كيف يؤثّر الجندر على الرعاية الصحية؟

هل لك أن تتخيّل أن رجل ومرأة يُعانيان من الأعراض الجسدية أو النفسية نفسها يتلقّيان تشخيصين أو علاجين مختلفين؟ إنه التمييز الجندري (Gender Bias) في الرعاية الصحية. فرغم أن الحق في الصحة حق أساسي من حقوق الإنسان، وقد نصّت عليه شتى المعاهدات والقوانين الدولية والدساتير الوطنية، إلا أن الرعاية الصحية بقيت في الواقع تشهد تمييزًا على أساس الجنسية والعرق والطبقة الاجتماعية والجندر. فماذا نعني بالجندر؟ و كيف يؤثّر الجندر على الرعاية الصحية؟

ما الفرق بين الجنس البيولوجي والجندر؟

يُشير الجنس البيولوجي (Sex) إلى الخصائص الجسدية التي تميّز الذكر عن الأنثى، وفقًا للكروموسومات والجهاز التناسلي والهورمونات.

أما الجندر (Gender) أو ما يُسمّى بالنوع الاجتماعي فهو الأدوار المُحدَّدة اجتماعيًا وثقافيًا لكلِّ من الهويات الجنسية المختلفة. وهذا التركيب يختلف بين بيئة اجتماعية وأخرى، ويتطوّر عبر الزمن. كما يشمل الجندر البناء الاجتماعي لمفهومي “الذكورة” و”الأنوثة”. وهو يتعلّق بعدد من المتغيّرات الاجتماعية كالتعلّم والثروة الاقتصادية والسلطة السياسية.

انطلاقًا من هذا التعريف، يكون مفهوم الجندر قائمًا ومُؤثرًا في كل تفاعل اجتماعي، ويطال هذا المفهوم التفاعل بين المريض والطبيب أو المُعالج.

الجنس والجندر في مجال الصحة

تشكّل ثنائية الجنس-الجندر تحدّيًا هامًا في الطب. إذ لا يقتصر تأثير الجنس البيولوجي على الصحة الإنجابية والجهاز التناسلي، بل على مختلف الأجهزة الجسدية. كما تختلف نسب الأمراض بين الجنسين. من الناحية الأخرى، يشكّل الجندر، الذي يؤثّر على نمط عيش الفرد، عاملًا مهمًا في تحديد وضعه الصحي.

فلنأخذ على سبيل المثال نسبة كثافة العظام، هي تكون غالبًا أعلى عند الرجال مقارنةً بالنساء، علمًا أن النسبة تتفاوت بشكل كبير عند الجنس الواحد. لكن الجنس ليس العامل المؤثر الوحيد في هذه النسبة، إذ إن ممارسة الرياضة تساهم في زيادتها. وبالتالي فإن النساء اللواتي يمارسن التمارين الرياضية باستمرار قد يملكن نسبة كثافة عظام أعلى من الرجال غير الرياضيين. من هنا، نرى ضرورة معالجة المسائل الطبية من منظوري الجنس والجندر، وعدم إهمال أيِّ منهما.

ما هو “التمييز الجندري -Gender Bias” في الطب؟

أثبتت الدراسات الطبية وجود فروقات على صعيد الأمراض والصحة بين الرجل والمرأة، وذلك لاختلافات تشريحية وفيزيولوجية وجينية، كذلك لفروقات في نمط الحياة وظروف العيش. ولكنها بيّنت أيضًا وجود فروقات في التشخيصات والعلاج وجودة الرعاية الصحية بين الجنسين (لحالات مرضية مُماثلة) دون سبب علمي.

من هنا، بدأ الحديث عن التمييز الجندري في الرعاية الصحية ويُعنى به التمييز المنهجي غير المقصود بين الأفراد على أساس جندري، في مجالات البحوث العلمية الطبية والمجال الأكاديمي الطبي والممارسات الطبية والتشخيص والعلاج وعملية الرعاية الصحية. ويؤثر هذا الانحياز على كلي الجنسين.

الانحياز الجندري في البحوث العلمية

انحازت البحوث العلمية لعصور طويلة للرجال، وتحديدًا “العرق الأبيض” منهم. وقد كانت تُعمّم النتائج الصادرة عن هذه البحوث على كل الأفراد، بما فيهم النساء. بالتالي، لم تلحظ البحوث الطبية الفروقات بين الرجال والنساء في مجال الصحة، وأهملتها، ممّا جعل الرعاية الصحية مُصمّمة على قياس حاجات الرجال الصحية.

منذ العام 1990، فرض المعهد الصحي الوطني الأميركي (NIH) دمج النساء في كل الدراسات الطبية المُمولة من قبله. كما فرض في العام 1994، إصدار النتائج على أساس جندري، وذلك لإظهار الفروقات الطبية بين الجنسين والسماح بدراستها بشكل معمّق.

الانحياز الجندري في الممارسة العيادية

بحسب الكثير من الدراسات العلمية، تبيّن أن النساء غالبًا يحصلن على تشخيصات وعلاجات أقل تقدمًا من الرجال رغم معاناتهم من الأعراض نفسها. وقد ظهرت الفروقات الجندرية جليّةً في العديد من الأمراض، نذكر منها مرض الشريان التاجي في القلب ومرض باركينسون العصبي ومتلازمة القولون العصبي وأوجاع الرقبة ومرض السل ومرض الصدفية.

ويعود هذا الفرق جزئيًا إلى الصورة النمطية المُكوّنة عن الجنسين، إذ يُحلل الطبيب الأعراض نفسها بشكل مختلف بحسب الجندر الذي ينتمي إليه المريض. وتُصنّف الأعراض عند الرجال بالأعراض الجسدية (الفيزيولوجية)، فيما تُصنف الأعراض نفسها عند النساء ضمن خانة الأعراض النفسية، ممّا يصعب التشخيص وينقص من جودة العلاج والرعاية.

في المقابل، تشهد بعض الحالات المرضية (خصوصًا التفسية منها) الانحياز إلى النساء من ناحية التشخيص والمعالجة. فمرض الاكتئاب على سبيل المثال يُصيب النساء مرتين أكثر من الرجال، فيتم اهمال أعراض الاكتئاب عندهم وتعريضهم لخطر الانتحار من جهة، والمبالغة بالتشخيص بالاكتئاب عند النساء وتعريضهن لخطر سوء استخدام الأدوية النفسية من جهة أخرى.

أسباب التمييز الجندري في الرعاية الصحية

يمكن وضع أسباب التمييز الجندري في الصحة في خانتين رئيستين.

الأولى هي الصور النمطية والأحكام المسبقة التي تربط كل جنس أو جندر بصفات معينة، وتسقطها على التحليل العلمي للأعراض المرضية، وبالتالي فهي تخلق فروقات وهمية بين الجنسين وتشخص أو تعالج حالتين مماثلتين بطريقة مختلفة لمجرد اختلاف جندر المريض، رغم غياب أي دليل علمي على هذا الاختلاف.

أما الخانة الثانية فهي، على العكس، إهمال الفروقات الجندرية العلمية في الصحة والأمراض، وبالتالي إهمال حاجات كلِّ من الجنسين.

يبذل المجتمع الطبي اليوم جهودًا ضخمة في سبيل الحد من التمييز الجندري في الصحة، وذلك من خلال فهم الفروقات الجندرية ودراستها في مختلف المجالات الطبية. كما يسعى إلى تفكيك الأسباب النفسية والسلوكية والتواصلية للانحياز الجندري،وإلى حث الوعي حول مفهوم الجندر وتأثيره عند طلاب العلوم الصحية والطبية. فلنأمل برعاية صحية تحترم الاختلاف وتؤمن العدالة للجميع.

المصادر:

PubMed

NCBI

WHO

إقرأ أيضًا: تعريف الحركة النسوية وتاريخها

نقد علم النفس التطوري: أبرز الانتقادات والاعتراضات

هذه المقالة هي الجزء 8 من 10 في سلسلة 9 موضوعات في علم النفس التطوري

فرضت نظرية التطور نفسها على صعيد مختلف علوم الأحياء والطب، فدُرست الأعضاء البشرية بحسب وظيفتها التطورية، وقارن الباحثون بين البنية الجسدية البشرية وبنية باقي الثدييات والحيوانات، وقد أضافت هذه الأبحاث الكثير من التفسيرات لفهم وظائف الأجهزة وأمراضها. إلا أن نظرية التطور بقيت خارج دائرة علم النفس طويلًا، حتى نشأ مجال علم النفس التطوري في أواخر الثمانينيات.

يعتبر علم النفس التطوري علمًا حديثًا نسبيًا، وهو يهدف إلى تفسير السلوكيات والقدرات المعرفية البشرية من منظور تطوّري. لكنّه واجه وما زال يواجه الكثير من الانتقادات والاعتراضات من باحثين في مجالات علمية من جهة، ومن ناشطين سياسيين واجتماعيين ودينيين من جهة أخرى. فما هي أبرز الحجج في نقد علم النفس التطوري ؟

صعوبة اختبار نظريات علم النفس التطوري

بحسب علم النفس التطوري، يشكّل العصر الحجري القسم الأكبر من التاريخ التطوري للبشر، وبالتالي فإن دماغنا الحالي ناتج عن مجموعة من عمليات التطور في ذاك العصر. عاش أسلافنا في قبائل صيد في السافانا لزمن طويل، ويعتبر الباحثون في علم النفس التطوري أن هذه البيئة هي بيئة التكيف التطورية التي تطور دماغنا ليحل مشاكل الحياة فيها. لكن إلى أي مدى يمكن دراسة تفاصيل الحياة البشرية في هذه البيئة وهذا العصر؟

غالبًا ما يعتمد علماء النفس التطوري دلائل علوم الآثار والتاريخ لفهم طبيعة بيئة التكيّف، وهم يطرحون نظرياتهم بناءً على هذه الدلائل. لكن الصعوبة تكمن في فهم الخصائص العقلية الحالية في ضوء البيئة التطورية، خصوصًا أنه من المستحيل محاكاتها. ومن هنا، يصبح طرح النظريات حول الأصول التطورية للوظائف العقلية صعب وغير متين، وتكون هذه النظريات غير قابلة دائمًا للاختبار. بالإضافة إلى ذلك، عندما يقود علماء النفس التطوري دراسات ميدانية وتكون النتائج غير مثبتة لنظرياتهم، يعتبرون أن الدراسات الميدانية غير كافية لدحض النظريات، وذلك بسبب الفروقات الكبيرة بين البيئة التطورية والبيئة الحالية، في حين يستخدمون نتائج الدراسات الميدانية كدليل حين تتوافق مع النظريات.

في المقابل، يرد علماء النفس التطوري على هذه الاعتراضات بأنهم مُعترفين بصعوبة اختبار النظريات، لكنها ليست مهمة مستحيلة. فهم يعتمدون فقط الدلائل المؤكدة من بيئة العصر الحجري ويبنون النظريات على أساسها. كما أنهم يؤكدون أن اختبار نظريات علم النفس التطوري يمر بالمراحل نفسها التي تُجرى لاختبار نظريات علم النفس في مجالاته المختلفة.

النهج الاختزالي في علم النفس التطوري

واجهت العديد من العلوم الاجتماعية والنفسية الاعتراضات بسبب اعتبارها اختزالية، أي أنها تفسّر عمليات شديدة التعقيد بشكل مختزل. رغم أن الاختزال (Reductionism) هو استراتيجية ضرورية لفهم الظواهر المعقّدة في معظم الحقول العلمية، إلا أن الاعتراض على علم النفس التطوري يقوم على اعتباره يدرس التطوّر كسبب وحيد لمعظم السلوكيات البشرية, وهو بالتالي يُهمل تأثير عوامل أخرى كالتنشئة الاجتماعية والتراكمات الثقافية وغيرها.

التمركز حول النوع البشري

رغم أهمية الدراسات النفسية التطورية في النوع البشري، إلا أننا نشترك أسلافًا مع حيوانات أخرى خصوصًا القردة العليا والثدييات. ويعتبر العديد من الباحثين أن بعض سلوكياتنا مشتركة بيننا وبين حيوانات أخرى. لذلك فإن الدراسات النفسية المتمحورة حول حيوانات أخرى قد تكون مفيدة للغاية لفهم الفروقات بين الدماغ البشري وأدمغة غيره من الحيوانات، وبالتالي فهم الأصول التطورية للخصائص العقلية بشكل أعمق.

ما زالت أبحاث علم النفس التطور مُتمحورة بشكل أساسي على البشر، ممّا قد يعيق فهمنا للكثير من الأصول النفسية التطورية ويخفف من إنتاجية هذا المجال.

نمطية العقل الشاملة

تبنّى علماء النفس التطوري نظرية “نمطية العقل الشاملة – Massive modularity of mind” وهي النظرية التي تعتبر أن الدماغ يتألف من وحدات دماغية مختلفة، ولكل منها وظيفة معينة طوّرتها استجابةً لضغوط الانتخاب.

في المقابل، تتعارض هذه النظرية مع نظريات علم النفس التعليمي والعديد من العلوم العصبية التي تعتبر الدماغ كجهاز قابل للاستخدام العام (General purpose learning device) نتيجةً للمرونة العصبية التي يتميز بها. بحسب الباحثة في العلوم المعرفية العصبية “كارميلوف سميث -Karmiloff Smith”، الدراسات الميدانية لا تتفق مع نظرية النمطية الشاملة، وتعتبر أن تخصّص الوحدات الدماغية قد يكون ناتجًا عن نمو الطفل وتحفيزه لقدرات معينة.

رغم الانتقادات العلمية المشروعة لنظريات واستراتيجيات علم النفس التطوري، إلا أن هذا المجال العلمي فتح آفاقًا كبيرة ومهمة لدراسة القدرات المعرفية والاضطرابات النفسية والسلوكيات البشرية من منظور تطوري. ويتفق الباحثون في هذا المجال، حتى المعترضين منهم، أنه ليس من الممكن إهمال الأصول التطورية للظواهر النفسية.

ما هي أبرز أوجه الشبه والاختلاف بين الإنسان والشيمبانزي؟

هذه المقالة هي الجزء 9 من 10 في سلسلة 9 موضوعات في علم النفس التطوري

تُعتبر حيوانات الشيمبانزي الأقرب إلى البشر، فقد تطوّرنا من سلف مُشترك (عاش منذ حوالي 13 مليون عامًا)، ونتشارك حوالي 96% من الحمض النووي. في المقابل، يشكّل الفارق في الحمض النووي حوالي 40 مليون جينًا مختلفًا بين الكائنين، ممّا يفسّر الفروقات الكبيرة بين قدراتهما وأنماط حياتهما. إذًا ما هي أبرز أوجه الشبه والاختلاف بين الإنسان والشيمبانزي؟

الإنسان والشيمبانزي: فيم يتشابهان؟

يكفي النظر إلى جسد الشيمبانزي لنعرف أننا نتشارك بنية جسدية متشابهة، لكن التشابه يتعدّى البنية الجسدية ليطال أيضًا سمات نفسية وعقلية واجتماعية عديدة.

التشريح الجسدي واختبار العالم

لا يتشابه الإنسان والشيمبانزي جسديًا فقط، بل هما يملكان الجهاز العظمي والعضلي نفسه تقريبًا. كذلك نملك العدد نفسه من أصابع اليد والقدم، مع اختلافات طفيفة في شكلها.

يتشابه أيضًا الجهاز العصبي عند الإنسان والشيمبانزي بشكل كبير.

من الصعب تخيًل العالم من منظار حيوانات أخرى، تختلف في حواسها عن حواسنا، إلا أننا والشيمبانزي نختبر العالم المحيط بنا بحواس متقاربة من حيث الدقة والقوة، تحديدًا في حواس البصر والسمع والشم واللمس.

الدماغ والقدرات العقلية

يملك البشر دماغًا ذا حجم أكبر من دماغ الشيمبانزي إلا أن الدماغين متشابهين من حيث البنية. هذا يعني أن حيوانات الشمبانزي قادرة على التفكير المنطقي والتعميم وإنتاج أفكار مجرّدة، كما تتميّز بقدرات عالية من الانتباه والتركيز والذاكرة. وتُعد قردة الشيمبانزي من الحيوانات القليلة القادرة على تمييز نفسها في المرآة.

السمات الاجتماعية

رغم أن الإنسان هو الحيوان الأكثر تقدمًا من حيث القدرات الاجتماعية إلا أننا نتشارك مع حيوانات الشيمبانزي عدّة سمات اجتماعية. تعيش قردة الشيمبانزي في قبائل ومجموعات، وهي تقسّم الأدوار فيما بينها داخل القبيلة. كما أنها تجتمع وتتواصل فيما بينها من أجل الصيد، وهي تتشارك الطعام والأدوات فيما بينها.

كذلك تستخدم قردة الشيمبانزي لغة الجسد للتواصل فيما بينها، من سلام اليدين إلى التقبيل والحضن ومسك اليدين وغيرها. ومن أجل إنماء قدراته الاجتماعية، يقضي صغير الشمبانزي السنين الخمس الأولى من حياته في اللعب ومصادقة أقرانه، كما يبني علاقة قوية من التعلّق بأمه. وقد تبين أن الشيمبانزي ليس فقط قادرًا على التواصل مع غيره، بل هو أيضًا قادر على التعاطف ومشاركة مشاعر الفرح والحزن والخوف مع غيره.

الإنسان والشيمبانزي: فيم يختلفان؟

رغم أوجه الشبه الكبيرة بين الإنسان والشيمبانزي، إلا أن الصنفين طوّرا اختلافات كبيرة خصوصًا على مستوى القدرات العقلية والاجتماعية.

المشي على قدمين

بحسب الباحث “كيفين هانت – Kevin Hunt”، طوّر الإنسان قدرة المشي على القدمين منذ حوالي الستة ملايين ونصف الميلون سنة، أي مع زيادة الجفاف في قارة أفريقيا، بحيث أصبحت الأشجار المثمرة غير عالية، واستطاع الإنسان من خلال الوقوف على قدميه من الوصول إلى الثمر والطعام.

وقد اعتبر داروين أن الوقوف على القدمين من أبرز قفزات التطور عند الإنسان، بحيث أصبحت يداه قادرة على استعمال الأدوات. ممّا طور بدوره القدرة على خلق أدوات أكثر تعقيدًا سمحت له بالتقدم. في المقابل، بقي استخدام الأدوات عند الشيمبانزي بدائيًا.

اللغة

قد تكون اللغة أكثر السمات التطورية أهمية في تاريخ تطور الإنسان، إذ أنها لم تسمح فقط بتواصل أكثر تعقيدًا، بل هي ساهمت في زيادة المعرفة عند الإنسان، وتناقلها وتراكمها من جيلِ إلى آخر.

في اختبار قدرة الشيمبانزي على تعلّم اللغة واستخدامها، أجريت دراسة في السبعينيات على قرد شيمبانزي، تمت تنشئته كطفل بشري. تعلم هذا الشيمبانزي اللغة ولغة الإشارة، واستطاع تعلم 125 كلمة كحدٍّ أقصى، واستطاع التعبير عن بعض رغباته، وقد كانت الجملة الاطول التي نطق بها هي:

“Give orange me give eat orange me eat orange give me eat orange give me you.”
اعطني برتقال أنا اعط أكل برتقال أنا أكل برتقال أعطني أكل برتقال أعطني أنت

إذن فالتنشئة الاجتماعية غير كافية لجعل الشيمبانزي قادرًا على تعلّم اللغة.

القوة الجسدية

بالرغم من التشابه الكبير بين جسدي الإنسان والشيمبانزي إلا أن الشيمبانزي يتمتع بقوة عضلية تصل إلى ضعفي أو حتى ثلاثة أضعاف القوة العضلية البشرية. فالشيمبانزي يستخدم قوته الجسدية لمدة 12 ساعة في اليوم، كما أن البنية للجهاز العضلي عند الشيمبانزي تحفز القوة بدل السرعة.

رغم الاختلاف

قد كان كفيلًا لأقل من 4 % من الحمض النووي أن يصنع فروقات عظيمة بين الإنسان والشيمبانزي من حيث نمط الحياة والقدرات الفكرية والاجتماعية، لكن المقارنة بيننا تبيّن أننا نتشابه في الحاجات الجسدية والعاطفية والاجتماعية بشكل كبير، رغم كل الاختلافات بيننا.

المصادر:

LiveScience
The Jane Goodall Institute of Canada
ScienceDaily

إقرأ أيضًا: علم النفس التطوري: عقل العصر الحجري في جماجمنا الحديثة

الفن والتطور: هل للفن أصول تطوّرية؟

هذه المقالة هي الجزء 7 من 10 في سلسلة 9 موضوعات في علم النفس التطوري

من الموسيقى والغناء والرقص إلى الرسم والأدب والنحت، كان تاريخ البشر حافلًا بالإبداعات الفنية. ولم تقتصر الفنون على كونها رفاهية ثقافية تفيد المتعة، بل شكلت جزءًا من العادات والتقاليد الاجتماعية والدينية. كان الفن موضع بحث للفلاسفة لفترة طويلة، إلا أن العلوم البيولوجية والنفسية ساهمت منذ الثمانينات في البحث عن الأسباب العلمية التي جعلت البشر يميلون إلى الفن ويبدعونه. بدورهم، درس الباحثون في علم النفس التطوري الأصول التاريخية للفن والعلاقة بين الفن والتطور، والبحث عن إجابة السؤال التالي، هل للفن أصول تطوّرية؟

التجارب الفنية الأولى للبشر

عندما نتحدث عن الفن، فنحن نعني أي نشاط إبداعي مميز يهدف بشكل أساسي إلى المتعة والتعبير عن الذات. وتشمل الفنون كل أنواع الإبداعات البصرية (الرسم والنحت والتصميم وغيرها)، وكل النشاطات الإيقاعية (الرقص والغناء وعزف الموسيقى) والخيال (تأليف الروايات والأدب والكتابة الإبداعية).

من أجل فهم معمّق لأصول هذه الفنون، لابد من الاطلاع على تاريخ نشأتها ابتداءً من العصر الحجري. بحسب علوم الآثار والحفريات، بدأ البشر منذ زمن طويل بنشاطات الحفر والتزيين والرسم والصبغ، وقد وُجدت أعمال تزيين بالخرز والنقش على قشر بيوض النعام في جنوب أفريقيا تعود إلى حوالي 75 ألف عام. كذلك وُجدت أغراض مزينة بالصدف في فلسطين (تعود إلى ما قبل 100 ألف عام) وفي الجزائر (قبل 35 ألف عام) وفي المغرب (قبل 75 ألف عام).

أما عن تاريخ الموسيقى فيُقال أن الموسيقى سبقت حتى القدرة على الكلام، ويعود صنع المزامير (أقدم الآلات الموسيقية) إلى ما يقارب 40 ألف عام.

ما هي العلاقة بين الفن والتطور؟ هل للفن أصول تطوّرية؟

يعمد علم النفس التطوري إلى تفسير السلوكيات البشرية من خلال البحث عن أصولها التطورية، وذلك من خلال ثلاث احتماليات أساسية:

  • السلوك عبارة عن تكيّف (Adaptation) أو مجموعة تكييفات حصلت تحت ضغط الانتقاء الطبيعي، أي أنه ساهم في زيادة النجاح الانجابي وفرص النجاة من المخاطر عند إنسان العصر الحجري، وقد ورثناه من أسلافنا عن طريق الجينات.
  • لا يملك السلوك صفة تكيّفية بنفسه، لكنه نتيجة لصفات تكييفية أخرى (By-product).
  • السلوك هو نتيجة عشوائية لطفرات أو تغيرات جينية (Random effect).

تعدّدت النظريات في علم النفس التطوري واختلفت بين نظريات تعتبر الفن ذا وظيفة تكييفية للبشر، وبين أخرى تعتبره نتيجة غير مباشرة لتطور قدرات عقلية واجتماعية تكيفية أخرى.

الوظائف التكيّفية للفن

عرض الباحثون في مجال علم النفس التطوري والعلوم المعرفية عدد من النظريات التي ترى في الفنون تكيّفات تطورية جرت على أساس الانتقاء الطبيعي.

  • الفن كاستعراض جنسي:

استوحى عالم النفس التطوري «جيوفري ميلر – Geoffrey Miller» من نظرية «الانتقاء الجنسي – Sexual selection» التي تفسّر سلوكيات الحيوانات في اختيار الشريك الجنسي، ليفسر ميل الانسان للفنون وتقديرها واعتبارها مميزة وذات قيمة جمالية.

تمامًا كاستعراضات ذكور الطيور من خلال الغناء والرقص وعرض الريش الملوّن بهدف إغواء الإناث. اعتبر ميلر أن الفن ربما قد لعب دورًا مشابهًا لاستعراضات الطيور عند البشر. فالفنون غالبًا ما تحتاج قدرات عالية من الذكاء والإبداع والصحة الجيدة والطاقة والحركات اليدوية الدقيقة والقدرات الإدراكية (البصرية / السمعية) المتفوقة وغيرها. ومن المحتمل أن استعراض الذكور من البشر لهذه الفنون كان وسيلة لإغراء النساء وجذب انتباههن.

  • تحسين القدرات العقلية والاجتماعية:

تساهم الفنون بتنمية العديد من القدرات العقلية، لذلك اعتبر عدد من العلماء في مجال علم النفس التطوري والعلوم العصبية أنها تملك وظيفة تكيّفية بنفسها، لأنها تزيد من قدرة الدماغ على حل المشاكل وأخذ خيارات أفضل.

فالخيال -مثل الخيال المستخدم في رواية القصص- يبعث على التحليل وتخيل مواقف اجتماعية ومحادثات وسمات الشخصيات المختلفة ورسم استراتيجيات عقلية. في هذه الحالة يمرّن الخيال القدرات العقلية للفرد دون التعرض لخطر حقيقي.

بحسب الباحث في الأدب والتطور «جوزيف كارول – Joseph Caroll»، فإن الأدب والفنون بشكل عام تلبّي الحاجة البشرية الفريدة لإنتاج ترتيب معرفي مشبع عاطفيًا وجماليًا. كما يعتبر أن الفن يساعد العقل البشري على التنظيم.

الفن كنتاج ثانوي للتطور

بينما نظر البعض للفن كوظيفة تكيّفية، اعتبر آخرون الفن نتيجة ثانوية للتطور، لكنه لا يملك صفة تكيّفية (By-product).

فبحسب عالم النفس المعرفي «ستيفن بينكر – Steven Pinker»، الفن هو نتيجة لعدد من التكيّّفات التي اكتسبناها عبر التطور. من جهة، القدرات العقلية سمحت لنا كبشر بإبداع الفنون والاستمتاع بها. من جهة أخرى، نمت عند البشر رغبة في الحصول على مركز اجتماعي، ولعلّ ممارسة الفن كانت وسيلة لتلبية هذه الرغبة.

يشمل بينكر في نظريته غالبية الفنون من الموسيقى إلى الرسم والرقص والنحت وغيرها. لكن يستثني بينكر الخيال (تأليف الروايات والقصص) من هذا. فقد اعتبره في الوقت عينه تكيّفي (لأنه يساعد البشر على تخيل المشاكل وحلها وينمي قدراته في التحليل والتفاعل الاجتماعي). كما اعتبره نتاج ثانوي للسمات التطورية الأخرى.

ما زالت العلاقة بين الفن والتطور غير واضحة الملامح وهي تطرح إشكاليات عدة. فالفن يشمل نشاطات مختلفة ومتعددة، كما يتخذ الفن طابعًا اجتماعيًا كبيرًا، أي أنه ينتقل من جيل إلى آخر من خلال التنشئة الاجتماعية. يشكّل هذا الأمر تحديًا لدراسته بشكل بيولوجي صرف. لكن الأكيد أن الفن على اختلاف أوجهه جمع البشر جميعًا، وتعدى دوره كمتعة ليصير حاجة اجتماعية وثقافية وعاطفية. فهل للحياة طعم دون فن؟ ما رأيك؟

المصادر:

ResearchGate
The arts after Darwin, Ellen Dissanayake
ResearchGate

الحب من منظور علم النفس التطوري

هذه المقالة هي الجزء 6 من 10 في سلسلة 9 موضوعات في علم النفس التطوري

الحب من منظور علم النفس التطوري

كتب فيه الفلاسفة والأدباء ما لا يُحصى من الكتب. روي عنه ما لا يُحصى من الحكايات في الأفلام والروايات. ألهم الموسيقيين والرسامين والشعراء، وغُزلت حوله ملاحم الأساطير والمعجزات. إنه الحب، واحد من أهم المشاعر الإنسانية، وقد يكون أكثرها تعقيدًا. رغم أنه شغل حيزًا كبيرًا من الحياة الثقافية والفكرية والفنية للإنسان، إلا أن العلم بقي خجولًا وعاجزًا لفترة طويلة أمامه باعتبار أن دراسته وتفسيره بشكل موضوعي أمر شبه مستحيل. حتى أن تعريف الحب نفسه يعتبر مهمة شاقة، نظرًا لاختلاف تجاربنا البشرية فيه. لكن تطور علوم الأحياء والجينات وعلم النفس سمح للعلوم بفهم شعور الحب بشكل أعمق. وبدوره، بحث علم النفس التطوري عن جذور هذا الشعور وأسبابه التاريخية، إذن ما هو الحب من منظور علم النفس التطوري ؟ وكيف يفسّره؟

ما هو الحب؟

الحب بطبيعته مفهوم معقّد وواسع ويحمل عددًا من المعاني، فقد يُقصد به الحب الرومانسي الذي يجمع شخصين في ارتباط عاطفي، وقد يعني أيضًا حب الأم والأب لأطفالهم أو حب الأصدقاء أو المحبة بكل ما تعنيه. لكن ما يعنينا في هذا المقال تحديدًا هو الحب الرومانسي.

لم يجتمع الفلاسفة والأدباء حول تعريف موحّد للحب، ولا حول تفسير واضح له. في علم النفس، تعدّدت النظريات حول الحب لكن الأكثر شيوعًا هي نظرية مثلث الحب لعالم النفس الاجتماعي ستيرنبرج. وقد اعتبر أن الحب يتألف من ثلاثة عناصر أساسية هي الشهوة والحميمية والالتزام.

لكن كون الحب شعورًا بشريًا عامًا موجودًا في كل المجتمعات وعند مختلف الشعوب، يمكن اعتباره سمة بشرية ذات أساس فيزيولوجي. فنحن نشعر الحب بأجسادنا، بأعراض شبه مرضية، من دقات القلب السريعة إلى الأرق ورعشة الجسد وغيرها. ورغم أننا نشير في الحب غالبًا إلى القلب، إلا أن الحب ينبع من الدماغ، ويرتبط بشكل مباشر بـ«الناقلات العصبية – Neurotransmitters» كالدوبامين والأوكسيتوسين.

أما من ناحية علم النفس التطوري، فقد حاول الباحثون تفسير الحب كسمة تطورية ساهمت في تحسين النجاح الإنجابي و/أو فرص البقاء على قيد الحياة. وقد أثبتوا فعلًا عددًا من الوظائف التكيّفية للحب، بالإضافة إلى عدد من الدلائل التي تشير إلى جذور الحب التطورية.

الوظائف التكيّفية للحب

يعتمد علم النفس التطوري بشكل أساسي على نظرية الانتقاء الطبيعي. فتنتقل الجينات المساهمة في زيادة النجاح الإنجابي وفرص البقاء على قيد الحياة من جيل إلى الآخر. ويعتبر علم النفس التطوري أن الحب نفسه نتيجة للانتقاء الطبيعي، نظرًا للوظائف التكيفية التالية:

  • رعاية الأطفال: مع تطوّر البشر وزيادة حجم دماغهم، ازدادت حاجة الأطفال للرعاية لوقت طويل. ففي حين تولد الكثير من الحيوانات بأدمغة شبه مكتملة، يولد أطفال البشر بأدمغة غير كاملة. يحتاج أطفال البشر طفولة طويلة تمتد حتى 15 عامًا ليصبح الطفل ناضجًا وواعيًا ومستقلًا. من هنا، أصبحت رعاية الأطفال مهمة شاقة تستنزف الكثير من الوقت والطاقة. ساهم الحب في خلق علاقة التزام بين الوالدة والوالد، مما سهّل مهمة رعاية الأطفال. وزادت قدرتهما على تأمين الموارد المادية والنفسية لهم وبالتالي تزداد فرص بالبقاء على قيد الحياة ونقل الجينات.
  • زيادة احتمالية الحمل والإنجاب: تتميّز إناث حيوانات الشيمبانزي بخصائص جسدية ظاهرة خلال فترة «الشبق –Estrus» ، فيتم التزاوج حصرًا في هذه الفترة التي تمتاز بخصوبة عالية مما يرفع احتمالية الحمل.

أما عند إناث البشر، فتتكرر فترة الإباضة شهريا، وهي قصيرة نسبيًا ولا تُظهر خصائص جسدية واضحة. لذلك من المهم أن تكون العلاقة بين المرأة والرجل طويلة الأمد لزيادة احتمالية الحمل وبالتالي الإنجاب. بالإضافة إلى ذلك، فإن تعدد الأزواج لمرأة واحدة يزيد من احتمالية تسمّم الحمل، وبالتالي فعلاقة الزواج الأحادي تعزّز احتمالية الإنجاب.

  • أهمية رعاية الأب: بيّنت دراسة لبيئة السكان الأصليين في شرقي باراغواي أن الأطفال الذين ينعمون برعاية الأب خلال السنين الخمس الأولى من حياتهم تصبح لديهم فرصة مضاعفة للبقاء على قيد الحياة مقارنة بالأطفال الذين فقدوا آبائهم في أول حياتهم. وهذه الدراسة ما هي إلا دليل جديد على أن الحب الذي يضمن بقاء الوالد إلى جانب أطفاله، يعزز فرصتهم في البقاء على قيد الحياة.

كيف ساهم الحب في تنمية القدرات المعرفية والاجتماعية؟

ساهمت العلاقات الطويلة الأمد في بناء القبائل والمجموعات التي تعزز فرصها بالنجاة. لكن الحياة ضمن القبائل تطلبت بالمقابل قدرات اجتماعية عالية تسمح بالتعاون والتضامن وكشف الغشاشين وغيرها.

كما أن العلاقات العاطفية نفسها تشكل واحدة من أكثر العلاقات تعقيدًا، نسبة للتعلّق النفسي الكبير بين الفردين. وهي بالتالي تنتج مع الوقت مصاعب اجتماعية معقّدة. ونظرًا للدافع الذي شكله الحب، ساهم بشكل مباشر بصقل القدرات الفكرية والاجتماعية التي تميزنا كبشر عن باقي الكائنات، والتي شكلت الركيزة الأساسية لبناء المجتمعات المتقدمة والثقافات بشكلها الحالي.

“الحب قماشة تقدمها الطبيعة ويطرزها الخيال”.

فولتير

الحب ليس فقط شعور عظيم وتجربة إنسانية راقية، لكنه أيضًا الشعور الذي ساهم في المحافظة على حياة أسلافنا وانتشارهم في بقاع الأرض، وفي تنمية قدراتنا العقلية والاجتماعية لنصبح ما أصبحنا عليه اليوم.

المصادر

Researchgate
Science direct
Harvard Health Publishing

كيف ينظر علم النفس التطوّري إلى الأمراض النفسية؟

هذه المقالة هي الجزء 5 من 10 في سلسلة 9 موضوعات في علم النفس التطوري

 العلاقة بين علم النفس التطوري والأمراض النفسية

تُعتبر نظرية التطوّر واحدة من أهم المبادئ التأسيسية في مجال علوم الأحياء والصحة، وقد فتح علم النفس التطوري المجال أمام هذه النظرية لتكون جزءًا أساسيًا من تفسير السلوك الإنساني من جهة، وتفسير الأمراض والاضطرابات التي تصيب الصحة النفسية من جهة أخرى. إذًا كيف ينظر علم النفس التطوّري إلى الأمراض النفسية؟

ماذا قدّم علم النفس التطوري لعلم الأمراض النفسية؟

منذ نشأته، بدا علم النفس التطوري كعلم واعد في مجال دراسة السلوكيات البشرية العامة و”الطبيعية”، إلا أن استخدام نظرياته في محاولة تفسير أو معالجة الأمراض النفسية جاء خجولًا، وذلك لأن كل العاملين والباحثين في مجال الصحة النفسية منكبّين فعليًا على المعالجة الفعالة والسريعة للاضطرابات النفسية، فيما يبحث علم النفس التطوري عن الأسباب التاريخية الكامنة وفي دورالانتقاء الطبيعي في الأمراض النفسية.

منذ السبعينات، ظهرت محاولات عدة أبرزت دور التطور في علم النفس المرضي. وتستمر هذه المساهمات حتى يومنا هذا، لكنها بقيت إلى حدِّ ما متفرقة ومُشتتة، بحيث تناولت المقاربات التطورية كل مرض على حدى.

مقاربة راندولف نيسي

في عام 2015، قدّم الطبيب الأميركي «راندولف نيسي –Randolph Nesse» مقاربة شاملة، يشرح فيها أهمية مساهمات علم النفس التطوري في فهم الأمراض النفسية بطريقة واضحة، خصوصًا أن العدد الأكبر منها ذات إتيولوجيا (مصدر أو أسباب) مجهولة. يهتم نيسي بأهمية فهم أسباب ترك الانتقاء الطبيعي لهشاشة صحتنا النفسية في مواجهة الكثير من الأمراض والاضطرابات.

يساهم علم النفس التطوري في مقاربة فيزيولوجية أكثر عمقًا في مجال الصحة النفسية، وقد تجيب عن أسئلة هامة حول طبيعة عمل العلاقات البشرية والمشاعر الإنسانية. كذلك يضع إطارًا علميًا أوضح للتشخيص النفسي على أساس فيزيولوجي، ويضع إطارًا عمليًا أكثر عمقًا وتعاطفًا مع الأفراد المُصابين باضطرابات نفسية.

يحاول علم النفس التطوري فهم الفروقات الفردية التي تجعل بعض الأفراد أكثر عرضةً من غيرهم للأمراض النفسية، وأهمية التجارب الحياتية المُبكرة في بناء شخصية الفرد وتحفيز اضطرابات نفسية معينة عنده.

 «مفارقة الأمراض النفسية –Paradox of mental disorders»

تُصيب الأمراض النفسية عددًا كبيرًا من البشر. فأكثر من 10% من البشر حول العالم يعانون من مرض نفسي واحد على الأقل. ويموت سنويًا قرابة 800 ألف شخص حول العالم جرّاء الانتحار، أي بنسبة شخص واحد كل اربعين ثانية.

تتعدد وتتشابك الأسباب المؤدية لانتشار الأمراض النفسية. لكن تشير الأبحاث إلى دور مهم للجينات الوراثية في العديد من الأمراض النفسية. يبلغ حوالى الـ90 % في مرض التوحد، والـ85% في اضطراب ثنائي القطب والـ81% في مرض الفُصام.

من هنا، نشأ سؤال حول دور الانتقاء الطبيعي في بقاء الأمراض النفسية على مدى الأجيال المتلاحقة. إن كانت هذه الأمراض النفسية تضر تكيفنا ككائنات حية، فلماذا سمح الانتقاء الطبيعي ببقائها أو حتى بزيادتها؟ تسمّى هذه المفارقة بمفارقة الأمراض النفسية. ويأتي هنا دور علم النفس التطوّري في الإجابة على هذا السؤال.

كيف يفسّر علم النفس التطوري الأمراض النفسية من خلال الانتقاء الطبيعي؟

انتقلت الأمراض النفسية عبر الأجيال، ولم يتمكّن الانتقاء الطبيعي من كبحها، بل يعتقد أنه ساهم في بقائها أحيانًا. ويمكن تفسير ذلك من خلال الأسباب التالية:

  • سوء التكيف: لقد ساهم الانتقاء الطبيعي في صقل قدراتنا بحسب حاجاتنا في بيئة العصر الحجري، والتي تشكل بيئة التكيف التطوري. ولكن هذه التكييفات قد لا تناسب البيئة الحالية التي نعيش ضمنها. وقد تكون الامراض النفسية التي نعاني منها ناتجة عن سوء التكيف بين عقول العصر الحجري التي نحملها في جماجمنا وبين حاجات عالمنا اليوم.
  • الإصابة الفيروسية أو البكتيرية: تنتج بعض الأمراض النفسية عن إصابات فيروسية أو بكتيرية، سواءً في عمر بالغ أو في أشهر التكوّن الأولى في رحم الأم. كما أنها قد تنتج عن الاستجابة المناعية للجسد في وجه جسم غريب (كما في حالات أمراض المناعة الذاتية). في هذه الحالة، لا يقدر الانتقاء الطبيعي على مواجهة الإصابات. فتطوّر الفيروس والبكتيريا أسرع بكثير من تطور الإنسان بسبب كثرة أجيال الفيروس والبكتيريا مقارنة بتوالد البشر.
  • محدودية الانتقاء الطبيعي: رغم الأهمية الهائلة لهذه العملية، إلا أنها تبقى محدودة نظرًا لعشوائيتها والأخطاء المحتملة في نقل المعلومات الجينية. ويمكن بذلك أن تعزز احتمالية انتقال الأمراض النفسية بسبب عدم تأثير تلك الأمراض بشكل مباشر على توارث الصفات الجينية.
  • الدفاعات الجسدية والنفسية: بعض ردات الفعل الجسدية كالألم والسعال وارتفاع الحرارة قد تكون مزعجة، لكنها في الأساس تهدف للدفاع عن صحتنا الجسدية وحمايتنا. وغيابها نفسه يعد عرضًا مرضيًا. كذلك المشاعر السلبية كالقلق مثلًا قد يكون دفاعًا مفيدًا. وقد يعزّز القلق فرص البقاء على قيد الحياة، وبالتالي فمن الطبيعي أن يبقيه الانتقاء الطبيعي رغم كونه شعورًا سلبيًا.
  • مساومة الانتقاء الطبيعي (Trade off): في الانتقاء الطبيعي لا وجود لحلول مثالية. كل ميزة نحصل عليها نخسر في مقابلها ميزة أخرى، فنحن نملك قدرات جسدية وعقلية محدودة. لذلك قد يكون الحفاظ على الأمراض النفسية يشكل نوعًا من الحماية من خسارة ميزات معينة. وقد تكون بعض تلك الميزات ميزات عاطفية مسؤولة عما نحن عليه كمجتمعات بشرية.

مستقبل دراسة علم النفس التطوري للأمراض النفسية

ما زالت الأمراض النفسية تشكل تحدّيًا كبيرًا للبشرية. وتعتبر من الأمراض القليلة التي تفتقد للمؤشرات البيولوجية الكافية لتشخيصها، فيعتمد تشخيصها بشكل أساسي على وصف الأعراض. من هنا جاءت ضرورة استخدام علم النفس التطوري لفهم السياق الطبي التاريخي الذي أتى بهذه الاضطرابات. لا يسعى علم النفس التطوري لإيجاد نوع جديد من العلاج أو التشخيص للأمراض النفسية، بل لأن يدرس الأسباب فيساهم في نظرة أكثر شمولية وعمق لهذا النوع من الأمراض، لعل ذلك يفتح المجال أمام علاجها وتحسين حياة الملايين من البشر.

كيف ساهم التطور في صقل مهاراتنا الاجتماعية؟

هذه المقالة هي الجزء 4 من 10 في سلسلة 9 موضوعات في علم النفس التطوري

الإنسان ليس الكائن الاجتماعي الوحيد، لكنه بالتأكيد الأكثر تعقيدًا بين الكائنات اجتماعيًا. فهو لم يكتفِ بالعيش ضمن مجموعة صغيرة يتشارك معها مقوّمات العيش، بل انخرط في مجموعات أكبر وبنى حضارات ضخمة وطوّر ثقافات مختلفة لكلِّ منها خصائص ولغة تواصل وعادات سلوكية مختلفة. إن هذه المهارات الاجتماعية تتطلب قدرات عقلية، إذًا كيف ساهم التطور في صقل مهاراتنا الاجتماعية؟ وما هي مساهمات علم النفس التطوّري في هذا المجال؟

بمَ يتميّز البشر عن القردة العليا في مجال المهارات الاجتماعية؟

تعيش قرود الشيمبانزي، وهي الكائنات الأقرب  إلينا من الناحية التطورية، في مجموعات صغيرة تسمّى بالعشيرة أو القبيلة. وقد تبيّن أن هذه العشائر تحمل اختلافات ثقافية، فقد بيّنت دراسة أُجريت عام 2013 في ساحل العاج أن ثلاثة قبائل مختلفة من الشيمبانزي تستخدم أساليب وتقنيات مختلفة في تكسير الجوز. والمُلفت أن هذه العشائر الثلاثة تجمعها علاقات الزواج والمصاهرة، وبالتالي فإن الفروقات بينها ليست جينية، بل هي ثقافية أي أنها تنتقل من خلال التنشئة الاجتماعية.

ولكن الأكيد أن هذه الاختلافات الثقافية، بسيطة جدًا أمام التنوع الثقافي عند البشر، من الأديان واللباس وصولًا إلى العادات الاجتماعية واللغات. لذلك عمل الباحثون وعلماء النفس على البحث عن الأسباب التي تجعل الكائن البشري أكثر تطورًا على الصعيد الاجتماعي.

في دراسة أجراها «إدوين فان لوفين – Edwin Van Leeuwen» قارن فيها أطفال تحت عمر الثالثة بحيوانات الشيمبانزي. تبيّن أن الأطفال يبدون اهتمامًا أكبر بالتعلّم من أقرانهم وتقليدهم، وهم أكثر تأثرًا بمحيطهم.

قد ينسب البعض الاختلاف الكبير في القدرات الاجتماعية إلى الفروقات في القدرات المعرفية بين البشر والحيوانات الأخرى. لكن آخرون يعتبرون أن البشر يتميّزون بتفوقهم في المهارات الاجتماعية بشكل خاص ومستقل عن باقي القدرات العقلية. وبالتالي هم يدعمون «فرضية الذكاء الثقافي – Cultural intelligence hypothesis».

فقد قارنت دراسة تشمل 230 مشارك، من أطفال يبلغون عمر السنتين ونصف السنة وقرود الشيمبانزي والأورنغوتان. ووجدت أن النتائج تتشابه في مجالات القدرات المعرفية المتعلقة بالمكان والكميات والعلاقة السببية. أما في المهارات الاجتماعية التواصلية، فقد تفوق البشر بما يفوق الضعف على القردة العليا.

مسألة الاختيار لـ«واسون – Wason»: تفوق المهارات الاجتماعية على قدرة التحليل المنطقي

في الستينيات من القرن الماضي، أجرى عالم النفس المعرفي «بيتر واسون – Peter Wason» اختبارًا لقدرة التحليل والمنطق الاستنتاجي. ويقوم هذا الاختبار على عرض أربعة بطاقات مع ضرورة التزام هذه البطاقات بشرط معين. وعلى الفرد اختيار أقل عدد معين من البطاقات لفتحها للتأكد من التزامها بالشرط.

نعرض هنا مثلًا من الاختبار، في الصورة أدناه ترى أربع بطاقات، كلُّ منها تحمل شكلًا هندسيًا من جهة ولونًا من الجهة الثانية. عليك التأكد من احترام البطاقات للقاعدة التالية: إذا حمَلَت البطاقة اللون الأصفر من جهة، عليها أن تحمل الشكل الدائري من الجهة الأخرى. أي بطاقات تعتقد أن عليك فتحها؟

الحل: عليك أن تفتح أولًا البطاقة التي تحمل اللون الأصفر للتأكد من أنها تحمل الشكل الدائري. بعكس ما يمكن أن تعتقد، أنت لا تحتاج لأن تفتح البطاقة التي تحمل الدائرة، لأن الشرط لا يلزمها بلون معين. لكنك تحتاج لفتح البطاقة التي تحمل المثلث للتأكد من أنها لا تحمل اللون الأصفر.

هل استطعت أن تحل المسألة؟ إذا لم تجد الإجابة الصحيحة لا تقلق، فقد بيّن الاختبار أن فقط 10% من الأشخاص يستطيعون حلّها.

تجارب الثمانينات

في الثمانينات، أعاد علماء النفس الاختبار مع قواعد اجتماعية بدلًا من القواعد المنطقية المجرّدة. وسنعرض هنا مثلًا عنها. تخيّل أنك تعمل في نادٍ ليلي، وعليك أن تتأكد أن من تجاوزوا الواحد والعشرين عامًا هم فقط من يستطيعون تناول الكحول.

كل بطاقة من البطاقات التالية ترمز إلى فرد موجود في النادي الليلي، أي بطاقات عليك فتحها للتأكد من احترام القانون؟

الحل: عليك فتح البطاقة التي تحمل الرقم 16 للتأكد من عدم تناوله الكحول، وعليك فتح البطاقة التي تحمل الكحول للتأكد من أنها تحمل عمرًا يفوق الواحد والعشرين.

هل لاحظت أن المسألة الثانية أسهل من المسألة الأولى؟ كثيرون ممن يخضعون للاختبارين يعتبرون أن حل المسألة الثانية أسهل بكثير من الأولى رغم تشابههما.

كيف يرى علم النفس التطوري نتائج اختبار واسون؟

بحسب العالمين كوسميدس وتوبي، مؤسسي علم النفس التطوري، يثبت اختبار واسون أن البشر يتميزون بقدرة أكبر على حل المسائل الاجتماعية من قدرتهم على حل المسائل المنطقية، وذلك لأن هذه المهارات كانت ضرورية للبقاء على قيد الحياة عند أسلافنا. فقد عاش البشر القدماء في عشائر من الصيادين، ومن أكثر المشاكل التي واجهوها هي تلك المتعلقة بالحياة الجماعية. لذلك كان من الضروري والمفيد تطوير المهارات المتعلقة بالتعاون والمنافسة وكشف النوايا وكشف خرق القوانين الاجتماعية.

إذًا ما يميّزنا كبشر لا يقتصرعلى حجم أدمغتنا الذي يبلغ ثلاثة أضعاف حجم أدمغة القردة العليا ولا على قدراتنا على حل مسائل الرياضيات والعلوم. بل الأهم من ذلك كله هو القدرة على التواصل وبناء المجتمعات المنظمة والتعلم من بعضنا البعض. التواصل هو ما جعلنا قادرين على مراكمة خبرات الأجيال البشرية والتفوق على التطور البيولوجي سرعةً من خلال نقل التجارب اجتماعيًا وتطويرها.

المصادر:

Coursera
Livescience
AAAS
AAAS

هل الدماغ البشري عبارة عن آلة ذكية؟

هذه المقالة هي الجزء 3 من 10 في سلسلة 9 موضوعات في علم النفس التطوري

هل الدماغ البشري عبارة عن آلة ذكية؟

محرِّكات بحث، آلات قيادة السيارات، تلسكوبات استكشاف الكواكب الجديدة.. وآلات ذكية في كل مكان! أصبحت الآلات الذكية جزءًا لا يتجزأ من حياتنا اليومية، وهي قادرة على القيام بوظائف صعبة ومعقدة. فهل تستطيع هذه الآلات “التفكير”؟ وإلى أي مدى يشبه الدماغ البشري هذه الآلات الذكية التي صنعناها بأنفسنا؟ هل الدماغ البشري عبارة عن آلة ذكية؟

تورينغ والآلات الذكية

كثيرًا ما تبهرنا الوظائف المعقدة التي تستطيع الآلات الذكية تأديتها. فبإمكان أي آلة أداء وظيفتها بإتباع مجموعة محددة وثابتة من الأوامر. أما الآلة الذكية، فهي إضافًة إلى ذلك، قادرة على تمييز المعلومات والتفاعل معها من خلال ما نسميه بالـ«حساب – Computation». والمقصود بالحساب هو طريقة لحل المسائل تتم باتباع سلسلة تعليمات تسمّى بالـ«خوارزمية – Algorithm». وتتكوّن الخوارزمية من سلسلة خطوات بسيطة وسهلة جدًا، لكن تتابعها وتراكمها قادرٌ على صنع سلوك معقّد وذكي.

يعتبر عالم الرياضيات البريطاني «ألان تورينغ – Alan Turing» من أكثر المؤثرين في عالم الحساب والذكاء الاصطناعي اليوم. فقد تمكن تورينغ من تصميم نموذج بسيط يحاكي عمل الحاسوب، قادر على القيام بأي مهمة وحل أي مسألة مهما زاد تعقيدها، بشرط أن يعطى النمط أو الخوارزمية اللازمة، مع المساحة والذاكرة الكافية. وبذلك، تم اختصار صعوبة إنجاز السلوكيات المعقدة بإيجاد الخوارزمية المناسبة لها. يعرف هذا النموذج بآلة تورينغ. 

ولكن ما هي الخوارزميات القادرة على خلق السلوكيات الذكية؟

لسنين عديدة، ظلت الخوارزميات المعتمَدة هي تلك التي تحتوي على قواعد وعناصر لغوية. ثم أصبحت مؤخرًا تحتوي على شبكات من الخلايا الرقمية المتشابكة، المستوحاة من طريقة عمل الدماغ. تسمى تلك الشبكات بـ«شبكة اتصال – Connectionist network».

من هنا، وُلد تساؤل جديد حول عمل الدماغ: هل للسلوكيات المعقدة والذكية التي يصدرها الدماغ البشري آلية مماثلة لتلك الموجودة في الآلات الذكية؟ هل يمكن اعتبار الدماغ البشري آلة ذكية شديدة التعقيد؟

النظرية الحاسوبية للعقل

لم تقتصر النظرية الحاسوبية على طريقة لبناء آلات ذكية لتسهيل حياتنا. بل هي أيضًا تقترح أن نعيد النظر فيما نعرفه عن عقلنا البشري، فقد يكون العامل الذي يجعل آلة ما ذكية، هو نفسه العامل الذي يخولنا أن نكون أذكياء. وبذلك تكون النظرية الحاسوبية ليست مجرد أداة هندسية، بل هي وسيلة لفهم طريقة عمل الدماغ. من هنا، نشأت «النظرية الحاسوبية للعقل –Computational Theory of mind ».

في عام 1943، اقترح العالمان الأميركيان «وارين ماك كولوتش – Warren McCulloch» و«والتر بيتس- Walter Pitts» أن نموذج آلة تورينغ قد يكون نموذجًا جيدًا لوصف الدماغ.

وفي الستينيات، أصبحت هذه النظرية مركزية في العلوم الناشئة في مجال العلوم المعرفية. وفي العام 1967، طرح الفيلسوف الأميركي «هيلاري بوتنام – Hilary Putnam» النظرية الحاسوبية بشكلها الحديث.

في السبعينات، اعتبر عالم الأعصاب البريطاني «ديفيد مار – David Marr» أن النظرية الحاسوبية للعقل تفسر وتجيب عن ثلاثة أسئلة أساسية متعلّقة بالعقل. الأسئلة هي: “ما هي المهمة التي ينجزها العقل؟ لماذا ينجزها؟ وكيف؟”.

علاقة النظرية الحاسوبية للعقل بمعضلة الوعي

تعتبر النظرية الحاسوبية للعقل أن طريقة عمل شبكات الخلايا العصبية كآلة تورينغ ليست مسؤولة فقط عن القدرات المعرفية للدماغ، بل أيضًا عن تجربة الوعي التي نختبرها كبشر، وقد تكون هذه النظرية عبارة عن إجابة لمشكلة الوعي الصعبة في الفلسفة.

يجدر الإشارة إلى أن النظرية الحاسوبية للعقل تلتبس أحيانًا بالتشبيه المجازي الذي يعتبر أن الدماغ يشبه الحاسوب الحديث. وهذا فعليًا لا يعكس حقيقة النظرية. فالتشبيه بالحاسوب يوحي بأن الدماغ مبرمج تمامًا كالحاسوب. بينما النظرية تعتبر أن الدماغ يستخدم قواعد مشتركة مع الحاسوب، وبالتالي هو بنفسه نظامًا حاسوبيًا.

ختامًا، إن الدماغ البشري هو أكثر العناصر تعقيدًا في الكون. وبالتالي، فمن الطبيعي أن تتعدّد النظريات المُفسّرة لطريقة عمله. وقد تكون النظرية الحاسوبية من أكثر هذه النظريات انتشارًا اليوم، ولكن يبقى السؤال، ما الذي يجعلنا، ككائنات ذكية، مختلفين عن الآلات؟ وهل النظرية الحاسوبية كافية لتفسير كل مكونات الدماغ من أفكار ومشاعر واعية وغير واعية؟

المصادر:

Coursera
Stanford encyclopedia of philosophy

كيف تنظر الفلسفة إلى مفهوم الوعي؟

هذه المقالة هي الجزء 2 من 10 في سلسلة 9 موضوعات في علم النفس التطوري

تُعتبر إشكالية الوعي من أعقد الإشكاليات العلمية. رغم أننا كبشر نختبر الوعي ونعرفه بطبيعتنا، إلا أن تفسيراتنا الفلسفية والعلمية في مجال الوعي ما زالت مبتدئة. ففي حين اعتبر الفيلسوف الفرنسي ديكارت أن الوعي حقيقة بديهية وصافية ندركها بالعقل، إلا أن مفهوم الوعي ما زال غامضًا وما زلنا بعيدين عن فهم تفسير مفهوم الوعي وأسبابه العلمية. فما هو تعريف الوعي؟ وكيف تناول الفلاسفة هذا المفهوم المعقّد ؟ وما طبيعة العلاقة التي تجمع الوعي والفلسفة؟

مفهوم الوعي وتعاريفه المختلفة

نستخدم كلمة “وعي” ومشتقاتها في حياتنا اليومية لنعبّر عن مفاهيم مختلفة (فنقول مثلًا فقد فلان وعيه أو لم أكن واعيًا،…). لذلك يسمّي الفلاسفة الوعي بـ«المفهوم الشعبي – Folk concept»، أي أنه متجذّر في اهتماماتنا اليومية ونابع منها.

ولكن الملفت أيضًا هو أن استخدام كلمة الوعي لا يرد في سياق واحد، أي أنها تحمل معانٍ مختلفة.

المعنى الأول للوعي هو «الإحساس –Sentience  »، أي الإدراك الحسّي والقدرة على التفاعل مع المحيط.  ويُستخدم مفهوم الوعي أيضًا بمعنى «اليقظة – Wakefulness»، فنعتبر أن الكائن واعي بمجرّد أنه غير نائم أو مخدّر، ويكون الوعي بهذا المعنى حالة من حالات الحياة العقلية التي نحظى بها.

أما المعنى الثالث للوعي هو ما يسمّيه الفيلسوف الأميركي «نيد بلوك – Ned Block» بـ«الوعي الوصولي –Access consciousness » وهو ببساطة الأفكار التي تدور في رأسنا في لحظة معينة، وتتفاعل مع بعضها وتؤثر بشكل مباشر على سلوكنا. وقد اعتقد الكثيرون قبل القرن العشرين أن كل أفكارنا متاحة لوعينا، غير أن المدرسة التحليلية في علم النفس التي تأسّست على يد فرويد بيّنت أن الأفكار والسلوكيات الواعية ليست إلا جزءًا صغيرًا من حياتنا العقلية والنفسية، وهي تخبئ الكثير من الأفكار والعواطف اللاواعية والتي تؤثر بشكل لاواعٍ على تصرفاتنا.

وأخيرًا، المعنى الرابع للوعي هو ما يسمّى بـ«الوعي الهائل أو الخبرة الذاتية – Phenomenal consciousness (Qualia)»، وهي حالة الوعي الشاملة التي لا تقتصر على كل المعارف والمعلومات والإدراكات الحسية والذكريات والرغبات والمخططات الموجودة في العقل، بل تشمل أيضًا التجربة الذاتية والمشاعر الشخصية التي يعيشها كلٌّ منا في معظم أوقاتنا. فمن الممكن أن تميز آلة معينة بين أطعمة ذات مذاقات مختلفة أو أي إدراكات حسية مختلفة. ورغم أن هذه الآلة تملك قدرات معرفية لكنها لا تعيش ما تعيشه أنت، ككائن واعٍ، من تجربة شخصية عند تذوق كل من الأطعمة، وبالتالي لا تملك الوعي.  

كيف تناول الفلاسفة مفهوم الوعي عبر التاريخ؟

يُقال أن تساؤلاتنا كبشر حول الوعي والعقل بدأت منذ زمن بعيد. فكان لحضارات العصر الحجري الحديث و ما بعدها ممارسات عقائدية وروحية تبين حدًا أدنى من التفكير والتساؤل حول مفهوم الوعي.

غير أن آخرين يعتبرون أن مفهوم الوعي كما نعرفه حاليًا يُعد حديث نسبيًا، أي أنه لم يبدأ قبل العصر الهوميري (أي تقريبًا في العام 750 قبل الميلاد). حتى أن اللغة الإغريقية القديمة لم تكن تحتوي على كلمة مرادفة للوعي، رغم اهتمام الإغريق بالكثير من الإشكاليات العقلية.

قفزة الوعي في منتصف القرن السابع عشر

ابتداءً من منتصف القرن السابع عشر، بدأ الحديث عن الوعي بشكل كبير، وتم اعتباره موضوعًا مركزيًا في أي حديث عن العقل، حتى أن ديكارت عرّف “الفكرة” نفسها على أنها الوعي بحدوثها. وفي نهاية القرن السابع عشر، لاقاه الفيلسوف البريطاني «جون لوك – John Locke» في أفكار مشابهة عن الوعي، بحيث اعتبر أنه أساسي ليس فقط للفكرة، بل أيضًا للهوية الذاتية.

ثم أتى عالم المنطق والرياضيات والفلسفة الألماني «ليبنيز – Leibniz» ليقدم نظرية عقلية، اعتبر فيها أن الوعي مُجزأ إلى درجات لا متناهية، حتى أنه طرح احتمالية أن تكون بعض الأفكار لا واعية. كما كان من أوائل الذين ميّزوا بين «الإدراك – Perception » و«الإدراك بالترابط – Apperception» وبين الوعي والوعي الذاتي.

وبقيت «المدرسة الترابطية –Associanism  »التي بدأت مع لوك  مسيطرة على كل النظريات المتعلقة بالفكر والوعي لمدة قرنين، وهي تؤمن أن كل العمليات العقلية مترابطة ، وأن كل معرفة تبدأ عن طريق الحواس. وقد تبع هذه المدرسة الفيلسوف الاسكتلندي «ديفيد هيوم – David Hume» في القرن الثامن عشر وبعده الفيلسوف الاسكتلندي «جيمز ميل- James Mill» في القرن التاسع عشر، فاكتشفا مبادئ ترابط الأفكار وتفاعلها.

في المقابل، انتقد الفيلسوف الفرنسي ايمانويل كانت المدرسة الترابطية، بحيث اعتبر أن الوعي الهائل لا يمكن أن ينتج فقط عن ترابط الأفكار، بل هو يستلزم بنية عقلية غنية ومنظمة.

في كل هذه الفترة، كانت العلاقة بين الوعي والدماغ البشري غامضة جدًا بالنسبة للباحثين.

بدأت تتكشف هذه العلاقة في القرن العشرين مع بداية المدرسة السلوكية في علم النفس، ومن بعدها بشكل أكبر مع صعود علم النفس المعرفي الذي وضع أسسًا علمية لكيفية عمل الدماغ ومعالجة المعلومات والعمليات العقلية.

ولكننا حتى الآن، لم نتوصّل بعد إلى إيجاد الإجابات حول الكثير من الأسئلة حول الوعي. مثل ما الذي يجعلنا بالتحديد كائنات واعية، وإمكانيات وجود الوعي عند كائنات أخرى غير بشرية. والأهم أن العلاقة بين الفلسفة والعلوم المعرفية ما زالت تحمل حلقات ناقصة، لذلك تحدّث الفلاسفة عن وجود «مشكلة الوعي الصعبة – The hard problem of consciousness».

مشكلة الوعي الصعبة

مشكلة الوعي الصعبة تكمن في تفسير وجود الوعي الذاتي (الخبرة الذاتية أو الكواليا). وهنا السؤال الأساسي: ما الذي يجعل منا، ككائنات جسدية ومادية، كائنات واعية؟

إذا أردنا تشريح هذه المشكلة يمكن النظر إلى الوعي الذاتي من زاويتين مختلفتين.

من الزاوية الأولى، نحن نعرف أننا نملك الوعي، بكل بساطة لأننا نختبره. من خلال هذه النظرة الذاتية، يمكن وصف تجاربنا الشخصية المختلفة مع كل المشاعر الواعية التي تصحبها.

في المقابل، إذا نظرنا إلى الوعي الذاتي من منظور خارجي، يصعب تحديد الوعي وتعريفه. فلننظر مثلًا إلى الدماغ كعضو مادي، نعرف أنه عضوًا فائق التعقيد مع أكثر من مئة مليار خلية عصبية متصلة ومتشابكة. كما نعرف أنه قادر على تخزين المعلومات والتمييز بين المحفزات الحسية والتخطيط والسيطرة على سلوكياتنا. لكننا لا نملك أدنى فكرة كيف يمكن لهذا النشاط الدماغي أن يصنع الوعي الذاتي.

هل يستطيع العلم حل معضلة الوعي؟

يعتبر عدد من الفلاسفة أمثال «فرانك جاكسون – Frank Jackson» و«ديفيد تشالمرز – David Chalmers»  أن العلم لن يستطيع حل مشكلة الوعي الصعبة، ولن يستطيع اختصار الوعي بتفسيرات العلوم المعرفية والنشاط العقلي. ويعطي فرانك جاكسون هذا المثال كدليل على ذلك. تخيّل أن “ماري” هي عالمة أعصاب عبقرية، لكنها وُلدت في غرفة خالية من الألوان، وكل ما من حولها بالأبيض والأسود. استطاعت ماري من داخل غرفتها تعلم كل المعلومات عن نشاط الدماغ، بما فيها قدرة الدماغ على تمييز الألوان. تخيّل أن ماري خرجت في يوم من الأيام إلى العالم الملوّن. في هذا اليوم، رغم معرفة ماري السابقة عن كل المعلومات المتعلقة بالألوان ومعالجتها، فهي اكتسبت خبرة جديدة لمجرد رؤيتها للألوان. وبالتالي، فإن فهم النشاط الذهني غير كافي لتفسير الوعي.

ختامًا، تبقى إشكالية الوعي عصية حتى الآن على التفسير العلمي والفلسفي. لكن استطاع العلم قبل ذلك أن يشرح الضوء بخصائص فيزيائية رغم اعتقاده عصيًا على هذا الشرح. فهل سيتوصّل العلم إلى تفسير الوعي خصوصًا مع صعود العلوم العصبية في عصرنا؟

المصادر
Coursera
Stanford Encyclopedia of Philosophy

إقرأ أيضًا: قضية موت الفلسفة ومساءلة العلم

علم النفس التطوري: عقل العصر الحجري في جماجمنا الحديثة

هذه المقالة هي الجزء 1 من 10 في سلسلة 9 موضوعات في علم النفس التطوري

حاول العلماء والباحثون والفلاسفة عبر الزمن البحث عن أسباب أفكارنا و مشاعرنا وأصول سلوكياتنا وتصرفاتنا. وتعدّدت المدارس والفروع العلمية والنظريات، إلا أن أحدثها بدأ يتعمّق في دور الجينات في تحديد حاجاتنا ورغباتنا. من هنا، بدأ الحديث عن علم النفس التطوري الذي يدرس تأثير التطور ودوره في تشكيل عقلنا البشري الحالي. فما هو علم النفس التطوري؟ وماذا يخبرنا عن دماغنا؟

الصراع الفلسفي القديم

منذ أيام أفلاطون، وُجد صراع قديم في الفلسفة حول ما إذا أننا نملك معرفة غير  مُكتسبة أم أن معارفنا تأتي حصرًا من اختبارنا للعالم. فقد اعتبر الفيلسوف «جون لوك-John Locke» أن أدمغتنا تولد معنا كصفحة بيضاء، وأن كل ما نعرفه اكتسبناه عن طريق التجربة. في المقابل، عارضه الفيلسوف «جوتفريد ليبنيز – Gottfried Leibnez» الذي اعتبر أن بعضًا من معرفتنا وُلد معنا ويُعتبر جزءًا من بنيتنا. أما اليوم، فبتنا نعلم أن رغم أننا نكتسب الكثير من خلال تجاربنا الحسية والتنشئة الاجتماعية، فإننا نولد مع خصائص معينة اكتسباها عبر الوراثة. من هنا، نشأ علم النفس التطوري الذي يدرس تطور العقل البشري كما نعرفه اليوم من خلال الانتقاء الطبيعي.

الانتقاء الطبيعي وتطور العقل البشري

من أهم عناصر تطوّر الكائنات الحية هي عملية الانتقاء الطبيعي التي تسمح بالبقاء للكائنات التي تملك الخصائص الأكثر تكيفًا مع محيطها، وتنقلها هذه الكائنات إلى الأجيال اللاحقة.

لذلك، تتميّز الكائنات بما يسمى بالـ “تكييفات – Adaptations” وهي عبارة عن خصائص جسدية أو سلوكية موروثة، ومفيدة لناحية التناسل أو البقاء على قيد الحياة. وكما تتأثر الكائنات بالبيئة المحيطة بها، فهي بالمقابل تساهم أيضًا بنفسها في تغيير الظروف البيئية التي تتعرض لها وتتكيف لأجلها.

علم النفس التطوري

ما زال السؤال الفلسفي نفسه يُطرح اليوم في العلوم المعرفية: إلى أي مدى يتأثر الدماغ بالخصائص الموروثة عبر الانتقاء الطبيعي؟ وإلى أي مدى يتأثر بالتنشئة الاجتماعية؟

يمكن تعريف علم نفس التطور أنه فرع من علم النفس يدرس السلوكيات والأفكار والمشاعر من وجهة نظر تطورية. وهو علم حديث، نشأ في نهاية الثمانينيات، وقد أتى كنتيجة للعديد من المجالات العلمية الأخرى من الإيثولوجيا (علم سلوك الحيوان) وعلم النفس المعرفي وعلوم الأحياء التطورية والأنثروبولوجيا (علم الأنسنة) وعلم النفس الاجتماعي.

علم نفس التطور قائم على أربعة اعتبارات أساسية هي التالية

– يعتبر علم النفس التطوري أن الدماغ البشري هو نتيجة لعملية الانتقاء الطبيعي.
– تكيف دماغنا ليتأقلم مع المحيط الذي عاش فيه أسلافنا، وليحل المشاكل التي واجهوها.
– القدرات الذهنية التي طوّرها أسلافنا لمجابهة مشاكلهم والبقاء على قيد الحياة في محيطهم هي قدرات قابلة للوراثة، أي أنها تنتقل جينيًا من جيل إلى آخر.
– أدمغتنا البشرية كما نعرفها الآن هي أدمغة أجدادنا التي راكمت التطور على مدى كل العصور التي سبقتنا.

عقل العصر الحجري

يُعتبر الزوجان، «ليدا كوسميدس-Leda Cosmides» عالمة النفس الأميركية وعالم الأنثروبولوجيا الأميركي «جون توبي-John Tooby»، مؤسّسا علم النفس التطوري. وانتشرت لهما عبارة شهيرة تقول:

«جماجمنا العصرية تأوي عقل العصر الحجري – Our modern skulls house a Stone Age mind».

فبحسب علماء النفس التطوري، إن معظم تاريخ جنسنا البشري قضيناه كمجموعات عشائرية صغيرة في السافانا الأفريقية، في ظروف بيئية حارة جدًا. وذلك منذ حوالى مليون و 800 ألف سنة حتى 10 آلاف سنة قبل الآن، وكانوا معتمدين على الصيد بشكل أساسي. لذلك يعتبر العلماء أن هذه الفترة هي المسؤولة عن القسم الأكبر من تطور الدماغ البشري، وسمّوا تلك البيئة بـ «بيئة التكيف التطوري – Environment of evolutionary adaptation».

لم تبدأ الزراعة حتى قبل خمسة آلاف سنة، أما الثورة الصناعية فهي حدثت منذ مئتي عام فقط. هذه الفترة لا تتعدى الواحد بالمئة من إجمالي التاريخ البشري، لذلك فإن التكييفات التي اكتسبناها ناتجة عن الفترة التي سبقتها.

ولكن إلى أي مدى تتناسب التكييفات التي حافظت على حياتنا في العصر الحجري أساليب حياتنا اليوم؟ لا شك أننا نمتن بالكثير للانتقاء الطبيعي الذي جعل أدمغتنا بأشكالها الحالية. إلا أن بعض التكييفات التي ورثناها أصبحت غير مفيدة، أو حتى مضرة أحيانًا للجنس البشري وتسمّى بالـ«Mal adaptations». نذكر مثلًا أن الرغبة في تناول كميات كبيرة من الملح والسكر كانت حاجة أساسية في ذلك العصر لتأمين الحاجة من الطاقة الأساسية للعيش. أما تناول هذه الكمية في أيامنا هذه، مع انتشار الأطعمة المالحة والحلوة وتوفرها الدائم، أصبح يشكل خطرًا على صحة الإنسان الذي يعيش في البيئة الحضارية.

يعطي عالم النفس الكندي «ستيفن بينكر – Stephen Pinker» مثالًا آخرًا على هذا النوع من التكيفات “Mal adaptations”. وهو الخوف الغريزي والحشوي  من الأفاعي والعناكب. رغم أنها لم تعد قاتلة وخطيرة على حياة الإنسان، ولا تقتل العدد الذي تقتله القيادة دون حزام أمان سنويًا، إلا أن ردة فعلنا الغريزية ناتجة عن الخطر الذي كانت تمثله هذه الكائنات على حياة البشر في العصر الحجري.

إذًا باختصار، أدمغتنا تشبه أدمغة أسلافنا الذين عاشوا في العصر الحجري أكثر بكثير مما نتوقع. هذه نبذة صغيرة عمّا توصّل إليه علم النفس التطوري، لكنه ما زال في خطواته الأولى في البحث عن أصولنا الفكرية والعقلية والسلوكية.

المصادر
Britannica
Coursera : Philosophy and the sciences, The University of Edinburgh

القتل المتسلسل

يستمتع الكثيرون منّا بكتب وأفلام القتل المتسلسل المليئة بالرعب والإثارة، ولرُبّما أول ما يتبادر إلى أذهاننا عند الحديث عن القاتل المتسلسل صورة رجل أبيض في العشرين أو الثلاثين من عمره، ذو كاريزما عالية وذكاء حاذق وحياة غامضة. ولكن إلى أي مدى يتطابق الواقع مع  قصص الروايات والأفلام؟ وكيف يفسّر العلم ظاهرة القتل المتسلسل؟

تعريف:

تتعدّد تعريفات «القتل المتسلسل-Serial murder» وتختلف بحسب جنس القاتل وعدد ضحاياه والأسباب الدافعة لتنفيذ الجرائم. لكن التعريف السائد للقاتل المتسلسل هو كل قاتل ينفذ جرائم قتل في أمكنة وأزمنة متعددة، وله على الأقل ثلاث أو أربع ضحايا. وتكون فترة «برودة-Cooling off» بين الجريمة والأخرى، تمتد من ساعات إلى سنوات عدة، وتكون هذه الفترة خالية من الجريمة.  ويتميز هذا النوع من الجرائم عادةً بأنماط محددة (مشتركة بين الجرائم المتسلسلة) من حيث اختيار الضحايا أو أساليب القتل.

تجدر الإشارة إلى أن القتل المتسلسل يختلف عن القتل الجماعي الذي يستهدف مجموعة ضحايا في مكان وزمان واحد.

تاريخ جرائم القتل المتسلسل:

رغم أن استخدام مفهوم “القتل المتسلسل” وانتشاره يعود إلى سبعينيات القرن الماضي، إلا أن التاريخ مليء بهذا النوع من الجرائم.

ولعلّ أول جريمة قتل متسلسلة مُوثّقة هي جريمة المرأة «لوكوستا-Locusta» التي وُظفت من قِبل الامبراطورة الرومانية «أغريبينا الصغرى-Agrippina the Younger» للتسميم لعدد من أعضاء العائلة الحاكمة، وقد أًعدمت لوكوستا في العام 69 بعد الميلاد.

من القاتلين المتسلسلين المشهورين عبر التاريخ أيضًا الرجل النبيل الفرنسي «جيل دو ري-Gilles De Rais» الذي ارتبط اسمه بقتل أكثر من مئة طفل، وقد أُعدم في القرن الخامس عشر.

في القرن التاسع عشر، زاد الحديث عن جرائم القتل المتسلسل وارتفعت نسبتها، ولكن العديد من الباحثين ينسبون هذا الارتفاع إلى تقدم تقنيات كشف الجرائم وتغطيتها الإعلامية.

أما في القرن العشرين، فقد تحولت جرائم القتل المتسلسل إلى قضايا رأي عام، وقد أثارت الدهشة والرعب في نفوس الجماهير. ونذكر هنا بعض الجرائم المرعبة التي حفرت في ذاكرة الكثيرين، منها جرائم الطبيب البريطاني «هارولد شيبمان-Harold Shipman» الذي قتل 215 شخصًا على الأقل بين عامي 1975 و1998، والقاتل محمد عمر آدم الذي اعترف في عام 2000 بمسؤوليته عن قتل 16 طالبة طب في اليمن و11 نساء أخريات في السودان.

ومع انتشار قصص جرائم القتل المتسلسل وإثارتها للجدل الواسع، شكّلت مصدر إلهام للكثير من الروائيين والكتّاب، فصدرت الكثير من أهم الروايات وأنجح الأفلام السينمائية التي تدور قصصها حول هذا النوع من الجرائم.

لذلك انتشرت صورة نمطية عن منفذي هذه الجرائم، قد لا تعكس دائمًا الواقع. كما أنها ساهمت في تضخيم تقدير نسبة هذه الجرائم، في حين أنها في الحقيقة لا تتعدى الـ2% من إجمالي عدد الجرائم.

كيف يفسر العلم جرائم القتل المتسلسل؟

لماذا يتصرف البشر بهذه الطريقة أو تلك؟ لماذا يكذبون أو يسرقون أو يقتلون؟ لطالما شكّلت هذه الأسئلة صلب أعمال الفلاسفة والعلماء والباحثين لمئات السنين. كذلك حاول هؤلاء تفسير ارتكاب جرائم وحشية مثل جرائم القتل المتسلسل.

تتعدّد النظريات التي تساهم في تفسير هذه الجرائم بين نظريات علم النفس وعلم الاجتماع وعلم الجريمة والإحصائيات وصولًا إلى الطب النفسي وعلوم الجينات.

يشكّل الرجال الأغلبية الساحقة من القتلى المتسلسلين، مما يقترح وجود أسباب جينية مسؤولة عن ارتفاع منسوب العنف عند الرجال، كما يمكن ربطه بالدور الاجتماعي المرتبط بالرجال.

كذلك يتم الربط بين جرائم القتل المتسلسل وأمراض نفسية معينة مثل اضطراب الشخصية النرجسية واضطراب الشخصية المعادية للمجتمع، بحيث يزيد هذا النوع من الاضطرابات النفسية احتمال القيام بجرائم، لكنه ليس ملازم لها بالضرورة.

ويُشير علماء النفس إلى أن التعرض للعنف أو الصدمات في الطفولة قد يكون عاملًا مؤثرًا في القيام بأعمال عنيفة أو جرمية وبالتالي المشاركة في جرائم القتل المتسلسل.

ولعلّ أكثر العوامل النفسية تأثيرًا هي وجود اضطرابات التعلق وقلق الهجر، فقد بينت دراسة أن أكثر من 70% من القتلة المتسلسلين عانوا من هذه الاضطرابات.

 في حين ركزت الكثير من الدراسات على الدراسة الشخصية والعوامل الفردية لدى القتلى المتسلسلين، طرح علماء الاجتماع وجهة أكثر شمولية في البحث عن عوامل اجتماعية مساهمة في بناء هؤلاء القتلة.

فقد اعتبر بعض الباحثين أن العدد الكبير من القتلة الرجال الذين يستهدفون النساء كضحايا لهم، ليس إلا وجهًا من وجوه العنف ضد المرأة وكراهية المرأة في المجتمعات الأبوية والذكورية.

 كذلك يرى البعض أن الحداثة والاقتصادات النيوليبرالية فرضت زيادة في الفردية وفي الفروقات الاجتماعية وأثرت على الحياة الجماعية، مما يعزّز احتماليات الجريمة.

إن الأكيد أن تفسير جرائم القتل بحاجة إلى تكامل هذه النظريات مع بعضها، فكل جريمة تختلف عن غيرها في أسبابها ودوافعها.

تبيّن جرائم قتل المتسلسل أن مجموعة من العوامل الفردية والاجتماعية كفيلة أن تحول الأشخاص إلى وحوش بشرية يقتلون دون رحمة، بل يشعرون باللذة والرضا عند ارتكابهم جرائم قتل بحق آخرين. فإلى أي مدى سيساعدنا العلم على تجنب هكذا جرائم؟

المصادر:

Britannica

ResearchGate

SAGE

Sciencedirect

تاريخ الأعلام ورمزيتها

عندما تنظر إلى عَلم معيّن، ستشعر ربما بالفخر أو الوطنية، أو على الأقل سيذكّرك ببلد أو ثقافة أو لغة أو أشخاص. فالعَلم ليس مجرد قطعة قماش مُحمّلة بالألوان والرموز، بل هو يمثل هويةً كاملةً. فمتى بدأ استخدام الأعلام عبر التاريخ؟ وما علاقة العَلَم بالسياسة والمجتمع؟ تعرّف في هذا المقال على تاريخ الأعلام ورمزيتها.

تعريف العَلم:

العلم (أو الراية) هو ببساطة قطعة من القماش تُستخدم كرمز أو شعار لدولة أو جماعة أو جمعية أو منظمة أو قوة عسكرية أو شركة أو حتى شخص.

 يكون غالبًا مُعلقًا من جهة واحدة، ويحمل شكلًا مستطيلًا، لكنه قد يأخذ أشكالًا أخرى كالمربع (مثل علم سويسرا) أو شكلًا متعرّجًا (متل أعلام النيبال وولاية أوهيو الأميركية).

في الأعلى علم ولاية أوهيو الأميركية (متعرّج الشكل)، في الأسفل علم سويسرا (مربع الشكل) على يمين الصورة وعلم النيبال (متعرج الشكل) على يسارها.

وبما أن الرايات كانت تُستخدم أساسًا في ساحات المعارك، كرموز لأطراف النزاع وكعلامة لتحديد أراضي “الحلفاء والأعداء”، كان من المهم أن تكون مصنوعة من مادة خفيفة تسمح لها بالرفرفة، وأن تحمل الرمز نفسه من الجهتين.

نشأة الأعلام: متى بدأ استخدامها؟

إن الاستخدام الأول المعروف للأعلام كان من قِبل الصينيين القدماء، تحديدًا في عصر سُلالة «زو – Zhou» الحاكمة والتي دامت فترة حكمها بين عامي 1046 و256 قبل الميلاد. وحملت أعلامهم رموزًا عدة (على سبيل المثال طائر أحمر، تنين أزرق، نمر أبيض،…). وكان العلم الملكي يحظى بنفس درجة الاحترام والتبجيل التي يحصل عليها شخص الملك نفسه، فممنوع المس به أو لمسه.

في الهند القديمة، استُخدمت الأعلام ذات الشكل المثلّث واللون الأحمر او الأخضر وحملت غالبًا رموزًا ذهبية. وعُلِّقت الأعلام على العربات والفيلة، كما أنها تميّزت بأهميتها في القتالات والحروب، بحيث أن سقوط العلم كان يعني الهزيمة.

ساهمت الفتوحات الإسلامية (العرب والأتراك) فيما بعد بنشر الأعلام في أوروبا. فقد ذُكرت الأعلام منذ تاريخ الإسلام الحديث، ومن المُرجّح أنهم نقلوها عن الهنود. ولكنهم ساهموا بتبسيطها بشكل كبير، فحملت معظمها لونًا واحدًا. وقد رمز اللون الأسود إلى النبي محمد، وقد استُخدم هذا اللون من قبل العباسيين. أما الأمويين فقد استخدموا اللون الأبيض، فيما استخدم الفاطميون اللون الأخضر الذي أصبح فيما بعد يرمز للإسلام. في العام 1250 بعد الميلاد، تبنّى العثمانيون رمز الهلال الذي كان مقدسًا عند الآشوريين (منذ القرن التاسع قبل الميلاد). منذ ذلك الحين، اعتُمد الهلال كشعار للمسلمين.

أما في أوروبا، فقد بدأ اعتماد الأعلام الوطنية في القرون الوسطى وفي عصر النهضة.

رمزية الأعلام:

رغم اعتماد الأعلام الوطنية حول العالم عددًا محدودًا من الألوان والرموز، إلا أن أنماطها تتنوع بشكل كبير بين الدول المختلفة. ولابدّ من الإشارة إلى أن اعتماد الألوان والرموز ليس عشوائيًا، بل هو يرتبط بالموقع الجغرافي للدولة وتاريخها وثقافتها وتكوينها الأيديولوجي والديني، وغيرها من العوامل. وبالتالي فإن العلم مُصمّم  ليبعث برسالة معينة، ويتم تصميمها غالبًا في فترات سياسية مصيرية ومهمة. فعلم إيرلندا مثلًا صُمم للتعبير عن الوحدة الوطنية الإيرلندية، فيمثل الخط الأخضر الكاثوليك ويمثل الخط البرتقالي البروتستانت، ويجمع بينها (في الوسط) خط أبيض يرمز للسلام والوحدة بين الفئتين.

لذلك نشأ علم حديث نسبيًا، في أواخر الخمسينيات من القرن الماضي، يُدعى بال«Vexillology – علم الأعلام»، وهو يُعنى بدراسة الأعلام ورموزها وتاريخها.

يقوم تحليل الأعلام على فك شيفرتها على المستويين الدلالي والنحوي. المستوى الدلالي يحلّل كل عنصر أو رمز بشكل معزول (مثلًا دلالة اللون الأحمر على الدم أو الغضب…)، أما المستوى النحوي فهو يعالج أنماط الرموز وعلاقتها ببعضها، إذ إن استخدام الألوان نفسها في شكل أو نمط أو ترتيب مختلف يغير رمزية العلم كليًا.

ماذا تكشف دراسة الأعلام؟

في دراسة مثيرة للجدل أجرتها جامعة «دونجا جوريكا – Donja Gorica»، تبيّن أن دراسة الأعلام لا تقتصر على تحليل الرموز في سياقها التاريخي والثقافي، بل هي أيضًا قادرة على توقع المستوى الاقتصادي والاجتماعي ومستوى التنمية البشرية لدولة معينة بحسب عَلَمها. بل أكثر من ذلك، تقول الدراسة أن تحليل الأعلام قادر على توقع معدل الذكاء في الدولة.

  من هنا، بيّنت الدراسة علاقة الأعلام بالسياسة وعلم الاجتماع.

رغم بساطتها، تحمل الرايات وزنًا ثقيلًا من السياسة والتاريخ والثقافة والجغرافيا. فإلامَ يرمز علم بلادك؟

المصادر:

Britannica

ResearchGate

Springer

كيف يفسّر العلم نظريات المؤامرة؟

مع انتشار فيروس الكوفيد 19 منذ حوالى السنة، ومع اكتشاف عدد من اللقاحات المضادة له في الأشهر الأخيرة، انتشرت بشكل كبير نظريات المؤامرة حول نشر الفيروس من قبل سلطات معينة تارةً وزرع شريحة من خلال اللقاح تارةً أخرى، وغيرها العديد من النظريات. ولكن نظريات المؤامرة ليست جديدة، فهي واكبت البشر في الكثير من الأحداث الضخمة سابقًا، لكن وسائل الإعلام والتواصل الحديثة تساهم في انتشارها أكثر من ذي قبل. فكيف يفسّر العلم نظريات المؤامرة؟ وما هي الأسباب النفسية والاجتماعية التي تدفع البعض إلى الإيمان بها؟

ما هي نظرية المؤامرة؟

يمكن تعريف نظرية المؤامرة بمحاولة لتفسير أحداث معينة على أنها مقصودة ومُنفذة من قبل أفراد أو مجموعات لغايات خبيثة أو مؤذية، والاقتناع بها بدلًا من الرواية الرسمية أو العلمية. بل في بعض الحالات، تُستخدم هذه الرواية لإثبات النظرية المزعومة.

وبحسب دراسة نُشرت عام 2018 في “SAGE journals”، تتضمن إجمالًا نظريات المؤامرة خمسة عناصر على الأقل. أولًا، تفسر هذه النظريات علاقات تشابك بين عناصر مختلفة من أشخاص أو مجموعات أحداث أو مواضيع، أي أنها تتضمن نمطًا معينًا (Pattern) لتفسير هذه العلاقات. ثانيًا، تعتبر نظريات المؤامرة (كما يعبّر اسمها) أن الحدث المُنفّذ هو حدث مقصود. ثالثًا، هي تشمل مجموعة أو ائتلافًا من المتورطين، أي أنها لا تنسب تنفيذ الفعل إلى فرد بل إلى مجموعة. رابعًا، تنطوي نظرية المؤامرة على عامل الأذى والتهديد. وخامسًا، تتضمن عامل السريّة، مما  يُصعِّب مهمة نفيها.   

كيف يفسر العلم انتشار نظريات المؤامرة؟

كتب المؤرخ الأميركي «هوفتاتشر – Hofsdadter» في العام 1966 عن بارانويا السياسة الأميركية في كتابه “The Paranoid Style in American Politics” عن ظاهرة نظريات المؤامرة، واعتبره مرتبطًا بشكل أساسي بالسياسة. كما قارنها بالحالة العيادية النفسية حيث يتوهّم المريض أن أحدًا يتربّص به ليأذيه. وقد أثّر هذا الكتاب على التفسيرات التي تبعته عن نظريات المؤامرة، فاعتبرها العديد من علماء النفس أنها نتيجة مباشرة للأمراض النفسية، كوهم الارتياب (Paranoia) والفصام والنرجسية. لكن هذا التفسير لا يكفي نظرًا لانتشار نظرات المؤامرة بين أعداد كبيرة من الناس، في مختلف الدول ومن مختلف الأعمار. لذلك فتش العلماء عن العديد من الأسباب النفسية والاجتماعية والسياسية لتفسير الانتشار الواسع لنظريات المؤامرة حول العالم.

ضعف التفكير النقدي والتحليلي:

تبين الدراسات أن نظريات المؤامرة تكون أكثر انتشارًا في صفوف الأفراد الأقل تعليمًا، وذلك بسبب ضعف التفكير النقدي (Critical thinking) الذي يشكل حماية من نظريات المؤامرة والأخبار الكاذبة. ولكن لا بد من الإشارة إلى أن المستوى الأكاديمي لا يشير بالضرورة إلى مستوى التفكير النقدي، لأنه مرتبط أيضًا بالنظام التعليمي ونوعيته.

التفتيش عن الشعور بالسيطرة:

أشار هوفتاتشر إلى أن نظريات المؤامرة تنتشر بشكل أكبر بين الفئات الأضعف. وقد أكّد بعده علماء النفس أنها تنتشر في الفترات الأقل استقرارًا أي في مواجهة الكوارث الطبيعية والأحداث الأمنية والأزمات المالية والأوبئة. فبحسب عالم الاجتماع «تيد غورتزيل – Ted Goertzel»، يلجأ الناس إلى نظرية المؤامرة عندما يفقدون أدوات مواجهة حدث معين، فتعوّض عندهم شعور العجز بشعور أكبر بالسيطرة. في المقابل، يعتبر عالم النفس الاجتماعي الهولندي جان-ويليام فان بروجين أن الشعور بالسيطرة يعزز الحماية من الإيمان بنظريات المؤامرة.

كما تُشير دراسات أخرى أن انتشار نظريات المؤامرة مرتبط بشكل وثيق بفقدان الأمن السياسي-الاجتماعي.

يفتش الأفراد في هذه الحالة عن شعور بالسيطرة، لكن الواقع أن ضحايا نظريات المؤامرة يصبحون أقل قدرة على الفعالية والمواجهة، فقد بينت البروفيسورة الأميركية في علم الاجتماع «كارن دوجلاس – Karen Douglas» أن الأشخاص الذين يميلون إلى تصديق نظريات المؤامرة يكونون أقل مشاركةً في العمليات السياسية (كالانتخابات مثلًا) والانتظام في مجموعات، لأنهم يكونون أقل إيمانًا بالقدرة على التأثير والتغيير.

الدوافع الاجتماعية:

قد تكون الدوافع الاجتماعية جزءاً أساسيًا من اللجوء إلى نظريات المؤامرة، التي غالبًا ما تكون أكثر تفشيًا عند المجموعات المغلوبة أو الضعيفة (مثلًا عند مؤيدي الحزب الخاسر في انتخابات معينة) وعند المجموعات التي تعاني من النبذ أو التمييز لأسباب عنصرية أو إثنية أو طبقية. فيكون الإيمان بنظريات المؤامرة في هذه الحالة يشكل تعويضًا نفسيًا جماعيًا عند الفئة الضعيفة، وهروبًا من الشعور بالذنب الجماعي (بسبب الوضعية الضعيفة للجماعة).

كما أن الدراسات النفسية الاجتماعية تربط بين نظريات المؤامرة والنرجسية الجماعية وهي الشعور بالفخر بالانتماء لجماعة معينة، والشعور بأن هذه الجماعة غير مُقدّرة بشكل كافي من قِبل جماعات أخرى.

الأسباب التطورية:

قدّم علم نفس التطور تفسيرات متعددة لنظريات المؤامرة، واعتبرها نتيجة ثانوية لسمات تكييفية اكتسبها البشر خلال تطورهم، سنذكرها فيما يلي.

السمة الأولى هي القدرة على تمييز الأنماط (Pattern perception)، فنحن البشر نعتمد الأنماط، أي الربط بين عناصر مختلفة، كوسيلة لتعلم وفهم كل ما حولنا. وقد ورثنا هذه القدرة من أسلافنا، الذين تمكنوا من اكتساب الأنماط، وربط الأسباب بالنتائج، من أجل إدراك المخاطر وتجنبها.

لكن هذه السمة، على الرغم من أهميتها، قد توقعنا بالخطأ، وقد تدفعنا إلى خلق روابط وهمية بين عناصر غير مترابطة بالضرورة. فنميل مثلًا إلى نسب مشاعر بشرية للحيوانات أو الآلات أو غيرها، أو نميل إلى خلق أسباب تآمرية لنتائج معينة.

السمة الثانية هي كشف النية (Agency detection)، وهي القدرة التكيفية التي تجعلنا قادرين على فهم نية الأعمال، سواءً كانت جيدة أو سيئة. وتعد هذه السمة مهمة جدًا للبشر إذ مكنتهم من التعاطف والتعاون وتجنب المخاطر. ولكن المبالغة بنظام كشف النوايا قد يجعلنا مشككين بقوة، مما يخلق المجال لنظريات المؤامرة.

أما السمة التطورية الثالثة المسؤولة عن نظريات المؤامرة فهي إدراك ومعالجة الخطر والتهديد (Threat management). فقد عاش أسلافنا في محيط محفوف بالمخاطر، مما سمح بتطوير نظام عقلي يسمح بتوقعها وبالتالي تجنبها. وقد يكون خلق أو تبني نظرية المؤامرة نتيجة لنظام كشف التهديد، مما يخلق شعورًا بالأمان عند البشر.

ختامًا، مازالت الدراسات غير وافية لشرح وتفكيك نظريات المؤامرة، نظرًا لحجم انتشارها في العالم. كما أننا بحاجة ملحة لدراسات حول نتائجها على ضحاياها. ولكن الأكيد أن مواجهة نظريات المؤامرة ممكن من خلال إعلاء صوت العلم والحقيقة على أي صوت آخر.

المصادر:

PubMed

SAGE Journals

Britannica.com

The British psychological society

العِرق والعنصرية في علم الاجتماع

هذه المقالة هي الجزء 8 من 9 في سلسلة مقدمة في علم الاجتماع

مع دخولنا السنة الواحدة والعشرين من الألفية الثالثة، ما زالت الممارسات العنصرية متواجدة بقوة، ولو بنسب متفاوتة، في جميع المجتمعات. رغم النبذ الظاهر للأيدولوجيات العنصرية التي سادت في القرون الماضية، لكنها باقية. ما زال لون بشرتك يؤثر على فرصك في التعليم والعمل والصحة والاقتصاد والسياسة، حتى في أكثر الدول تقدمًا. وقد أثارت حركة «Black lives matter» قضية العنصرية مؤخرًا في الولايات المتحدة الأميركية والعالم. بيّنت الحركة أن ما يحدث ليس مجرد ممارسات فردية، بل هي جزء من أنظمة اجتماعية كاملة قائمة على التمييز. فكيف يعرّف علم الاجتماع العِرق والعنصرية؟ وكيف يفسّر هذا العلم العنصرية في العالم الحديث؟

تعريف العِرق والإثنية (أو الأصل الإثني)

 بحسب علم الاجتماع، يُعتبر مفهوم «العِرق- Race» بناء اجتماعي يقوم على تصنيف الجنس البشري إلى  فئات مختلفة، على أساس الخصائص الجسدية (كلون البشرة وشكل العيون) والثقافية. ويُعد هذا المفهوم حديثًا نسبيًا، أي أنه بدأ مع اكتشاف القارة الأميركية والسيطرة عليها من قبل الأوروبيين. عرف الأوروبيين عن أنفسهم أنهم “بيض”، وتكرر الأمر مع فترة الاستعمار الأوروبي للدول الأفريقية، أي في القرن السابع عشر. ومن هنا، تم تصنيف البشر إلى العرق الأبيض والأسود والأصفر.

أما «الانتماء الإثني- Ethnicity» فهو، بحسب معظم علماء الاجتماع، مختلف عن العِرق. الانتماء الإثني يشمل الأصول المشتركة والتاريخ والممارسات الثقافية، وبالتالي هو مفهوم أكثر مرونة ويتخذ طابعًا ذاتيًا إجمالًا. وتتقاطع الإثنية مع الجنسية أحيانًا ولكنهما غير متطابقتين. فمن الممكن أن يكون شخصان من جنسية مشتركة (أميركية مثلًا) ومن أصول إثنية مختلفة (عربية أو لاتينية أو أفريقية).

العِرق والإثنية هما مفهومان اجتماعيان، أي أنهما لا ينتجان عن فروقات حقيقية بيولوجية، بل عن فروقات بناها المجتمع ثقافيًا على مر الزمن.

تعريف العنصرية

يعرّف علم الاجتماع العنصرية بعنصرين أساسيين. العنصر الأول هو الأيديولوجية العنصرية التي تؤمن بفوقية عِرقٍ على آخر، بيولوجيًا أو ثقافيًا أو أخلاقيًا. أما العنصر الثاني فهو الممارسات (الفردية والاجتماعية) التي تقوم على التمييز بين الأعراق المختلفة.

نبذة تاريخية عن مفهوم العِرق: الوهم الذي ما زال يسيطر على العالم

انتشرت في القرنين السابع عشر والثامن عشر نظريات علمية زائفة (Pseudoscience)  كنوع من التبرير للاستعمار الأوروبي للدول الأفريقية، الذي رافقه الكثير من الظلم والقتل والاستغلال، والذي كان حافلًا بالإبادات الجماعية وأنظمة العبودية والإتجار بالبشر.

نذكر مثلًا نظرية عالم النبات السويدي «كارولوس لينايوس- Carolus Linnaeus»، الذي صنف البشر، في سنة 1735، إلى أربعة “أعراق”:

– العِرق الأميركي ذو اللون الأحمر، وقد وصفه بأنه عنيد وانفعالي، ومحكوم بعاداته وتقاليده.
– العِرق الآسيوي “الشاحب مع شعر أسود”، وقد وصفه أنه متكبّر ومحكوم بالآراء.
– العرق الأفريقي “الأسود”، و اعتبره كسولًا ومهملًا وماكرًا، ومحكوم بشهواته.
– العِرق الأوروبي “الأبيض” واعتبره عِرقًا متفائلًا و مُبتكرًا، وهو محكوم بالقوانين.

كذلك انتشرت، بين أواخر القرن التاسع عشر والقرن العشرين، نظرية «الداروينية الاجتماعية – Social Darwinism» التي طبقت مبادئ نظرية الانتقاء الطبيعي التي طرحها داروين لتفسير العلاقة بين الأنواع، على البشر. ويعتبر عرّابو هذه النظرية، أمثال البريطاني «هربرت سبنسر- Herbert Spencer» والأميركي «ويليام غراهام سامنر- William Graham Sumner» أن المجتمعات تتطور من خلال الانتقاء الطبيعي. كما اعتبر العرابون أن “البقاء للعرق الأصلح”. وقد خدمت هذه التفسيرات للنظرية الرأسمالية والتيار السياسي المُحافظ، وسياسات الاستعمار.

وعلى الرغم من عنصرية هذه الأفكار وعدم ثباتها، انتشرت في كل العالم وزرعت بذور التمييز والتفرقة التي ما زلنا نحصدها حتى اليوم.

كيف قارب علم الاجتماع مفاهيم العرق والعنصرية؟

يمكن الحديث عن مرحلتين مختلفتين من المقاربة السوسيولوجية لمفهوم العنصرية.

المرحلة الأولى تمتد بين أواخر القرن التاسع عشر ومنتصف القرن العشرين. وقد كان علم الاجتماع في تلك الفترة يعتبر أن العنصرية تقتصر على الممارسات الفردية. كما تأثر علماء الاجتماع في الفترة نفسها بالداروينية الاجتماعية، فبدل أن يدرسوا العنصرية كمشكلة اجتماعية، استخدموا الافتراضات العنصرية نفسها لتبريرها.

من الاستثناءات القليلة لهذه المرحلة هي نظرية عالم الاجتماع الأميركي «دو بوا – W.E.B. du Bois». كان دو بوا أول أميركي من أصول أفريقية يحصّل درجة الدكتوراه في جامعة هارفرد. كان دو بوا ناشطًا حقوقيًا في محاربة العنصرية. وقد كان من أوائل علماء الاجتماع الذين درسوا الجذور السياسية والاقتصادية للعنصرية. كما طرح “دو بوا” في كتابه الشهير «The Souls of Black Folk» (عام 1903) نظرية الوعي المزدوج، التي تفترض أن الفرد المنتمي إلى جماعة مظلومة يعيش صراعًا داخليًا بين نظرته إلى نفسه ونظرة الجماعة الظالمة إليه، التي غالبًا ما تكون نظرة من الاحتقار والدونية.

أما المرحلة الثانية، فهي تمتد بين منتصف القرن العشرين حتى يومنا هذا. تناول علم الاجتماع فيها موضوع العنصرية بنظرة اجتماعية شاملة.

بدأت هذه المرحلة مع انتهاء الحرب العالمية الثانية، التي بلغت فيها العنصرية أعلى مستوياتها، ودفعت البشرية ثمن هذه العنصرية غاليًا.

تفسيرات العلماء للعنصرية تجاه المغتربين

حاول بعض العلماء تفسير العنصرية تجاه المغتربين أو اللاجئين بالاختلافات بينهم وبين الآخرين. واعتبروا أن العنصرية تختفي وحدها عندما “ينصهر” هؤلاء مع مجتمعهم الجديد. لكن هذه النظرية لم تكن كافية بالنسبة إلى علماء الاجتماع.

في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، ترافقت حركة الحقوق المدنية مع ازدياد الهجرة وسقوط الاستعمارات. مما أدى إلى نبذ العنصرية و انخفاض السلوكيات العنصرية العلنية. لكن هذا كله لم يكن كافيًا لإنهاء التمييز العنصري، بل استُبدلت العنصرية العلنية القديمة بأنواع أخرى من التمييز. شملت أنواع التمييز الأخرى توزيع الثروة والعمل والسكن والتعليم والأحكام القضائية وغيرها. ومن هنا، وُلدت نظريات اجتماعية جديدة ومعاصرة لتفسير العنصرية.

نظرية التكوين العرقي

طرح العالمان الأميركيان «أومي و وينانت – Omi and Winant» نظرية التكوين العرقي. تربط نظرية التكوين العرقي الإطار العرقي بالأحداث التاريخية الاقتصادية والسياسية، وهو بناء اجتماعي-ثقافي بحت، يتغير عبر الزمن.

تفسير بونيلا سيلفا

ي عام 1997، اعتبر العالم الأميركي «بونيلا سيلفا – Bonilla-Silva» أن الأنظمة الاجتماعية العنصرية تخلق وتعزز الأيديولوجيات العنصرية. بدورها الأنظمة نفسها. فبحسب ماركس وانجلز “إن أفكار الطبقة الحاكمة هي الأفكار الحاكمة في كل عصر”. وبما أن ال”بيض” هم من يتحكمون بالسياسة في أميركا، من الطبيعي أن تنتشر أيديولوجيتهم العنصرية.

تقاطع باتريسيا هيل كولينز

كما تشير عالمة الاجتماع «باتريسيا هيل كولينز – Patricia Hill Collins» إلى تقاطع (Intersectionality) قضية التمييز العنصري مع كل قضايا التمييز الطبقي والجندري، ولا يمكن درس كل منها على حدة.

التحيز الضمني

بالإضافة إلى ذلك، يتم الحديث في علم الاجتماع وعلم النفس الاجتماعي عمّا يسمى بالتحيز الضمني (Implicit Bias)، وهو الاعتقاد الضمني وغير الواعي بفوقية عرق على آخر. وقد لا يظهر هذا النوع من التحيز في الدراسات الاستقصائية أو الأسئلة، بل هو يظهر بشكل غير مباشر في السلوكيات خلال الحياة اليومية. وهي غالبًا ناتجة عن أحكام مسبقة أو صور نمطية تجاه فئات معينة. حتى أن بعض العلماء اقترح أن هذه النظرة العنصرية الدونية قد تصيب الفرد تجاه عرقه نفسه. وقد أثارت هذه الفكرة جدلًا واسعًا بين اعتبار هذه النظرية لمجرد إلقاء اللوم على الضحية، وبين اعتبار النظرة الذاتية جزء من المشكلة.

ختامًا، إن  العنصرية لا تظلم الجماعات التي تتعرض لها فقط، بل هي تظلم البشرية جمعاء لأنها تحرمها من الاستفادة من طاقات رهيبة يملكها أفراد من أعراق مختلفة، لكنها تبقى رازحة تحت وزن التمييز الثقيل. فمتى ستتخلص البشرية من وهم الأعراق؟

إقرأ أيضًا: تعريف الحركة النسوية وتاريخها

المصادر

American Sociological Association
Britannica
Elsevier

ما هو العنف السياسي؟

هذه المقالة هي الجزء 7 من 9 في سلسلة مقدمة في علم الاجتماع

يحيط بنا العنف في كل مكان على اختلاف درجاته وأنواعه، في العائلة والمدرسة والعمل والإعلام والمجتمع. حتى أنه يطال وسائل التسلية والترفيه من أفلام وألعاب فيديو وغيرها. يخلق العنف أزمات عميقة للبشرية، لذلك كان دائمًا مادة دسمة للدراسات. كثرت النظريات المفسرة للعنف في مختلف الحقول العلمية: علوم النفس والاجتماع والسياسة وعلوم الجينات وعلم الإنسان والتاريخ وغيرها. ورغم أننا لم نتوصل حقيقةً إلى الإجابة على السؤال حول ما إذا كان العنف فطريًا أم مكتسبًا! فإننا واثقون أن العوامل الإجتماعية تلعب دورًا جوهريًا في زيادة نسبة العنف أو على العكس، الحد منها. ولعلّ أكثر العوامل تأثيرًا هو الحالة السياسية للمجتمع، والعنف السياسي المُمارس من قبل الأنظمة والمجموعات والأفراد. فما هو العنف السياسي؟ وما هي أنواعه؟ وكيف يؤثر على حياتنا كأفراد، وعلى علاقاتنا مع الآخرين والدولة؟

مفهوم العنف السياسي

يمكن تعريف العنف السياسي بكل استخدام للقوة أو السلطة. قد يمارسه أفراد أو مجموعات أو دول، بهدف تحقيق أغراض سياسية. ويشمل كل أنواع الأذى الجسدي والضغط النفسي الهادفة إلى إخضاع الشعوب.

ويشمل هذا العنف الصراع بين دول مختلفة من جهة، والصراع في الدولة نفسها من جهة أخرى.

ومن الأمثلة على العنف السياسي الحروب (الخارجية أو الأهلية) والاستعمار والتسلح والاغتيالات والإبادات الجماعية والعمليات الإرهابية والثورات والتمرد والشغب والإنقلابات. كما يطال أيضًا القمع و/أو الحرمان الذي يمكن أن يمارسه النظام السياسي بحق الشعب، كحرمانه من حقوقه المدنية والاقتصادية والاجتماعية الأساسية، وقمعه لحرية التعبير.

دفعت البشرية على مر التاريخ – وما زالت – أثمانًا باهظة للعنف السياسي، من الضحايا والدم والدمار والأضرار الاقتصادية والاجتماعية والصحية الهائلة، لذلك تُعتبر دراسته ضرورة في محاولة الحد منه وجعل العالم أقرب إلى السلام.

أنواع العنف السياسي

تتعدد تصنيفاته، إما بحسب أطرافها أو حجمها أو مدى خرقها للأنظمة الاجتماعية و لحدود الدولة ومدى قانونيتها و/أو مشروعيتها.

يعتبر بعض العلماء الثورات أو الانقلابات مثلًا جزءًا من التحركات التي تحمل عنفًا سياسيًا شرعيًا. فهي غالبًا تنتج عن قمع النظام السياسي لأي حالة تغييرية ديمقراطية أو سلمية. فيكون سلك طريق الوسائل العنيفة حل وحيد متبقي أمام فئة معينة لتحقيق تغيير سياسي أو لإستعادة حقوقها.

إذا تبنّينا التصنيف المبني على أساس الأطراف المنفذة والمتلقية لها، يمكن اختصاره على الشكل التالي:

– العنف الموجه من دول إلى أخرى أو من مجموعة دول إلى مجموعة أخرى: الحروب والحروب الاستعمارية والاحتلالات.
– العنف القائم بين النظام السياسي لدولة و فئة أخرى غير رسمية: مثل حالات التمرد والشغب والثورات والانتفاضات (فيكون في هذه  الحالة عنفًا متبادل بين الطرفين).
– عنف أحادي الجانب، الموجه من السلطة إلى الشعب عامةً أو مجموعات أو أفراد منه: مثل العنف الانتخابي (تهديد و أذى جسدي و/أو نفسي يطال المرشحين أو الناخبين بهدف ضمان النتيجة لصالح طرف معين)، الاغتيال  (التصفية الجسدية) والإعدام السياسي والقمع من خلال الأجهزة الأمنية والتعذيب والحرمان من الحقوق الأساسية كالأمن والغذاء والسكن والتعليم والعمل والضمانات الاجتماعية.
– العنف الممارس من قبل أفراد أو مجموعات (غير رسمية) باتجاه أفراد آخرين: مثل الإرهاب.
– العنف الممارس بين فئات اجتماعية (غير رسمية): مثل الصراعات الإثنية.

تجدر الإشارة إلى أن أنواع العنف السياسي تتداخل في الكثير من الأحيان فيما بينها، حتى أنها تتداخل مع العنف الاقتصادي والاجتماعي بشكل كبير.

كيف يؤثر العنف السياسي على الأفراد والمجتمع ككل والدولة؟

من الصعب أن نحصي فعليًا الآثار الضخمة التي تتركها أعمال العنف السياسي، وهي تختلف كثيرًا بحسب نوع الأعمال العنفية المُمارسة وحجمها والإطار الاجتماعي والتاريخي لها.

على الصعيد الفردي، تثبت الدراسات أن العنف السياسي يؤثر مباشرةً على الصحة النفسية. فتزيد في المجتمعات المعنفة سياسيًا نسبة الأشخاص المصابين بأمراض الاكتئاب والقلق و اضطرابات ما بعد الصدمة. كما يؤثر العنف أيضًا على نوعية الخدمات التي يحصل عليها المواطنون، وغالبًا ما يكون ملازمًا للدول النامية، فلنا أن نتخيّل مدى تأثيره مع رداءة الخدمات وعدم استقرار الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية على نوعية حياة الأفراد.

أما عن علاقة الأفراد بالدولة والحياة السياسية، فتوضح مجموعة من الدراسات ازدياد نسب العزلة عن المشاركة في أي ،أنشطة سياسية، وفقدان الثقة بالدولة، كما تتعطل قدرة الأفراد على المشاركة في عمل جماعي، فيميل الأشخاص في هذه الحالة إلى الفردية.

على مستوى المجتمع، يساهم العنف السياسي بزيادة العنف الاجتماعي بشكل مباشر، بسبب انعدام الشعور بالأمان، فتزداد حالات الفوضى الاجتماعية وحالات التمييز للفئات الأكثر ضعفًا وتهميشًا. وقد تطفو الأيديولوجيات المتطرفة لتعبّر عن أحاسيس الخوف والترهيب الجماعي. كما تتعاظم الآفات والمآسي الاجتماعية، وعلى رأسها التهجير واللجوء. تضعف قدرة المجتمع على التعاضد لحل الأزمات وعلى التنظيم وتتهشم الشبكات الاجتماعية.

على صعيد الدولة، غالبًا يترافق مع ضعف في المؤسسات العامة، وفقدان المواطنين بهذه المؤسسات. وينتشر الفساد ليصبح جزءًا لا يتجزأ من تسيير أعمال الدولة. إذا كان العنف السياسي موجه من قبل النظام نفسه، غالبًا ما تكون نتائجه المدمرة على الأفراد والمجتمع، أدوات إضافية لفرض سلطته وإعدام محاولات التغيير.

يتوّج العنف السياسي كل أنواع العنف الأخرى وصولًا حتى إلى العنف العائلي، فلا بد أن تبدأ مجابهة العنف من خلال الحد من العنف السياسي أولًا. ولا بد من الاعتراف أن السياسة أقرب لنا مما يُخيّل إلينا، فهي تنحت كل تفاصيل حياتنا الفردية والاجتماعية. أما التخلف، الذي ينسبه البعض إلى شعوب معينة، فالأجدر أن ننسبه إلى الأنظمة السياسية التي تسيطر على هذه الشعوب.

إقرأ أيضًا: ما هو الامتثال الاجتماعي؟

المصادر:

NCBI
Science direct
Wiley

Exit mobile version