أثر تطبيق العزل الاجتماعي في مواجهة الأوبئة

أثر تطبيق العزل الاجتماعي في مواجهة الأوبئة ( الأنفلونزا الإسبانية في الولايات المتحدة نموذجًا)

إن فكرة الإبعاد (العزل) الاجتماعي ليست بجديدة، فقد ساعدت هذه الفكرة في إنقاذ الملايين من الضحايا وخاصة إذا تحدثنا عن تأثير وباء الأنفلونزا الإسبانية على الولايات المتحدة الأميريكية، ففي عام 1918م ضرب العالم وباء شديد ومهلك عُرف باسم ” الأنفلونزا الإسبانية”، وكانت الولايات المتحدة من أكثر الدول المتضررة جراء هذا الوباء، فبحلول نهاية الوباء في 1920م تسبب في هلاك ما بين 50 مليون إلى 100 مليون شخص على مستوى العالم، كان نصيب الولايات المتحدة الأميريكية من الضحايا حوالي نصف مليون شخص.

تم اكتشاف أول حالة مصابة بالأنفلونزا الإسبانية في أمريكا في ولاية كنساس في مارس من عام 1918م، ومنذ ذلك الوقت انتشر الوباء في جميع أنحاء البلاد، وفي 17 سبتمبر من نفس العام تم اكتشاف أول حالة في ولاية فيلادلفيا، وفي اليوم التالي قام مسئولي الولاية بإطلاق حملة واسعة لمقاومة السعال والعطس والبصق في الطرق العامة في الولاية في محاولة منهم لوقف انتشار الفيروس القاتل .

وبالرغم من احتمالية إنتشار الوباء في أرجاء المدينة؛ قامت الولاية باستضافة عرضٍ عسكري كبير يخدم المجهود الحربي الأمريكي في بدايات الحرب العالمية الأولى تم تنفيذه لدعم المجهود العسكري، وقد اجتمع له حوالي 200 ألف شخص متجاهلة كل التحذيرات بخصوص انتشار المرض، فزادت حالات الأنفلونزا في المدينة وارتفعت نسبتها، فبعد ثلاثة أيام من العرض كانت جميع مستشفيات فيلادلفيا البالغة آنذاك 31 مستشفى؛ لا يوجد بها سرير واحد فارغ سواء من المصابين بالأنفلونزا أو حتى ممن لقوا حتفهم داخل المستشفيات، وبحلول نهاية الأسبوع كان أكثر من 4500 شخص لقوا حتفهم نتيجة الإصابة بالمرض، حتى قرر المسئولين في 3 أكتوبر إغلاق المدارس والكنائس والمسارح وأماكن التجمعات العامة، وبعد حوالي أسبوعين فقط من اكتشاف أول حالة في الولاية، وصل عدد المصابين إلى حوالي 20 ألف حالة، ولكن كان الوقت متأخرًا ففي نهاية الشهر الأول من انتشار الوباء في فيلادلفيا توفي بها حوالي 10 آلاف شخص واستمر فيروس الأنفلونزا في الانتشار فكان من أكثر الجوائح فتكًا في التاريخ الحديث.

اليوم؛ وفي الوقت الذي يتجه العالم فيه إلى محاولة الحد من انتشار فيروس ( كوفيد 19 ) يدرس العلماء والمؤرخين أسباب تفشي وباء أنفلونزا 1918م بحثًا عن أدلة يتم من خلالها دراسة أكثر الطرق فعالية لوقف انتشار الجائحة العالمية الحالية، وبالرغم من الجهود والكبيرة التي اتخذتها الولايات المتحدة خلال وباء 1918م إلا أن نتيجتها تعتبر درسًا كبيرًا لمحاربة وباء اليوم.

ومع ظهور أول حالة في ولاية سانت لويس التي تقع على بعد 900 ميل فقط من فيلادلفيا، كان الوضع مختلفًا بشكل قاطع، ففي غضون يومين فقط من اكتشاف أول حالة مُصابة بالأنفلونزا قرر مسئولي الولاية الأخيرة تطبيق العديد من إجراءات العزل الاجتماعي في الولاية كان أولها إلغاء موكبها العسكري الخاص بالولاية عكس ما قامت به فيلادلفيا، ثم قام مسئوليها بغلق الولاية على مواطنيها ومنع التجمعات العامة وغلق المدراس والملاعب والمكتبات وقاعات المحاكم والكنائس وجعلت العمل بالتناوب وطبقت الحجر الصحي المنزلي على الناس مما أبطأ من انتشار فيروس الأنفلونزا ولم تتعدى وفيات سانت لويس بنهاية الشهر الأول من ظهور الوباء عن 700 شخص، وبالنظر إلى إحصائيات وباء الأنفلونزا في الولايات المتحدة الأميريكية؛ يتضح أن معدل الوفيات في ولاية سانت لويس كان أقل من نصف معدل الوفيات في فيلادلفيا، فكان عدد الوفيات في سانت لويس 385 شخص لكل 100 ألف نسمة، بينما كان العدد في فيلادلفيا 807 وفاة لكل 100 ألف شخص  وذلك خلال الستة أشهر الأولى فقط من الوباء( وهي أكثر فترات الوباء فتكًا).

” إن التحولات الديموغرافية الدرامية في القرن الماضي جعلت من احتواء الوباء أمرًا أكثر صعوبة “

إن صعود ما يعرف الآن بفكرة العولمة والتحضر ومفهوم المدن الكبرى الأكثر كثافة يجعل من انتشار الوباء عبر قارة واحدة في بضع ساعات أمرًا سهلًا، في حين أن الأدوات المتاحة لمقاومة ذلك الانتشار كما هي تقريبًا منذ القرن الماضي، وحاليًا تعتبر إجراءات الصحة العامة هي خط الدفاع الأول ضد الوباء في غياب لقاح يمكن بواسطته القضاء على الفيروس، وتتمثل إجراءات الصحة العامة في إغلاق المدراس والمحلات التجارية والمطاعم مع وضع قيود على التنقل، وفرض العزل الاجتماعي وحظر التجمعات العامة، وبالطبع ليست كل الشعوب تمتثل لهذه الإجراءات ولكن بالمقارنة بما حدث بوباء الأنفلونزا الإسبانية في الولايات المتحدة الأمريكية، فإن ما جعل الشعب الأمريكي يمتثل لتلك الإجراءات هو ما قام به مسئولي الصحة العامة في ولاية سان فرانسيسكو بإطلاق النار على ثلاثة أشخاص رفض أحدهم ارتداء واقي على الوجه.

وفي أيرزونا، عاقبت الشرطة المخالفين بدفع 10 دولارات لمن تم القبض عليهم بدون ارتداء الأدوات الواقية، ولكن في النهاية، إن ما أثمرته كانت تلك الإجراءات الأكثر حدة وأكثر شمولية، فبعد تنفيذ العديد من عمليات الإغلاق والضوابط العامة الصارمة على التجمعات العامة، استجابت ولايات سانت لويس وسان فرانسيسكو وميلووكي وكانساس سيتي بشكل أسرع وأكثر فعالية، تلك السرعة التي كان لها دورًا هامًا في خفض معدلات الوفيات بنسبة من 30% إلى 50% مقارنة بالولايات الأخرى، في الوقت الذي قامت فيه ولاية نيويورك بتطبيق الحجر الإلزامي الصحي مبكرًا جدًا وتقليل ساعات العمل فكانت النتيجة أن الولاية شهدت أقل نسبة معدل للوفيات في منطقة الساحل الشرقي الأميركي.

في عام 2007م، سعت دراستان في مجلة Proceedings of the National Academy of Sciences sought إلى فهم دور تأثير الإستجابة إلى إجراءات العزل الإجتماعي والصحي على انتشار المرض في الولايات المختلفة في العالم الجديد، وبمقارنة معدلات الوفيات والتوقيتات وتدابير الصحة العامة ؛ وجدوا أن معدلات الوفيات كانت أقل بنسبة نحو 50% في المدن التي طبقت تدابير وقائية في وقت مبكر مقابل تلك التي طبقت تلك التدابير في وقت متأخر أو تلك الولايات التي لم تطبقها من الأساس، وكانت أكبر وأكثر تلك التدابير فعالية هي اغلاق المدراس والكنائس والمسارح في وقت واحد بالاضافة إلى حظر التجمعات العامة، فقد سمح ذلك إلى توفير وقت لتطوير لقاح مقاوم للوباء بجانب رفع وتخفيف الضغط عن أنظمة الرعاية الصحية، وتوصلت الدراستان إلى إستنتاج آخر وهو : ” إن إتخاذ التدابير بشكل هادئ وبطئ يمكن أن يكون سببًا في انتكاس الولاية مرة أخرى ” فعلى سبيل المثال؛ سمحت ولاية سانت لويس بتخفيف بعض القيود المفروضة على مواطنيها بعد مرور أقل من شهرين من ظهور الوباء من المدينة مما أدى إلى ظهور موجة ثانية من الإصابات، وفي المدن التي أبقت على تلك الإجراءات دون تخفيف لم تشهد نفس الموجه سواء في الإصابات أو الوفيات.

أما في ولاية مينابوليس أقل الولايات تسجيلًا لعدد وفيات نتيجة وباء الأنفلونزا الإسبانية فقد كان سرعة تطبيق إجراءات العزل الإجتماعي سريعًا جدًا، فبعد اكتشاف أول حالة مصابة بسبب الأنفلونزا في خريف 1918م تحرك المسئولين بسرعة وبقوة أكبر وأكثر مما توقع مسئولو الصحة أنفسهم وقاموا بإغلاق المدينة على أهلها وإغلاق الكنائس والمدراس والمسارح اعتبارًا من منتصف أكتوبر من نفس العام، وبالقرب منها كانت مدينة سانت بول مفتوحة لمواطنيها حتى شهر نوفمبر من العام 1918م بسبب ثقة القادة فيها بالسيطرة على الوباء ولكن بعد ثلاثة أسابيع فقط من إعلان مينابوليس إغلاق المدينة حذت سانت بول حذوها وقررت إغلاق المدينة بشكل كامل، ورغم أن كلا المدينين قد نجتا من الوباء مقارنة بغيرهما من الولايات إلا أن خسارة الوفيات في مينابوليس كانت أقل بكثير من غيرها من الولايات.

استنتجت الدراستان أن مفتاح التغلب على الوباء في عام 1918م كان تطبيق العزل الإجتماعي، ولازال تطبيق نفس الإجراء له دورًا فعال في مواجهة وباء اليوم وبعد مرور أكثر من قرن من الزمان، يظل تطبيق العزل الاجتماعي حلًا قائمًا في مواجهة ( فيورس كوفيد19).

وكتب هانسيت أحد المشاركين في الدراستين قائلًا: ” أعتقد أن الدرس الحاسم من تحليل العمل التاريخي لأنفلونزا 1918م هو توقيت تطبيق العزل الاجتماعي ( قبل إصابة 1% من عدد السكان في الولاية )”.

يذكر عالم الأوبئة بجامعة كولومبيا ستيفن موريس من خلال تحليله للبيانات التاريخية للأوبئة :” إن البيانات التاريخية هي كنز لا يقدر بثمن، إذا استخدمناها بشكل أفضل فقد تفيدنا في وقتنا الحالي “، ولذا فقد تساعدنا دروس عام 1918 إذا تم الالتفات إليها جيدًا في مواجهة وباء اليوم.

المصادر:

  1. National Geographic
  2. The NEW York times
  3. CDC
  4. Vox
  5. Quartz

للمزيد تابع مقال: كيف بدت مدن العالم بعد انتشار فيروس كورونا؟

الأوبئة والاقتصاد في التاريخ؛ هل يختلف تأثير COVID-19 على الاقتصاد عن غيره؟

إن الأوبئة هي عامل حتمي ومؤثر في سير حلقة الاقتصاد وتطوره، فقد جعلت مظاهر الاقتصاد الكبير من شبكات التجارة المترابطة والمدن الاقتصادية الكبرى من المجتمعات موطنًا كبيرًا للثراء ولكنها أيضًا جعلتها أكثر ضعفًا في مواجهة الأوبئة، فمنذ إمبراطوريات العصور القديمة وحتى مراحل الاقتصاد العالمي الحاضر؛ يُتوقع أن يكون تأثير COVID-19 مختلفًا عما سبقه من الأوبئة والجوائح في العصور السابقة من الناحية الاقتصادية، ومع معرفة القليل من المعلومات عن تلك الفيروسات والبكتريا، فإن عدد الضحايا سيكون على مستوى مختلف عن ضحايا الأوبئة السابقة كوباء الموت الأسود أو الأنفلونزا الإسبانية، ومع ذلك؛ فإن خراب الماضي يقدم لنا بعض الدلالات حول تأثير فيورس COVID-19 على تغيير خريطة الاقتصاد العالمي.

على الرغم من التأثير المروع للأوبئة على البشر؛ إلا أن أثارها الإقتصادية ليس بنفس الدرجة من السوء على المدى الطويل، فقد قضى الموت الأسود على ثلثي سكان أوروبا وترك ندوبًا قاسية في تاريخ القارة البيضاء، ولكن في أعقابه؛ كانت المساحة المزروعة أكثر بكثير من طاقات العمال المتوفرين لزراعتها، فقد أدت قلة العمالة الزراعية نتيجة ارتفاع عدد الضحايا إلى زيادة قوة العمال وقدرتهم على المساومة على الأرض وامتلاكها من مُلاكها مما ساهم في انهيار النظام الاقتصادي الاقطاعي، ويبدو أنها كانت سببًا في أن يصبح اقتصاد أجزاء من شمال غرب أوروبا في مسار واعد ومتقدم، فقد ارتفعت الدخول الحقيقة للعمال الاوروبيين بشكل واضح بعد ذلك الوباء الذي ضرب القارة بين عامي 1347- 1351م ، وفي تلك الأوقات – فترة ما قبل العصر الصناعي –  عادة ما أدت هذه الدخول المرتفعة إلى نمو سكاني أسرع وبالتالي إلى قلة نسبة محدودي الدخل – كما لاحظ توماس مالتوس Thomas Malthus (باحث سكاني واقتصادي سياسي إنجليزي)  –  ولكن لم تكن قاعدة مالتوس هذه قابلة للتطبيق في جميع أنحاء أوروبا كلها، فلم تثبت نظريته صدقها بعد انحسار الوباء.

يناقش كل من نيكو فويقلاندرز Nico Voigtländer ( من جامعة كليفورنيا – لوس أنجلوس) وهانز جواكيم فوث Hans-Joachim Voth ( الآن بجامعة زيورخ) فكرة أن الدخل المرتفع الناتج من سنوات الطاعون أدى إلى زيادة الإنفاق على السلع المصنعة ذاتيًا داخل المدن وبالتالي أدى إلى ارتفاع مستوى التحضر فيها، لقد دفع الطاعون وبشكل فعال أجزاء من أوروبا كانت تعاني التوزان بين الأجور المنخفضة وقلة التحضر إلى مسار أكثر ملائمة لتطور اقتصادي تجاري ثم صناعي بعد ذلك.

وبالمثل؛ فقد حدث ما يشبه ذلك في أعقاب وباء الأنفلونزا الإسبانية التي قتلت ما بين 20- 100 مليون شخص خلل الفترة من 1918- 1920م، إذ لم تعد اقتصاديات الصناعة التي واكبت أوائل القرن الـ20 تلائم ما جاء به مالتوس، ومع ذلك ؛ وحسب ما يراه كل من إليزبيث بيرنرد ( جامعة برانديز ) ومارك سيغلر ( جامعة ولاية كليفورنيا ) أن الولايات المتحدة الأمريكية كانت أكثر الدول تضررًا من وباء الأنفلونزا الإسبانية ولكنها نمت بشكل أسرع اقتصاديًا من غيرها عقب تلك الجائحة.

في الولايات المتحدة الأميريكية، وبعد السيطرة والتحكم على مجموعة من العوامل الاقتصادية والديموغرافية وجدوا أن وفاة إضافية واحدة لكل ألف شخص ساهمت في زيادة متوسط النمو السنوي للدخل الحقيقي للفرد على مدى عقد لاحق على الأقل بنسبة 0.15 نقطة مئوية، وعلى الرغم من أن حصيلة COVID-19 من الضحايا من المرجح أن تكون قليلة جدًا لتعزيز هذه الفكرة( زيادة الأجور) إلا أنها قد تجبر الشركات على تبني تقنيات جديدة من أجل العمل في الوقت الذي ستصبح المخازن والمكاتب فارغة دون المساس بدرجات النمو والإنتاجية .

ورغم كل التحليلات التي في ظاهرها إيجابية، لا يستبعد الباحثون الأثر والتأثير الشديد لفيروس COVID-19 على الاقتصاد العالمي إذا لم يتم احتواء الوباء بشكل أسرع ، وإذا تم ذلك؛ يمكن أن لا يستمر تأثيره السلبي على الاقتصاد لفترة طويلة ، ولكن على العكس إذا لم يتم احتواءه بسرعة يمكن أن يكون قويًا بما يكفي لإغلاق بعض الشركات الكبرى مما يؤدي إلى ارتفاع حاد في نسبة البطالة.

استطاعت المخاوف من انتشار فيروس كورونا في زعزعة الأسواق العالمية

وهنا يجب أن يبرز دور الحكومات وتدخلها للتخفيف من حدة الأزمات التي تسببها الأوبئة، عن طريق تقديم الأموال بشكل مباشر إلى الأسر المتضررة مع تقديم الدعم المناسب للعمال من نسبة الأموال المخصصة للطوارئ في تلك البلاد، مع استعداد نفسي لنسبة من فئة العمالة لخسارة وظائفهم، ومن خلال ما تسببه هذه الأوبئة وبشكل خاص COVID-19 من حالة عزل للدول وخاصة الولايات المتحدة فإن تأثيره على ما يمكن تسميته بالتموج الإقتصادي أمر لا مفر منه.  ومن المؤكد أن عدة قطاعات ستضرر بشكل كبير ومن أولها المتاجر والمطاعم ( التي أغلقت أبوابها تمامًا ) ومعها شكرات الطيران والسياحة بسبب القيود على السفر والتنقل، وهناك بعض الصناعات التي ستتأثر بشكل أقل وخاصة تلك الصناعات البعيدة عن المجال الطبي والذي يقتصر الضرر عليهم في قلة الطلب على صناعتهم؛ وفي ضوء ذلك تضطر البنوك إلى التساهل في سداد القروض لأن جزء من قاعدة عملائها فقد عمله.

يعتبر الكثيرون أن فيروس كوفيد 19 قد يعتبر الصدمة الاقتصادية الأسرع والأعمق في التاريخ ، فقد تأثر الاقتصاد العالمي بشكل سريع خلال ثلاثة أسابيع فقط في ظل الأزمة الحالية، فالأمر قد استغرق فقط 15 يومًا ليهبط سوق الأسهم الأميريكية بنسبة 20% وهو أسرع إنخفاض شهدته تلك السوق على الإطلاق، ويتوقع أن ينخفض الناتج المحلي الأميريكي بنسبة سنوية تبلغ 6% ،وقد حذر وزير الخزانة الأميريكي من أن معدل البطالة قد يرتفع إلى أعلى من 20% وهو ضعف مستوى النسبة خلال الأزمة الحالية .

للمزيد حول تأثير الكورونا على الاقتصاد العالمي: ما هو تأثير فيروس كورونا على الاقتصاد العالمي ؟

المصادر :

economist

.theguardian

investopedia

لماذا لم يقصف الحلفاء معسكر أوشفيتز ؟

لماذا لم يقصف الحلفاء معسكر أوشفيتز

تحقيق وثائقي جديد حول دور المداولات في صنع  القرار التاريخي

     في ربيع عام 1944م تلقت قوات الحلفاء معلومات استخبارية مقلقة حول الفظائع المروعة التي تحدث في معسكر أوشفيتز – بيركيناو في جنوب بولندا، وهو مكان يُعرف حتى الآن بأنه أكثر معسكرات الإبادة الوحشية التي قام بها الألمان النازيين.

     يُعد التساؤل الأكثر انتشارًا بين المؤرخين القائمين على دراسة الحرب العالمية الثانية هو؛ لماذا لم يقصف الحلفاء معسكر أوشفيتز؟، هل علم الحلفاء بما يجري في المعسكر من قتل وإبادة؟ وإذا كانت الإجابة بنعم، هل كان في الإمكان قصف معسكر أوشفيتز؟، وللإجابة على أول التساؤلات بخصوص علم قوات التحالف بما يجري داخل المعسكر، فإن الإجابة بالطبع هي نعم، فقد كانت إنجلترا تتابع كل التقارير الخاصة عن المعسكر من بداية تأسيسه في عام 1940م وبشكل أدق كان السير تشارلز بورتال ( رئيس سلاح الجو الملكي البريطاني) قد تسلم من حكومة بولندا المنفية في لندن أول التقارير الواردة حول المعسكر في يناير 1941م أي بعد حوالي ستة أشهر من إفتتاح المعسكر وكان التقرير يفيد بأن معسكر أوشفيتز يُعد أكثر معسكرات الاعتقال تنظيمًا وأكثرهم إنسانية حتى ذلك الوقت.

       كشف سجينان يهوديان استطاعا الهرب من المعسكر قدرًا كبيرًا حول الأهوال التي يعاني منها نزلاء المعسكر وخاصة اليهود، حينها واجه الحلفاء تحديًا وخيارًا صعبًا في ظل ما كانوا يعانوه من قلة الموارد العسكرية التي أوشكت على الإنهيار في أواخر شهور الحرب العالمية الثانية، وتمثل هذا الخير الصعب في ضرورة إتخاذ أحد الأمرين وهما: هل ينبغي توجيه ضربة حربية لضرب معسكر أوشفيتز على الرغم من وجود خطر كبير على السجناء المحاصرين فيه؟ أم أن التكلفة العسكرية والخسائر المحتملة للموارد والأرواح تحول دون تنفيذ هذا القرار الخطير في تلك الفترة التي كانت موازين القوى بين طرفي الحرب متوزانة إلى حد ما ولا تصب في مصلحة أي من الطرفين.

تلتقي مسارات القطار عند مدخل أوشفيتز أومعسكر الموت، التقطت هذه الصورة في عام 1945.

      في فيلم وثائقي جديد بعنوان ” أسرار الموت ..قصف أوشفيتز “ يبحث المؤرخون حول دور المداولات في اتخاذ القرار الخاص بضرب معسكر أوشفيتز، وهل كان يجب عليهم القيام بعمل أخلاقي لكنه غير مثمر عسكريًا أم كان يجب عليهم تركيز قوتهم العسكرية على سحق آلة الحرب النازية دون الدخول في معارك جانبية أخرى.

     ولمعرفة تفاصل القضية يجب أن نعود قليلًا إلى الوراء؛ ففي عام 1940م وبالقرب من بلدة أوشفيتز ببولندا تم إقامة معسكر لاعتقال السجناء السياسيين البولنديين، ومع تقدم الحرب العالمية الثانية زاد أعداد محتجزي هذا المعسكر حتى وصل في أغسطس من عام 1944م إلى حوالي 400 ألف سجين، كان نصفهم أو أكثر من اليهود بتقدير 205 ألف سجين، بينما كان الباقي الذي قدر عددهم بحوالي 195 ألف من غير اليهود ( البولنديين وأسرى الحرب من السوفييت وروما وغيرهم من الجماعات العرقية )، ووفقًا لمدونات متحف أوشفيز بيركناو أنه بحلول نهاية الحرب العالمية الثانية كان أكثر من مليون شخص قد لقى حتفه داخل معسكر أوشفيتز.

      وفي أبريل 1944م استطاع كل من رودلف فربا وألفريد ويتلزلر وهما يهوديان كانا من سجناء المعسكر الهروب منه حاملين معهما أول شهادة عيان للفظائع التي تُرتكب فيه مثل غرف الغاز واستخدام النازيون للقتل الجماعي على نطاق واسع لا يمكن تصوره، وعلى الفور؛ تم نشر روايتهما التفصيلية على يهود سلوفاكيا تحت مسمى ” تقرير فربا وويتلزلر ” والذي عُرف لاحقًا بـ ” تقرير أوشفيتز “.

      وفي الفترة من مايو- يوليو 1944م تم إرسال نسخ من هذا التقرير إلى جهات مختلفة، منها هيئة لاجئي الحروب في سويسرا ومقر مجلس لاجئي الحروب في واشنطن العاصمة وإلى قادة قوات التحالف بما فيهم مساعد وزير الحرب الأميريكي جون ماكلوي، ومع انتشار التقرير أبدى وزير الخارجية البريطاني وينستون تشرشل قلقه الشديد منه لدرجة أنه أصدر مذكرة يوصي فيها بضرب معسكر أوشفيتز، لكن في النهاية لم تطلق رصاصة واحدة على معسكر الموت.

     وعلى الرغم من أنه كانت هناك غارات لقوات الحلفاء تستهدف مصنع الكيماويات الألماني الذي كان يقع على بعد حوالي 4 أميال فقط من معسكر أوشفيتز( 6كم) إلا أن تامي ديفيس بيدل ( أستاذ التاريخ وإستراتيجية الأمن القومي بكلية الحرب الأميريكية – كارلايل- بنسلفانيا ) يرى أنه هناك عدة عوامل دفعت الحلفاء حتى لا يكون معسكر أوشفيتز واحدًا من أهدافهم العسكرية خلال الحرب العالمية الثانية.

خريطة مبدئية لغرف الغاز والمحارق في معسكر أوشفيتز من النسخة الإنجليزية لتقرير فربا وويتزلر الصادر في نوفمير 1944م.

نتيجة غير مؤكدة من قصف الحلفاء معسكر أوشفيتز :

     قال بيدل لـ Live Sceince أن أول عوامل هذا الموقف من جانب قوات الحلفاء تجاه معسكر أوشفيتز يتجلى في ما عُرف في تلك الفترة في الولايات المتحدة الأميريكية والمملكة المتحدة باسم ” معاداة السامية”، ففي خلال الحرب العالمية الثانية نجحت الدعاية النازية شديدة التأثير والفعالية في الرأي العالمي آنذاك في إتهام اليهود بأنهم يتلاعبون بآلة الحرب لدى الحلفاء، ويضيف بيدل قائلًا: ” إن السياسيين شعروا بالتوتر إذا بدا لهم أن المجهود العسكري للحلفاء في الحرب هو مجرد حرب نيابة عن اليهود ولحمايتهم من النازيين”، وفي الواقع؛ يصف مايكل بيرنباوم ( أستاذ الدراسات اليهودية في الجامعة اليهودية الأميريكية – لوس أنجلوس) أن العديد من الشخصيات في القيادة الأميريكية – اليهودية وغير اليهودية – اتفقوا على حد سواء على ضرورة الحفاظ على الدعم الشعبي لدور الولايات المتحدة في الحرب أنذاك، وأنه من أجل ذلك يجب تهميش المصالح اليهودية في تلك الظروف، وأضاف قائلًا: كان هناك خوف لديهم إذ ظن الأميريكيون أن هذه الحرب هي نيابة عن اليهود ضد الألمان ولحمايتهم ربما يقل الدعم الشعبي لصانعي القرار الأميريكيين أنذاك”.

      أضف إلى ذلك؛ كان هناك تساؤلٌ مرتبطٌ بمدى دقة قصف المعسكر جويًا، فبالرغم من أن ضباط التحالف كانت لديهم صور جوية لمعسكر أوشفيتز بالإضافة إلى تقرير أوشفيتز الذي أفاد بمعلومات مفصلة حول المباني الداخلية للمعسكر حتى يتسنى لقوات التحالف اختيار أهداف ضربة جوية تكون قليلة الخسائر في الموارد والأوراح، وبجانب تفصل هذ التقرير  كان لفرقة الـ ساندركوماندوس اليهودية دورًا كبيرًا في إمداد قوات التحالف سرًا ببعض الصور الخاصة من داخل المعسكر، وهي فرقة يهودية كانت  المسئولة بشكل إجباري عن إزالة الجثث من المحارق وحاولت أن تتمرد على إدارة السجن مستخدمة بعض المتفجرات البسيطة لكن إدارة السجن استطاعت القبض عليهم وقتل معظمهم، فقرر من تبقى من أعضاءها مساعدة قوات التحالف بإمدادها بهذه الصور السرية التي توضح تفاصيل تخطيط المعسكر داخليًا ، ومن أشهر هذه الصور هي تلك الصورة التي تم التقاطها فيي 23 أغسطس 1944م وفيها تفاصيل مهمة عن الثكنات العادية داخل المعسكر وغرف الغاز ويتضح فيها شكل الدخان المتصاعد من غرف الحرق التي اُستخدمت كمقابر جمعية لكل أعداء النازية سوء كانوا يهود أو غيرهم، ومع كل ذلك الإمدادات والعون لقوات التحالف هل كان قصف المعسكر جويًا أمرًا متاحًا.

يقول بيدل  أن دقة القصف الجوي في تلك الفترة كانت تكاد تكون مستحيلة في وقت الحرب العالمية الثانية – كما هي متاحة اليوم- وكان تنفيذ هذه الضربة الجوية سيؤدي إلى قتل سجناء أكثر بكثير مما قد يتم إنقاذهم، ويقول بيدل في نفس السياق :” كان يتطلب من قوات التحالف توجيه حوالي 220 قنبلة على كل محرقة من المحارق الأربعة الموجودة بالمعسكر للوصول إلى نتيجة تقترب من الـ 90% من دقة التصويب على كل محرقة وهذا تهور كبير، وعلاوة على ذلك؛ فإن تخصيص هذ القدر من القاذفات والقنابل لمعسكر أوشفيتز وحده قد يؤثر بشكل كبير على موارد الحلفاء العسكرية التي كان يجب أن تكون موجهة في الخطوط الأمامية للحرب، وإذا دققنا في سير أحداث الحرب العالمية الثانية بشكل جيد لعلمنا أن تأكيد انتصار الحلفاء على ألمانيا في تلك الفترة لم يكن مؤكدًا بشكل كبير يمكن معه التفريط في هذا القدر من الموارد العسكرية نظير ضرب معسكر أوشفيتز”.

    كانت الفترة التي بدأ التفكير فيها في ضرب معسكر أوشفيتز في عام 1944م واحدة من أكثر فترات الحرب العالمية حدة في القتال، حيث كانت قوات الحلفاء تسعى جاهدة لنقل قواتها وجيوشها نحو الشرق وإغلاق مواقع إطلاق الصواريخ وضرب وتعطيل القوات الجوية الألمانية.

    يضيف بيدل قائلًا: ” كان جيش التحالف غيورًا جدًا على موارده، فقد كان يقاتل من أجل حياته في عام 1944م”، ومن ناحية أخرى كان الهدف الأسمى للحلفاء في تلك الحرب هو القضاء على الألمان بغض النظر عن أي أمور أخرى يمكن أن تؤثر على تحقيق هذا الهدف.

    ومن جهة أخرى يفيد بيرنباوم أنه حتى لو قام الحلفاء بقصف أوشفيتز، فلن تكون ضربتهم بمثابة الرصاصة السحرية التي يمكن من خلالها إنقاذ الملايين من الأوراح، بالإضافة إلى أنه بحلول عام 1944م وهو الوقت الذي فكر فيه الحلفاء بإنقاذ أرواح معسكر أوشفيتز كان العديد منهم قد تم إبادته بالفعل في المحارق الخاصة بالمعسكر وأنه بحلول هذا الوقت كان الرايخ الألماني قد قتل قرابة 90% من ضحاياه في الحرب العالمية الثانية، ويدلل على هذا أنه في يناير 1945م ومع اقتراب دخول السوفيت لبولندا ومعسكر أوشفيتز أمر المسئولون النازيون بإخلاء المعسكر وإرسال من تبقى من السجناء إلى أماكن أخرى قسرًا، وعندما دخل السوفيت معسكر أوشفيتز وجدوا الآلاف من ضعاف الجسد الذين لم تسعفهم صحتهم على الانتقال إلى أماكن أخرى وبجانبهم وجد السوفيت أكوام من الجثث تركها النازيون قبل مغادرة أوشفيتز.

    برغم كل ما تم تحليله؛ ليس هناك من ينكر أن قصف أوشفيتز كان سيرسل رسالة مهمة مفادها أن هذه الفظائع الرهيبة التي يرتكبها الألمان لن تمر دون رد من قبل الحلفاء، يضيف بيدل قائلًا: ” أتمنى لو كان الحلفاء قد نفذوا قرارهم بضرب المعسكر ..كنت أتمنى أنه عندما نلقي نظرة على سجلنا الحربي ندرك مدى فظاعة ما حدث وأنه كان من الواجب ولو مجرد الإدلاء ببيان أخلاقي حول ما حدث” .

المصادر:

auschwitz

history

livescience

nationalinterest

Exit mobile version