المس الشيطاني في ميزان العلم

فكرة المس الشيطاني هي فكرة قديمة قِدَم الإنسان ذاته، فعندما لاحظ الإنسان الظواهر الطبيعية من حوله بدأ في نسج الأساطير وأخذ يعزو هذه الظواهر إلى كائنات خرافية، ومما استعصى على فهم الإنسان البدائي هي الأمراض العقلية والنفسية، فعزى هذه الأمراض إلى الشياطين والعفاريت والأرواح، وهو معذور إذ لم تتوافر لديه سبل البحث العلمي المتوفرة حاليًا، ولكن لا يصح في عصرنا هذا أن نفعل مثلما فعل الإنسان البدائي، لهذا سنستعرض اليوم أعراض ما يقال عنه أنه المس الشيطاني، وسنوضح الحالات المرضية وراء هذا الأعراض.

ملحوظة مهمة

لا يعد هذا المقال تشخيصًا طبيًا، وإنما هو مجرد بيان لحالات مرضية يُعتقد أنها بسبب المس الشيطاني، فإن واجهت أنت أو ذويك أيًا من هذه الأعراض عليك بمراجعة الطبيب في أقرب وقت.

الخوف من الرموز المقدسة والمس الشيطاني

يخاف البعض من الرموز المقدسة كالصلبان أو صور المسيح في الثقافة المسيحية، أو من تلاوة الكتب المقدسة كالقرآن في الثقافة الإسلامية، وغيرها من الرموز الدينية المقدسة المختلفة، بل وحتى الخوف من رجال الدين، مما يجعل من حولهم يظنون أنهم ممسوسون من شياطين تخاف من هذه الرموز، إلا أنهم في الواقع يعانون من مرض نفسي يُسمى ب «الهيروفوبيا-Hierophobia».

الأعراض:

قد تصل الأعراض إلى مرحلة متقدمة، حيث يتصبب المريض عرقًا عند رؤية الرموز الدينية، أو قد يطلب عدم التواجد في مكان تتواجد فيه تلك الرموز، بل وحتى قد يصاب بنوبات الذعر والارتجاف عند رؤيتها.

الأسباب:

• أسباب وراثية

وهنا يتم التحقق من التاريخ المرضي لعائلة المريض، حيث أن هذه الحالة قد تكون لدى أحد أفراد عائلته فانتقلت إلى المريض جينيًا.

• أسباب بيئية

قد يكون المريض تعرض لتجربة قاسية في مرحلة عمرية مبكرة مع الرموز المقدسة أو رجال الدين، فتتحول هذه التجارب إلى ذكريات مؤلمة.

العلاج:

توجد العديد من طرق العلاج النفسي لمثل هذه الفوبيا ومنها:

• «العلاج السلوكي المعرفي-Cognitive behavioral therapy»

• «العلاج بالتعرّض-Exposure therapy»



التشنجات العنيفة والمس الشيطاني

يعاني البعض من تشنجات عنيفة تأتي على شكل نوبات، مما يدفع من حولهم للظن بأن هذه حالة تلبس بالجن أو أنه المس الشيطاني، إلا أنه في الواقع مرض عصبي يُدعى «الصرع-epilepsy»

الأسباب:

ليس للصرع اسباب محددة لكن من بعض أسبابه:

• أسباب وراثية.
• الذكريات المؤلمة مثل الحوادث أو المشاهد العنيفة.
• بعض أمراض الدماغ مثل الجلطات والأورام.

الأعراض:

• التشنجات والحركة اللاإرادية
• ارتباك مؤقت
• فقدان الوعي

العلاج:

ليس للصرع علاجًا محددًا بعد، لكن من بعض الطرق التي تجدي نفعًا:

• الأدوية، والتي تخفف بدورها من حدة نوبات الصرع.
• العمليات الجراحية الدماغية.

ادعاء التواصل مع الشياطين والجن

يدّعي بعض الناس مشاهدة الشياطين والجن بل والتحدث إليهم، ونحن نصدقهم، فهم بالفعل يرون ذلك، إلا أنهم مرضى ب «الفصام-Schizophrenia».

الأسباب:

• أسباب وراثية
• عدوى فيروسية
• وجود مشاكل في كيمياء الدماغ
• سوء التغذية قبل الولادة (في رحم الأم)
• بعض الأدوية التي تؤثر على كيمياء المخ

الأعراض:

• الهلوسات، حيث يرى المريض أشياء ويسمع أصوات ويشم روائح غير موجودة، ويدعي سماع أصوات مخيفة ورؤية مناظر مرعبة.

• فقدان القدرة على التركيز وفقدان الذاكرة في بعض الأحيان.

العلاج:

• الأدوية
• «العلاج السلوكي المعرفي-Cognitive behavioral therapy»


خطورة التشخيص بالمس الشيطاني

لا تقتصر خطورة التشخيص الخاطئ بالمس الشيطاني على عدم تلقي المريض للعلاج الصحيح فحسب، بل إنها قد تقتله، ففي عام 2014 ماتت الفتاة الفلسطينية – ذات ال 17 عام – إسراء زوروب أثناء عملية طرد للأرواح، حيث أجبرها الشيخ على شرب لتر من الماء المالح ليخرج الجن من جسدها بدعوى أن الجن يكرهون الملح.

أو مثلما حدث في قصة أناليس ميشيل، والتي يمكنك قراءتها من هنا

المصادر



psychtimes

nami

merriam

mayoclinic





كيف ينظر علم النفس التطوّري إلى الأمراض النفسية؟

هذه المقالة هي الجزء 5 من 10 في سلسلة 9 موضوعات في علم النفس التطوري

 العلاقة بين علم النفس التطوري والأمراض النفسية

تُعتبر نظرية التطوّر واحدة من أهم المبادئ التأسيسية في مجال علوم الأحياء والصحة، وقد فتح علم النفس التطوري المجال أمام هذه النظرية لتكون جزءًا أساسيًا من تفسير السلوك الإنساني من جهة، وتفسير الأمراض والاضطرابات التي تصيب الصحة النفسية من جهة أخرى. إذًا كيف ينظر علم النفس التطوّري إلى الأمراض النفسية؟

ماذا قدّم علم النفس التطوري لعلم الأمراض النفسية؟

منذ نشأته، بدا علم النفس التطوري كعلم واعد في مجال دراسة السلوكيات البشرية العامة و”الطبيعية”، إلا أن استخدام نظرياته في محاولة تفسير أو معالجة الأمراض النفسية جاء خجولًا، وذلك لأن كل العاملين والباحثين في مجال الصحة النفسية منكبّين فعليًا على المعالجة الفعالة والسريعة للاضطرابات النفسية، فيما يبحث علم النفس التطوري عن الأسباب التاريخية الكامنة وفي دورالانتقاء الطبيعي في الأمراض النفسية.

منذ السبعينات، ظهرت محاولات عدة أبرزت دور التطور في علم النفس المرضي. وتستمر هذه المساهمات حتى يومنا هذا، لكنها بقيت إلى حدِّ ما متفرقة ومُشتتة، بحيث تناولت المقاربات التطورية كل مرض على حدى.

مقاربة راندولف نيسي

في عام 2015، قدّم الطبيب الأميركي «راندولف نيسي –Randolph Nesse» مقاربة شاملة، يشرح فيها أهمية مساهمات علم النفس التطوري في فهم الأمراض النفسية بطريقة واضحة، خصوصًا أن العدد الأكبر منها ذات إتيولوجيا (مصدر أو أسباب) مجهولة. يهتم نيسي بأهمية فهم أسباب ترك الانتقاء الطبيعي لهشاشة صحتنا النفسية في مواجهة الكثير من الأمراض والاضطرابات.

يساهم علم النفس التطوري في مقاربة فيزيولوجية أكثر عمقًا في مجال الصحة النفسية، وقد تجيب عن أسئلة هامة حول طبيعة عمل العلاقات البشرية والمشاعر الإنسانية. كذلك يضع إطارًا علميًا أوضح للتشخيص النفسي على أساس فيزيولوجي، ويضع إطارًا عمليًا أكثر عمقًا وتعاطفًا مع الأفراد المُصابين باضطرابات نفسية.

يحاول علم النفس التطوري فهم الفروقات الفردية التي تجعل بعض الأفراد أكثر عرضةً من غيرهم للأمراض النفسية، وأهمية التجارب الحياتية المُبكرة في بناء شخصية الفرد وتحفيز اضطرابات نفسية معينة عنده.

 «مفارقة الأمراض النفسية –Paradox of mental disorders»

تُصيب الأمراض النفسية عددًا كبيرًا من البشر. فأكثر من 10% من البشر حول العالم يعانون من مرض نفسي واحد على الأقل. ويموت سنويًا قرابة 800 ألف شخص حول العالم جرّاء الانتحار، أي بنسبة شخص واحد كل اربعين ثانية.

تتعدد وتتشابك الأسباب المؤدية لانتشار الأمراض النفسية. لكن تشير الأبحاث إلى دور مهم للجينات الوراثية في العديد من الأمراض النفسية. يبلغ حوالى الـ90 % في مرض التوحد، والـ85% في اضطراب ثنائي القطب والـ81% في مرض الفُصام.

من هنا، نشأ سؤال حول دور الانتقاء الطبيعي في بقاء الأمراض النفسية على مدى الأجيال المتلاحقة. إن كانت هذه الأمراض النفسية تضر تكيفنا ككائنات حية، فلماذا سمح الانتقاء الطبيعي ببقائها أو حتى بزيادتها؟ تسمّى هذه المفارقة بمفارقة الأمراض النفسية. ويأتي هنا دور علم النفس التطوّري في الإجابة على هذا السؤال.

كيف يفسّر علم النفس التطوري الأمراض النفسية من خلال الانتقاء الطبيعي؟

انتقلت الأمراض النفسية عبر الأجيال، ولم يتمكّن الانتقاء الطبيعي من كبحها، بل يعتقد أنه ساهم في بقائها أحيانًا. ويمكن تفسير ذلك من خلال الأسباب التالية:

  • سوء التكيف: لقد ساهم الانتقاء الطبيعي في صقل قدراتنا بحسب حاجاتنا في بيئة العصر الحجري، والتي تشكل بيئة التكيف التطوري. ولكن هذه التكييفات قد لا تناسب البيئة الحالية التي نعيش ضمنها. وقد تكون الامراض النفسية التي نعاني منها ناتجة عن سوء التكيف بين عقول العصر الحجري التي نحملها في جماجمنا وبين حاجات عالمنا اليوم.
  • الإصابة الفيروسية أو البكتيرية: تنتج بعض الأمراض النفسية عن إصابات فيروسية أو بكتيرية، سواءً في عمر بالغ أو في أشهر التكوّن الأولى في رحم الأم. كما أنها قد تنتج عن الاستجابة المناعية للجسد في وجه جسم غريب (كما في حالات أمراض المناعة الذاتية). في هذه الحالة، لا يقدر الانتقاء الطبيعي على مواجهة الإصابات. فتطوّر الفيروس والبكتيريا أسرع بكثير من تطور الإنسان بسبب كثرة أجيال الفيروس والبكتيريا مقارنة بتوالد البشر.
  • محدودية الانتقاء الطبيعي: رغم الأهمية الهائلة لهذه العملية، إلا أنها تبقى محدودة نظرًا لعشوائيتها والأخطاء المحتملة في نقل المعلومات الجينية. ويمكن بذلك أن تعزز احتمالية انتقال الأمراض النفسية بسبب عدم تأثير تلك الأمراض بشكل مباشر على توارث الصفات الجينية.
  • الدفاعات الجسدية والنفسية: بعض ردات الفعل الجسدية كالألم والسعال وارتفاع الحرارة قد تكون مزعجة، لكنها في الأساس تهدف للدفاع عن صحتنا الجسدية وحمايتنا. وغيابها نفسه يعد عرضًا مرضيًا. كذلك المشاعر السلبية كالقلق مثلًا قد يكون دفاعًا مفيدًا. وقد يعزّز القلق فرص البقاء على قيد الحياة، وبالتالي فمن الطبيعي أن يبقيه الانتقاء الطبيعي رغم كونه شعورًا سلبيًا.
  • مساومة الانتقاء الطبيعي (Trade off): في الانتقاء الطبيعي لا وجود لحلول مثالية. كل ميزة نحصل عليها نخسر في مقابلها ميزة أخرى، فنحن نملك قدرات جسدية وعقلية محدودة. لذلك قد يكون الحفاظ على الأمراض النفسية يشكل نوعًا من الحماية من خسارة ميزات معينة. وقد تكون بعض تلك الميزات ميزات عاطفية مسؤولة عما نحن عليه كمجتمعات بشرية.

مستقبل دراسة علم النفس التطوري للأمراض النفسية

ما زالت الأمراض النفسية تشكل تحدّيًا كبيرًا للبشرية. وتعتبر من الأمراض القليلة التي تفتقد للمؤشرات البيولوجية الكافية لتشخيصها، فيعتمد تشخيصها بشكل أساسي على وصف الأعراض. من هنا جاءت ضرورة استخدام علم النفس التطوري لفهم السياق الطبي التاريخي الذي أتى بهذه الاضطرابات. لا يسعى علم النفس التطوري لإيجاد نوع جديد من العلاج أو التشخيص للأمراض النفسية، بل لأن يدرس الأسباب فيساهم في نظرة أكثر شمولية وعمق لهذا النوع من الأمراض، لعل ذلك يفتح المجال أمام علاجها وتحسين حياة الملايين من البشر.

ماذا قدم فرويد للبشرية؟

هذه المقالة هي الجزء 3 من 21 في سلسلة مقدمة في علم النفس

هل شعرت يومًا أنك تحب شخصًا ما أو تبغضه لسبب غير معلوم؟ هل وجدت نفسك في موقف ما تجادل وتدافع لأسباب لا تستطيع صياغتها بوضوح؟ أو هل نسيت اسم شخص ما في الوقت غير المناسب ولا تعرف لماذا؟ أجاب فرويد عن هذه الأسئلة، وطور نظرية شيقة للغاية عن دوافع البشر ورغباتهم. لكن في البداية دعونا نتعرف على عالم النفس الأشهر في التاريخ الحديث الذي تؤثر أفكاره على رؤيتنا للأمور حتى وقتنا الحالي.

حياة فرويد

ولد سيجموند فرويد في النمسا عام 1856م. وعاش في مدينة فيينا حتى عام 1938م، حيث انتقل إلى لندن بعد اندلاع الحرب العالمية الثانية ليتوفى فيها بعد مرور عام واحد إثر إصابته بالسرطان. لا ترجع شهرة فرويد إلى اكتشاف بعينه ولكن لتطويره نظرية شاملة للعقل البشري. ورغم شهرته الواسعة إلا أنه كان محل نفور كبير بسبب تعصبه لنظريته عن التحليل النفسي والترويج المستمر لها. كان نتاج فرويد الفكري غزير، لكنه لم يخل من شطحات وأراء غريبة حقًا منها فكرته حول «حسد القضيب-Penis Envy». حيث اعتبر فرويد النساء ببساطة رجال بدون قضيب. واعتبر حسد القضيب مرحلة تمر بها جميع الفتيات في نموها الجنسي، حيث تكتشف افتقادها للقضيب فتتمحور حياتها حول هذا النقص دائمًا! جانب آخر أكثر تشويقًا وأهمية من فرويد هو فكرته عن وجود الدافع اللاواعي، وفكرته عن ديناميكية اللاوعي أو الصراع اللاواعي.

رغبة صادقة.. ربما لا؟

يفسر «الدافع اللاواعي-Unconscious Motivation» السلوك البشري أنه نتاج لرغبات ودوافع وذكريات مكبوتة في اللاوعي. حيث آمن فرويد أن الجزء الأصغر من العقل البشري واعٍ وقابل للملاحظة، أما النسبة الأكبر لا واعية ولها التأثير الأكبر على أفعالنا. مثال على ذلك: إذا سألك أحدهم لماذا تود الزواج من هذا الشخص؟ فيأتي جوابك لأني أحبه، أو لأني أود تكوين عائلة. وربما تكون إجابتك صادقة لكن فرويد له رأي آخر، بالرغم من صدق إجابتك لايزال هناك رغبات ودوافع قد لا تكون واعيًا بها. لذا ربما تود الزواج من هذا الشخص لأنك تود الانتقام من شخص قام بخيانتك! قبول فكرة الدافع اللاواعي مخيف للغاية، على الرغم من سهولة استيعابه في إطار الإدراك البصري، حيث ننظر حولنا فنرى الأشياء ونتعرف عليها بشكل لاواعي ولا نتذمر بهذا الشأن. لكن تطبيقها على المشاعر والقرارات مرهق ويشكك في صدق كل شيء.

الهو والأنا والأنا الأعلى

الشخصية البشرية معقدة وتتكون من عدة عناصر تبعًا لفرويد، وهي الهو والأنا والأنا الأعلى. يظهر كل عنصر منها في مرحلة عمرية مختلفة ويسهم في تطوير جانب معين من الشخصية.

يظهر «الهو-The Id» عند الولادة ويعمل بشكل لا واعي. فهو الجزء الحيواني البدائي من الإنسان الذي يريد إشباع رغباته من جوع وعطش ودفء ويريد إشباعها فورًا. يعمل الهو على مبدأ اللذة وهو ما يفسر به فرويد نشأة البشر، الهو الخالص والرغبة الخالصة في اللذة.

لكن سرعان ما يدرك الطفل أن هذا الأمر ليس واقعيًا، ليس كل ما تريده تحصل عليه. مما يؤدي إلى تطوير مجموعة من ردود الأفعال للتكيف مع هذه الحقيقة. إما عن طريق التخطيط لإشباع الرغبة أو التخطيط لكبحها. وهذا النظام يُعرف باسم الأنا. يعمل «الأنا-The Ego» على مبدأ الواقعية، ويرشد الهو للحصول على اللذة بطريقة واقعية ومقبولة. ويمثل الأنا بالنسبة لفرويد أصل الوعي البشري.

وأخيرًا «الأنا الأعلي-Super Ego» الذي يظهر في سن الخامسة ويعمل تبعًا لمجموعة القواعد المنضوية للأبوين والمجتمع. فما يحدث هو أنك تحاول إشباع اللذة لكن تُؤنب أو تُعاقب. وما يمثله الأنا الأعلى هنا هو صوت الضمير الذي يمنع كل رغبات الهو تبعًا لمعايير مثالية وليست واقعية. لذا لا يقل الأنا الأعلى سذاجة عن الهو.

صراع دائم

يقع الأنا بين الهو والأنا الأعلى، ويستمر الصراع بشكل لا واعي بين هذه العناصر الثلاث دائمًا. وهذا ما يفسره فرويد في فكرته عن ديناميكية اللاوعي أو «الصراع اللاواعي- Unconscious Conflict». فلا ينهاك الأنا الأعلى عن فعل الأشياء الخاطئة فقط، بل ويمنعك من التفكير فيها. حيث يبعث الهو كل هذه الرغبات المجنونة والعنيفة ويقوم الأنا الأعلى بكبحها فلا تصل إلى الوعي. لكن للأسف لا تسير الأمور بسلاسة طوال الوقت. فتتسلل بعض هذه الرغبات لتظهر في الأحلام أو زلات اللسان أو حتى كأعراض مرضية.

وصف فرويد الآليات المختلفة التي نستخدمها لمنع رغبات الهو من الوصول إلى الوعي بـ «آليات الدفاع-Defense Mechanisms». وهي الآليات التي نستخدمها بشكل لا واعي لإنكار رغباتنا المشينة. كأن نمنحها تبريرًا لائقًا، أو نقوم بإسقاطها على شخص آخر، أو تركيزها على شيء آخر،أو حتى الهروب منها. وتبعًا لفرويد هذه الآليات ليست مَرضِيةً على الإطلاق، بل هي جزء من الحياة الطبيعية للحفاظ على التوازن بين أجزاء اللاوعي المختلفة.

فرويد وتطور الشخصية

أشهر أعمال فرويد وأكثرها إثارة للجدل هي نظريته عن النمو النفسي الجنسي للطفل. رأى فرويد أن الطفل يمر بعدة مراحل نفسية جنسية حتى تتطور شخصيته البالغة. قسم فرويد هذه المراحل إلى خمس، كل منها مرتبط بمنطقة شبقية محددة وحدوث خلل في أي من هذه المراحل يؤدي إلى ثبات الشخص بها.

المرحلة الأولى وهي «المرحلة الفموية-Oral Stage» التي يكون الفم فيها مصدر اللذة. ويبدأ الصراع عند الفطام المبكر للرضع، الذي يسبب صفات مثل الاعتمادية أو العدوانية عند الكبر، كما يرتبط بمشكلات أخرى مثل الإسراف في الأكل والتدخين واستهلاك الكحول.

المرحلة الثانية وهي «المرحلة الشرجية-Anal Stage» ويصبح التحكم في حركة الأمعاء والمثانة هو مصدر اللذة، لذا يتدرب الطفل على استخدام المرحاض، وتبعًا لفرويد يرتبط حدوث خلل في هذه المرحلة بصفات مثل البخل أو الهوس.

المرحلة الثالثة وهي «المرحلة القضيبية-Phallic Stage» وتكون الأعضاء التناسلية فيها مصدر اللذة. تفسير فرويد لهذه المرحلة شيق للغاية ويرتبط بمصطلح “عقدة أوديب”. تبعًا لفرويد يرى الطفل والده كخصم أمام عاطفته تجاه أمه، ويفكر في التخلص منه بقتله مثلًا، لكن بما أن الطفل لا يدرك وجود الحواجز بين ما يحدث داخل عقله والعالم الخارجي يشعر أن والده يعلم ما يدور بعقله وسيعاقبه، العقاب الذي يخشاه الطفل هو استئصال أعضائه التناسلية!

المرحلة الرابعة وهي «مرحلة الكمون-Latent Stage» تستمر هذه المرحلة حتى البلوغ، وفيها تهدأ جميع المشاعر الجنسية وتتطور الجوانب الأخرى من الشخصية.

المرحلة الخامسة وهي «المرحلة التناسلية-Genital Stage» التي تبدأ عند البلوغ وتستمر حتى الموت، ويتطور فيها الاهتمام بالجنس الآخر.

التقييم العلمي لنظريات فرويد

تتعرض نظريات فرويد للكثير من النقد وتعد محل جدل كبير. وبالرغم من غزارة إنتاج فرويد الفكري ألا أن أغلبه يرفضه العلم ولا يُدرس بشكل أكاديمي ولا يعمل به علماء النفس في وقتنا الحالي. النقد الأكبر الذي تتعرض له هذه النظريات هو افتقادها لما عرفه الفيلسوف الإنجليزي كارل بوبر بـ «القابلية للدحض-Falsification». وصف بوبر الفارق بين العلمي وغير العلمي بأن العلم يقدم إدعاءات قوية عن العالم وهذه الإدعاءات يمكن اختبارها وإثبات خطأها، أما إذا استحال إثبات خطأها فهي ليست جيدة بما يكفي لاعتبارها علم.

وهنا تكمن مشكلة نظريات فرويد، فهي مرنة وغامضة للغاية لدرجة لا يمكن إثبات صحتها بأي طريقة موثوقة. مثال على ذلك: لا يوجد أي دليل أن الصفات المرتبطة بالمرحلة الفموية أو الشرجية مثل الاعتمادية والبخل ذات علاقة بالفطام المبكر أو التدرب على استخدام المرحاض. كذلك أراء فرويد حول الجنس والمثلية لها قليل من الدعم التجريبي. أما الإدعاء أن التحليل النفسي أثبت نجاحه في علاج الأمراض العقلية فهو ليس صحيحًا تمامًا أيضًا، فيوجد علاجات أسرع وأكثر مصداقية. كذلك لا تساعد هذه الطريقة في تخفيف أعراض بعض الأمراض مثل القلق والاكتئاب.

لكن على الرغم من النقد اللاذع الذي تعرض له فرويد، تبقى فكرة ديناميكية اللاوعي ذات أهمية كبيرة. حيث أُثبت أن الكثير من العمليات العقلية تعمل بشكل لا واعي مثل: فهم اللغة الذي يحدث بشكل طبيعي وغريزي في جزء من الثانية، كذلك الأنشطة التي تتكرر بشكل يومي. وفي الختام يمكننا التأكيد أن الجزء الأكبر من نظريات فرويد وتفاصيلها خاطئة ومرفوضة تمامًا، لكن تبقى الفكرة العامة لفرويد، فكرة أننا لا نعي بشكل كامل لماذا نحب ما نحب ونكره ما نكره، صحيحة وتثبت نفسها في فروع علم النفس حتى اليوم.

المصادر

  1. IEP
  2. thepsychologist
  3. psychology
  4. verywellmind
  5. verywellmind

كيف تؤثر المناطق الخضراء على صحتك النفسية وعلى رفاهية الفرد؟

كيف تؤثر المناطق الخضراء على صحتك النفسية، ومدى مساهمتها في زيادة رفاهية الفرد؟

كثيراً ما واجهتنا تحديات وصعوبات يومية تزيد الضغط النفسي للفرد؛ مؤثرة بالتالي على روتينه اليومي وحياته العملية. وفي هذا المقال سنوضح كيف تؤثر المناطق الخضراء في البيئة الحضرية على مواجهة المشاعر السلبية وتحسين صحتك النفسية.
في دراسة جديدة، وجد الباحثون أن المناطق الخضراء المتواجدة في وسط المدينة يمكن أن تحسِّن بشكل مباشر رفاهية السكان الحضريين. فضلاً عن ذلك، فالأشخاص الذين يعانون من عدم قدرة الدماغ على ضبط المشاعر السلبية يستفيدون إلى أقصى حد من المناطق الخضراء.

وقد أجري البحث ضمن دراسة متعددة التخصصات شارك فيها معهد Karlsruhe للتكنولوجيا. فالمناطق الخضراء المجاورة ذات الأشجار والشجيرات والعشب الأخضر والأزهار تجعل الناس يشعرون بالرضى وليس فقط في حرارة الصيف.

فحص الفريق 33 مواطنا حضريا في الدراسة حيث تتراوح أعمارهم بين 18 و 28 عاما، طُلب منهم تقييم مزاجهم بهواتف ذكية مجهزة خصيصا نحو تسع مرات في اليوم لمدة أسبوع واحد.

وخلال هذه الفترة، تابع المشاركون روتينهم اليومي العادي. بعد ذلك، تم تحديد نسبة المناطق الخضراء في أحيائهم من خلال صور جوية واضحة وبمساعدة من وسائل المعلومات الجغرافية.

وفي الحالات التي كان فيها هؤلاء الأشخاص محاطين بمناطق خضراء أكثر في المدينة، تبين أنهم يتمتعون بقدر أكبر من الرفاهية.

وفي الخطوة الثانية، طُلب من 52 شاباً آخر تقييم مزاجهم في الحياة اليومية بالطريقة نفسها.

وبعد مرحلة التقييم التي دامت سبعة أيام، تم فحص هؤلاء المشاركين أيضاً باستخدام التصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي. وتستخدم هذه الطريقة لتمثيل بعض وظائف الدماغ. وتبين أن نتائج المجموعة الثانية متناسقة مع نتائج الجولة الأولى.

يقول الفريق أنه كلما كبرت المساحات الخضراء في حي سكان المدن، كلما ازداد مستوى الرفاهية للأشخاص.

كما تبين أن الأشخاص الذين تفاعلوا بشكل إيجابي مع المناطق الخضراء ساعدهم الأمر في تقليل نشاط قشرة الفص الجبهي الدورسولتلاوي-dorsolateral prefrontal cortex. وهي منطقة في الدماغ لها وظيفة مركزية تتحكم في تدبير المشاعر السلبية والتجارب المجهدة.

وتشير هذه النتائج إلى أن المناطق الخضراء مهمة بشكل خاص للأشخاص الذين يعانون من مشاكل التغلب وضبط مشاعرهم السلبية ذاتياً.

ويمكن للمناطق الخضراء الموزعة بالتساوي في المدينة أن تطور إمكانيات كبيرة للوقاية من الأمراض النفسية، مثل الإكتئاب، إنفصام الشخصية، وإضطرابات القلق.

ويذكر أن الدراسة نشرت في مجلة Nature NeuroScience.

المصدر: Knowridge
Exit mobile version