الكشف عن شبكة تفتح أسرار الوعي البشري!

لقرون عديدة، ناضل العلماء لفهم التلافيف المعقدة للوعي البشري، والذي هو جوهر وجودنا. اليوم، تلقي دراسة رائدة نشرت في مجلة Science Translational Medicine الضوء على الشبكات الغامضة للدماغ التي تحكم يقظتنا ووعينا الذاتي. حقق فريق من الباحثين من مستشفى ماساتشوستس العام ومستشفى بوسطن للأطفال، بقيادة الدكتور بريان إدلو والدكتورة هانا كيني، تقدمًا كبيرًا في رسم خرائط لشبكات الدماغ التي تدعم الوعي البشري. تكشف الدراسة عن “شبكة الإثارة الصاعدة الافتراضية” التي تربط جذع الدماغ، والمهاد، ومنطقة ما تحت المهاد، والدماغ الأمامي القاعدي، والقشرة الدماغية، مما يمكّن دماغنا من الحفاظ على حالة من اليقظة والوعي. اعتمد البحث المنشور على عقود من التقدم في تصوير الدماغ ورسم الخرائط، ويوفر أساسًا تشريحيًا عصبيًا لفهم الوعي البشري.

أجريت الدراسة في مستشفى ماساتشوستس العام ومستشفى بوسطن للأطفال، باستخدام تقنيات المسح بالرنين المغناطيسي المتقدمة وبيانات من مشروع Human Connectome. هذا الاكتشاف الرائع له آثار بعيدة المدى على تشخيص وعلاج المرضى الذين يعانون من إصابات خطيرة في الدماغ، ويفتح آفاقًا جديدة للبحث في الاضطرابات العصبية المرتبطة بتغير الوعي.

لغز الوعي

الدماغ البشري عبارة عن متاهة من الوصلات العصبية المعقدة، وفي جوهرها تكمن ظاهرة الوعي الغامضة. لعدة قرون، صارع الفلاسفة وعلماء الأعصاب وعلماء النفس السؤال التالي: ما هو الوعي، وكيف ينشأ من نشاط مليارات الخلايا العصبية؟ وقد ولّد هذا اللغز العميق عددًا كبيرًا من النظريات، بدءًا من مفهوم الروح عند اليونانيين القدماء وحتى نماذج علم الأعصاب الحديثة للمعلومات المتكاملة.

عندما نتنقل في تعقيدات الدماغ البشري، يصبح من الواضح أن الوعي ليس كيانًا واحدًا، ولكنه تجربة متعددة الأوجه تشمل الوعي والإدراك والانتباه والوعي الذاتي. ومما يزيد لغز الوعي تعقيدًا حقيقة أنه خاصية ناشئة لنشاط الدماغ وجانب أساسي من تجربتنا الذاتية.

تدور إحدى المناقشات الأكثر ديمومة في المجتمع العلمي حول مشكلة الوعي الصعبة، التي طرحها الفيلسوف ديفيد تشالمرز. تسعى هذه المشكلة إلى تفسير سبب وجود تجارب ذاتية لدينا من الأساس، ولماذا تتمتع بالطابع النوعي المحدد الذي تتمتع به. بمعنى آخر، لماذا نختبر العالم بهذه الطريقة، وما هو الأساس العصبي لهذه التجارب؟

عندما نتعمق أكثر في لغز الوعي، يصبح من الواضح أن العلاقة بين الدماغ والعقل أكثر تعقيدًا بكثير مما كنا نتصور سابقًا. إن الدماغ البشري، بما يقدر بنحو 86 مليار خلية عصبية وتريليونات من الوصلات، هو نظام معقد يتحدى التفسيرات المبسطة. لكشف ألغاز الوعي، يجب علينا الشروع في رحلة عبر متاهة وظائف الدماغ، واستكشاف العلاقات المعقدة بين مناطق الدماغ، والشبكات العصبية، والتجربة الذاتية.

في هذا المسعى، لجأ الباحثون إلى تقنيات التصوير العصبي المتقدمة، مثل التصوير بالرنين المغناطيسي عالي الدقة (MRI)، لرسم خريطة لاتصالات الدماغ المعقدة والكشف عن الارتباطات العصبية للوعي. وقد أدت هذه الجهود إلى اكتشافات كبيرة في فهمنا لوظيفة الدماغ، ولكن الرحلة قد بدأت للتو. بينما نواصل كشف لغز الوعي، قد نكشف أسرار الجانب الأكثر غموضًا وإبهارًا في التجربة الإنسانية.

تاريخ رسم خرائط الدماغ

تخيل أنك قادر على رسم المناطق المجهولة في الدماغ البشري، للكشف عن المسارات الخفية التي تجعلنا ما نحن عليه. هذا هو العالم الرائع لرسم خرائط الدماغ، وهو مجال تطور على مر القرون. من اليونان القديمة إلى تصوير الأعصاب في العصر الحديث، دفع السعي لفهم الدماغ البشري العلماء إلى دفع حدود الابتكار.

دعونا نعود بالزمن إلى القرن الخامس قبل الميلاد، عندما اقترح الطبيب اليوناني أبقراط أن الدماغ، وليس القلب، هو مقر الذكاء. وبالتقدم سريعًا إلى القرن السادس عشر، عندما قام عالم التشريح الفلمنكي أندرياس فيزاليوس بإنشاء أول رسومات تفصيلية لبنية الدماغ. لقد مهد هؤلاء الرواد الأوائل الطريق للأجيال اللاحقة من العلماء لاستكشاف شبكات الدماغ المعقدة.

شهد القرن العشرين تقدمًا كبيرًا في تطوير تخطيط كهربية الدماغ (EEG)، الذي يقيس النشاط الكهربائي للدماغ. وأعقب ذلك اختراع التصوير المقطعي المحوسب (CT) في السبعينيات، والذي مكن الباحثين من تصور البنية الداخلية للدماغ.

أدى ظهور التصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي (fMRI) في التسعينيات إلى إحداث ثورة في رسم خرائط الدماغ. من خلال الكشف عن التغيرات في تدفق الدم، سمح التصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي للعلماء برسم خريطة لنشاط الدماغ في الوقت الفعلي. وقد مكنت هذه القفزة التكنولوجية الباحثين من إنشاء خرائط تفصيلية لوظائف الدماغ، مما يكشف عن المسارات العصبية التي تكمن وراء الوعي البشري.

اليوم، أدى التقدم في عمليات التصوير بالرنين المغناطيسي عالية الدقة، مثل آلات تسلا السبعة المستخدمة في الدراسة الأخيرة، إلى رفع رسم خرائط الدماغ إلى مستويات غير مسبوقة من الدقة. من خلال تصور اتصالات الدماغ بدقة مكانية دون المليمترية، يمكن للباحثين الآن تحديد المسارات غير المرئية سابقًا التي تربط مناطق الدماغ المختلفة.

كشف شبكة الإثارة التصاعدية الافتراضية في الدماغ

شبكة الإثارة التصاعدية الافتراضية في الدماغ هي شبكة معقدة من اتصالات الدماغ التي تحافظ على اليقظة في الدماغ البشري الواعي والساكن. تتكون هذه الشبكة المعقدة من مسارات تربط بين جذع الدماغ، والمهاد، ومنطقة ما تحت المهاد، والدماغ الأمامي القاعدي، والقشرة الدماغية. ولكن كيف تعمل هذه المناطق المتميزة معًا للحفاظ على حالة وعينا؟

لفهم ذلك، دعونا نتعمق قليلا في مفهوم الشبكات “الافتراضية” داخل الدماغ. عندما يكون دماغنا في حالة راحة، تكون شبكات معينة أكثر نشاطًا، بينما تكون شبكات أخرى أقل نشاطًا. شبكة الإثارة الصاعدة الافتراضية في الدماغ هي إحدى هذه الشبكات، وهي مسؤولة عن الحفاظ على اليقظة في الدماغ الواعي أثناء الراحة.

باستخدام عمليات المسح عالية الدقة ذات الدقة المكانية دون المليمترية، تصور الباحثون اتصالات الدماغ التي لم تكن مرئية من قبل. سمح لهم هذا التقدم التقني بتحديد المسارات الرئيسية التي تربط جذع الدماغ، والمهاد، ومنطقة ما تحت المهاد، والدماغ الأمامي القاعدي، والقشرة الدماغية.

ولكن ما الذي يجعل هذه الشبكة فارقة؟ قام الباحثون بتحليل بيانات التصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي لحالة الراحة باستخدام جهاز 7 تسلا المتطور في مشروع Human Connectome، وكشفوا عن الروابط الوظيفية بين شبكة الإثارة الصاعدة الافتراضية تحت القشرية وشبكة الوضع الافتراضي القشرية. يوفر هذا التكامل لخرائط الاتصال الهيكلية والوظيفية أساسًا تشريحيًا عصبيًا لدمج الإثارة والوعي في الوعي البشري.

فكر في الأمر كقائد يقود أوركسترا. المنطقة السقيفية البطنية، وهي عقدة مركزية ضمن شبكة الإثارة التصاعدية الافتراضية في الدماغ، تشبه الموصل. حيث تقوم بتنسيق نشاط مناطق الدماغ المختلفة المهمة للوعي. يمكن أن يساعد تحفيز مسارات الدوبامين في هذه المنطقة المرضى على التعافي من الغيبوبة عن طريق إعادة تنشيط الشبكة واستعادة الوعي.

ثورة تقنية في التصوير بالرنين المغناطيسي

تخيل أنك قادر على تصور الشبكات المعقدة للدماغ البشري بتفاصيل غير مسبوقة، مثل رسام الخرائط الذي يرسم خرائط لمناطق مجهولة. وهذا بالضبط ما حققه الباحثون في مستشفى ماساتشوستس العام ومستشفى بوسطن للأطفال من خلال دراستهم الرائدة. ومن خلال تسخير قوة فحوصات التصوير بالرنين المغناطيسي عالية الدقة، أنشأوا خريطة اتصال ثورية للدماغ. كما تمكنوا من تسليط الضوء على المسارات العصبية التي تدعم الوعي البشري.

ويكمن سر هذا الإنجاز في تقنية التصوير بالرنين المغناطيسي المتقدمة المستخدمة في الدراسة. بفضل الدقة المكانية التي تبلغ دقة أقل من المليمتر، تمكن الباحثون من تحديد المسارات غير المرئية سابقًا التي تربط جذع الدماغ، والمهاد، ومنطقة ما تحت المهاد، والدماغ الأمامي القاعدي، والقشرة الدماغية. تشكل هذه المسارات شبكة معقدة من الروابط التي، عندما تعمل معًا، تؤدي إلى ظهور الوعي البشري.

ولكن كيف حقق الباحثون مثل هذا القرار الرائع؟ تكمن الإجابة في الاستخدام المبتكر لبيانات التصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي لحالة الراحة 7 تسلا من مشروع Human Connectome. تتيح هذه التقنية المتطورة للباحثين الاطلاع على أعمال الدماغ بوضوح غير مسبوق. مما يسمح لهم بتحليل الروابط الوظيفية بين مناطق الدماغ المختلفة.

ما هي ال7 تسلا؟

7 تسلا (7T) يشير إلى قوة مجال مغناطيسي أقوى تستخدم في ماسحات التصوير بالرنين المغناطيسي لمشروع Human Connectome (HCP). بالمقارنة مع الماسحات الضوئية 3 Tesla (3T) الأكثر شيوعًا، تقدم 7T العديد من المزايا لدراسة اتصالات الدماغ دقة أعلى. إذ يمكنها التقاط صور بتفاصيل أكثر دقة، مما يسمح للباحثين برؤية الهياكل والوصلات الأصغر داخل الدماغ. وهذا أمر بالغ الأهمية لرسم خرائط الشبكات العصبية المعقدة للشبكة العصبية البشرية. كما تساعد على تحسين نسبة الإشارة إلى الضوضاء. فتوفر المجالات المغناطيسية الأقوى صورة أكثر وضوحًا عن طريق تقليل ضوضاء الخلفية في بيانات التصوير بالرنين المغناطيسي. وهذا يسمح بإجراء تحليل أكثر دقة لنشاط الدماغ والاتصال.

أحد أهم الإنجازات التي حققتها هذه الدراسة هو إنشاء أطلس شبكة الاستثارة التصاعدية بجامعة هارفارد. والأطلس عبارة عن خريطة شاملة للشبكات العصبية في الدماغ. يوفر هذا الأطلس أساسًا تشريحيًا عصبيًا حاسمًا لدمج الإثارة والوعي في الوعي البشري. مما يمكّن الباحثين من فهم العلاقات المعقدة بين مناطق الدماغ المختلفة بشكل أفضل.

مستقبل أبحاث الوعي

إن اكتشاف شبكة الإثارة التصاعدية الافتراضية في الدماغ له آثار بعيدة المدى على علاج مرضى الغيبوبة. لأول مرة، أصبح لدى الباحثين خريطة طريق لفهم الروابط العصبية التي تدعم الوعي. يفتح هذا الإنجاز آفاقًا جديدة للأطباء لاكتشاف والتنبؤ وتعزيز استعادة الوعي لدى المرضى الذين يعانون من إصابات خطيرة في الدماغ. تخيل أنك محاصر في غيبوبة، وغير قادر على الاستجابة للعالم من حولك. إنه سيناريو كابوسي يحدث لآلاف الأشخاص كل عام. ولكن ماذا لو تمكنا من إيقاظهم من سباتهم؟ إن تحديد شبكة الإثارة التصاعدية الافتراضية في الدماغ يوفر بصيصًا من الأمل.

من خلال تحفيز مسارات الدوبامين في المنطقة السقيفية البطنية، قد يتمكن الأطباء من إحياء الوعي لدى مرضى الغيبوبة. ترتبط هذه العقدة المركزية بالعديد من مناطق الدماغ التي تعتبر ضرورية للوعي، مما يجعلها هدفًا رئيسيًا للتدخل العلاجي. وتعد إمكانية إيقاظ المرضى من الغيبوبة بمثابة تغيير في قواعد اللعبة، حيث تقدم فرصة جديدة للحياة للمتضررين. لكن هذا الاكتشاف يتجاوز مرضى الغيبوبة. تعد شبكة الإثارة التصاعدية الافتراضية عنصرًا حاسمًا أيضًا في الوعي البشري ككل، وفهم طريقة عملها يمكن أن يسلط الضوء على مجموعة واسعة من الاضطرابات العصبية. من النوبات إلى متلازمة موت الرضع المفاجئ (SIDS)، فإن الآثار المترتبة على هذا البحث واسعة النطاق.

مستقبل أبحاث الوعي مشرق، مع تطبيقات محتملة في مجالات متنوعة مثل علم الأعصاب، وعلم النفس، والذكاء الاصطناعي. تخيل عالماً يمكن فيه إيقاظ المرضى الذين يعانون من غيبوبة من خلال تحفيز بسيط للدماغ.

وقد أطلق هذا البحث بالفعل تجارب سريرية، حيث يعمل العلماء بلا كلل لتحفيز شبكة الاستثارة الصعودية الافتراضية لدى المرضى الذين يعانون من غيبوبة بعد إصابة الدماغ المؤلمة. الهدف طموح – إعادة إيقاظ الوعي واستعادة الحياة لمن هم في أمس الحاجة إليها. بينما نتعمق في ألغاز الوعي البشري، هناك شيء واحد واضح: مستقبل أبحاث الوعي لم يكن أكثر إشراقًا من أي وقت مضى. هل تتفق؟

كيف يرى علم النفس الطبيعة الفريدة لعمل المخ؟

هذه المقالة هي الجزء 2 من 21 في سلسلة مقدمة في علم النفس

كيف يرى علم النفس الطبيعة الفريدة لعمل المخ؟

طرحنا في الجزء الأول من سلسلة علم النفس السؤال: ما هي طبيعة عمل المخ؟ وكيف ينشأ التفكير من المخ؟ وللإجابة على هذا السؤال ينبغي التعرف أولًا على تركيب المخ وأجزائه المختلفة.

مم يتكون المخ؟

الوحدة الرئيسية التي يتكون منها المخ هي «الخلية العصبية-Neuron»، وتعد الخلايا العصبية أصغر أجزاء المخ وأكثرها تشويقًا، حيث تقوم بعملية التفكير عن طريق استقبال الإشارات الحسية ثم تحويلها لأفعال أو أوامر حركية. وتتكون الخلايا العصبية بشكل رئيسي من ثلاثة أجزاء:

  • أولًا، «التغصنات-Dendrites» وهي زوائد تخرج من جسم الخلية العصبية وتستقبل الإشارات من الخلايا العصبية الأخري ثم تقوم بتوصيلها إلى المحور.
  • ثانيًا، «المحور-Axon» وهو تركيب رفيع وطويل وظيفته توصيل الإشارات العصبية التي تم استقبالها إلى الخلايا العصبية الأخرى.
  • ثالثًا، «الجسم-Soma» وهو الجزء الذي يحوي النواة التي تحمل الحمض النووي الخاص بالخلية العصبية وتقوم بتصنيع البروتينات الخاصة بها.

بالإضافة إلى جزء آخر لا يتواجد في كل أنواع الخلايا العصبية وهو «غشاء الميالين-Myelin sheath» الذي يحيط بالمحور ويعمل كعازل ويزيد من سرعة توصيل الإشارات العصبية. يبلغ عدد الخلايا العصبية حوالي مائة مليار خلية، ويمكن لكل خلية أن ترتبط بآلاف أو مئات الخلايا الأخرى. وتتنوع الخلايا العصبية ما بين الخلايا العصبية الحسية، والخلايا العصبية الحركية، والخلايا العصبية المتوسطة. والأخيرة تقوم بعملية التفكير عن طريق استقبال الإشارات الحسية وتحويلها إلى أوامر حركية.

مبدأ الكل أو لا شيء

تتبع الخلايا العصبية مبدأ الكل أو لا شيء، فإما أن تصل شدة الإشارة العصبية إلى حد معين يكفي لاستثارة الخلية أو لا تُثار الخلية مطلقًا. والسؤال هنا، كيف يمكن للخلايا العصبية التي تعمل بمبدأ الكل أو لا شيء أن تنقل المشاعر بتدرجاتها؟ والإجابة عن طريق ترميز شدة الإشارة العصبية بواسطة: عدد الخلايا العصبية المستثارة، ومعدل تكرار الاستثارة.

كيف تتواصل الخلايا العصبية مع بعضها؟

اعتقد العلماء أن الخلايا العصبية ترتبط ببعضها مثل أسلاك الحاسوب لكن الحقيقة أن الخلايا العصبية تتواصل كيميائيًا عن طريق «الناقلات العصبية-Neurotransmitters». يوجد بين كل خلية عصبية وأخرى فجوة ضئيلة تُعرف باسم «الوصلة العصبية-Synapse» وهي المنطقة التي تُنقل فيها الإشارات العصبية من خلية لأخرى بواسطة الناقلات العصبية. تنقسم الناقلات العصبية إلى نوعين: المنشطة والمثبطة. وتعتمد الكثير من الأدوية على تأثير الناقلات العصبية، وهذه الأدوية نوعان: أدوية من النوع «الناهض-Agonist» الذي يزيد من تأثير الناقلات العصبية عن طريق زيادة نسبة تصنيعها أو عرقلة القضاء عليها أو حتى محاكاة تأثيرها. وأدوية من النوع «المعارض-Antagonist» الذي يقلل تأثير الناقلات العصبية عن طريق تدميرها أو تقليل تصنيعها. مثل: عقار كوراري وهو من النوع المعارض الذي يمنع تأثير الخلايا العصبية الحركية على العضلات فيسبب الشلل التام ثم الموت. والكحوليات أيضًا من النوع المعارض، التي تثبط مراكز التثبيط في الفص الجبهي من المخ، هذه المراكز هي التي تمنع الشخص من القيادة بسرعة جنونية أو السب في مكان عام أو حتى ارتكاب جريمة وبالتالي عند تثبيط الأجزاء المثبطة من المخ يفقد الشخص القدرة على التمييز.

مثال آخر هو عقار بروزاك الذي يستخدم في علاج الاكتئاب، حيث يعمل على زيادة نسبة السيروتونين الذي يعد نقصه عاملًا من عوامل الاكتئاب. وأيضًا عقار إل دوبا الذي يستخدم مع مرضى الشلل الرعاش، حيث يعمل على زيادة نسبة الدوبامين وتقليل حدة الأعراض. والآن بعد أن تعرفنا على تركيب الخلية العصبية وكيفية التواصل بينها، كيف يعمل كل هذا لخلق كائنات لديها القدرة على التحدث والتفكير واتخاذ القرارات؟ اعتقد العلماء أن المخ موصل بطريقة أشبه بحاسوب هائل، لكن ثبت خطأ هذا الاعتقاد وظهر الاختلاف بين الحاسوب والمخ:

أولًا، المخ مقاوم للتلف

يتميز المخ بقدر كبير من المرونة والقدرة على تحمل التلف، بل ويمكننا القول أنه هناك نوع من المقاومة مبنية داخل المخ، مما يسمح لأجزاء مختلفة من المخ بتولي الأمور عند تلف أجزاء أخرى.

ثانيًا، المخ سريع للغاية

يعتمد المخ على الأنسجة بينما يعمل الحاسوب على الأسلاك والكهرباء. لكن أنسجة المخ بطيئة للغاية، لذا لو تم توصيلها بطريقة تشبه الحاسوب لاستغرقك الأمر أربع ساعات للتعرف على وجه شخص ما. وهنا يظهر السؤال كيف يمكن صنع تركيب على هذا القدر من السرعة والتعقيد باستخدام تلك الأنسجة البطيئة؟ كيف تتواصل هذه الأنسجة؟ والإجابة أن آلية عمل المخ تعتمد على عمليات معالجة متوازية هائلة.ما الذي يفعله المخ؟ قبل الإجابة على هذا السؤال سنفسر ما الذي لا يفعله المخ. توصل العلماء إلى بعض الأنشطة التي لا تتطلب عمل المخ، وتم اكتشافها باستخدام منهجية غريبة حيث كانت تُقطع رؤوس المرضى بينما يسرع علماء النفس لاختبار ردود أفعال الجسم. ومن هذه الأنشطة: رضاعة حديثي الولادة، أو انثناء الأطراف ابتعادًا عن الألم، أو انتصاب القضيب أو القيء. هذه بعض الأفعال الغريزية اللاإرادية التي لا تتطلب عمل المخ.

أما عمل المخ فيعتمد على بنية داخلية معقدة للغاية، وتنقسم أجزاء المخ إلى: النخاغ وهو الجزء المسئول عن تنظيم معدل ضربات القلب والتنفس والنوم. والمخيخ وهو الجزء المسئول عن التوازن والتنسيق الحركي، والقشرة وهي أكثر أجزاء المخ تشويقًا وتمثل 80% من حجم المخ. «قشرة المخ-Cortex» تنقسم القشرة إلى عدة أجزاء أو فصوص وتشمل: الفص الجبهي، والفص الجداري، والفص القذالي، والفص الصدغي. والمثير فيما يخص هذه الفصوص أنها تحمل خرائط طوبوغرافية/خرائط للجسد. توصل العلماء إلى تلك الخرائط عندما قام أحدهم بفتح جمجمة كلب ثم باستخدام صاعق كهربائي صدم أجزاءًا مختلفة من المخ ولاحظ ارتفاع قدم الكلب للأعلى. واعتمادًا على نفس المبدأ قام الدكتور بينفيلد من جامعة ماكجيل بتجاربه على مرضى في جراحة المخ،حيث صدم أجزاءًا مختلفة من المخ ولاحظ النتائج، رفع بعض المرضى أقدامهم بشكل لا إرادي، وبعضهم رأى ألوانًا أو سمع أصواتًا أو شعر بلمسات.

وبفضل هذه الأبحاث وأبحاث تبعتها توصل العلماء إلى خرائط الجسد في المخ، تحديدًا في القشرة الحسية والقشرة الحركية من المخ. وهناك ملاحظتان حول هذه الخرائط: أولًا، هذه الخرائط طوبوغرافية. بمعني أنه إذا تواجد جزئان على مسافة قريبة من بعضهما في الجسم فسيكونان قريبين أيضًا في المخ. ثانيًا، ما يمثله حجم العضو في المخ لا يتناظر مع حجمه الحقيقي في الجسم، نشاط العضو والتحكم الحسي والحركي له هو ما يحدد حجمه في المخ، فيفوق حجم اللسان في المخ حجم الكتف مثلًا. وتمثل هذه الخرائط أقل من ربع حجم القشرة أما البقية فتشارك في عمليات مثل اللغة والتفكير المنطقي والأخلاقي، وكلما زاد تعقيد الكائن الحي كلما قلت النسبة التي تشغلها هذه الخرائط. والسؤال هنا كيف نكتشف ما تفعله الأجزاء الأخرى من المخ؟

كيف نكتشف ما تفعله الأجزاء الأخرى من المخ؟

أولًا، بواسطة طرق التصوير الحديثة مثل: التصوير بالأشعة المقطعية أو أشعة الرنين المغناطيسي الوظيفي. والتي ذكرنا دورها في توضيح الأجزاء النشطة من المخ أثناء أداء المهام التي تتناظر معها. فيمكن تصوير شخص عند قيامه بمهمة لغوية مثلًا لمعرفة أي أجزاء المخ مسئول عن اللغة.
ثانيًا، ملاحظة التغيرات التي تطرأ على الشخص عند إصابة المخ بالأورام أو الجروح أو السكتات الدماغية أو الحوادث. فيمكن التوصل إلى دور أجزاء المخ المختلفة عن طريق دراسة التلف الذي يصيبها. والأمثلة على ذلك كثيرة. منها:

«اللا أدائية-Apraxia» وهو ليس شللًا، فيمكن للشخص المصاب الحركة والقيام بالأعمال لكنه لا يستطيع تنسيق حركاته، فلا يستطيع التلويح مودعًا أو إشعال سيجارة.

«العمه-Agnosia» وهنا يستطيع الشخص الرؤية بشكل جيد، فهو ليس أعمى لكنه يفقد القدرة على التعرف على الوجوه أو الأشياء.

«اضطرابات الإهمال الحسي-Disorders of sensory neglect» وهنا المريض ليس مصابًا بالشلل أو العمى لكنه يفقد فكرة أنه هناك جزءًا أيسر من جسده، أو حتى من العالم.

«الحبسة-Aphasia» اُكتشفت أول حالة عام 1861م لمريض تعرض لتلف في المخ ولم يستطع نطق سوى كلمة واحدة (Tan) وظل يكررها طوال الوقت.

«الحبسة الاستقبالية-Receptive Aphasia» وهنا يتحدث المريض بطلاقة لكنه لا يفهم الآخرين ولا تبدو كلماته منطقية على الإطلاق.

«الاضطراب العقلي المكتسب-Acquired Psychopathy» الذي يتضمن تلفًا في الفص الجبهي من المخ، فيفقد المريض القدرة على التمييز بين الصواب والخطأ.

كم عقلًا نملك؟

ينقسم المخ إلى نصفين، النصف الأيمن والنصف الأيسر ويربط بينهما ما يعرف «بالجسم الثفني-Corpus Callosum». يبدو نصفا المخ متماثلين إلى حد كبير من الخارج إلا أنه توجد اختلافات فعلية بينهما. فبينما يتحكم النصف الأيسر من المخ في مهارات الكتابة والقراءة والعمليات الحسابية والحديث، يتحكم النصف الأيمن في الإدراك البصري والتعبير عن المشاعر وفهم العلاقات وحتى الموسيقى. وتعتمد طبيعة عملهما على «التعابر-Cross Over»، فيستقبل النصف الأيمن من المخ الإشارات الحسية من النصف الأيسر من الجسد وكذلك يصدر الأوامر الحركية إليه، والعكس صحيح.

يتمتع المخ أيضًا بخاصية مميزة وهي «التجنيب-lateralization» فبينما يعتمد كل نصف من المخ على الآخر أثناء عمله، تبقى بعض المهام يهيمن فيها أحدهما على الآخر. مثل: مراكز اللغة التي تقع في النصف الأيسر من المخ عند أيمني اليد وتقع في النصف الأيمن من المخ عند العُسر.

قام بعض العلماء بتجربة مشوقة في ستينات القرن الماضي حينما قطعوا الجسم الثفني بين نصفي المخ في محاولة لفهم طبيعة عملهما. طُلب من المرضى محاولة لمس غرض ما باليد اليمني وتسميته في الوقت ذاته، وبما أن مراكز اللغة وحركة النصف الأيمن من الجسم تقع في النصف الأيسر من المخ لم يواجه المرضى صعوبة في فعل ذلك. لكن حينما طُلب منهم لمس نفس الغرض باليد اليسري وتسميته في الوقت ذاته، أخفقوا في فعل ذلك لغياب الاتصال بين نصفي المخ. وبالفعل حاز القائمون على هذه التجربة على جائزة نوبل لأنها ساعدت كثيرًا في فهم طبيعة نصفي المخ ودورهما.

وأخيرًا، بعد أن تطرقنا للطبيعة الفريدة لعمل المخ، وخلاياه العصبية والاتصال بينها، وأجزائه المختلفة ومقاومتها للتلف، وماذا يحدث عندما يقع هذا التلف. ينقصنا التعرف على جهود العلماء واستغلالهم هذه المعرفة لتفسير أمور على قدر أكبر من الخصوصية مثل الدين والحرب والحب وحتى المرض العقلي. أشهر هؤلاء العلماء هو سيجموند فرويد، الذي سنتعرف على نظريته في التحليل النفسي في الجزء القادم من سلسلة علم النفس.

المصادر:

1– QBI
2- https://www.britannica.com/science/synapse
3- WebMd
4- McGill
5- Psychology Notes HQ

Exit mobile version