كيف يفسّر العلم نظريات المؤامرة؟

مع انتشار فيروس الكوفيد 19 منذ حوالى السنة، ومع اكتشاف عدد من اللقاحات المضادة له في الأشهر الأخيرة، انتشرت بشكل كبير نظريات المؤامرة حول نشر الفيروس من قبل سلطات معينة تارةً وزرع شريحة من خلال اللقاح تارةً أخرى، وغيرها العديد من النظريات. ولكن نظريات المؤامرة ليست جديدة، فهي واكبت البشر في الكثير من الأحداث الضخمة سابقًا، لكن وسائل الإعلام والتواصل الحديثة تساهم في انتشارها أكثر من ذي قبل. فكيف يفسّر العلم نظريات المؤامرة؟ وما هي الأسباب النفسية والاجتماعية التي تدفع البعض إلى الإيمان بها؟

ما هي نظرية المؤامرة؟

يمكن تعريف نظرية المؤامرة بمحاولة لتفسير أحداث معينة على أنها مقصودة ومُنفذة من قبل أفراد أو مجموعات لغايات خبيثة أو مؤذية، والاقتناع بها بدلًا من الرواية الرسمية أو العلمية. بل في بعض الحالات، تُستخدم هذه الرواية لإثبات النظرية المزعومة.

وبحسب دراسة نُشرت عام 2018 في “SAGE journals”، تتضمن إجمالًا نظريات المؤامرة خمسة عناصر على الأقل. أولًا، تفسر هذه النظريات علاقات تشابك بين عناصر مختلفة من أشخاص أو مجموعات أحداث أو مواضيع، أي أنها تتضمن نمطًا معينًا (Pattern) لتفسير هذه العلاقات. ثانيًا، تعتبر نظريات المؤامرة (كما يعبّر اسمها) أن الحدث المُنفّذ هو حدث مقصود. ثالثًا، هي تشمل مجموعة أو ائتلافًا من المتورطين، أي أنها لا تنسب تنفيذ الفعل إلى فرد بل إلى مجموعة. رابعًا، تنطوي نظرية المؤامرة على عامل الأذى والتهديد. وخامسًا، تتضمن عامل السريّة، مما  يُصعِّب مهمة نفيها.   

كيف يفسر العلم انتشار نظريات المؤامرة؟

كتب المؤرخ الأميركي «هوفتاتشر – Hofsdadter» في العام 1966 عن بارانويا السياسة الأميركية في كتابه “The Paranoid Style in American Politics” عن ظاهرة نظريات المؤامرة، واعتبره مرتبطًا بشكل أساسي بالسياسة. كما قارنها بالحالة العيادية النفسية حيث يتوهّم المريض أن أحدًا يتربّص به ليأذيه. وقد أثّر هذا الكتاب على التفسيرات التي تبعته عن نظريات المؤامرة، فاعتبرها العديد من علماء النفس أنها نتيجة مباشرة للأمراض النفسية، كوهم الارتياب (Paranoia) والفصام والنرجسية. لكن هذا التفسير لا يكفي نظرًا لانتشار نظرات المؤامرة بين أعداد كبيرة من الناس، في مختلف الدول ومن مختلف الأعمار. لذلك فتش العلماء عن العديد من الأسباب النفسية والاجتماعية والسياسية لتفسير الانتشار الواسع لنظريات المؤامرة حول العالم.

ضعف التفكير النقدي والتحليلي:

تبين الدراسات أن نظريات المؤامرة تكون أكثر انتشارًا في صفوف الأفراد الأقل تعليمًا، وذلك بسبب ضعف التفكير النقدي (Critical thinking) الذي يشكل حماية من نظريات المؤامرة والأخبار الكاذبة. ولكن لا بد من الإشارة إلى أن المستوى الأكاديمي لا يشير بالضرورة إلى مستوى التفكير النقدي، لأنه مرتبط أيضًا بالنظام التعليمي ونوعيته.

التفتيش عن الشعور بالسيطرة:

أشار هوفتاتشر إلى أن نظريات المؤامرة تنتشر بشكل أكبر بين الفئات الأضعف. وقد أكّد بعده علماء النفس أنها تنتشر في الفترات الأقل استقرارًا أي في مواجهة الكوارث الطبيعية والأحداث الأمنية والأزمات المالية والأوبئة. فبحسب عالم الاجتماع «تيد غورتزيل – Ted Goertzel»، يلجأ الناس إلى نظرية المؤامرة عندما يفقدون أدوات مواجهة حدث معين، فتعوّض عندهم شعور العجز بشعور أكبر بالسيطرة. في المقابل، يعتبر عالم النفس الاجتماعي الهولندي جان-ويليام فان بروجين أن الشعور بالسيطرة يعزز الحماية من الإيمان بنظريات المؤامرة.

كما تُشير دراسات أخرى أن انتشار نظريات المؤامرة مرتبط بشكل وثيق بفقدان الأمن السياسي-الاجتماعي.

يفتش الأفراد في هذه الحالة عن شعور بالسيطرة، لكن الواقع أن ضحايا نظريات المؤامرة يصبحون أقل قدرة على الفعالية والمواجهة، فقد بينت البروفيسورة الأميركية في علم الاجتماع «كارن دوجلاس – Karen Douglas» أن الأشخاص الذين يميلون إلى تصديق نظريات المؤامرة يكونون أقل مشاركةً في العمليات السياسية (كالانتخابات مثلًا) والانتظام في مجموعات، لأنهم يكونون أقل إيمانًا بالقدرة على التأثير والتغيير.

الدوافع الاجتماعية:

قد تكون الدوافع الاجتماعية جزءاً أساسيًا من اللجوء إلى نظريات المؤامرة، التي غالبًا ما تكون أكثر تفشيًا عند المجموعات المغلوبة أو الضعيفة (مثلًا عند مؤيدي الحزب الخاسر في انتخابات معينة) وعند المجموعات التي تعاني من النبذ أو التمييز لأسباب عنصرية أو إثنية أو طبقية. فيكون الإيمان بنظريات المؤامرة في هذه الحالة يشكل تعويضًا نفسيًا جماعيًا عند الفئة الضعيفة، وهروبًا من الشعور بالذنب الجماعي (بسبب الوضعية الضعيفة للجماعة).

كما أن الدراسات النفسية الاجتماعية تربط بين نظريات المؤامرة والنرجسية الجماعية وهي الشعور بالفخر بالانتماء لجماعة معينة، والشعور بأن هذه الجماعة غير مُقدّرة بشكل كافي من قِبل جماعات أخرى.

الأسباب التطورية:

قدّم علم نفس التطور تفسيرات متعددة لنظريات المؤامرة، واعتبرها نتيجة ثانوية لسمات تكييفية اكتسبها البشر خلال تطورهم، سنذكرها فيما يلي.

السمة الأولى هي القدرة على تمييز الأنماط (Pattern perception)، فنحن البشر نعتمد الأنماط، أي الربط بين عناصر مختلفة، كوسيلة لتعلم وفهم كل ما حولنا. وقد ورثنا هذه القدرة من أسلافنا، الذين تمكنوا من اكتساب الأنماط، وربط الأسباب بالنتائج، من أجل إدراك المخاطر وتجنبها.

لكن هذه السمة، على الرغم من أهميتها، قد توقعنا بالخطأ، وقد تدفعنا إلى خلق روابط وهمية بين عناصر غير مترابطة بالضرورة. فنميل مثلًا إلى نسب مشاعر بشرية للحيوانات أو الآلات أو غيرها، أو نميل إلى خلق أسباب تآمرية لنتائج معينة.

السمة الثانية هي كشف النية (Agency detection)، وهي القدرة التكيفية التي تجعلنا قادرين على فهم نية الأعمال، سواءً كانت جيدة أو سيئة. وتعد هذه السمة مهمة جدًا للبشر إذ مكنتهم من التعاطف والتعاون وتجنب المخاطر. ولكن المبالغة بنظام كشف النوايا قد يجعلنا مشككين بقوة، مما يخلق المجال لنظريات المؤامرة.

أما السمة التطورية الثالثة المسؤولة عن نظريات المؤامرة فهي إدراك ومعالجة الخطر والتهديد (Threat management). فقد عاش أسلافنا في محيط محفوف بالمخاطر، مما سمح بتطوير نظام عقلي يسمح بتوقعها وبالتالي تجنبها. وقد يكون خلق أو تبني نظرية المؤامرة نتيجة لنظام كشف التهديد، مما يخلق شعورًا بالأمان عند البشر.

ختامًا، مازالت الدراسات غير وافية لشرح وتفكيك نظريات المؤامرة، نظرًا لحجم انتشارها في العالم. كما أننا بحاجة ملحة لدراسات حول نتائجها على ضحاياها. ولكن الأكيد أن مواجهة نظريات المؤامرة ممكن من خلال إعلاء صوت العلم والحقيقة على أي صوت آخر.

المصادر:

PubMed

SAGE Journals

Britannica.com

The British psychological society

تجربة ميلغرام : لماذا يرتكب الأشخاص الصالحون أفعالًا شنيعة؟

هذه المقالة هي الجزء 16 من 21 في سلسلة مقدمة في علم النفس

تجربة ميلغرام : لماذا يرتكب الأشخاص الصالحون أفعالًا شنيعة؟ وقعت العديد من الأحداث الشنيعة أثناء الحرب العالمية الثانية (1939-1945) ولعل أبرزها المحرقة الجماعية (الهولوكوست) لليهود على يد النازيين في معسكرات الإبادة. بعد انتهاء الحرب العالمية وإعلان هزيمة الحزب النازي وانتحار هتلر، عُقدت محاكمة نورمبرغ لمحاكمة مجرمي الحرب وقادة الحزب ومرتكبي الإبادة الجماعية. حاول هؤلاء الدفاع عن أنفسهم وساقوا عددًا من المبررات ولعل أكثرها إثارة للاهتمام هو الإدعاء أنهم كانوا يطيعون أوامر السلطة وحسب. لك أن تتخيل مدى برودة هذا الإدعاء واستفزازه لمشاعر الضحايا أو ذويهم أو حتى عالِم نفس فضولي!

دراسة ميلغرام

قرر ستانلي ميلجرام عالم النفس في جامعة يال التحقق من إدعاء الألمان بشأن السلطة، فقام بدراسة للإجابة عن السؤال أيهما ينتصر: الطاعة/ الخضوع للسلطة أم الإرادة/ الضمير البشري؟

https://www.youtube.com/watch?v=mOUEC5YXV8U
مقطع مختصر لتجربة ميلغرام

أُجريت الدراسة عام 1961 في جامعة يال، حيث نشر ميلجرام إعلانًا في الجريدة يطلب متطوعين من الرجال للمشاركة في تجربة عن الذاكرة والتعلم. تقدم أربعين مشاركًا ما بين عمر العشرين والخمسين، جُمع كل واحد منهم مع أحد الحلفاء (ممثل يوظفه القائم بالتجربة يدعي أنه مشارك حقيقي) وقاموا بسحب ما. رتب ميلجرام السحب بحيث يحصل المشارك على دور المعلم والممثل على دور المتعلم دائمًا. من الجدير بالذكر أن ميلجرام لم يظهر في مكان التجربة وإنما عين ممثلًا يرتدي معطفًا أبيضًا ليقوم بدوره. يشرح هذا الممثل للمشارك أن عليه طرح الأسئلة على المتعلم وإذا جاءت إجاباته خاطئة يصعقه كهربيًا، بحيث تزداد شدة التيار عند كل إجابة خاطئة، بداية من 15 فولت وانتهاءًا بـ 450 فولت.

هدف التجربة وخطواتها

هدِف ميلجرام من هذه التجربة معرفة مدى تأثير السلطة على الأشخاص العاديين، وتحت أي ظروف يمكن لهؤلاء الأشخاص ارتكاب أفعال سيئة.

تجري خطوات التجربة كما يلي: يذهب الممثل (المتعلم) إلى غرفة أخرى وتُثبت الإلكترودات بذراعه بينما يحصل المشارك الحقيقي (المعلم) على قائمة بالأسئلة. يبدأ المشارك بقراءة الكلمات ويجيب الممثل دائمًا إجابات خاطئة ثم يدعي التألم والصراخ حينما يضغط المشارك على زر الصعق. يزداد توتر المشاركين بمرور الوقت لسماعهم تألم الشخص في الجانب الآخر، وعندما يعترض أحدهم أو يطالب بالتوقف يستخدم الممثل بالمعطف الأبيض نبرة واثقة ويوضح لهم وجوب استمرار التجربة وأنه يتحمل المسئولية كاملة.

نتائج التجربة

قبل بداية التجربة سأل ميلجرام عددًا من الأشخاص وعلماء النفس عن توقعاتهم لنسبة الأشخاص الذين سيصلون إلى أقصى شدة للصعق الكهربي (450 فولت) وجاءت توقعاتهم أن النسبة لن تتعدى 2%. أثبتت النتائج الفعلية عكس ذلك تمامًا، حيث أشارت الدراسة أن 65% من المشاركين وصلوا إلى الحد الأقصى (450 فولت) و 100% من المشاركين تخطوا حاجز 300 فولت وذلك رغم سماعهم صراخ وتألم الشخص على الجانب الآخر.

يقول ميلغرام:

“على الرغم من أهمية الجوانب الأخلاقية والقانونية لمفهوم الطاعة إلا أنها تخبرنا القليل عن سلوك الأشخاص في المواقف الحقيقية. لقد أعددت تجربة بسيطة في جامعة يال لأختبر قدر الألم الذي يسببه شخص إلى آخر فقط لأن عالم بمعطف أبيض أمره بذلك. عندما حرضت السلطة الحازمة المشاركين ضد الوازع الأخلاقي القوي وهو عدم إيذاء الآخرين، وبالرغم من أن صرخات الألم كانت تملأ آذانهم، انتصرت السلطة دائمًا”

الوصفة المثالية للجريمة!

أعاد ميلجرام التجربة ثماني عشرة مرة بتعديلات مختلفة ليختبر العوامل التي تؤدي إلى هذه النتائج، وجاءت ملاحظاته كالتالي:

تقل نسبة الأشخاص الذين يصلون إلى الحد الأقصى للصدمة الكهربية (450 فولت) في عدد من الحالات:

  • عند نزع سلطة جامعة يال من المعادلة، والقيام بالتجربة خارج الجامعة.
  • عندما يكون المعلم والمتعلم في غرفة واحدة بحيث يمكن للمشارك أن يراه ويلمسه.
  • عندما يتلقى المشارك التعليمات هاتفيًا.
  • عندما يتلقى المشارك التعليمات من شخص عادي لا يرتدى المعطف الأبيض.
  • عندما يثور أحدهم ويرفض استكمال التجربة فيتبعه المشاركين الآخرين.
  • عند منح المشاركين اختيار مستوى الصدمة الكهربية، فيختارون الأقل دائمًا.

وبجمع هذه العوامل معًا توصل ميلجرام إلى الوصفة المثالية لجعل شخص ما يرتكب جرمًا شنيعًا:

  1. السلطة (سلطة جامعة يال- سلطة العلم والمعطف الأبيض)
  2. ثقة وثبات القائم بالتجربة (لو أظهر القائم بالتجربة توتره أو خوفه لاختلفت النتيجة)
  3. المسافة بين المعلم والمتعلم.
  4. موقف جديد بلا أي خبرة سابقة عن كيفية التصرف معه.

تجربة ميلغرام : لماذا يرتكب الأشخاص الصالحون أفعالًا شنيعة؟

القوى المحركة للشر

الآن كيف يمكن لعناصر هذه الوصفة المثالية أن تدفعنا إلى فعل جرم شنيع؟ ما الذي يحدث على مستوى سيكولوجي فردي يقلل من فداحة الشر ويُسهل ارتكابه؟

هناك اثنان من العوامل الرئيسية التي يمكن وصفها بقوى الشر، أولها:

«تجريد الشخص من فردانيته-Deindividuation of self»

ويحدث ذلك بعدد من الوسائل التي تقلل من شعور المرء بنفسه كفرد مستقل وبالتالي تقلل من شعوره بالمسئولية: –

  • استقبال الأوامر من شخص أو سلطة أخرى.

وبالتالي تتغير عقلية الفرد من: أنا أرتكب فعلًا خاطئًا، إلى: أنا فقط مجرد أداة في يد سلطة أخرى تتحمل المسئولية. يعد تحمل المسئولية بالتحديد أحد العوامل المحورية التي فسر بها ميلجرام نتائج دراسته. فأشار أنه عند تواجد سلطة يراها المشاركون قانونية أو أخلاقية (مثل سلطة العلم) يتحول الشخص في تصرفاته من الحالة الفردية إلى «الحالة العاملية-Agentic State» فيقل شعوره بالمسئولية ويسهل ارتكاب الخطأ.

  • وجود الشخص في مجموعة.

عندما يتواجد الفرد في مجموعة يقل شعوره بفرديته ومسئوليته عن أفعاله. وأشهر الأمثلة التي يبرهن بها علم النفس ذلك: «حادثة كيتي چينوفيز-Kitty Genovese Case»

كيتي جينوفيز فتاة في الثامنة والعشرين من عمرها. تعرضت لاعتداء أثناء عودتها من العمل أدى إلى وفاتها، حدث الاعتداء في مساحة مفتوحة أمام المبنى الذي تسكنه. وأشار تقرير جريدة نيويورك تايمز أن ما يقرب من 38 شخصًا شهد الحادث ولم يبلغ الشرطة أو يقدم المساعدة. (من الجدير بالذكر أن الجريدة أصدرت تقريرًا آخرًا عام 2016 تعتذر عن التقرير القديم وتصف أرقامه بالمبالغ فيها، كما تؤكد تواجد بعض الأشخاص وتقديمهم المساعدة وقت الحادث بالفعل)

فسر علم النفس هذه الظاهرة فيما يعرف بـ «تأثير المارة-Bystander Effect» وهو انخفاض الشعور بالمسئولية عند التواجد في مجموعة، مثلما تشاهد محتاجًا في الشارع، فتحدث نفسك أنني لست مضطرًا لتقديم المساعدة، من المؤكد أن شخصًا آخرًا سيقدمها. ويوضح علماء النفس أن هذا التفكير يخلق حالة من «تفرق الشعور بالمسئولية-Diffusion of responsibility» فتقل احتمالية تقديم المساعدة.

  • إغفال الهوية

مثلما يفعل الجنود في الحروب فيرسمون على وجوههم أو يرتدون الأقنعة، تعد هذه الوسائل نوعًا من إخفاء الهوية، فيتحرر صاحبها من شعوره بفرديته (لست أنا من يرتكب الفعل السيء) وبالتالي يقل شعوره بالمسئولية.

القوة الثانية: استصغار الآخرين

على عكس الدافع الأول، يعتمد هذا الدافع على تجريد الآخر من فرديته. فهذا الشخص الآخر ليس شخصًا بعد الآن، ولن أشعر بالذنب إن آذيته. وهناك عدد من الوسائل التي تجعلنا نستصغر الآخرين أو ننسى أنهم بشر مثلنا. وهي: –

  • المسافة

كما وضحت تجربة ميلجرام، كلما ابتعدت الضحية عن ناظر المعلم فلا يستطيع رؤيته أو لمسه، يقل إدراكه له كفرد. وبالتالي تقل المسئولية فيصل إلى الحد الأقصى للصدمة الكهربية رغم سماعه صرخات الألم. وتنعكس النتائج عندما يكون الشخصان في نفس المكان.

  • حس الدعابة

لا يقتصر حس الدعابة على الضحك والخفة فقط، بل يمكن أن ينطوى على جوانب أكثر قتامة وخطرًا. فعند استخدامه للسخرية من شخص ما، ستراه تدريجيًا أقل إنسانية منك، مما يزيد من احتمالية الأذى ونقص الشعور بالمسئولية.

  • تجاهل الأسماء

ينص أحد بنود تصريح الأمم المتحدة لحقوق الإنسان: ” كل فرد لديه الحق في اسم ” وربما تظن أن هذا أمر بديهي. لماذا نحتاج إلى بند لتأكيده؟ والحقيقة أن تجاهل اسم شخص ما أو محوه يقلل من أهميته وقيمته كفرد. يقل احتمال أذاك لشخص ما إن كنت تعرف اسمه، أما عند تجاهله تزداد احتمالية الأذى ويقل الشعور بالمسئولية.

  • التقزز

التقزز شعور عالمي يشعر به جميع البشر، وأساسي له تعبير وجهي مميز. تثير العديد من الأشياء شعورنا بالتقزز مثل البراز أو البول أو الدم أو القيء أو اللحم المتعفن. يمكن أن يمتد شعور التقزز للبشر أيضًا. إذا شعرت بالتقزز تجاه شخص ستقل أهميته وإنسانيته في نظرك، وتزداد احتمالية عدوانك عليه دون شعور كبير بالمسئولية.

تشير مقولة الفيلسوفة مارثا نوسباوم:

“دائمًا ما ارتبطت صفات التقزز باليهود والنساء والمثليين جنسيًا والمنبوذين والفقراء على مدار التاريخ، فكان يُنظر إليهم كأنهم أصحاب أجسام مدنسة”

كل شخص ينتمي لهذه الفئات تعرض لنوع من الاعتداء أو الأذى، وساهم شعور التقزز الذي حمله الناس تجاه هذه الفئات في تقليل إنسانيتهم في نظرهم، وبالتالي تسهيل الاعتداء عليهم دون احساس كبير بالمسئولية.

تجربة ميلغرام : لماذا يرتكب الأشخاص الصالحون أفعالًا شنيعة؟

أود أن أنهي الحديث بأشهر الانتقادات التي وجهت لتجربة ميلجرام. يجدر بالذكر أن هذا النوع من التجارب لا يسمح بتكراره حاليًا ولا يعد أخلاقيًا. فلم يكن من حق القائم بالتجربة تحت أي ظرف من الظروف أن يضع المشاركين تحت هذا الضغط، ليخرج أحدهم من الغرفة وهو يعلم أن بإمكانه إيذاء شخص ما وربما قتله إذا توافرت الظروف لذلك. لكن على الرغم من ذلك تظل أعمال ميلجرام عن الطاعة والسلطة مثيرة للاهتمام وتكشف لنا جوانب مثيرة وغامضة عن النفس البشرية لم نكن نعلم بوجودها!

اقرأ أيضًا: الاستثمار الأبوي كيف نفسر الاختلافات بين الرجال والنساء؟

المصادر

  1. BBC
  2. Simplypsychology
  3. Britannica
  4. Verywellmind

الاستثمار الأبوي: كيف نفسر الاختلافات بين الذكور والإناث؟

هذه المقالة هي الجزء 15 من 21 في سلسلة مقدمة في علم النفس

الاستثمار الأبوي: كيف نفسر الاختلافات بين الذكور والإناث؟ يعد الجنس أحد أكثر الأنشطة التي يستمتع بها البشر، ولذلك يحتل مساحة كبيرة في حياتنا. وعده علماء النفس التطوريون واحدًا من أربعة دوافع أساسية محركة للانسان. وهناك بعض الدراسات المثيرة للاهتمام التي تستطلع حجم الجنس في حياتنا. تشير هذه الدراسات أن ممارسة الجنس هو النشاط الأكثر امتاعًا للشخص الأمريكي العادي. فيضعه في مرتبة أعلى من ممارسة الرياضة والصيد والتقبيل والعناق والحديث مع العائلة ومشاهدة التلفاز والأكل والرحلات والتسوق. وتشير أيضًا أن متوسط الوقت الذي يقضيه الشخص العادي في ممارسة الجنس لا يتعدى الأربع دقائق وثلاث ثوان (مع استبعاد الوقت الذي يمر في المداعبة أو القراءة عن الجنس أو التفكير في الجنس أو تصفح المواقع الإباحية). وهو نفس الوقت الذي يقضيه الشخص الأمريكي العادي في ملأ استمارات الضرائب!

الجنس كدافع للحياة

تجعلنا نتائج الدراسات التي أسلفنا ذكرها نتسائل: من أين تأتي أهمية الجنس إذا كان يحتل نفس المساحة التي يحتلها نشاط ممل مثل ملأ استمارات الضرائب؟ والإجابة هي لا، رغم الوقت الضئيل الذي يحتله الجنس في حياتنا إلا أن له أهمية كبرى، وينشأ عنه كل شيء في الحياة تقريبًا. مثل: الزواج والأطفال والفن وحتى العنف والتنافسية.

يمكننا تعريف الجنس من وجهة نظر تطورية أنه بوابة لعبور الجينات إلى الأجيال اللاحقة وبالتالي تحقيق هدف التكاثر. لكن بالنظر في واقعنا الحالي، نجد صورًا متعددة من الجنس غير التكاثري. مثل: الجنس مع استخدام موانع الحمل والجنس المثلي والجنس الشرجي. وهي صور لا تخدم هدف التكاثر وبالتالي يمكن اعتبارها غير طبيعية، فهل يعني هذا أنها خاطئة؟

الأخلاقية والحتمية

هذا ما أود أن نبدأ به مقال اليوم قبل التطرق إلى موضوعه الأساسي، توضيح اثنين من المفاهيم الهامة التي تناقش أخلاقية بعض أوجه الحياة الجنسية عند البشر. وسأبدأ بمقولة لعالم النفس ستيف بينكر:

“لا تملي الطبيعة علينا ما ينبغي تقبله أو كيفية عيش حياتنا، فأنا لم أنجب أطفالًا في سنوات شبابي واستهلكت مواردي البيولوجية في القراءة والكتابة والبحث ومساعدة الطلبة والأصدقاء، متجاهلًا أولوية نشر جيناتي. وبالتالي فأنا خطأ شنيع بالمعايير الداروينية، لكن حياتي تعجبني بهذه الطريقة، وإذا لم ترض جيناتي عن هذا فيمكنها أن تذهب وتلقي نفسها في البحيرة”

نستنتج من مقولة بينكر أن الطبيعي ليس بالضرورة صحيحًا أو مناسبًا أو حتى أخلاقيًا. فمع أن أجسامنا وأدمغتنا تطورت لتخدم هدف التطور فذلك لا يعني أنه ليس بإمكاننا استخدام هذه الأدمغة لتحديد أقدارنا.

أما عن الحتمية فيقول عالم الأحياء التطوري ريتشارد دوكينز:

“لو أن طفلًا تلقى تعليمًا فقيرًا للرياضيات، فمن السهل تقبل فكرة أن بذل مجهود أكبر العام اللاحق سيحسن من مستواه. لكن لو اقترحنا أن أداء الطفل السيء جيني الأصل سوف ييأس الجميع من تحسن مستواه، إنه أمر حتمي ويستحيل تغييره لو كان جيني الأصل. وهذا هراء كبير! لا تختلف المسببات الجينية والمسببات البيئية عن بعضها، ولكن يسهل عكس تأثير أحدها بينما يصعب الآخر. ماذا فعلت الجينات لتستحق هذه السمعة الشريرة؟ ولماذا يُعتقد أن تأثيرها ثابت ولا مفر منه مقارنة بتأثير الكتب أو التلفاز؟”

ونستنتج من مقولة دوكينز انفصال مسببات الأمور عما يعكس تأثيرها. فهناك حالات ذات منشأ جيني ويسهل عكس تأثيرها، بينما أخرى ذات منشأ ثقافي ويصعب عكس تأثيرها. مثل: ضعف البصر، وهو أمر جيني المنشأ لكن يمكن عكس تأثيره ببساطة. أما نظرة المجتمع للسمنة أمر ثقافي يختلف من مكان لآخر، لكن يمكننا الاتفاق على صعوبة عكس تأثيره.

كيف نفسر الاختلافات بين الذكور والإناث؟

تحدثنا عن عملية الجنس وهدفها التطوري وهو التكاثر، لكن هل يمكن تحقيق هذا الهدف بدون طرفي المعادلة، الرجال والنساء؟ لا أعتقد ذلك. وسنتحدث اليوم عن الاختلافات بين ذكور وإناث البشر، انطلاقًا من دور كل منهما في العملية الجنسية وما يليها حتى يحدث التكاثر. فما هي هذه الاختلافات؟

بداية ليس الاختلاف اختلاف أعضاء تناسلية، فلا يمكننا القول القضيب أو المهبل. لأنه ببساطة هناك حيوانات لا تمتلك أيًا منهما. أما التمييز التصحيح فيقوم به علماء الأحياء بناءًا على حجم الخلايا الجنسية. يمتلك الذكور خلايا جنسية صغيرة تحوي الجينات فقط، وتمتلك الإناث خلايا جنسية كبيرة تحوي الجينات والغذاء وغلاف واقي وغيرها. لكننا نجد بالرغم من هذا الاختلاف في حجم الخلايا الجنسية ذكور البشر أكبر حجمًا من الإناث، فما تفسير ذلك؟

الاستثمار الأبوي

الاستثمار الأبوي: كيف نفسر الاختلافات بين الذكور والإناث؟

قام بهذا التفسير العالم «روبرت تريفرز-Robert trivers» الذي وضع نظرية الاستثمار الأبوي. ويمكن تعريفه أنه أي بذل أبوي (في الطاقة أو الوقت أو الموارد) يزيد فرصة نجاة الذُرية الحالية، وذلك على حساب قدرة الآباء في الاستثمار في ذرية أخرى.

مثال: تخيل معي اثنين من الحيوانات أحدهما يتكاثر بطرفة عين، والآخر يتكاثر كل عشر سنوات. الحيوان الأول مثال للاستثمار الفقير، لأن ذريته لا تستهلك قدرًا كبيرًا من موارده. أما الحيوان الثاني فمثال للاستثمار الضخم لأن ذريته تستهلك قدرًا كبيرًا من موارده.

أشار تريفرز إلى ارتفاع نسبة الاستثمار الأبوى في إناث أغلب الحيوانات مقارنة بالذكور. وذلك لامتلاكهن الخلايا الجنسية كبيرة الحجم، فيقمن بحضانة/حماية/حمل الذرية لفترة من الزمن. أما الذكور فيمتلكون خلايا جنسية أصغر، ولا يتخطى استثمارهم لحظات الاتصال الجنسي. لكن مازال السؤال مطروحًا، كيف يفسر هذه اختلاف حجم الذكور والإناث؟

ينتج عن الاستثمار الأبوي الضخم عند الإناث مقارنة بالذكور عددًا من الاختلافات النفسية والفسيولوجية:

  • يمكن لذكر واحد أن يخصب عددًا من الإناث، فينتج عن هذا وجود عدد من الذكور بدون إناث فتظهر التنافسية والعنف.
  • لا تقلق الإناث بشأن وجود شريك جنسي لأنها دائمًا ستجده. لكن يظهر نوعًا آخرًا من التنافس لاختيار الذكور المناسبين، الذين تتمتع جيناتهم بفرص نجاة أكبر.
  • تخلق الطبيعة الانتقائية للإناث نوعًا جديدًا من التنافس بين الذكور، ليس لإيجاد الإناث وحسب وإنما إغرائهم أيضًا.

والآن يمكننا باستخدام هذه الاستنتاجات الثلاث للتوصل إلى سر اختلاف حجم الذكور عن الإناث، وذلك لأن التنافسية تضع عليهم ضغطًا أكبر للتصارع مع الذكور الأخرى للفوز بالإناث. كذلك السعي إلى إغراء الإناث ومطابقة مواصفاتهم عن الشريك المثالي ومنها البنية الجسدية الأقوى. وسنتعرف على مزيد من التفاصيل عن هذا الأمر عند مناقشة معايير الانجذاب الجسدي.

ما الأدلة على نظرية الاستثمار الأبوي؟

تتلخص فكرة الاستثمار الأبوي في وجود اختلاف بين حجم الخلايا الجنسية عند الذكور والإناث، فينتج عن هذا تباين الدور الذي يقوم به كل منهما في العملية الجنسية والتكاثر ومن هنا تظهر الاختلافات النفسية والفسيولوجية بين الجنسين. وهناك عدد من الأدلة على ذلك:

  • يكون الاستثمار الأبوي معكوسًا في بعض الحالات مثل: السمكة الأنبوبية. فنجد الذكور تحتفظ بالبيوض بينما تهرب الإناث. وتبعًا للنظرية فلابد أن تكون الإناث أكبر حجمًا وأكثر عنفًا وهذا ما وجده العلماء بالفعل.
  • يتساوى كل من ذكور وإناث البطاريق في الاستثمار الأبوي، فيسير كل منهما مسافة طويلة لحماية الأبناء. وحسب النظرية فلابد أن تتساوى أحجامهم أيضًا وهذا ما وجده العلماء بالفعل.
  • تتمتع ذكور فيلة البحر بقدر عالٍ من التنافسية، فلا تتنافس على أنثى واحدة وإنما جميع الإناث. ونتيجة لذلك نجد الذكور أكبر حجمًا بأربع مرات من الإناث.
  • أما في البشر فنجد -كما أسلفنا- أن الذكور أكبر حجمًا بنسبة 15% من الإناث. وهذا يرجح تواجد صراع ذكوري/ذكوري على مدار تاريخنا التطوري، نتيجة لعدم تساوي الاستثمار الأبوي.
  • ذكور البشر أكثر عنفًا من النساء. بداية من الرحم فنجدهم يركلون أكثر، والطفولة فينخرطون في صراعات وشجارات ومزاح عنيف، حتى البلوغ فنجد عدد السجناء الذكور دائمًا أكبر من النساء. الأمر الذي يمكن تفسيره بالتنافسية الناتجة عن عدم تساوي الاستثمار الأبوي.

الجاذبية الجسدية

لا يقتصر تأثير التنافس الأبوي على اختلاف الذكور والإناث في الحجم والتنافسية فقط، إنما تختلف تفضيلاتهم الجنسية أيضًا.

  • نجد الإناث تنجذب للقوة والمكانة الاجتماعية والاستثمار في تربية الأطفال. الذكور القادرون على تأمين الموارد اللازمة للنجاة وتوفير الملجأ والحماية أكثر جاذبية من غيرهم. وهذا أمر مفهوم تطوريًا.
  • تميل النساء إلى اختيار الذكور الأكبر سنًا، لكن بشكل عام لا يهم العمر كثيًرا طالما كان الذكر قادرًا على التكاثر.
  • هناك بعض الخصائص الجسدية أكثر جاذبية للإناث مثل: البنية الجسدية القوية ودلالاتها مثل: عرض المنكبين والفك القوي وبروز عظمة الحاجب. كذلك تماثل نصفي الجسم الذي يدل على سلامة الجينات وقدرة الذكر على تحمل ضغوطات البيئة.

أما عن الذكور فعامل الانجذاب الأول لديهم هي الأنثى التي يستطيع تخصيبها وبالتالي نشر جيناته. وبناءًا على ذلك تظهر تفضيلاتهم الجنسية:

  • يهتم الذكور بالعمر أكثر من الإناث، فينجذبون للنساء الأصغر سنًا لقدرتهن على التكاثر.
  • ينجذب الذكور للإناث ذوات الخصر الرفيع والنهود الكبيرة، لأنها دلالات على الشباب والخصوبة.
  • ينجذب الذكور لسمات جمالية معينة مثل العيون الواسعة والشفاه الممتلئة والبشرة النضرة. لأنها تمثل أيضًا النضوج الجنسي والشباب.

الاستثمار الأبوي: كيف نفسر الاختلافات بين الذكور والإناث؟

في الختام أود العودة إلى نقطة الأخلاقية والحتمية، إن كل ما هو جيني وطبيعي ليس بالضرورة مناسبًا أو حتميًا لا يمكن تغييره. وهو ما نفسر به الاعتراض الذي لابد أن يكون خطر لك عند قراءة المقال، أنا لست هكذا -ذكرًا كنت أم أنثى- ولا أتصرف أو أنجذب لنفس الصفات التي يفترض يتمتع بها بنو جنسي. لذا لا تنسى أدمغتنا التي تطورت لتخدم هدف التطور، يسعها دومًا التفكير وتحديد أقدارها!

اقرأ أيضًا: لماذا يختلف البشر؟ وما الدور الذي تلعبه الجينات في ذلك؟

مصدر
yalecourses

ما تفسير تسارع الزمن الّذي نشعر به مع تقدمنا في السن؟

عندما كنا أطفالًا، بدت العطلة الصيفية كأنها تستمر إلى الأبد، وبدا انتظار الأعياد أبديًا. فلماذا عندما نتقدم في السن يبدو مرور الوقت أسرع بكثير؟ فتسير الأسابيع والأشهر والفصول بأكملها بسرعة مذهلة. إن تسارع الزمن المُدرك على ما يبدو ليس نتيجةً لامتلاء حياتنا كبالغين بمسؤوليات ومخاوف الكبار. في الواقع، الأمر يسير في الاتجاه الآخر. فالأبحاث تظهر أن الوقت المُدْرَك يمر بسرعة أكبر بالنسبة لكبار السن مما يجعلنا نشعر بالانشغال والاندفاع (وليس العكس).

هناك العديد من النظريات التي تحاول تفسير سبب تسارع إدراكنا للوقت مع تقدمنا ​​في السن. تتمثل إحدى الأفكار في تغيير تدريجي لساعاتنا البيولوجية الداخلية. يتوافق تباطؤ عملية التمثيل الغذائي مع تقدمنا ​​في السن مع تباطؤ ضربات القلب وتنفسنا. تجري الفعاليات البيولوجية للأطفال بسرعةٍ أكبر، مما يعني أنهم يمتلكون المزيد من العلامات البيولوجية (دقات القلب، والتنفس) في فترة زمنية محددة، مما يجعلهم يشعرون وكأن المزيد من الوقت قد مر.

تقترح نظرية أخرى أن مرور الوقت الذي ندركه مرتبطٌ بكمية المعلومات الإدراكية الجديدة التي نستقبلها. إذ مع وجود الكثير من المحفزات الجديدة، تستغرق أدمغتنا وقتًا أطول لمعالجة المعلومات بحيث تبدو الفترة الزمنية أطول. هذا من شأنه أن يساعد في تفسير «إدراك الحركة البطيئة-slow motion perception» (وهو حين يُنظر إلى الأشياء على أنها تتحرك ببطء شديد على عكس العادة). نشعر بإدراك الحركة البطيئة غالبًا في اللحظات التي تسبق وقوع الحادث. فالظروف غير المألوفة تعني أن هناك الكثير من المعلومات الجديدة التي يجب استقبالها ومعالجتها. في الواقع، قد نشعر به عندما نواجه مواقف جديدة فتسجل أدمغتنا ذكريات شديدة التفصيل، بحيث أن تذكرنا للحدث يبدو أبطأ من الحدث نفسه. لقد ثبت تجريبيًا أن هذا هو الحال للأشخاص الذين يمارسون «السقوط الحر-free fall».

ولكن كيف يفسر هذا تسارع الزمن المُدرك المستمر مع تقدمنا ​​في العمر؟ تقول النظرية أنه كلما تقدمنا ​​في السن، أصبحنا أكثر درايةً بمحيطنا. لا نلاحظ التفاصيل الدقيقة لمحيطنا (كمنازلنا وأماكن عملنا). لكن بالنسبة للأطفال، غالبًا ما يكون العالم مكانًا غير مألوف ومليء بالتجارب الجديدة للتعامل معها. هذا يعني أنه يجب على الأطفال تكريس قدرٍ أكبر من القوة الذهنية لتكوين أفكارهم العقلية للعالم الخارجي. تقترح النظرية أن هذا يجعل الوقت يبدو وكأنه يمر بشكلٍ أبطأ للأطفال مقارنةً بالبالغين العالقين في روتينهم اليومي. لذلك كلما أصبحنا أكثر دراية بتجارب الحياة اليومية، كلما زاد تسارع الزمن، وعموماً، تزداد هذه الدراية مع تقدم العمر. تم اقتراح الآلية الكيميائية الحيوية وراء هذه النظرية على أنها إطلاق الناقل العصبي «الدوبامين-Dopamine» عند إدراك الأمور الجديدة مما يساعدنا على تعلم قياس الوقت. بعد سن العشرين وحتى الشيخوخة، تنخفض مستويات الدوبامين مما يجعل الوقت يبدو أسرع. ولكن لا يبدو أن أيًا من هذه النظريات توضح بدقة المعدل الحسابي لعملية تسارع الزمن المُدْرَك.

يشير النقصان الواضح لطول فترة محددة مع تقدمنا ​​في العمر إلى “مقياس لوغاريتمي” للوقت. تستخدم المقاييس اللوغاريتمية بدلاً من المقاييس الخطية التقليدية عند قياس الزلازل أو الصوت. نظرًا لأن الكميات المُقاسة يمكن أن تظهر فروقات ضخمة فيما بينها، فإننا بحاجة إلى مقياس أوسع نطاقاً لفهم ما يحدث. وهذا ينطبق على موضوع تسارع الزمن. على مقياس ريختر اللوغاريتمي (للزلازل) لا تتوافق الزيادة بمقدار 10 إلى 11 مع زيادة في حركة الأرض بنسبة 10% كما هو الحال في المقياس الخطي. فكل إضافة واحدة إلى مقياس ريختر تقابل زيادة في الحركة بمقدار عشرة أضعاف.

أوقات الطفولة

ولكن لماذا يجب أن يتبع إدراكنا لعملية تسارع الزمن مقياسًا لوغاريتميًا؟ الفكرة هي أننا ندرك الفترة الزمنية على أنها نسبة الوقت الذي عشناه حتى تلك اللحظة. بالنسبة لطفلة تبلغ من العمر عامين، تعتبر السنة الواحدة نصف عمرها، ولهذا السبب تبدو فترة الانتظار بين أعياد الميلاد طويلةً جدًا عندما تكون صغيرًا. بينما بالنسبة لشخص يبلغ من العمر عشر سنوات، يمثل العام الواحد 10% فقط من حياته (مما يجعل الانتظار أكثر سهولة)، وبالنسبة لشخص يبلغ من العمر 20 عامًا يمثل العام الواحد 5% فقط من حياته. على المقياس اللوغاريتمي، لكي يمر شابٌ يبلغ من العمر 20 عامًا نفس الزيادة النسبية في العمر (بين أعياد الميلاد) التي يمر بها طفل يبلغ من العمر عامين، يجب عليه الانتظار حتى بلوغ سن الثلاثين. وفقًا لوجهة النظر هذه، ليس من المستغرب تسارع الزمن الذي نشعر به مع تقدمنا ​​في السن.

عادةً ما نفكر في حياتنا من منظور العقود – العشرينات والثلاثينيات وما إلى ذلك – مما يشير إلى وزنٍ متساوٍ لكل فترة. ومع ذلك، حسب المقياس اللوغاريتمي فإننا ننظر لفتراتٍ زمنية على أنها مختلفة رغم امتلاكها نفس الطول. يُنْظَرُ إلى الفروق التالية في العمر على النحو نفسه بموجب هذه النظرية: من 5 إلى 10، ومن 10 إلى 20، ومن 20 إلى 40، ومن 40 إلى 80. إذًا فترة الخمس سنوات التي مررت بها بين سن الخامسة والعاشرة قد تشعرك بنفس طول الفترة بين سن 40 و 80. لذا أشغل نفسك. فالوقت يمر بسرعة، سواءٌ كنت مستمتعًا به أم لا. وهو يمر بشكل أسرع وأسرع كل يوم.

شاهد الفديو التالي حيث يشرح استخدام المقياس اللوغاريتمي لتسارع الزمن:

المصادر: Science Focus, The Conversation, Scientific American
إقرأ أيضًا: لماذا نشعر بالتعب أكثر خلال فصل الشتاء؟

لماذا يختلف البشر؟ وما الدور الذي تلعبه الجينات في ذلك؟

هذه المقالة هي الجزء 14 من 21 في سلسلة مقدمة في علم النفس

لماذا يختلف البشر وما الدور الذي تلعبه الجينات في ذلك ؟ هل تسائلت يومًا ما الذي يجمعنا كلنا كبشر؟ جميعنا نختبر نفس المشاعر ونستخدم نفس أدوات التواصل وندرك العالم من حولنا بنفس الطريقة. لكن هل تسائلت يومًا ما الذي يميز بيننا كبشر؟ ما الذي يجعلني في هذه اللحظة تحديدًا سعيدة بينما أنت حزين وآخر لا يشعر شيئًا؟ كيف نفسر هذه الفروقات الفردية؟ والأهم من ذلك كيف نفسر الفروقات الجماعية؟ ما الذي يجعل طائفة من البشر أكثر انفتاحًا أو ذكاءًا أو تطرفًا من غيرها؟ هذا ما سنناقشه في مقال اليوم.

عاملي الاختلاف بين البشر

يمكننا حصر جميع الاختلافات بين البشر في كل أنحاء العالم في عاملين، وهما: الشخصية والذكاء. شخصيتك ومعدل ذكائك هما ما يحددا موقفك من العالم وموقف العالم منك. بمعنى أن الطريقة التي يراك بها الآخرون وكذلك الطريقة التي ترى بها الآخرين تندرج تحت بند الشخصية، وهي سماتك المحددة والثابتة -إلى حد ما- التي تحملها معك طوال الوقت.

أما معدل الذكاء فيرتبط ارتباطًا وثيقًا بأدائك التعليمي والمهني وحتى الاجتماعي والاقتصادي. وهو أمر نختلف فيه جميعًا كأفراد وجماعات.

والآن بما أننا بتنا نعرف ما الذي نختلف فيه، كيف يمكننا تفسير هذه الاختلافات؟

طبيعي أم مكتسب؟

لماذا يختلف البشر وما الدور الذي تلعبه الجينات في ذلك ؟

تقتضي العادة عند إجابة أي سؤال يبحث في أصل الظواهر الانسانية تحديد أي جوانب هذه الظاهرة طبيعي/وراثي/جيني وأيها مكتسب/بيئي/تربوي؟

لم يحد العلماء عن هذا المنهج عند تفسيرهم الاختلافات الشخصية واختلافات معدل الذكاء بين البشر، وحصروا أسباب الاختلاف في نقطتين:

  • الجينات/ الوراثة

يجب توضيح نقطة هامة عند الحديث عن الجينات، وهي الفارق بين دور الجينات في تفسير الاختلافات بين البشر وتفسير صفاتهم، بمعنى أننا سنتحدث عن الاختلافات الناتجة من اختلاف الجينات، وليس دور كل جين في تكوين صفة محددة. ويشبه ذلك طرح السؤال: ما هو دور الجينات في اختلاف أطوال البشر؟ وهنا يمكننا قول أن الاختلافات الجينية تجعل طولي مختلفًا عنك وعن قاريء آخر. لكن عندما نقول: ما هو دور الجينات في تحديد طولك؟ هنا نتحدث عن دور الجينات في تكوين صفة محددة.

  • البيئة/ التجربة

ينبغى الفصل بين نوعين من البيئة عند الحديث عن الاختلافات بين البشر، وهما: البيئة المشتركة والبيئة غير المشتركة.

تعني البيئة المشتركة الاختلافات الناتجة عن الظواهر والأحداث التي يتعرض لها/ يتشاركها أفراد العائلة الواحدة.

مثال: تعيش أنت واخوتك في بيت واحد مع أب غير سوي، ونتيجة لذلك فأنت مصاب بداء القلق. (تشاركك أنت واخوتك نفس ظروف المعيشة جزء من البيئة المشتركة)

أما البيئة غير المشتركة فتشمل كل ما هو ليس وراثيًا، وليس بيئة مشتركة.

مثال: لقد انزلقت ووقعت على رأسك حينما كنت صغيرًا ونتيجة لذلك فأنت مصاب بداء القلق. (هذا ليس بالضرورة ما حدث لاخوتك وهذه هي البيئة غير المشتركة)

السؤال هنا الآن: حينما يأتي الأمر إلى الشخصية والذكاء، كيف نفصل بين ما هو وراثي وما هو بيئي؟

حل مبتكر!

حينما يأتي الأمر إلى الشخصية والذكاء، كيف نفصل بين ما هو وراثي وما هو بيئي؟

والإجابة واقعيًا: يصعب علينا كثيرًا الفصل بين ما هو جيني وغير جيني.

على سبيل المثال: أنا مختلفة عنك، والسبب أنني لا أتشارك معك نفس الجينات، كما أنني ولدت لوالدين مختلفين ونشأت في بيئة مختلفة. ولا نستطيع الفصل أيهما سبب اختلافي عنك.

شكل هذا السؤال عائقًا أمام العلماء، وتوجب عليهم التفكير في حلول مبتكرة للإجابة عنه، أحد هذه الحلول هو استغلال الحقائق الخاصة بالجينات ووضع بعض الفرضيات بناءًا عليها ثم اختبارها. هذه الحقائق هي:

  • التوائم أحادية الزيجوت تتشارك 100% من الجينات.
  • الأخوة العاديين وكذلك التوائم ثنائية الزيجوت تتشارك 50% من الجينات.
  • الأطفال المتبنون واخوتهم يتشاركون 0% من الجينات.

وتتشارك الحالات الثلاثة 100% من البيئة المشتركة، بمعنى أنهم ينشأون في بيت واحد. وجاءت الفرضيات كالتالي:

  • عند ظهور تشابه أكبر في الشخصية ومعدل الذكاء بين التوائم أحادية الزيجوت أكثر من الثنائية، يدلنا على دور أكبر للجينات.
  • عندما يتساوى معدل التشابه بين التوائم أحادية وثنائية الزيجوت، يدلنا أن دور الجينات ليس مهمًا كثيرًا ( لأن 50% الإضافية من التشابه الجيني لم تحدث فرقًا)
  • عند ظهور تشابه بين الأطفال المتبنين واخوانهم، يدل ذلك على أهمية البيئة المشتركة.

لكن المعيار الذهبي الذي وضعه العلماء لاختبار دور الجينات والبيئة في تحديد الاختلافات في الشخصية والذكاء هو: التوائم المتماثلة مختلفة النشأة. يتشارك هؤلاء الأشخاص 100% من جيناتهم و0% من البيئة المشتركة.

دور الجينات والبيئة في تفسير الاختلاف

توصل العلماء باستخدام هذه الفرضيات واختبارها إلى اكتشافين مذهلين في علم الجينات السلوكي.

أولًا: تتمتع أغلب الصفات الشخصية بدرجة عالية من التوريثية.

تأثير الجينات قوي على كل الصفات، ابتداءًا بمعدل الذكاء والشخصية وانتهاءًا بمدى سعادتك أو تدينك أو حتى ميولك السياسية. أقر العلماء هذا الأمر بناءًا على عدد من الاكتشافات المثيرة للاهتمام، أولها ما ذكرناه عن التوائم المتماثلة مختلفة النشأة.

وجد العلماء أن التوائم المتماثلة الذين لم ينشأوا معًا في نفس البيت متشابهين في كثير من الصفات، فوجدوا لديهم نفس الآراء تجاه عقوبة الإعدام والدين والموسيقى الحديثة. كما وجدوا تشابهًا سلوكيًا مثل: معدلات انخراط هؤلاء الأشخاص في الجريمة، أو لعب القمار، أو حتى الطلاق.

وهنا يمكننا القول أن للجينات دور كبير في الاختلافات الفردية بين البشر، لكن ماذا الاختلافات بين المجموعات البشرية، ما الدور الذي تلعبه الجينات في ذلك؟

دعونا نبدأ الإجابة بالإشارة إلى دراسات تثبت وجود اختلافات في معدل الذكاء بين المجموعات العرقية المختلفة. كذلك دراسات تثبت وجود فروق جينية بين هذه المجموعات، فنجد أحدها أكثر عرضة للإصابة بمرض ما مثلًا أكثر من غيرها. والسؤال هنا هل يمكننا بناءًا على هذه الدراسات استنتاج أن الفروق بين الجماعات ذات أصل جيني؟

الإجابة لا. أثبت العلم أن الاختلافات الجينية (بين الأفراد) لا تلعب دورًا في تشكيل الاختلافات بين الجماعات. ولفهم ذلك بشكل أوضح تأمل هذا المثال: ستزرع قطعتين من الأرض بنفس بذور القمح، أحد الحقلين ستعتني به وتخصبه بسماد جيد، والآخر ستهمله. ستجد أن جودة نمو البذور في كلا الحقلين يرتبط بجيناتها (هذه بذرة ذات صفات جيدة فستنمو سواء اهتممت بها أم لا وتلك سيئة لن تنمو بنفس الجودة) لكن الاختلاف بين الحقلين بشكل عام ليس جيني على الإطلاق، وإنما بيئي يرتبط بمدى اهتمامك بكل منهما.

وهذا هو ما اكتشفه العلماء، فوجدوا أن الاختلافات بين المجموعات البشرية تعزى إلى البيئة وليس الجينات، لأن انتمائك لأحد هذه الجماعات قرار اجتماعي لا سلوك جيني. وهاك بعض الأدلة على ذلك:

أدلة على الأصل البيئي للاختلافات بين المجموعات البشرية

  • ترتبط الاختلافات في معدلات الذكاء بشكل أكبر بالمجموعات المصنفة اجتماعيًا (تتشابه في السلوك والآراء وطريقة العيش) وليس المجموعات المصنفة جينيًا (تتشابه في الحمض النووي).
  • يؤكد العلم امكانية تغير معدلات الذكاء بشكل جذري دون أي تغير جيني. (تأثير فلين)

ثانيًا: تلعب البيئة غير المشتركة دورًا أهم مما نعتقد، فيمكننا عزو كل اختلاف غير جيني إليها!

وجد العلماء أن الارتباط بين معدلات الذكاء لأشخاص بالغين غير مرتبطين جينيًا نشأوا في بيئة مشتركة هو صفر. بمعنى أن التشابه بين الطفل المتبني واخوته (المختلفين جينيًا ويتشاركون نفس البيئة) لا يختلف عن التشابه بينه وبين أي طفل من خارج الأسرة.

تطبيقات هذا الاكتشاف تحديدًا مثيرة للجدل لأنها تقدم رؤية جديدة لعلاقة الآباء والأبناء، فمن المتفق عليه أن أي فعل يقوم به الآباء يؤثر على أبنائهم لهذا يبذل الآباء مجهودًا مضاعفًا ليكونوا قدوة حسنة. لكن ربما ليست هذه الحقيقة كاملة.

يتشابه الآباء والأبناء إلى حد كبير، لا ينكر أحد هذه الحقيقة، وربما تتشارك أغلب صفاتك التي تتمتع بها الآن مع والديك. لكن سبب ذلك ليس بالضرورة تأثير آبائك عليك، بل يقدم لنا العلم تفسيرات جديدة:

  • سبب تشابهك أنت ووالديك هو تشارككم نفس الجينات، فأنت تحمل 50% من جيناتهم وبالتالي ترث منهم بعض الصفات
  • ربما الأمر معكوس، الأبناء هم أصحاب التأثير على آبائهم وليس العكس.

هذا التفسير صادم بالفعل ومثير للجدل، لأنه يهدم اعتقادات نفسية راسخة (أنا شخص سعيد لأن والداي أحسنوا تربيتي أو أنا شخص تعس لأن والداي أهملوني). والاستنتاج الذي يقدمه لنا هذا التفسير أنه لا فرق! لن يختلف الأمر كثيرًا إذا نشأت في بيئة صحية أو غير صحية، لأن تأثير البيئة المشتركة في خلق الاختلافات بين البشر ضئيل مقارنة بالبيئة غير المشتركة.

لماذا يختلف البشر وما الدور الذي تلعبه الجينات في ذلك ؟

وبهذا نصل إلى نهاية الحديث، بعد أن طرحنا أغلب الإجابات والتفسيرات الممكنة لسؤال الاختلافات بين البشر -أفرادًا كانوا أو جماعات- واستعرضنا تفاصيل كل من الجينات والبيئة والدور الذي تلعباه في تكوين هذه الاختلافات. كذلك الجدل والصدام الناتج عن بعض اكتشافات علم الجينات السلوكي، التي لا يسعك -مهما كان موقفك منها- إلا الانبهار بها وبالعلم وتطوره!

اقرأ أيضًا: الشخصية والذكاء أصل اختلافنا نحن البشر!

المصادر

yalecourses

ما هو الإرهاق وما هي أسبابه؟ وطرق التعامل معه؟

صديق لي يعمل في مكان ما، بدأ مؤخرًا يشعر بفقدان الطاقة ومعنى ما يفعله، ودائمًا ما يشعر بالإرهاق ذهنيًا أو جسديًا، أصبح قليل الصبر، منفعلًا لأبسط الأشياء، أصبحت أبسط المهمات في عمله شديدة التعقيد لديه، في البداية ظننت أنه يعاني من ضغط العمل فقط، مثلما نتعرض جميعًا للضغوطات الحياتية بصورة مستمرة! ولكن خلال بحث بسيط، اكتشفت بإن هذه الأعراض التي ربما تكون إعتيادية لنا جميعًا، لها مصطلح أخر يسمى (الإرهاق – Burn out). إذًا ما هو الإرهاق وما هي أسبابه؟ وكيف نتعامل معه؟ هذا ما سنجيب عنه في هذا المقال.

ما هو الإرهاق؟

عام 1974 وضع (هربرت فرودنبيرجر-Herbert Freudenberger) مصطلح جديد يسمى (الإرهاق- Burn out). خلال عام 2019 صنفت منظمة الصحة العالمية (WHO) الإرهاق على أنه حالة مرضية، كما أنها ضمت الحالة ضمن كُتيبها، والذي يضم التصنيفات العالمية للحالات المرضية، والذي يستخدمه مقدمي الخدمات الطبية في تشخيص الأمراض. وتعتبر منظمة الصحة العالمية أن الإرهاق هو متلازمة تنتج من الضغط مستمر في بيئة العمل، والذي لم يتم إدارته بنجاح. (3) وهناك بعض الأعراض التي ربما تساهم في التعرف عليه مثل: الشعور بالاستنزاف سواء جسديًا أو نفسيًا، الابتعاد الذهني عن العمل ومهماته الشعور بالسلبية تجاه العمل، إنخفاض الكفاءة المهنية.(3)

ما الفرق بين الإرهاق والضغط؟

رسميًا يعتبر الإرهاق أزمة مزمنة في بيئة العمل، وحاليًا تأخذ الشركات تلك الأزمة بجدية أكبر. كما أن طبيعة الإرهاق مختلفة تمامًا عن ضغط العمل عادي، فهو لا ينتهي عندما تأخذ عطلة طويلة، أو حتى عندما تقلل من إيقاع أو ساعات العمل. عندما تكون واقعًا تحت ضغط ما، فإنك تكافح للتعامل مع تلك الضغوط، أما في حالة الإرهاق، فإنك تكون حرفيًا فاقدًا للطاقة، وتشعر باليأس من التعامل مع تلك الضغوطات.

أظهرت الدراسات الاستقصائية أن 60٪ من حالات التغيب عن العمل، تكون بسبب الضغط الجسدي والنفسي المصاحب الإرهاق. خلال دراسة استقصائية في عام 2018 قال 40٪ من ضمن 2000 موظف، أنه فكر في الاستقالة بسبب الإرهاق. قدر الخبراء بأن الإرهاق يكلف الشركات الأمريكية من 150-350 مليار دولار سنويًا. وبالطبع نتائج تلك الدراسات مخيفة لكل رب عمل. ويقول الباحث (كريستيان دورمان -Christian Dormann)والذي قام بدراسة في جامعة (يوهانس جونيرج- Johannes Gutenberg) ” إن أهم أعراض الإرهاق، الشعور بالإجهاد الكلي للحد الذي لا يمكن تصحيحه بأخذ عطلة، أو حتى قضاء أمسية هادئة”. الذين يتعرضون الإرهاق يحاولون حماية أنفسهم عبر بناء مسافة نفسية بينهم وبين عملهم وزملائهم في العمل. (1)

هل الضغط هو الدافع وراء الإرهاق؟

ولأن الفكر السائد هو أن ضغط العمل هو الدافع وراء الإرهاق، قام فريق من جامعة (ماينز- Mainz) بإجراء 48 دراسة على ضغط العمل والإرهاق، ضمت هذه الدراسات 26,319 مشاركًا، وكان متوسط الأعمار حوالي 42 عام، وبنسبة 44٪ من الذكور. شملت الدراسة الفترة من 1986-2019، وفي بعض دول أوروبا والولايات المتحدة وكندا وجنوب إفريقيا والصين وتايوان واستراليا. وأظهرت الدراسة الجديدة أن الضغط والإرهاق يعزز كل منهما الآخر، ولكن على العكس الإرهاق له تأثير أكبر على ضغط العمل وليس العكس. وهذا معناه أنه كلما شعر أحدهم بالإرهاق، كلما زادت عليه ضغوط العمل، وصعب عليه التعامل معها. لذا يقول الخبراء أن مثل هؤلاء الموظفين لا بد أن يتم تزويدهم بالدعم الكافي في الوقت المناسب، لكسر تلك الحلقة المفرغة من الضغط والإرهاق، كما أن الإرهاق يبدأ ويتطور تدريجيًا، ويتراكم مع مرور الوقت، وفي النهاية يؤدي إلى الشعور بأن العمل مرهق، وأن أبسط المهام تكون مرهقة للغاية. (1)

ما هي أسباب الإرهاق؟

هناك عدة أسباب، ولكن كما قلنا فإن المشكلة تنبع أكثر من بيئة العمل، ولكن أي شخص يشعر بعدم التقديرأوالضغط يمكن أن يصل لتلك الحالة، بداية من الموظف العادي وصولًا إلى ربة المنزل. لكن الإرهاق لا يكون فقط بسبب ضغط العمل أو تحمل مسئولياتٍ كثيرة، فهناك عوامل أخرى، مثل أسلوب حياتك وسماتك الشخصية، كما أن طريقتك في رؤية الحياة ربما تؤثر في الأمر برمته. ومن الأسباب المهنية: الشعور بعدم سيطرتك على عملك، عدم التقدير من قبل مرؤسيك على عملك الجيد، العمل في بيئة عالية الضغط أو غير منظمة. ومن الأسباب الشخصية: عدم أخذ الوقت الكافي للراحة، تحمل الكثير من المسئوليات بدون مساعدة من أحد، عدم وجود علاقات داعمة بجوارك، عدم أخذ كفايتك من النوم، الشعور بحتمية الكمال، وأن أي شيء تفعله غير كافي أو مثالي، نظرة متشائمة للعالم ولنفسك، الحاجة للشعور بالسيطرة. (2)

كيف أتعامل مع الإرهاق؟

إذا شعرت بأن أغلب الأعراض والأسباب تنطبق عليك، ربما يجب عليك أن تلتقط أنفاسك وتركز في تلك الحلول، والتي ربما تساعدك قليلًا في التخفيف عنك خلال تلك المرحلة. أول شيء، أن تُقر بوجود المشكلة، و تطلب الدعم وتحاول إيجاد طرق لإدارة هذا الضغط، وأخيرًا أن تكون مرنًا، لتسترجع صحتك النفسية والجسدية، وإليك هذه النصائح البسيطة. (2)

تواصل مع الآخرين

عند شعورك بالإرهاق، فإن قدرتك على الرغبة في التواصل مع الأخرين تقل وتصبح أثقل، ولكن التواصل طبيعة بشرية، ووجود أشخاص حولك يستمعون لك، هو حل إيجابي ومساعد كثيرًا، ليس بالضرورة أن يكون عندهم حلول لكل مشكلة، ولكن الاستماع الفعال والمتفهم، يشعرك بالراحة ويقلل من حجم توترك. (2) تواصلك مع المقربين منك سواء عائلتك أو أصدقائك، ربما يشعرك بإن الحديث عما يؤرقك معهم سيجعلك عبء عليهم، ولكن هذا ليس حقيقيًا، فمحاولتك تلك ستكون نقطة إيجابية أخرى، فمن خلالها سيشعرون أنك تثق بهم، وبالتالي ستقوي من علاقتك بهم.

كون علاقات جيدة في بيئة العمل

حاول أن تكون علاقاتك جيدة مع زملائك في العمل، بحيث تقلل من ضغط بيئة العمل، كذلك حاول أن تبتعد عن الأشخاص السلبيين، حتى لا يتفاقم وضعك وتشعر بالضغط أكثر. إعادة ترتيب أولوياتك في الحياة، أمر لا بد منه من حين لأخر، ومحاولة اكتشاف أشياء وأهداف جديدة في حياتك، أمر منعش ومحفز.

تعود أن تقول: “لا”!

ضع بعض الحدود، لا تحاول أن ترهق نفسك بالمهمات التي لا تريدها، تعود أن تقول لا، وأعلم أنها وسيلة تتيح لك الوقت لتفعل ما تريد حقًا.

قلل من التكنولوجيا

بالطبع التعامل مع التكنولوجيا في تلك الفترة ستزيد من سوء الوضع، حيث أن التكنولوجيا من إحدى أسباب الضغط في الحياة اليومية، حاول أن تنقطع عنها خلال وقت بسيط من اليوم، لتحافظ على حالتك الذهنية.

عليك بالرياضة والحركة

مارس الرياضة، لأنها تخفف من التوتر وتحسن من حالتك الجسدية والنفسية على حد سواء، حاول أن تجرب ألعاب رياضية جديدة وأن تستمتع خلال هذا الوقت.

نم لوقتٍ كافٍ

النوم بعمق يُريح الجسد والعقل، لذا حاول أن تعمل على هذا الجانب، حتى تحصل على يوم جيد، إذا كنت تعاني من إضطرابات النوم، يمكنك استشارة طبيب.

حسن عاداتك الغذائية

أخيرًا تناول الطعام الصحي مثل الفاكهة والخضروات وغيرها من الأطعمة، التي تحسن من الحالة الذهنية والجسدية، وابتعد عن تناول السكريات والكربوهيدرات بكثرة.

كل تلك النصائح البسيطة مع الاستمرار اليومي، ستحقق غايتها. بالطبع الأمر مرهق تمامًا، وربما تبدو تلك النصائح غير فعالة أو ليست حل جذري، ولكن العادات البسيطة، وأسلوب الحياة الصحي، يغير من نظرتك للحياة ولنفسك، لذا ربما يجب عليك أن تحدد من جديد أولوياتك في الحياة، وأن تدرك تمامًا أن طلب المساعدة الطبية متاح، طالما شعرت أنت بحاجتك لذلك.

اقرأ أيضًا: ما الابتسامة؟ وما فوائدها؟ وهل تصف دائمًا السعادة؟

المصادر

  1. The Surprising Difference Between Stress and Burnout. (2020). https://www.psychologytoday.com/us/blog/the-right-mindset/202011/the-surprising-difference-between-stress-and-burnout
  2. Burnout Prevention and Treatment – HelpGuide.org. (2020). https://www.helpguide.org/articles/stress/burnout-prevention-and-recovery.htm
  3. Burn-out an “occupational phenomenon”: International Classification of Diseases. (2020). https://www.who.int/news/item/28-05-2019-burn-out-an-occupational-phenomenon-international-classification-of-diseases

التحيز المعرفي والاستدلال: كيف يمكن لعقولنا أن تخدعنا؟

هذه المقالة هي الجزء 10 من 21 في سلسلة مقدمة في علم النفس

التحيز المعرفي والاستدلال: كيف يمكن لعقولنا أن تخدعنا؟

لقد استيقظت توًا من النوم، نهضت لتستعد للذهاب إلى عملك، بينما تتسائل هل أذهب مشيًا أم أقود السيارة؟
وفجأة تظهر لك الإجابة، تتذكر أن طريق العمل مسدود منذ يومين لذا تختار الذهاب مشيًا.
ما الذي حدث هنا؟
لقد اتخذت قرارًا وحللت مشكلة بناءًا على تحليل منطقي، وهذه العمليات الثلاثة (اتخاذ القرار وحل المشكلات والتحليل المنطقي) مرتبطة بمهارة «الفكر-Thought» في نظامنا المعرفي. لكن السؤال هنا، هل تقوم بهذه العمليات الثلاثة في كل مرة تتخذ قرارًا في حياتك؟ التحيز المعرفي والاستدلال: كيف يمكن لعقولنا أن تخدعنا؟

التحيز المعرفي والاستدلال

الإجابة، قطعًا لا. وهنا يأتي دور الاستدلال.
اعتقد العلماء قديمًا أن البشر مفكرون منطقيون، يستخدمون المنطق والعقلانية لاتخاذ قراراتهم. لكن أثبتت الدراسات أن لدينا نوع من الآليات المجهزة مسبقًا، مخطط للأنواع والمفاهيم التي يمكن أن نصادفها في حياتنا، فنعود إليها وقت الحاجة. فيما يُعرف بـ «الاستدلال-Heuristic»
وصف العلماء الاستدلالات أنها نوع من الاختصارات التي تساعدنا في اتخاذ القرارات بشكل أسرع، لكنها غالبًا ليست دقيقة تمامًا، بل يُمكن القول أنها مضللة في بعض الأحيان. وهناك أربعة أنواع من الاستدلالات التي يُمكن أن تعيق التفكير المنطقي فيما يُعرف بـ «التحيز المعرفي-Cognitive Bias»

التحيز المعرفي وتأثير التشكيل

أولًا. «تأثير التشكيل-Framing Effect»
هو نوع من التحيز المعرفي الذي يؤثر على قرارتنا عند تغير شكله، أو بمعنى آخر اختلاف القرارات باختلاف شكل نفس السؤال أو المشكلة.
مثال: ترى إعلانًا لمطعم بيتزا يخبرك أنها 90٪ خالية من الدهون، وآخرًا يخبرك أنها تحتوي على 10٪ من الدهون. أيهما ستختار؟
ستختار على الأغلب المطعم الأول. رغم أن كلا المطعمين يقدمان نفس نسبة الدهون، لكن طريقة عرض المعلومة أثرت على اختيارك، وهذا هو تأثير التشكيل.

ولا يقتصر تأثير التشكيل على البشر فقط، أجريت أحد الدراسات على قردة الكابوتشين لتختبر تأثير التشكيل عليهم. فكان هناك شخصان يقدمان الطعام للقردة، أحدهم يعرض عليهم موزتين أولًا، ثم يعطيهم الموزتين نصف عدد المرات، ويعطيهم موزة واحدة النصف الآخر. الشخص الثاني يعرض عليهم موزة واحدة في المقام الأول، ثم يفعل مثل زميله، يمنحهم موزتين نصف عدد المرات وموزة واحدة النصف الآخر. وجدت الدراسة أن القردة يفضلون الشخص الثاني على الشخص الأول، رغم حصولهم على نفس كمية الطعام في الحالتين. وذلك بسبب تأثير التشكيل.

التحيز المعرفي ومعدلات الإسناد

ثانيًا. «مغالطة معدلات الإسناد-Base rate Fallacy»
تخيل معي مجموعتين من سبعين مهندسًا وثلاثين محاميًا، من بينهم جون. جون رجل في منتصف الأربعينات، متزوج ولديه طفل، انطوائي، لا يهتم بالسياسة، هواياته الإبحار وحل الألغاز. فإلى أي المجموعتين ينتمي جون؟
ربما تقول مهندسًا، وهكذا يجيب أغلب الناس أيضًا. لكن هل وضعت في اعتبارك حجم المجموعتين عند اتخاذ قرارك؟
هذا هو تأثير معدلات الإسناد. عند جمع معلومتين إحداهما فردية تخص شخصًا ما، والأخرى إحصائية. يميل الناس إلى تجاهل الأعداد (معدلات الإسناد) والتركيز على المعلومة الشخصية.

التحيز للوفرة

ثالثًا. «التحيز للوفرة-Availability Bias»
أيهما تعتقد أكثر خطورة: سمكة القرش أم سلطة البطاطس؟
ربما يبدو هذا السؤال سخيفًا، بالطبع سمكة القرش أكثر خطورة. لكن دعنا نراجع بعض الأرقام أولًا: معدل الإصابة من أسماك القرش هو 1 من كل 6 مليون شخص، ومعدل القتل من أسماك للقرش هو 1 من كل 500 مليون شخص. معدل الإصابة بسبب تسمم الطعام هو 1 لكل 800 ألف شخص، أما معدل الموت بسبب تسمم الطعام هو 1 لكل 55 ألف شخص. إذن سلطة البطاطس أخطر ألف مرة من أسماك القرش!
والسبب في اعتقادنا أن أسماك القرش أكثر خطورة هو التحيز للوفرة. بمعنى أننا نميل إلى المبالغة في تقدير الحدث إذا كان مآساويًا أو رائعًا أو مثيرًا للانتباه فيسهل تذكره. وبالتأكيد موت شخص جراء هجوم سمكة قرش أكثر إثارة من الاختناق بسلطة بطاطس!
مثال آخر: أيهما تعتقد له النسبة الأكبر في اللغة الإنجليزية: الكلمات التي تنتهي بـ ng أم الكلمات التي تنتهي بـ ing؟
يميل أغلب الناس إلى الإجابة الثانية، لأن هذه المجموعة من الكلمات أسهل وأسرع تذكرًا. بينما الحقيقة أن الكلمات التي تنتهي بـ ng تحتوي الكلمات التي تنتهي بـ ing أيضًا وبالتالي لها النسبة الأكبر.

التحيز للتوكيد

رابعًا. «التحيز للتوكيد-Confirmation Bias»
تخيل معي أنك قاضٍ تحكم بين زوجين لتقرر أيهما يستحق حضانة طفلهما. أولهما صاحب دخل متوسط، ومهارات اجتماعية فقيرة، وبصحة جيدة، وعلاقة متوسطة مع الطفل، ولا يتنقل كثيرًا. والثاني له دخل مرتفع، وحياة اجتماعية ممتازة، ويعاني من مشاكل صحية طفيفة، وعلى علاقة مقربة بالطفل، ويسافر كثيرًا لقضاء أعماله. أيهما ستمنحه حضانة الطفل؟
من المرجح أنك ستختار الشخص الثاني، وهذا ما ذهب إليه أغلب الناس أيضًا.
أما عند عرض نفس المواصفات على مجموعة مختلفة من البشر وسؤالهم: أي الزوجين ستحرمه حضانة الطفل؟
تقع النسبة الأكبر على الشخص الثاني أيضًا، فما تفسير ذلك؟
يُمكن تفسير هذه النتائج وفقًا لمفهوم التحيز للتوكيد وهو تفضيل المعلومات التي تتماشي مع معتقداتنا أو تحيزاتنا السابقة وتجاهل تلك التي لا تتماشى معها. فتجد في السؤال الأول كلمة: منح الحضانة، ويتجه تفكيرك تلقائيًا إلى الصفات الإيجابية التي تستدعي المنح، ونجد أن الشخص الثاني يتمتع بها. أما في السؤال الثاني: حرمان الحضانة، وهنا يتجه تفكيرك إلى الصفات التي تستدعي الحرمان، ونجد هذه واضحة أيضًا في الشخص الثاني.
ونلاحظ أن هذا المثال ينطبق كذلك على تأثير التشكيل، فعندما اختلف شكل السؤال اختلفت الإجابة.

التحيز للتوكيد والأرض المسطحة

وأمثلة التحيز للتوكيد في واقعنا كثيرة، منها: المؤمنون بالأرض المسطحة، أو إنكار هبوط الإنسان على القمر. فنجد هؤلاء الأشخاص يفضلون المعلومات التي تتماشي مع معتقداتهم السابقة، ويرفضون أي معلومات مغايرة. ويمكن أن يؤدي هذا النوع من التحيز إلى حالة من «ترسخ الاعتقاد-Belief perseverance» ورؤية العالم بذهن ثابت يرفض التغيير!

اقرأ أيضًا: كيف تعمل الذاكرة؟ وكيف يحدث النسيان؟

المصادر

١. Boycewire
٢. Verywellmind
٣. Verywellmind
٤. Decisionlab

كيف عرف ستيرنبرج الحب؟ وما العوامل التي تضمن حدوثه؟

هذه المقالة هي الجزء 9 من 21 في سلسلة مقدمة في علم النفس

كيف عرف ستيرنبرج الحب؟ وما العوامل التي تضمن حدوثه؟

الحب، إنه الشعور الأروع على الإطلاق. التجربة التي نتوق لها جميعًا ونحاول فك شفرتها. ونتمنى لو نجد إجابات سهلة عنها. لكن ما هو الحب؟ وهل حقًا استطاع العلماء فك شفرته؟

كيف عرف ستيرنبرج الحب؟

علم النفس الاجتماعي هو الفرع الذي يهتم بدراسة مشاعر الحب والانجذاب، وقام علمائه بتجارب جمة للتوصل إلى تعريف للحب وتحديد عوامل نجاحه. تطرق عدد من العلماء إلى تعريف الحب، لكن الأشهر بينهم وضعه العالم روبرت ستيرنبرج في ثمانينات القرن الماضي وعُرف نظرية مثلث الحب.

وتُفسِر هذه النظرية الحب أنه شعور يتكون من ثلاثة عناصر أساسية: الحميمية، والشهوة، والالتزام. الحميمية هي شعور القرب والتواصل، أو بمعنى آخر مشاركة الأمور الشخصية التي لا تتشاركها مع أي شخص آخر. والشهوة هي الرغبة أو الانجذاب الجسدي. والالتزام هو وضع عنوان للعلاقة أنها علاقة حب ومن ثم اتخاذ قرار الالتزام -على المدى الطويل- بها. وهكذا رأى ستيرنبرج أن وجود هذه العناصر ثلاث يعني تكامل الحب وتمامه. لكن ماذا يحدث عند وجود عنصر واحد من العناصر الثلاث؟ أو اثنان؟ أو لا عناصر على الإطلاق؟

أنواع الحب

هذا هو الجزء الأكثر تشويقًا من نظرية ستيرنبرج، فيمكن القيام بعمليات تبادلية بين العناصر الثلاث للتوصل إلى الأنواع المختلفة من الحب في أغلب العلاقات البشرية. وسنتطرق أولًا إلى العلاقات ذات العنصر الواحد:

  • الصداقة: عند وجود الحميمية أو شعور القرب والتواصل فقط، وغياب الرغبة والالتزام، نحصل على علاقات الصداقة، أو الإعجاب، التي يمكن أن تتطور إلى علاقات حب لاحقًا.
  • الافتتان: عند وجود الرغبة فقط، وغياب الحميمية والالتزام نحصل على الافتتان. وهي علاقات تقوم على الانجذاب الجسدي فقط دون معرفة عميقة أو قرار بالالتزام. ويكون تأثيرها عادةً قوي للغاية، ومن المحتمل أن ينمو إلى علاقات حب لاحقًا.
  • الحب الخاوي: عند وجود الالتزام فقط، وغياب الحميمية والرغبة نحصل على علاقات الحب الخاوي. ويظهر هذا كمرحلة أخيرة في العلاقات التي تسوء بمرور الوقت فيقرر طرفاها الالتزام من أجل الأطفال أو المظهر العام أو أسباب مادية. أو كمرحلة أولى في علاقات الزواج التقليدي التي تتم بدون معرفة مسبقة.

وثانيًا، العلاقات ذات العنصرين:

  • الحب الرومانسي: عند وجود الحميمية والرغبة وغياب قرار الالتزام نحصل على الحب الرومانسي. وهي علاقات تقوم على القرب والتواصل الجسدي دون أي قرار بالالتزام على المدى الطويل.
  • العشرة/الصداقة المقربة: عند وجود الحميمية والالتزام وغياب الرغبة نحصل على علاقات مثل الصداقة المقربة أو الزواج بدون جنس. أي علاقات تقوم على القرب وقرار الالتزام دون أي اتصال جسدي.
  • الحب الوهمي: عند وجود الشهوة والالتزام وغياب الحميمية نحصل على علاقات الحب الوهمي أو الحب الأبله. ونجد هذا في علاقات الزواج المتسرع قصير المدى.
  • أما عند غياب العناصر الثلاث نحصل على علاقات اللاحب، وهي العلاقات التي تربطك بالغريب الذي يمر بجانبك في الشارع. فلا توجد حميمية ولا شهوة ولا قرار بالالتزام.
  • وأخيرًا، الحب المتكامل وهو الحب الذي يتضمن العناصر الثلاث بدرجات متفاوتة خلال مراحل مختلفة من العلاقة. وهو الشكل الأمثل للحب في نظر ستيرنبرج.

كيف يحدث الحب؟

بحث علماء النفس الاجتماعي في الحب، وحاولوا فك شفرته، لكن جميع التجارب والنتائج التي وصلت إلينا تخص الانجذاب وليس الحب. باعتباره الخطوة الأولى التي يمكن أن تتطور لاحقًا إلى علاقات حب. وبهذا توصل علماء النفس إلى سبع عوامل/متغيرات لحدوث الانجذاب، منها ثلاثة عوامل رئيسية واضحة التأثير، وأربعة عوامل أخرى قوية أيضًا لكنها أقل وضوحًا وربما يغفل عنها الكثير.

أولًا، العوامل الثلاث الرئيسية:

  • «التقارب-Proximity»

هل حلمت يومًا بالغريب المثالي الذي ستلتقيه صدفة في ليلة ماطرة، تتبادلان حديثًا رائعًا ثم تقعان في الحب؟ باختلاف بعض التفاصيل -من المحتمل أنه صباح صيفي لا ليلة ماطرة- يمكننا القول أن أغلبنا اختبر هذا الأمر، الذي يمكن أن نصفه بالخرافة الثقافية. فيرى علماء النفس أنه من المرجح أنك ستنجذب لشخص مجاور لك، شخص يقع في حيز مكاني قريب عوضًا عن الغريب الرائع، وهذا هو مبدأ التقارب.

  • «التشابه-Similarity»

هل سمعت عن القاعدة الفيزيائية أن الأقطاب المتشابهة تتنافر والمختلفة تتجاذب؟ ربما سمعت بها قبلًا ورأيت من حاولوا تطبيقها على علاقاتهم. لكن علماء النفس الاجتماعي أثبتوا فشلها، ووجدوا أنه كلما زاد التشابه بين شخصين كلما زادت احتمالية انجذابهما لبعضهما. وذلك لعدد من الأسباب أهمها: أنه شعور رائع! تواجدك مع شخص يشبهك في نفس المكان يسهل التواصل بينكما، ويعطي نوع من التوكيد لكل منكما عندما تتبنيان نفس الرأي. فتزيد الثقة فيما تقولان وتتحمسان لقول المزيد.

  • «الألفة-Familiarity»

عرض العلماء مجموعة من الكلمات بلغة غريبة على عدد من الأشخاص لثوان معدودة، ثم عرضوا مجموعة أكبر من الكلمات الغريبة من بينها الكلمات التي رآها المشاركون سابقًا، ثم سألوهم: مع العلم أنكم لا تعرفون معنى أى من هذه الكلمات لكن أيها تفضلون؟ وجاءت إجابات المشاركين أنهم يفضلون الكلمات القديمة التي رأوها في المرة الأولى، حتى وإن لم يتذكروا رؤيتها من قبل!

وهذا هو تأثير الألفة، الذي يمكن تطبيقه على البشر بكل تأكيد. فيجد علماء النفس أننا نميل وننجذب للأشخاص اللذين نألفهم ونشاركهم نفس البيئة.

العوامل الأقل وضوحًا

الأربعة عناصر الأقل وضوحًا وهم:

  • «تأثير السقوط-Pratfall Effect»

من المعروف أننا ننجذب للأشخاص المهرة الأكفاء، الذين يدرون دورهم في الحياة. وهذا أمر طبيعي تمامًا لكنه غير مشوق، فمتى تحدث الإثارة؟

تحدث الإثارة حينما يرتكب الشخص الماهر خطأ أحمق، فيتضاعف إعجابنا به! وهذا ما يُعرف بتأثير السقوط. يشعرنا وقوع الشخص الماهر في الخطأ بشعورًا جيدًا حيال أنفسنا، نراه فجأة أكثر إنسانية وتواضعًا وقربًا، ونشعر أنه يشبهنا في نهاية المطاف، فننجذب له أكثر.

أشهر التجارب التي تفسر تأثير السقوط قام بها العالم إليوت أرنسون وجاءت النتائج مذهلة. أُجريت التجربة على طلاب جامعيين، طُلب منهم الاستماع إلى تسجيل صوتي للمتقدمين إلى تمثيل الجامعة في مسابقة تليفزيونية. التسجيل الأول لطالب مثالي، يحصل على علامات ممتازة ويشترك في كثير من الأنشطة. والتسجيل الآخر لطالب متوسط، علاماته جيدة، وأقل انخراطًا في أنشطة الجامعة. ثم سُأل المشاركون عن الطالب الذي يفضلونه؟

فذهب أغلبهم بالطبع إلى اختيار الطالب المثالي. لكن الأمر لم يتوقف هنا، استمر التسجيل الصوتي وسمع الطلاب قرقعة وضوضاء وبعدها شخص يقول: “اللعنة، لقد سكبت القهوة على بذلتي الجديدة”، سُأل المشاركون مجددًا عن الطالب الذي يفضلونه، فارتفع تقديرهم للطالب المثالي الذي سكب القهوة كثيرًا. ولسوء الحظ، انخفض تقديرهم للطالب المتوسط الذي سكب القهوة أكثر. وبهذا وجد ارنسون أن تأثير السقوط يعمل في كلا الاتجاهين، فيرفع من جاذبية الشخص الماهر، ويقلل من جاذبية الشخص المتوسط.

الجاذبية الجسدية

المظهر هو أحد الأمور المزعجة التي يرفض أغلبنا الاعتراف بأهميتها، فنقول لأنفسنا أنه ليس عادلًا أن الانجذاب الجسدي له أهمية في الحياة، خصوصًا إذا وجدنا أنفسنا خارج تصنيف الجاذبية الجسدية. وإذا سألت مجموعة من طلبة الجامعة عن الصفات التي يبحثون عنها في علاقاتهم، سيقولون لك صفات مثل التفاهم والذكاء وحس الفكاهة والتعاون، أما المظهر فليس هامًا للغاية. أما الحقيقة أنه إذا قابلت شخصًا للمرة الأولى، ولم يعجبك مظهره فمن المرجح أنك لن تراه ثانيةً.

أحد الدراسات التي بحثت أهمية الجاذبية الجسدية تُدعى «تجربة الشعر المستعار المجعد-The frizzy wig experiment». استعان القائمون على هذه التجربة بممثلة يراها أغلب الناس جذابة، وغيروا مظهرها لتصبح أقل جاذبية باستخدام شعر مستعار مجعد. كانت الممثلة تقابل مجموعة من الشباب وتطرح عليهم عددًا من الأسئلة ثم تعطيهم تقييمًا. وعندما كانت الممثلة أقل جاذبية لم يهتم المشاركون بتقييمها سواء كان إيجابيًا أم سلبيًا. أما عندما ظهرت الممثلة بهيئتها الجذابة، فرحوا بتقييمهم الإيجابي كثيرًا، واستاء هؤلاء الذين حظوا بتقييم سلبي، بل وطالبوا بإعادة المقابلة!

وهكذا توضح لنا هذه التجربة أننا نتأثر برأي الأشخاص الجذابين، ونعطيه أهمية كبيرة على عكس الأشخاص الأقل جاذبية. وهذا أمر غير عادل وغير منطقي لكنه عمليًا موجود. وتوضح أيضًا التناقض الكلاسيكي بين ما نعتقد أنه تافه وغير هام، وما يُثبت عمليًا أنه أكثر أهمية. لكن لحسن الحظ تثبت هذه الدراسات أيضًا أن الجاذبية الجسدية مهمة في تحديد نجاح المقابلات الأولى فقط، أما نجاح العلاقات على المدى الطويل فيحدده عوامل أقل سطحية من المظهر بالطبع.

«تأثير المكسب والخسارة-Gain loss effect»

هناك صفة تطورية اكتسبها البشر على مر الزمان، وهي حساسيتهم وانتباههم للتغيير. وهذا أمر طبيعي لأن الاستقرار يعني الأمان، أما التغيير فهو مؤشر للخطر أو فرصة جديدة، وقد يساعد التنبه لهذا التغيير على الاستمرار والبقاء. لكن كيف يحدث هذا في حالات الحب والانجذاب؟
هناك شخصان، أحدهما يحبك ويظهر مشاعره لك بصورة مستمرة، والآخر ينمو انجذابه لك مع الوقت. أيهما سيجذب انتباهك أكثر؟
الإجابة هي الشخص الثاني، الذي ينمو تقديره لك مع الوقت، حتى وإن كان متوسط مشاعره أقل من الشخص الأول. وهذا هو تأثير المكسب. التغير المفاجيء والنمو التدريجي للمشاعر يجذب الانتباه أكثر من المشاعر الثابتة.
ويمكن تطبيق ذلك أيضًا على المشاعر السلبية، فلا يقع عليك الأذى بسبب شخص يكرهك ويُظهر لك هذا دائمًا. وإنما يأتي الألم من تقدير الأشخاص المرتفع الذي يتلاشى بمرور الوقت. وهذا هو تأثير الخسارة، أو تحول المشاعر من إيجابية إلى سلبية بمرور الوقت.

«الإسناد الخاطيء لأسباب الإثارة-Misattribution of arousal»

يحدث هذا الأمر عندما تشعر بالإثارة الجنسية لكنك لا تعلم السبب، فتفسره تفسيرًا خاطئًا وتعتقد أنه حب أو انجذاب.
ولفهم هذا العامل ودوره في حدوث الانجذاب قام العلماء بعدد من التجارب، أشهرها «تجربة الجسر المتهالك-Rickety bridge experiment»، أُجريت هذه التجربة على جسر عالٍ ومتهالك يقع في مدينة فانكوفر بكندا، وعلى جسر آخر أكثر استقرارًا وثباتًا يؤدي إلى نفس الوجهة. استعان العلماء بممثلة جذابة، كانت تستوقف الذكور الذين يعبرون كلا الجسرين وتطلب منهم مساعدتها في استبيان ما ثم تعطيهم رقمها وتخبرهم أن يتواصلوا معها إذا أرادوا معرفة النتيجة.

وجد القائمون على التجربة أن هؤلاء الذين عبروا الجسر المتهالك اهتموا بالممثلة وتواصلوا معها بالفعل، على عكس هؤلاء الذين عبروا الجسر الآمن. وفسر العلماء ذلك أن عبور الجسر المرتفع المتهالك مرتبط بزيادة ضربات القلب وسرعة التنفس والتعرق. لذلك أسقط المشاركون هذه الإثارة على الممثلة الجذابة واعتقدوا أنهم منجذبون لها.

قام العلماء بتجربة أخرى طلبوا من المشاركين فيها وضع سماعات رأس تضخم صوت ضربات القلب بينما يتصفحون أحد المجلات الإباحية، ثم اختيار صورتهم المفضلة. جاءت النتائج أن أغلب المشاركين اختاروا الصورة التي زادت ضربات قلبهم عند رؤيتها. لكن الحيلة هنا، أنهم لم يستمعوا إلى نبص قلبهم الحقيقي وإنما إلى تسجيل صوتي لضربات القلب يقوم المسئول بتسريعه عشوائيا عند أي صورة. وبهذا يقع هؤلاء الأشخاص في فخ الإسناد الخاطيء للإثارة، فيعتقدون أن ضربات قلبهم المتسارعة دليل على الانجذاب والحب.

وهنا يجب القول أن هذا المفهوم تحديدًا له آثار أكثر خطورة في الواقع، منها: ضحايا العلاقات المسيئة والعنف المنزلي. ما يحدث أن هؤلاء الأشخاص لا يدركون أنهم في علاقات مسيئة، حيث يسبب لهم الصراخ والشجار والغصب إثارة من نوع ما، تُترجم خطئًا أنها حب. فيرددون عبارات مثل: لم يكن ليصرخ بي لو لم يكن يحبني. وبالطبع هذا خاطيء وغير حقيقي تمامًا.

خاتمة

تعرفنا على نظرية مثلث الحب لستيرنبرج، والعناصر الثلاثة الضرورية التي وضعها لتكامل الحب وتمامه، وهي الحميمية والشهوة والالتزام. بالإضافة إلى أنواع الحب المختلفة التي تنشأ عند وجود عنصر واحد فقط أو اثنين أو لا شيء على الإطلاق. كما تعرفنا على سبع عوامل تؤثر في حدوث الانجذاب الذي يمكن أن يتطور إلى حب. منها ثلاث ذات تأثير واضح وهي التقارب والتشابه والألفة. وأربع أقل وضوحًا وهي تأثير السقوط والانجذاب الجسدي وتأثير المكسب والخسارة واالإسناد الخاطيء للإثارة. لذا ربما حين تجتمع بأصدقائك المرة القادمة، ناقشوا علاقاتكم في ضوء عناصر الحب الثلاث لستيرنبرج، وربما تصدمك النتائج!

اقرأ أيضًا: متلازمة ستوكهولم: تعاطف الضحية مع جلادها

المصادر

متلازمة ستوكهولم: تعاطف الضحية مع جلادها

رغم كثرة الحديث عن متلازمة ستوكهولم في العقود الأخيرة، إلا أننا ما زلنا لا نعرف الكثير عنها. وهي تعرف بأنها تدفع الضحية إلى التعاطف مع مضطهدها، وقد تصل إلى رفض الهروب من الاضطهاد الذي تتعرض له. فما هي أسباب هذه المتلازمة ؟ وما هي أعراضها تحديدًا؟

ما هي متلازمة ستوكهولم؟

هي ظاهرة نفسية يُصاب بها الشخص المخطوف، أو المُعرّض لحالة عنف خطيرة، فيشعر الشخص المخطوف بالتعاطف أو التعلق أو الحب باتجاه خاطفه أو مُعنفه. وبالرغم أن المتلازمة غير مُصنفة كتشخيص في أي من المراجع الطبية النفسية، إلا أنها قد وُصفت في حالات فردية عديدة، كما أنها،ومنذ القرن الواحد والعشرين، تعدّت تعريفها الأصلي الذي يربطها بالخطف، ووُصفت أيضًا عند بعض الأشخاص المُعنفين منزليًا وسجناء الحرب والأطفال المستغلين جنسيًا والنساء المستغلات جنسيًا في مجال الدعارة. وفي بعض الأحيان، يتم وصف متلازمة ستوكهولم في إطار جماعي، أي تصيب أبناء جماعة أو طائفة معينة باتجاه جماعة أخرى تستغلها أو تعنّفها.

ما أصل تسمية متلازمة ستوكهولم؟

سُميت متلازمة ستوكهولم باسمها تبعًا لحادثة حصلت في عاصمة السويد. ففي عام 1973، قام شخصان بعملية سرقة لمصرف في مدينة ستوكهولم، احتجزا فيها أربعة من موظفي المصرف لمدة ستة أيام متتالية. وقد أظهر الموظفون المخطوفون مشاعر تماهي وتعاطف مع خاطفيهم، بحيث أجري اتصال خلال فترة الخطف بين رئيس مجلس الوزراء السويدي وإحدى المخطوفات، أكدت خلاله أنه يتم معاملتهم بطريقة جيدة من قِبل الخاطفين، وأنها تثق بهما كثيرًا. وعبرت عن خوفها من أن يتم إيذائها من قبل شرطة بلدها في حال اعتدت على خاطفيها. وبعد تحرر المخطوفين، رفضوا جميعًا الشهود ضد خاطفيهم.

ما هي أعراض متلازمة ستوكهولم؟

كون متلازمة ستوكهولم غير مُصنفة كتشخيص طبي واضح، يصعب تحديد أعراض واضحة ودقيقة لها، لكنها تتّسم بثلاثة صفات أساسية:
-شعور الضحية بأحاسيس إيجابية تجاه الشخص المسيئ لها (كالتعاطف والتعلق).
-شعور الضحية بأحاسيس سلبية تجاه السلطة أو الشرطة أو أي جهة منقذة (تنقذ الضحية من جلادها)، ورفض التعاون معها.
-تماهي الضحية مع مبادئ وأهداف الجهة المسيئة لها.

كيف يفسر العلماء متلازمة ستوكهولم؟

ظهرت متلازمة ستوكهولم في العديد من أعمال العنف والخطف على مر السنين، إلا أن الدراسات التي تناولت مدى انتشارها وعلاقتها بأمراض نفسية أخرى مازالت غير كافية لفهم هذه الظاهرة النفسية من كافة جوانبها. كذلك تُعتبر أسباب المتلازمة غير واضحة، وهي تختلط بين أسباب فردية متعلقة بالتركيبة النفسية للفرد، وأسباب خارجية تتعلق بحالة العنف وشخصية المُعنف وحتى التركيبة الاجتماعية التي تحيط بعملية استغلال الضحية.

حاليًا، يتفق علماء النفس أن أعراض متلازمة ستوكهولم هي عبارة عن أسلوب نفسي دفاعي (Defense Mechanism)، يدافع من خلالها الجهاز النفسي للضحية عن نفسه من خلال نكران الأذى (الجسدي أو/و النفسي) الذي يتعرض له، أو تبريره. وتشكل غريزة البقاء لب متلازمة ستوكهولم إذ تكون عادة ملازمة لحوادث خطيرة وقد تكون مميتة، ويُصوَّر في هذه الحالة الجلاد كمنقذ من الموت بالنسبة للضحية.

في العام 1994، كتبت الباحثة «دي غراهام-Dee Graham» في كتابها «حب البقاء-Loving to survive» أن متلازمة ستوكهولم تنتج عن أربعة عوامل مجتمعة. العامل الأول هو تلقي الضحية لحادث يشعره بتهديد حقيقي لحياته ثم شعوره بزوال هذا التهديد (مثلًا: كان بإمكان الخاطف أن يقتلني لكنه لم يفعل). العامل الثاني هو تصور أفعال الشخص المسيئ له كأفعال حسنة (سمح لي بالطعام أو بالاتصال بعائلتي…) وسط كل الحالة السيئة التي تعيشها الضحية. العامل الثالث هو انعزال الضحية عن أي تواصل مع جهات أخرى (غير الجهة المسيئة لها)، وبالتالي الايمان بمبادئ هذه الجهة وإنسانيتها. وأخيرًا، العامل الرابع هو عدم تصور أي طريقة للهروب من الإساءة. وهنا، أمام العجز التام في الهروب الفعلي، يكون الهروب النفسي من خلال التماهي مع الشخص المسيئ والتعاطف معه هو الحل.

تأخذ متلازمة ستوكهولم أشكالًا عديدة، فهي لا تنحصر بالعلاقات بين الضحية والمضطهد، بل تتعدّاها أيضًا إلى العلاقات العاطفية “السامة”، التي يكون أحد الأطراف غالبًا ضحية عاطفية ونفسية للطرف الآخر. ويعتبر البعض أن هذه الظاهرة النفسية قد تصيب شعوبًا كاملة، تخلق عندها نوعًا من التبعية والولاء لقادة مستغلين لهم ومضطهدين لحقوقهم.

إذًا لا شك أن دراسة هذه المتلازمة المعقدة ما زالت في بدايتها، وهي لم تطل بعد جوانبها الاجتماعية والثقافية. وهناك الكثير من الأسئلة التي ما زالت بحاجة إلى إجابة: هل تعتبر متلازمة ستوكهولم سلاحًا بيد المستغلين والمضطهدين، أكانوا أفرادًا أم جماعات أم دول، لبرمجة ضحاياهم على الرضوخ؟ أم هي مجرد متلازمة نفسية فردية مرتبطة بشخصية الضحية؟

المصادر:

Britannica
Healthline
researchgate

متلازمة الرأس المنفجر : أصوات تحرمك النوم

يشكّل النوم حوالى ثلث حياتنا البشرية، وهو حاجة جسدية أساسية تكاد تفوق في أهميتها المأكل والمشرب. فالنوم لا يلبّي فقط حاجتنا للاسترخاء والراحة، بل هو يؤمن التوازن في وظائف الدماغ وأعضاء الجسم، وأي خلل يصيبه يؤثر على الصحة الجسدية والنفسية. لذلك أبدت العلوم الطبية اهتمامًا أكبر باضطرابات النوم، وواحدة من هذه الاضطرابات هي متلازمة الرأس المنفجر. وهي متلازمة غريبة تعرقل النوم بهلوسات صوتية مرعبة. فما هي أعراض متلازمة الرأس المنفجر؟ ومن يُصاب بها؟

ما هي متلازمة الرأس المنفجر؟

متلازمة الرأس المنفجر، التي تُعرف بالانكليزية ب«Exploding Head Syndrome» أو EHS، هي اضطراب في النوم نتيجة هلوسات سمعية تحدث عند الانتقال من حالة الصحو إلى حالة الغفو أو العكس، وتكون الأصوات المُهَلوسة غالبًا قوية ومزعجة جدًا، ورغم أنها في العادة تكون غير مؤلمة، غير أنها قد تحمل تأثيرًا كبيرًا على حياة الفرد وتتطلّب في هذه الحالة تدخلًا طبيًا.

وُصفت الحالة الأولى من المتلازمة في عام 1920 من قِبل الطبيب البريطاني روبيرت أرمسترونغ – جونز. وتم استخدام كلمة “الرأس المنفجر” لأول مرة في عام 1989 من قبل بيرس الذي وصف حالة 40 شخص يشعرون بالأعراض نفسها.

ما هي أعراض متلازمة الرأس المنفجر؟

بحسب التصنيف الطبي الدولي لاضطرابات النوم (International Classification of Sleep Disorders- 3rd edition)، يتضمّن تشخيص متلازمة الرأس المنفجر ثلاثة أعراض أساسية:

– سماع صوت مفاجئ أو الاحساس بانفجار مصدره الرأس في أول فترات النوم أو عند فترات الاستيقاظ في الليل.
– الاحساس بقلق وخوف شديدين (يكون مصحوبًا عادةً بسرعة في دقات القلب وفي سرعة وقع التنفس).
– عدم الإحساس بالألم.

تختلف الأصوات المُهَلوسة بين الأشخاص المُصابين بالمتلازمة وقد تم تشبيهها من قِبلهم ب: صوت انفجار قوي، أو صوت إطلاق نار، أو دوي الرعد، أو زئير حيوان مفترس، أو صوت إغلاق باب بعنف، أو صوت صرخات بعيدة، أو أصوات أزيز التيار الكهربائي وغيرها من الأصوات. وهي غالبًا تدوم للحظات قليلة.

تكون هذه الأصوات مصحوبة أحيانًا بهلاوس بصرية (كتوهّم وجود ضوء قوي أو ومضات سريعة من الضوء)، وتشنّج في بعض العضلات خصوصًا في عضلات الأطراف.

ويشعر الفرد بعدها بأعراض تشبه نوبة الهلع ك الاحساس بالخوف الشديد وعدم القدرة على التنفس وتسارع ضربات القلب والتعرق وغيرها. وهي بالتالي تعطل النوم في كثير من الأحيان.

متلازمة نادرة أو شائعة؟

لا يوجد دراسات كافية لتأكيد مدى شيوع متلازمة الرأس المنفجر. ففي حين يعتبر البعض أنها متلازمة نادرة، يرى آخرون أنها في كثير من الأحيان تبقى بلا تشخيص، لذلك قد تكون أكثر شيوعًا ممّا نعتقد. وقد أثارت بعض الدراسات الحديثة الصدمة بعد أن بيّنت انتشار متلازمة الرأس المنفجر عند الطلاب الجامعيين.

 وقد يكون السبب في هذا التباين هو اختلاف عدد نوبات المتلازمة بين الأشخاص، بين نوبة واحدة خلال عدة أشهر (في هذه الحالة تبقى بلا تشخيص ولا تتطلّب العلاج)، وبين عدة نوبات في الليلة الواحدة (حينها تحتاج للعلاج).

تُصيب المتلازمة الأشخاص من كل الأعمار، لكنها أكثر شيوعًا عند الأشخاص الذين بلغوا الخمسين عامًا أو أكثر.

ما هي أسباب المتلازمة؟

لا تزال أسباب المتلازمة المجهولة، لكن تمّ طرح عدة نظريات لتفسيرها. أولها تفترض خلل في عمل التشكل الشبكي في الدماغ، وهو مسؤول عن تنظيم ايقاع النوم. فيؤدي هذا الخلل إلى نشاط دماغي زائد في الفترة الانتقالية بين اليقظة والنوم، فيخلق هذه الهلوسات السمعية. نظرية أخرى تفترض وجود نوبات جزئية في الفص الصدغي. هذه النظريات وغيرها تفترض أن المشكلة تكمن في إحدى وظائف الدماغ.

لكن هناك نظريات أخرى تعتبر أن المتلازمة قد تكون ناتجة عن أمراض في الأُذُن، خصوصًا في الأذن الوسطى والداخلية.

تجدر الإشارة إلى أن المتلازمة قد تكون مرتبطة بالتوتر والقلق. وهي أكثر شيوعًا عند الأشخاص الذين يظهرون مشاكل واضطرابات سابقة في النوم.

ما هو علاج متلازمة الرأس المنفجر؟

تختلف حاجة الأشخاص المُصابين بمتلازمة الرأس المنفجر بحسب عدد النوبات التي يشعرون بها.

فإذا كانت النوبات نادرة (مرة واحدة كل عدة أشهر مثلًا)، يكتفي العلاج بمعرفة الفرد بأن الذي يعاني منه هو متلازمة مشخصة، وتصيب أشخاصًا آخرين وهي لا تشير إلى خلل نفسي أو مرض دماغي خطير. ويُنصح إجمالًا بالتخفيف من حدة التوتر والقلق خصوصًأ قبل النوم، ومحاولة تنظيم أوقات النوم.

أما إذا كانت النوبات كثيرة (أكثر من مرة في أسبوع واحد أو في ليلة واحدة)، فهي في هذه الحالة تؤثر بشكل كبير على كمية ونوعية النوم الذي يحصل عليهما الشخص، وبالتالي على إنتاجيته ووظائفه النفسية والجسدية. من هنا، تظهر أهمية التدخل العلاجي الذي يتضمن في العادة أدوية معينة كمضادات الاكتئاب وأدوية الصرع وغيرها، وتكون فعالة غالبًا إلى حد اختفاء الأعراض نهائيًا.

رغم أن متلازمة الرأس المنفجر غير خطيرة، غير أنها لا شك تجربة تثير الخوف والقلق عند من يُصاب بها. وعلى الرغم من أن التقدم الطبي جعلها سهلة العلاج، لكن تبقى التوعية عنها مهمة لتشجيع الأشخاص المُصابين بها لفهم حالتهم وتلقي المساعدة التي تلزمهم لتخطيها.

المصادر:

NCBI
Journal of Clinical Sleep Medicine
Wiley Online Library
Science Direct

متلازمة سلامة الهوية الجسدية : أريد أن أبتر ساقي

“لا تكتمل سلامة جسدي إلا من خلال نقصها”.

تختصر هذه الجملة متلازمة سلامة الهوية الجسدية. فما هي هذه المتلازمة؟ وما هي أسبابها؟

ما هي متلازمة سلامة الهوية الجسدية؟

هي متلازمة نفسية نادرة ناتجة عن اختلاف بين صورة الجسد العقلية والجسد المادي، تجعل الشخص المُصاب بها يرغب ببتر أو تعطيل أحد أعضائه أو يرغب بالشلل. تصيب عادةً الأشخاص منذ مرحلة الطفولة، وفي كثير من الأحيان تصل حالتهم إلى مرحلة خطرة تتضمن محاولات لإيذاء النفس أو إجراء عملية جراحية للبتر.

تاريخ المتلازمة

وُصف اضطراب سلامة الهوية الجسدية لأول مرة عام 1977، من قِبل الباحث في علم النفس و علم الجنس «جون نوني-John Money». وقد سُميت وقتئذٍ بال«أبوتيمنوفيليا-Apotemnophilia»، وهي تعني بالإغريقي “حب القطع/ البتر”. وبيّن موني في دراسته أن الأشخاص المُصابين بمتلازمة سلامة الهوية الجسدية ينجذبون جنسيًا الى أشخاص مشلولين أو مبتورين أو حتى إلى أغراض معينة مرتبطة بالإعاقة الجسدية كالكرسي المتحرك والعكاز والأطراف الاصطناعية. لذلك اعتُبرت متلازمة الهوية الجسدية نوع من ال«بارافيليا-Paraphilia» التي كانت تُعرف باسم الانحراف الجنسي.

يقترح أيضًا تسميتها بالxenomelia.

عام 1997، قام الطبيب ريتشارد برونو المتخصص في الأمراض الجسدية-النفسية بدراسة متلازمة سلامة الهوية الجسدية، وصنف الأشخاص المُصابين بها إلى ثلاثة أنواع:

1) الأشخاص الذين يرغبون البتر رغبةً بالإعاقة الجسدية نفسها، وتكون رغبتهم غير مرتبطة بهواماتهم الجنسية.
2) الأشخاص الذين يتظاهرون بالإعاقة الجسدية (من خلال استخدام كرسي متحرك مثلاً) ويقصدون الحصول على الانتباه.
3) الأشخاص الذين يُثارون جنسيًا بالجسد المبتور/المشلول، لذلك يرغبون بالظهور بهذا الشكل الجسدي.

حالياً، يُعتقد أن الأبوتيمنوفيليا هي اضطراب في الهوية، لذلك أصبح الاسم الأكثر شيوعًا لها هو متلازمة “سلامة الهوية الجسدية”.

أعراض المتلازمة

تبدأ عادةً الإشكالية الجسدية بالظهور منذ الطفولة. وقد يقوم الطفل بمحاولات لإيذاء الطرف الذي يرغب ببتره.

العارض الوحيد الذي يظهر هو الرغبة الحقيقية ببتر طرف معين، أو الشلل (من خلال قطع الحبل الشوكي) أو تعطيل عضو معين (مثل العيون مثلًا) بهدف خلق إعاقة جسدية. فيشعر الشخص المُصاب بالمتلازمة أن عضو معين بشع، ومن خلال التخلص منه يحصل على جسد أجمل. وأحيانًا يشعر بخط فاصل (بين العضو الذي يرغب ببتره و باقي جسده) يؤلمه.

وقد يحاول بكل الوسائل تحقيق رغبته من خلال إما إقناع الطاقم الطبي بالقيام بعملية بتر أو يقوم بها بنفسه (مثلًا اطلاق النار على قدمه، نشر يده بالمنشار، وضع مواد كيميائية مؤذية في عيونه،…).

أسباب متلازمة سلامة الهوية الجسدية

تصعب دراسة متلازمة سلامة الهوية الجسدية كونها نادرة في العالم، ولصعوبة تشخيصها كونها غير مصنفة في الدلائل التشخيصية العالمية المُعتمدة من قبل الأطباء النفسيين. لذلك لم تُدرس بشكل كبير الأسباب المؤدية لها.

ترتبط المتلازمة عادةً بأمراض نفسية أخرى: اضطرابات المزاج،  واضطراب القلق، واضطرابات الأكل، وتعاطي المخدرات وغيرها. لكن هذه الأمراض لا تُعتبر مسببة للمتلازمة.

تُظهر صور الرنين المغناطيسي أن الأشخاص المصابين بالمتلازمة يظهرون خللًا في الفص الجداري من الدماغ. فيكون الفص الجداري أقل نشاطًا ويحمل كمية أقل من المادة الرمادية الدماغية. من الجدير بالذكر أن الفص الجداري هو المسؤؤل عن تكوين صورة الجسد العقلية، وبالتالي أي خلل في هذه المنطقة الدماغية يؤدي إلى اضطراب في الهوية الجسدية.

علاج المتلازمة

لم ينجح أي علاج دوائي أو نفسي حتى الآن بمعالجة هذه المتلازمة. ولكن العلاج النفسي يساهم في فهم الشخص المصاب لحالته المرضية.

الطريقة الوحيدة لعلاج الرغبة الحقيقية بالبتر هي بتحقيقها! وقد خلقت هذه الطريقة “العلاجية”  جدلًا كبيرًا في المجال الطبي النفسي، بين اعتبار الشخص المصاب مستقل في قراره ومسؤول عن هذا القرار أو اعتباره مريضًا نفسيًا غير قادر على أخذ قرار يؤدي إلى إعاقته.

ولكن تجارب عدة مع أشخاص مصابين بالمتلازمة المذكورة أثبتت أنهم يرضون تمامًا بعد إجراء عملية البتر، ولا يبدون أي ندم حتى مع الصعوبات التي تنتج عن الإعاقة بعد العملية.

متلازمة سلامة الهوية الجسدية واحدة من أكثر المتلازمات غرابةً، ولا شك أنها تستحق تصنيفًا طبيًا واضحًا، تساهم في تعميق الدراسات حولها، وتبيان أسبابها ووسائل علاجها. ولكنها تثبت أن، في بعض الأحيان، الجسد السليم في الدماغ السليم.

المصادر:

Taylor and Francis Online
NCBI
Independant
Research Gate

ما أصل اللغة البشرية؟ وما القواسم المشتركة بين جميع لغات العالم؟

هذه المقالة هي الجزء 6 من 21 في سلسلة مقدمة في علم النفس

تعد اللغة جانبًا غامضًا من الحياة العقلية البشرية الذي يحتاج للكثير من التفسير. ما اللغة؟ وكيف نحصل عليها؟ ما القواسم المشتركة بين جميع لغات العالم؟ وكيف تطورت جميعها؟ كل هذه الأسئلة ليست جديدة، بل طرحها كل فيلسوف أو عالم نفس أو عالم أعصاب اهتم يومًا بالطبيعة البشرية وتفسيرها. فاللغة جزء لا يتجزأ منا وتدور حولها الكثير من الأسئلة.

ما هي اللغة؟

تُعرف اللغة بأنها القدرة على إنتاج واستيعاب الكلمات سواء كانت منطوقة أو مُشار بها (في حالة لغة الإشارة). ويُعرف العلم المختص بدراسة اللغة وتركيباتها بـ «علم اللغويات-Linguistics». وهناك حقيقتان يجب معرفتهما عن اللغة:

  • تتشارك جميع اللغات في بعض القواسم العامة، منها قدرة اللغة على التعبير عن أي فكرة مجردة.
  • اختلاف جميع اللغات، فلا توجد لغة مطابقة لأخرى.

لذا تُدرس جميع النظريات عن اللغة من هذا المنظور. منظور وجود بعض القواسم المشتركة وكذلك الاختلافات، وسنتطرق لكليهما لاحقًا.

اللغة البشرية وداروين

قدم داروين نظرية شيقة عن اللغة فقال:

لدى الإنسان ميل خاص للحديث. ونرى ذلك حتى في ثرثرة أطفالنا الصغار. بينما لا نرى طفلًا منهم يميل إلى تعلم الخبز أو الكتابة

وما تعنيه جملة داروين أن اللغة البشرية مميزة وتختلف عن الأنشطة الأخرى، وأنه هناك نوع من الميل الغريزي تجاه تعلم هذه اللغة. وتدعم بعض الحقائق هذا الادعاء، منها:

  • لكل مجتمع بشري لغة خاصة به.
  • على الرغم من الاختلاف الواسع بين الثقافات البشرية إلا أن اللغة (بأشكالها المختلفة) هي وسيلة التواصل المشتركة بينهم جميعًا. وربما يشير هذا إلى وجود ميل غريزي لتعلم اللغة داخلنا
  • هناك الكثير من الحالات عبر التاريخ التي تنشأ فيها اللغة بشكل طبيعي ومذهل. منها: تجارة العبيد قديمًا. عمد القائمون على هذه التجارة على خلط العبيد من خلفيات ثقافية مختلفة لكي يصعب التواصل بينهم فتقل احتمالية الثورة، لكن ما حدث هو تطوير هؤلاء الأشخاص ذوي اللغات المختلفة نظامًا جديدًا. نظام اتصال مؤقت يسمح لهم بالتواصل مع بعضهم فيما يُعرف بـ «اللغة المبسطة-Pidgin» واللغة المبسطة ليست حقيقية وإنما هي خليط من الكلمات المستعارة من لغات مختلفة.
    بمرور الوقت وإنجاب هؤلاء الأشخاص أطفالًا. نجدهم -على عكس المتوقع- لا يتحدثون لغة آبائهم المبسطة. وإنما يطورون لغتهم الخاصة. هذه اللغة كاملة وثرية وتامة التكوين. وتعُرف باسم «اللغة الهجين أو الكريول-Creole».
  • هناك دراسات علم الأعصاب أيضًا التي تدعم نظرية داروين. فكما أشرنا سابقًا في سلسلة علم النفس إلى وجود أجزاء مخصصة من المخ لتعلم اللغة فقط، ويصاب الإنسان عند تلفها بعجز لغوي ما.
  • توجد أيضًا بعض الدراسات التي تبحث في الأصل الجيني للغة.

اكتشف العلماء وجود بعض الجينات المسئولة عن استخدام وتعلم اللغة. ويفقد الشخص القدرة على تعلم اللغة عند إصابتها بأي خلل.

فيم تتشارك جميع اللغات؟

ذكرنا قبل قليل أن أطفال ضحايا تجارة العبيد طوروا لغة آبائهم وحولوها إلى لغة كاملة وثرية. فما المعايير التي يتحدد بها كمال اللغة؟

علم الأصوات

أول خطوة لتعلم اللغة هي تعلم أصواتها. وهنا يأتي دور «علم الأصوات-Phonology»، وهو نظام الأصوات في اللغة. فتستخدم الإنجليزية على سبيل المثال أربعين صوتًا. وتقع جميع الكلمات التي يسمعها المتحدث الأصلي بها في نطاق هذه الأصوات، كما يستطيع تمييزهم جميعًا. فيمكنه التمييز بين صوتي L و R كما في كلمتي Lip و Rip. بينما لا يمكن لبعض غير المتحدثين الأصليين تمييز هذا الفرق.

يمكن أيضًا للمتحدثين الأصليين وضع الحدود بين الكلمات وتحديد بدايتها ونهايتها. وعلى عكس المتوقع هذه الحدود أو «الوقفات-Pauses» بين الكلمات لا تُتعلم، بل هي وهم نفسي. فعندما يتحدث شخص عبر جهاز الذبذبات الذي يقيس ذبذبات الصوت نجد أنه لا توجد وقفات بين الكلمات، وإنما يتعلم العقل متى تبدأ الكلمة ومتى تنتهي ويدرج الوقفة بينهما. ونلاحظ هذا بوضوح عند الاستماع للغة غريبة فلا نسمع سوى ضوضاء متواصلة.

علم الصرف

«علم الصرف أو المورفولوجيا-Morphology»، وهو علم الكلمات. المورفيم هو أصغر وحدة بنائية ذات معنى في اللغة، وهناك فارق بين المورفيم والكلمة. فتتكون جميع الكلمات من مورفيم واحد أو أكثر. بينما توجد مورفيمات مفردة لا تكون كلمات.

مثال: كلمة Dogs. هي كلمة واحدة لكنها تتكون من المورفيم Dog ومورفيم الجمع S. تصل عدد المورفيمات التي يعرفها المتحدث العادي إلى ثمانين أو مائة ألف مورفيم. وتصل إلى مائتي أو ثلاثمائة ألف عند متعددي اللغات. وهذا كم مذهل من الكلمات يحمله العقل البشري. ويستطيع الوصول إليه في جزء من الثانية!

وتظهر خاصية مميزة للغة في إطار المورفولوجيا وهي «اعتباطية الإشارة-Arbitrariness of the sign» بمعنى عدم وجود علاقة بين شكل الكلمة أو الإشارة (في حالة لغة الإشارة) ومعناها، فالرابط بينهما اعتباطي. فنجد كلمة كرسي أو دولة لا تعبر بأي شكل عن الشكل المادي لهما، وإنما تعبر عن فكرتهما فقط. وعن طريق هذه الخرائط الاعتباطية تنشأ كلمات اللغة.

علم بناء الجملة

  • «علم بناء الجملة-Syntax»

وهي مجموعة القواعد التي تساعدنا على تكوين عددًا لا نهائيًا من الجمل المفيدة. وهنا تظهر خاصية مميزة للغة أيضًا. وهي امتلاكها «نظام دمج-Combinatorial System». بمعنى استخدام اللغة لوسائلها المحدودة (أصواتها وكلماتها) بشكل غير محدود (تكوين عدد لا نهائي من الجمل).

تتمتع الموسيقى بهذا النظام أيضًا، فتمتلك عددًا محدودًا من النغمات التي ينطلق منها عددًا لا محدودًا من المقطوعات الموسيقية. وآلية اللامحدودية هي التكرار، بمعنى أن القدرة على تكرار الكلمات (في أُطر نحوية معينة) يضمن لنا عددًا لا نهائيًا ومتجددًا من الجمل.

نمو اللغة البشرية

سنعود مرة أخرى إلى العالم الذي سبق وعرفنا أنه وضع نهاية للسلوكية: نعوم تشومسكي. أتى تشومسكي بادعاء ثوري حول أصل اللغة. فرأى أن تعلم اللغة ليس تعلمًا حقيقيًا، وإنما يجب النظر إليه كشكل من أشكال النمو. فكما تنمو أعضاء الجسم المختلفة، تنمو أيضًا القدرة على فهم اللغة داخل المخ. لكن ما مدى صحة هذا الادعاء؟

  • لا ينكر العلم حقيقة تأثير البيئة المحيطة على تشكيل اللغة. فلا يمكن تعلم أي لغة بشكل كامل دون سماعها والتأثر بها.
  • تثبت دراسات الأعصاب وجود مراكز خاصة بتعلم اللغة في المخ. وعند تلفها يصاب الشخص بأمراض مثل «الحبسة-Aphasia». كذلك توجد بعض الاضطرابات الجينية التي تسبب عدم قدرة الأطفال على تعلم اللغة وتعرف باسم «اعتلالات اللغة الخاصة-Specific language impairments». وهنا يمكن القول أن تعلم اللغة منفصل عن باقي جوانب الحياة العقلية البشرية. فهؤلاء الأطفال ذوي الاضطرابات الجينية لا ينقصهم الذكاء العقلي أو الاجتماعي، لكنهم فقط لا يستطيعون تعلم اللغة.
  • يحدث تعلم اللغة دون أي نوع من التدريب أو التقييم. فبينما تنتشر ثقافة الحديث مع حديثي الولادة لكي يتعلموا اللغة، نجد مجموعات من البشر الذين يجدون هذه الفكرة سخيفة، ولا يتحدثون مع أطفالهم إلا بعد أن يكتسبوا هم القدرة على الحديث. وفي الحالتين، يتعلم الأطفال اللغة. كذلك تثبت دراسة أخرى عدم أهمية التقييم. فلا يصحح الآباء حديث صغارهم عندما يقعوا في أخطاء لغوية أو نحوية (مثل الإشارة إلى المؤنث بالمذكر أو العكس) بل يستقبلونها بعاطفة بحتة ولا يهتمون بتلك الأخطاء. ومع ذلك تتلاشى هذه الأخطاء بمرور الوقت دون أي تدريب أو تصحيح.

وهنا تقترح هذه الأدلة انفصال مراكز تعلم اللغة عن باقي الحياة العقلية. كما أنها تنمو وتتطور دون أي تدريب كما يحدث مع باقي أعضاء الجسم. لذا ربما يحمل ادعاء تشومسكي على الرغم من غرابته بعض الصحة.

نظام لا مثيل له!

دراسة اللغة والنظريات المتعلقة بها حقل واسع للغاية، وربما تظل الأسئلة التي تدور حولها بلا إجابات شافية لوقت طويل. لكننا نعلم حقيقة أن اللغة البشرية لا مثيل لها. فعلى الرغم من وجود لغات وسبل تواصل بين فصائل مختلفة من الكائنات الحية. إلا أن اللغة البشرية بتكويناتها الثلاث من أصوات وكلمات وقواعد، وما يرتبط بهم من خصائص مميزة مثل نظام الدمج واعتباطية الإشارة، لا مثيل لها في أي نظام آخر.

المصادر

  1. languagelog
  2. britannica
  3. britannica
  4. lumenlearning

متلازمة الموهوب ومتلازمة الموهوب المكتسبة: المتلازمة التي تجعلك عبقريًا

لطالما كانت العبقرية ظاهرة محيّرة، تميز عددًا محدودًا من الأشخاص بموهبة خارقة للمعايير البشرية. وتتعدد مجالات العبقرية بين العلوم والحساب والموسيقى والرسم وغيرها. فقد لعب العباقرة حول العالم دورًا هائلًا في تطوير العلوم والفنون عبر التاريخ، وساهموا في شكل العالم الذي نعرفه اليوم. لكن ماذا لو نتجت العبقرية عن مرض عقلي أو إصابة دماغية؟ في هذه الحالة، نتحدث عن متلازمة الموهوب ومتلازمة الموهوب المكتسبة، فما الفرق بينهما؟

ما هي «متلازمة الموهوب-The Savant Syndrome»؟

متلازمة الموهوب هي حالة نادرة تصيب عددًا من الأشخاص ذوي الإعاقة العقلية أو الأمراض العصبية واضطرابات النمو العصبي، تخلق عندهم قدرات عقلية عالية  في مجال أو أكثر. ونقصد بالقدرات العقلية العالية أنها لا تتخطى قدرات الأشخاص المُصابين بالمرض أو الاعاقة العقلية نفسها فقط، بل أيضًا قدرات الأشخاص الأصحاء.

تختلف مجالات العبقرية بين شخص وآخر، لكن الأكثر شيوعًا هي مجالات الذاكرة والموسيقى والفن والحساب.

يكون الأشخاص المصابون بمتلازمة الموهوب غالبًا مُشخصين أساسًا باضطراب طيف التوحد، الذي يعتبر واحدًا من اضطرابات النمو العصبي، وهو يتصف بضعف السلوك الاجتماعي والتواصل والمهارات اللغوية وبعدد من السلوكيات النمطية المتكررة. وتقدر الدراسات بأن حوالى 10 الى 30 بالمئة من الأشخاص المصابين باضطراب طيف التوحد هم مصابون بمتلازمة الموهوب.

أشهر المصابين بالمتلازمة

من أشهر الأشخاص المصابين بهذه المتلازمة رجل أميركي، جُسدت شخصيته في فيلم “Rain man”، وكان يتمتع بذاكرة بصرية خارقة. كان قد حفظ أكثر من 6000 كتاب، وكان لديه معلومات موسعة جدًا عن الجغرافيا والموسيقى والتاريخ والحساب. ذاكرته البصرية مكنته من حفظ جميع شوارع الولايات المتحدة الأميركية، بالإضافة الى قدرته على الحساب التقويمي (أي القدرة على معرفة اليوم المصادف مع تاريخ معين أو العكس). رجل آخر مصاب بالمتلازمة هو ديريك بارافيتشيني، وهو بريطاني كفيف ومصاب باضطراب الطيف التوحدي، يتمتع بقدرات خارقة في حفظ الآلاف من المقطوعات الموسيقية وعزفها ببساطة مطلقة.

https://www.youtube.com/watch?v=36K1HQvUdWg

تُعد أسباب الاصابة بمتلازمة الموهوب غير واضحة، فيعتبر بعض العلماء أنها مرتبطة بأسباب جينية، أما البعض الآخر فيعتقد أنها ناتجة عن كثرة تمرين وظيفة عقلية معينة. على المستوى العصبي، اقترح علماء أن المتلازمة قد تكون ناتجة عن عمليات نمو عصبي في مناطق معينة من الدماغ على حساب مناطق أخرى، وبالتالي تطور وظيفة عقلية مقابل ضعف في وظائف ثانية.

في دراسة أُجريت عام 2018، تم دراسة العلاقة بين أعراض معينة خاصة باضطراب طيف التوحد وبين وجود متلازمة الموهوب. وقد بينت االدراسة أن الأشخاص المصابين باضراب طيف التوحد مع متلازمة الموهوب هم أكثر حساسية على المحفزات الحسية، ولديهم سلوك ذا طابع وسواسي أكثر من الأشخاص المصابين باضراب طيف التوحد دون متلازمة الموهوب. وقد تكون هذه السمات ساهمت في نمو الموهبة (خاصة الطابع الوسواسي بحيث يحفز الشخص على التمرين يشكل مبالغ به على وظيفة معينة).

«متلازمة الموهوب المكتسبة- The Acquired Savant syndrome»:

كما يدل اسمها، هي قدرات عقلية خارقة يكتسبها الشخص بعد اصابة دماغية (سواءً بحادث أو بمرض عقلي).

تُعد هذه الحالة نادرة جدًا حول العالم، وتختلف أسبابها بين ضربة على الرأس مسببة إصابة في الدماغ أو مرض يؤثر على الدماغ ( التهاب السحايا، أمراض الخرف،…).

في معظم حالات المتلازمة، تكون الإصابة في الجزء الأيسر من الدماغ ويقوم الجزء الأيمن منه بالتعويض. وتكون الموهبة عادةً تنتمي الى أحد المجالات التالية: الحساب التقويمي، الرياضيات، الفن، الموسيقى والمهارات المكانية.

من الجدير بالذكر أن معظم حالات المتلازمة هي من الذكور. نذكر هنا قصة شخصين أصيبا بمتلازمة الموهوب المكتسبة:

أورلانرو سيريل تلقى ضربة من طابة البيسبول في العاشرة من عمره، مما سبب له صداعًا قويًا لأكثر من يوم. لكن المفاجأة أن بعد اختفاء الصداع، ظهرت عنده القدرة على الحساب التقويمي وتذكر الأحداث بدقة عالية.

في قصة أخرى، تلقى طبيب يدعى طوني سيكوريا صاعقة أثناء تكلمه عبر الهاتف. نجا سيكوريا من الحادثة وشفي بعد عدة أسابيع، إلا أنه شعر برغبة قوية في السماع لموسيقى كلاسيكية. ولكن رغبته لم تتوقف هنا، بل اشترى آلة بيانو وبدأ بالعزف عليها دون تعلم، وبدل أن يعزف موسيقى مكتوبة شعر برغبة جامحة في عزف موسيقى ألفها بنفسه. عام 2008، أطلق سيكوريا ألبوم موسيقي له بعد تأليفه العشرات من المقطوعات الموسيقية.

لم يُعرف أسباب واضحة لمتلازمة الموهوب المكتسبة، غير أنها تجعلنا نطرح سؤالًا مهمًا: هل الموهبة المكتسبة ناتجة عن الاصابة؟ أم أنها موجودة أصلًا عندنا جميعًا والإصابة كشفتها؟

لا شك أن متلازمتي الموهوب والموهوب المكتسبة هما من أكثر المتلازمات المدهشة، فهما تكشفان عن عبقرية الدماغ البشري. لكنهما أيضًا يبينان أن الدماغ ما زال لغزًا لم نستطع كشف كل جوانبه بعد، ولعل اكتشاف هذه الجوانب سيكون مفتاحًا في المستقبل لإطلاق العنان للإبداع الإنساني.

المصادر:

Molecular autism
NCBI
Brain injury law center
Europe PMC

كيف غير بياجيه نظرتنا لأطفال العالم؟

هذه المقالة هي الجزء 5 من 21 في سلسلة مقدمة في علم النفس

كيف غير بياجيه نظرتنا لأطفال العالم؟

  • يمكنك الاستماع لهذا المقال صوتيًا من هنا، سنبدأ حديث اليوم بطرح عدة أسئلة. كيف يكتسب الإنسان المعرفة؟ ما طبيعة الذكاء البشري؟ وكيف ينشأ وينمو؟ لا يمكننا إجابة هذه الأسئلة دون التطرق إلى علم نفس النمو. تحديدًا نظرية «النمو المعرفي- Cognitive Development» لعالم النفس السويسري «جان بياجيه-Jean piaget».

عن النظرية

لا يمكننا تفسير النمو المعرفي دون ذكر دور بياجيه. فهو أول عالم يضع نظرية تفسر طبيعة الذكاء عند الأطفال. كما يطرح أسئلة عن المعرفة نفسها، كيف تُكتسب ويستفيد منها البشر. اهتم بياجيه بنشأة المعرفة بشكل عام. واعتقد أن دراسة النمو الفردي للطفل سيرشده إلى الإجابة. فكان مؤمنًا أن نمو الفرد يحاكي النمو المتكرر للفصيلة. وصف بياجيه الأطفال أنهم مفكرون نشطون، أو علماء صغار. يحاولون اكتشاف العالم دائمًا. ويفعلون هذا عن طريق آليتين تعملان بالتبادل وتقودان الطفل خلال مراحل نموه المختلفة:

  1. «Assimilation -التماثل» وهي عملية إدخال معلومات جديدة على نظام معرفي موجود مسبقًا. أو بمعنى آخر توسيع نطاق المعرفة. مثل قدرة الطفل على التعرف على الكلب (هذا نظام معرفي وجد مسبقًا) تمتد لتسميته جميع الحيوانات ذوات الأرجل الأربع كلب.
  2. «التكيف-Accommodation» وهي عملية تكوين نظام معرفي جديد،يُمكن إدخال معلومات جديدة عليه. أو بمعنى آخر تغيير منظومة المعرفة نفسها. مثال: عندما يصحح الوالدان الطفل ويقولان أن هذا الحيوان صاحب الأرجل الأربع قطة وليس كلب، يكتسب الطفل معرفة جديدة.

بياجيه ومراحل نمو الطفل

آمن بياجيه بـ «المعرفة الجينية-Genetic Epistemology» بمعنى أن النمو المعرفي للطفل يحدث تبعًا لمخطط فطري وُجد قبل الولادة. وراقب بياجيه واختبر التغيرات التي تحدث للأطفال في مراحل عمرية مختلفة ومن خلالها وضع نظريته عن النمو المعرفي للطفل وقسمها إلى عدة مراحل:

  1. «المرحلة الحسية الحركية-sensorimotor stage» والتي تمتد حتى عمر السنتين. وفيها يكون الطفل كائنًا ماديًا للغاية. ليس لديه أي فهم للعالم الخارجي. يرى ويسمع ولا يفكر. وعند عمر الستة أشهر، يبدأ الطفل اكتساب مفهوم «ديمومة الأشياء-Object Permenance».

    أطلق بياجيه هذا الاسم على ظاهرة استيعاب البشر استمرار وجود الأشياء حتى عند غيابها عن النظر. البالغون يدركون هذه الفكرة، لكن الأطفال -حتى عمر الستة أشهر- كما ادعى بياجيه لا يدركونها. وهو ما فسر به انزعاج الأطفال عندما تخفي لعبتهم وراء ظهرك، فيعتقدون أنها اختفت للأبد.

فكرة أخرى مرتبطة بهذه المرحلة وهي فشل الأطفال الأكبر سنًا -عمر التسعة أشهر- في اختبار (أ وليس ب). مثال: تأخذ غرضًا يخص طفل عمره تسعة أشهر وتضعه في فنجان (نقطة أ) فتجد الطفل يمد يده ويأخذه.

تعيد التجربة عدة مرات فيتكرر نفس رد فعل الطفل. أما عند وضع الغرض في مكان آخر (نقطة ب) تجد الطفل يمد يده إلى النقطة أ. كأن الطفل في هذا العمر ليس ذكيًا بما يكفي ليمد يده إلى النقطة ب رغم رؤية الغرض يُنقل إليها. ومن هنا استنتج بياجيه قصور فهم عند الأطفال في هذا العمر، هذا القصور يتطلب الوقت والمرور بباقي المراحل ليتطور.

2. «مرحلة ما قبل العمليات-Preoperational stage» والتي تمتد حتى سبع سنوات. وهنا يتعلم الطفل اللغة، ويتطور خياله واستخدامه للرموز. وتتشكل فكرته عن العالم، لكن هذه الفكرة محدودة بمفهومين:

  • «التمركز حول الذات-Egocentrism» وهنا لا يقصد بياجيه الأنانية. وإنما عدم قدرة الطفل على استيعاب أن الآخرين يرون العالم بشكل مختلف عنه. أشهر التجارب التي توضح ذلك هي «مهمة الجبال الثلاث-Three mountains task».

    حيث عرض بياجيه مجسم ثلاثي الأبعاد لثلاثة جبال على أطفال في عمر الرابعة والخامسة، وطلب منهم رسم المشهد كما يرونه أمامهم. فلم يواجهوا صعوبة في ذلك. ثم طلب منهم رسم الجبل كما سيبدو لشخص يقف على الجانب الآخر. فواجه الأطفال صعوبة بالغة في فعل ذلك.
  • «الاحتفاظ-Conservation». بمعنى فهم أن إعادة توزيع المادة لا يؤثر على حجمها أو كتلتها أو طولها أو عددها. والأطفال في هذا السن كما يرى بياجيه لا يدركون هذا المفهوم. أحد التجارب الشهيرة التي توضح ذلك تضمنت وضع كميتين متماثلتين من الماء في إنائين متماثلين. ثم نقل الماء من أحدهما إلى إناء آخر أطول وأنحف. وسؤال الأطفال أي الإنائين يحوي كمية ماء أكبر. ورغم رؤية الأطفال تماثل كميات الماء في المقام الأول إلا أنه يقع اختيارهم على الإناء الأطول دائمًا.

3. «مرحلة العمليات الملموسة-Concrete Operations Stage» التي تمتد من سن السابعة حتى الحادية عشر. وهنا يدرك الطفل مفهوم الاحتفاظ. ويكتسب القدرة على التفكير المنطقي ولكن في نطاق مادي ملموس فقط. فلا يمتلك القدرة على التفكير المجرد.

4. «مرحلة العمليات الشكلية المجردة- Formal Operational Stage» التي تبدأ من سن الثانية عشر وتمتد فيما بعدها. وهنا يكتسب الطفل القدرة على التفكير المجرد خارج حدود العالم المادي.

نقد نظرية بياجيه

نجح بياجيه مقارنة بفرويد وسكينر وذلك لعدة أسباب: نظرية بياجيه عن النمو المعرفي للطفل متماسكة بما يكفي لاختبارها وإثبات خطأها. بمعنى أنها تتمتع بما ذكرناه سابقًا عن «قابلية الدحض-Falsification» على عكس فرويد وسكينر. كما حقق بياجيه نتائج مذهلة.

فلم يكن يدري أحد أن الأطفال يفكرون بشكل مختلف عن البالغين، بل اعتقد الجميع أنهم فقط غير قادرين على التفكير مثلهم. وجاءت مفاهيم بياجيه عن الاحتفاظ وديمومة الأشياء لتدحض هذه الفكرة.

لكن لم تخل نظرية بياجيه من بعض القصور. بعضها قصور نظرية: فلم يوضح بياجيه بشكل كامل كيف يكتسب الطفل المعرفة. كيف ينتقل من مفكر ملموس إلى مفكر مجرد. أو كيف يتحول من عدم إدراك ديمومة الأشياء إلى إدراكها. وبعضها قصور منهجية: اعتمد منهج بياجيه على الأسئلة والإجابات. لكن المشكلة أن الطفل ليس متمكنًا من التعبير واستخدام اللغة. وربنا يؤدي هذا إلى الاستهانة بما يعلمه الأطفال بالفعل. خاصة الأطفال الأصغر سنًا.

طفلك أذكى مما تعتقد!

يتشارك أغلبية البشر في نظرتهم تجاه الأطفال، أنهم صغار وسذج ولا يعلمون الكثير عن العالم. لكن العلم الحديث يثبت عكس ذلك. فالأطفال أذكي مما نعتقد. ولاكتشاف المدى الكامل لقدراتهم ربما علينا أن نكون أكثر ذكاءًا ونطور وسائل البحث. بدلًا من طرح الأسئلة وانتظار الإجابات هناك وسائل أكثر فاعلية. مثل: دراسة الموجات الدماغية، أو تحديد وقت النظر الخاص بهم. يعد الأخير أحد أهم الوسائل التي ساعدت في دراسة نمو الأطفال.

أحد التجارب الشهيرة التي قام بها العالم روبرت فانتز تضمنت عرض صورتين على أطفال بعمر يومين فقط وملاحظتهم. فوجد اختلاف في وقت نظرهم إلى الصورتين مما يقترح رؤيتهم للاختلاف بينهم. كذلك تفضيلهم للصورة التي ينظرون إليها لوقت أطول. وبهذا اكتشف العالم تفضيل الصغار للأسطح المزخرفة على الأسطح الفارغة.

تعتمد تجارب “وقت النظر” على مبدئين وهما:

  • التعود: كما فسرناه عند مناقشة السلوكية هو انخفاض الاستجابة للمحفزات المألوفة بسبب التعرض المستمر لها. وباستخدامه يمكن تحديد ما يراه الطفل مختلفًا. مثال: عرض صورة باللون الأحمر بشكل متكرر حتى يمل الطفل منها. ثم عرض صورة باللون الأخضر وملاحظة رد فعله. في حال انتباه الطفل لحدوث اختلاف فسينظر لوقت أطول.
  • المفاجأة: وتعتمد على رؤية الأطفال لأحداث تخالف فكرتهم المسبقة عن الأشياء وطريقة عملها. فنلاحظ ازدياد وقت نظرهم. مثال: «تجربة الجسر المتحرك-DrawBridge Study» الشهيرة. وُضعت شاشة متحركة على طاولة، تدور من وضع رأسي، وكذلك بشكل أفقي موازٍ للطاولة. رأي الأطفال هذا المشهد حتى اعتادوا عليه. ثم وُضع صندوق خلف الشاشة ليمنع دورانها بشكل كامل.

    تعرض الأطفال لنوعين من المحفزات أثناء الاختبار: محفز واقعي وهنا يعيق الصندوق الشاشة فتتوقف عن الدوران. ومحفز غير واقعي وهنا يُسحب العائق سرًا فتستمر الشاشة في الدوران بشكل طبيعي. ازداد وقت نظر الأطفال بشكل ملحوظ في الحالة الثانية مما يقترح فهم الأطفال لقوانين العالم المادي، واستيعابهم لديمومة الأشياء (استمرار وجود العائق خلف الشاشة حتى عندما لا يرونه) قبل عمر الستة أشهر.

والآن يثبت العلم إدراك الطفل للعالم المادي منذ البداية، لكن ليس بشكل كامل. بالرغم من وجود بعض المعرفة الفطرية إلا أنه هناك مساحة للتعلم والتطور. وهنا يأتي السؤال: كيف يمكن تفسير معرفة الطفل لأشياء لم يكن يعرفها من قبل؟ كيف نفسر هذا النمو؟

كيف نفسر النمو؟

أولًا: عن طريق نمو المخ أو النضج العصبي. الخلايا العصبية التي يمتلكها الشخص البالغ هي نفس الخلايا التي امتلكها حينما كان جنينًا في رحم أمه. وما يحدث هو عملية تشذيب، أو تخلص من فائض الخلايا العصبية غير المفيدة. الأمر الذي يغير من الهيكل العصبي بشكل جذري.

ثانيًا: نمو الوصلات العصبية بشكل كبير، تصل «الوصلات العصبية-Synapses» إلى ذروة نموها عند عمر السنتين.

ثالثًا: نمو «الغشاء الميليني-myelin sheath». وهو الغشاء الذي يحيط بمحور الخلية العصبية ليزيد من سرعتها وكفائتها. ينمو هذا الغشاء بشكل تدريجي، فنجده غير مكتمل النمو عند المراهقين، خاصة في الفص الجبهي من المخ. وهو الجزء المسئول عن الإرادة وضبط النفس.

رابعًا: عدم قدرة الأطفال على «المنع-Inhibition». ولفهم ذلك سنعود إلى تجربة (أ وليس ب) في بداية المقال. فسر العلماء تكرار ذهاب الطفل إلى النقطة أ رغم رؤيته تغير مكان الغرض أنه يصعب على الطفل التحكم في الفعل وإيقافه بعد أن قام به بشكل متكرر. وذلك لأن الجزء الخاص بالتحكم/ المنع في المخ لم ينشط بعد. بل لاحظ العلماء أيضًا أن الطفل يمد يده إلى النقطة أ بينما ينظر إلى النقطة ب. كأنه يعرف الخيار الصحيح لكنه فقط لا يستطيع التحكم ومنع نفسه.

الأطفال اجتماعيون بالفطرة

لا يتوقف ذكاء الأطفال عند إدراكهم للعالم المادي وبعض قوانينه فقط. بل تقترح بعض التجارب امتلاك الأطفال قدرًا من الذكاء الاجتماعي الفطري، الذي يتيح لهم التفاعل مع عناصر البيئة المحيطة بهم. ومن هذه التجارب:

تجربة روبرت فانتز التي ذكرناها سابقًا. حيث لاحظ روبرت انجذاب الأطفال (بمعنى النظر لوقت أطول) إلى الصور التي تحمل أنماطًا تشبه الوجوه البشرية.

تجربة أخرى شهيرة قام بها ميلتزوف تتضمن التفاعل مع أطفال حديثي الولادة. وجدت أن الأطفال يقلدون تعابير وجه الشخص البالغ الذي يقف أمامهم مثل فتح الفم وإبراز اللسان. نتائج هذه التجربة على وجه الخصوص مدهشة، لأنها تثبت أن الأطفال مقلدون بطبيعتهم. وأن هؤلاء الأطفال يمتلكون نوعًا من المعرفة الفطرية أن الشخص الذي يقف أمامهم (مثلهم) ومن نفس نوعهم.

تجربة أخرى قام بها العالم بول بلوم تضمنت عرض أفلام على أطفال بعمر التسعة أشهر. أحد شخصيات الفيلم متعاونة تساعد الكرة على تحقيق الهدف. والشخصية والأخرى تعيقها. ثم اختبار أي الشخصيات تلفت انتباه الأطفال أكثر. وجائت النتائج بميل الأطفال إلى الشخصية المساعدة. ومن هنا يمكن استنتاج أن الأطفال لديهم نوع من التفسير الاجتماعي لمفاهيم المساعدة والإعاقة. كما يمكن القول أنهم يميلون فطريًا إلى التعاون.

أبيض أم أسود؟

وهنا قد يعتقد البعض ان هذا الأمر مبالغ فيه، لماذا ندرس علم النفس النمو؟ ولماذا كل هذا الاهتمام بالصغار؟ فهم سيكبرون في جميع الأحوال! والإجابة أن دراسة نمو الأطفال ليس هامًا لهم فقط، بل لنا كبالغين أيضًا. هناك بعض الأسئلة التي لا يمكن إجابتها إلا بالعودة إلى الوراء والنظر في بدايات الأشياء. أحد الأمثلة الشهيرة: هل الحمار الوحشي أبيض بخطوط سوداء أم أسود بخطوط بيضاء؟ وهنا يمكنك التأمل والتفكر في جسد الحمار الوحشي كما تشاء ولن تصل إلى إجابة. أما إذا قررت العودة إلى الوراء، وقمت بالنظر في نمو جنين الحمارالوحشي ستجد الإجابة. وهنا تكمن أهمية ما نفعله.

المصادر

  1. britannica
  2. webmd
  3. verywellmind
  4. simply psychology
  5. cell

حديث عن السلوكية وسكينر

هذه المقالة هي الجزء 4 من 21 في سلسلة مقدمة في علم النفس

حديث عن السلوكية وسكينر

ذكرنا في الجزء السابق من سلسلة علم النفس دور فرويد وإسهاماته الفكرية ورأي العلم فيها. واليوم سنتعرض لمدرسة فكرية أخرى حظت بشهرة واسعة في القرن العشرين وهي السلوكية وأشهر مناصريها «بي.اف. سكينر- B. F. Skinner».

على عكس فرويد الذي طور نظرية التحليل النفسي بنفسه، فهي أقرب إلى الاختراع الفردي. ظهرت السلوكية قبل سكينر بوقت طويل. وناصرها علماء أهمهم جون واتسون. وترجع شهرة سكينر إلى جمعه أفكار السلوكية وتنقيحها وتطويرها وتقديمها للمجتمع العلمي.

مباديء السلوكية الثلاث

تتبنى السلوكية ثلاث رؤى متطرفة وشيقة للغاية وهي:
١. التشديد القوي على أهمية التعلم والتجربة. فيري السلوكيون أن طبيعة الإنسان كلها نتاج التجربة. ليست هناك طبيعة بشرية حقيقية، فالبشر طيعون وقابلون للتشكيل.

ويقول جون واتسون: “أعطني مجموعة من الأطفال الأصحاء المعافين ومساحتي الخاصة لتربيتهم بها. وأضمن لك أنني سأحول أي شخص منهم عشوائيًا إلى المتخصص الذي أختار، طبيب أو محامي أو تاجر أو مدير وحتى متسول أو لص. بغض النظر عن مهاراته أو إهتماماته أو ميوله أو قدراته أو مشاعره أو أصوله”

وفي هذا السياق، نجد واتسون مؤمنًا بالمساواة. فلا يوجد فصيل من البشر أفضل من الآخر. بل يعتمد الأمر كله على التعلم وأسلوب المعاملة.
٢. «معاداة السيطرة الذهنية-Anti mentalism». قدس السلوكيون كل ما هو علمي. وعلى عكس فرويد، آمنوا أن الحديث عن الحالة الذهنية الداخلية مثل الرغبات والأمنيات والأهداف والمشاعر غير علمي. لذا طوروا منهجهم دون الاعتماد على أي شيء غير قابل للرصد. بل استخدموا مفاهيم مثل: المحفزات وردود الأفعال والتعزيز والعقاب. وتشير جميعها إلى أحداث ملموسة في العالم الحقيقي.
٣. عدم وجود اختلاف يُذكر بين فصائل الكائنات الحية. رأي السلوكيون أن المفاهيم السالف ذكرها يمكن تعميمها على جميع الكائنات الحية. لذا طوروا منهجًا لدراسة السلوك البشري عن طريق دراسة سلوك الحيوانات.

كيف فسرت السلوكية السلوك البشري؟

وضع السلوكيون ثلاثة مباديء للتعلم. وزعموا أنها يمكنها تفسير كافة الحياة العقلية والسلوكيات البشرية.

المبدأ الأول وهو «التعود-Habituation». يمكن تعريف التعود أنه انخفاض الاستجابة للمحفزات المألوفة بسبب التعرض المستمر لها. مثل اعتياد صوت دقات الساعة أو ضوضاء المرور. ويعد التعود صورة هامة من صور التعلم وآلية تكيف مفيدة. تُمكن البشر من تعقب الأحداث والتغيرات الجديدة لتحديد إذا كانت ستؤذيهم أم لا. ومن ثم التوقف عن ملاحظة الأشياء بعد فترة، بعد أن تُثبت اندماجها بالبيئة المحيطة استعدادًا لملاحظة تغير جديد وهكذا.

المبدأ الثاني: «الشرطية الكلاسيكية-Classical Conditioning». يعد عالم النفس الروسي «إيفان بافلوف-Ivan Pavlov» أشهر من تحدث عن الارتباط الكلاسيكي. قامت تجربة بافلوف على تقديم الطعام إلى كلب وملاحظة كمية اللعاب التي ينتجها. كان بافلوف يقرع الجرس أولًا ويتبعه بتقديم الطعام للكلب فينتج اللعاب. ومع الوقت لاحظ بافلوف أن قرع الجرس وحده دون تقديم الطعام تسبب أيضًا في إنتاج اللعاب.

وهنا قدم بافلوف نتائجه التي فرقت بين نوعين من الارتباط بين المحفز ورد الفعل: أولًا، الارتباط غير المشروط. عندما يُسبب محفز غير مشروط (تقديم الطعام للكلب) رد فعل غير مشروط (إنتاج اللعاب). ويحدث هذا الأمر بشكل طبيعي، لم يضطر الكلب لتعلمه. ثانيٌا، الارتباط المشروط. عندما يُسبب محفز مشروط (صوت الجرس) رد فعل مشروط (إنتاج اللعاب). يحدث هذا الارتباط عبر التعلم، وفيه يتحول صوت الجرس تدريجيًا من عامل محايد إلى محفز مشروط. وهنا نجد أن الاقتران المتكرر بين المحفزات غير المشروطة والمحفزات المشروطة يؤدي في النهاية إلى إنتاج رد فعل مشروط.

المزيد من الشرطية الكلاسيكية

لم تقتصر تجارب الشرطية الكلاسيكية على الحيوانات فقط، بل عُممت على البشر أيضًا. قام سكينر بتجربة «ألبرت الصغير-Little Albert» الشهيرة. حيث أتي بالطفل ألبرت صاحب التسعة أشهر وعرض عليه مجموعة من “المحفزات” مثل: جريدة مشتعلة وقرد وأرنب وفأر أبيض. ولاحظ ردود أفعاله، فلم يبد الطفل أي إشارة خوف أو اضطراب.

أعاد سكينر التجربة، لكن عندما ظهر الفأر الأبيض أثار ضوضاء مزعجة، فأخذ الطفل يبكي. بعد إعادة التجربة عدة مرات وإقران الفأر الأبيض بالضوضاء كل مرة، صار ألبرت يبكي عند رؤية الفأر الأبيض فورًا حتى في غياب الضوضاء. ولم يقف الأمر عند هذا الحد، لاحظ سكينر بكاء الطفل عند رؤيته الأرنب أو معطف من الفرو أو قناع سانتا. امتد خوفه إلى كل ما هو أبيض ومكسو بالفراء فيما عرفه سكينر بـ «تعميم المحفز-Stimulus Generalization»

وهنا يمكننا القول أن الشرطية الكلاسيكية ليس مجرد ظاهرة معملية. فقد عُممت نتائجه على مختلف أنواع الحيوانات. بل وأدعى البعض أنه يفسر بعض الجوانب الشيقة من ردود الفعل البشرية. مثل: حالات «الرهاب-Phobia».

رأي السلوكيين في تجربة ألبرت الصغير تفسيرًا لنشأة الرهاب. وأيضًا شعور الجوع، تُفسر تجربة الجوع بوجود إشارات في البيئة المحيطة مرتبطة ومحفزة لهذا الشعور. وآمن السلوكيون أنه يحدث بسبب التاريخ الارتباطي بين المحفزات وردود الفعل. وأخيرًا تكوين الرغبة الجنسية خاصة الفيتيشية. رأي السلوكيون أنه إشراط كلاسيكي مباشر. فبينما يختبر الشخص المتعة الجنسية مع شريكه يحدث أن تقع عيناه على الحذاء مثلًا ومن هنا يحدث الارتباط. فيصبح الحذاء محفز مشروط لرد فعل مشروط وهو المتعة الجنسية.

الإسهام الأبرز لسكينر

المبدأ الثالث والأخير للتعلم عند السلوكية هو «الشرطية الإجرائية-Operant Conditioning». وهنا يحدث التعلم عن طريق المكافأة والعقاب، فيربط الشخص بين سلوك معين ونتائجه. طُور هذا المبدأ على يد سكينر. الذي اعتمد على «قانون التأثير-Law of Effect» لثورندايك بشكل أساسي وبنى عليه نظريته. ينص قانون التأثير أن احتمالية تكرار الأفعال المتبوعة بنتائج إيجابية أعلى من تلك المتبوعة بعواقب سلبية.

طور سكينر هذا المفهوم وأضاف إليه مصطلح «التعزيز-Reinforcement». ومعناه أن السلوك الذي يُعزز يتكرر وينمو تأثيره، أما السلوك الذي لا يُعزز يضعف تدريجيًا حتى يتلاشى. مثال على ذلك: تملك خنزيرًا وتود تدريبه على السير إلى الأمام فقط. عندما يسير الخنزير للأمام تكافئه وتقدم له الطعام. وعندما يسير للخلف تعاقبه وتمنعه عن الطعام. وبمرور الوقت وباستخدام تقنية المكافأة والعقاب ستحصل على خنزير يسير للأمام فقط. وهكذا استخدم سكينر الإشراط الإجرائي لتدريب الحيوانات. ولم يتوقف على تعليمها السير للأمام فقط بل دربها لفعل أمور أكثر تعقيدًا. مثل لعب كرة الطاولة، وأيضًا طور خلال الحرب العالمية الثانية قذيفة موجهة بطيور الحمام. لكن لحسن الحظ لم تُستخدم قط!

لو اقتصرت تجارب سكينر على الحيوانات فقط لما اتسعت شهرته. لكنه عممها على البشر وسلوكياتهم أيضًا. ناصر سكينر مبدأ الإشراط الإجرائي وآمن أنه يجب تطبيقه على الحياة اليومية لتصبح حياة البشر أكثر رضا وكمالًا. فطالب بإعادة إصلاح نظام السجون. وبدلًا من التركيز على مباديء العدالة والعقاب، ينبغى تعزيز التصرفات الحميدة والعقاب على التصرفات المسيئة.

رأي العلم في السلوكية

أثبت العلم أن الأفكار الثلاث التي قامت عليها السلوكية خاطئة بشكل كامل. وفيما يلي تفصيل للنقد الموجه للسلوكية:

أولًا: هل كل المعرفة تأتي من التعلم؟ أثبت العلم يقينًا أن كل شيء لا يأتي عن طريق التعلم. وهناك ما يكفي من الأدلة على وجود قدر من المعرفة والرغبات الفطرية عند البشر والحيوانات على حد سواء.

ثانيًا: هل الحديث عن الحالة العقلية غير علمي؟ ثبت خطأ هذا الاعتقاد أيضًا. تعتمد علوم مثل الفيزياء والكيمياء بشكل كبير على أشياء غير قابلة للرصد. ويبدو تفسير السلوك الإنساني تبعًا للآليات الداخلية له أكثر منطقية. مثلما يحدث مع الحاسوب فلن نستطيع تفسير لماذا يقدر على لعب الشطرنج مثلًا دون التطرق إلى برامجه وآلياته الداخلية.

ثالثًا: هل تحتاج الحيوانات للتعزيز والعقاب كي تتعلم؟ الإجابة أيضًا لا. ظهرت دراسات للعالم تولمان في القرن الماضي تثبت عكس ذلك. حيث وُضعت بعض الفئران في متاهة ووجدوا أنها تنهيها بسرعة عند تعزيزها بشكل مستمر. لكنهم وجدوا أيضًا أنها تنهيها بشكل أسرع إذا لم تُعزز على الإطلاق. لذا يمكننا القول أن مبدأ التعزيز والعقاب يساعد لكنه ليس الخيار الأمثل.

رابعًا: هل يمكن تعليم الحيوانات أي شيء دون قيود؟ والإجابة هي لا. لدى الحيوانات ردود فعل فطرية، التي يمكن استخدامها في تجارب التعلم لكن لا يمكن تغييرها. فيمكن تعليم حمامة أن تنقر الأرض من أجل الطعام أو ترفرف جناحيها للهروب لكن يصعب تعليمها العكس.

صحة الشرطية الكلاسيكية

أثبت العلم وجود استثناءات للشرطية الكلاسيكي منها ظاهرة تدعى «تأثير جارسيا-The Garcia Effect» التي تفسر النفور من الطعام عند الحيوانات والبشر. فعندما يتزامن شعور الغثيان مع وجود طعام جديد يتطور نفور تجاه هذا الطعام. والمثير هنا أن هذا النفور خاص ومميز. فإذا حُقن حيوان بعقار ما يجعله يشعر بالغثيان، وقدم له في نفس الوقت طعامًا جديدًا فسينفر من هذا الطعام. أما إذا صُعق كهربيًا وقُدم له طعامًا جديدًا فلن ينفر منه. ثنائية النفور من الطعام والغثيان فطرية وبالتالي فهي أقوى من ثنائية النفور من الطعام والألم.

استثناء آخر للشرطية الكلاسيكية وهو نشأة الرهاب. ثُبت خطأ الإدعاء القائل أن تطور الرهاب يحدث نتيجة ارتباطات كلاسيكية. بل اتضح أن هناك بعض أشكال الرهاب التي تطورنا كبشر لنصاب بها. فنجد أن البشر وحيوانات الشمبانزي أكثر عرضة للإصابة بالخوف من الثعابين. لذا من المرجح أن الإصابة بالرهاب لها علاقة بالتاريخ التطوري وليس التاريخ الشخصي.

النقد الأخير والأكثر قوة الذي وضع نهاية للسلوكية كنظرية سائدة كتبه المفكر نعوم تشومسكي. الحجة الرئيسية التي ساقها تشومسكي هي افتقار السلوكية -كما الحال مع فرويد- لـ «القابلية للدحض-Falsification». فعندما يتعلق الأمر بالبشر، تعد أفكار التعزيز والعقاب غامضة للغاية ولا يمكن احتسابها علمًا صحيحًا.

ختامًا، يمكننا الجزم أن السلوكية تلاشت تمامًا في وقتنا الحالي. لكنها تركت ورائها إرثًا هامًا ولا تزال تعد أحد أكبر الإسهامات الفكرية في القرن العشرين. فقد منحتنا فهمًا أفضل لآليات التعلم، فلا ننكر حقيقة آليات مثل التعود والإشراط الكلاسيكي ولا إمكانية دراستها بشكل علمي ولا الدور الهام الذي تلعبه في حياة الحيوانات وربما البشر أيضًا. لكنها فقط لا تشرح كل شيء.

المصادر

  1. verywellmind
  2. simplypsychology
  3. britannica
  4. verywellmind
Exit mobile version