مقال علمي مفصل عن تطوير لقاحات رنا المرسال الفائزة بجائزة نوبل للطب 2023

تقدم جائزة نوبل سنويًا لمن ساهموا في تطوير الطب وتغيير العالم، منذ عام 1895. وقد أسسها مخترع الديناميت السويدي ألفريد نوبل، وأوصى بأن توزع الجوائز سنويًا لمن هم بحسب وصفه “جعلوا العالم مكانًا أفضل”. تمنح الجائزة في خمس مجالات وهي الطب، والكيمياء، والفيزياء، والأدب، والسلام. وقد بلغ عدد الجوائز في مجال الطب وعلم الوظائف الحيوية 114 جائزة بإضافة جائزة عام 2023. وقد حصل على جائزة نوبل في الطب 2023 كلًّا من الطبيبة كاتالين كاريكو والطبيب درو وايزمان من جامعة بنسلفينيا. منحت الجائزة لهما لاكتشافهما التعديلات الخاصة بقاعدة النيكلوزيد التي ساعدت في تطوير لقاحات الحمض النووي الريبوزي المرسال “mRNA” وهي التقنية التي استخدمت لتطوير لقاحات كوفيد-19.

استخدام mRNA في اللقاحات

عندما ظهر فيروس كوفيد-19 في نهاية عام 2019، كان من الصعب تخيل مدى سرعة تصنيع لقاح يتصدى لهذا الوباء للحد من انتشاره. ولكن في فترة قياسية، تمكن العلماء من تطوير العديد من اللقاحات. تلك السرعة دفعت البعض للاعتقاد بإنها مؤامرة، لذلك ظهرت بعض حملات رفض اللقاحات، لكنها عبرت عن جهل عامة الناس بتلك التقنية الجديدة فحسب. وقد تم اعتماد لقاحيين هما الأسرع والأكفأ في مواجهة الفيروس باستخدام تقنية الرنا المرسال mRNA الحديثة.

إن الظهور الأول لاستخدام تقنية الرنا المرسال كان منذ 30 عامًا تقريبًا، حيث كانت التجارب المخبرية تفيد بفعاليتها العلاجية. إلا أن تطبيقها سريريًّا تطلب التغلب على العديد من العقبات. كانت من ضمن تلك العقبات هي تحفيز الرنا المرسال للالتهابات غير المرغوب فيها أثناء عملية تحميل المادة الوراثية، وانتاجها بروتين غير فعال. إضافة إلى عدم ثبات واستقرار الرنا المرسال داخل الجسم الحي، لكونه جزيء هش يتحلل بسهولة بواسطة الإنزيمات الموجودة في الدم والأنسجة.

يصنع الرنا المرسال في المختبرات في عملية تسمى النسخ في المختبر in vitro transcription (IVT). تتم عملية IVT باستخدام إنزيم خاص يسمى بوليميريز RNA. يرتبط بوليميريز الرنا بقالب المادة الوراثية الأصلية الدنا وينسخه إلى رنا. ينسخ جزيء الحمض النووي الريبوزي (RNA) لينتج الرنا المرسال الذي سيتم استخدامه في اللقاح. يحتاج نقل الرنا المرسال إلى داخل الجسم الحي إلى ناقل ليحميه من التحلل داخل الجسم، لذلك استخدم العلماء عدة نواقل. من ضمنها النواقل الشحمية.

كانت نقطة التحول عندما اكتشفت كاريكو ووايزمان الرنا المرسال المعدل. تمكن الباحثان باستخدام الرنا المرسال المعدل من التغلب على العقبات عبر تجنب التعرف المناعي المسبب للالتهابات، وتحسين إنتاج البروتين. أدت تلك النتائج جنبًا إلى جنب مع تحسين وتطوير طرق استهداف الرنا المرسال لمناطق بعينها، وتثبيت واستقرار المستضد الخاص به في الجسم الحي إلى موافقة الجهات المختصة على اللقاح وتطبيقه سريريًّا على العامة. لتصبح مساهمة كاريكو ووايزمان ركيزة أساسية لبناء علم اللقاحات الشامخ في وقت شديد الحرج، وتمهيدًا لاستخدام تلك التقنية في المستقبل.

فيم تختلف اللقاحات قبل الوباء عن لقاحات الرنا المرسال؟

اعتمدت معظم اللقاحات الفيروسية قديمًا قبل لقاح الكوفيد على تقنية استخدام بروتينات فيروسية ضعيفة أو غير فعالة. تؤدي تلك البروتينات عملها عبر حقنها، فيكتسب الشخص مناعة عن طريق تكوين الخلايا التائية لأجسام مضادة للبروتينات الناتجة عن تلك الفيروسات. تتميز تلك اللقاحات بفعالية كبيرة ضد الفيروسات ولكنها تتطلب جرعات تحفيزية، بسبب ضعف الاستجابة المناعية بمرور الزمن.

كمرحلة ثانية، تطورت اللقاحات وأصبحت أكثر انتقائية بعد ثورة البيولوجيا الجزئية وتطوير تقنية إنتاج البروتينات، ليتم استخدام تلك التقنية والموافقة عليها لأول مرة في لقاح فيروس التهاب الكبد الوبائي عام 1986. ومن ثم لقاح الفيروسات المسببة للأورام في عام 2006. حيث يحتوي كلا اللقاحين على البروتين الخاص بكلا الفيروسين. ويشار إلى تلك اللقاحات باسم “لقاحات الوحدة الفرعية”. إذ تحمي تلك اللقاحات من تكون السرطانات مستقبلًا باستخدام مكونات بروتينية مؤتلفة.

وفي عام 2019، وكمرحلة ثالثة، استطاع العلماء تطوير لقاحات باستخدام هندسة الفيروسات البيولوجية، كما هو الحال في لقاح الإيبولا. إذ يعمل اللقاح عن طريق النواقل الفيروسية، حيث تقوم النواقل بإنتاج بروتين ذاتي لإنتاج مستضدات مشفر. تتمكن أجسادنا من التعرف على الفيروس عن طريق البروتين الخاص به ويشار إليها باسم “لقاحات النواقل”.

كلا التقنيتين السابقتين (المرحلة الثانية والثالثة) تحتاج إلى زراعة واسعة للخلايا لحقن المستضد الحقيقي، مما يحدّ من إمكانية إنتاج اللقاحات بشكل سريع في حالة التصدي للأوبئة. ولذلك طور الباحثون تقنية تتحايل على الحاجة إلى زراعة الخلايا الواسعة. حيث يمكن إيصال الحمض النووي عن طريق الرنا المرسال إلى المتلقي باستخدام إنتاج البروتين الزائف الخاص بالفيروس في المختبر بعد معرفة تسلسله الجيني. فيتحقق حلم الباحثين بإنتاج اللقاحات بشكل أسرع وتكلفة مادية أقل وهو ما يمثل نجاح هائل للمرحلة الرابعة.

كيف طُورت لقاحات الرنا المرسال؟

كانت بداية اللقاحات المعتمدة على الحمض النووي والرنا المرسال في بداية التسعينات. حيث تم اختبارها لأول مرة على الفئران، لتصبح بادرة أمل في عالم اللقاحات. على الرغم من صعوبة تصنيع اللقاحات القائمة على الحمض النووي، إلا أن مميزاتها شجعت على ذلك. إذ يمكن تعديل تسلسلها الجيني بسهولة لتكوين مستضدات مختلفة، كما يمكن إنتاج تلك اللقاحات بسهولة.

لقاحات الدنا DNA

وبالرغم من الاعتقاد بأن اللقاحات المعتمدة على الحمض النووي الدنا DNA ستكون أكثر فعالية عن تلك المعتمدة على الرنا المرسال. وذلك لكون الحمض النووي أكثر استقرارًا، لكن كان التطور في تلك اللقاحات بطيء. ولم تجرب سوى على فئران التجارب. يرجع السبب في ذلك إلى أن اللقاح المعتمد على الحمض النووي يحتاج إلى عبور حاجزين وهما غشاء البلازما، والغشاء النووي حول نواة الخلية للوصول إلى الحيز الخلوي لتحويل الحمض النووي إلى بروتينات. فعملية تحويل الحمض النووي إلى رنا مرسال والتي تسمى “عملية النسخ” تتم داخل النواة. وهو ما يصعب من استخدام الحمض النووي الدنا في اللقاحات.

الرنا المرسال المعدل

وبسبب صعوبة استخدام لقاحات الحمض النووي DNA أتت فكرة اللقاحات المعتمدة على الرنا المرسال، والتي لا تحتاج إلا لعبور حاجز واحد للوصول إلى السيتوبلازم. وفي السيتوبلازم، يتم تحويل الرنا المرسال إلى بروتين مباشرة. لماذا؟ لأن عملية ترجمة الرنا المرسال إلى بروتينات بالأساس تتم في سيتوبلازم الخلية ولا يحتاج في هذه الحالة الرنا المرسال إلى دخول النواة من الأساس. كما أن المعلومات الوراثية في تلك الحالة لن تندمج مع جينوم المتلقي، مما يوفر أمان عالي للخلايا البشرية خلال تلك العملية. بعبارة أخرى، لم يدخل الرنا المرسال المعدّل النواة من الأساس والتي تحتوي على المعلومات الوراثية الأصلية للكائن الحي. لم تحدث عملية تلاقي من الأساس بين المادتين الوراثيتين، بالتالي نسبة انتقال أو تلوث المادة الوراثية الأصلية بالمادة المحقونة تكاد تصل للصفر.

تطور نواقل لقاحات الرنا المرسال

إحدى عيوب اللقاحات الفيروسية المعتمدة على النواقل والتي ذكرناها في المرحلة الثانية والثالثة سابقًا، أنها تحفز الأجسام المضادة لمهاجمة البروتينات الهيكلية لتلك النواقل. مما يؤدي إلى هدم البنية البروتينية وتقليل استجابة الجسم لتلك النواقل إذا تم استخدام نفس النوع مرة أخرى. وقد نجح العلماء في تطوير لقاحات تستخدم نواقل فيروسية مطورة بتقنية هندسة الفيروسات الغدّية. واستطاعوا بذلك التصدى جزئيًا لجائحة كورونا السابقة خاصة في بدايتها.

ولأن مشكلة النواقل الفيروسية ستظل في حاجة لحلول جذرية، أصبح التحدي التالي يكمن في إيصال اللقاحات المعتمدة على الرنا المرسل داخل جسد الكائن الحي. في عام 1990، نشرت أول دراسة للعالم فيليب فلينجر وفريق عمله، تثبت أن حقن الرنا المرسال العاري، سمي بالعاري لأنه يخلو من النواقل، في العضلات الهيكلية قادر على إنتاج البروتين في الجسم الحي.

وقد أثبت مارتينون وفريق عمله بعد ذلك استجابات الخلايا اللمفاوية التائية السامة للخلايا الخاصة بمستضد معين في الفئران المحقونة بالرنا المرسال باستخدام جسيمات دهنية شحمية كنواقل. والجسيمات الشحمية هي جزيئات دهنية صغيرة تحيط بالرنا المرسال. تساعد الجسيمات الشحمية على حماية الرنا المرسال من التلف أثناء عملية التوصيل وعبور حواجز الخلية.

كما طور باحثون آخرون لقاحات النسخ المتماثل لفيروس ألفا، وهي لقاحات تعمل على إنتاج عدد أكبر بكثير من نسخ ترميز المستضد لكل خلية، مما قد يؤدي إلى استجابات مناعية أكثر قوة. ساعد نجاح هذا اللقاح في النسخ المتماثل لفيروس ألفا في النماذج الحيوانية على إظهار إمكانات لقاحات الرنا المرسال، ووضع الأساس لتطوير أول لقاحات تعتمد على الرنا المرسال ضد العدوى البشرية. ومن المهم أن نلاحظ أن تطوير لقاحات الرنا المرسال قد تم بعد تطوير الجسيمات الدهنية النانوية لتوصيل الرنا المرسال.

كاريكو وويزمان باحثان غيرا العالم

درس العالمان كاريكو وويزمان الأنواع المختلفة للحمض النووي الريبوزي ونشرا نتائج بحثهما في عام 2005. ولكن كان أصبح لاكتشافهما أهمية أكبر عندما ساعدا في تطوير لقاحات فيروس كورونا.

التغلب على الالتهاب

شرحت الدراسة تأثير تعديل قاعدة نيكلوزيد الرنا المرسال على استجابة السيتوكينات باستخدام الخلايا الجذعية. والسيتوكينات هي بروتينات تنتجها الخلايا وتساعد في تنظيم الاستجابة المناعية. وتلعب السيتوكينات دورًا مهمًا في الالتهاب والاستجابة المناعية وإصلاح الأنسجة. وقد أظهرت الدراسات أن الرنا المرسال والرنا الناقل في حقيقيات النواة لم يحفزا استجابة السيتوكينات. على خلاف الرنا المرسال في بدائيات النواة المنسوخة في المختبر، والتي استطاعت تحفيز السيتوكينات.

تم استخدام الخلايا الجذعية لدراسة تأثير تعديلات قاعدة الرنا المرسال على استجابة الخلايا الجذعية للالتهاب. وبدمج مركبات 5-ميثيل سيتيدين، أو N6-ميثيل أدينوزين، أو 5-ميثيلوريدين، أو 2-ثيوريدين في الرنا المرسال، وجد الباحثون أن هذه المركبات كانت قادرة على إلغاء تفعيل الاستجابات الالتهابية عند إضافة الرنا المرسال إلى الخلايا الجذعية.

كما تمكن الباحثون من عمل تعديلات على مركب اليريدين، وهو مركب يلعب دورًا مهمًا في تعديل قاعدة الرنا المرسال. هذه التعديلات أدت إلى إلغاء تنشيط التيار المستمر، وهو استجابة التهابية طويلة الأمد.

نتائج التعديل على الرنا المرسال

تشير النتائج إلى أن تعديلات قاعدة الرنا المرسال قد يكون لها آثار مهمة على تطوير علاجات جديدة للأمراض المناعية. على سبيل المثال، يمكن استخدام هذه التعديلات لمنع أو علاج الالتهاب المرتبط بأمراض مثل السرطان وأمراض المناعة الذاتية.

قبل أكثر من 40 عامًا لاحظ العالم إسحاق وفريقه، أن الحمض النووي الريبي المتحلل يمكنه تحفيز نوع من الانتروفين القوي لمواجهة الفيروسات. ولكن لم يستطع إسحاق معرفة كيفية وسبب ذلك. حتى أتى وايزمان وكاريكو بشرح ذلك في بداية الألفينات. والانتروفين هو نوع من السيتوكينات التي تعمل على مواجهة الفيروسات.

 أوضحت الدراسات التي أجراها وايزمان وكاريكو لاحقًا السبب في استخدام اليردين المزيف (m1Ψ) بمفرده أو مع مركب 5-methylcytosine أنه يؤدي إلى تثبيط الاستجابة المناعية لتجنب الالتهابات غير المرغوب فيها وزيادة التعبير البروتيني. كما أن تلك التعديلات تجعل من الرنا المرسال أكثر استقرارًا داخل الخلية. تلك التعديلات هي الأكثر استخدامًا في اللقاحات الحديثة، بما في ذلك اللقاحين المستخدمين في مواجهة فيروس كورونا.

قام كاريكو وويزمان بحقن الرنا المرسال المعدل المحتوي على اليريدين المزيف في طحال فأر، لينتج كمية كبيرة من البروتين. ووجدوا أن بروتين PKR قد تم تنشيطه. وهو بروتين مضاد للفيروسات يمنع ترجمة البروتين. أظهر الفريق أن استخدام القواعد المعدلة للرنا المرسال يقلل من تنشيط PKR ويحسن إنتاج البروتين.

لقد ثبت أن استخدام m1Ψ في لقاحات الرنا المرسال آمن وفعال. وأظهرت التجارب السريرية تلك اللقاحات فعالة للغاية في الوقاية من الأمراض الخطيرة والاستشفاء والوفاة كما هو الحال مع كوفيد-19.

كيف بدأ انتاج لقاحات تعتمد على الرنا المرسال المعدل؟

بحلول عام 2010، تم تأسيس ثلاث شركات تعمل على تكنولوجيا الرنا المرسال وهم شركة CureVac، التي تأسست في عام 2000 بهدف تطوير لقاحات ضد الالتهابات والسرطان. وشركة BioNTech تأسست في عام 2008 بهدف تطوير لقاحات خاصة بالسرطان. وشركة Moderna، التي تأسست في عام 2010. استخدمت تقنية الرنا المرسال المعدل لإعادة برمجة الخلايا الجسدية إلى خلايا متعددة القدرات وتوصيل البروتينات العلاجية. وتعاونت الشركات الثلاث مع الباحثين لمواجهة الأمراض بتقنية حديثة آمنة وفعالة.

أثمرت جهود تلك الشركات بالتعاون مع العلماء والباحثين بالتصدي لبعض الفيروسات. منها فيروس زيكا في عام 2017. ومن ثم تعاونت شركة موديرنا مع العالم جراهام وفريقه للتصدي لفيروس كورونا القديم المتسبب لمتلازمة الشرق الأوسط التنفسية المعروف باسم سارس.

لقاحات كورونا المعتمدة على تقنية الرنا المرسال المعدل

بعد ظهور كوفيد-19 تعاونت تلك الشركات بالإضافة إلى شركات أخرى وعدد كبير من المؤسسات الأهلية والحكومات في بحث وتطوير وتمويل لقاح فيروس كوفيد-19. وتمت التجارب السريرية بالتوازي مع الأبحاث والتجارب المخبرية، وعلى غير المعتاد، حدثت بالتتابع نظرًا لحاجة العالم للقاح سريع. مما أدى إلى ظهور نتائج أسرع من العادة، حيث حصل كل من لقاحي الرنا المرسال المعدل من شركة Pfizer/BioNTech وModerna على الموافقة في غضون عام من تفشي فيروس كوفيد-19. أصبح هذا التطور ممكنًا بفضل عقود من البحث الأساسي وتحسين العمل على الرنا المرسال.

يحتوي كل من لقاحي الرنا المرسال من Pfizer/BioNTech وModerna على بدائل كاملة لليوريدين لتجنب الاستجابات الالتهابية غير المرغوب فيها، ولتكثيف ترجمة البروتين. أظهرت النتائج التي تم الحصول عليها بعد تطعيمين من الحمض النووي الريبوزي المرسال، أن مستوى الحماية ضد أعراض كوفيد-19 كان مرتفعًا للغاية. بفعالية 95% للقاح فايزر/بيونتيك (بولاك 2020) و94% للقاح موديرنا ( بادن 2021).

سرعان ما أظهرت الدراسات اللاحقة أن الاستجابة للقاح كانت قصيرة العمر نسبيًا. فتوصل مجتمع البحث العلمي أن التحصينات المعززة الإضافية حسنت الحماية بشكل كبير، خاصة ضد متحور أوميكرون الأكثر عدوى. وبعد عدة دراسات وتجارب أوضح المجتمع العلمي أن الأضرار الجانبية للقاحين كانت نادرة للغاية. مما يوفر فرصًا أكثر أمانًا للمزيد من التجارب والتطوير.

كيف سيساعد اكتشاف كاريكو ووايزمان الأطباء مرة أخرى؟

يجري الآن تطوير العديد من تطبيقات الرنا المرسال المعدل بالاعتماد على دراسة كاريكو ووايزمان. يشمل ذلك اللقاحات ضد الالتهابات وعلاج السرطان وتوصيل البروتينات العلاجية أو المعدلة للمناعة. من المؤكد أن تطوير تقنية الرنا المرسال هو لخدمة البشرية في التصدي للأمراض الأكثر خطورة أو انتشارًا كالأورام. وتُظهر الدراسات السريرية الحديثة لقاحات الرنا المرسال جنبًا إلى جنب مع علاجات تثبيط الورم باستخدام مستضدات الورم المتحولة أو غير المتحولة لتحفيز استجابات الخلايا التائية الخاصة بالورم في مرضى سرطان الجلد وسرطان القناة البنكرياسية.

يستخدم الرنا المرسال في هذه التجارب، ويعمل العلماء على تعديلات على ذيل poly(A) لزيادة ثبات الرنا المرسال وكفاءة تحويله إلى بروتينات. وبالتالي، هناك طرق بديلة لتوليد لقاحات وعلاجات فعالة تعتمد على الرنا المرسال قيد التطوير.

لم تحظ النتائج التي نشرتها كاريكو ووايزمان في بحثهما عام 2005 باهتمام كبير في حينها. ولكنها وضعت الأساس لتطوير اللقاحات التي خدمت العالم خلال جائحة كوفيد-19، ليستحقا جائزة نوبل في الطب لعالم 2023.

المصدر

الموقع الرسمي لجائزة نوبل

فوز الإيرانية نرجس محمدي بجائزة نوبل في السلام 2023

قررت لجنة نوبل النرويجية منح جائزة نوبل للسلام لعام 2023 إلى نرجس محمدي لنضالها ضد اضطهاد المرأة في إيران وكفاحها من أجل تعزيز حقوق الإنسان والحرية للجميع. لقد جاء كفاحها الشجاع بثمن باهظ دفعته وتدفعه نرجس اليوم. فقد اعتقلها النظام الإيراني 13 مرة، وأدانها خمس مرات، وحكم عليها بالسجن لمدة 31 عامًا و154 جلدة. لا تزال نرجس محمدي في السجن بينما نكتب لكم الآن.

أصبحت نرجس محمدي بعد هذا الإعلان المرأة رقم 19 التي تفوز بجائزة نوبل للسلام وثاني امرأة إيرانية، بعد فوز الناشطة الحقوقية شيرين عبادي بالجائزة في عام 2003.

قصة نرجس محمدي

في سبتمبر/أيلول 2022، قُتلت شابة كردية تُدعى مهسا جينا أميني أثناء احتجازها لدى شرطة الأخلاق الإيرانية. وأدى مقتلها إلى اندلاع أكبر مظاهرات سياسية ضد النظام في إيران منذ وصوله إلى السلطة في عام 1979. وتحت شعار “المرأة – الحياة – الحرية”، شارك مئات الآلاف من الإيرانيين في احتجاجات سلمية ضد وحشية السلطات وقمعها للنساء. قام النظام بقمع الاحتجاجات بشدة: قُتل أكثر من 500 متظاهر. وأصيب الآلاف، من بينهم كثيرون أصيبوا بالعمى بسبب الرصاص المطاطي الذي أطلقته الشرطة. وتم اعتقال ما لا يقل عن 20 ألف شخص واحتجازهم في حجز النظام.

شعار المظاهرات

الشعار الذي اعتمده المتظاهرون – “المرأة – الحياة – الحرية” – يعبر بشكل مناسب عن تفاني وعمل نرجس محمدي. امرأة: تناضل نرجس من أجل كل النساء ضد التمييز والقمع المنهجي.
حياة: تدعم نرجس نضال المرأة من أجل الحق في عيش حياة كريمة. وقد قوبل هذا النضال في جميع أنحاء إيران بالاضطهاد والسجن والتعذيب وحتى الموت.
حرية: تناضل نرجس من أجل حرية التعبير والحق في الاستقلال، وضد القواعد التي تلزم النساء بالبقاء بعيدًا عن الأنظار وتغطية أجسادهن إجبارًا. إن مطالب الحرية التي عبر عنها المتظاهرون لا تنطبق على النساء فحسب، بل على جميع السكان.

نشأة نرجس محمدي

في التسعينيات، عندما كانت نرجس محمدي طالبة فيزياء شابة، كانت تميز نفسها كمدافعة عن المساواة وحقوق المرأة. وبعد أن أنهت دراستها عملت مهندسة وكاتبة عمود في العديد من الصحف الإصلاحية. وفي عام 2003، انخرطت في مركز المدافعين عن حقوق الإنسان في طهران، وهي منظمة أسستها الحائزة على جائزة نوبل للسلام شيرين عبادي. وفي عام 2011، ألقي القبض على السيدة محمدي للمرة الأولى وحُكم عليها بالسجن لسنوات عديدة بسبب جهودها في مساعدة النشطاء المسجونين وعائلاتهم.

وبعد مرور عامين، وبعد إطلاق سراحها بكفالة، انخرطت السيدة محمدي في حملة ضد استخدام عقوبة الإعدام. وكانت إيران منذ فترة طويلة من بين الدول التي تنفذ أعلى نسبة من سكانها سنويًا. ومنذ يناير/كانون الثاني 2022 فقط، حُكم على أكثر من 860 سجيناً بالإعدام في إيران.

أدى نشاط نرجس ضد عقوبة الإعدام إلى إعادة اعتقالها في عام 2015، والحكم عليها بالسجن لسنوات إضافية خلف الجدران. عند عودتها إلى السجن، بدأت في معارضة استخدام النظام المنهجي للتعذيب والعنف الجنسي ضد السجناء السياسيين، وخاصة النساء، الذي يمارس في السجون الإيرانية.

قيادة من داخل السجن

وصلت أنباء موجة الاحتجاجات العام الماضي للسجناء السياسيين المحتجزين داخل سجن إيفين سيئ السمعة في طهران. ومرة أخرى، تولت السيدة محمدي القيادة. وأعربت من السجن عن دعمها للمتظاهرين ونظمت أعمال تضامن بين زملائها السجناء. وردت سلطات السجن بفرض شروط أكثر صرامة. فمُنعت السيدة محمدي من استقبال المكالمات والزوار. ومع ذلك، تمكنت من تهريب مقال نشرته صحيفة نيويورك تايمز في الذكرى السنوية الأولى لمقتل ماهسا جينا أميني. وكانت الرسالة: “كلما زاد عدد السجناء منا، أصبحنا أقوى”. ومن السجن، ساعدت نرجس في استمرارية زخم الاحتجاجات.

خطاب نرجس من داخل السجن

كنت أنا وزملائي السجينات مجتمعين في جناح النساء بسجن إيفين في طهران ذات مساء عندما شاهدنا تقريرًا تلفزيونيًا عن وفاة مهسا أميني. لقد مر يوم السبت قبل عام على وفاتها أثناء احتجازها من قبل شرطة الأخلاق الإيرانية بزعم عدم ارتداء الحجاب المناسب. أدى موتها إلى اندلاع انتفاضة فورية وواسعة النطاق – بقيادة النساء – هزت البلاد.

في جناح النساء، امتلأنا بالحزن والغضب. استخدمنا مكالماتنا الهاتفية القصيرة لجمع المعلومات. وفي الليل، كنا نجتمع لتبادل الأخبار التي سمعناها. كنا عالقين في الداخل، لكننا فعلنا ما في وسعنا لرفع أصواتنا ضد النظام. وصل الغضب إلى ذروته بعد بضعة أسابيع، عندما اجتاح حريق جزءًا من سجن إيفين في 15 أكتوبر/تشرين الأول. وهتفنا “الموت للجمهورية الإسلامية” وسط إطلاق النار من قوات الأمن والانفجارات وألسنة اللهب. قتل ثمانية أشخاص على الأقل. وتم اعتقال آلاف الأشخاص الذين كانوا يحتجون على وفاة السيدة أميني في الأشهر التي تلت ذلك.

ومع اقتراب الذكرى السنوية لوفاتها، عمل قادة إيران على قمع المعارضة. لقد سُجنت في سجن إيفين ثلاث مرات منذ عام 2012 بسبب عملي كمدافعة عن حقوق الإنسان، لكنني لم أر قط عددًا كبيرًا من المسجونين الجدد في جناح النساء هناك كما حدث في الأشهر الخمسة الماضية. كما امتلأت أجنحة النساء الأخرى.

من خلال أصدقائي في سجن قرجك جنوب شرق طهران، علمت بوجود حوالي 1400 معتقل جديد محتجزين هناك. وتم إرسال نساء أخريات إلى أجنحة أمنية مشددة، بما في ذلك قسم إيفين 209، الذي تديره المخابرات. وأخبرتنا إحدى المعتقلات، التي تم نقلها إلى سجن إيفين من سجن عادل آباد في شيراز، عن مئات المعتقلات الجدد في عادل آباد.

ما قد لا تفهمه الحكومة هو أنه كلما زاد عدد السجناء منا، أصبحنا أقوى. والمعنويات بين السجناء الجدد مرتفعة. وتحدث البعض بسهولة غريبة عن كتابة وصاياهم قبل النزول إلى الشوارع للمطالبة بالتغيير. كلهم، بغض النظر عن كيفية اعتقالهم، كان لديهم مطلب واحد: إسقاط نظام الجمهورية الإسلامية.

خلال الأشهر الأخيرة، التقيت بالعديد من السجينات اللاتي تعرضن للضرب والكدمات، وكُسرت عظامهن، وتعرضن للاعتداء الجنسي. لقد بذلت قصارى جهدي لتوثيق هذه المعلومات ومشاركتها. ومع ذلك، فإننا نواصل رفع أصواتنا. لقد أصدرنا بيانات وعقدنا اجتماعات عامة واعتصامات بعد أنباء المظاهرات الحاشدة والقتل والإعدامات في الشوارع. لقد حاولت المؤسسات الأمنية والقضائية ترهيبنا وإسكاتنا من خلال قطع مكالماتنا الهاتفية واجتماعاتنا الأسبوعية مع عائلاتنا، أو من خلال رفع دعاوى قضائية جديدة ضدنا.

في الأشهر السبعة الماضية، فتحوا ست قضايا جنائية جديدة بشأن أنشطتي في مجال حقوق الإنسان في السجن، وأضافوا عامين وثلاثة أشهر إلى عقوبتي، التي تبلغ الآن 10 سنوات وتسعة أشهر. لقد بدأت حملتي الانتخابية في إيران منذ 32 عامًا عندما كنت طالبًا. كان هدفي في ذلك الوقت هو محاربة الاستبداد الديني، الذي أدى، إلى جانب التقاليد والعادات الاجتماعية، إلى قمع عميق للنساء في هذا البلد. لا يزال هذا هدفي.

الآن، بعد رؤية الجهود الرائدة التي بذلتها الشابات والفتيات خلال هذه الحركة الثورية، أشعر أن أحلامي وأهدافي النسوية أصبحت أقرب إلى التحقيق. لقد برزت النساء كطليعة لهذه الانتفاضة، وأظهرن شجاعة ومقاومة هائلة، حتى في مواجهة العداء والعدوان المتزايد من النظام الاستبدادي الديني.
في الماضي، قبل وفاة السيدة أميني، سمعت بعض الروايات عن اعتداءات جنسية ضد النساء داخل سجونهن، لكنني لم أشهد شخصيًا هذا العدد من الضرب والإصابات التي تهدد الحياة، ولم أواجه قصص الاعتداء والتحرش الجنسي. بهذا الحجم. ويبدو أن النظام ينشر عمدا ثقافة العنف ضد المرأة. ومع ذلك، لن تكون قادرة على ترهيبهم أو كبح جماحهم. المرأة لن تستسلم.

إن إرادة البقاء تغذينا، سواء كنا داخل السجن أو خارجه. وقد يؤدي القمع العنيف والوحشي الذي تمارسه الحكومة في بعض الأحيان إلى إبعاد الناس عن الشوارع، لكن نضالنا سيستمر حتى اليوم الذي يطغى فيه النور على الظلام وتعانق شمس الحرية الشعب الإيراني.”

نرجس محمد
نشر هذا الخطاب في New york times بتاريخ 16 سبتمبر 2023 بعنوان: “كلما حبسونا، أصبحنا أقوى”

لم منحت جائزة نوبل في السلام 2023 برأي اللجنة؟

نرجس محمدي امرأة ومدافعة عن حقوق الإنسان ومناضلة من أجل الحرية. بمنحها جائزة نوبل للسلام لهذا العام، ترغب لجنة نوبل النرويجية في تكريم كفاحها الشجاع من أجل حقوق الإنسان والحرية والديمقراطية في إيران.

كما تُكرّم جائزة السلام لهذا العام أيضًا مئات الآلاف من الأشخاص الذين تظاهروا في العام السابق ضد سياسات التمييز والقمع التي ينتهجها النظام الإيراني والتي تستهدف النساء. ولن يتسنى للعالم أن يحقق الأخوة بين الأمم التي سعى ألفريد نوبل إلى تعزيزها إلا من خلال تبني حقوق متساوية للجميع.

تتبع جائزة نرجس محمدي تقليدًا طويلًا، حيث منحت لجنة نوبل النرويجية جائزة السلام لأولئك الذين يعملون من أجل تعزيز العدالة الاجتماعية وحقوق الإنسان والديمقراطية. وهذه شروط مسبقة هامة للسلام الدائم.

المصدر: بيان لجنة جائزة نوبل 2023

اقرأ أيضًا:

لم حازت النقاط الكمومية على جائزة نوبل للكيمياء لعام 2023؟

تخيل بلورة نانوية صغيرة جدًا لدرجة أنها تتصرف مثل الذرة. هذا ما حصل بسببه كل من مونجي جي. باوندي، ولويس إي. بروس، وأليكسي إيكيموف على جائزة نوبل في الكيمياء لعام 2023. إذ اكتشف الثلاثي فئة من هذه الأعاجيب الدقيقة، المعروفة الآن باسم “النقاط الكمومية”، وقد حصلوا على الجائزة عن تطويرهم طريقة دقيقة لتركيبها. فما هي النقاط الكمومية؟

نبذة موجزة عن النقاط الكمومية

تسمى النقاط الكمومية أحيانًا بالذرات الاصطناعية، فهي عبارة عن بلورات نانوية دقيقة مصنوعة من السيليكون ومواد شبه موصلة أخرى. يبلغ عرض النقطة الكمومية بضعة نانومترات فقط، وهي صغيرة بما يكفي لإظهار خصائص كمومية تمامًا كما تفعل الذرات الفردية، على الرغم من أن حجمها يصل إلى مائة أو بضعة آلاف من الذرات. ونظرًا لإمكانية احتجاز الإلكترونات عند مستويات معينة من الطاقة داخلها، فإن البلورات النانوية قادرة على أن تبعث أطوال موجية معينة من الضوء. ومن خلال التحكم في حجم الجسيمات، يستطيع الباحثون برمجة اللون الدقيق الذي ستومض به النقاط الكمومية عند تحفيزها.

أوضح هاينر لينكه، عضو لجنة نوبل للكيمياء وأستاذ فيزياء النانو، أن ميكانيكا الكم تتنبأ بأنه إذا أخذت إلكترونًا وضغطته في مساحة صغيرة، فسيتم ضغط الدالة الموجية للإلكترون. وكلما صغرت المساحة، زادت طاقة الإلكترون، مما يعني أنه يمكن أن يعطي المزيد من الطاقة للفوتون.

في جوهر الأمر، يحدد حجم النقطة الكمومية اللون الذي ستتلون هي به. وتلمع الجسيمات الصغيرة باللون الأزرق، بينما تلمع الجسيمات الأكبر باللونين الأصفر والأحمر.[1]

سباق تجاه عالم النانو

لفترة طويلة، اعتقد الناس أنه من المستحيل تصغير الجسيمات لهذه الدرجة، لكن الفائزين هذا العام نجحوا في ذلك. ففي عام 1981 في معهد فافيلوف الحكومي للبصريات في الاتحاد السوفييتي، كان إيكيموف أول شخص ينجح في ذلك من خلال إضافة النحاس والكلور إلى الزجاج. وقد أظهر كلوريد النحاس قدرة على التشكّل في هيئة بلورات نانوية على يدي إيكيموف، وبدا لون الزجاج مرتبط بحجم الجزيئات.

وفي عام 1983، في مختبرات بيل، كشف بروس ثاني أسرار هذه الجسيمات، التي طفت بحريّة في محلول سائل أثناء تجاربه على استخدام الضوء لتحفيز التفاعلات الكيميائية. وقد لاحظ بروس، أن الحجم يغير الخصائص البصرية للجسيمات النانوية. أثارت هذه الخاصية الكثير من الاهتمام! ولم تغب الفائدة الإلكترونية الضوئية المحتملة لمثل هذه الجسيمات عن خبراء التكنولوجيا، الذين حذوا حذو مارك ريد من جامعة ييل في الإشارة إليها باسم “نقاط كمومية”. لكن على مدار العقد التالي، ناضل الباحثون للتحكم بدقة في حجم وجودة هذه الجسيمات.

وفي عام 1993، اخترع باويندي طريقة كيميائية بارعة لصنع جسيمات نانوية مثالية. لقد كان قادرًا على التحكم في اللحظة الزمنية المحددة التي تتشكل فيها البلورات. ثم تمكن من التحكم في إيقاف واستئناف نمو حجم تلك البلورات. وقد أكسبت اكتشافاته النقاط الكمومية فوائد كبيرة على نطاق واسع في مجموعة متنوعة من التطبيقات.

نموذج الصندوق ذو البئر الجهدي اللانهائي

على مدى العقود الماضية، عندما أصبحت أجهزة أشباه الموصلات أصغر حجمًا، استاء الفيزيائيون بشكل متزايد من ميكانيكا الكم. وعلى وجه الخصوص، يبدو أن بعض الأفكار البسيطة حول الذرات والجزيئات تفسر الخصائص التي تبدو غريبة لأجهزة أشباه الموصلات المصنعة صناعيًا. أحد هذه الأجهزة هو هيكل “النقطة الكمومية”. هذا الهيكل هو في الأساس صندوق صغير يحتوي على عدد صغير قابل للزيادة والنقصان من الإلكترونات. بسبب صغر حجمه وطاقته المنخفضة، يمكن لصندوق الإلكترونات هذا أن يحمل خصائص ذرية. على سبيل المثال، تغيير عدد الإلكترونات في النقطة الكمومية بواحد يكلف طاقة محدودة وقابلة للقياس، وهي مماثلة لطاقة التأين للذرة.

ولشرح ما المقصود بالسابق علينا شرح مايسمي ب الجسيم داخل صندوق ذو بئر جهدي لا نهائي” أو “Confined motion: particle in a box”. هو مفهوم يستخدم في ميكانيكا الكم لوصف حركة جسيم داخل مجال محصور ضيق ومحاط بحائط غير قابل للنفاذ. ويستخدم هذا النموذج لشرح الفارق بين ميكانيكا الكم والميكانيكا الكلاسيكية. حيث تتناسب الأولى مع الأنظمة الكمومية متناهية الصغر، مثل الذرات والجسيمات الأساسية. في حين تنطبق الثانية على الأشياء الكبيرة.

في النظم التقليدية، يمكن للجسيم الحركة بأي سرعة داخل الصندوق، واحتمال وجوده في أي مكان داخله متساوٍ. ولكن عندما يكون الصندوق متناهي الصغر بأبعاد نانومترية، تصبح التأثيرات الكمومية مهمة، وتحدد تصرفات الجسيم. ويبدأ الجسيم في اتخاذ مستويات طاقة معينة داخل الصندوق.

تكوين النظام وشروطه

في هذا السياق، نتحدث عن جسيم مثل الإلكترون. هذا الجسيم يمكن أن يكون محاصرًا داخل منطقة معينة ومحددة تسمى “صندوق”. هذا الصندوق يكون ذا أبعاد محددة، مثل مربع أو مستطيل. و يتألف النظام من نموذج بئر أحادي الأبعاد ويحتوي على جسيم يتحرك بحرية. على سبيل المثال، يمكن أن نتخيل الإلكترون محبوسًا بين جدران ذات جهدين عاليين و يمكن التنقل بينهما.

في الرسم التوضيحي، يُمثل الجدران بوضوح بوجود حائطين، أحدهما عند الموقع x=0 والآخر عند الموقع x=L، والحائطان متوازيان. يفترض هذا النموذج أنه لا توجد قوى داخل الصندوق تؤثر على الجسيم، مثل قوة الجاذبية أو المجال الكهرومغناطيسي، وأن عرض الصندوق هو L. و بما أن الجهد خارج الصندوق كبير لا نهائي، فإن الجسيم لا يمكنه مغادرة الصندوق. وبناءً على ذلك، سيتحرك الجسيم داخل الصندوق بسرعة ثابتة v وقد يصطدم بالجدران وينعكس دون فقدان أي جزء من طاقته.

لغز الإلكترون

الآن، لنتخيل أننا نراقب الإلكترون داخل الصندوق ونقوم بقياس طاقته، هنا سنكتشف شيئًا مدهشًا! الإلكترون لا يمكنه أن يأخذ أي قيمة حُرة للطاقة. بالأحرى، يمكنه فقط أخذ بعض القيم المعينة والمحددة للطاقة. هذا يعني أنه عندما نقوم بقياس طاقة الإلكترون في الصندوق، سنجد أن الإلكترون يمكنه أن يمتلك قيم معينة فقط، مثل 1 و 2 و 3 وهكذا. ولا يمكن للإلكترون في هذه الحالة أن يأخذ أي قيمة طاقة بين هذه القيم، مثل 1.5 أو 1.9. أي أن القيم محددة Quantized وليست متصلة، و هذا ما يسمى بـ “تقانات الطاقة المتجانسة” في ظاهرة الجسيم في صندوق.

بناءً على ذلك، يتخذ الجسيم مواضع محددة داخل الصندوق. حيث يكون عرض الصندوق L مساويًا لمضاعفات نصف طول الموجة، مما يؤدي إلى انعكاس الموجة على الجدران بحيث تتشكل موجة ثابتة. أما إذا كانت L ليست مضاعفة لنصف طول الموجة، فعند انعكاس الموجة، ستتداخل الموجات بشكل هدّام وتتلاشى. هذه نتيجة من نتائج ميكانيكا الكم، حيث يتخذ الجسيم داخل الصندوق مستويات طاقة معينة تعتمد على عدد رئيسي n.

بسبب وجود الجسيم داخل صندوق ذو جهد محدد، يكون لزامًا عليه اتخاذ حالات معينة مرتبطة بعدد صحيح n. وعلى ذلك، يكون للجسيم القدرة فقط على اعتماد مجموعة محددة من الطاقات تعتمد على القيم المحددة لـ n. فإذا أثير الجسيم – مثلما يحدث للإلكترون عند إثارته في الذرة عن طريق امتصاصه لطاقة من الخارج – فإن الإلكترون يقفز من مستوي طاقة الموجود فيه إلى مستوى طاقة أعلى، فيما يسمى قفزة كمومية. وعندما يقفز الإلكترون من مستوى طاقة عالي إلى مستوى طاقة منخفض فإنه يطلق الطاقة الزائدة في شكل فوتون له طاقة موجية محددة (لون محدد). وهذا يظهر لنا كيف تتصرف الجسيمات على مستوى النانومتر في عالم الكمومية، حيث يكون لها قيم معينة ومحددة للطاقة. وتلك الدوال الموجية والطاقات المحددة تلعب دورًا مهمًا في فهم النقاط الكمومية أو Quantum dots.

ما هي النقاط الكمومية أو Quantum Dots؟

إنها جسيمات نانوية من صنع الإنسان صغيرة جدًا بحيث تخضع خصائصها لميكانيكا الكم السابق ذكرها. فمن الممكن اعتبار النقط الكمية بأنها مثل تلك الصناديق ذو البئر الجهدي السابق وصفها. وبناءًا على حجم الصندوق، لا ينبعث منها سوى أطوال موجية محددة تبعًا لإثارتها. وتشمل هذه الخصائص انبعاث الضوء، حيث يعتمد الطول الموجي للضوء المنبعث فقط على حجم الجسيمات. وتمتلك الإلكترونات الموجودة في الجسيمات الأكبر طاقة أقل فتبعث ضوءًا أحمر، في حين أن الإلكترونات الموجودة في الجسيمات الأصغر لديها طاقة أكبر، فتصدر ضوءًا أزرق.

لويس بروس وسحر الألوان الكمية

اكتشف لويس بروس هذا التباين اللوني أثناء عمله في مختبرات بيل في الولايات المتحدة. حيث استهدف بروس إجراء تفاعلات كيميائية باستخدام الطاقة الشمسية. ولتحقيق ذلك، لجأ بروس لجزيئات كبريتيد الكادميوم، التي يمكنها التقاط الضوء، ومن ثم استخدم طاقته لتحفيز التفاعلات.

وضع بروس الجسيمات في محلول ليجعلها صغيرة جدًا، فتعطيه مساحة أكبر لإحداث التفاعلات الكيميائية فيها. وأثناء عمله على هذه الجسيمات الصغيرة، لاحظ بروس شيئًا غريبًا! لقد تغيرت الخصائص البصرية للجسيمات بعد أن تركها على طاولة المختبر لفترة من الوقت! خمن بروس أن نمو الجسيمات قد يكون السبب، ولتأكيد شكوكه، أنتج جسيمات كبريتيد الكادميوم التي يبلغ قطرها حوالي 4.5 نانومتر فقط. بعد ذلك، قارن بروس الخصائص البصرية لهذه الجسيمات المصنوعة حديثًا مع تلك الخاصة بالجسيمات الأكبر حجمًا، والتي يبلغ قطرها حوالي 12.5 نانومتر. امتصت الجسيمات الأكبر الضوء بنفس الأطوال الموجية التي يمتصها كبريتيد الكادميوم عمومًا. لكن الجسيمات الأصغر كان لها امتصاص تحول نحو اللون الأزرق.

أدرك بروس حينها أنه لاحظ تأثيرًا كمّيًا يعتمد على الحجم، فنشر اكتشافه في عام 1983. ثم بدأ في فحص الجزيئات المصنوعة من مجموعة من المواد الأخرى، وكان النمط هو نفسه. فكلما كانت الجسيمات أصغر، كلما كان الضوء الذي تمتصه أكثر زرقة.

يمكن للباحثين أن يحددوا بدقة لون الضوء الذي سينبعث من النقاط الكمومية ببساطة عن طريق تنظيم حجمها. وهذا يوفر ميزة كبيرة مقارنة باستخدام الأنواع الأخرى من جزيئات الفلوروسنت، والتي تتطلب نوعًا جديدًا من الجزيئات لكل لون مميز. ولا تقتصر هذه الميزة في إمكانية التحكم على لون النقاط الكمومية فحسب. فبجانب إمكانية ضبط حجم الجسيمات النانوية، يمكن للباحثين أيضًا ضبط تأثيراتها الكهربائية والضوئية والمغناطيسية. كل ذلك بالإضافة إلى خصائصها الفيزيائية مثل نقطة انصهارها أو كيفية تأثيرها على التفاعلات الكيميائية. [3]

كيف جعل عمل باوندي النقاط الكمومية عملية؟

في عام 1993، طوّر باوندي وفريقه في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا طريقة لإنتاج النقاط الكمومية بشكل أكثر دقة وبجودة أعلى مما كان ممكنا. لقد وجدوا طريقة لتنمية البلورات النانوية في لحظة عن طريق حقن سلائفها الكيميائية في مذيب شديد الحرارة. كما تمكن الباحثون من إيقاف نمو البلورات بشكل فوري عن طريق خفض درجة حرارة المذيب، مما أدى إلى تكوين “بذور” بلورية متناهية الصغر. ومن خلال إعادة تسخين المحلول ببطء، تمكنوا من تنظيم عملية نمو البلورات النانوية. أنتجت طريقتهم بلورات بالحجم المطلوب، وكانت قابلة للتكيف مع أنظمة مختلفة.

فيم تستخدم النقاط الكمومية؟

بعد مرور ثلاثين عامًا، أصبحت النقاط الكمومية الآن جزءًا مهمًا من مجموعة أدوات تكنولوجيا النانو، وهي موجودة اليوم في عدد من المنتجات التجارية.

يتم استخدام الخصائص المضيئة للنقاط الكمومية في شاشات الكمبيوتر والتلفزيون بناءً على تقنية QLED، حيث يرمز حرف Q إلى النقطة الكمومية Quantum dots. في هذه الشاشات، يتم توليد الضوء الأزرق باستخدام “الدايودات الموفرة للطاقة” والتي تم منح جائزة نوبل في الفيزياء لعام 2014 عنها بالفعل. وتستخدم النقاط الكمومية لتغيير لون بعض الضوء الأزرق، وتحويله إلى اللون الأحمر أو الأخضر. هذه القدرة على التحكم قادرة على إنتاج الألوان الأساسية الثلاثة للضوء RGB (الأحمر والأخضر والأزرق) المطلوبة في شاشة التلفزيون.

يمكن أيضًا استخدام الضوء الصادر عن النقاط الكمومية في الكيمياء الحيوية والطب. حيث يربط علماء الكيمياء الحيوية النقاط الكمومية بالجزيئات الحيوية لرسم خريطة للخلايا والأعضاء. كما بدأ الأطباء في دراسة إمكانية استخدام النقاط الكمومية لتتبع أنسجة الورم في الجسم.

يستخدم الكيميائيون بدلاً من ذلك الخصائص التحفيزية للنقاط الكمومية لدفع التفاعلات الكيميائية. وبالتالي فإن النقاط الكمومية تحقق فائدة عظيمة للبشرية، وقد بدأنا للتو في استكشاف إمكاناتها. ويعتقد الباحثون أن النقاط الكمومية يمكن أن تساهم في المستقبل في الإلكترونيات المرنة، وأجهزة الاستشعار الصغيرة، والخلايا الشمسية الأقل حجما، وربما الاتصالات الكمومية المشفرة. هناك شيء واحد مؤكد، وهو أنه لا يزال هناك الكثير لنتعلمه عن الظواهر الكمومية المذهلة.

المصادر:

1-Nobel Prize
2-Particle in a box
3-Quanta Magazine

لماذا كانت النبضات الضوئية القصيرة السبب في الفوز بجائزة نوبل للفيزياء 2023؟

نال كل من الفرنسي بيير أغوستيني والمجري النمساوي فيرينك كراوس والفرنسية آن لويلير جائزة نوبل في الفيزياء لسنة 2023، وذلك لإسهاماتهم في دراسة حركة الإلكترونات باستخدام التحليل الطيفي فائق السرعة (بالأتوثانية أي 10-18 ثانية). فلماذا استحق هؤلاء العلماء جائزة نوبل للفيزياء وكيف يمكن أن تؤثر إسهاماتهم في تطور علم الفيزياء؟

النبضات الضوئية القصيرة سر تتبع حركة الإلكترونات والجزيئات

عندما خط هايزبرغ مبدأه المشهور عن عدم اليقين، كان من المستحيل تتبع حركة الإلكترونات داخل الذرات. فالإلكترونات تتحرك بمقدار يفوق النبضة الضوئية بمليون مرة. لذلك، فقد رجَّح العديد من الفيزيائيين استحالة رصد حركة الإلكترونات في ذرات. ومع التطور التكنولوجي، صار بالإمكان إنتاج نبضات أقصر، مهدت لدراسة أعمق لحركة الجزيئات والتفاعلات الكيميائية، والتي نال بسببها العالم المصري أحمد زويل جائزة نوبل للكيمياء سنة 1994. لكن حركة الإلكترونات تحتاج إلى نبضات أتوثانية من أجل رصدها.

النبضات الأتوثانية

في سنة 1980، قامت عدة بحوث لتفسير ظاهرة التأين متعدد الفوتونات. وفي أحد هذه التجارب، سلّط فريق بحثي ليزرًا للموجات تحت الحمراء نحو غاز خامل. لاحظ العلماء نمطًا غريبًا للتوافقيات (الإشارات) العالية المحصل عليها، إذ كانت شدة التوافقيات تنخفض بشكل حاد في البداية، ثم تستقر في حد معين، قبل أن تبدأ مجدداً في الانخفاض (الشكل 1). حاول بعض الباحثين استغلال هذا النمط في تحديد النطاق الترددي الذي يجب استخدامه من أجل الحصول على نبضات أتوثانية. لكن فكرة استحالة ذلك مبدئياً، كانت لا تزال تطغى على الأجواء.

الشكل 1: نمط التوافقيات العالية المحصل عليها أثناء التجربة

 في سنة 1991، وضعت آن لويلير مع فريقها البحثي الأسس النظرية لفهم كيفية إنتاج التوافقيات العالية وتوقعت على نحو دقيق أنماطها. ثم ظهر بعدها نموذج يشرح كيفية إنتاج نبضات أتوثانية اعتمادًا على التوافقيات العالية والذي قامت آن باستغلاله وتطبيقه في أواخر التسعينيات. يقسم النموذج مراحل إنتاج النبضات الأتوثانية إلى ثلاث مراحل. في المرحلة الأولى، يعمل المجال الكهرمغناطيسي لليزر على تأيين ذرات الغاز، المسلط عليه، عن طريق ظاهرة النفق الكمومي. بعدها، يسرع هذا المجال الكهرمغناطيسي الإلكترون بعيدًا عن مداره. ثم يعيده مرة أخرى إلى مكانه الأصلي مع تحرير طاقة على فوتون فوق بنفسجي، والذي يمثل نبضة أتوثانية -كما موضح بالصورة أدناه-.

الشكل2: إنتاج نبضة أتوثانية عبر ثلاث مراحل

مدة النبضات الأتوثانية

بعد إنتاج النبضات الأتوثانية، صار اهتمام العلماء منصبًا حول تطوير طرق لقياس مدة النبضة. فطور كل من أغوستيني وكراوس طريقتين مختلفتين لقياس هذه المدة. وفي سنة 2001 نجح كلاهما بإنتاج نبضات أتوثانية، حيث أنتج أغوستيني حزمة من النبضات مدتها 250 أتوثانية. بينما نجح كراوس في إنتاج أول نبضة معزولة مدتها 650 أتوثانية. بالإضافة إلى هذا، كان لهذا الأخير السبق في استخدام النبضات الأتوثانية في دراسة حركة الإلكترونات.

دراسة التأثير كهرضوئي بالنبضات الأتوثانية

منذ تفسير أينشتاين لظاهرة التأثير الضوئي، دأب العلماء على الاعتقاد أن هذه الظاهرة آنية. لكن مع ظهور النبضات التوثانية، تمكن العلماء من ملاحظة تأخر زمني للإلكترونات المنبعثة لوسط ما عند امتصاصه لأشعة الليزر. وقد تمكن كل من فيرينس كراوس وآن لويلييه من ملاحظة هذا التأخر، حيث وجدوا أن الإلكترونات التي تنبعث من المدارات الخارجية للذرات تتأخر عن تلك التي تنبعث من المدارات الداخلية.

في الختام، بفضل الإسهامات التي  قدمها هؤلاء العلماء، صار بالإمكان اكتشاف ظواهر فيزيائية جديدة، يمكن أن تغير نظرتنا لهذا العالم.

المصادر

Nobel Prize

لماذا فاز وايزمان وكاريكو بجائزة نوبل الطب 2023 ؟

قررت جمعية نوبل منح جائزة نوبل الطب 2023 لكلا من الهنجارية الأمريكية “كاتالين كاريكو” والأمريكي “درو وايزمان” لاكتشافاتهما المتعلقة بتعديلات قاعدة النيوكليوزيد التي مكنت من تطوير لقاحات mRNA فعالة ضد كوفيد-19.

كانت اكتشافات الفائزين بجائزة نوبل الطب 2023 حاسمة لتطوير لقاحات mRNA فعالة ضد كوفيد-19 خلال الوباء الذي بدأ في أوائل عام 2020. ومن خلال النتائج الرائدة التي توصلوا إليها، والتي غيرت فهمنا بشكل أساسي لكيفية تفاعل mRNA مع جهاز المناعة لدينا، ساهم الفائزان في المعدل السريع غير المسبوق لتطوير اللقاحات أثناء أحد أكبر التهديدات لصحة الإنسان في العصر الحديث.

اللقاحات قبل الوباء

يحفز التطعيم تكوين استجابة مناعية لمسببات مرضية معينة. وتلك الاستجابة المناعية تمنح الجسم القدرة على مكافحة المرض في حالة التعرض له لاحقًا كأنها ذاكرة مناعية. وكانت اللقاحات القائمة على الفيروسات الميتة أو المضعفة متاحة منذ فترة طويلة، وتمثلت في اللقاحات ضد شلل الأطفال والحصبة والحمى الصفراء. وفي عام 1951، حصل ماكس ثيلر على جائزة نوبل في الفسيولوجيا أو الطب لتطوير لقاح الحمى الصفراء.

بفضل التقدم في البيولوجيا الجزيئية في العقود الأخيرة، تم تطوير لقاحات تعتمد على مكونات فيروسية فردية، وليس فيروسات كاملة. إذ تستخدم أجزاء من الشفرة الوراثية الفيروسية، والتي عادةً ما تشفر البروتينات الموجودة على سطح الفيروس، في صنع البروتينات التي تحفز تكوين الأجسام المضادة التي تحجب الفيروس. ومن الأمثلة على ذلك اللقاحات ضد فيروس التهاب الكبد B وفيروس الورم الحليمي البشري. وبدلاً من ذلك، تمكن العلماء من نقل أجزاء من الشفرة الوراثية الفيروسية إلى فيروس حامل غير ضار، “ناقل”. وتستخدم هذه الطريقة في اللقاحات ضد فيروس الإيبولا حاليًا. فعندما يتم حقن لقاحات الشفرة الوراثية الفيروسية، ينتج الجسم البروتين الفيروسي المحدد في خلايانا، مما يحفز الاستجابة المناعية ضد الفيروس المستهدف.

يتطلب إنتاج لقاحات كاملة تعتمد على الفيروسات والبروتينات والنواقل تطوير لتقنيات زراعة الخلايا على نطاق واسع. وتحد هذه العملية كثيفة الاستخدام للموارد من إمكانيات الإنتاج السريع للقاحات استجابةً لتفشي الأوبئة والأمراض. لذلك، حاول الباحثون منذ فترة طويلة تطوير تقنيات لقاحات مستقلة عن زراعة الخلايا، لكن ثبت أن ذلك يمثل تحديًا.

لقاحات mRNA فكرة واعدة

في خلايانا، يتم نقل المعلومات الوراثية المشفرة في الحمض النووي إلى الحمض النووي الريبوزي المرسال (mRNA)، والذي يستخدم كقالب لإنتاج البروتين. خلال الثمانينات، تم تقديم طرق فعالة لإنتاج mRNA بدون زراعة الخلايا، وسميت النسخ المختبري. أدت هذه الخطوة الحاسمة إلى تسريع تطوير تطبيقات البيولوجيا الجزيئية في العديد من المجالات. وانطلقت منذ ذلك الحين أيضًا أفكار استخدام تقنيات mRNA لأغراض اللقاحات والعلاج، ولكن لا تزال هناك حواجز في الطريق. كان الرنا المرسال المنسوخ في المختبر غير مستقر ويشكل تحديًا في إيصاله للمواقع المستهدفة، مما يتطلب تطوير أنظمة دهنية حاملة متطورة لتغليف الرنا المرسال كي لا يتعرض لمهاجمة الخلايا المناعية البشرية فتدمره. علاوة على ذلك، أدى mRNA المنتج في المختبر إلى حدوث تفاعلات التهابية ومناعية بالفعل. لذلك كان الحماس لتطوير تقنية mRNA للأغراض السريرية محدودًا في البداية. لم يكن أحد يعلم حينها أن تقنية كهذه قد تنقذ العالم يومًا ما أو تحصل على نوبل الطب 2023 بالتأكيد!

لكن لم تثبط هذه العقبات عزيمة عالمة الكيمياء الحيوية المجرية “كاتالين كاريكو”، التي كرست جهودها لتطوير طرق لاستخدام الحمض النووي الريبوزي المرسال في العلاج. فخلال أوائل التسعينيات، عندما كانت أستاذة مساعدة في جامعة بنسلفانيا، ظلت وفية لرؤيتها المتمثلة في تحويل mRNA كسلاح علاجي، رغم صعوبة إقناع ممولي الأبحاث بأهمية مشروعها. وقد كان زميل كاريكو الجديد في جامعتها هو عالم المناعة درو وايزمان. كان وايزمان مهتمًا بالخلايا الجذعية، التي لها وظائف مهمة في المراقبة المناعية وتنشيط الاستجابات المناعية الناجمة عن اللقاح. وسرعان ما بدأ تعاون مثمر بين الاثنين، مدفوعًا بأفكار جديدة، مع التركيز على كيفية تفاعل أنواع مختلفة من الحمض النووي الريبوزي (RNA) مع الجهاز المناعي.

كشف مذهل استحق نوبل الطب 2023

لاحظ كاريكو ووايزمان أن الخلايا الجذعية تتعرف في المختبر على الحمض النووي الريبوزي المرسال (mRNA) المنسوخ باعتباره مادة غريبة. مما يؤدي إلى تنشيط الخلايا الجذعية وإطلاق جزيئات الإشارة الالتهابية، وبذلك تمكنوا من تفسير المشكلة التي تواجه الmRNA. تساءل الباحثان عن سبب التعرف على الرنا المرسال (mRNA) المنقول في المختبر على أنه جسم غريب في حين أن الرنا المرسال (mRNA) المستخلص من خلايا الثدييات لم يؤد إلى نفس الاستجابة الالتهابية! أدرك كاريكو ووايزمان أن هناك بعض الخصائص المهمة غير المكتشفة تميز الأنواع المختلفة من الرنا المرسال.

يحتوي الحمض النووي الريبوزي (RNA) على أربع قواعد، مختصرة A وU وG وC، وتتوافق مع A وT وG وC في الحمض النووي، وهي حروف الشفرة الوراثية. وقد عرف كاريكو ووايزمان أن القواعد الموجودة في الحمض النووي الريبوزي (RNA) المستخلص من خلايا الثدييات يتم “تعديلها كيميائيًا” في كثير من الأحيان. في حين أن الحمض النووي الريبوزي المرسال (mRNA) المنسوخ في المختبر ليس كذلك. إذن يبدو أن غياب القواعد “المُعدّلة” في الحمض النووي الريبي (RNA) المنسوخ في المختبر يحمل سرًا يمكنه أن يفسر التفاعل الالتهابي غير المرغوب فيه.

كشف سر نوبل الطب 2023

للتحقق من الفرضية، أنتج الباحثان أنواعًا مختلفة من mRNA، كل منها يحتوي على تغييرات كيميائية فريدة في قواعدها. وتم تعريض تلك الأنواع للخلايا الجذعية، وكانت النتائج مذهلة. نجح الباحثان في التغلب على الاستجابة الالتهابية بعد تضمين بعض التعديلات الأساسية في الحمض النووي الريبوزي المرسال. كان هذا بمثابة تغيير نموذجي في فهمنا لكيفية تعرف الخلايا على أشكال مختلفة من الرنا المرسال والاستجابة لها. أدرك كاريكو ووايزمان على الفور أن اكتشافهما كان له أهمية كبيرة في استخدام mRNA كعلاج. ونشرت هذه النتائج الرئيسية عام 2005، أي قبل خمسة عشر عامًا من ظهور جائحة كوفيد-19.

في مزيد من الدراسات التي نشرت في عامي 2008 و2010، أظهر كاريكو ووايزمان أن الرنا المرسال المعدّل أدى إلى زيادة إنتاج البروتين بشكل ملحوظ مقارنة بالرنا المرسال غير المعدل. وأن السبب في هذا التأثير يرجع إلى انخفاض تنشيط الإنزيم الذي ينظم إنتاج البروتين. ومن خلال اكتشافاتهما بأن التعديلات الأساسية أدت إلى تقليل الاستجابات الالتهابية وزيادة إنتاج البروتين، تمكن كاريكو وويسمان من إزالة العقبات الحاسمة في طريقهما إلى التطبيقات السريرية لـ mRNA.

لقاحات mRNA وإمكاناتها المذهلة!

بدأ الاهتمام بتكنولوجيا mRNA في التزايد، وفي عام 2010، كانت العديد من الشركات تعمل على تطوير هذه التقنية. وتمت متابعة اللقاحات ضد فيروس زيكا وفيروس كورونا المسبب لمتلازمة الشرق الأوسط التنفسية؛ ويرتبط الأخير ارتباطًا وثيقًا بـ SARS-CoV-2. وبعد تفشي جائحة كوفيد-19، تم تطوير لقاحين معدلين من الحمض النووي الريبوزي المرسال (mRNA) لتشفير البروتين السطحي لـ SARS-CoV-2 بسرعة قياسية. تم الإبلاغ عن تأثيرات وقائية تبلغ حوالي 95%، وتمت الموافقة على كلا اللقاحين في وقت مبكر من ديسمبر 2020.

إن المرونة والسرعة المذهلة التي تمكنا بها من تطوير لقاحات mRNA ضد الكورونا تمهد الطريق لاستخدام التقنية ذاتها أيضًا للقاحات ضد الأمراض المعدية الأخرى. وفي المستقبل، يمكن استخدام هذه التكنولوجيا لتوصيل البروتينات العلاجية وعلاج بعض أنواع السرطان.

تم تقديم العديد من اللقاحات الأخرى ضد الكورونا، بناءً على منهجيات مختلفة، بسرعة. وتم تقديم أكثر من 13 مليار جرعة لقاح لكوفيد-19 على مستوى العالم. لقد أنقذت اللقاحات حياة الملايين ومنعت الإصابة بأمراض خطيرة لدى آخرين، مما سمح للمجتمعات بالانفتاح والعودة إلى الظروف الطبيعية. ومن خلال اكتشافات كل من كاتيلين ووايزمان الأساسية لأهمية التعديلات الأساسية في الحمض النووي الريبوزي المرسال، ساهم الحائزان على جائزة نوبل لهذا العام بشكل حاسم في هذا التطور التحويلي خلال واحدة من أكبر الأزمات الصحية في عصرنا.

المصدر: البيان الصحفي لجائزة نوبل الطب 2023

بطاقة تعريفية للفائزان بجائزة نوبل الطب 2023

كالتالين كاريكو

ولدت كاتالين كاريكو عام 1955 في زولنوك بالمجر. وحصلت على درجة الدكتوراه من جامعة سيجد في عام 1982 وأجرت أبحاث ما بعد الدكتوراه في الأكاديمية المجرية للعلوم في زيجيد حتى عام 1985. ثم أجرت أبحاث ما بعد الدكتوراه في جامعة تيمبل، في فيلادلفيا، وجامعة العلوم الصحية، في بيثيسدا. وفي عام 1989، تم تعيينها كأستاذ مساعد في جامعة بنسلفانيا، حيث بقيت حتى عام 2013. ثم أصبحت نائبة رئيس ثم نائبة الرئيس الأولى في شركة BioNTech RNA Pharmaceuticals. ومنذ عام 2021، عملت أستاذة في جامعة سيجد وأستاذة مساعدة في كلية بيرلمان للطب في جامعة بنسلفانيا.

درو وايزمان

ولد درو وايزمان عام 1959 في ليكسينغتون، ماساتشوستس، الولايات المتحدة الأمريكية. حصل على درجة الماجستير والدكتوراه من جامعة بوسطن في عام 1987. وأجرى تدريبه السريري في مركز بيث إسرائيل ديكونيس الطبي في كلية الطب بجامعة هارفارد وأبحاث ما بعد الدكتوراه في المعاهد الوطنية للصحة. في عام 1997، أنشأ وايزمان مجموعته البحثية في كلية بيرلمان للطب بجامعة بنسلفانيا. وهو أستاذ عائلة روبرتس في أبحاث اللقاحات ومدير معهد بنسلفانيا لابتكارات الحمض النووي الريبي (RNA).

Exit mobile version