مفهوم الاستهلاكية وعلاقتها بالاقتصاد

مفهوم الاستهلاكية وعلاقتها بالاقتصاد

لا يمكن للمرء أن يعيش دون استهلاك المواد الأساسية للحياة كالغذاء والمأوى والملابس، ومن هنا تأتي أهمية العمل لكسب المال. كما أن حاجة الأفراد للخدمات والسلع الاستهلاكية هي ما تبقي عجلة الاقتصاد في دورانها. وتمثل الاستهلاكية (Consumerism) مفهوماً أساسياً في هذه العلاقة الاقتصادية بين الأفراد المستهلكين والسلع أو البضائع التي يقومون باستهلاكها.

مفهوم الاستهلاكية في التاريخ

لا يعد مفهوم الاستهلاكية جديداً، إذ يعود إلى أيام الثورة الصناعية في أوروبا في القرن الثامن عشر. إذ لعب تطور الصناعة دوراً أساسياً في انتشار الاستهلاكية. قبل هذه الثورة، كان الإنتاج ضيق النطاق، ومقتصراً على بعض العائلات التي تعمل في منازلها. وعليه، انعكست ندرة المنتوجات وغلاء أسعارها سلباً على الاستهلاك، وجعلته مقتصراً على الطبقة التي تستطيع أن تنفق. أما بعد الثورة الصناعية، أدى الاعتماد على السياسات الاقتصادية الرأسمالية إلى نشوء العديد من المصانع. وهذه المصانع بدورها كانت قادرة على إنتاج كميات ضخمة من المنتوجات على مستوى كبير. وعليه، بات الاستهلاك أمراً واقعاً. بل أصبح هنالك المزيد من السلع الجديدة التي لم تكن تستهلك من قبل، وكان لا بدّ من ترويجها لزيادة استهلاكها وتصريفها. وبهذا، كان التغيير في نمط الإنتاج نقلة نوعية بالنسبة للاستهلاك عمّا سبق الثورة الصناعية [1].

الاستهلاكية والأفراد والاقتصاد

ولكن هل الاستهلاكية أمر إيجابي أم سلبي؟ في الواقع، يمكن النظر إليها بأكثر من طريقة، وبالتالي إسنادها سمات سلبية أو إيجابية وفق ذلك.

من جهة، تعتبر الاستهلاكية مفهوماً اقتصادياً يعزز فكرة أن زيادة استهلاك البضائع والخدمات هو أمر مرحبٌ به ومحفزٌ لنمو الاقتصاد. إذ إن تشجيع المستهلكين على الإنفاق هو من الأهداف الأساسية للسياسات الاقتصادية. ومن هذا المنظور، تُعتبر الاستهلاكية عاملاً إيجابياً يساهم في النمو الاقتصادي [2].

ولكن من جهةٍ أخرى، ومع الوقت، أصبحت الاستهلاكية دلالةً على ربط سعادة الأفراد ورفاههم بالمادية واقتناء المزيد من البضائع والسلع. وهذا ما يعطيها طابعاً سلبياً، ويجعل من الأفراد ضحايا لاستهلاك ما ليس لهم حاجة إليه بالضرورة. حيث أدخل عصر ما بعد الحداثة أنماط إنتاجٍ واستهلاكٍ جديدةً، تقوم على تعزيز الرغبة بتجميع المقتنيات، حتى غير الضرورية منها. وتتطور هذا الرغبة إلى حاجةٍ ملحةٍ للامتلاك والاستهلاك بشكل عشوائي. وتكون النتيجة استنزاف الموارد الطبيعية واختلال التوازن البيئي. إذ يتطلب ارتفاع مستوى الاستهلاك ارتفاعاً موازياً في مستوى الإنتاج. ويؤدي تسارع الإنتاج بدوره إلى زيادة المخلفات والآثار السلبية على البيئة [3].

إضافة لذلك، أصبح مصطلح الاستهلاكية يستخدم للدلالة على حركةٍ تهدف لحماية المستهلكين. حيث يسعى أنصار هذه الحركة إلى التأكيد على أهمية إعلام المستهلكين بما يشترون، وبممارسات التغليف والإعلان عن البضائع التي تقدم لهم. كما يتم التأكيد على ضمانات المنتج وتحسين معايير السلامة. وبهذا المعنى، تكون الاستهلاكية عبارة عن مجموعة سياسات تسعى لتنظيم المنتجات والخدمات وطرق التصنيع ومعاييره. بالإضافة إلى ضبط عمل الباعة ومسؤولي الإعلانات، وكل هذا في خدمة المشترين ولصالحهم [3].

أهمية الاستهلاكية في نمو الاقتصاد

إذاً، فالاستهلاكية هي أمرٌ مهمٌ لحياة الأفراد، وإن كانت في بعض الأحيان تنطوي على مبالغة غير ضرورية. كما أنها عاملٌ فعالٌ في الاقتصاد ونموه. وتكمن فعاليتها بكونها مؤشراً على رفاه الشعب وجاهزيته للإنفاق. وهذا ما يضمن دوران النقود في الاقتصاد. وبالمقابل، يعتبر انخفاض مستوى الاستهلاكية مؤشراً على مشاكل دفينة كارتفاع معدل البطالة بين الأفراد، أو ارتفاع سعر الفائدة. وبهذا، تساعد على الإشارة إلى الخلل في النظام الاقتصادي، إن وجد، وتحسينه بطريقة معينة تقود الأفراد إلى المزيد من الاستهلاك [2].

التقليلية في الاقتصاد في مواجهة الاستهلاكية المفرطة

تتغذى الرأسمالية على استهلاك الأفراد. فنظام الاقتصاد الرأسمالي يشجع دائماً على المزيد من الاستهلاك كي يصبح أقوى وأكثر استدامة. ومن هنا كانت التقليلية (Minimalism) هي النمط المقابل أو المضاد، والذي يهدف إلى تقليص الاستهلاك إلى أدنى حد ممكن. ولكن هذا لا يعني التخلي عن الممتلكات أو تجنب الاستهلاك لمجرد فكرة التخلي. ولكن يركز هذا الفكر على مواقف الأفراد من مفهوم الاستهلاك والامتلاك، ورغبتهم باقتناء المزيد أو عدم ذلك.

وتركز التقليلية على إيلاء الاهتمام لما يستحق ذلك فعلاً. فالعلاقات مع العائلة والأصدقاء وإمضاء الوقت برفقتهم هي أهم من الممتلكات والمشتريات التي نسعى للحصول عليها. هذا لا يعني التخلص من كل ما نملك أو الإحجام عن الشراء. بل ببساطة، يُطلب منا كأفرادٍ أن يكون سلوكنا الاستهلاكي واعياً ومدركاً لما هو مهم، وأن نولي المزيد من الاعتبار لأمور كنا قد أغفلناها، وهي أمور لا تتطلب الاستهلاك أو الإنفاق. أي أننا بحاجة إلى إعادة ترتيب للأولويات، مع القليل من التفكير فيما نستهلكه وفي أهميته أو حاجته المرجوة [4].

هل يجب ألا نستهلك؟

في الواقع، إن عدم الاستهلاك هو أمر مستحيل، بل لا منطقي. فنحن نحتاج إلى الطعام والدواء واللباس والمواد المتنوعة التي تشكل جزءاً أساسياً من حياتنا اليومية. لهذا لا يمكن النظر للاستهلاكية على أنها ذات تأثيرٍ سلبي بالمطلق في حياتنا. ولكن كما تدعو التقليلية، من الضروري التفكير فيما نسعى لاستهلاكه. ومن المهم أيضاً أن نكون نحن المسيطرين على السلع، لا أن نصبح سلعة في يد الاستهلاكية ومنتجاتها.

اقرأ أيضاً: مفارقة إيكاروس، كيف يقتلك ما كان السبب في نجاحك؟

المصادر

  1. History of Consumerism
  2. Consumerism
  3. What is Consumerism
  4. Minimalism, Consumerism, and Creativity

مفارقة إيكاروس، كيف يقتلك ما كان السبب في نجاحك؟

بالتأكيد العمل الدؤوب والاجتهاد هو الطريق للنجاح، ولكن ماذا لو كانت مسببات النجاح هي التي ستؤدي للفشل الذريع؟  هذا ما طرحه داني ميلر في كتابه مفارقة إيكاروس، ليوضح سبب سقوط الشركات الناشئة بعد فترة من النجاح والازدهار.

إيكاروس في الميثولوجيا الإغريقية:

تروي الأسطورة أن إيكاروس هو ابن ديدالوس، المعماري الذي بنى المتاهة التي احتوت وحش المينوتور “نصف انسان ونصف ثور” . وكان في جزيرة كريت التي حكمها الملك مينوس، وحُكِم على ديدالوس وابنه بالسجن في برجٍ في جزيرة كريت.

حاول إيكاروس وأبيه الهروب وذلك بصناعة أجنحة وتشكيلها من الشمع والريش. ولكن نبه ديدالوس ابنه بألا يطير عاليًا فيقترب من الشمس ويذوب الشمع في أجنحته، وألا يطير منخفضًا فيبتل الريش بالماء ويغرقه.

ولكن إيكاروس كان مزهوًا بأجنحته وفخورًا بحريته، فحلق عاليًا إلى أن اقترب من الشمس فأذابت الشمع وحرقت أجنحته، وهوى إلى البحر ومات غرقًا فيه.

مفارقة إيكاروس:

طرح داني ميلر في عام 1990 مفهوم مفارقة إيكاروس؛ موضحًا أن الشركات الناشئة التي تبالغ في ثقتها بقدراتها بعد نجاح مزدهر وسريع سيكون مصيرها مماثلًا لمصير إيكاروس، الفشل بسبب نفس العوامل التي أدت لنجاحها الباهر.

تؤدي العوامل المسببة في النجاح السابق؛ مثل استراتيجيات متبعة سابقًا عند استخدامها بشكل زائد عن حده إلى انخفاض المبيعات والأرباح إلى أن تصل للإفلاس.
ويحدث هذا عندما يتخذ المدراء نفس الأساليب أملًا في الحصول على نتائج مشابهة للنجاح القديم. وذلك لثقتهم العمياء فيها، وأحيانًا بسبب الغطرسة والثقة الزائدة بنجاحها.

عوامل فشل الشركات:

يقول ميلر إن انتصارات الماضي هي التي تخدع صناع القرار في الشركات وتدفعهم للإيمان بأنهم وصلوا لبر الأمان وحققوا النصر في مبيعاتهم، ويدفعهم ذلك إلى اتباع طرقهم التقليدية ذاتها، بسبب إيمانهم بأنها الطرق الناجحة كونها طرق مجربة.

عند توقع نتائج المشاريع المحفوفة بالمخاطر يقع المدراء في ما يسميه علماء النفس “مغالطة التخطيط”، ويتخذون قراراتهم بناءً على تفاؤل وهمي بدلًا من الحساب العقلاني للمخاطر والمكاسب المحتملة. ويسعون وراء أهداف غالبًا ما تفشل.

عبر الزمن، تركز الشركات على العامل الوحيد الذي ساعد في نجاحها، ولكن على حساب عوامل أخرى تهملها الشركات ولا تتكيف مع التطورات مثل وجود منافسين جدد، تغير الطلب المحلي، وجود تكنولوجيا جديدة.

أمثلة على مفارقة إيكاروس:

هناك أمثلة على ذلك أهمها شركة تيسكو بمحاولتها دخول السوق الأمريكية عام 2007. بالرغم من نجاحها البالغ في المملكة المتحدة، فشلت في دخول السوق الأمريكية وذلك لتطبيقها نفس الاستراتيجية المتبعة في المملكة المتحدة بدون مراعاة فروق العادات الاستهلاكية للمواطن الأمريكي. ما أدى لخسارات بالغة تقارب 1.8 مليار دولار وانخفاض أرباحها بمعدل 96%.

مقترحات ميلر:

يرى ميلر بضرورة تطوير المديرين لما يسميه “المرايا” أو القدرة على الوعي بالسلوك والتفكير الذاتي. ويؤكد على أهمية التطوير ومراجعة الاستراتيجيات خصيصًا التي مرّ زمن على العمل بها. بالإضافة لضرورة استخدام عدة مصادر من المعلومات عن المنافسين ومتطلبات السوق المحليّ، ومتابعة المنتجات المنافسة. حتى تتمكن الشركة من الصمود أمام تغيرات السوق يتوجب التغيير المستمر في الاستراتيجيات المتبعة للنجاح، حتى لا ينتهي بها الأمر مثل إيكاروس.

المصادر:






العصر البرونزي الحديث .. كيف تصبح العولمة سببًا لانهيار الحضارات ؟

لا بد أن اللحظات الأخيرة للسفينة كانت مرعبة. ربما غرقت بعد اصطدامها بشيء مغمور في الماء، أو أنها غرقت بسبب عاصفة قوية أو ربما يكون طاقمها قد أغرقها عن عمد ليتجنب سقوطها بيد القراصنة. لا يمكن الجزم في سبب غرقها، لكن علماء الأثار قد انتشلوا حمولتها، وعلموا أن السفينة كانت مبحرة من منطقة شرق المتوسط إلى منطقة إيجة حاملة معها الدليل الأكبر على العولمة والسبب الأساسي لانهيار الحضارات القديمة. لكن، كيف تصبح العولمة سببًا لانهيار الحضارات ؟

عام 1982 وأثناء قيام غطاس تركي شاب من صائدي الإسفنج البحري بأولى غطاساته قبالة الساحل الجنوبي الغربي لتركيا وفي منطقة 《أولوبورون – Uluburun》 تحديدًا، يكتشف عن طريق الصدفة ما يدعوه بقطع البسكويت المعدنية. أدرك قائده مباشرةً أن الشاب كان جائعًا وأنها ليست قطع بسكويت بل سبائك جلد الثور النحاسية التي تعود للعصر البرونزي الحديث. لم يكتشف الشاب مجرد سبائك نحاسية بل حطام سفينة قد غرقت سنة 1200 ق.م. في عصر بدأت فيه العولمة وكانت سببًا في انهيار حضاراته.(1)

استلم عالم الأثار البحرية 《جورج باس- George Bass》 مهمة التنقيب عن السفينة. وأثناء تنقيبه اكتشف زجاجًا خامًا وجرار تخزين مملوءة بالشعير والتوابل وربما الخمر. أما أثمن ما في الحمولة فهوا حوالي طن من القصدير الخام وعشرة أطنان من النحاس الخام الذين كانوا سيمزجون معا لتشكيل معدن البرونز الرائع.(1)

رسم تخيلي لسفينة أولوبورون (مواقع التواصل )

 في الواقع إن اكتشاف باس مدهش. ولكن قيمته حقًا لم تكن في هذه الحمولة الهائلة، بل بأنه أزاح الستار عن عصر أممي تربطه طرق تجارية وعلاقات دبلوماسية واسعة. كان هذا العصر يعتمد على معدن البرونز كما النفط في يومنا هذا.

علاقات دولية

كان عصر البرونز الحديث (1550-1200) عصر أممي بامتياز. قامت فيه امبراطوريات عظيمة سيطرت على العالم القديم وارتبطت ببعضها عبر التجارة والحروب والعلاقات الدبلوماسية. بحيث كان يمكن لشخص من مصر مثلا أن يقوم برحلة إلى اليونان للتسوق مارًا بجزيرة كريت ثم إلى مدن البر اليوناني ثم يعود إلى مصر. (2)

لم تكن سفينة أولوبورون الدليل الأول أو الوحيد على أممية هذا العصر. بل إن عالم الأثار نفسه قد اكتشف سفينة أخرى كانت قد غرقت قبلها بمئة سنة. ولم تكن هذه السفن سوى واحدة من مئات السفن التي كانت تجوب المتوسط عبر طرق بحرية أساسية كانت تربط العالم القديم ببعضه.

العولمة القديمة

وفي قصة مثيرة تعود لبداية هذا العصر حوالي عام 1477 ق.م. في مدينة بيرو نيفر في دلتا النيل والتي تعرف حاليًا بتل الضبعة. يأمر الفرعون المصري تحتمس الثالث ببناء قصر كبير له، بزخارف ورسومات جصية مذهلة لم يكن لها مثيل في مصر.

استأجر الفرعون لهذه المهمة حرفيون من جزيرة كريت البعيدة، والتي تقع في أقصى الغرب في الجانب الأخر من الأبيض المتوسط. رسم هؤلاء الحرفيون صورًا لم يراها أحد في مصر قبلًا، مشاهد غريبة لرجال يثبون فوق ثيران. وكانوا يستعملون الطلاء فوق الجص قبل أن يجف بحيث يمتص الألوان ويصبح جزئًا من الجدار نفسه. وهذا ما يسمى بأسلوب الفريسكو.

كانت هذه المشاهد والتقنية المستخدمة في الرسم المستوحاة من جزيرة كريت، موجودة أيضًا في مناطق كنعانية ساحلية وفي تركيا وقطنة في سوريا. (2) وتشكل هذه الرسوم مثالًا أخر على العولمة التي تعود لأكثر من 3400 سنة من يومنا هذا.

إن العلاقات بين جزيرة كريت والشرق الأدنى كانت أقدم من ذلك. فعلى جزيرة كريت نفسها عُثر عى العديد من الأغراض المصرية والكنعانية وأغراض تعود لبلاد الرافدين.  وكما تقول مؤرخة الفن هيلين كانتور لا تشكل الأدلة التي حفظها لنا مرور الزمن سوى نسبة ضئيلة مما لا بد وأنه كان موجودا يوما ما. كل وعاء استورد يمثل عشرات من الأوعية الأخرى التي اندثرت.

ربما ينبغي أن نفهم أن التجارة بين منطقة إيجة ومصر والشرق الأدنى كانت أكبر بكثير مما نظنه اليوم.

أرشيفات ملكية

عام 1887 ميلاديًا وفيما كانت امرأة قروية من مصر تبحث عن بعض الأخشاب للتدفئة في منطقة تل العمارنة. عثرت على واحد من أهم الأرشيفات التي دونت العلاقات الدبلوماسية والتجارية في العالم القديم. عثرت على أرشيف تل العمارنة.

بنى هذا الأرشيف الفرعون المصري أمنحتب الثالث خلال القرن الرابع عشر ق.م. واحتفظ فيه بجميع المراسلات الدبلوماسية والتجارية التي كانت تجري بين مصر ودول البحر المتوسط. مات أمنحتب الثالث وخلفه ابنه أخناتون أو كما نعرفه اليوم بفرعون النبي يوسف الذي قام بثورة التوحيد في مصر. ربما تخلى أخناتون عن كل موروث والده الديني وأغلق معابد أمون. لكنه فهم أهمية الحفاظ على العلاقات الدولية فاحتفظ بهذا الأرشيف وأضاف عليه.

كان أرشيف تل العمارنة كنزًا دفينًا يعج بالرسائل بين ملوك وحكام مناطق الشرق الأدنى. كان موضوع هذه الرسائل في العادة طلبًا للمساعدة من حكام مناطق تابعة لمصر. لكن رسائل القوى الكبرى كانت على مستوى دبلوماسي أعلى بكثير. (2)

نرشح لك: الفينيقيون الجدد .. كيف ترسم السياسة حدود الحضارات؟

عقوبات تجارية

قصة أخرى مثيرة للاهتمام، عثر المنقبون في مختلف المناطق الحيثية (تركيا حاليًا) على العديد من الأغراض والبضائع من مختلف البلدان في الشرق الأدنى. وأيضا عثروا على بضائع حيثية في جميع تلك البلدان. لكن الاستثناء الوحيد كان في منطقة اليونان فلم يتم إيجاد أي أغراض حيثية في البر الرئيسي لليونان خلال العصر البرونزي الحديث. وكذلك في الأراضي الحيثية لم يجد العلماء أي دلائل على استيراد أي أغراض من المملكة المسينية التي حكمت اليونان خلال الألفية الثانية. (2)

قد يكون الأمر أن أي من الطرفين لم ينتج اغراضًا احتاجها الأخر أو أن الأغراض المتبادلة كانت عرضة للتلف. لكن الأثرين قد عثروا على معاهدة دبلوماسية حيثية تنص عل حظر اقتصادي متعمد على الميسينيين ويبدوا أنه من المرجح أننا نطالع هنا أحد اقدم الأمثلة على ما ندعوه اليوم بالعقوبات اقتصادية.

ربما الدافع لإنشاء هذا الحظر هو قيام الميسينيين بدعم أنشطة معادية للحيثيين في غرب الاناضول. أو ربما هذا الحظر كان نتيجة لاتفاقية معادية للحيثيين وقعت بين مصر وميسينيا أثناء عصر الفرعون أمنتحتب الثالث. خلاصة القول يبدوا أن التجارة والدبلوماسية منذ 3500 عام مضت لم تكن تختلف اختلًافا كبيرًا عن ما يمارس في عالمنا المعولم اليوم من إجراءات حظر اقتصادي  وبعثات دبلوماسية وغيرها.

لقد كان العصر البرونزي الحديث عصرًا ذهبيًا في التاريخ لكن لكل شي نهاية ونهاية هذا العصر كانت مأساوية.

نهاية عصر

انهار العالم في نهاية عصر البرونز الحديث وانهارت معه الحضارة ورغم الكارثة التي أحلها هذا الانهيار إلا أنه لم يحدث فجأة ولا بسبب كارثة نووية بل حدث على مرحلة زمنية طويلة وبسبب عدة أزمات. سنة 1177 ليست السنة التي حدث فيها الانهيار بل السنة التي بدأ فيها كل شيء.  (2)

تشير أخر الأبحاث الأثرية والأدلة النصية المستخرجة من مدينة أوغاريت (رأس شمرا حاليًا على الساحل السوري) أن العلاقات والصلات الدولية بقيت قائمة حتى أخر لحظة من الانهيار، تدمرت أوغاريت نهائيا بين سنة 1190-1192 ق.م. ويورد المنقبون في تقاريرهم أدلة على دمار ونيران في سائر أنحاء المدينة. مع وجود العديد من رؤوس السهام منتشرة في أطلال المدينة. وهذا ما يدل على أن التدمير الذي حصل للمدينة هو نتيجة غزو خارجي.

في ذات الفترة تقريبا دمر عدد من المدن والبلدات في جنوب سوريا وكنعان، المشكلة أنه لم يتمكن العلماء لحد الأن من تحديد سبب الدمار أو هوية الفاعل.

خريطة المواقع المدمرة في نهاية عصر البرونز (مواقع التواصل )

فاعل مجهول

كان سائدًا ولفترة طويلة أن شعوب البحر هي المسؤولة عن الدمار الحاصل في نهاية عصر البرونز في كل المدن. وأن هذه الشعوب قد غزت معظم العالم القديم، ففي هذه الفترة في القرن الثاني عشر تعرضت معظم المدن للدمار مما كان يعزز هذه الفرضية. وذلك يعود بطريقة أو بأخرى للنص الذي كتبه رمسيس الثالث والذي ذكرناه في المقال الأول.

هذا النص يتحدث عن تدمير هذه الشعوب لعواصم الدول الكبرى لكن الأدلة الأثرية اليوم ربما تشير إلى غير ذلك.

يتحدث الكتاب المقدس ومصادر أخرى عن خمس مدن في جنوب كنعان احتلتها شعوب البحر وهي عسقلان وأشدود وعقرون وجت وغزة. التنقيبات الأثرية في مدينة عقرون وأشدود تشير إلى تدمير كبير في المدينتان يعود لنهاية عصر البرونز الحديث. وقد تم استبدال الثقافة المحلية للمدينتين بثقافة أجنبية (أحواض الاستحمام والمواقد والأدوات الفخارية …) وهذا ما يشير إلى تدفق أشخاص جدد في أعقاب انهيار كنعان وانسحاب القوات المصرية من المنطقة.

الأمر نفسه قد حدث في مدينة عسقلان ربما كانت شعوب البحر مسؤولة فعليًا عن دمار هذه المدن لكن ماذا عن باقي الممالك الكبرى؟

حروب محلية

في بلاد الرافدين وجد علماء الأثار أدلة تدمير في مواقع متعددة تشمل بابل، لكن من الواضح الأن أن المتسبب في ذلك كان قوى أخرى غير شعوب البحر فالجيش العيلامي الذي زحف من جنوب غرب إيران كان متسببًا في جزء من هذا الدمار.

وفي الأناضول (تركيا حاليًا) وفي نفس الفترة، نرى تدمير للعديد من المدن الكبرى منها حاتوسا عاصمة الحيثيين التي أظهرت الدراسات الأثرية تدمير القصر والمعبد فيها بنيران كبيرة. لا يمكن الجزم بأن شعوب البحر قد فعلوا ذلك وخصوصًا أن للحيثيين أعداء يسمون بالكاشكا ربما استغلوا فرصة ضعف الإمبراطورية الحيثية وهاجموها.

عمليات التدمير حصلت في ذات الفترة تقريبًا في المملكة الميسينية في اليونان. فمن المتفق عليه بشكل عام أن ميسيناي، عاصمة المملكة الميسينية، وعدة مدن كبيرة أخرى في اليونان قد لحقت بهم عملية التدمير في القرن الثالث والثاني عشر ق.م. ومجددًا لا يمكن تحديد هوية الفاعل لكن هذه المرة ربما كانت الطبيعة مسؤولة عن جزء من هذا الدمار، حيث تظهر بعض الأدلة أن زلزالًا أو سلسلة من الزلازل دمرت ميسيناي ومدن أخرى في اليونان. 

الأم الطبيعة

في الواقع عندما تقرر الطبيعة أن تدمر قطعة منها فيمكنها أن تفعل ذلك بعدة أشكال.

بفضل الأبحاث التي أجراها مؤخرًا علماء الزلازل الأثرية بات من الواضح أن اليونان ومساحة كبيرة من منطقة إيجة وشرق المتوسط كانت قد ضربتها سلسلة من الزلازل بدأت من سنة 1225 ق.م. استمرت طيلة خمسين عامًا يدعوها علماء الأثار اليوم بعاصفة الزلازل وقد ضربت في هذه الفترة الزمنية ميسيناي والعديد من المدن الميسينية الأخرى. ويمكن رؤية ضرر الزلازل في مواقع عديدة أخرى تشمل طروادة في تركيا حاليًا وحاتوسا في الأناضول وأوغاريت ومجدو وعكا وأشدود في المشرق. (3)

تغير مناخي

يعتقد بعض الباحثين اليوم أن المشكلة ليست فقط في الزلازل فالطبيعة تحمل في جعبتها الكثير. نشر فريق دولي من الباحثين يضم 《ديفيد كينوسكي – David Kaniewski》 بحثًا يتضمن عدة أدلة علمية على التغير المناخي والجفاف في إقليم البحر المتوسط في نهاية القرن الثالث عشر ق.م.

اعتمد الباحثون على بيانات استمدوها من تل تويني في شمال سوريا. وعبر دراسة حبوب لقاح مأخوذة من رواسب طمي بالقرب من الموقع استنتجوا وجود فترة جفاف شديدة في المنطقة (4). استمرت هذه الفترة ما يقارب 300 عام وتسببت في تلف المحاصيل ونقص الغذاء والمجاعة مما سرع الأزمات وفرض نزوحًا بشريًا إقليميًا في شرق المتوسط وغرب آسيا.

لاحقًا نشر براندون دريك من جامعة نيو مكسيكو عدة أدلة اضافية من مناطق في فلسطين وغرب اليونان، تشير إلى حصول جفاف في هذه المناطق وفي ذات الفترة تقريبا.. (2)

أحجار الدومينو

من شأن الجفاف والزلازل أن تحدث أزمات داخل الدول، وربما تؤدي إلى الهجرة. لكن هذه الكوارث قد حصلت في عصور سابقة ولم تؤدي لانهيار حضاري كامل فما هو السبب إذًا؟

هذه العوامل مجتمعة أسهمت في انهيار ممالك وامبراطوريات العصر البرونزي المتأخر وهذا هو الاحتمال المرجح حاليًا. فانهيار الأنظمة على هذا النحو لا يمكن أن يسببه زلزال أو مجاعة أو حرب لكن اجتماعها معًا يمكن أن يسبب أزمة كبيرة. وفي ظل تعقيد العلاقات بين الامبراطوريات واعتمادها على العولمة والأممية يمكن لكل هذا أن يؤدي إلى ما يسميه العلماء بالتأثير المضاعف حيث تتضخم تأثيرات تلك العوامل وتؤدي إلى الانهيار الكامل. (2)

كان معدن البرونز لذلك العصر كما النفط في يومنا وكانت السفن تعود الى ميسينيا محملة بالمواد الأولية لصناعة هذا المعدن . اعتمد الاقتصاد الميسيني بشكل أساسي على هذا المعدن، ومع انهيار التجارة الدولية لم تعد المواد الخام تصل الي ميسينيا الأمر الذي أدى إلى انهيارها. وكأحجار الدومينو تساقطت الحضارات الواحدة تلوى الأخرى مخلفةً عصورًا مظلمة استمرت لمئات السنين اللاحقة وهكذا تصبح العولمة سببًا للانهيار الحضاري الأكبر على الإطلاق.

لكن ماذا لو أن هذا العالم القديم لم ينهار كيف كان سيبدو عالمنا اليوم؟

نرشح لك: الانهيار الحضاري الكبير .. هل احتلت شعوب البحر العالم؟

المصادر:

  1. PULAK C. The Uluburun shipwreck. The oxford handbook of the Bronze Age Aegean. 2012 :1305-1327.
  2. Cline E. 1177 BC. Princeton University Press; 2015.
  3. Nur A, Cline E. Poseidon’s Horses: Plate Tectonics and Earthquake Storms in the Late Bronze Age Aegean and Eastern Mediterranean. Journal of Archaeological Science [Internet]. 2000;27(1):43-63. Available from here.
  4. Kaniewski D, Van Campo E, Weiss H. Drought is a recurring challenge in the Middle East. Proceedings of the National Academy of Sciences. 2012;109(10):3862-3867.

الانهيار الحضاري الكبير .. هل احتلت شعوب البحر العالم؟

يرزح الاقتصاد العالمي تحت ضغط كبير، وتجتاح الأزمات دول الشرق الأوسط. انهيار اقتصادي في لبنان وسوريا وحرب في اليمن، تدخلات تركية وإيرانية تأجج نيران الصراع في المنطقة. العراق يعيش حالة من الاضطراب واقتصاد اليونان في حالة يرثى لها. أليس هذا هو الحال في سنة 2021 ميلاديًّا؟ بلى، ولكن الوضع أيضا كان هكذا في سنة 1177 ق.م. منذ أكثر من ثلاثة آلاف سنة وفي عصر يدعى بالعصر البرونزي، حلَّ الانهيار الحضاري الكبير ، فانهارت حضارات منطقة البحر المتوسط الواحدة تلو الأخرى. وبانهيارها غيرت مسار ومستقبل العالم إلى الأبد.

استمر العصر البرونزي في منطقة الشرق الأدنى، ومصر وبحر إيجة ما يقرب من ألفَي عام. من سنة 3200 ق.م تقريبًا إلى بُعَيْد سنة 1200 ق.م. قامت في هذه الفترة العديد من الممالك الصغيرة والإمبراطوريات الكبيرة التي سيطرت على منطقة الشرق الأوسط. أسست نظمها وسياساتها الخاصة، وتشابكت العلاقات فيما بينها عبر طرق تجارية دولية واسعة حتى دعيت تلك الفترة بأول فترة أممية. إن أول ظهور للعولمة كما نعرفها اليوم قد بدأ منذ ذلك الحين. لكن وبعد قرون من التطور الثقافي والتكنولوجي، انتهى الحال بغالبية أقاليم البحر المتوسط إلى نهاية مأساوية. فسرعان ما انهارت الامبراطوريات الكبيرة والممالك الصغيرة، وانهار معها النظام العالمي. مخلفًا سنوات من الظلام قبل أن تظهر نهضة ثقافية جديدة في المناطق المتضرِّرة، ممهدة الطريق لتطور المجتمع الغربي على الصورة التي نعرفه عليها في وقتنا الحاضر.(1)

لسنوات عديدة وجهت معظم الأبحاث الأثرية التي درست هذا الانهيار وأسبابه أصابع الاتهام نحو شعوب البحر، اتهموا بأنهم قد اجتاحوا هذا العالم القديم ودمروه، فمن هم هؤلاء الشعوب؟

البداية والنهاية

في العام 1177 ق.م. وفي السنة الثامنة لحكم الفرعون المصري رمسيس الثالث وفي وقت واحد تقريبا بدأت عدة معارك برية وبحرية في دلتا مصر أو بالقرب منها. هاجمت قوات شعوب البحر الجيش المصري الذي كان في انتظارها. يوجد احتمال أن هذه المعارك كانت تمثل كمائن أخذ فيها المصريون أعدائهم على حين غرة أو أنها معركة واحدة طويلة، لكن ما هو مؤكد أن المصريين قد انتصروا فيها.

في معبده الجنائزي في مدينة هابو بالقرب من مدينة الأقصر حاليًا يمثل رمسيس الثالث معركته مع شعوب البحر بعدة جداريات ونقوش، وقد كتب بإيجاز في أحد هذه النصوص:

أعدَّت البلاد الأجنبية مؤامَرةً في جُزرها. وفجأة ودونما إنذار انتزعوا البلدان ودمَّروها في خضمِّ المعارك الحامية الوطيس. ولم يستطع أي بلد أن يَصمد في مواجهة جيوشهم، فاغتُصِبت البلدان بدءًا من خاتي، وكودي، وكركميش، وأرزاوا، وألشية وما بعدها دُفعةً واحدة. [لقد أقاموا] معسكرهم في مكان واحد في عمورو، والتي قتلوا شعبها، وكان حال أرضها كحال أرضٍ خَرِبة لم يكن ثمَّة وجودٌ لبشرٍ عليها من قبل. كانوا آخذين في التقدُّم صوب مصر، بينما كانت النارُ مُعدةً لهم. كان تحالفُهم يتكوَّن من الفلستيين، والتجيكر، والشيكليش، والدانونا، والويشيش، والتي كانت بلدانهم متحدة. لقد احتلوا بلدانًا بقدر ما وصلت إليه أيديهم، وكانت قلوبهم واثقةً وموقنةً بالنصر.(1)

يعطي هذا النقش العديد من المعلومات عن شعوب البحر. وكان يعتبر بالإضافة لباقي النقوش المصرية الدليل الأساسي لاجتياح شعوب البحر للعالم القديم وتدميره في أواخر عصر البرونز.

شعوب البحر

شعوب البحر، هو الاسم الذي أطلقه الباحثون عليهم اليوم، لكن المصريين القدماء لم يستخدموا هذا المصطلح أبدًا. عوضًا عن ذلك ححدوا هويتهم باعتبارهم مجموعات منفصلة تعمل معًا: الفلستيون، والتجيكر، والشيكليش، والشاردانا، والدانونا، والويشيش. وهي أسماء أجنبية الوقع لأناس بملامح أجنبية.

أسماء هؤلاء الشعوب ووجوههم محفورة على جدران معبد رمسيس الثالث الجنائزي في مدينة هابو. على هذه الجدران تظهر دروع الغزاة المستديرة، وأسلحتهم، وملابسهم، وقواربهم بوضوح تام، وبتفصيل كبير لدرجة أن الباحثين قد قارنوا بين الدروع والسفن في هذه الرسوم مع ما يشبهها في حضارات العالم القديم بحثًا عن أصل هذه الشعوب.

نقش يمثل معركة رمسيس الثالث مع شعوب البحر (مواقع التواصل )

على رؤوسهم ريش

بالنسبة لأشكالهم يظهرون في الرسوم وهم يرتدون قبعات من ريش على رؤوسهم، أو بأغطية رأس على شكل جماجم أو ذات قرون، كما يظهر بعضهم بلحية قصيرة مدببة وبإيزار قصير، وبعضهم الأخر بملابس طويلة تكاد تشبه التنانير. يشير هذا الاختلاف في الشكل واللباس إلى أن هذه الشعوب كانت من مناطق جغرافية وثقافات مختلفة.

لقد استعمل الغزاة القوارب التي تشبه مقدماتها رؤوس الأحصنة وهذا النمط كان منتشرا في حضارة بحر إيجة، كما استعملوا مركبات تجرها الثيران. قاتلوا بسيوف برونزية حادة واستعملوا رماح برؤوس معدنية وأقواس وسهام. أما دروعهم فكانت دائرية الشكل وهذا النمط كان منتشرًا أيضا في حضارة بحر إيجة. لقد جاء الغزاة في موجات وعلى مدى فترة طويلة من الزمن فهل أتوا من الفراغ؟

نقش يظهر أشكال شعوب البحر (مواقع التواصل )

أراضي خلف البحار

لم تترك المجموعات الست المنفصلة التي كوَّنت شعوب البحر أثناء هذه الموجة من الغزو أي نقوش تدل على أصلها. كان الدانونا معروفين منذ زمن بعيد على أنهم الدانانيون الذين أتى هوميروس على ذكرهم، والذين كانوا يعيشون في منطقة إيجة في العصر البرونزي. أما الشيكليش فقد أتوا من جزيرة صقلية الحالية. والشاردانا أتوا من جزيرة سردينيا، استنادًا إلى أوجه التشابه بين الحروف الساكنة في كلٍّ من الحالتَين. ومع ذلك لا يقبل كل الباحثين هذه الاقتراحات. توجد مدرسة فكرية بكاملها تقترح أن شعبي الشيكليش والشاردانا لم يأتيا من غرب المتوسط، وإنما كانا من مناطق في شرق المتوسط وأنهما فرَّا فحسب إلى منطقتَي صقلية وسردينيا، ومنَحا اسمَيهما لهاتَين المنطقتَين، بعد هزيمتهم على يد المصريين.

ما علاقة فلسطين بكل هذا؟

من بين كل المجموعات الأجنبية النشطة في هذه الساحة في ذلك الوقت، لم يحدد الباحثون على نحو مؤكَّد سوى مجموعة واحدة فقط. اعتبر الباحثون أن الفلستيون من شعوب البحر ليسوا سوى الفِلَسْطِينِيِّينَ، الذين حدِّد الكتاب المقدس أنهم أتوا من جزيرة كريت. يبدو هذا واضحا من تشابه الاسماء وبالإضافة إلى هذا التحديد  نشر فريق من العلماء سنة 2019 ورقة بحثية في مجلة ساينس ادفانس اعتمدوا فيها على تحليلات الحمض النووي لتحديد أصول الفلستيين. اختاروا للبحث أكثر من مئة رفات من مدينة عسقلان تعود للفترة الانتقالية بين عصر البرونز والحديد. 10 عينات فقط أعطت كميات كافية للتحليل. وقد بينت النتائج أنه في أوائل العصر الحديدي أو نهاية العصر البرونزي حصل تغيير في التركيب الجيني لسكان المنطقة في فلسطين مع وجود جينات من أصل أوروبي في رفات بعض العينات، وهذا ما يتناسب مع الوقت الذي كان مقترحًا لوصول الفلستيين إلى الساحل المشرقي.(2)

نرشح لك: التضحية بالأطفال .. قصة فينيقيو قرطاجة

غزو عالمي

يعتقد الباحثون اليوم أن شعوب البحر كانوا يتنقَّلون باستمرار من موقع إلى آخر، آخذين في اجتياح البلاد والممالك أثناء مرورهم بها. وحسب النصوص المصرية، فأنهم أقاموا معسكرًا في سوريا قبل الاستمرار بحذاء ساحل منطقة كنعان (التي تتضمَّن أجزاءً من سوريا الحالية، ولبنان، وفلسطين) وإلى دلتا نيل مصر.

هاجمت هذه الشعوب دول العالم القديم في فترات زمنية مختلفة انتقلوا برًا من يونان إلى تركيا اما بحرًا فقد هاجموا الحضارة الميسينية حوالي سنة 1210-1200 ق.م. ثم انتقلوا إلى جزيرة كريت ومنها هاجموا قبرص ثم السواحل المشرقية سنة 1192-1190 ق.م. ثم انتقلوا إلى ديلتا مصر سنة 1177 ق.م.

في مدينة أوغاريت في سوريا عثر العلماء على لوح طيني منقوش عليه رسالة من ملك أوغاريت في شمال سوريا إلى ملك جزيرة قبرص:

  أبي الأن وصلت سفن العدو. إنهم يضرمون النار في  مدني وألحقوا بالبلد الأذى. ألا يعرف أبي أن كل الرجال المشاة خاصتي ومركباتي الحربية متمركزون في خاتي، وأن كل سفني متمركز في أرض اللكا؟ أنهم لم يعودو بعد، لذا فالبلد ليس له حماية. فليكن أبي لى علم بها الأمر. الأن سفن العدو التي كانت اتية  قد ألحقت بنا الكثير من الضرر. وإذا كانت سفن أخرى ستظهر. فإعلمني بطريقة ما.

لا  نعلم اذا كانت هذه الرسالة قد وصلت  إلى وجهتها او لا لكن أوغاريت قد تدمرت كليا سنة 1190 – 1192 ق.م وهذا ما أظهرته دراسة حديثة.(3)

أما على ساحل المشرق الجنوبي فقد أسست هذه الشعوب ثلاثة مدن هي 《غزة – Gaza》و《 أشدود – Ashdod》و 《عسقلان – Ashkelon》و 《جاث – Gath》و《 عقرون – Ekron》

المناطق التي هاجمها شعوب البحر (مواقع التواصل )

غزاة أم لاجئون؟

نسب الباحثون السابقون كل الدمار الذي وقع في هذه الفترة إلى شعوب البحر. لكن قد يكون من المبالغة أن يلقوا بلائمة نهاية العصر البرونزي برمتها عليهم. فهم بذلك يمنحون تلك الشعوب قدرًا لا تستحقُّه من الأهمية، إذ إننا لا نَملك أدلة واضحة، باستثناء النصوص والنقوش المصرية، التي تُعطي انطباعات متضاربة. هل توجَّهت شعوب البحر إلى منطقة شرق المتوسط على هيئة جيش منظم نسبيًّا؟ هل كانت تلك الشعوب على هيئة مجموعة من المُغيرين المنظَّمين تنظيمًا ضعيفًا، مثل الفايكينج الذين ظهروا في عصر لاحق؟ أم كانوا لاجئين يفرُّون هربًا من كارثة؟

لم يعد هناك يقين أن كل المواقع التي يوجد دليل على تدميرها قد دُمِّرَت على يد شعوب البحر. فيمكن للباحثين مثلا أن يستنتجوا من الأدلة الأثرية أن موقعًا ما قد تعرَّض للتدمير، ولكن لا يستطيعوا دومًا أن يستنتجوا السبب أو الفاعل. علاوة على ذلك، فإن المواقع لم تُدمَّر كلها على نحو مُتزامِن، ولا حتى بالضرورة في خلال نفس العقد من الزمن.

تشير الأدلة المتوفرة حاليًا إلى أنه من المرجح أن شعوب البحر ليسوا الفئة الوحيدة التي تقع عليها اللائمة في ذلك. يبدو مرجحًا الآن أن تلك الشعوب كانت الضحيةَ بقدر ما كانت المُعتدية في مسألة انهيار الحضارات. تقترح إحدى الفرضيات أن تلك الشعوب أُجبِرَت على الخروج من أوطانها جراء سلسلة من الأحداث المأساوية وارتحلت شرقًا حيث صادفت مَمالك وإمبراطوريات كانت بالفعل آخذةً في الانحسار. من المحتمَل جدًّا أيضًا أن السبب تحديدًا في قدرتها على مهاجمة الكثير من ممالك المنطقة والقضاء عليها في نهاية الأمر هو أن تلك الأنظمة الملَكية كانت بالفعل آخذةً في الانحسار وفي حالة ضعف لسبب أو لعدة أسباب أخرى سنتكلم عنها في المقال القادم.

اقرأ أيضًا: الفينيقيون الجدد .. كيف ترسم السياسة حدود الحضارات؟

المصادر

  1. https://press.princeton.edu/books/paperback/9780691168388/1177-bc
  2. https://advances.sciencemag.org/content/5/7/eaax0061
  3. https://journals.plos.org/plosone/article?id=10.1371/journal.pone.0020232

ما هي الميزة النسبية ؟

حانت فترة نهاية الدورة الدراسية، ما يعني فتره مشاريع نهاية الدورة، بينما أنت مشغول (ة) بالمذاكرة للامتحانات النهائية، تذكر(ي) أنه تبقى يومان لمشروع نهائي لأحد المواد. نظرا لضيق الوقت، عليكما تبني استراتيجية تمكنكما من الخروج من هذا المأزق، يتكون المشروع من جزأين. الجزء الأول يتضمن كتابة خمس مقالات، و جزء آخر يتضمن صنع فيديوهات. تستطيع انت كتابة مقال واحد في ساعتين بينما صنع الفيديو يأخذ أربع ساعات من وقتك. أما صديقك فتستغرق كتابة المقال منه 12 ساعة، بينما يستغرق صنع الفيديو ساعات. كيف ستقسمان العمل بينكما لإكمال المشروع في الوقت المحدد؟ يمكن حل هذه المشكلة بالتعرف على نظرية الميزة النسبية.

مبدأ التخصص 

ينص مبدأ التخصص في علم الاقتصاد على أنه من المفيد لطرف أن يتخصص ويتاجر في منتج محدد أكثر من تعميم وتوزيع مجهوداته لإنتاج منتوجات أخرى حتى وان كان الأفضل في إنتاج كل هذه المنتجات بين الأطراف الأخرى.

لنأخذ على سبيل المثال الولايات المتحدة و الصين. نفترض أن الولايات المتحدة تستطيع إنتاج 50 كيلوغراما من القمح أو 100 كيلوغرام من الذرة في اليوم الواحد. نفترض أيضا أن الصين تستطيع إنتاج 25 كيلوغرام من القمح أو 5 كيلوغرامات من الذرة. سيكون أفضل للولايات المتحدة التخصص في إنتاج القمح. بينما من الأفضل للصين التخصص في إنتاج الذرة على الرغم من كون الولايات المتحدة الأفضل في إنتاج الاثنين. هذا راجع إلى مفهوم الميزة النسبية.

الميزة النسبية

يعتمد هذا المبدأ على مبدأ تكلفة الفرصة الذي يمكن الاطلاع عليه في هذا المقال. نتكلم عن الميزة النسبية حين يكون لطرف ما (شركة، بلد) مصلحة أكثر في إنتاج (المنتوج أ) من (المنتوج ب). تقوم هذه المقارنة بين المنتجات على مبدأ تكلفة الفرصة. كما ذكر في المقال المشار إليه أعلاه، تمثل تكلفة فرصة (المنتوج أ) في عدد المنتوجات ب التي يمكن صنعها باستعمال نفس الموارد المستعملة لإنتاج المنتوج أ. بطريقة أخرى، تمثل ما سيتم التضحية به من المنتوج ب لصنع المنتوج أ.

إذا عدنا إلى مثال الولايات المتحدة و الصين، إذا قامت الولايات المتحدة بإنتاج القمح فقط، تكون تكلفة الفرصة لإنتاج كيلوغرام من القمح هي كيلوغرامين من الذرة. و من أجل كيلوغرام من الذرة، على الولايات المتحدة التضحية بنصف كيلو من القمح.

بالنسبة للصين، تكون تكلفة الفرصة لإنتاج كيلوغرام واحد من الذرة 5 كيلوغرام من القمح. إذن للولايات المتحدة ميزة نسبية في إنتاج الذرة لأن تكلفة فرصتها أقل من تكلفة الفرصة للقمح. على نفس المنوال، تكون للصين ميزة نسبية في إنتاج القمح.

لنطبق نفس المنهاج على مثال مشروع نهاية السنة. تكون تكلفة الفرصة لعملك على فيديو واحد هي مقالين، بينما تكلفة الفرصة لعمل صديقك على مقال واحد هي اثنين من الفيديوهات. بالتالي، لك ميزة نسبية في العمل على المقالات، و لصديقك ميزة نسبية في العمل على الفيديوهات.

المصادر:

Econport

Crash Course

ما هو التحليل الهامشي؟

قمت بشراء دراجه نارية لكنك ندمت على شرائها بعد وقت جد قصير ولن تستعملها أبداً، فهي لا تناسبك. هل ستقوم ببيع الدراجة النارية بثمن أقل بكثير من الذي اشتريتها به؟ أم ستقوم بإبقائها في المرآب بحجة أنك قد أخطأت مرة واحده فلا داعي لارتكاب خطأ آخروبيعها بسعر أقل بكثير؟ من وجهه نظر علم الاقتصاد تعد الحجة الأخيرة واهية لأنها لا تحترم مبدأ الفائدة والتكلفة. للإشارة إلى نقطه ضعف هذه الحجة يستعمل علم الاقتصاد «التحليل الهامشي-Marginal Analysis»، و هو موضوع هذا المقال.

«الفائض الاقتصادي-Economic Surplus»

قبل التعرف على التحليل الهامشي، لا بد من التعرف على الفائض الاقتصادي.

الفائض الاقتصادي هو طرح «التكلفة الإضافية -Incremental Cost» سواء كانت «صريحة-Explicit» أو «ضمنية-Implicit» من «الفائدة الإضافية -Incremental Benefit». لكن ما معنى التكلفة الإضافية الصريحة والتكلفة الإضافية الضمنية؟ التكلفة الإضافية الصريحة هي أي تكلفه يمكن التعبيرعن قيمتها مالياً، أي يكون مصدر هذه التكلفة عبارة عن عملية تجارية يتم فيها دفع المال. من جهه أخرى تعبر التكلفة الصريحة عن الشيء الذي يُضحى به، ولكن لا يدفع من أجله المال، كالوقت مثلاً.

يجب على القرارات الاقتصادية أن تسعى إلى إكثار الفائض وذلك بإكثار الفوائد وتقليل التكاليف. أي يجب تقليل تكلفة الفرصة. إذاً يُمكننا الفائض الاقتصادي من ملاحظة مساهمة تكلفة الفرصة في تحديد ما إذا تم استغلال الموارد بطريقه فعالة.

كمثال على الفائض الاقتصادي: تم عرض فرصه عمل عليك في مدينه أخرى براتب شهري يقدر بـ $250، بينما يبلغ راتبك الحالي$200. من جهه أخرى، تبلغ تكلفه السكن $100 في مدينتك الحالية بينما تبلغ $120 في المدينة الجديدة. ما هو الاختيار العقلاني؟ في هذه الحالة نستعمل صيغه الفائدة الاقتصادية مع اعتبار أن الراتب هو الفائدة الإضافية وأن تكلفة السكن هي التكلفة الإضافية. إذاً يكون الفائض الاقتصادي للعمل في المدينة الأخرى $130 = $120 – $250, بينما الفائض الاقتصادي في العمل الحالي هو: $100=$100-$200. بذلك ستوفر $30 إضافية.

لكن تصور أنك توفر فقط $5 إذا انتقلت إلى للمدينة الأخرى؟ هل ستذهب للمدينة الأخرى؟ حسب الفائض الاقتصادي نعم رغم أنك تتقاضى $200 في الأصل. فعند الاعتماد على الفائض الاقتصادي، يجب الانتباه إلى القيم المطلقة فقط و هي $5 الزائدة، و ليس نسبة $5 ل $200.

التحليل الهامشي

يعتبر التحليل الهامشي واحد من أهم التقنيات لتحديد مدى فعاليه قرار ما. من بين مفاهيم تحليل الهامشي نجد مفهوم هامش الربح و الذي يشير إلى قيمة التغيير في الربح الكلي إثر القيام بخطوة إضافية. على سبيل المثال تصور أنك تبيع 15 قلماً بـ $29 ، بينما تبيع 17 قلماً ب $33، إذن هامش الربح لبيع قلم واحد هو 2 /(29 – 33) و هي دولارين.

تصور أن تكلفة صنع 15 قلماً تقدر ب $25 دولار، بينما تقدر تكلفة 17 قلماً ب $18.إذاً هامش التكلفة يقدر ب 2 / (15 – 17) وهو دولار واحد للقلم الواحد. إذن هل يعتبر بيع 17 قلما عوض 15 قرارا صائبا؟ باستعمال مبدأ الفائدة والتكلفة سيكون القرار صائباً إذا كان هامش الربح أكبر من هامش التكلفة. في هذه الحالة يكون صنع وبيع 17 قلم هو القرار الأمثل.

إذا عدنا إلى المثال الأول للدراجه النارية، نرى أن الربح الهامشي لبيع الدراجة النارية هو سعر بيعها مهما كان هذا الثمن، بينما تكون التكلفة الهامشية صفراً. من جهة أخرى، نرى أن الربح الهامشي لإبقاء الدرجة النارية هو صفر لأنك ندمت على شراءها فلن تستعملها، بينما تتجلى التكلفة الهامشية لإبقائها على المكان الذي تأخذه في المرآب (لاحظ هنا أن التكلفة ضمنية و غير صريحة)، باستعمال مبدأ الفائدة و التكلفة، يكون بيع الدراجة النارية هو القرار الصائب.

المصادر:

Edx

Oxy

ما هو الاقتصاد الجزئي؟

لابد انك مررت بموقف عجزت فيه عن اتخاذ القرار الأنسب. من الأمثلة على هذه المواقف الحيرة عند شراء هاتف جديد نظرا لتعدد الهواتف بشتى الأنواع والأشكال. تبقى حائرا في اختيار النوع المناسب لك، لاحتياجاتك ولمصروفك. في الحقيقة، يوجد علم اجتماعي يهتم فقط بدراسه اتخاذ القرارات ألا وهو علم الاقتصاد والذي سنتطرق إليه بالتفصيل.

من بين فروع الاقتصاد نجد «الاقتصاد الجزئي-Microeconomics» الذي يمثل محل اهتمام هذا المقال.

ما هو الاقتصاد الجزئي وما الفرق بينه وبين «الاقتصاد الكلي-Macroeconomics»؟

يدرس الاقتصاد الجزئي أساسيات اتخاذ القرار أو القرارات المثلى مع الحرص على استغلال الموارد المتوفرة قدر المستطاع. كما يدرس الاقتصاد الجزئي مدى تأثير السياسة العامه على الأسواق إيجابيا أو سلبيا.

يتمثل الاختلاف بين الاقتصاد الجزئي والكلي في كون الكلي مهتم اكثر بتدخل الاقتصاد بشؤون الدولة و السياسة، كما يستعمل مفاهيم الاقتصاد لدراسة نطاقات واسعة كالشعوب والدول بدلا من الشركات و الأسواق، من بين المفاهيم المرتبطة بالاقتصاد الكلي نجد الناتج المحلي الإجمالي وسعر الفائدة.

«مبدأ الندرة-Scarcity Principle»

أول مبدأ سنتطرق إليه هو مبدأ الندرة، تكون الموارد نادرة حين يكون الطلب عليها اكثر من عرضها. ينص مبدأ الندرة على أن الموارد تكون غالبا نادرة بالمقارنة مع احتياجنا لهذه الموارد. بما أن الموارد نادرة علينا أن نختار بين هذه الموارد فليس بالإمكان الحيازة عليها كلها. إذن في غالب الأحيان يكون علينا التضحية بشيء من أجل الحصول على شيء آخر. تكمن أهمية هذا المبدأ في تطبيقاته في الحياة العامة. فعلى المستهلك من جهه الاختيار بين ما سيشتري من المنتوجات، وذلك لندرة المال الذي يملكه على سبيل المثال، وتتمثل التضحية التي يقوم بها في عدم اشتراء بعض المنتوجات الأخرى رغم رغبته فيها. نجد هذا المبدأ أيضا في طريقة تدبير الحكومات للأموال، وكيفيه توزيعها على مختلف القطاعات.

«تكلفه الفرصة-Opportunity Cost»

تعتبر تكلفه الفرصة مفهوما اقتصاديا يساعد على اتخاذ القرار الأمثل، ويقوم على مبدأ “ما لم يتم اختياره”. بطريقه أخرى لمعرفه تكلفه الفرصة لقرار ما، يكفي أن تسأل/ي نفسك/ي ما هي قيمه القرار الآخر الذي لم أتخده؟ وما قيمه التضحيات التي قمت بها عند اتخاذ هذا القرار؟ على سبيل المثال، تخيل انك في محل لبيع الكعك، ومعك دولار واحد. بالدولار الواحد قد تشتري ثلاث فطائر أو كعكة الجبن. ما هي تكلفه الفرصة لشراء كعكه الجبن؟ لنطرح السؤال بطريقه أخرى، بماذا ستضحي إن اخترت كعكة الجبن؟ إذن تكلفة فرصه كعكه الجبن هي الفطائر الثلاث.

«مبدأ التكلفة و الفائدة-Cost-Benefit Principle»

حين اتخاذ أي قرار لابد من ذكر التكلفة الإضافية والفائدة الإضافية لهذا القرار. يقوم مبدأ التكلفة والفائدة على اختيار القرارات التي تؤدي إلى فائدة إضافيه أكثر من أو تساوي التكلفة الإضافية. وهذا راجع إلى ندرة الموارد التي تطرقنا إليها في مبدأ الندرة

وأخيرا لابد انك بدأت التفكير في استعمال هذه المبادئ في حياتك العامه فالحياه مليئه بالمواقف التي تتطلب اتخاذ القرارات: شراء هاتف جديد، اختيار الشعبة الدراسية بداية مشروع ما وغيرها. ترقب/ي المزيد عن الاقتصاد الجزئي في المقال القادم.

المصادر:

Edx

أحد أشهر تطبيقات نظرية الألعاب، لم حازت مساهمات تطوير نظرية المزاد على نوبل للاقتصاد 2020؟

أحد أشهر تطبيقات نظرية الألعاب، لم حازت مساهمات تطوير نظرية المزاد على نوبل للاقتصاد 2020؟

من المشاهد المألوفة لدينا، هي المعارض الانجليزية أو الأوروبية عموماً التي يحضرها رجال أنيقون ونساء ارستقراطيات بقبعات مائلة، لتعرض لوحة لفنان شهير أو أحد مقتنيات المشاهير أو تحف. وتبدأ المزايدة بسعر وتتبعه صيحات بأسعار أعلى حتى يربح العرض صاحب أعلى سعر وذلك بعد أن يختتم المسؤول عن المزاد ب “1، 2، 3” وإن لم يقاطعه أحد بسعر أعلى، يُقفل المزاد.

من جهة ثانية، إن كان في الدولة بعض الفاسدين والمرتشين من أصحاب المهن العليا كالقضاة، فإن الرشاوي يمكن أن تغير مسار العدالة وتتبع صاحب الرشوة الأعلى، فبوجود طرفين في المحكمة، قد يرشي كلاهما القاضي ولكن لا علم لأي منهما بالمبلغ الذي سيدفعه الآخر، وفي النهاية، سينهي القاضي القضية لصاحب الرشوة الأعلى.

كيف يرتبط المشهدان السابقان المألوفان، وكثير من الخطوط العريضة الأخرى في حياتنا اليومية، بنظرية المزادات، التي منح لتحسينها وابتكار أشكال جديدة لها بول ميلجروم وروبرت ويلسون جائزة نوبل للاقتصاد لسنة 2020. لنر معاً أهمية تلك النظرية وأسباب منحهما الجائزة.

نظرية المزاد في سطور

لمعرفة لم حظيت مساهمات ميلجروم وويلسون في نظرية المزاد بجائزة نوبل للاقتصاد 2020، يجب أولاً فهم ما نعني بهذه النظرية وما مدى تأثيرها على حياتنا.

عند عرض مادة/سلعة ما (an object) للمزاد، يكون ناتج هذا المزاد معتمداً على ثلاثة عوامل رئيسية:

الأول هو قوانين المزاد، ونعني بذلك هل عرض المزاد بالظروف المفتوحة (أسعار مكشوفة) أم المغلقة؟ وهل يسمح أن يتقدم المشاركون بأكثر من مرة للمزاد أم مرة واحدة؟ وما السعر الذي يدفعه الفائز – هل يدفع السعر الذي فاز به أم ثاني أعلى سعر؟ يجب هنا ألا يختلط عليك الأمر بين كلمتي “مزاد” و”مناقصة”، إذ أن المناقصة هي أحد أشكال المزاد.

العامل الثاني يتمثل في ما هو المعروض للمزاد، فهل تختلف قيمته بين المزايدين أم أنه ذو قيمة واحدة؟

والعامل الثالث هو عدم اليقين، أو مدى معرفة المزايدين بقيمة الشيء المعروض للمزاد.

إن استيفاء المزاد وتحديده للعوامل الثلاث السابقة تحدده نظرية المزاد، وهذا ما يؤثر على استراتيجية المزايدة وبالتالي على ناتج هذا المزاد. كما تعرض النظرية لنا كيفية تصميم المزاد وتحقيق أثر كبير على قيمة المادة المعروضة للمزاد. ويصبح الموضوع معقداً عندما تتم المزايدة في الوقت ذاته على أكثر من قطعة مرتبطة ببعضها البعض. وهنا يأتي دور الحائزين على الجائزة، إذ طورا أشكالاً لجعل الموضوع أكثر تخصصًا وعملي بدرجة أكبر.

بعض أنواع المزادات التي لا بد من معرفتها

المزاد على الطريقة الانجليزية: تعتمد دور المزادات حول العالم لبيع القطع فرادى على الطريقة الانجليزية في المزايدات، إذ يبدأ المزاد بسعر منخفض ليتم تدريجياً اقتراح أسعار أعلى وأعلى من قبل مقدمي العطاوات الراغبين بالفوز بالقطعة المعروضة، وفي النهاية يفوز مقدّم العطاء صاحب أعلى سعر ويدفع السعر الذي زايد فيه. بينما هذا الموضوع يختلف كلياً في المزاد الهولندي، إذ يبدأ بعرض أعلى سعر ثم تنقص الأسعار تدريجياً إلى أن تباع القطعة المعروضة. 

تحليل بول ميلجروم وبالمشاركة مع روبرت ويبر للشكلين السابقين: سيلاحظ المشاركون في المزاد الانجليزي انسحاب بعض المشاركين الآخرين عن المزايدة عند وصول القطعة إلى سعر معين وهذا يعطيهم معلومات عن تقدير الآخرين لقيمة القطعة، بينما في المزاد الهولندي لن يضفي تقليل قيمة القطعة أي معلومات عن مدى تقييم المشاركين لها. وهذا ما سنرى أثره على “لعنة الفائز” لاحقاً.

من الواضح أن شكل المزاد في الطريقتين الانجليزية والهولندية هو المزاد المكشوف، إذ أن الأسعار مكشوفة للمزايدين، بينما في نطاق الأعمال والتوظيف، فالشكل المتبع هي المزادات المغلقة (المظاريف المغلقة)، إذ يرسل أصحاب العطاءات عروضهم المالية بظروف مغلقة، وغالباً ما يتم الإرساء على العطاء الذي يلتزم بتقديم الخدمة بأقل سعر، بفرض أنه يستوفي شروط الجودة المطلوبة. في بعض المناقصات المغلقة يكون السعر النهائي هو السعر الأعلى (مناقصات السعر الأعلى)، فيما بعضها الآخر يرسي على ثاني أعلى سعر (مناقصات ثاني أعلى سعر).

هل يمكن تحديد أي شكل هو الأفضل؟ كما نرى، إن الأسلوب الأفضل يعتمد على صاحب المزاد، فبينما يهتم البائع الخاص بالبيع لأعلى سعر، يقوم البائعون العامة بالبيع لمن يضمن أكبر فائدة لأطول فترة. لذا فإن مهمة البحث على أفضل شكل مزاد شغلت الاقتصاديين لمدة طويلة. يمكن تخصيص مشكلة تحليل المزادات في تقييم كل من أصحاب العطاءات للمادة المعروضة للمزاد، وهل تعكس العطاءات المختلفة مدى العلم الكافي لمقدمي العطاوات بخصائص المادة المعروضة أو قيمتها؟ وهل يمكن لأصجاب العطاءات التلاعب فيما بينهم والتعاون ليبقى سعر المناقصة النهائي أدنى؟

القيم الخاصة والقيم المشتركة

سنوضح مفاهيم القيمة الخاصة والقيمة المشتركة بمثالين:

لنقل أن جمعية أعلنت عن عشاء خيري باستضافة أحد حائزي جائزة نوبل (أو أي شخصية مرموقة أخرى)، إن المبلغ الذي ستدفعه لقاء حضورك لهذا العشاء هو أمر شخصي، ولا يتأثر بقيمة هذا العشاء لأصحاب العطاءات الآخرين. هنا لا يجب أن تقدم عطاء بأكثر مما يمكن أن يعنيه هذا العشاء لك، ولكن هل ستقدم أقلّ عرض مقابل هذا العشاء؟ هذا ما نعنيه بالقيمة الخاصة، وهي محدودة بحالات معينة.

بينما على الجانب الآخر، معظم المزايدات تكون لديها أيضاً قيم مشتركة، وسنبسط ذلك بالمثال التالي:

لنفرض أنك تاجر للألماس، وتعتزم – مع تجار آخرين- بالتقدم لشراء قطعة ألماس خام في سبيل تقطيعها وبيع القطع الناتجة على حدى. إن جاهزيتك للدفع لقطعة الألماس الخام تعتمد فقط على سعر قطع الألماس التي ستبيعها منها، وهذا السعر يرتبط بدوره بعدد القطع وجودتها. إن لتجار الألماس آراء مختلفة حول هذه القيمة المشتركة لقطعة الألماس، وذلك حسب مهارتهم وخبرتهم والوقت الذي قضوه بفحص الالماس، سيكون من السهل لو علمت تقديرات تقييم باقي التجار لقطعة الألماس ولكنها معلومات سرية يفضلون الاحتفاظ بها.

إن الخطر الذي يقدم عليه مقدم العطاء لمزاد بالقيمة المشتركة محكوم بإن كان مقدمو العطاءات الآخرين ذو معلومات أوفر وأفضل عن السلعة/القطعة المعروضة وبالتالي تحديد قيمتها الصحيحة. فلنفرض أنك في المثال السابق قدمت سعراُ أعلى من الباقي وحصلت على قطعة الألماس، فأنت هنا معرّض لما يعرف بلعنة الفائز، إذ أنك دفعت سعراً كبيراً لم يكن ليدفعه أقرانك وهذه تعد صفقة خاسرة ولكنك ربحت القطعة على أية حال.

يصف روبرت ويلسون، الحائز على نوبل للاقتصاد 2020، الاستراتيجية عروض الأسعار الأمثل (حالة السعر الأعلى) عندما تكون القيمة المشتركة الحقيقية غير يقينة. وسنبين تحليله فيما يلي:

سيعرض المشاركون سعراً أدنى من أفضل سعر يقدرونه للقطعة، لتجنب عقد صفقة خاسرة وتعريض أنفسهم للعنة الفائز،  ومع زيادة عدم اليقين من القيمة الحقيقية للقطعة سوف يزيد حذر مقدمي العروض وتقل عروض الأسعار المحلية. يوضح ويلسون أن المشاكل التي تسببها لعنة الفائز تكون أعظم عندما يكون لدى بعض مقدمي العروض معلومات أفضل من غيرهم. أولئك من هم في وضع غير موات للمعلومات سوف يقدمون عروض أسعار أقل أو يمتنعون عن المشاركة أساساً تجنباً للمخاطر.

لنتفق على أن معظم المزادات تشمل كلا عنصري القيمة الخاصة والقيمة المشتركة، بالعودة إلى تحليل ميلجروم للمزايدات الانكليزية والهولندية، فإن المشاكل المتعلقة بلعنة الفائز في الطريقة الهولندية ذات أثر أكبر لأنها تؤدي إلى انخفاض الأسعار.

إن نتيجة اختلاف جودة شكل المزادات بالتعامل مع لعنة الفائز تعكس مبدأ عاماً: كلما قدم شكل المزاد عائدات أعلى كلما ازداد الرابط بين العطاءات والمعلومات الخاصة لأصحاب العطاءات عن المعروض في المزاد. كما رأينا في طريقتي المزاد الانجليزي والهولندي تماماً، لذا يكون من مصلحة البائع أن  يكون لأصحاب العطاءات أكبر قدر من المعلومات عن قيمة القطعة المعروضة قبل بدء المزاد.

أفضل المزادات المستخدمة عملياً، مساهمات ميلجروم وويلسون المبتكرة

لنستعرض قصة الرابحين بول ميلجروم وروبرت ويلسون بابتكار أشكال مزادات جديدة لمشاكل لم تكن أشكال المزادات المعروفة آنذاك قادرة على حلّها، ولعلّ أشهر قصة لهما هي مساهمتهما في تصميم مزاد لصالح اسلكات الأميركية لبيع ترددات الراديو لمشغلي الاتصالات.

الترددات الراديوية التي تسمح بالاتصالات اللاسلكية (الاتصالات الخلوية ودفوعات الانترنت ولقاءات الفيديو) هي ملك للحكومة، ولكن القطاع الخاص قادر على توظيفها واستعمالها بشكل أكفأ. لذا على الحكومة تخصيص بعض الباقات الترددية لهذه الجهات.

لقد مر سوق الاتصالات بتجارب غير مسرة بالنسبة للمستثمرين وشركات الاتصالات، فقد اعتمدت لجنة الاتصالات الفيدرالية لتوزيع النطاقات الترددية مرة على طريقة جلسات الاستماع أو “beauty contest”  إذ تقوم كل شركة بتقديم حجج لما هي بالتحديد تستحق الرخصة للوصول للنطاقات الترددية.وهذا ما أدى إلى إنفاق أموال الشركات في الضغط للحصول على الرخصة.  ومع توسع قطاع الاتصالات والموبايلات الخلوية في التسعينات، غيرت لجنة الاتصالات الفيدرالية -بعد أن استنزفت أسباب الدفاع عنها- طريقة جلسات الاستماع واتجهت لبطاقات اليانصيب لتخصيص نطاقات التردد لشركات الاتصالات. وبهذا استبدلت جلسات الاستماع بطريقة عشوائية تماماً لتخصيص النطاقات التي كما سابقتها عادت بخسائر كبيرة وأرباح محدودة جداً. 

إلى أن تقرر بسنة 1993 أن تباع النطاقات الترددية عن طريق المزادات، والتحدي هنا يكمن بتصميم مزاد يضمن التخصيص الفعال لرخص الاتصالات وتفيد بنفس الوقت دافعي الضرائب لأعلى حد ممكن. كما أن تعدد المواد المرتبطة (ترددات راديوية في مختلف المناطق) زاد من تعقيد التصميمات لمزادات تناسب هذا الغرض.

حقوق الصورة محفوظة للأكاديمية الملكية السويدية للعلوم
The Royal Swedish Academy of Sciences

هنا نشهد أول تصميم للمزاد المتزامن متعدد الجوالات (SMRA) الذي صممه بول ميلجروم وروبرت ويلسون بمشاركة من بريستون مكافي، يقدم هذا المزاد جميع العروض (وهي هنا نطاقات الترددات الراديوية في مختلف المناطق) في وقت واحد. تمكن هذا المزاد عن طريق البدء بأسعار منخفضة والسماح بعطاءات مكررة، من تقليل المشاكل المرتبطة بعدم اليقين ولعنة الفائز. وعند استخدام لجنة الاتصالات الفيدرالية مزاد SMRA لأول مرة في يوليو 1994،  باعت 10 تراخيص في 47 جولة مزايدات بإجمالي مبيعات بلغ 617 مليون دولار أميركي. هذه العوائد جاءت من مخصصات كانت الحكومة الأميركية توزعها تقريباً بشكل مجاني بطريقة اليانصيب!

لقد اعتبرت التجربة الأميركية لمزاد SMRA لأطياف الراديو ذو نجاح باهر وبدأت دول العالم بتطبيق نفس التصميم لمزادات الطيف الخاصة بها أيضاً. بلغة الأرباح والأموال، فقد عاد هذا التصميم على الحكومة الأميركية خلال عشرين سنة 1994-2014 بما يزيد عن عشرين مليار دولار، وعالمياً عاد بيع الطيف ب 200 مليار كما لم يقتصر استخدامه في سوق الاتصالات فقط بل في نطاق الكهرباء والغاز الطبيعي أيضاً.

وكما يقول جوزيف ستيجليتز، الحائز جائزةَ نوبل، عن البروفيسور ميلجروم: «إن من بين الثورات الحديثة في عالم الاقتصاد إدراك أن الأسواق لا تعمل بشكل ٍجيد من تلقاء نفسها؛ فالتصميم مهم، وتصميم مزاد لجنَة الاتصالات الفيدرالية للطيف الراديوي الذي أبدعه ميلوجروم إنما كان انطلاقاً  لعهد ٍ جديد لتصميم السوق باستخدام النظرية الاقتصادية لجعل الأسواق الحقيقية تعمل بشكل أفضل.» (كتاب قوة الاقتصاد)

خاتمة

يجب اعتبار أعمال ميلجروم وويلسون بمثابة أبحاث أساسية، فهما قاما بتطوير نظرية الألعاب (باعتبار المزادات قسم من نظرية الألعاب) لتحليل كيف تتصرف الجهات المختلفة استراتيجياً عندما كل منعم لديه وصول لمعلومات مختلفة. وشكلت المزادات –مع أدوارها الواضحة في التحكم بالتصرف الاستراتيجي- مساحة طبيعية لأعمالهما. قدمت الرؤى الأساسية من نظرية المزاد الأساس الواجب التطوير عليه أشكال جديدة للتغلب على التحديات الجديدة. وإن جائزة نوبل للاقتصاد لسنة 2020 تذكرنا كيف تؤثر الأبحاث الأساسية بابتكار أفكار تفيد المجتمع، الميزة الفريدة التي تمتع بها ميلجروم وويلسون أنهما عملا على الصعيد النظري والعملي لبحثهما مما عاد بالفائدة على الباعة والشراة والمجتمع ككل.

المصادر:

كتاب قوة الاقتصاد
كتاب نظرية الألعاب
Nobel Prize

اقرأ المزيد: ما هي إنجازات الحائزين على جائزة نوبل في الاقتصاد لعام 2020؟

نظرية اللعبة: اللعب التعاونية

هذه المقالة هي الجزء 4 من 5 في سلسلة مقدمة في نظرية اللعبة

نظرية اللعبة: اللعب التعاونية

وظفت إحدى الشركات تسنيم (مصممة غرافيك) ومحمد (مبرمج) من أجل بناء موقع إلكتروني لها. تمنح الشركات المصممين غالبًا ١٢٠ دولار بينما تمنح المبرمجين ١٥٠ دولار، إلا أن الأمر مختلف بالنسبة لتسنيم ومحمد، لأنهما سيعملان كفريق الآن. ستمنحهما الشركة ٣٠٠ دولار. فكيف سيقوم الاثنان بتقسيم المبلغ بينهما؟

من منظور نظرية اللعبة، يعتبر محمد وتسنيم لاعبان في «لعبة تعاونية-Cooaporative Game» مفادها تقسيم المكافأة. لحل مسألة التقسيم هذه، ستستعمل نظرية اللعبة «قيم شابلي- Shapley Values» ومفهوم آخر يعرف بـ «المساهمة الهامشية-Marginal Contribution».

قيم شابلي والمساهمة الهامشية

المساهمة الهامشية للاعب هي ما يضيفه هذا اللاعب على المجموع. بطريقة أخرى، إذا عمل محمد وحده على البرمجة فسيحصل على ١٥٠ دولار، لكن إذا أضيفت تسنيم إلى الفريق، سيحصل الاثنان على ٣٠٠ دولار. في هذه الحالة تكون المساهمة الهامشية لمحمد ١٥٠ دولار، ولتسنيم ١٥٠ دولار أيضا.

بنفس الطريقة، إذا عملت تسنيم وحدها ستحصل على ١٢٠ دولار، لكن ما أن يضاف محمد إلى الفريق، يحصل الاثنان على ٣٠٠ دولار. مما يعني أن المساهمة الهامشية لتسنيم تقدر ب ١٢٠ دولار، ولمحمد ب ١٨٠ دولار.

لتحديد المبلغ الذي سيحصل عليه كل من تسنيم ومحمد، سنقوم بحساب قيمة شابلي لكل لاعب ولذلك يكفي ضرب كل مساهمة هامشية ممكنة باحتمالية وقوع هذه المساهمة. فمثلا في حالة تسنيم، نقوم بضرب ١٢٠ ب ١/٢، و١٥٠ ب ١/٢، ثم نقوم بحساب المجموع فنحصل على ١٣٥. بنفس الطريقة يحصل محمد على ١٦٥ دولار (لحساب قيمة شابلي، توجد صيغة رياضية أكثر عمومًا نناقشها بالتفصيل في مقال قادم). لاحظ أن مجموع القيمتين يساوي ٣٠٠ دولار.

مسألة الانتخابات كلعبة تعاونية

تهدف هذه المسألة إلى معرفة تأثير كل حزب على نتائج الانتخابات البرلمانية. يتكون البرلمان من ١٠٠ عضو من ٤ أحزاب موزعة كما يلي: ٤٥، ٢٥، ١٥، ١٥ عضوًا. ما قيمة تأثير كل حزب على النتائج إذا تم اعتماد مبدأ الأغلبية (٥١ صوتا على الأقل للمصادقة على القرار) في حالة المصادقة على قرارٍ ما؟ قد تظن أن الإجابة هي: ٤٥٪، ٢٥٪، ١٥٪، ١٥٪. إلا أن استعمال قيم شابلي يظهر نتائج أخرى.

نظرًا لعدد اللاعبين (٤ أحزاب)، سنستعمل هذا الموقع الذي يقوم بحساب قيمة شابلي لكل لاعب، فيكفي إدخال نتيجة التحالفات الممكنة للاعبين. فمثلا، إن تحالف الحزب الأول (٤٥ صوتًا) مع الثاني (٢٥ صوتًا) ، فحتمًا سيتم قبول القرار ولن نحتاج إلى أصوات الآخرين. من جهة أخرى، مجموع صوت أعضاء الحزب الثالث والرابع فقط (١٥، ١٥ صوتًا)، وهو عدد لا يؤدي إلى المصادقة على القرار. سنشير إلى حدث المصادقة على القرار بالقيمة 1، بينما لعدم المصادقة بالقيمة صفر.

بعد ملء الجدول في الموقع، يتبين لنا أن قيمة تأثير الأحزاب هي: ٥٠٪ (٤٥ عضوًا)، ١٦.٦٧٪ (٢٥ عضوًا) ، ١٦.٦٧٪ (١٥ عضوًا) و١٦.٦٧٪ (١٥ عضوًا). هذا راجع إلى العدد الكبير للأصوات للحزب الأول، لكنه بالأساس يعود إلى ضعف عدد أصوات الأحزاب الأخرى.

وأخيرًا بعد أن تطرقنا لمشكلة تقسيم المكافأة ومسألة الانتخابات، لا بد أنك تستطيع التفكير في مواقف تدفعك لاستعمال النظرية في حياتك اليومية (تقسيم جائزة مالية مع باقي أعضاء الفريق، ملاحظة تأثير أصوات دول حق الفيتو في منظمة الأمم المتحدة). ترقب مزيدًا عن اللعب التعاونية وتطبيقاتها في المقال القادم.

اقرأ أيضًا عن نظرية اللعبة

المصادر:

Coursera
Ucdavis
UBC

دراسات | الاقتصاد الموازي المصري: فرص ضائعة

مقدمة

يمكننا من خلال توضيح مفهوم الاقتصاد الموازي وتعريفه بأنه أي نشاط اقتصادي غير رسمي يمارسه الأفراد أو المؤسسات ولا يتم إحصائه بشكل رسمي، أي لا تعرف الأجهزة الحكومية قيمته الفعلية، ولا يدخل في حسابات الناتج القومي، وبالتالي لا يدخل في الحصيلة الضريبية ولا يخضع العاملين فيها لأي نظام اجتماعي، (الاسرج، ٢٠١٠) ملاحظة مشاكل وجود هذا النوع من الاقتصاد بل وشغله نسبة كبيرة من اقتصاد البلدان النامية. سنركز في هذا الورقة على معرفة أهم أسباب انتشار هذا الشكل من الاقتصاد، بالإضافة الي أهم ما يترتب عليه من مشاكل وسنحاول الوصول إلى أهم الحلول والخطط التي يمكن اتباعها من أجل دمج الاقتصاد غير الرسمي وتحويله إلى صورة رسمية، والاستفادة من الدخل الجاري من هذه المشاريع والذي لا يدخل في الحسابات القومية كما تم الذكر سابقًا.

مراجعة الأدبيات

أثناء مراجعة الأدبيات التي تركزت حول موضوع ورقتنا، حاولنا الإجابة عن بعض الأسئلة الرئيسية، أولها هو ما أهم سمات الإقتصاد الموازي أو الإقتصاد غير الرسمي؟ أي متي يمكننا إطلاق لفظ غير رسمي على مؤسسة ما؟

الاقتصاد الموازي المصري: فرص ضائعة

عرض حسين عبد المطلب الاسرج في ورقته البحثية “انعكاسات القطاع غير الرسمي على الاقتصاد المصري” سمات القطاع غير الرسمي، ويركز على غياب التسجيل الضريبي والسجلات الرسمية مثل السجل التجاري، السجل الصناعي، تراخيص العمل، إلخ لهذه المؤسسات، مع وجود قواعد وهياكل تنظيمية التي تنظم عملها. بالإضافة لذكره سيطرة المشاريع الفردية على القطاع غير الرسمي في مصر حيث ذكر أن ٩٢٪ من مشاريع القطاع غير الرسمي هي مشاريع فردية. (الاسرج، ٢٠١٠).

ثانيًا لماذا يظهر هذا النوع من الاقتصاد؟

يمكن اعتبار البيروقراطية اهم اسباب ظهور هذا النوع من الاقتصاد، كما ذكرت “ريم عبد الحليم” في دراستها “الاقتصاد غير الرسمي في الشركات الصغيرة والمتوسطة في مصر”، فإن البيروقراطية سمة سائدة في كل مؤسسات الدولة. (عبد الحليم،٢٠١٩). وفقا لبيانات البنك الدولي فإن الاجراءات القانونية في مصر تستهلك الكثير من المجهود والوقود وكذلك التكاليف المادية، وهو ما يجعل الاقتصاد غير الرسمي ينمو بشكل أكبر، حيث يوفر ذلك علي صاحب الشركة أو المشروع العديد من الخطوات المكلفة:

الاسم القانونيعدد الخطواتالوقت المطلوب
تسجيل الأعمال التجارية٧ خطوات٨ ايام
تصاريح البناء٢١ خطوة١٧٩ يوم
إنفاذ العقد٤٢ خطوة٢.٧ سنة
دفع ضريبة الشركات١٧ دفعة٢٢٧ ساعة

(World Bank,2014)

بالإضافة الي كفاءة النظام الضريبي في مصر الذي يعاني على مستوي التشريع ومستوي التطبيق والممارسة، فمثلا طبقا لتعديلات الدستور في يونيو ٢٠١٧، فإن أصحاب الدخل الشهري الأقل من ٦٠٠ جنيه هم فقط المعفون من الضريبة، اي المواطنين الذين وفقا لخط الفقر الدولي يعتبروا فقراء.

ثالثًا ما هو وضع الاقتصاد الموازي في مصر؟

وصلت نسبة الأنشطة غير الرسمية في مصر إلي ٣٥٪ من الناتج المحلي الكلي وذلك في الفترة ١٩٩٧- ٢٠٠٦ طبقا لدراسة أصدرها البنك الدولي، وهذه النسبة في الحقيقة تعتبر نسبة مرتفعة نظرًا لأن نفس التقرير ذكر أن متوسط هذه النسبة بين دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية كان ١٣.٥٪. (Friedrich,2010) بالإضافة الي التقرير الصادر عن البنك الدولي بعنوان (مصر: الطابع الغير الرسمي هو السائد) الصادر عام ٢٠١٣، الذي ذكر أن نسبة ٥٥٪ من العاملين في مصر بين ١٥-٦٥ عام يعملون بشكل غير رسمي.  وأخيرا تقرير البنك الأفريقي الذي ذكر أن نسبة العاملين في القطاع غير الرسمي في مصر يقدر بحوالي ٦١٪ وذلك في القطاعات غير الزراعية وفقًا لاحصاءات عام ٢٠١٣. (FDB,2016)

رابعًا ما هي أهم المشاكل الناتجة عن وجود الاقتصاد الموازي في مصر؟

تعتبر تسهيل عملية غسيل الأموال من أهم المشاكل المترتبة عن الاقتصاد الموازي، حيث أنه وسيلة يستخدمها الفرد من أجل طبع صفة الرسمية على أموال مجهولة أو مشبوهة المصدر حتى يستطيع التعامل بها بصفة رسمية من دون مسائلات قانونية.

بالإضافة الي تأثير وضع الاقتصاد الموازي على إيرادات الدولة من الضرائب والرسوم المتعلقة بتسيير الأعمال، حيث لا تدخل هذه المشاريع تحت الصفة الرسمية وبالتالي لا يتم تسديد حصتها من الضرائب، مما يؤثر على إيرادات الدولة.

بالإضافة إلى تأثير هذا النشاط على سوق المنافسة حيث أن تكلفة المشاريع الرسمية تزيد مع زيادة مسؤوليتها، مثال علي ذلك ضرورة تأمينها على الموظفين، او ما تدفعه من ضرائب، وتنافس مع مشروع غير رسمي، لم يقوم بدفع نفس التكاليف وبالتالي لم يعد هناك تنافس عادل في السوق. (عباس، ٢٠١٩).

التوصيات:

بعد مناقشة مفهوم الاقتصاد الموازي، يجب مناقشة الطريقة الأمثل للتعامل مع هذه الظاهرة، وهو ما يتمثل في دمج القطاع غير الرسمي في القطاع الرسمي، والذي يمكّن الدولة والسوق من الاستفادة مما يحققه القطاع غير الرسمي من خلق فرص عمل وزيادة الانتاج والنمو، وكذلك تساعد الحكومة علي تجميع البيانات السليمة، وحصد إيرادات الدولة من الضرائب التي تمثل الجزء الأكبر من الميزانية، وتمكننا من تلخيص التوصيات في النقاط الأتية:

١.  مساعدة وتيسيير دمج القطاع غير الرسمي في القطاع الرسمي:

أ. تسهيل الاجراءات، واختصار الخطوات واستخراج التصاريح اللازمة لمزاولة النشاط الاقتصادي.
ب. تعديل معدلات الضرائب المفروضة، او اعطاء هذه المنشآت مدة معقولة من الإعفاء الضريبي، يسمح للمنشآت بتحقيق معدلات من الربح لدعم نموها.
ج. مساعدة أصحاب العمل في إضفاء صفة الرسمية على العاملين عن طريق تحسين قوانين التأمينات وقوانين العمل الأخري.
د. مساعدة اصحاب المشاريع الصغيرة، عن طريق اعطائهم مزايا وفترات سماح ضريبية، وأسعار فوائد أقل، ومثال علي ذلك هي مبادرة البنك المركزي للمشاريع الصغيرة والمتوسطة .
هـ.  تأسيس نقابات أو جمعيات تعاونية للعاملين في القطاع غير الرسمي.
و. زيادة دور المحليات في الرقابة على العمالة العشوائية. (عباس، ٢٠١٩).

٢. الشمول المالي:
حسب تعريف البنك المركزي المصري، فإن الشمول المالي هو أن كل فرد أو مؤسسة في المجتمع يمكنه الوصول إلى منتجات مالية مناسبة لاحتياجاته، مثل: حسابات التوفير، حسابات جارية، خدمات الدفع والتحويل، التأمين، التمويل والائتمان، إلخ، ويكون تقديم هذه الخدمات من خلال القنوات الشرعية، مثل البنوك وهيئات البريد والجمعيات الأهلية وغيرها. وذلك لضمان أن كل فئات الشعب تتمكن من إدارة أموالهم ومدخراتهم بشكل آمن وسليم لضمان عدم لجوء الأغلبية للوسائل غير الرسمية التي لا تخضع لأي رقابة واشراف.

إن أهمية الشمول المالي في دمج الاقتصاد الموازي تكمن في سهولة تعامل المشاريع والأفراد مع النظام البنكي، بالإضافة إلى بناء الثقة بين النظام البنكي والأفراد، والتي تشجعهم على التعرف على الخدمات البنكية التي يمكنهم الاستفادة منها في مشاريعهم أو حتى بشكل شخصي، وذلك يساعد على إضفاء الرسمية على معاملاتهم.

لذلك ومع زيادات معاملات الأفراد الإلكترونية والبنكية، يمكن بسهولة حثهم علي دمج أعمالهم تحت المظلة الرسمية، وذلك يشمل بالتأكيد مبادارات تمويل المشروعات والتمويل الشخصي للبنوك والتي تدعم الثقة ما بين الأفراد والنظام البنكي، وتساعد المستثمرين وتحفزهم تجاه الأعمال الرسمية. (البنا، ٢٠١٨).

قائمة المراجع:

الأسرج، ” انعكاسات القطاع غير رسمي على الاقتصاد المصري، ورقة بحثية”، وزارة الصناعة والتجارة والخارجية،٢٠١٠.
عباس، “الاقتصاد غير الرسمي في مصر: المشكلات والحلول”، المعهد المصري للدراسات، ٢٠ مارس ٢٠١٩.
عبد الحليم، ” الاقتصاد الغير رسمي في الشركات الصغيرة والمتوسطة في مصر: تعريف ومراجعة تشريعية”، مركز المشروعات الدولية الخاصة، ص١٦.
غالي، منصور، والبراوي، ” العمل غير الرسمي وأثره على الاقتصاد القومي”، وزارة المالية، الادارة المركزية للبحوث المالية والتنمية.

African Development Bank, “Addressing informality in Egypt”, Working Paper, 201.
 Schneider, Buehn, E.Montenegro,” Shadow Economics all over the world: New Estimates for 162 Countries from 1999 to 2007, Policy Research Papers, World Bank Group, July 2010.
World Bank,” Informal is the New Normal” Issues Brief No.2, December 2013.
World Bank,” Doing Business in Egypt, Washington, 2014.

بالتعاون مع Cairo Graduate Colleague

الأوبئة والاقتصاد في التاريخ؛ هل يختلف تأثير COVID-19 على الاقتصاد عن غيره؟

إن الأوبئة هي عامل حتمي ومؤثر في سير حلقة الاقتصاد وتطوره، فقد جعلت مظاهر الاقتصاد الكبير من شبكات التجارة المترابطة والمدن الاقتصادية الكبرى من المجتمعات موطنًا كبيرًا للثراء ولكنها أيضًا جعلتها أكثر ضعفًا في مواجهة الأوبئة، فمنذ إمبراطوريات العصور القديمة وحتى مراحل الاقتصاد العالمي الحاضر؛ يُتوقع أن يكون تأثير COVID-19 مختلفًا عما سبقه من الأوبئة والجوائح في العصور السابقة من الناحية الاقتصادية، ومع معرفة القليل من المعلومات عن تلك الفيروسات والبكتريا، فإن عدد الضحايا سيكون على مستوى مختلف عن ضحايا الأوبئة السابقة كوباء الموت الأسود أو الأنفلونزا الإسبانية، ومع ذلك؛ فإن خراب الماضي يقدم لنا بعض الدلالات حول تأثير فيورس COVID-19 على تغيير خريطة الاقتصاد العالمي.

على الرغم من التأثير المروع للأوبئة على البشر؛ إلا أن أثارها الإقتصادية ليس بنفس الدرجة من السوء على المدى الطويل، فقد قضى الموت الأسود على ثلثي سكان أوروبا وترك ندوبًا قاسية في تاريخ القارة البيضاء، ولكن في أعقابه؛ كانت المساحة المزروعة أكثر بكثير من طاقات العمال المتوفرين لزراعتها، فقد أدت قلة العمالة الزراعية نتيجة ارتفاع عدد الضحايا إلى زيادة قوة العمال وقدرتهم على المساومة على الأرض وامتلاكها من مُلاكها مما ساهم في انهيار النظام الاقتصادي الاقطاعي، ويبدو أنها كانت سببًا في أن يصبح اقتصاد أجزاء من شمال غرب أوروبا في مسار واعد ومتقدم، فقد ارتفعت الدخول الحقيقة للعمال الاوروبيين بشكل واضح بعد ذلك الوباء الذي ضرب القارة بين عامي 1347- 1351م ، وفي تلك الأوقات – فترة ما قبل العصر الصناعي –  عادة ما أدت هذه الدخول المرتفعة إلى نمو سكاني أسرع وبالتالي إلى قلة نسبة محدودي الدخل – كما لاحظ توماس مالتوس Thomas Malthus (باحث سكاني واقتصادي سياسي إنجليزي)  –  ولكن لم تكن قاعدة مالتوس هذه قابلة للتطبيق في جميع أنحاء أوروبا كلها، فلم تثبت نظريته صدقها بعد انحسار الوباء.

يناقش كل من نيكو فويقلاندرز Nico Voigtländer ( من جامعة كليفورنيا – لوس أنجلوس) وهانز جواكيم فوث Hans-Joachim Voth ( الآن بجامعة زيورخ) فكرة أن الدخل المرتفع الناتج من سنوات الطاعون أدى إلى زيادة الإنفاق على السلع المصنعة ذاتيًا داخل المدن وبالتالي أدى إلى ارتفاع مستوى التحضر فيها، لقد دفع الطاعون وبشكل فعال أجزاء من أوروبا كانت تعاني التوزان بين الأجور المنخفضة وقلة التحضر إلى مسار أكثر ملائمة لتطور اقتصادي تجاري ثم صناعي بعد ذلك.

وبالمثل؛ فقد حدث ما يشبه ذلك في أعقاب وباء الأنفلونزا الإسبانية التي قتلت ما بين 20- 100 مليون شخص خلل الفترة من 1918- 1920م، إذ لم تعد اقتصاديات الصناعة التي واكبت أوائل القرن الـ20 تلائم ما جاء به مالتوس، ومع ذلك ؛ وحسب ما يراه كل من إليزبيث بيرنرد ( جامعة برانديز ) ومارك سيغلر ( جامعة ولاية كليفورنيا ) أن الولايات المتحدة الأمريكية كانت أكثر الدول تضررًا من وباء الأنفلونزا الإسبانية ولكنها نمت بشكل أسرع اقتصاديًا من غيرها عقب تلك الجائحة.

في الولايات المتحدة الأميريكية، وبعد السيطرة والتحكم على مجموعة من العوامل الاقتصادية والديموغرافية وجدوا أن وفاة إضافية واحدة لكل ألف شخص ساهمت في زيادة متوسط النمو السنوي للدخل الحقيقي للفرد على مدى عقد لاحق على الأقل بنسبة 0.15 نقطة مئوية، وعلى الرغم من أن حصيلة COVID-19 من الضحايا من المرجح أن تكون قليلة جدًا لتعزيز هذه الفكرة( زيادة الأجور) إلا أنها قد تجبر الشركات على تبني تقنيات جديدة من أجل العمل في الوقت الذي ستصبح المخازن والمكاتب فارغة دون المساس بدرجات النمو والإنتاجية .

ورغم كل التحليلات التي في ظاهرها إيجابية، لا يستبعد الباحثون الأثر والتأثير الشديد لفيروس COVID-19 على الاقتصاد العالمي إذا لم يتم احتواء الوباء بشكل أسرع ، وإذا تم ذلك؛ يمكن أن لا يستمر تأثيره السلبي على الاقتصاد لفترة طويلة ، ولكن على العكس إذا لم يتم احتواءه بسرعة يمكن أن يكون قويًا بما يكفي لإغلاق بعض الشركات الكبرى مما يؤدي إلى ارتفاع حاد في نسبة البطالة.

استطاعت المخاوف من انتشار فيروس كورونا في زعزعة الأسواق العالمية

وهنا يجب أن يبرز دور الحكومات وتدخلها للتخفيف من حدة الأزمات التي تسببها الأوبئة، عن طريق تقديم الأموال بشكل مباشر إلى الأسر المتضررة مع تقديم الدعم المناسب للعمال من نسبة الأموال المخصصة للطوارئ في تلك البلاد، مع استعداد نفسي لنسبة من فئة العمالة لخسارة وظائفهم، ومن خلال ما تسببه هذه الأوبئة وبشكل خاص COVID-19 من حالة عزل للدول وخاصة الولايات المتحدة فإن تأثيره على ما يمكن تسميته بالتموج الإقتصادي أمر لا مفر منه.  ومن المؤكد أن عدة قطاعات ستضرر بشكل كبير ومن أولها المتاجر والمطاعم ( التي أغلقت أبوابها تمامًا ) ومعها شكرات الطيران والسياحة بسبب القيود على السفر والتنقل، وهناك بعض الصناعات التي ستتأثر بشكل أقل وخاصة تلك الصناعات البعيدة عن المجال الطبي والذي يقتصر الضرر عليهم في قلة الطلب على صناعتهم؛ وفي ضوء ذلك تضطر البنوك إلى التساهل في سداد القروض لأن جزء من قاعدة عملائها فقد عمله.

يعتبر الكثيرون أن فيروس كوفيد 19 قد يعتبر الصدمة الاقتصادية الأسرع والأعمق في التاريخ ، فقد تأثر الاقتصاد العالمي بشكل سريع خلال ثلاثة أسابيع فقط في ظل الأزمة الحالية، فالأمر قد استغرق فقط 15 يومًا ليهبط سوق الأسهم الأميريكية بنسبة 20% وهو أسرع إنخفاض شهدته تلك السوق على الإطلاق، ويتوقع أن ينخفض الناتج المحلي الأميريكي بنسبة سنوية تبلغ 6% ،وقد حذر وزير الخزانة الأميريكي من أن معدل البطالة قد يرتفع إلى أعلى من 20% وهو ضعف مستوى النسبة خلال الأزمة الحالية .

للمزيد حول تأثير الكورونا على الاقتصاد العالمي: ما هو تأثير فيروس كورونا على الاقتصاد العالمي ؟

المصادر :

economist

.theguardian

investopedia

ما هو تأثير فيروس كورونا على الاقتصاد العالمي ؟

مع انتشار فيروس كورونا أو مايعرف بالفيروس التاجي، انخفضت أسعار الأسهم. منذ ذروته في فبراير، انخفض مؤشر S&P 500 بنسبة ١٧٪؜  وهو مؤشر سوق الأسهم الذي يتتبع أسهم ٥٠٠ شركة أمريكية ذات رؤوس أموال كبيرة. وهي تمثل أداء سوق الأسهم و يستخدمه المستثمرون كمعيار للسوق ككل، حيث تتم مقارنة جميع الاستثمارات الأخرى. أن خطر فيروس كورونا على الاقتصاد العالمي أكبر بكثير من المخاطر الصحية. إذا كان الفيروس يؤثر بشكل مباشر على حياتك فمن المرجح أن يكون ذلك من خلال منعك من الذهاب إلى العمل، أو التسبب بطردك من العمل أو إفلاس عملك.

تعتبر تريليونات الدولارات التي تم مسحها من الأسواق المالية هذا الأسبوع مجرد البداية، إذا لم تتدخل حكوماتنا. وإذا استمر الرئيس «ترامب-Trump» في التعثر في تعامله مع الوضع، فقد يؤثر ذلك أيضًا على فرص إعادة انتخابه. وقد حدد «جو بايدن-Joe Biden» على وجه الخصوص فيروس كورونا على أنه ضعف لترامب، واعدًا بقيادة “ثابتة ومطمئنة” خلال ساعة الحاجة الأمريكية.

في جميع أنحاء العالم، تسبب فيروس كورونا بوفاة ٤٣٨٩ مع ٣١ حالة وفاة أمريكية حتى اليوم. لكنها سوف تشل الملايين من الناحية الاقتصادية، خاصة وأن الوباء شكل عاصفة مثالية مع انهيار سوق الأسهم، وحرب نفطية بين روسيا والمملكة العربية السعودية، وانتشار حرب فعلية في سوريا إلى أزمة مهاجرة محتملة أخرى.

يدعونا فيروس كورونا إلى النظر للوراء باعتباره اللحظة التي تعطلت فيها الخيوط التي تربط الاقتصاد العالمي؛ والشركات الناشئة والمتنامية مثل الأعمال التجارية والتي قد تنتهي بدفع الثمن.

بنفس أهمية مكافحة الفيروس إن لم يكن أكثر أهمية هو تطعيم اقتصاداتنا ضد جائحة الذعر القادم. يمكن أن تأتي المعاناة الإنسانية في شكل مرض وموت. ولكن من الممكن أيضًا تجربة عدم القدرة على دفع الفواتير أو خسارة منزلك.
تكافح الشركات الصغيرة على وجه الخصوص مع إيقاف تزويدها بالمؤن، وتركها بدون منتجات أو مواد أساسية. أدى إغلاق المصانع في الصين إلى انخفاض قياسي في مؤشر مدير المشتريات في البلاد والذي يقيس ناتج التصنيع. الصين هي أكبر مصدر في العالم ومسؤولة عن ثلث التصنيع العالمي، لذا فإن مشكلة الصين هي مشكلة الجميع حتى في خضم حرب تجارية بين البيت الأبيض و «بكين-Beijing».

كل هذا يجعل الأمر أكثر مدعاة للقلق من استمرار الحكومات في اعتبارها أزمة صحية وليست اقتصادية. لقد حان الوقت لتولى الاقتصاديون المسؤولية عن الأطباء، قبل أن ينتشر الوباء الحقيقي.

على الرغم من أن الصين تتحمل العبء الأكبر من التكلفة الاقتصادية والبشرية للفيروس، فإن الكثيرين في بكين سيشهدون بريقًا فضيًا في ضعف الاقتصاد الأمريكي، وإلهاءًا عن حروب ترامب التجارية التي بدا أنها تتصاعد دون نهاية في الأفق.

متزامنة تمامًا مع الفيروس التاجي، اندلعت حرب نفط روسية سعودية. على المدى القصير، يمكن لكل من موسكو والرياض تحمل انخفاض أسعار النفط بنسبة ٣٠٪؜ بين عشية وضحاها. لكن أعمال الغاز الصخري في أمريكا لا يمكنها ذلك حيث إن عملية التكسير الأكثر تكلفة تعني أن جزءًا كبيرًا من قطاع النفط الأمريكي لن يكون موجودًا ببساطة إذا بقيت أسعار النفط عند أدنى مستوياتها التاريخية، مما يؤدي إلى عمليات الإغلاق وفقدان الوظائف وربما حتى حالات الركود على مستوى الدولة.

دفع الرئيس ترامب من خلال التخفيضات الضريبية على الرواتب المتأخرة ومساعدة العمال لكل ساعة عمل وهي إجراءات ستساعد أصحاب العمل والموظفين على حد سواء على البقاء. في المملكة المتحدة، كشف المستشار «ريشي سوناك-Rishi Sunak» اليوم عن ميزانية مخصصة لفيروس كورونا. لكن يحتاج الجميع إلى التفكير بشكل أكبر إذا كانوا يريدون التعامل بشكل صحيح مع كيفية تغيير هذا العامل الجديد للوضع الراهن.

الأمر لا يتعلق فقط بالفيروسات التاجية وأسعار النفط أو حتى الاقتصاد العالمي. بل يمثل انعكاس لميزان القوى بين الشرق والغرب. كان مركز هذا، على مدى السنوات ال ١٠ الماضية، سوريا. بعد عقد من الصراع على الأرض، يبدو أن المواجهة تصاعدت الآن من حرب بالوكالة إلى صراع اقتصادي.

شهدت القوى العظمى الناشئة في روسيا والصين ما يعتبره الكثيرون بتدخل أمريكي في سوريا وهم يحاولون الآن تعزيز رؤيتهم لعالم متعدد الأقطاب. وبدلاً من السماح للسعودية حليفة الولايات المتحدة بقيادة أسواق النفط من خلال «كارتل أوبك-OPEC cartel»، تريد روسيا والصين إعادة تشكيل الأسواق العالمية وأرصدة القوى لصالحها.

من أجل البقاء على قيد الحياة خلال هذه التحولات، ستحتاج الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وغيرها لحماية مستقبل أعمالهم، كبيرها وصغيرها، والبحث عن فرص للاستفادة من النظام الاقتصادي العالمي الجديد، وليس إنكاره. إن تجاهل هذه التغييرات التي سببها فيروس كورونا على الاقتصاد العالمي سيكون أكثر ضررا من أي جائحة مرضية.

إذا استمر تفشي المرض بعد شهر نيسان (أبريل) بكثير سيكون من الصعب تجنب الركود الكامل والأسوأ من ذلك، أن أسعار الفائدة طويلة الأجل قريبة بالفعل من الصفر مما يحد بشدة من قدرة الاحتياطي الفيدرالي على تعزيز الاقتصاد الأمريكي. يمكن أن تساعد السياسة المالية مثل تخفيض ضريبة الرواتب، على الرغم من أن ما يحد من الاستهلاك في هذا الوقت ليس نقص المال بل عدم الرغبة في الإنفاق.
لذا، ما إذا كانت الأسواق تبالغ في رد الفعل يعتمد على احتمال استمرار التفشي. يبدو أن الأسواق تتوقع أن يستمر تأثير الوباء لفترة أطول من شهرين. لكن القدرة على التحمل تعتمد إلى حد كبير على تدابير الاحتواء وصناع السياسات لدينا.

المصادر: Independent

CNN 

اقرأ ايضًا باحثة مصرية تطور اختبار الكورونا المستجد في جونز هوبكينز

 

Exit mobile version