الموت الأسود، كيف تتبعه علماء الآثار ؟

الموت الأسود، كيف تتبعه علماء الآثار ؟

كان الموت الأسود وباءًا عالميًا مدمرًا من الطاعون الدبلي، الذي ضرب أوروبا وآسيا الوسطى في منتصف القرن ال13، وصل الطاعون إلى أوروبا في 1347 عندما رست 12 سفينة في البحر الأسود في ميناء “ميسينا” الصقلي، فوجئ الناس المتجمعون على الأرصفة بموت معظم البحارة، وإصابة الأحياء بمرض خطير، أمرت سلطات “صقلية” على عجل بإخراج أسطول”سفن الموتى” من الميناء، لكن الأوان قد فات، فعلى مدى ال5 سنوات التالية قتل “الموت الأسود” أكثر من 20 مليون شخص في أوروبا -أي حوالي ثلث سكان القارة”-، فما هو الموت الأسود، وكيف تتبع علماء الآثار مخلفاته؟

كيف بدأ الطاعون ؟

حتى قبل وصول “سفن الموت” إلى ميناء “ميسينا”، كان العديد من الأوروبيين قد سمعوا شائعات عن وباء يشق طريقا مميتا عبر طرق التجارة في الشرقين الأدنى والأقصى، وفي أوائل أربعينيات القرن ال14 أصاب المرض الصين والهند وبلاد فارس وسوريا ومصر.

يُعتقد أن الطاعون قد نشأ في آسيا منذ أكثر من 2000 عام، ويرجح أنه إنتشر عن طريق السفن التجارية، على الرغم من أن الأبحاث الحديثة ذكرت أن العامل الممرض للموت الأسود، قد يكون موجودا في أوروبا منذ 3000 ق.م.

مصدر الموت الأسود

لمئات السنين ظل سبب تفشي الطاعون محاطا بالغموض والخرافات، لكن التطورات الدقيقة في المجاهر ساعدت أخيرا في الكشف عن العامل الحقيقي المسؤول عن المرض، إكتشف ألكسندر يرسين-alexanfre yersin البكتيريا المسؤولة عن الموت الأسود، وهي يرسينيا بيستيس-yersinia pestis.

يرسينيا بيستيس هي بكتيريا شديدة الخطورة تعمل على تعطيل الجهاز المناعي للمضيف عن طريق حقن السموم في الخلايا الدفاعية مثل الخلايا البلعمية- المكلفة باكتشاف العدوى- فبمجرد التخلص منها يمكن للبكتيريا أن تتكاثر دون معيقات.

تظهر صورة مجهرية لبكتيريا 
اليرسينيا الطاعونية المسببة للطاعون.

ما هي أعراض الموت الأسود ؟

تسبب بكتيريا يرسينا 3 أنواع من الطاعون في البشر:

– الطاعون الدبلي.
– الإلتهاب الرئوي.
– تسمم الدم.

بالرغم من غياب دليل الحمض النووي على وجود “يرسينا” كانت موجودة في ضحايا الموت الأسود، إلا أن شكل العدى غير مؤكد، ومن المحتمل أن الثلاثة أوبئة قد لعبت دورا سبب الطاعون الدبلي الحمى والتعب والرعشة والقيئ والصداع والدوار وعدم تحمل الضوء وآلام الظهر والأطراف، والقلق واللامبالات والهذيان، كما يسبب الدبل أيضا- تورم غدة أو أكثر من الغدد اللمفاوية، عادة في الفخذ أو الإبط-.

أما الطاعون الرئوي فيؤثر على الرئتين مسببا حمى وضعف وضيق التنفس وإمتلاء الرئتين بسوائل قد تؤدي للموت، أما طاعون تسمم الدم فتشمل أعراضه تعب وحمى ونزيف داخلي.

كيف تتبع العلماء الأثر المدمر للموت الأسود؟

تم الكشف عن الدمار الذي أحدثه الطاعون في إنجلترا، في العصور الوسطى، في دراسة أثرية مفصلة بمساعدة 10000 متطوع من علماء الآثار الهواة. شمل المتطوعون العائلات المحلية والطلاب ومالكي الأراضي، وأعضاء الجماعات المجتمعية، وحفروا أكثر من 2000 حفرة إختبار في 55 قرية في شرق إنجلترا، تحت إشراف علماء الآثار وقادة الفرق المحلية المدربين.

تم تجميع وتحليل البيانات حول القطع الفخارية المكسورة الموجودة في أكثر من 2000 حفرة، تبلغ مساحة كل منها 11 قدما ² (1 متر²) وعمقها يصل إلى 4 أقدام(1.2متر).

اقرأ أيضًا عن أثر الطاعون الأنطوني على الامبراطورية الرومانية

الفخار وعدد السكان:

أدارت الدراسة “كارينا لويس”- عالمة آثار في جلمعة لينكولن في المملكة المتحدة-، وقارنت البيانات حول أعداد القطع الفخارية التي يعود تاريخها لما قبل الموت الأسود بالأرقام التي تم العثور عليها بعده، وقد كشفت التغييرات طويلة المدى التي أحدثها الطاعون في السكان.تمكنت الدراسة الجديدة من معرفة كيفية تأثر المجتمعات بالطاعون بشكل عام، فقد إنخفض عدد سكان القرى(التي أقميت فيها الدراسة) بمعدل 45% بعد الطاعون.

وتشير الدراسات المعاصرة، إلى تفاوت معدل الوفيات في المناطق المختلفة، بين ثمني وثلثي السكان، ولربما كانت إنجلترا عام 1400 نصف ما كانت عليه قبل 100 عام، فبالتأكيد تشبب الطاعون في هجرة السكان والإختفاء التام لحوالي 1000 قرية.

عامة لم يكن تأثير الوباء بالسهل أبدا، فقد عقب ذلك على الفور توقف الحروب وتراجع مفاجئ في التجارة لفترة قصيرة، أما النتيجة التي دامت لفترة أكثر هي الانخفاض الكبير في مساحة الأرض المزروعة، وذلك راجع لوفاة العديد من العمال كما رافق كل تلك المشاكل الآثار النفسية التي تنجحت عن الإنشغال بالموت وظهرت في الشعر والنحت والرسم.

اقرأ تجربة الإنسان في مواجهة الأوبئة، وكيف أسقط الطاعون عصر أثينا الذهبي؟

المصادر:

BRITANNICA
NATIONAL GEOGRAPHIC
LIVE SCIENCE

الأوبئة والاقتصاد في التاريخ؛ هل يختلف تأثير COVID-19 على الاقتصاد عن غيره؟

إن الأوبئة هي عامل حتمي ومؤثر في سير حلقة الاقتصاد وتطوره، فقد جعلت مظاهر الاقتصاد الكبير من شبكات التجارة المترابطة والمدن الاقتصادية الكبرى من المجتمعات موطنًا كبيرًا للثراء ولكنها أيضًا جعلتها أكثر ضعفًا في مواجهة الأوبئة، فمنذ إمبراطوريات العصور القديمة وحتى مراحل الاقتصاد العالمي الحاضر؛ يُتوقع أن يكون تأثير COVID-19 مختلفًا عما سبقه من الأوبئة والجوائح في العصور السابقة من الناحية الاقتصادية، ومع معرفة القليل من المعلومات عن تلك الفيروسات والبكتريا، فإن عدد الضحايا سيكون على مستوى مختلف عن ضحايا الأوبئة السابقة كوباء الموت الأسود أو الأنفلونزا الإسبانية، ومع ذلك؛ فإن خراب الماضي يقدم لنا بعض الدلالات حول تأثير فيورس COVID-19 على تغيير خريطة الاقتصاد العالمي.

على الرغم من التأثير المروع للأوبئة على البشر؛ إلا أن أثارها الإقتصادية ليس بنفس الدرجة من السوء على المدى الطويل، فقد قضى الموت الأسود على ثلثي سكان أوروبا وترك ندوبًا قاسية في تاريخ القارة البيضاء، ولكن في أعقابه؛ كانت المساحة المزروعة أكثر بكثير من طاقات العمال المتوفرين لزراعتها، فقد أدت قلة العمالة الزراعية نتيجة ارتفاع عدد الضحايا إلى زيادة قوة العمال وقدرتهم على المساومة على الأرض وامتلاكها من مُلاكها مما ساهم في انهيار النظام الاقتصادي الاقطاعي، ويبدو أنها كانت سببًا في أن يصبح اقتصاد أجزاء من شمال غرب أوروبا في مسار واعد ومتقدم، فقد ارتفعت الدخول الحقيقة للعمال الاوروبيين بشكل واضح بعد ذلك الوباء الذي ضرب القارة بين عامي 1347- 1351م ، وفي تلك الأوقات – فترة ما قبل العصر الصناعي –  عادة ما أدت هذه الدخول المرتفعة إلى نمو سكاني أسرع وبالتالي إلى قلة نسبة محدودي الدخل – كما لاحظ توماس مالتوس Thomas Malthus (باحث سكاني واقتصادي سياسي إنجليزي)  –  ولكن لم تكن قاعدة مالتوس هذه قابلة للتطبيق في جميع أنحاء أوروبا كلها، فلم تثبت نظريته صدقها بعد انحسار الوباء.

يناقش كل من نيكو فويقلاندرز Nico Voigtländer ( من جامعة كليفورنيا – لوس أنجلوس) وهانز جواكيم فوث Hans-Joachim Voth ( الآن بجامعة زيورخ) فكرة أن الدخل المرتفع الناتج من سنوات الطاعون أدى إلى زيادة الإنفاق على السلع المصنعة ذاتيًا داخل المدن وبالتالي أدى إلى ارتفاع مستوى التحضر فيها، لقد دفع الطاعون وبشكل فعال أجزاء من أوروبا كانت تعاني التوزان بين الأجور المنخفضة وقلة التحضر إلى مسار أكثر ملائمة لتطور اقتصادي تجاري ثم صناعي بعد ذلك.

وبالمثل؛ فقد حدث ما يشبه ذلك في أعقاب وباء الأنفلونزا الإسبانية التي قتلت ما بين 20- 100 مليون شخص خلل الفترة من 1918- 1920م، إذ لم تعد اقتصاديات الصناعة التي واكبت أوائل القرن الـ20 تلائم ما جاء به مالتوس، ومع ذلك ؛ وحسب ما يراه كل من إليزبيث بيرنرد ( جامعة برانديز ) ومارك سيغلر ( جامعة ولاية كليفورنيا ) أن الولايات المتحدة الأمريكية كانت أكثر الدول تضررًا من وباء الأنفلونزا الإسبانية ولكنها نمت بشكل أسرع اقتصاديًا من غيرها عقب تلك الجائحة.

في الولايات المتحدة الأميريكية، وبعد السيطرة والتحكم على مجموعة من العوامل الاقتصادية والديموغرافية وجدوا أن وفاة إضافية واحدة لكل ألف شخص ساهمت في زيادة متوسط النمو السنوي للدخل الحقيقي للفرد على مدى عقد لاحق على الأقل بنسبة 0.15 نقطة مئوية، وعلى الرغم من أن حصيلة COVID-19 من الضحايا من المرجح أن تكون قليلة جدًا لتعزيز هذه الفكرة( زيادة الأجور) إلا أنها قد تجبر الشركات على تبني تقنيات جديدة من أجل العمل في الوقت الذي ستصبح المخازن والمكاتب فارغة دون المساس بدرجات النمو والإنتاجية .

ورغم كل التحليلات التي في ظاهرها إيجابية، لا يستبعد الباحثون الأثر والتأثير الشديد لفيروس COVID-19 على الاقتصاد العالمي إذا لم يتم احتواء الوباء بشكل أسرع ، وإذا تم ذلك؛ يمكن أن لا يستمر تأثيره السلبي على الاقتصاد لفترة طويلة ، ولكن على العكس إذا لم يتم احتواءه بسرعة يمكن أن يكون قويًا بما يكفي لإغلاق بعض الشركات الكبرى مما يؤدي إلى ارتفاع حاد في نسبة البطالة.

استطاعت المخاوف من انتشار فيروس كورونا في زعزعة الأسواق العالمية

وهنا يجب أن يبرز دور الحكومات وتدخلها للتخفيف من حدة الأزمات التي تسببها الأوبئة، عن طريق تقديم الأموال بشكل مباشر إلى الأسر المتضررة مع تقديم الدعم المناسب للعمال من نسبة الأموال المخصصة للطوارئ في تلك البلاد، مع استعداد نفسي لنسبة من فئة العمالة لخسارة وظائفهم، ومن خلال ما تسببه هذه الأوبئة وبشكل خاص COVID-19 من حالة عزل للدول وخاصة الولايات المتحدة فإن تأثيره على ما يمكن تسميته بالتموج الإقتصادي أمر لا مفر منه.  ومن المؤكد أن عدة قطاعات ستضرر بشكل كبير ومن أولها المتاجر والمطاعم ( التي أغلقت أبوابها تمامًا ) ومعها شكرات الطيران والسياحة بسبب القيود على السفر والتنقل، وهناك بعض الصناعات التي ستتأثر بشكل أقل وخاصة تلك الصناعات البعيدة عن المجال الطبي والذي يقتصر الضرر عليهم في قلة الطلب على صناعتهم؛ وفي ضوء ذلك تضطر البنوك إلى التساهل في سداد القروض لأن جزء من قاعدة عملائها فقد عمله.

يعتبر الكثيرون أن فيروس كوفيد 19 قد يعتبر الصدمة الاقتصادية الأسرع والأعمق في التاريخ ، فقد تأثر الاقتصاد العالمي بشكل سريع خلال ثلاثة أسابيع فقط في ظل الأزمة الحالية، فالأمر قد استغرق فقط 15 يومًا ليهبط سوق الأسهم الأميريكية بنسبة 20% وهو أسرع إنخفاض شهدته تلك السوق على الإطلاق، ويتوقع أن ينخفض الناتج المحلي الأميريكي بنسبة سنوية تبلغ 6% ،وقد حذر وزير الخزانة الأميريكي من أن معدل البطالة قد يرتفع إلى أعلى من 20% وهو ضعف مستوى النسبة خلال الأزمة الحالية .

للمزيد حول تأثير الكورونا على الاقتصاد العالمي: ما هو تأثير فيروس كورونا على الاقتصاد العالمي ؟

المصادر :

economist

.theguardian

investopedia

Exit mobile version