ما هي البيولوجيا الكمية “علم الأحياء الكمي”؟

ما هي البيولوجيا الكمية “علم الأحياء الكمي”؟

الأنظمة البيولوجية ديناميكية، وتتبادل باستمرار الطاقة والمادة مع البيئة من أجل الحفاظ على حالة من عدم التوازن وهي الحالة المرادفة للحياة.

سمحت لنا التطورات في تقنيات الملاحظة العلمية وأدوات الفحص بدراسة الديناميكيات البيولوجية على نطاقات صغيرة بشكل متزايد. كشفت مثل هذه الدراسات عن أدلة على تأثيرات ميكانيكا الكم -والتي لا يمكن تفسيرها بالفيزياء الكلاسيكية- في مجموعة من العمليات البيولوجية.

علم الأحياء الكمي هو دراسة مثل هذه العمليات، وهنا سنقدم تعريفًا للحالة الحالية للمجال، بالإضافة إلى رؤى حول الاتجاهات المستقبلية.

ما هي ميكانيكا الكم؟

ميكانيكا الكم هي النظرية الأساسية التي تصف خصائص الجسيمات دون الذرية والذرات والجزيئات والتجمعات الجزيئية وربما أصغر من ذلك. تعمل ميكانيكا الكم على مقاييس نانومترية وشبه نانومترية وهي أساس عمليات الحياة الأساسية مثل البناء الضوئي والتنفس والرؤية.

في ميكانيكا الكم، كل الكائنات لها خصائص تشبه الموجة، وعندما تتفاعل، يصف التماسك الكمي الارتباطات بين الكميات الفيزيائية التي تصف مثل هذه الأشياء بسبب هذه الطبيعة الشبيهة بالموجة.

تظهر ميكانيكا الكم في ظواهر بيولوجية عديدة مثل البناء الضوئي والتنفس والرؤية. كلها أحداث يحدث فيها نقل طاقة ونقل إلكترون في إطار يعتمد على القفز على السطح.

في مراكز التفاعل الضوئي ومجمعات حصاد الضوء في النباتات، لوحظت الظواهر المتذبذبة في العديد من الدراسات التي أجريت في التسعينيات وكانت تُنسب عادةً إلى تكوين حزم موجية اهتزازية أو إلكترونية مختلطة.

أدى الكشف عن التماسك الكمي الإلكتروني طويل العمر (660 قدمًا وأطول) أثناء نقل طاقة الإثارة في نظام التمثيل الضوئي إلى إحياء الاهتمام بدور ميكانيكا الكم لشرح عمليات الحياة الأساسية للكائنات الحية [3].

ومع ذلك، فإن فكرة لعب الظواهر الكمومية – مثل التماسك – دورًا وظيفيًا في الأنظمة الحية العيانية ليست مستحدثة في التسعينات، ولكن للأمر تاريخ يعود لمؤسسي ميكانيكا الكم.

تاريخ البيولوجيا الكمية

في عام 1932، أي بعد 10 سنوات من حصول عالم الفيزياء الكمومية نيلز بور على جائزة نوبل عن عمله في التركيب الذري، ألقى محاضرة بعنوان “الضوء والحياة” في المؤتمر الدولي للعلاج بالضوء في كوبنهاغن [4].

أثار هذا السؤال حول ما إذا كانت نظرية الكم يمكن أن تسهم في الفهم العلمي للأنظمة الحية أم لا. كان من بين الحضور ماكس ديلبروك، وهو فيزيائي شاب ساعد لاحقًا في تأسيس مجال البيولوجيا الجزيئية وفاز بجائزة نوبل عام 1969 لاكتشافاته في علم الوراثة [5].

تتكون جميع الأنظمة الحية من جزيئات، وتوصف جميع الجزيئات بشكل أساسي بواسطة ميكانيكا الكم. ومع ذلك، فإن الفصل الواسع للمقاييس بين الأنظمة الموصوفة بواسطة ميكانيكا الكم وتلك التي تدرس في علم الأحياء، وكذلك الخصائص التي تبدو مختلفة للمادة غير الحية والحية، قد حافظت على بعض الفصل بين مجموعتي المعرفة (الفيزياء والأحياء).

في الآونة الأخيرة، مكنتنا التطورات التقنية مثل التحليل الطيفي فائق السرعة [6]، والتحليل الطيفي للجزيء الفردي [7-11]، والفحص المجهري [12-14] والتصوير الجسيمي الفردي [15-18] ، من دراسة الديناميكيات البيولوجية على نحو متزايد. إذ تكشف مقاييس الطول والوقت متناهية الصغر تلك عن مجموعة متنوعة من العمليات الضرورية لوظيفة النظام الحي التي تعتمد على تفاعل دقيق بين التأثيرات الفيزيائية الكمومية والكلاسيكية.

تعريف البيولوجيا الكمية “علم الأحياء الكمي”

يمكننا تعريف علم الأحياء الكمي أو البيولوجيا الكمية بأنها تطبيق نظرية الكم على جوانب من علم الأحياء حيث فشلت الفيزياء الكلاسيكية في إعطاء وصف دقيق لها.

على الرغم من هذا التعريف البسيط، لا يزال الجدل حول أهداف ودور المجال في المجتمع العلمي قائمًا.

سنستعرض معًا وجهة النظر لمكانة بيولوجيا الكم اليوم، ونقرأ سويًا بعض السبل المحتملة لمزيد من التقدم في هذا المجال.

ما هي البيولوجيا الكمية “علم الأحياء الكمي”؟

حقق علم الأحياء -في نموذجه الحالي- نجاحًا كبيرًا في تطبيق النماذج الكلاسيكية على الأنظمة الحية. في معظم الحالات، لا تلعب التأثيرات الكمومية الدقيقة على المقاييس الجزيئية (البينية) دورًا محددًا في الوظيفة البيولوجية الكلية، لكن لكلمة “الوظيفة” مفهوم واسع!

على سبيل المثال: كيف تعمل الرؤية والتمثيل الضوئي على المستوى الجزيئي وعلى نطاق زمني فائق السرعة؟ كيف يتعامل الحمض النووي مع النيوكليوتيدات المكدسة المفصولة بنحو 0.3 نانومتر، مع فوتونات الأشعة فوق البنفسجية؟ كيف يحفّز الإنزيم تفاعل كيميائي حيوي أساسي؟ كيف يتعامل دماغنا مع الخلايا العصبية المنظمة على مقياس تحت نانومتري مع مثل هذا الكم الهائل من المعلومات؟ كيف يعمل استنساخ الحمض النووي والتعبير الجيني؟

يُعتقد عمومًا أن الاختلافات بين التقريب الكلاسيكي ونموذج ميكانيكا الكم لا تكاد تُذكر في هذه الحالات، على الرغم من أن كل عملية تحكمها قوانين ميكانيكا الكم بالكامل.

ولكن دعونا نطرح سؤالنا الأساسي هنا، ماذا يحدث عندما تتلاشى الحدود بين الأنظمة الكمومية والأنظمة الكلاسيكية؟ أو في صياغة أخرى، هل هناك وظائف بيولوجية أساسية تبدو وكأنها كلاسيكية ولكنها ليست كذلك في الواقع؟

إن دور علم الأحياء الكمومي هو تحديدًا إيجاد هذا الارتباط وكشفه. في الأساس، كل المادة – الحية أو غير الحية – خاضعة لميكانيكا الكم، وتتكون من أيونات أو ذرات أو جزيئات، وتُحدد نظرية الكم خصائص توازن تلك الذرات أو الجزيئات بدقة.

نتيجة لذلك، يمكن الادعاء بأن البيولوجيا كلها ميكانيكية كمومية. ومع ذلك، فإن هذا التعريف لا يعالج الطبيعة الديناميكية للعمليات البيولوجية، أو حقيقة أن الوصف الكلاسيكي للديناميكيات بين الجزيئات يبدو غالبًا كافيًا.

لذلك، يجب تعريف علم الأحياء الكمومي من حيث الاتساق في القدرات التفسيرية للنماذج الميكانيكية الكلاسيكية مقابل النماذج الميكانيكية الكمومية لعملية بيولوجية معينة.

البيولوجيا الكمية، ضرورة أم رفاهية!

أثناء دراستنا للأنظمة البيولوجية على المقاييس النانوية، نجد أن هناك عمليات موجودة في الكائنات الحية، سنستعرضها تفصيليًا، يُعتقد حاليًا أن الصيغة الكمومية ضرورية لتوصيفها.

بينما نواجه صعوبة حقيقية في ملاحظة التأثيرات الكمومية على مقاييس الوقت والطول التي نختبرها في حياتنا اليومية والأحداث التي نعايشها ونراها بالعين المجردة، يظهر لنا اعتماد العمليات الضرورية للوظائف وبقاء الكائن الحي على التأثيرات الميكانيكية الكمومية الديناميكية على نطاق الجزيئات.

إن التفاعل بين هذه المقاييس الزمنية والمكانية بالتحديد هو ما تبحثه البيولوجيا الكمومية بهدف بناء صورة فيزيائية متسقة.

قد تتضمن الآمال الكبيرة لبيولوجيا الكم مساهمة في تعريف وفهم الحياة، أو في فهم الدماغ والوعي. ومع ذلك، فإن هذه المشاكل قديمة قدم العلم نفسه، ومن الأفضل أن نسأل عما إذا كان علم الأحياء الكمومي يمكن أن يساهم في إطار قادر من خلاله على طرح هذه الأسئلة بطريقة تقبل الوصول إلى إجابات جديدة.

تعمل دراسة العمليات البيولوجية بكفاءة على الحدود بين عوالم الفيزياء الكمومية والفيزياء الكلاسيكية. ويعد علم الأحياء الكمومي باستحداث مبادئ تصميم لتقنيات النانو الكمومية مستوحاة بيولوجيًا، مع القدرة على الأداء بكفاءة على مستوى أساسي في البيئات الصاخبة في درجة حرارة الغرفة وحتى الاستفادة من هذه “البيئات الصاخبة” للحفاظ على أو حتى تعزيز الخصائص الكمومية [19 ، 20].

من خلال هندسة مثل هذه الأنظمة، قد نتمكن من اختبار وتحديد المدى الذي يمكن أن تؤدي إليه التأثيرات الكمية في تعزيز العمليات والوظائف الموجودة في علم الأحياء، والإجابة في النهاية عما إذا كانت هذه التأثيرات الكمية قد تطورت لتحقيق أهدافها في تصميم الأنظمة.

الأهم من ذلك هو أن التقنيات المستوحاة من الأحياء الكمومية يمكن أن تكون مفيدة جوهريًا بشكل مستقل عن الكائنات الحية التي ألهمتها، وقد تلهمنا وتفتح الباب أمام مستقبل بيولوجي مختلف تمامًا عما نعرفه اليوم.

اقرأ أيضًا: 10 معلومات يجب أن تعرفها عن ميكانيكا الكم

مصادر
1. F’orster T. 1946Energiewanderung und Fluoreszenz. Naturwissenschaften,6, 166-175. (doi:10.1007/BF00585226) Crossref, ISIGoogle Scholar

2. Marcus RA. 1956On the theory of oxidation-reduction reactions involving electron transfer. I. J. Chem. Phys.24, 966-978. (doi:10.1063/1.1742723) Crossref, ISIGoogle Scholar

3.Engel GS, Calhoun TR, Read EL, Ahn T-K, Mančal T, Cheng Y-C, Blankenship RE, Fleming GR. 2007Evidence for wavelike energy transfer through quantum coherence in photosynthetic systems. Nature446, 782-786. (doi:10.1038/nature05678) Crossref, PubMed, ISIGoogle Scholar

4. Bohr N. 1933Light and life. Nature131, 421-423. (doi:10.1038/131421a0) CrossrefGoogle Scholar

5. McKaughan DJ. 2005The influence of Niels Bohr on Max Delbrück. Isis96, 507-529. (doi:10.1086/498591) Crossref, PubMed, ISIGoogle Scholar

6. Jonas DM. 2003Two-dimensional femtosecond spectroscopy. Ann. Rev. Phys. Chem.54, 425-463. (doi:10.1146/annurev.physchem.54.011002.103907) Crossref, PubMed, ISIGoogle Scholar

7. Moerner WE, Shechtman Y, Wang Q. 2015Single-molecule spectroscopy and imaging over the decades. Faraday Discuss.184, 9-36. (doi:10.1039/C5FD00149H) Crossref, PubMed, ISIGoogle Scholar

8. Gruber JM, Malý P, Krüger TPJ, van Grondelle R. 2017From isolated light-harvesting complexes to the thylakoid membrane: a single-molecule perspective. Nanophotonics7, 81-92. (doi:10.1515/nanoph-2017-0014) Crossref, ISIGoogle Scholar

9. Kondo T, Chen WJ, Schlau-Cohen GS. 2017Single-molecule fluorescence spectroscopy of photosynthetic systems. Chem. Rev.117, 860-898. (doi:10.1021/acs.chemrev.6b00195) Crossref, PubMed, ISIGoogle Scholar

10. Liebel M, Toninelli C, van Hulst NF. 2018Room-temperature ultrafast nonlinear spectroscopy of a single molecule. Nat. Photonics12, 45-49. (doi:10.1038/s41566-017-0056-5) Crossref, ISIGoogle Scholar

11. Malý P, Gruber JM, Cogdel RJ, Mančal T, van Grondelle R. 2016Ultrafast energy relaxation in single light-harvesting complexes. Proc. Natl Acad. Sci. USA113, 2934-2939. (doi:10.1073/pnas.1522265113) Crossref, PubMed, ISIGoogle Scholar

12. Šrajer V, Schmidt M. 2017Watching proteins function with time-resolved x-ray crystallography. J. Phys. D: Appl. Phys.50, 373001. (doi:10.1088/1361-6463/aa7d32) Crossref, PubMed, ISIGoogle Scholar

13. Young Let al.2018Roadmap of ultrafast x-ray atomic and molecular physics. J. Phys. B: At. Mole. Opt. Phys.5, 032003. (doi:10.1088/1361-6455/aa9735) Crossref, ISIGoogle Scholar

14. Borst JW, Visser AJWG. 2010Fluorescence lifetime imaging microscopy in life sciences. Meas. Sci. Technol.21, 102002. (doi:10.1088/0957-0233/21/10/102002) Crossref, ISIGoogle Scholar

15. Tsuji Y, Yamamoto K, Yamauchi K, Sakai K. 2018Single-particle reconstruction of biological molecules—story in a sample (Nobel Lecture). Angew. Chem. Int. Ed.57, 2-18. (doi:10.1002/anie.201712504) Crossref, ISIGoogle Scholar

16. K’uhlbrandt W, Wang DN, Fujiyoshi Y. 1994Atomic model of plant light-harvesting complex by electron crystallography. Nature367, 614-621. (doi:10.1038/367614a0) Crossref, PubMed, ISIGoogle Scholar

17. Hell SWet al.2015The 2015 super-resolution microscopy roadmap. J. Phys. D: Appl. Phys.48, 443001. (doi:10.1088/0022-3727/48/44/443001) Crossref, ISIGoogle Scholar

18. Shashkova S, Leake MC. 2017Single-molecule fluorescence microscopy review: shedding new light on old problems. Biosci. Rep.37, BSR20170031. (doi:10.1042/BSR20170031) Crossref, PubMed, ISIGoogle Scholar

19. Mohseni M, Rebentrost P, Lloyd S, Aspuru-Guzik A. 2008Environment-assisted quantum walks in photosynthetic energy transfer. J. Chem. Phys.129, 174106. (doi:10.1063/1.3002335) Crossref, PubMed, ISIGoogle Scholar

20. Plenio M, Huelga S. 2008Dephasing-assisted transport: quantum networks and biomolecules. New J. Phys.10, 113019. (doi:10.1088/1367-2630/10/11/113019) Crossref, ISIGoogle Scholar

الإنسان الأخير .. كيف انقرض إنسان النياندرتال؟

إنها الشمس في أفق السماء، ترسل ما تبقى من أشعتها في نهاية هذا اليوم الحزين. في اللحظات العادية للبشرية، فإن هذا الأمر لا يعدو مشهدًا رومنسيًا جميلًا، أو على الأقل نهايةً عاديةً ليوم عادي. لكن، إذا كانت هذه اللحظة هي لحظة نهاية العالم، حرفيًا، ومجازيًا، فلا أعتقد أن الأمرَ سيكون مريحًا. يطل إنسان النياندرتال من فتحة كهفه على ذلك الغروب الكئيب للشمس. أمام عينيه، السماء، التي بدأت تتلون باللون الرمادي، وتنخر أذنيه نقاط المياه التي نخرت أيضًا طبقات الزمن. تصدر صوتًا اشبه بحازوقة الأطفال، لكن وللأسف، لم يعد هنالك أطفال، ولا أثر لإنسان أخر، قد يشارك هذا البائس غروبه الأخير. انقرض إنسان النياندرتال .

لكن وبعد ألاف السنين، عاد الصوت ليصدح من جديد في هذا الكهف القديم. صوت المعدات الأثرية لعلماء الأثار، وصوتٌ أخر لأغنية الإنسان الأخير.

أحد عشر سنًا

لم يرحل إنسان النياندرتال عن هذه الأرض بدون أن يخلف لنا شيئًا لنتذكره. بل شاءت الصدفة أيضًا أن يكون أثرًا ربما يدل على قاتله. إحدى عشر سنًا وجدوا سنة 1910 في كهف 《La Cotte de St. Brelade》 على جزيرة 《جرسي – Jersey》 قرب السواحل الشمالية الغربية لفرنسا. اعتبرت هذه الأسنان لفترة طويلة لعدة أفراد من النياندرتال. لكن دراسةً حديثة أجريت عليها أثبتت أنها تعود لنوع هجين من الإنسان. لنوع يتداخل فيه النياندرتال مع الإنسان العاقل في مرحلة عاش فيها النوعان معًا.

أظهرت الدراسة أن إثنين على الأقل من الأسنان المدروسة تحمل خصائص تعود للنياندرتال و للإنسان العاقل على حد السواء. الدراسة المنشورة في مجلة  Journal of Human Evolution  والتي قام بها باحثون من 《متحف التاريخ الطبيعي – Natural History Museum》 مع فريق من 《معهد الاثار -institute of archaeology》 وفريق من 《جامعة كنت- university of kent》 أكدت أن جذور الأسنان (Root) تشبه كثيرًا جذور أسنان النياندرتال، لكن 《العنق -Neck》 《والتاج- Crown》 في السن فهي تشبه أسنان الإنسان الحديث اليوم.

 استعمل الباحثون 《التصوير المقطعي المحوسب – Computed tomography 》كتقنية لمسح الأسنان من أجل دراستهم وهذه التقنية أدت إلى اظهار تفاصيل دقيقة لم تكن متاحة من قبل.

إن أهمية هذه الدراسة تكمن في أن عمر هذه الأسنان يعود لأقل من 48 ألف سنة. أي بذات الفترة التي عاش فيها الإنسان العاقل مع إنسان النياندرتال. هذه المرحلة الانتقالية كانت مجهولة سابقا وربما نكون الأن قد أزحنا الستار عن السبب الحقيقي لانقراض إنسان النياندرتال.

سنان للنياندرتال وجدوا في جزيرة جيرسي. الصورة لمتحف التاريخ الطبيعي.

أشباه البشر

إن هذا الكهف على جزيرة جيرسي قد سكن من 200 ألف سنة. وبالإضافة إلى الأسنان فقد كشفت الحفريات التي أجريت فيه في أوائل القرن العشرين عن 20 ألف أداة حجرية بالإضافة لعظام ماموث ووحيد القرن الصوفي. هذا الكهف كان بحجمه الكبير نادرًا جدًا وقد سكن لألاف السنين.

أما النياندرتال الذي ظهر من 400 ألف سنة تقريبًا فقد سكن هذا الكهف من 200 ألف سنة. وانتشر في منطقة كبيرة من أوروبا الغربية إلى سيبيريا. كان النياندرتاليون أقصر وجسمهم أضخم من جسم الإنسان العاقل. وهؤلاء البشر كانوا أقوى عضليًا من العقلاء وأدمغتهم أكبر وكانوا أكثر تكيفا مع المناخات الباردة. استخدموا النار والأدوات وكانوا صيادين جيدين ويبدوا أنهم اعتنوا بمرضاهم وعجزتهم. (اكتشف علماء الأثار عظاما لنياندرتال عاشوا عدة سنين مع إعاقات جسدية حادة مما يدل على أن أقاربهم كانوا يعتنون بهم.) كانت الفكرة السائدة عن أن النياندرتال كانوا سكان كهوف همجيين وأغبياء لكنها تغيرت اليوم.

التواصل بين الإنسان العاقل والنياندرتال قد حصل تقريبا من 45 ألف سنة. هذه المجتمعات التي وجدت خلال العصر الحجري القديم الأوسط هي دليل محتمل على أن الانقراض ربما ليس أفضل كلمة لوصف مصير إنسان النياندرتال.

نرشح لك أيضًا: كيف يمكن لإبهامٍ صغير أن يحمل حضارةً بأكملها؟

علاقة حميمية قاتلة

لم يصل الإنسان العاقل إلى أوروبا الا قبل 70 ألف سنة تقريبا. فقد انتقل أولًا إلى الجزيرة العربية ومنها إلى أوراسيا. وعندما وصل الإنسان العاقل إلى الجزيرة العربية كان معظم أوراسيا مستوطنًا حينها من قبل أنواع بشرية أخرى. وبالفعل مع استقرار الإنسان العاقل في مناطقه الجديدة بدأت أعداد هذه المجموعات البشرية الأصلية تتناقص حتى انقرضت نهائيا.

فما الذي حدث لهم؟

علميًا هنالك عدة نظريات لكن معظمها يدور حول نظريتين أساسيتين: 《نظرية التهجين – Interbreeding Theory》. والتي تخبرنا عن انجذاب وعلاقات جنسية وامتزاج بين الأنواع. وحسب هذه النظرية تزاوج المهاجرون الأفارقة الذين انتشروا حول العالم مع مجموعات بشرية أخرى وبشر اليوم هم نتاج هذا التهجين.

على سبيل المثال عندما وصل العقلاء الى أوروبا التقوا بالنياندرتال وعاشوا معًا لمدة 5000 سنة قبل أن يختفي الأخير. وفقًا لنظرية التهجين عندما انتشر العقلاء في أراضي مجموعة النياندرتال فإن المجموعتين تزاوجتا معًا حتى اندمجتا. فإذا كان هذا هو ما حدث فإن الأوراسيين اليوم ليسوا عقلاء أنقياء فهم خليط من العقلاء والنياندرتال.

تسرد النظرية المضادة والتي تسمى《 نظرية الإحلال Replacement- Theory》 قصة مختلفة محورها الإختلاف والنفور وربما الإبادة الجماعية. وفقًا لهذه النظرية فإن العقلاء وبقية الأنواع البشرية كانت لديهم اختلافات تشريحية وعادات تزاوج مختلفة بل وحتى روائح أجسام مختلفة. وإن الاهتمام الجنسي لأحد النوعين بالأخر كان ضعيفًا. فحتى لو وقع روميو نياندرتال في حب جوليت الإنسان العاقل فلن يمكنهما إنجاب أبناء يتمتعون بالخصوبة. فالفجوة الجينية الفاصلة بين المجموعتين لا يمكن تجاوزها اصلًا.

 بقت المجموعتان متمايزتان تمامًا. وعندما مات النياندرتال أو قُتل ماتت جيناته معه. فوفقًا لهذا الرأي فان العقلاء حلوا محل كل المجموعات البشرية السابقة دون أن يندمجوا معًا. فإذا كان هذا ما حدث فإن أنساب جميع البشر المعاصرين يمكن ارجاعها حصريا إلى شرق أفريقيا قبل 70 ألف سنة. إن كل واحد منا اليوم هو عاقل نقي.

لكن وعلى العكس فإذا كانت نظرية التهجين صحيحة فستكون هناك اختلافات جينية بين الأفارقة والأوروبيين والأسيويين تعود لمئات ألاف السنين.

خريطة توضح مناطق بعض الأنواع البشرية وإنتشار الإنسان العاقل (مواقع التواصل)

البقاء للأصلح

كانت نظرية الإحلال هي الرائجة سابقًا وقد سندتها أدلة أثرية وكانت أصح من الناحية السياسية. لكن ذلك انتهى عام 2010 عندما نشرت نتائج جهود أربع سنوات لتحديد جينوم النياندرتال.

كانت الجهود كلها مركزة لعقد مقارنة بين جينوم النياندرتال وجينوم الإنسان الحديث. حيث اتضح أنه ما بين 1-4 بالمئة من جينوم البشر المميز للمجموعات المعاصرة في الشرق الأوسط وأوروبا هو جينوم نياندرتال. أيضًا بعدها بعدة أشهر عثر على أحفورة عظمة إصبع تعود إلى فرد من نوع دينوسوفا. أظهرت أن نسبة 6 % من جينوم سكان أستراليا الأصليين المعاصرين هو جينوم دينوسوفا.

لكن بما أن النسبة هذه قليلة، صعب الحديث عن اندماج تام بين الأنواع. يبدو أنه من 50 ألف سنة كان العقلاء والنياندرتال والدينوسوفا قادرين على التزاوج وإنتاج ذرية. يمكن أن نفكر الأن في أننا كبشر عقلاء عاشرنا نوعًا مختلفًا وأنجبنا منه أولاد!

يمكن للدراسة المنشورة حديثًا في مجلة تطور الإنسان أن تكون من أبرز الأدلة التي تدعم نظرية التهجين. فهي قد سلطت الضوء على المرحلة الانتقالية التي تزاوج فيها النياندرتال مع الإنسان العاقل. وامتص فيها الإنسان العاقل جينات النياندرتال ومع مرور الوقت لم يعد هنالك وجود للنياندرتال. 

لكن هل يوجد تفسير أخر؟

إن التفسير الآخر الوحيد لظهور هذا النوع الجديد المهجن من الإنسان هو أن هذه المجموعة قد طورت في بيئة مغلقة مزيجا غير عادي من السمات بمعزل عن غيرها. لكن في هذا الوقت في العصر الجليدي الأخير وبسبب انخفاض مستوى سطح البحر، كانت جيرسي مرتبطة بالتأكيد بفرنسا المجاورة. لذا فإن مستوى العزلة طويل الأمد أمر غير مرجح.

لا تزال الصورة غير واضحة كليًا سيعمل الفريق الآن على تحليل DNA لعظام هذا النوع الهجين من أجل تأكيد وجود هذه المرحلة الانتقالية. عندها ستميل الكفة إلى الفرضية القائلة بأن الإنسان العاقل استطاع أن يمتص جينات النياندرتال ويدفع به إلى الانقراض.

عاش الإنسان العاقل خلال العشرة ألاف سنة الماضية وهو يألف كثيرًا أنه النوع البشري الوحيد لدرجة أنه من الصعب علينا تصور احتمال أخر. سهل عدم وجود إخوة وأخوات لنا أن نعتبر أنفسنا صفوة الخلق، لكن ماذا لو بقي النياندرتال والدينوسوفا جنبًا إلى جنب مع الإنسان العاقل؟ أي نوع من المجتمعات والسياسات والبنى الثقافية كانت ستنشأ؟ للأسف لن نجد الجواب فهذه الأنواع قد انقرضت للأبد.

*ملاحظة: استعان الكاتب إلى جانب البحث المنشور في مجلة Journal of Human Evolution بكتاب العاقل تاريخ مختصر للجنس البشري للكاتب يوفال نوح هَراري وبكتاب أقارب Kindred للعالمة ريبيكا راغ سايكس.

المصادر:

كيف يمكن لإبهامٍ صغير أن يحمل حضارةً بأكملها؟

كم مرة في اليوم نحمل القلم لنكتب أو نفرقع اصابعنا للفت الانتباه؟ نمسك هاتفنا الذكي لنتصفح بعض المواقع، أو حتى نفتح كيسًا من البطاطس المقرمشة للتسلية؟ كم من مرة نستخدم أصابع أيدينا لنمسك او نصنع الأشياء؟ يقولون إننا لا نعرف قيمة الأشياء إلا بعد أن نفقدها. لكن في بعض الأحيان تكون هذه الأشياء هي من أعطت قيمة لحضارتنا بأكملها. تطور الإبهام عند البشر منذ ما يقارب مليوني سنة وبعدها غير التاريخ البشري بدون رجعة. فكيف يمكن لإبهامٍ صغير أن يحمل حضارةً بأكملها؟

الإبهام في أيدينا وعلى الرغم من صغر حجمه (مقارنةً بباقي الجسد) ارتكزت عليه حضارتنا الإنسانية بأكملها. هذه المعجزة التطورية سمحت لأسلافنا الأوائل بصناعة الأدوات وزيادة خيارات غذائهم. تقترح دراسة حديثة منشورة في مجلة Current Biology أن الإبهام كما نعرفه اليوم ربما يكون قد ظهر من حوالي مليوني سنة. وفي الغالب قد ظهر مع جنس الإنسان.

مهارة يدوية قديمة

منذ مليوني سنة كان البشر الأوائل يعيشون في شرق أفريقيا. كان يمكن أن نجد بعض الشخصيات التي تشبه الشخصيات البشرية اليوم، عدة أطفال يلعبون بالطين، وبعض الشباب المشغولين في بعض الأعمال، وعدة عجائز كانوا قد شاهدوا هذا كله.  لعب هؤلاء البشر وكونوا صداقات وعملوا وتنافسوا عل السلطة. لكن هذا أيضا ما فعلته حيوانات أخرى كالشنابز والفيلة.. لم يكن هنالك ما يميز البشر بل كانوا حيوانات عديمة الأهمية لا يتجاوز تأثيرهم على بيئتهم تأثير الغوريلات أو قنادل البحر.

تمتلك العديد من الرئيسيات إصبع الابهام لكن القليل منها يشبه إبهام الإنسان. فإبهام الإنسان مواجه ومناسب بشكل دقيق لكف اليد مما يسمح له بالقيام بالعديد من الأعمال الدقيقة. ويرى العلماء أنه من أهم هذه الأعمال التي ساعد فيها الإبهام البشر الأوائل كانت صناعة الأدوات.

تشير 《كاتارينا هارفاتي – Katerina Havarti》  المشاركة في الدراسة، أن المهارة اليدوية المرتبطة مباشرة بصناعة الأدوات كانت تحددها الأبحاث سابقًا فقط من خلال المقارنة التشريحية لعظام يدي الإنسان المعاصر مع أحافير متحجرة لأيدي بشر قدماء. ومدى التشابه بين العظام كان يحدد قدرة البشر القدماء في صنع الأدوات. هذه المهارة اليدوية والتي ربطت سابقًا بتطور يد الإنسان كانت تؤرخ لحوالي 2.5 مليون سنة.

كانت الأبحاث في السابق تنظر إلى 《الأسترالوبثقس – Australopithecus》 بأنهم يمتلكون إبهاما متطورًا بسبب قدرتهم على صنع بعض الأدوات. والأسترالوبثقس ربما كانوا السلف المباشر الذي تطور منه الإنسان.

تذكير

تطور البشر لأول مرة في شرق أفريقيا منذ حوالي 2.8 مليون سنة من جنس أسترالوبثقس والتي تعني الإنسان الجنوبي. وقبل حوالي مليوني سنة ترك بعض هؤلاء الرجال والنساء موطنهم ورحلوا إلى المناطق الشاسعة في شمال أفريقيا وأوروبا وآسيا واستوطنوها. ولأن البقاء في الغابات الثلجية في شمال أوروبا تطلب سمات تختلف عن تلك المطلوبة للبقاء في أدغال أندونيسيا الحارة، فإن المجموعات البشرية تطورت في اتجاهات مختلفة.

في أوروبا وغرب آسيا تطور البشر إلى نوعان: Homo Neanderthalensis والمعروف شعبيًا بالنياندرتال وهو أضخم من الإنسان العاقل وله عضلات أكبر تمكن من التكيف مع مناخ العصر الجليدي البارد. أما في شرق آسيا فسكن نوع بشري يدعى 《الإنسان المنتصب- Homo Erectus》 وبقي هنالك لمدة مليوني سنة. في المناطق الاستوائية عاش 《إنسان سولو- Homo Soloensis》. وبقي البشر يتطورون في شرق أفريقيا أيضًا، وصولًا إلى 300 ألف سنة من يومنا حيث ظهر 《الإنسان العاقل- Homo Sapiens》.

 ميزة تطورية

بالعودة إلى الدراسة فإن المهارة اليدوية لجميع أنواع الإنسان الذي سكن العالم القديم وصولًا لنوعنا اليوم كانت أكثر تطورًا من باقي أنواع الرئيسيات مثل الشمبانزي. فقد اعتمدت هذه المهارة على حركة إبهام فعالة ودقيقة مكنت الإنسان من صناعة واستخدام أدوات أكثر تعقيدًا.

من أجل التوصل إلى هذه النتيجة درس الباحثون أيادٍ بشرية حديثة مع أيادٍ لشمبانزي وعدد كبير من أحافير نوع الإنسان منهم هومو نياندرتالينسيس وهومو ناليدي وثلاث أنواع من الأسترالوبثقس وقد اعتمد الباحثون على عنصرين لتحليل هذه العظام هما تشريح عظام الكف والأنسجة الهشة.

صورة تبين شكل العضلات المستعملة لاحتساب فعالية حركة الإبهام
Image: Katerina Harvati, Alexandros Karakostis, Daniel Haeufle

ولأن العضلات تتحلل في الأحافير بشكل طبيعي، فقد ركز الباحثون مجهودهم على تحديد المكان الذي كان مهيئ لها على سطح الطبقة العظمية. هذه العضلة كانت مسؤولة عن حركة الإبهام. وقد تم احتساب نسبة المهارة اليدوية التي امتلكها كل نوع عبر المقارنة التشريحية لعظام اليد بالإضافة إلى انشاء تمثيل افتراضي ثلاثي الأبعاد لليد البشرية .

بينت النتائج أن جميع أنواع الجنس البشري ومن مليوني سنة قد أظهروا تطور بحركة الإبهام بشكل فعال. وهذا الأمر يدل على الأهمية العظيمة لهذه الميزة التطورية في التطور الثقافي الحيوي لجنسنا. فقد ظهرت هذه الميزة في ذات الفترة تقريبًا التي ازداد فيها مستوى صنع واستعمال الأدوات الحجرية في أفريقيا. وفي ذات الفترة التي تميزت بزيادة مستوى التعقيد الثقافي في العالم القديم. ومع أن نوع 《الهومو ناليدي- Homo naledi》 الذي كان يعيش في ذات الفترة تقريبًا في جنوب أفريقيا امتلك دماغًا صغيرًا نسبيًا إلا أن هذه الميزة التطورية قد وجدت في أحافير تعود له أيضًا.

نرشح لك أيضا: الفينيقيون الجدد .. كيف ترسم السياسة حدود الحضارات؟

ثقافة مبنية على حركة إصبع

هذا التطور في صناعة واستعمال الأدوات الحجرية أدى إلى استغلال متزايد وتدريجي للموارد الغذائية الحيوانية. فقد تمكن الإنسان عبر أدوات أفضل من صيد حيوانات أضخم ومن محاربة الحيوانات الأشرس. وبعد أن كان الإنسان ينتظر دوره ليأكل ما تبقى من الفريسة بعد الأسود والضباع أصبح على رأس الطابور. فقد ظهر الإنسان المنتصب وهو من اشباه البشر ذوي الأدمغة الكبيرة والأجساد الضخمة وقد سكن في أفريقيا وأوراسيا.

بالطبع لم يكن من الممكن أن تبنى هذه الثقافة على حركة الإبهام فقط. فهي كانت بحاجة لتفكير أكبر ولحجم دماغ يساعد على ذلك. وهذا ما حصل بعد أن ازدادت الخيارات الغذائية للإنسان عبر تناول لحوم أكثر.

بعد هذا البحث يسعى الفريق اليوم للنظرعن كثب إلى مجموعات أخرى محددة منها النياندرتال. ليرسم صورة أكبر لمدى تطور المهارة اليدوية للبشر القدماء. ومدى اختلاف مهارتهم عن المهارة التي نمتلكها اليوم. ويأمل الفريق أن التحقيقات الأبعد ستظهر نتائج جديدة لانتشار الاستعمال المنظم للأدوات بين اقاربنا القدماء. أما أنت وفي المرة القادمة التي تمسك فيها هاتفك لتصفح موقع الأكاديمية أو لطلب ديلفري للغداء تذكر أن إبهامك قد ساعدك على ذلك.

ملاحظة:

استعان الكاتب الى جانب البحث المنشور في مجلة  Current Biology  عل كتاب “العاقل تاريخ مختصر للنوع البشري” للكاتب يوفال نوح هراري.

المصادر

  1. الدراسة المنشورة في مجلة Current Biology
Exit mobile version