المدرسة التعبيرية: سلسلة الفن الحديث

هذه المقالة هي الجزء 4 من 11 في سلسلة مقدمة في تاريخ الفن الحديث

كانت المدرسة التعبيرية من أكثر تيارات الفن إثارة للجدل وواحدة من أهم التيارات الرئيسية للفن الحديث في القرنين الـ19 والـ20 لعدة أساب؛ فقد نشأت في جو كان يسوده الظلم والقهر، وكان ذلك في ظل الحرب العالمية الأولى والثانية، بالإضافة إلى خصائصها في التعبير عن الشخصية  والذات العميقة.

فهو الأسلوب الفني الذي لم يسع فيه الفنان إلى تصوير الواقع، بل صوّر العواطف والاستجابات التي تثيرها الأحداث داخل الشخص. ويعتبر هو الهدف الذي يحققه الفنان من خلال التشويه والمبالغة والبدائية والخيال، والتطبيق العنيف والديناميكي للعناصر.

Tired Of Life“, By: Ferdinand Hodler, 1892

ولادة المدرسة التعبيرية

على الرغم من أن مصطلح التعبيرية يمكن إطلاقه على الأعمال الفنية من أي عصر، إلا أنه مرتبط بشكل محدد بالفن الألماني الذي ظهر في القرن العشرين. وقد ظهرت التعبيرية كرد فعل على الانطباعية والفن الأكاديمي. وظهرت بشكلٍ أساسي من فن فان جوخ ضامة العديد من الفنانين: إدوارد مونش وجيمس إنسور وهودلر وهنري ماتيس – رائد المدرسة الوحشية- وإيجون شيلي وماكس بيكمان وبابلو بيكاسو وبول كليي وغيرهم.

وقد طور كل منهم أسلوبًا شخصيًا للغاية مستغلين التعبيرات التي تنتجها الألوان والخطوط لعرض الموضوعات الدرامية المليئة بالعاطفة، أو لنقل تعبيرات الخوف والرعب والبشاعة، أو ببساطة لعرض قوة الهلوسات والحالات الذهنية وما تفعله الطبيعة بالشخصية والذات الداخلية.

Anxiety“, 1894, By: Edvard Munch
Self-Portrait with Lowered Head“, 1912, By: Egon Schiele

وكان هؤلاء الرسامين في ثورة ضد ما اعتبروه الطبيعة الطبيعية السطحية للانطباعية الأكاديمية. فقد شعروا أن الفن الألماني يفتقر إلى الروحية، وسعوا للقيام بذلك من خلال تعبير عصري وبدائي وعفوي وشخصي للغاية.

صفات اللوحات التعبيرية

تم استوحاء المدرسة التعبيرية من التيارات الحديثة السابقة، وسرعان ما طور التعبيريون أسلوبًا ملحوظًا لقسوته وجرأته وكثافته البصرية؛ فاستخدموا خطوطًا خشنة ومشوهة بفرشاة سريعة وخشنة وتضارب الألوان لتصوير مشاهد موضوعات عصرية مختلفة في تركيبات مزدحمة تتميز بعدم الاستقرار وبالأجواء المشحونة بالعاطفة.

Tavern“, 1909, By: Ernst Ludwig Kirchner

وقد عبرت العديد من أعمالهم عن الاستجابة للقبح والابتذال الفاحش، والتناقضات التي يواجهونها في الحياة الحديثة، بالإضافة إلى الإحباط والقلق والاشمئزاز والسخط والعنف، خصوصًا أن تلك الحركة نشأت في فترة الحرب العالمية الثانية. وقد طور الفنانون التعبيريون نمطًا قويًا من النقد الاجتماعي بأعمالهم الحيوية والألوان الجريئة.

استمرت المدرسة التعبيرية وانتشرت في جميع أنحاء أوروبا، وقد نبع منها في وقت لاحق العديد من الفنانين والتيارات الفرعية مثل: التعبيرية التجريدية والتعبيرية الجديدة ومدرسة لندن.

“Self-Portrait with a Model”, 1910, By: Ernst Ludwig Kirchner
The Intrigue“, 1890, By: James Ensor

الفن التعبيري والنازية

شنت النازية سلسلة من الحملات الشنيعة ضد الفن التعبيري أثناء الحرب العالمية الثانية، والتي أدت إلى تدمير وحرق الأعمال الفنية وطرد الفنانين من التدريس ومنعهم من ممارسة الفن حتى في بيوتهم بالإضافة إلى النفي. ويعد أشهر ما حدث هو التشهير بالفن التعبيري على الملأ بطريقة لم يتوقعها أحد!

فقد عُقد في ميونيخ عام 1937 معرضين على بعد بضع مئات الأمتار من بعضهما فقط، كان أحدهما (المعرض الكبير للفن الألماني) الذي قام بعرض أمثلة رائدة للفن الحديث. وكان الآخر معرض (الفن المنحط)الذي قدم جولة عبر الفن الذي رفضه النازيون لأسباب أيديولوجية.

وقد كانت المرئيات مهمة للنازيين، وكان هتلر نفسه رسامًا، لذلك لم يكن من الغريب أن تكرس النازية موارد كبيرة للترويج لأفكارهم من خلال الفن، والتي ظهرت بوضوح في معرض الفن الألماني الذي أقاموه. فقد أظهر ذلك المعرض أعمالًا بالسمات الكلاسيكية، ومنحوتات كبيرة ذات أجسام عضلية مثالية، ولوحات للجنود والأبطال، والتي كانت تدعوا للتفاؤل والشباب والبهجة.

معرض الفن المنحل

أما معرض (الفن المنحل)، فقد عرضت فيه الأعمال التعبيرية وبعض من التجريدية. والتي كانت أعماله تخاطب الذات والغرائز وتعبر عن القبح والفساد الداخلي والخارجي، بل وتقوم بانتقاد المجتمع بجرأة.

ورغم أن الكثير من تلك الأعمال الفنية مفضلة للكثير من النازيين قبل أن توضع في ذلك المعرض،  فقد تلاعب معرض (الفن المنحل) بالزائرين ليكرهوه ويسخروا منه من خلال محو معانيه الأصلية، بل وتم تعزيز قيمة الصدمة من خلال عدم السماح لمن دون سن الـ18 بالدخول. وقد تمت إهانة الأعمال الفنية به عن طريق إخراج العديد منها من إطاراتها ووضعها بشكلٍ عشوائي على جدران كتب عليها شعارات غاضبة.

فبدلا من أن تُرى تلك الأعمال باحترام، خدع القائمين على ذلك المعرض الزوار وأصبحوا يرون الأعمال كقمامة خطيرة وشنيعة، وفقدت مكانتها كأعمال فنية عظيمة. وقبل أن يقام ذلك المعرض، عرضت تلك الأعمال الفنية في أعظم المتاحف في البلاد.

وقد استمرت العشوائية النازية بعد إغلاق هذه المعارض، حتى أن الفنان إيميل نولده تم منعه من الرسم في بيته، فقد كان يتلقى زيارات دائمة من الشرطة السرية والتي كانت تأتي لتلمس فرشه للتأكد من أنها لم تستخدم! لكن احتال نولده عليهم أحيانًا حين رسم بالألوان المائية، والتي كانت تجف فرشها بشكل أسرع من الألوان الزيتية.

أما الفنان كريشنر، فقد انضم انضم إلى الجيش الألماني لكنه عانى في النهاية من انهيار عصبي. وعلى الرغم من اعتلال الصحة ومحاولاته للتعافي، استمر في إنتاج الأعمال الفنية بشراهة. كن ضم النازيون أعماله في معرض (الفن المنحل)، وتمت إقالته من أكاديمية برلين للفنون. وفي عام 1937، تم مصادرة أكثر من 600 من أعماله وتدميرها أو بيعها، وبعدها بعام واحد فقط أدت المعاناة النفسية التي سببتها له السلطات النازية وتشتت أعماله وتدميرها، والاحتلال النازي للنمسا بالقرب من منزله إلى انتحاره في نهاية المطاف.

المصادر:

Britannica
The Art Story
Khan Academy
NGA gov

الفن القديم والفن الروماني

هذه المقالة هي الجزء 5 من 9 في سلسلة مقدمة في تاريخ الفن القديم

سلسلة الفن القديم والفن الروماني

أصل الفن الروماني

كان الفن الروماني القديم واسعًا ومنتشرًا للغاية، فقد امتد إلى ما يقرب من 1000 عام بين ثلاث قارات، أوروبا وإفريقيا وآسيا. ويعود تاريخ الفن الروماني إلى عام 509 ق.م مع تأسيس الجمهورية الرومانية، واستمر حتى عام 330 م.

بدأ الفن الروماني بصب الكثير من الثقافات في مدينة روما باعتبارها بوتقة انصهار حضارية، ولم يكن لدى الرومان أي قلق بشأن التأثيرات الفنية الأخرى من ثقافات البحر المتوسط التي أحاطت بها وسبقتها.

من الشائع أن نرى التأثيرات اليونانية والمصرية والإتروسكانية -حضارة قديمة عاشت في إيطاليا- على جميع أشكال الفن الروماني.

عندما أدرك النقاد أن عدد كبير من أفضل القطع الرومانية كانت في الواقع نسخًا، أو على الأقل مستوحاة من الأصول القديمة التي فُقدت، بدأ تقدير الفن الروماني  -بعدما ازدهر جنبًا إلى جنب بجانب فنون العصور الوسطى وعصر النهضة– بالنزول.

على الرغم من أن روما ظلت لفترة طويلة مركزًا للفن الروماني، ظهرت حينها مراكز عديدة لإنتاج الفنون متبعة اتجاهات وأذواق خاصة بها، لا سيما في الإسكندرية وأنطاكية وأثينا.

نتيجة لذلك، جادل بعض النقاد في أمر عدم وجود شيء اسمه (الفن الروماني).

تطور الفن الروماني

من الجدير بالذكر أن القطع الفنية المنتمية للمدن التي غزاها الرومان سُلبت وتمت إعادة عرضها على الجمهور.

تم إنشاء المدارس الفنية في جميع أنحاء الإمبراطورية تحت تدريس الفنانين الأجانب، بالإضافة لنشر ورش العمل في كل مكان، وقد أصبح الفن متعلقًا بشكلٍ شخصي بالأفراد والأفكار، وذلك للزيادة الكبيرة لرعاة الفنون من الجهات الخاصة، بدلاً من رعاية الدولة.

يظهر ذلك جليًا في الأشكال النابضة بالحياة للأفراد في اللوحات والمنحوتات. وعلى غير عادة الحضارات السابقة، أصبح الفن متاحًا لجميع طبقات المجتمع وليس للأثرياء فقط.

العلاقة بين الفن الروماني واليوناني (الإغريقي)

كثيرًا ما اختلط علينا الأمر بين الفنين اليوناني والروماني؛ وذلك لأن الفن اليوناني أثّر تأثيرًا قويًا على الممارسات الفنية الرومانية، وعلى الرغم من غزو روما لليونان، فقد أخذت روما الكثير من التراث الثقافي والفني منها، معتمدةً عليها في إنتاج أكثر أعمالها شهرة.

كُلِّف العديد من الرومان بإصدار نسخ من الأعمال اليونانية الشهيرة تعود لعدة قرون سابقة؛ مما نراه الآن في إصداراتٍ رخاميةٍ رومانية، من تلك الأصول البرونزية اليونانية المفقودة، مثل تمثال “Doryphoros” للفنان (Polykleitos).

نسخة من تمثال “Doryphoros” من العصر الروماني للفنان (Polykleitos). متحف نابولي الأثري الوطني. المادة: الرخام. الارتفاع: 2.12 متر (6 أقدام و 11 بوصة).

ولم يؤمن الرومان -كما نفعل اليوم- أن نسخة العمل الفني تقل قيمة من العملي الأصلي، لكن رغم ذلك صُنعت النسخ في أغلب الأحيان بتغييرات بسيطة عليها، ولم تكن نسخًا مباشرة.

وقد تم إجراء تلك التغييرات على سبيل الدعابة، وذلك بتحويل العنصر الجاد و”البائس” في الفن اليوناني رأسًا على عقب.

لذا فالفنان الروماني لم يكن مجرد ناسخ، بل تكيف بطريقة واعية ورائعة مع الثقافات الأخرى، فتلك القدرة الإبداعية على التحويل وجمع العناصر وإضافة لمساتٍ من الفكاهة، هي ما جعلت الفن الروماني “رومانيًا”.

سمات الفن الروماني

أعتنق فنانو العصر الروماني الفن الكلاسيكي بشكلٍ مذهل، والذي أخذوه عن الفن اليوناني بفترتيه: الكلاسيكي والهيلينستي.

وتشمل تلك العناصر الكلاسيكية عدة خصائصٍ، منها:

  • الخطوط الناعمة والأقمشة الأنيقة
  • الأجسام العارية المثالية
  • الأشكال الطبيعية بشكلٍ مبهر، والنسب المتوازنة

والتي أتقنها الإغريق على مدار قرونٍ من الممارسات الشاقة.

وقد ولع معظم أباطرة الرومان بالفن الكلاسيكي، فقد تم صنع تمثال “Augustus of Primaporta” في نهاية حياة الإمبراطور “Augustus“، ورغم ذلك جسّده التمثال في فترة الشباب وأظهره بوسامة مثالية وجسم رياضيّ، وتم استخدام جميع سمات الفن الكلاسيكي عليه.

“Augustus of Primaporta”، القرن الأول الميلادي. متاحف الفاتيكان. حقوق ملكية الصورة: Steven Zucke.

وكان الإمبراطور “Hadrian” معروفًا باسم ” philhellene”، أي العاشق لكل ما هو يوناني! فقد بدأ في ارتداء “لحية الفيلسوف” اليونانية في ظهوره الرسمي أمام الشعب، والتي لم يكن سمع أحد بها من قبل هذا الوقت، وقام بتزيين قصره بالكثير من اللوحات اليونانية المشهورة.

لكن بعد ذلك، بدأت الإمبراطورية بالابتعاد عن التأثيرات الكلاسيكية السابقة والرجوع لفنون العصور القديمة، والذي نراه واضحًا في منحوتة (Chariot procession of Septimus Severus).

وقد شملت خصائص الفنون القديمة عدة أشياءٍ، أهمها:

  • الإظهار بواجهةٍ أمامية
  • صلابة الأقمشة والملابس وعدم انسيابها
  • الخطوط العميقة المحفورة؛ مما يجعل الشكل يبتعد عن الطبيعة
  • ظهور الأشخاص كمجموعات وقلة الفردية
Chariot procession of Septimus Severus، تعود لعام 203 ق.م. متحف القلعة، طرابلس، ليبيا.

وقد شمل الفن الروماني مجموعة واسعة من الوسائط والخامات، فقد تضمن أعمالًا من التصوير الجداري (الفريسكو) والفسيفساء والرخام، وأنتج الكثير من الأعمال الفضية والبرونزية وغيرها، بالإضافة لاستعماله الأحجارِ الكريمة.

وذلك بالإضافة لاهتمامهم بالفنٍ المصنوعٍ خصيصًا للمنازل، والذي قام ملّاكها بعرض الأعمال الفنية فيها للجمهورِ والزوار، بغرض العرض والتعليم.

أخذت الزخارف اهتمامًا كبيرًا في منازل ذلك العصر، وتم دمج جميع اللوحات الجدارية والفسيفساء والمنحوتات بسلاسة مع العناصر الفاخرة الصغيرة كالتماثيل البرونزية والأوعية الفضية.

أما بالنسبة للمواضيع التي استخدموها، فقد تراوحت بين عدةٍ شائعين:

  • تماثيل الأسلاف المهمة والمشهورة
  • المشاهد الأسطورية والتاريخية
  • الطبيعة الصامتة والمناظر الطبيعية

وقد أدى استخدام تلك الأفكار لخلق فكرة رئيسية عند الجمهور تعبر عن مدى وسع معرفتهم الفكرية، وكأنما نقعوا في الثقافة نقعًا.

النحت الروماني

صنع النحاتون الرومانيون نسخهم الشهيرة من روائع وأعمالٍ لا تقدر بثمن من اليونان القديمة؛ والتي كانت ستخسر تمامًا وجودها في الفن العالمي، وقد خُصصت مدارس لنسخ الأعمال اليونانية الأصلية الشهيرة، في أثينا وروما نفسها.

فضّل الرومان البرونز والرخام على أي شيء آخر على أعمالهم، وقد أنتجوا أيضًا نسخًا مصغرة من النسخ الأصلية اليونانية، والتي جُمعت من قبل عشاق الفن ووضعها في المنازل.

لكن بحلول منتصف القرن الأول الميلادي، بدأ الروم بالابتعاد عن جذورهم اليونانية فسعى الفنانون لالتقاط وإنشاء تأثيرات بصرية للضوء والظل من أجل واقعية أكبر.

نُحتت التماثيل النصفية باهتمامٍ أكبر بالتجاعيد والندوب لتحاكي الحقيقة، بالإضافة لجعلهم التماثيل الكبيرة أكثر ضخامة.

التصوير الجداري الروماني

كانت التصميمات الداخلية للمباني الرومانية بدميع أنواعها مزخرفة بألوان وتصاميم جريئة، والتي تراوحت بين تفاصيلٍ معقدة وواقعية إلى الأشكال الانطباعية. وقد وجدت في المباني العاملة والمناز والمعابد والمقابر، وصولًا للهيئات العسكرية.

تفصيلية من لوحة جدارية لحديقة في الهواء الطلق من غرفة الطعام من قصر “Livia” زوجة أوغسطس. قصر ماسيمو، روما، إيطاليا.

فضل رسامو الجدران الرومان ألوان الأرض الطبيعية، مثل الدرجات الداكنة من الألوان من الأحمر والأصفر والبني، وقد استخدمت الأصباغ الزرقاء والسوداء أيضًا في التصاميم البسيطة.

شملت موضوعات التصوير الجداري مشاهد من الأساطير والطبيعة، بالإضافة لاستخدامهم المنظور المعماري لإضفاء خداعٍ بصري، بالإضافة للنباتات والحيوانات.

قام الرومان بتصوير المناظر الطبيعية ومناظر كاملة للمدينة بتقنية البانوراما وبزاوية 360 درجة بشكلٍ مذهل، والتي نقلت المشاهد من حدود غرفته الصغيرة إلى عالمٍ لا حدود له من خيال الرسام.

من الأمثلة البارزة على ذلك، بيت ” Livia” في روما والذي يتضمن بانوراما لحديقة تم صنعها بشكل انطباعي، والذي يدور حول غرفةٍ واحدة بشكل كامل متجاهلًا الزوايا تمامًا.

أغراض الفن الروماني

تم استعمال الفن الروماني لعدة أغراض، منها: العسكري والديني والجنائزي. أما العسكري، فقد قامت الأعمال التذكارية ذات الوظيفة التعليمية والاحتفالية باحتلال مكانة كبيرة في فن ذلك العصر.

عبّرت الأقواس والأعمدة -مثل قوس تيتوس (Arco di Tito) وعمود تراجان (Trajan’s Column)- عن الانتصارات والحروب والحياة العسكرية عن طريق تصوير الأراضي الأجنبية وأعداء الدولة أحيانًا.

عمود تراجان أو “Trajan’s Column”. من أشهر المعالم الأثرية الرومانية، يرجع لعام 113 م . روما، إيطاليا.

ثم تم التعبير عن الفن الديني في العصر الروماني بشدة –كحال كل الفنون القديمة-. فقد صنعت تماثيل غاية في الجمال للعبادة تمثلت في آلهتهم: ك ڤينوس وجوبيتر.

شقت ديانات وآلهة من ثقافات أخرى طريقها للعاصمة الرومانية، كالإلهة المصرية “إيزيس” والإلهة الفارسية “ميثراس” حتى وصول المسيحية في نهاية المطاف.

جلبت كلًا من هذه الديانات مجموعاتها الفريدة من القطع الفنية إلى الثقافة الرومانية؛ لنشر عبادتها وتعليم أتباعهم.

أما بالنسبة للفن الجنائزي، فقد ترك الرومان وراءهم صورًا عرفتهم كأفراد معروفين بعد موتهم، وغالبًا ما أكدت الصور الجنائزية على السمات الفريدة للأشخاص، أو الآلهة المفضلة لديهم.

استخدم الفن الجنائزي الروماني العديد من الخامات وامتد على جميع الفترات، وقد تضمن عدة أشياء، منها:

  • التماثيل النصفية
  • نقوش على الحائط في المقابر جماعية للطبقة العاملة
  • والمقابر المزينة للعائلات العريقة

بالإضافة إلى ذلك، وجدت لوحات لوجوه الفيوم –والتي ذكرناها في مقالنا السابق- مرسومة على المومياوات والتوابيت، ولأن الموت قد مس جميع مستويات المجتمع، رجالًا ونساءً وأباطرة وعمالًا وأحرارًا-، سجل الفن الجنائزي تجارب متنوعة عديدة لمختلف الشعوب التي عاشت في الإمبراطورية الرومانية القديمة.

المصادر:
Ancient History
Khan Academy

الفن القديم والفن الفرعوني

هذه المقالة هي الجزء 3 من 9 في سلسلة مقدمة في تاريخ الفن القديم

سلسلة الفن القديم والفن الفرعوني

بعد أن استقر الإنسان في الأرض، وقام بتعميرها زراعيًا واقتصاديًا وفنيًا، وابتعد عن الحياة البدائية،، بدأ يحول اهتمامه نحو الحياة الأخرى بشكل كبير، وهذا ما فعله بالضبط الفن الفرعوني.

أثناء ازدهار حضارة بلاد الرافدين، برزت حضارة أخرى بلغت إسهاماتها للحياة الأخرى ما يميزها عن غيرها، وتوثقه توثيقًا متقنًا بوسائل فن فاقت جميع ما سبقها من حضارات وفنون، فنشأت تلك الحضارة هي الفرعونية متميزة تميزًا ضخمًا.

التسلسل الزمني للفن الفرعوني

أصبح تاريخ الحضارة الفرعونية معروفًا من خلال فنه إلى حد كبير، فقد تطور الفن في مصر القديمة بشكلٍ ملحوظ خلال فترة ما قبل الأسرات (6000 ق.م – 3150 ق.م) من خلال الرسوم الصخرية والأعمال الخزفية.

لكن تم إدراكه بالكامل في فترة الأسرات المبكرة (حوالي 3150 – 2613 ق.م.) في لوح نارمر الشهير.

وكان ذلك أول أبواب الفن في الحضارة الفرعونية، فلوح نارمر من أشهر القطع الفنية في ذلك العصر، وهو طبق حجري تم عمله احتفالًا بالنصر لتوحيد مصر وهو الأمر المدوّن على وجهيه، والمنحوت فيهما مشاهد توحيد الملك نارمر لمصر العليا والسفلى بشكلٍ معقد.

وتتجلى أهميته في التركيبة الغريبة التي تتميز برؤوس أربعة ثيران –والتي ترمز للقوة- في أعلى كل جانب، وبتمثيل غاية في التوازن لشخصيات القصة.

ويعتبر هذا العمل تحفة فنية من عصر الأسرات المبكرة؛ مظهرًا بشكلٍ كبير مدى تقدم الفنانين المصريين في ذلك الوقت.

لوحة نارمر ، مصر ، ج. 3100 قبل الميلاد. يصوّر اللوح الملك نارمر وهو يغزو أعدائه ويُخضع الأرض. المتحف المصري، القاهرة.

وقد استمرت إسهاماتهم الفنية بعد هذا اللوح بهرم زوسر (هرم سقارة)، والذي عكس بطبيعة الحال المهارة المصرية في العمل في الحجر على الأعمال الفنية الضخمة.

وقد ازدهر الفن بشكل ملحوظ خلال عصر الدولة الوسطى (2040-1782 قبل الميلاد) والذي يعتبر عمومًا أهم مكان في الثقافة المصرية.

فقد بدأت صناعة التمثال الهائل الحجم، وهي نفس الفترة التي بني فيها معبد الكرنك العظيم في طيبة، مرورًا باستبدال مثالية تصورات المملكة القديمة للتماثيل واللوحات بأشكال واقعية، حتى ظهور فن الطبقات الدنيا أكثر من السابق، والذي كانت تحتكره نخبة المجتمع والطبقات العالية.

معبد الكرنك، أكبر معبد في العالم، مدينة الأقصر، مصر.

لكن حينما ظهرت المملكة الحديثة (1570 – 1069 ق.م) تم اعتبارها فورًا الفترة الأكثر شهرة من تاريخ مصر، وقد أنتجت بعض أروع وأشهر الأعمال الفنية: كتمثال نفرتيتي والقناع الذهبي لتوت عنخ آمون.

ويتميز فن المملكة الحديثة بجودة عالية في رؤيتهم الفنية وتقنياتها؛ وذلك لتفاعل الدولة المصرية مع الثقافات المجاورة، بما أن ذلك العصر هو عصر دخول الإمبراطورية إلى مصر.

سمات الفن الفرعوني

يحتاج أي عمل ببساطة إلى أن يكون جميلًا، ويحظى الفن المصري بإعجاب دائم بجماله بسبب القيمة التي قدمها المصريون القدماء في التماثل – Symmetry.

يعكس التوازن المثالي في الفن المصري القيمة الثقافية للإلهة (ماعت) -إلهة الحق والنظام والعدل- والذي كان نظامها أساسًا قويًا للحضارة المصرية.

فقد جعلت الكون مرتبًا من فوضى متماثلة، وكانت تلك الفوضى هي مفهوم الوحدة، لكنها جعلت الازدواجية -الليل والنهار، الإناث والذكور، الظلام والضوء- منظمة بدقة.

ويجب النظر إلى الفن المصري القديم من وجهة نظر المصريين القدماء لفهمه، فقد كانت التماثيل والصور دائمًا ما تتميز بأوضاع ثابتة إلى حد ما، تحيطها هالة العادات الرسمية، بالإضافة إلى ظهورها بشكل تجريدي.

وغالبًا ما أدت الطبيعة الغامضة للعديد من الفن المصري القديم إلى مقارنات غير عادلة  مع بقية الفنون اللاحقة ، كالفن اليوناني أو فن عصر النهضة.

لكن هذا لا يعني أن المصريين لم يكن لديهم شعور بالجمال. فقد كُتبت الهيروغليفية المصرية مثلًا مع أخذ علم الجمال في الاعتبار بشكل كبير وواضح.

وظيفة الفن الفرعوني

خدم  فن المصريين غرضًا مختلفًا تمامًا عن غرض هذه الثقافات، فقد تم إنشاؤه لغرض عملي، بينما كان الفن اللاحق مخصصًا للمتعة الجمالية.

فبينما نتعجب من الكنوز المتلألئة من قبر توت عنخ آمون، والنقوش البارزة في مقابر المملكة الحديثة ، والجمال الهادئ للتماثيل في الدولة القديمة، من الضروري أن نتذكر أن غالبية هذه الأعمال لم يُقصد منها أن يستمتع بها؛ بل صُممت لتفيد الآلهة أو المتوفيين.

فقد كان غرض التماثيل هو تجسيد المتلقي (الآلهة أو المتوفي) للظهور أمام الشعب وبالتالي استفادتهم من الطقوس المقدمة لهم.

تُظهر معظم
التماثيل بشكل أمامي ورسمي متجهة للأمام؛ لمواجهة الطقوس التي تُجرى أمامها. فالتماثيل -سواء كانت إلهية أو ملكية أو لأفراد من نخبة المجتمع- وفرت نوعًا من القنوات للروح للتفاعل مع العالم الأرضي.

معبد أبو سمبل، 230 كم جنوب غرب أسوان، مصر.

وقد أظهرت لوحات القبور مشاهد من حياة المرء على الأرض حتى تتذكرها الروح، أو مشاهد من الجنة يأمل المرء في بلوغها حتى يعرف كيفية الوصول إليها.

وعلى سبيل المثال، فقد صُممت حديقة تعود للأسرة الحادية عشرة لتحكي قصة رحلته صاحبها في الحياة وصولًا إلى الجنة.

فقد بنيت أعمدة الرواق على شكل أزهار اللوتس والتي ترمز إلى منزله في صعيد مصر، ويمثل حوض السباحة في الوسط  بحيرة (ليلي)، التي يتعين على الروح عبورها للوصول إلى الجنة.

وقد تم تزيين سور الحديقة البعيدة بمشاهد من الحياة الآخرة، لذا في كل مرة يجلس فيها في حديقته؛ستذكره كل تلك المشاهد بطبيعة الحياة باعتبارها رحلة قصيرة، والذي من المرجح أن يضفي عليه نظرة زاهدة للحياة عند مروره بأي ظروف قد تكون مزعجة!

السجلات

تم تسجيل مشاهد تروي قصصًا في مختلف مجالات الحياة بشكلٍ متوازٍ على الحائط يعرف باسم السجلات، وهذه السجلات تفصل المشاهد عن بعضها بخطوط أرضية.

ويوجد نوع آخر من المشاهد المدونة لا تحتوي على سجلات، وعادة ما تسجل مشاهد للقتال والصيد، وفي كثير من الأحيان تظهر الجيوش دون خطوط أرضية.

الخامات المستخدمة في الفن الفرعوني

كان من طبيعة حال الفن في تلك العصور أنه استخدم بواسطة مواد طبيعية ولكن معدة بطرق متقنة، وبالنسبة للحضارة الفرعونية، فقد مزج الفنانون الألوان المصنوعة من معادن طبيعية.

فقد صنعوا الأسود من الكربون، والأحمر والأصفر من أكاسيد الحديد، أما بالنسبة  للأزرق والأخضر فكانوا من من الأزوريت والملكيت، أما  الأبيض كان من الجبس.

يتم خلط المعادن مع المواد العضوية بنسب مختلفة، ثم يتم خلطها مع بياض البيض لجعلها لزجة بحيث تلتصق بالسطح، بالإضافة لمواد غير معروفة حتى يومنا الحالي.

تفاصيل من عرش( توت عنخ آمون) الذي يظهر مع زوجته (عنخ إست آمون) على اليمين. المتحف القومي للحضارة المصرية، القاهرة، مصر.

وكان الطلاء المصري متينًا لدرجة أن العديد من الأعمال ظلت حية بعد أكثر من 4000 عام، حتى الغير المحمية منها في المقابر!

أما بالنسبة للنحت بنوعيه البارز والغائر، فيتم تنعيم سطح الجدار وهو ممزوج بالجص، ثم يغطى بالرمل.

وفي البداية، يقوم أحد الفنانين بإنشاء نموذج مصغر للعمل الكبير بطريقة دقيقة، ثم يرسم الخطوط الأساسية عليه بتقنية الشبكة ويقوم بنقلها على الحائط بالنسب الجديدة.

ولن تواجه الفنان أية مشاكل مع النسب عند النقل؛ لأنه سيتمكن من نسخ الصورة بالنسب الصحيحة باستخدام العمل الأصغر كنموذج ومرجع.

وحينما ينتهي الفنان من نقل النسب الصحيحة، يُرسم المشهد على الحائط ثم يتم تحديده بالطلاء الأحمر.

وقبل أن يباشر العمل النهائي، يجب المرور على مرحلة الملاحظة والتصحيح، فسيتم إجراء تصحيحات على العمل بواسطة فنان أو مشرفٍ آخر، ثم عند التأكد من كل شيء فيها يتم طلاؤها باللون الأسود، وبمجرد انتهاء تلك المرحلة يبدأ الفنان في النحت والتلوين.

هل ما نراه في المتاحف هو كل شيء؟

إن معظم الأعمال التي نراها في المتاحف هي في الحقيقة نتاج ورش ملكية أو تعود ملكيتها لصفوة المجتمع؛ فتلك القطع تتناسب بشكل أفضل مع أفكارنا الحديثة عن الجمال!

ومع ذلك، فإن معظم أقبية المتاحف يوجد بها الآلاف من القطع الأخرى والمصممة للأشخاص ذوي المكانة المنخفضة – كالتماثيل الصغيرة والتمائم والتوابيت والأحجار- والتي يمكن التعرف عليها بشكلٍ كامل، ولكن نادرًا ما يتم عرضها.

تُظهر هذه القطع بشكل عام جودة أقل في المصنعية؛ بمشاكلٍ في النسب أو لسوء تنفيذها، والتي قليلًا ما يتم اعتبارها (فنًا) بالمعنى الحديث.

لكنها تخدم رغم ذلك نفس الوظيفة بالضبط المتمثلة في توفير المنفعة لأصحابها وبنفس درجة الفعالية، كتلك التي صُنعت للنخبة.

اقرأ أيضًا: الفن في مصر القديمة

المصادر:
Ancient History
Khan Academy

Exit mobile version