل كلّ إنسانٍ في مدينة كالْفِن، إلى جاسوسٍ ضد أقربائه وجيرانه، في سبيل الحفاظ على سمعته وتجنّب الملاحقة.

من هو سيباستيان كاستيليو؟

انجذب كاستيليو، أكثر رجال عصره ثقافةً، بقوةٍ إلى قضايا عصره الجديدة، حيث انشغل بمحاولات تجديد الدراسات الكلاسيكيّة. وانضمّ إلى المناقشات الملتهبة التي شغلت أوروبا بعد انطلاق حركة الإصلاح الدينيّ. تحوّل إلى البروتستانتيّة، بتأثير طبيعته الإنسانيّة، عندما شهد وحشيّة محاكم التفتيش في التعامل مع المارقين. تأثر كاستيليو بكتابات كالْفِن الداعية إلى الحريّة وتتلمذ على يده، وانتقل معه إلى جنيف بعدما استقر الأمر لكالْفِن هناك.

بدأ كاستيليو بترجمة الكتاب المقدّس إلى اللاتينيّة ومنها إلى الفرنسيّة لإيمانه بأنّ الحقيقة ينبغي أن تكون في متناول شعبه كما هي لدى الألمان. لكنّه اصطدم برفض كالْفِن طبع الكتاب بدون وضع تعديلاته وملاحظاته التي ستُفقِدُ الكاتب استقلاليّته. فالشخصيّة السلطويّة تعتبر أنّ مَن يفكر بطريقةٍ مستقلّةٍ معارض لا يُطاق. رفض كاستيليو الخضوع للتسلّط، وتمسّك بحريّته في تفسير الكتاب المقدّس، مما أدّى إلى المزيد من الصراع، خاصةً بعد موافقة مجلس المدينة على تعيين كاستيليو قسّيساً وبالتالي عضواً في المجمع الدينيّ دون الرجوع لكالْفِن الذي أراد احتكار التعليم. لكنّه طلب من مجلس المدينة أن يعفيه من وظيفة المدرّس وأن يسمح له بمغادرة المدينة عندما أدرك قدرة خصمه على الاحتيال وتزوير الحقائق بما يخدم سياسته.

حقق كالْفِن، بخروج خصمه الفكريّ من جنيف، نصراً لاستبداده. لكنّه لم ينس خصمه أبداً، فلا يمكن لأيّ دكتاتوريّةٍ أن تواصل العيش من دون قلقٍ في ظلّ وجود رجلٍ مستقلٍّ، ولو كان بعيداً.

عنف الدكتاتوريّة: حالة سيرفيت

كان ميغيل سيرفيت صاحب إرادةٍ صافيةٍ تبتغي الحقيقة. استبدّت به، مثل أبناء جيله، قضايا الصراع الكبير داخل الكنيسة، فانضمّ إلى المصلحين باندفاعٍ وراديكاليّةٍ، حتّى أنّه رأى أنّ التباعد والانفصال عن الكنيسة القديمة يحدث بتريّثٍ شديد. طالب سيرفيت بإلغاء النظريّة الخاطئة بشأن الثالوث الأقدس في الكنيسة الإنجيليّة، وهو ما يخالف إجماع أهل اللاهوت. وعندما رفض الحكماء آراءه، نشر أفكاره وبراهينه في صيغة كتابٍ مما أثار عاصفةً ضده.

طُرِد سيرفيت من كلّ مكانٍ ولم يعد له إلّا أن يختفي تماماً، فانتقل من مدينةٍ إلى مدينة، وعاد إلى فرنسا مُستخدماً اسماً مستعاراً. لكنّ شخصيّة المارق لم تَمُتْ في هذا الرجل الطَموح. فعندما تتملّك فكرةٌ ما إنساناً، تسيطر عليه حتّى آخر ذرّةٍ من مشاعره وتفكيره. لذلك حاول سيرفيت مجدداً إقناع المجتمع اللاهوتيّ بأفكاره. فاختار مراسلة كالْفِن الذي يثور غضباً من أدنى اعتراضٍ على أتفه الصغائر، بقصد استمالته لصالح فكرته.

“السلطة العنفيّة الأصوليّة التي تَدين بصعودها إلى حركةٍ تحرّريّةٍ تصبح دوماً ضدّ فكرة الحرّيّة بشكلٍ أقسى ممّا تمارسه أيّ سلطةٍ متوارثةٍ. والذين يدينون بسلطتهم إلى ثورةٍ ما يصبحون دوماً الأكثر تشدّداً والأقل تسامحاً إزاء كلّ تجديد”

ستيفان زفايغ

قتل سيرفيت

استبدّ الغضب بكالْفِن بسبب هذا التبشير المَرَضيّ والإلحاح المجنون لذاك المعارض، وشعر بضرورة إسكات ذاك الصوت الهرطوقيّ. لو كان سيرفيت يعيش في مناطق نفوذه لحاول تسليمه إلى السلطات المدنيّة، ولكنّه يعيش باسمٍ مستعارٍ في مدينة فيينا تحت سلطة الكنيسة الكاثوليكيّة. لذلك أمر أتباعه بتدبير المكائد وحثّ السلطات الكنسيّة، بتحريضٍ غير مباشرٍ، على محاكمة سيرفيت. هرب سيرفيت مراراً واستبدّ به يأسٌ شديدٌ قاده بالنهاية، دون سببٍ مفهومٍ، إلى مدينة جنيف بالذات، أخطر مكانٍ عليه في العالم.

تمّ اعتقال سيرفيت وزُجَّ به في السجن حيث عانى من أسوأ ظروف الاعتقال والتحقيق والتعذيب النفسي. وبدأت محاكمته بدون تعيين محامٍ للدفاع عنه. كما حَرصَ كالْفِن على تطبيق أقسى عقوبةٍ في حقّ المتّهم على الرغم من أنّه لم يعد يشكّل خطراً عليه. ينبغي للمتمرّد على السلطة أن يدفع الثمن. فكلّ معارضٍ لتعاليمه الكنسيّة مجرمٌ ضدّ الدولة تتم محاكمته بدلاً من الرّد عليه بصفته لاهوتيّاً. وهكذا تمّ الحكم على سيرفيت بالحرق، مع كتبه، حيّاً ليكون عبرةً ودرساً لكلّ من تسوّل له نفسه ارتكاب جريمةٍ مماثلة.

ضميرٌ ينهض ضدّ العنف: منشور الحريّة

ما إن تمّت عمليّة إحراق سيرفيت حتّى اعتبرها معاصروها نقطةَ انحرافٍ أخلاقيٍّ في تاريخ البروتستانتيّة التي عانى أنصارها من محارق الكنيسة الكاثوليكيّة. فعمليّة الإعدام هذه هي أوّلُ قتلٍ دينيٍّ داخل حركة الإصلاح وأوّلُ إنكارٍ في منتهى الوضوح لأفكارها الأساسيّة التي قامت على مبدأ الحريّة الفكريّة للإنسان المسيحيّ. لذلك ارتفعت أصواتٌ مندّدةٌ بهذا الحدث واعتبرته مخالفاً للدين والقانون. عندها قام كالْفِن بالدفاع عن قرار الإعدام. فالقرار، برأيه، يهدف إلى حماية الكنيسة من أصحاب النوايا السيّئة.

جان كاْلِفن وسيباستيان كاستيليو

انتفض المفكّرون المستقلّون الذين شعروا أنّ عمليّة إحراق سيرفيت كانت بمثابة إعلان حرب. فأصدروا، بقيادة كاستيليو الذي كتب تحت اسمٍ مستعارٍ في ظلّ الإرهاب الكالْفِينيّ، منشور التسامح. اعتبر كاستيليو في منشور التسامح أنّه لا ينبغي ملاحقة الزنادقة ومعاقبتهم بالإعدام على جنحةٍ ذات طابعٍ فكريّ. فالزنديق هو الذي لا يلتزم بالمسيحيّة برغم كونه مسيحيّاً، وإنّما يتشبّث في بعض النّقاط برأيه الشخصيّ وينحرف عن العقيدة الصّحيحة التي اختلفت الطوائف المنتشرة حينها في تحديدها. لذلك رفض كلّ أشكال الاضطهاد والعنف، وانتقد التعصّب وانعدام التسامح عند العقائديّين الذين لا يتحمّلون أيّ رأيٍ مخالفٍ لهم. وطالب بمنع عمليات التّعذيب والإعدام. وأكّد أنّ نشر التسامح والحريّة الفكريّة بعيداً عن عنف الدكتاتوريّة، هي السبيل الوحيد للعيش المشترك.

عنف الدكتاتوريّة في مواجهة التسامح والحريّة

أدرك الدكتاتور أنّ الناس لم يكونوا مستعديّن لالتزام الصمت إزاء قتل سيرفيت. فلجأ إلى القمع والرقابة، وسعى جاهداً لمنع صدور أيّ كتابٍ ينتقد ممارساته القمعيّة مستخدماً نفوذه السياسيّ وقوّة جهازه الأمني. وجنّد أهمّ أتباعه ليردّوا على كلّ منشورٍ هرب من الرقابة. وبدل محاولة احتواء الاضطراب، دعا هؤلاء إلى المزيد من العنف ضدّ من لا يلتزم بقواعد كالْفِن وتفسيراته للكتاب المقدّس.

بسبب ذلك أدرك كاستيليو أنّ صمته إزاء هذه التهديدات يعني الرضوخ النهائيّ للدكتاتوريّة وإطلاق ذراع العنف بلا رادعٍ. فبدأ بالكتابة، وهو صاحب النظرة الثاقبة والثقافة العالية، ردّاً على ادعاءات أتباع النظام. على الرغم من أنّه كتب بعقلانيّةٍ بعيدةٍ عن التوتر والهجوم الشخصيّ، فإنّ كلماته كانت واضحةً مباشرةً لا تتردّد في إعلان رفض كلّ ما لا يوافق العقل والمنطق والكتاب المقدّس. كان سلاح كاستيليو الوحيد هو قلمه في حين تخلى عنه أصحاب الفكر الحرّ خوفاً من العنف والقمع. بينما امتلك خصمه كلّ أدوات الدولة وعناصر القوّة.

تمكّن كالْفِن، باستخدام سلاح الرقابة والتهديد، من منع نشر أغلب كتابات كاستيليو، التي لم تر النور إلّا بعد عشرات السنين. وردّ هو وأتباعه على القلّة القليلة التي تمّ نشرها بصوتٍ عالٍ واتهاماتٍ كثيرةٍ حاولت النيل من سمعة كاستيليو. ولأنّ الدكتاتوريّات، وعلى الرغم من سيطرتها المطلقة، لا تستطيع احتمال صوت رجلٍ حرٍ رفض الإتبّاع الأعمى، سعى كالْفِن إلى إلصاق التّهم بمنافسه الفكريّ. لذلك خطّط لاستدراج كاستيليو إلى عمود المحرقة باستخدام كلّ وسيلةٍ ممكنةٍ.

في النهاية انتزع الموت المفاجئ كاستيليو قبل أن يقع في قبضة كالْفِن. وبالطبع، فإن هذه النهاية لا تُرضي الدكتاتور، فهو يريد تشويّه سمعة خصمه وسوقه للمحاكمة ليكون عبرةً يرسّخ بها سلطته بشكلٍ أعمق، ويردع من يفكّر بمعارضة أدقّ تفاصيل نظامه.

المصادر: كتاب عنف الدكتاتوريّة ل ستيفان زفايغ

ملخّص كتاب اللاهوت العربي وأصول العنف الديني

صدر كتاب اللاهوت العربي وأصول العنف الديني عام 2009 وتصدر قوائم المبيعات لفترة طويلة. الكتاب من تأليف الدكتور والمفكر يوسف زيدان المتخصّص في التراث العربي وتاريخ الطب العربي. حصل يوسف زيدان على جائزة البوكر العربيّة عن رواية عزازيل. يناقش كتاب اللاهوت العربي العلاقة البنيويّة بين الأديان الإبراهيميّة وتأثيرها المتبادل. ويحاول تحديد العلاقة بين السياسة والدين والأسباب المؤدية للعنف الديني. من خلال قراءة جديدةٍ ومتعمقةٍ في التراث واللاهوت العربي عبر مراحل نشأته وتطوره. الأمر الذي أدى لمحاكمة الدكتور يوسف زيدان بتهمة ازدراء الأديان. من الطبيعي أن تُثيرَ هذه الأفكار والقراءات الثوريّة في التراث الدينيّ لمنطقتنا جدلاً كبيراً. خاصةً في ظل الحساسيات الدينيّة والطائفيّة، والهوس في تعظيم الذات وإنكار الآخر. فماذا قال زيدان في اللاهوت العربي وأصول العنف الديني؟

وحدة الأديان الإبراهيميّة

اعتبر الكاتب الأديان الثلاثة الأكثر انتشاراً (اليهودية والمسيحية والإسلام) دينًا واحدً بتجليّاتٍ مختلفة. إذ أدّى اختلاف الزمان والمكان واللغة إلى اختلافات تشريعيةٍ وعقائديةٍ، لكن الجوهر الاعتقادي ظلّ واحداً؛ فهي جميعاً تعبد معبوداً واحداً اختصّ قوماً بخطابٍ عبر رسلٍ اصطفاهم ورفعهم فوق بقيّة الناس. يؤكد الدين اللاحق الدين السابق بينما ينكر السابق اللاحق لأنّ فيه زواله. وبالمثل فكلّ مذهب في الدين الواحد ينكر بقيّة المذاهب.

لا توصف هذه التجليّات بالسماويّة، لأنّ كل الأديان بالضرورة سماويّةٌ، حتّى لو قدّست تلك الديانات الأصنام أو النار أو الكواكب، فهم يتسامون بها إلى مرتبةٍ ألوهيّةٍ متعاليّةٍ على الوجود الفيزيقي. كما لا يمكن وصفها بالتوحيديّة، فصفة التوحيد موجودةٌ في أديان أخرى وهي ليست حكراً على هذه الأديان. إنما يمكن وصفها بأنها دياناتٌ رسوليةٌ أو رسالية، لكونها أتت إلى الناس برسالةٍ من السماء عبر رسلٍ وأنبياءٍ يدعون الناس إلى إلهٍ متعالٍ.

لذلك فإنّ أيّة محاولةٍ لمقارنة الأديان يجب أن تتم مثلاً بين الديانات الإبراهيميّة بصفتها ديناً واحداً ، مع الديانة المصرية القديمة أو إحدى ديانات الهند لأنه في هذه الحالة سيكون الاختلاف في الجوهر الديني قائماً. وهي مهمةٌ صعبةٌ، فالدارس يتّبع عادةً ديناً معيناً، ومن العسير أن يتجرد منه تماماً ويلتزم النظرة الحياديّة الموضوعيّة اللازمة للمعرفة الحقّة.

لا يمكن فهم التراث الإسلاميّ واللاهوت العربي بشكلٍ مجرّد دون التعمّق في الأصول الإنسانيّة لهذا التراث، وما سبقه زمناً وكان بمثابة مقدمات له. ليس ضرورياً أن يكون هذا التأثير تأثيراً للسّابق على اللاحق فقط فأحياناً يحدث العكس، مثل تأثير الأفلوطينيّة المحدثة على اليهوديّة من خلال شرح فيلون السكندري للتّوارة وتأويلاته لنصوص العهد القديم التي صارت مع الزمن تراثاً يهودياً. أو دخول أفكار البعث والقيامة المسيحيّة الإسلاميّة المنشأ في اليهودية التي خلت نصوصها المبكرة من هذه المفاهيم.

جذور الإشكال: الله والأنبياء في التوراة

تظهر في التّوراة -المقبولة مسيحيّاً والتي ينظر إليها الإسلام بإقرارٍ في صحّة الأصل وتحريف في النّص دون رفضها التام- صورةٌ إشكاليةٌ للإله من حيث الطبيعة والصفات. فنرى الإله اليهوديّ تارةً داعياً إلى الخير وفضائل الأعمال، وتارةً أخرى عنيفاً منتقماً. كما ظهر في قصّة العبور(الفصح) غير كلّي القدرة محتاجاً إلى علاماتٍ على بيوت اليهود حتّى يميّزها عن بيوت المصرييّن حين أراد ضرب أرض مصر. وظهر ثائراً على البشر جميعاً في قصّة الطوفان. كما وردت صّفات وأفعال كثيرة لا تليق بإلهٍ متعالٍ قادرٍ.

اجتّهد علماء الشّريعة اليهوديّة ومن بعدهم علماء التّفسير المسيحي في محاولة تأويل وتفسير النّصوص عن طريق علم اللاهوت المستلهم أساساً من الفلسفة اليونانية بين اعتبارها رموزاً تاريخيّةً أو اعتبارها حالاتٍ للذّات الإنسانيّة في تطوّرها. ولكنّ تأخّر ترجمة هذه التفسيرات عن ترجمة التّوراة من العبريّة الأم إلى الآراميّة واليونانيّة ومنها إلى لغاتٍ أخرى، سمح باستشعار خطورة هذه النّصوص وما ترسمه من صفاتٍ لا يُستحب إطلاقها على البشر ناهيك عن الله.

تتعدّى خطورة النصوص التوراتيّة ما تمّ إلصاقه بالذّات الإلهيّة من صفاتٍ إلى إباحة القتل باسم الرّب والاستهانة بالقّيم والحقوق الإنسانيّة لغير اليهود مظهرةً إيّاهم بصورةٍ أقلّ إنسانيّة من أبناء الرّب. وخُصّص الله التّوراتي لبني إسرائيل دوناً عن البشر جميعاً. وبما أنّه لا يمكن لغير من وُلِد من أمّ يهوديّة أن يعتنق اليهوديّة، فقد صار الله مملوكاً لليهود فقط. بالإضافة إلى أن الصورة التوراتيّة للأنبياء مفزعةٌ، فهم لا يتوارون عن القيام بأفعالٍ شنيعةٍ لا تليق بأناسٍ اصطفاهم الله على البشر برسالته، فهم يقتلون ويزنون ويسرقون.

الحلّ المسيحي: من الثيولوجيا إلى الكريستولوجيا

تعتبر المسيحيّة امتداداً لليهوديّة وإصلاحًا لها قبل أن تتطوّر فيما بعد. فمنذ القرن الثاني قبل الميلاد انتظر اليهود قدوم  الماشيح ، والتي تعني حرفيّاً، الممسوح بالزيت المبارك، ليصبح ملك اليهود ويحقق وعد الرّب الذي طال انتظاره ويخلّصهم من الظّلم والاضطهاد. اختبر اليهود صدق كلّ من ادّعى أنّه الماشيح. وقاموا بتسليم المدّعين إلى الرّومان الذين صلبوا المدّعين ليكونوا عبرةً للحالمين بالخلاص. وهو ما فعلوه أيضاً بيسوع المسيح. وازدادت البشارات في الأسفار الأخيرة من العهد القديم بقدوم الماشيح المخلّص لليهود ومدمّر شعوب الأرض جميعاً.

تحوّلت دعوة المسيح الذي بدأ ملتزماً بالديانة اليهوديّة إلى العالميّة بعدما ظهر له أنّ اليهود ليسوا تربةً صالحةَ للبشارة. فأمر تلاميذه أن يبشروا الأمم كلّها بخلاص الإنسان. ولم يُفصَل بين المسيحية وبين اليهوديّة إلّا في القرن الثالث للميلاد. ترافق ذلك مع بدء الخلاف حول طبيعة المسيح هل هو بشرٌ مرسلٌ، أم هو الله ذاته نزل إلى الأرض حيناً. وبعد اعتراف الإمبراطور الروّماني قسطنطين بالمسيحيّة كإحدى الديانات الرسميّة في مرسوم ميلانو سنة 313 ميلاديّة، وبعد مجمع نيقية المسكونيّ سنة 325 ميلادي، تمّ اعتماد الأناجيل الأربعة وأعمال الرسل ورُفِضَ كلّ ما عداها.

أسباب ظهور الهرطقات

أدّت كثرة الأناجيل والتفسيرات والإشارات المختلطة فيها واختلاف اللّغات والثّقافات في الحضارات التي انتشرت فيها المسيحيّة إلى صراعٍ حول طبيعة المسيح. وظهرت الكثير من الهرطقات المدعومة سياسياً وثقافياً. قابلتها الكنيسة بمجامع مسكونيّةٍ حُدِدَ فيها قانون الإيمان الأرثوذكسي لمحاربة تلك الهرطقات. وألغت العمل بالأناجيل غير المتوافقة مع العقيدة السليمة. واعتمدت الأناجيل الأربعة المشهورة: متى، لوقا، مرقس، يوحنّا. وهي مجتمعةً مع الرسائل المُسَماة، أعمال الرسل، شكّلت ما يُعَرف باسم العهد الجديد، وتشكّل مع الأسفار الخمسة للعهد القديم وأسفار أنبياء اليهود ما يعرف باسم الكتاب المقدّس.

يرتكز الإيمان المسيحيّ على المسيح بذاته. ففي الأناجيل الأربعة نرى استعراضاً لحياة المسيح وأعماله دون الإشارة إلى الإلهيّات. وصارت المسألة برمتها هي المسيح لا الله. وصار الإقرار بألوهيّته هو القانون الأول للإيمان. وتحوّل كلّ ما هو ثيولوجي إلى كريستولوجي، أي متعلقاً بالمسيح ذاته، ولم تعد المشكلة اليهوديّة المتعلّقة بصفات الله مطروحةً للنظر. إنّما صار الإيمان الأرثوذكسي هو الإيمان بأنّ المسيح هو الله، وكل ما عداه من أفكارٍ لاهوتيةٍ عربيةٍ هرطقة.

الفارق في مفهوم الإله بين الشرق والغرب

مفهوم الإله في مصر واليونان

كانت الديانات المصريّة واليونانيّة تسمح بالتعدديّة وتجيز أحياناً التمازج بين الإله والإنسان ولا ترى بأساً من تأليه الإنسان وأنسنة الإله. لذلك عندما انتقلت المسيحيّة من فلسطين إلى مصر –والتي كان أساس انتشارها- فهم المصريّون بناءًا على تصوّرهم ذي الأبعاد الثلاثية للألهة (ثالوث: إيزيس، حورس، أوزيريس) وإمكانية تمازج الإنساني بالإلهي، الديانة المسيحيّة. فقد كانت فكرة التجسيد والتّثليث ماثلةً في وعيهم الثقافيّ، ممّا ساهم بسهولة في انتشار الأفكار المسيحيّة وترسيخها في الأرض المصريّة على أساس امتزاج المسيح بالإله كامتزاج حورس مع أوزوريس وعلاقتهما بإيزيس الأم.

وقريبٌ منه ما حدث في اليونان. حيث قصّت الإليّاذة والأوديسة قصص التحام الإلهيّ بالبشري وحكايات غرام آلهة الأوليمب بنساء البشر، وما ينتج عنها من أنصاف آلهةٍ. انتقلت هذه التّصورات إلى العصر الهلينستي، الذي تقبّل الأفكار المسيحية القائلة بالطبيعة الواحدة بسبب طبيعة وعي اليونانيّن. لذلك نجد أنّ الإيمان بأنّ المسيح هو الله أصبح العقيدة الأرثوذكسية في مصر واليونان.

مفهوم الإله في الشام والعراق – اللاهوت العربي


أمّا التّصورات الدينيّة في منطقة الهلال الخصيب (الشام والعراق) ذات التواجد العربي الكثيف، فكانت تقوم على أنّ الألهة مفارقةٌ تماماً لعالم البشر وأنّ الاتصال الوحيد بينهم يتم بواسطة أنبياء ورسل يتمّ تكليفهم بإيصال كلمة الله للبشر. لذلك ميّز العرب بين اللّاهوت والنّاسوت، لأن فكرة النّبوة، عبرانيّة المنشأ، كانت أساس الأفكار الدّينيّة في منطقة الهلال الخصيب التي تأثرت بالحضارة الفارسية وأنبيائها. وتوسّع اليهود في هذا المفهوم حتّى صار مفهوم النبوّة سلسلةً متوارثةً على قاعدة القرابة والدم. ومن الفارسية والعبرانيّة تسلّل مفهوم النبوّة إلى العقليّة العربيّة فكان للعرب أنبياءٌ اعتزوا بهم بعدما أنكر عليهم اليهود فضل النبوّة. فاسّتقبل العرب في الجّزيرة العربيّة والهلال الخصيب الديانة المسيحيّة وقرأوا في أناجيلها الأربعة إشاراتٍ للمسيح تصفه بابن الإنسان وابن الله. لذلك فهموا أنّ المسيح هو النّبي المخلّص.

ومن الطبيعي أن يقوم الخلاف بين هاتين العقليّتين -عقليّة اللاهوت العربي وعقليّة اللاهوت الغربي- وأن تتبادلا الاتهامات واللّعنات والحرمانات الكنسيّة. فسالت أنهار الدم وانتشر العنف الديني بسبب ارتباط هذه العقائد بمصالح سياسيةٍ أجّجت الخلافات العقائديّة. دارت الخلافات جميعها حول المسيح، فاللّاهوت الديني المسيحيّ لا يتعلّق بالله بذاته، بل يتعلق بطبيعة المسيح الذي صار الله عندما صارت الكلمة جسدًا بحسب الفهم الأرثوذكسي. في مقابل لاهوتٍ عربيٍ يرى المسيح ابن الإنسان.  فظهرت هرطقاتٌ كثيرةُ، وقام جدلٌ فلسفيٌ بينهما رسّخ العقيدة الأرثوذكسيّة بحسب المفهوم القبطيّ اليونانيّ قبل حدوث الانشقاق الكبير للكنيسة القبطيّة بعد مجمع خلقيدونيّة المسكونيّ سنة  451 ميلاديّة. ليبدأ بعدها انحدار أثر الكنيسة السكندرانيّة  ليصبح محلياً بعد أن كان لها الأثر الأكبر في كل المجامع المسكونيّة السابقة وفي تحديد مفهوم الايمان القويم. لذا فإنّ معظم الهرطقات الكريستولوجيّة ظهرت في منطقة الهلال الخصيب مثل الإبيونيّة وبولس السميساطي ولوقيانوس والآريوسيّة والنسطوريّة اللّتان كان لهما أثرٌ كبيرٌ في الرؤية الإسلاميّة للجدل الكريستولوجي دون أن نهمل الأثر الواضح للمصالح السياسيّة في تأجيج وانتشار هذه الهرطقات.

الحل القرآني: إعادة بناء التصورات ونشأة علم الكلام

حاول الإسلام إعادة رسم شخصيات وسيَرَ الأنبياء بما يناسب مكانتهم دون تأليههم كما الحال في التوراة. فقدّمهم بلغةٍ راقيةٍ لا يشوشها لفظٌ رديء ولا معنىً غير لائقٍ بالله وأنبيائه. وفصل بوضوحٍ بين اللّاهوت والناسوت، حتى ما كان متعلقاً بنبي الإسلام بالتأكيد على أنّه يتلقى وحيًا منزلاً من السماء. وهكذا تجاوز القرآن أزمتي صورة النّبي وصفات الله. ومن هنا أتى تأكيد القرآن على بشريّة المسيح مبيناً أنّه نبيٌ من الله مطلقاً عليه اسم المسيح ابن مريم دون إنكار معجزاته.

ولأن القرآن نزل بلغةٍ عربيةٍ على عقولٍ عربيّةٍ براغماتيّةٍ، فقد مدّهم بنظامٍ حياتيٍ كاملٍ. ولم يكتف بالإلهيّات. وأمر المسلميّن بقتال المشركين ونشر الدين حتّى تّم فتح الشام ومصر والعراق. واختلط الفكر الإسلاميّ الجديد بالهرطقات المنتشرة هناك. وحصل الاحتكاك الثّقافي. وحدثت تحوّلاتً كبرى أدت إلى حاجة المسلميّن لتطوير علم كلامٍ يبرهنون به صحّة عقائدهم أمام علم اللّاهوت المسيحيّ ويجيبون به على الأسئلة التي طرأت على المجتمع الإسلاميّ.

بدأ ظهور علم اللاهوت العربي والذي سُميَ علم الكلام في النّصف الثاني من القرن الأوّل الهجري بعد انتشار الإسلام في البلاد المحيطة بالجّزيرة العربيّة. وليس من المصادفة أن مؤسسي المذاهب الكلاميّة تتلمذوا على يد رجال لاهوتٍ مسيحيٍين. فاستكملوا طريق أسلافهم. وبهذا لا يكون علم الكلام اختراعاً إسلاميّاً وإنّما هو امتدادٌ لعلم اللّاهوت. وليس غريباً أيضاً أنّ هؤلاء المؤسسين قُتِلوا جميعاً، لأنهم ناقشوا أفكاراً غريبةً عن العقيدة الإسلاميّة التي هي امتداد لعقائد المشركيّن، فاتُهِموا بالزّندقة واعتناق الأفكار الفلسفيّة للشعوب المفتوحة. أمّا اللّاحقون من المتكلّمين فقد فصلوا بين المباحث الكلاميّة والنضال السياسي الذي تبناه المتكلّمون الأوائل. فأزالوا من مناقشاتهم فكرة الخروج على الحاكم الظّالم، فعاشوا بسلامٍ خلال فترة الحكم الأمويّ والعبّاسي. بل إنهم استعانوا بالخلفاء على أعدائهم وخاصةً في زمن المأمون. وتؤكد الصّلة الخفيّة بين إصرار الهراطقة على نفي المماثلة بين الله والكلمة، وإصرار المتكلّمين على نفي صفة الكلام عن الذّات الإلهيّة اتصال علم الكلام باللّاهوت المسيحي.

إشكاليّة العنف الديني في اللاهوت العربي

أطر التّديّن ودوائره

إنّ الإسلام واليهوديّة شديدتا القرب لأنّ اليهوديّة ديانةٌ غير تبشيريّةٍ انتشرت في منطقةٍ ذات أغلبيةٍ عربيةٍ، عكس المسيحيّة التي تطوّرت في مصر واليونان، وبالتّالي تأثّرت بثقافات وديانات هذه المناطق. ولأنّها من حيث الجوهر دينٌ واحدٌ بتجلياتٍ متعددة، يمكن تمييز هذه الديانات الإبراهيميّة بأطرٍ عامةٍ تؤكد وحدتها. مثل فكرة الإنابة: وتعني وجود وسيطٍ بين الله والإنسان. وهذا واضحٌ في التجليات الثلاثة للدين الإبراهيمي من أنبياءٍ ورسلٍ وأئمة، وهي دائماً حكرٌ على الرجال دون النّساء. ومن الأطر، الإبادة: من خلال الوعد الإلهّي لليهود بإسرائيل الكبرى. وهو ما نراه في العهد القديم من إبادة أقوامٍ بأكملهم نُصرَةً لليهود. ونرى مثل هذه الوعود أيضاٌ في القرآن. من هذه الدوائر المشتركة، الخروج: وهو مخالفة اعتقاد المجتمع . تعزل المجموعة التي تعتقد أنّها على حقٍّ نفسها عن بقيّة المجتمع، وتحكم عليهم بالكفر والضلال.

صلة الدين بالسياسة

إنّ الفصل بين الدّين والسياسة وهمٌ تبدده الحقائق التاريخيّة للأديان الإبراهيميّة التي امتزج فيها الدينيّ بالسياسيّ امتزاجاّ شديداّ يصعب معه تمييز ما هو دينيٌ عن ما هو سياسي. يتضح هذا مراراً وتكراراً في تاريخ هذه الأديان، حيث كان الأمراء والملوك ينصرون مذهباً على حساب آخر، بناءًا على مصالحهم السياسية. وكذا رجال الدين الذين دعموا ملوكاً دون غيرهم وفق مصالحهم الخاصّة.

العلاقة بين العنف الديني والسياسة

تدور السياسة حول محور الحاكم بينما يدور الدين على محور الإله. وهما محوران منفصلان نظرياً. ولا تتم السياسة إلّا في جماعةٍ إنسانيّةٍ، بينما يرتبط الدين بالفرد. وهناك تداخل بين هذين المحورين، إذ لا يمكن للسياسة أن تضبط الجماعة إلّا بضبط الفرد. ولا يمكن للدين أن يحقق رؤيته إلّا في مجتمعٍ قائمٍ.

يبدأ الدين في حياة النّبي في جماعة مستقرةٍ سياسياً، ظهر فيها نظامٌ سياسيٌ واستقر قبل ظهور الدين. ونظراً لطبيعة الدين الانبثاقية، فهو يسعى لخلخلة النظام السياسي ليفسح لنفسه مجالاً بين الجماعة. وهنا يبدأ العنف من طرف النظام السياسي للحفاظ على استقراره. ويقابله المؤمنون بالصبر والتّمسك بالمبادئ الدينيّة. حتّى إذا ازاد العنف، حدثت الهجرة، فينتشر هذا الدين بين المهمّشين والمظلومين وأعداء النّظام السياسي. ونتيجة هذا الخروج تقتنع السّلطة بأنّ الدين هرب من المواجهة ولم يعد يشكل تهديداً لها، فيهدأ العنف. بينما يزداد حجم الدين في أرض الخروج ويُنظّم ويصبح قوياً جاهزاً لاقتلاع النظام السياسي. عندها يعود الدين مفاوضاً النظام على اقتسام النفوذ والسّلطة. وتضطر السًلطة إلى التنازل جزئياً، مما يؤدي إلى نتائج وخيمةٍ على صعيد السلم الاجتماعي. ويتجه الدين الجديد نحو مزيدٍ من التّشدّد والتّمحور حول الذات، يتطور عندها الصراع إلى معركة بقاء، ويصير الدين مع الوقت مليكاً مسيطراً.

يحدث أحياناً أن تتوحد السّلطتان في شخصٍ واحدٍ، يصعب عندها الفصل بين السياسي والديني. وبعد استقرار النّظام الجديد تظهر انبثاقات أخرى داخل الدين. وتكرّر دائرة العنف نفسها بشدّةٍ أكبر لأن العقيدة الجديدة تستند إلى قراءاتٍ خاصةً للعقيدة الأصليّة على نحوٍ مخالفٍ للسائد، فيحدث عنف ديني مزدوج ضد الواقع السياسي وضد الاعتقادات السائدة.

يجب لكسر دوائر العنف اللانهائيّة أن يتّم الاعتراف بالمشروعيّة المتبادلة. فلا بدّ للديني أن يعترف للسياسي بمشروعيّة الحركة والحق في التّنظيم الاجتماعي والتعامل مع العالم الخارجي، بالمقابل لا بدّ للسياسي من الاقتناع بأنّ السياسة لن تقوم بذاتها بديلاً عن الدين.

المصادر:

كتاب اللّاهوت العربي وأصول العنف الديني

Exit mobile version