تعلم اللغة واكتسابها: عمليتان مختلفتان في الظروف والمراحل

هذه المقالة هي الجزء 1 من 7 في سلسلة مقدمة في نظريات اكتساب اللغة

تعلم اللغة واكتسابها: عمليتان مختلفتان في الظروف والمراحل

بين عمليتي تعلم اللغة واكتسابها، يكمن فرق في الآلية التي تتم فيها العملية والظروف التي تجري ضمنها. إذ لا يتوقف الاختلاف بين هاتين العمليتين على رقم اللغة موضوع التعلم؛ فيما إذا كانت اللغة الأولى (اللغة الأم) أو لغة أخرى غيرها.

الفرق بين تعلم اللغة واكتسابها

يمكن تعريف اكتساب اللغة على أنه التطور التدريجي للمقدرة اللغوية لدى المتحدث. ويكون هذا التطور نتيجةً طبيعيةً لعمليات التواصل مع المحيط الناطق بهذه اللغة. فتلقي اللغة في هذه الحالة هو أمر عفوي وتلقائي، لأنها لغة المجتمع الذي يعيش فيه الشخص. لذا يكون إتقانها أمراً مفروضاً من مواقف الحياة اليومية أكثر من كونه خياراً [1].

بالمقابل، يُعرف التعلم على أنه عملية تتسم بالوعي والإدراك. أي أنها مقصودة ومخططٌ لها من قِبَل المتعلم. فهو يعمل على تجميع المعلومات المتعلقة باللغة الهدف. كما يدرس سماتها وقواعدها ومفرداتها باختياره. وغالباً ما يتم هذا في سياق تدريسي كصفّ أو مدرسة [1].

ترتيب اللغات التي يمكن اكتسابها / تعلمها

بالنسبة للغة الأم، يكون إتقانها لدى الأطفال ناتجاً عن عملية اكتسابٍ لا تعلم. فالطفل يتعرض للّغة مما يسمعه من الأشخاص من حوله. ويؤدي هذا إلى التقاطها وتطورها لديه. حتى عندما نتكلم عن الأطفال ثنائيي اللغة، يكون إتقانهم للغة الثانية أيضاً بعملية اكتساب. فهؤلاء هم الأطفال الذين يعيشون في بيئة تتحدث لغتين. قد تتمثل هذه البيئة بالوالدين أو مقدمي الرعاية أو المجتمع المحيط. وعادة ما يكتسب الطفل اللغتين بالتزامن مع بعضهما [2].

أما عند الانتقال إلى لغة غير اللغة الأم، يجب التمييز بين مصطلحين. فاللغة الأخرى هي إما أن تكون “لغة ثانية” أو “لغة أجنبية”، ولكل من هذين المصطلحين دلالةٌ مختلفة. بالنسبة للغة الثانية، فهي اللغة التي يتعلمها غير الناطق بها عندما يكون في مجتمعٍ أو محيطٍ يتحدثها. على سبيل المثال، عندما يسافر شخص عربي إلى فرنسا ويباشر تعلم اللغة الفرنسية، فهي لغة ثانية بالنسبة للمتعلم. فهو في تلك الحالة يعيش في مجتمع يتحدث اللغة الهدف. وحتى وإن درسها في مؤسسة تعليمية، فهو يعيش في بيئة تنطق بها وتتخذها لغة أصلية. أما إذا التحق المتعلم نفسه في أحد معاهد تعلم اللغة الفرنسية في بلده العربي، تكون عندها الفرنسيةُ لغةً أجنبيةً، لأنه يتعلمها ضمن مجتمع غير ناطقٍ بها [1].

اكتساب (وليس تعلم!) اللغة الأم

تنطوي أول سنتين من نمو الطفل على الكثير من عمليات التفاعل مع أشخاصٍ يستخدمون اللغة. وهذا ما يساهم في تطويرها لديه. إذ إن الأطفال الذين لا يسمعون اللغة – إما لأسباب صحية أو لغير ذلك من الظروف التي قد يتعرضون لها – لن يكونوا قادرين على الكلام. وهذا يدل على أن اللغة التي يتعلمها الطفل هي مكتسبةٌ وليست أصلية أو موروثة. كما أنها تتأثر بالبيئة المحيطة وبكيفية استخدام اللغة فيها [1].

المدخلات التي تساعد على اكتساب اللغة الأم

من الأمور التي تساعد الطفل على اكتساب اللغة وجود “المدخلات” اللغوية التي تنتج عن البالغين أو حتى الأطفال الأكبر سناً ممن يختلط معهم. وتمر هذه العملية بمراحل متعددة. فالطفل لا يبدأ باستخدام كلماتٍ كاملةٍ أو جملٍ صحيحةٍ مباشرةً. بل يأخذ وقتاً حتى يصل إلى مرحلة الإتقان اللغوي، خاصة وأن الكبار من حوله لا يستخدمون معه اللغة الصحيحة تماماً. بل يميل مقدمو الرعاية، إما الوالدان أو غيرهم من الكبار، إلى استخدام لغةٍ بسيطةٍ وعباراتٍ غير معقدة عند التواصل مع الأطفال الصغار [1].

تمر عملية اكتساب اللغة الأم لدى الأطفال بمراحل متعاقبة. وعند تقسيم هذه المراحل، من الجدير الانتباه إلى أن الأعمار التي تحدد هذه المراحل هي تقديرية. صحيح أن اللغويين يؤكدون على توخي الدقة في هذه التفاصيل. لكنهم يشيرون إلى أنه في مجال لغة الأطفال، يوجد احتمال تباين كبير بين مختلف الأطفال فيما يتعلق بالعمر الذي يبدؤون فيه بإصدار اللغة، ومراحل تطورها لديهم [1].

مراحل اكتساب اللغة الأم لدى الأطفال

في المرحلة الأولى، تكون المخرجات اللغوية من الطفل عبارةً عن أصواتٍ مثل “با با با” أو “غو غو غو”. تتزامن هذه المرحلة مع الأشهر الأولى من حياة الطفل، ومع تقدمه بالعمر، تتداخل مختلف الأصوات مع بعضها. كما يبدأ الطفل بمحاولة تقليد الكبار بالنبرة. بدورهم، يقوم مقدمو الرعاية والبالغون المحيطون بالطفل بالتفاعل مع هذه الأصوات كأنها تواصل متكامل. وبالنتيجة، تتطور قدرة الطفل على التفاعل الاجتماعي باستخدام الأصوات [1].

أما المرحلة الثانية لاكتساب اللغة، فتأتي بين عمر السنة وسنة ونصف. وتتسم لغة الطفل عندها باحتوائها على العديد من الكلمات ذات المقطع الصوتي الواحد، والتي يسهل تمييزها. وتشير معظم تلك الكلمات إلى أشياء من الحياة اليومية، كبعض أنواع الأطعمة مثل “كعك” أو “شاي”. كما يمكن أن تضم أسماء أدواتٍ يستخدمها الطفل مثل “ملعقة” أو “كوب”. لكن من الصعب أن تكون هذه الكلمات صحيحةً دائماً. بمعنىً آخر، قد يصدر الطفل لفظاً مؤلفاً من صوت واحد ويشير بالمقابل إلى شيءٍ ما، لكن ربما يكون هذا اللفظ بعيداً عن الكلمة الحقيقية في اللغة [1].

بعد بلوغه سنة ونصف السنة تقريباً، ينتقل الطفل إلى مرحلة أكثر تقدماً في التعبير. ويستخدم ألفاظاً أو كلماتٍ مؤلفة من مقطعين صوتيين. وعند الوصول إلى عمر السنتين، يصبح باستطاعته أن ينطق بتراكيب مؤلفة من كلمتين. ومع أن تلك التراكيب لا تكون دائماً صحيحة لغوياً، يستطيع الأهل أو مقدمو الرعاية أن يفهموا ما يقصده الطفل بناء على السياق [1].

وبالانتقال إلى المرحلة بين سنتين وسنتين ونصف، تتطور اللغة لدى الطفل وتأخذ شكل عدد كبير من الألفاظ التي يمكن تصنيفها على أنها كلمات معقدة. وتكمن أهمية هذه الألفاظ بتنوع صيغ الكلمات المستخدمة، فضلاً عن كثرة عددها. وبعد هذه المرحلة تتوسع مجموعة المفردات لدى الطفل بسرعة. وعند سن الثالثة، يصبح مخزون هذه المفردات عدة مئاتٍ، مع تحسن ملحوظ في اللفظ. حيث يأخذ لفظه شكلاً أقرب إلى لفظ البالغين منه إلى لغة الأطفال [1].

تعلم اللغة الثانية

ذكرنا أعلاه الفرق بين تعلم اللغة واكتسابها. كما وضحنا كيف يختلف مصطلحا اللغة الثانية واللغة الأجنبية. ولكن لأن هذه اللغة الجديدة هي لغة أخرى غير اللغة الأم أو الأولى، يستخدم عادة مصطلح “اللغة الثانية” للدلالة عليها في كلتا الحالتين.

بعد أن يتعلم الشخص لغته الأم وتتعزز لديه، يكون تعلم اللغة الثانية عمليةً واعيةً وضمن نطاق منتظم. كما يمكن أن تتم في أي عمر يختاره المتعلم؛ ليس بالضرورة منذ الطفولة. وتوجد العديد من الطرق لتعلم اللغة الثانية، منها ما هو نظري ومنها ما هو تفاعلي. لكن يميل البعض إلى تطبيق أساليب تفاعلية تجعل من التعلم أقرب للاكتساب الطبيعي. أي أن بعض منهجيات التدريس تركّز على تطبيق أنشطة تتضمن التواصل والتعرض للغة بطريقة تشبه اكتساب اللغة الأم. فقد أثبتت عملية الاكتساب فعاليتها أكثر من الطرق التقليدية التي تقوم على التلقين والحفظ [3].

اقرأ أيضاً: ما أهمية تعلم الأطفال اللغات؟

المصادر

  1. George Yule, The Study of Language, 4th edition. Cambridge UP.
  2. ESLbase
  3. Reading Rockets

لغة الآلف واللغات الخيالية

لغة الآلف واللغات الخيالية

لا يخفى على محبي اللغات والخيال وجود لغات مؤلفة خصيصاً لعالم الروايات أو الأفلام أو حتى الألعاب. وتعتبر لغة الآلف الخيالية من بين أكثر اللغات شعبيةً، لا سيما بين محبي سلسلة “سيد الخواتم”.

لمحة عن اللغات الخيالية

في عالمنا الواسع، توجد العديد من اللغات الطبيعية التي يتحدثها البشر. وتحظى كل لغةٍ بعدد مختلف من الناطقين، يتراوح بين عدة ملايين وبضعة عشرات أو أقل. وحتى اللغات المنقرضة، كان يتحدثها الناس في فترة من الزمن. هذا ما يجعل عالم اللغات عالماً غنياً ومثيراً لاهتمام الدارسين والباحثين.

إلا أن عدداً من الكتاب أو اللغويين وصلوا إلى مرحلة متقدمة من الإبداع، وابتكروا لغاتٍ خيالية لتوظيفها في عوالم كتبهم أو أفلامهم التخيلية. حيث تساعد هذه اللغات على إعطاء المصداقية، وإضفاء عمقٍ ولمسةٍ جذابة على العالم المتجسد في العمل الفني. ومن هنا أتت تسمية هذا النوع من اللغات باللغات الفنية. كما يطلق عليها أيضاً اسم اللغات المصطنعة. إذ إن نظام القواعد أو التركيب الخاص بها لم يتطور طبيعياً بمرور الزمن وتعاقب المتحدثين أو انتشارهم في مناطق جغرافية مختلفة. بل على عكس ذلك، تم تركيب أنظمة هذه اللغات بطريقة مقصودة وواعية، وعليه، فهي اصطناعية أو مخططة [1].

أمثلة عن اللغات الخيالية

في الواقع، تحظى اللغات الخيالية بشعبية كبيرة بين معجبي الأعمال التي تضمها. كما يسعى الكثير منهم إلى تعلمها. وقد طور موقع Dulingo المشهور لتعلم اللغات دروساً خاصة لتعليم بعض من هذه اللغات. من أبرز الأمثلة نذكر اللغة الكلينغونية (Klingon) التي اخترعها اللغوي الأمريكي مارك أوركاند لاستخدامها في سلسلة الخيال العلمي التلفزيونية “ستار تريك” (Star Trek) في ثمانينات القرن الماضي. واللغات الدوثراكية (Dothraki) والفالارية (Valyrian)، اللتين اخترعهما الكاتب الأمريكي ديفيد بيترسون لمسلسل “صراع العروش” (Game of Thrones) [1].

لكن في مقالنا الحالي، سنركز على واحدة من اللغات الخيالية القديمة والغنية، وهي لغة الآلف (Elvish Language) التي اخترعها الكاتب وعالم اللغة الإنكليزي ج. ر. ر. تولكن (J R R Tolkien).

تولكن واللغات الخيالية: لغة الآلف

بدأ تولكن باختراع اللغات عندما كان فتى مراهقاً. ونسج عالمه الخيالي المسمى “الأرض الوسطى” ليكون موطناً لأنواع مختلفة من المخلوقات التي تتحدث تلك اللغات. أي أنه اخترع اللغات أولاً، ثم أتى لها بالناطقين [2].

وعن لغة الآلف، بدأ تولكن العمل عليها عندما كان في الثالثة عشرة أو الرابعة عشرة من عمره، ولم يتوقف عن تطويرها طيلة فترة حياته. وقد استخدمها في ثلاثية رواياته الشهيرة “سيد الخواتم” (The Lord of the Rings)، وغيرها من الكتب التي ألفها [3].

تتحدث مخلوقات الآلف الخيالية (Elves) هذه اللغة، وتنقسم إلى عدد من اللهجات والمجموعات الفرعية، حتى أنها تشكل عائلة لغوية متكاملة. ومع أن رواياته لا تضم عدداً كبيراً من الأسماء أو الجمل بلغة الآلف، توجد العديد من المنشورات التي يصف فيها تولكن بدقة هذه اللغة وأقسامها. ويشرح أيضاً كيف قام بتطوير لغاته الخيالية الأخرى وما هي أصولها وجذورها أو كيف تأثرت ببعض من اللغات الطبيعية [2].

تطور لغة الآلف الخيالية

يتقاطع عالما الخيال والواقع عند دراسة تاريخ تطور لغة الآلف. حيث أنه بالإضافة للأطر التاريخية والمكانية التي ابتكرها تولكن ووضع لغة الآلف ضمنها، ينطوي البحث في تطور هذه اللغة وتشعبها على دراسة الفترة التي سخرها تولكن لهذا المشروع الكبير. ولا نتحدث هنا عن فترة قصيرة، إذ تعود بعض مخطوطاته التي توثق عمله عليها إلى عام 1916، وتمتد إلى أكثر من 50 عاماً تلت من الأعمال والملاحظات والكتابات [2].

تجمع عائلة لغات الآلف تحت مظلتها عدداً من التقسيمات الفرعية. فمخلوقات الآلف لم تكن مجموعة واحدة متجانسة. بل هاجرت هذه الكائنات إلى أماكن مختلفة في “الأرض الوسطى” وعلى مر العصور المتعاقبة (كلها أماكن وأزمنة تخيلية من تأليف تولكن!). فكانت النتيجة تفرع لغتهم وتشعبها، وانبثاق لهجات واندثار غيرها، واندماج بعضها [4].

لقد عمل تولكن جاهداً على تطوير هذه اللغة وإغنائها بالقصص التي تشرح تاريخها ونشأتها ومسيرتها. ومع أن كل هذا من محض الخيال، لم يبخل تولكن على لغته المحببة بأية تفاصيل تعطيها مصداقية وسحراً، وتجعل منها شبيهة باللغات الطبيعية التي تتطور عبر الزمن والاتساع الجغرافي [2].

أقسام لغة الآلف الأكثر اكتمالاً

في إحدى المقابلات، يقول تولكن أنه لم ينته من تطوير مجموعة لغات الآلف. كما يعترف أنها معقدة، ولا يمكن تحدثها بسهولة، أو استخدامها في مواقف الحياة اليومية العادية. ولكن توجد لغتان تعتبران الأكثر اكتمالاً وغنىً بالمفردات والقواعد، وهما كوينيا (Quenya) وسيندارين (Sindarin). ولهذا السبب، هما لغتان فعّالتان، ويمكن توظيفهما في الكتابة. كما يعتبر التحدث بهما أمراً ممكناً أيضاً، ولكن ضمن الحدود التي تسمح بها مفرداتهما. إذ تضم لغة كوينيا حوالي 2000 مفردة، في حين يوجد 1200 مفردة في لغة سيندارين. ويمكن استخدام هذه المفردات لترجمة بعض النصوص الشعرية أو حتى النثرية. ومع توفر أدلة اللفظ التي أعدها تولكن وأرفقها في نهاية كتب “سيد الخواتم”، أصبح لدى المهتمين دليلٌ معتمدٌ يجعل من السهل عليهم النطق بكلمات شخصيات الآلف [2، 3، 5].

تأثر لغة الآلف الخيالية باللغات الطبيعية

لا يمكن إنكار تأثر لغات الآلف ببعض اللغات الطبيعية التي استمالت تولكن وجذبته بجماليتها. فهو شخص يهوى تعلم اللغات، ويجد في ذلك متعة كبيرة على حد تعبيره. وقد تأثرت بعض لغاته الخيالية بلغاتٍ اسكندنافية وجرمانية. مثلاً، يوجد تشابه بين لغات الآلف كوينيا وسيندارين ولغات فنلندا وويلز، على الترتيب. لكن هذا التشابه لا يعني أن تولكن قام بنسخ لغات طبيعية أو استعارة مفردات منها. بل هو تشابه قواعدي وصوتي لا أكثر [2].

فيما يلي تسجيل يعود إلى عام 1952، يقرأ فيه تولكن قصيدة بلغة الآلف كوينيا [6].

قصيدة بلغة الآلف – قراءة الكاتب والمؤلف تولكن

المصادر

The Language Doctors

Sorosoro

J R R Tolkien: Interview

Tolkien Gateway

Literary mysteries

Geek Native

عائلة لغات ترانس غينيا الجديدة

هذه المقالة هي الجزء 7 من 8 في سلسلة العائلات اللغوية وأقسامها

عائلة لغات ترانس غينيا الجديدة

تعد عائلة لغات ترانس غينيا الجديدة (Trans-New Guinea Languages) من العائلات اللغوية الأساسية. وهي العائلة الأصغر من حيث تعداد الناطقين بلغاتها، والذي يبلغ حوالي 4 مليون فقط. لكنها تعد من العائلات ذات التنوع الكبير، لأنها تضم تحت مظلتها ما يقارب 477 لغة. [1].

عائلة لغات ترانس غينيا الجديدة

تصنيف اللغات ضمن العائلة

في مقال سابق، تحدثنا عن عائلة اللغات الأسترونيزية التي تتواجد في بابوا غينيا الجديدة ومناطق أخرى. ولكن تلك الدولة هي جزء من جزيرة غينيا الجديدة، والتي تشتهر بتنوعها الحيوي والثقافي واللغوي. إذ تنتمي اللغات التي تنتشر في هذه الجزيرة إلى حوالي 18 عائلة لغوية مختلفة، من ضمنها الأسترونيزية و غيرها [2].

وتتمتع عائلة ترانس غينيا الجديدة على وجه الخصوص بنطاق الانتشار الأوسع في الجزيرة. إذ ينتشر الناطقون بإحدى لغات هذه العائلة بين شبه جزيرة بومبيراي الموجودة في الجهة الغربية لغينيا الجديدة، وصولاً إلى نهايتها من الشرق. كما تطغى هذه اللغات بشكل كامل في المنطقة الوسطى من الجزيرة، وخاصة من مقاطعة مادانغ ونحو الشرق [2].

أصل لغات ترانس غينيا الجديدة

بشكل عام، تعاني عائلة ترانس غينيا الجديدة من نقص في الدراسات المختصة بها والأبحاث حولها. ومع أنها من بين العائلات الأكثر تنوعاً، لا تتوفر مصادر كافية لدراسة لغاتها وأصلها. أما النظريات حديثة العهد، والتي حاولت العودة في التاريخ إلى اللغة البدائية التي تفرعت منها هذه العائلة، فهي تبقى مجرد نظريات لا تستند إلى أدلة قوية أو مؤكدة [3].

نشطت دراسة هذه العائلة مع نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين. بدايةً، لاحظ اللغويون وجود لغات في منطقة غينيا الجديدة لا تنتمي إلى العائلة الأسترونيزية. ثم بعد إجراء دراسات مقارنة لتلك اللغات، في ستينيات القرن الماضي، وضع بعض علماء اللغة احتمال أن مجموعات من اللغات غير الأسترونيزية في غينيا الجديدة تعود إلى لغة سلف مشتركة. وهذا ما مهّد الطريق لعددٍ من الفرضيات أو النظريات حول عائلة ترانس غينيا الجديدة [2].

تقول إحدى تلك النظريات القليلة التي تم وضعها بأن اللغة البدائية لعائلة ترانس غينيا الجديدة تعود إلى حوالي 8000 سنة. عندها كان يعيش الناطقون الأصليون في مرتفعات المنطقة المعروفة حالياً باسم بابوا غينيا الجديدة [3]. كما تعزو بعض الدراسات خروج هذه اللغة من منطقتها الجغرافية، وتفرعها إلى لغات مختلفة لاحقاً، إلى انتشار الزراعة في الوديان الرئيسية في منطقة المرتفعات تلك. ويرجع هذا إلى حوالي 6000 سنة [2].

المجموعات الفرعية لعائلة ترانس غينيا الجديدة

لا تخلو دراسة عائلة لغات ترانس غينيا الجديدة من الجدل فيما يتعلق بتقسيمها إلى مجموعات فرعية. فمع أخذ نقص المصادر والبيانات حولها بعين الاعتبار، من غير المستغرب عدم وجود تأكيدٍ أو إجماع على التقسيمات الفرعية للعائلة الأم. ولكن سنستعرض مجموعتين فرعيتين اتفقت معظم الأبحاث عليهما. تدعى المجموعة الأكبر مجموعة مادانغ (Madang) وسميت نسبة لمقاطعة مادانغ في بابوا غينيا الجديدة. وهي تضم ما يقارب 100 لغة. ثم تأتي المجموعة الأصغر وتسمى فينيستر-هون (Finisterre-Huon)، ويوجد فيها حوالي 70 لغة. تتواجد هذه المجموعة في شبه جزيرة هون وتتميز لغاتها بتنوع كبير من ناحية المفردات [2] [3].

المجموعات الفرعية ضمن عائلة ترانس غينيا الجديدة

المصادر

  1. Ethnologue
  2. The Trans New Guinea family
  3. An Online Database of New Guinea Languages

عائلة اللغات الأسترونيزية

هذه المقالة هي الجزء 6 من 8 في سلسلة العائلات اللغوية وأقسامها

عائلة اللغات الأسترونيزية

تعد عائلة اللغات الأسترونيزية (Austronesian Languages) من العائلات اللغوية الأساسية. وتصنف كثاني أكبر عائلة من حيث عدد اللغات التي تحتويها والبالغ 1225. ولكن هذه اللغات الكثيرة تتوزع على حوالي 320 مليون متحدثٍ فقط [1].

عائلة اللغات الأسترونيزية

تصنيف اللغات ضمن العائلة

تنتشر اللغات الأسترونيزية في مساحة جغرافية واسعة تضم قسماً كبيراً من أوقيانوسيا. وتمتد من تايوان شمالاً إلى نيوزيلندا جنوباً، ومن هاواي في الشمال الشرقي إلى جزيرة القيامة (جزيرة إيستر) في الشرق. كما يضاف إلى هذا الامتداد جزء كبير من جزر جنوب شرق آسيا، وتحديداً الفلبين وإندونيسيا. يمكن أيضاً أن نجد لغات أسترونيزية في بابوا غينيا الجديدة ومدغشقر [2].

إن وصول هذه العائلة إلى مدغشقر – وهي الأقرب إلى أفريقيا ذات التنوع اللغوي الكبير – يمكن أن يدل على نجاح غير متوقع لرحلة انتقال السكان إليها من جنوب شرق آسيا منذ زمن طويل. كما يعكس تشابه اللغات وجود علاقات تاريخية بين سكان منطقة مدغشقر وأهالي جزر بولنيزيا وميلانيزيا وميكرونيسيا في المحيط الهادئ. ويضاف إليهم سكان نيوزيلندا، حيث اللغة الماورية [3].

أصل اللغات الأسترونيزية

اكتُشفت العائلة الأسترونيزية في القرن السابع عشر، عند ملاحظة تشابه بين كلمات من لغة بولنيزيا وكلمات من لغة مالايو. ولكن الأبحاث المكثفة التي تعقبت هذه العائلة لم تنجح في الوصول إلى نتيجة واحدة متفق عليها بالنسبة لأصلها وتاريخها. حيث يرى بعض اللغويين أنها كانت قد نشأت في تايوان، ولكن تذهب وجهات نظر أخرى إلى أنها انطلقت من الجزر الإندونيسية [4].

إذاً، تقترح بعض الدراسات أن أصل الناطقين باللغة الأسترونيزية البدائية يعود إلى المنطقة الجغرافية التي تقع فيها إندونيسيا وغينيا الجديدة. حيث هاجرت مجموعتان من هاتين المنطقتين في عام 1500 ق.م. من أجل استعمار مناطق في ميلانيزيا وميكرونيسيا. ثم بعد هذا بحوالي ألف عام، بدأ المستعمرون يصلون إلى بولنيزيا. ولأن عمليات الاستعمار تلك تمت بمراحل مختلفة، نشأت مجموعات فرعية في العائلة بالتوافق مع المراحل المتعاقبة. ونتيجة لابتعاد المجموعات المهاجرة عن بعضها، جغرافياً وزمانياً، أصبح التواصل فيما بينها يتناقص. ثم تمايزت اللهجات المختلفة للّغة الواحدة وأصبحت لغاتٍ مستقلة [5].

المجموعات الفرعية للعائلة الأسترونيزية

عادة يقسم اللغويون عائلة اللغات الأسترونيزية إلى فرعين أساسيين، وهما مجموعة ملايو-بولينيزية (Malayo-Polynesian) ومجموعة فورموسان (Formosan). تنقسم أكبر هاتين المجموعتين الفرعيتين، وهي ملايو-بولينيزية، إلى مجموعتين أصغر. أولاً المجموعة الغربية، وتنتشر لغاتها في مدغشقر وماليزيا وإندونيسيا والفيليبين وأجزاء من تايوان وتايلاند وفيتنام وكمبوديا. وثانياً، المجموعة الوسطى الشرقية، أو كما تسمى أحياناً الأوقيانوسية. وتوجد اللغات التي تقع ضمنها في غينيا الجديدة وفي جزر بولنيزيا وميلانيزيا وميكرونيسيا.

وبالانتقال إلى المجموعة الفرعية الثانية في العائلة الأٍسترونيزية، أي مجموعة فورموسان، فهي الأصغر، وتنتشر في تايوان. حيث كان سكان تايوان الأصليون يتحدثون عدداً من اللغات الأٍسترونيزية قبل دخول الصين إليها في القرن السابع عشر. لكن لم يتبق منها حالياً سوى سبع لغات، وثلاثٌ منها مهددة بالانقراض لأن عدد الناطقين بها يتراوح بين 1 إلى 5 لا أكثر [4].

المجموعات الفرعية ضمن العائلة الأسترونيزية

المصادر

  1. Ethnologue
  2. Sorosory
  3. The Great Courses Daily
  4. MustGO
  5. The Austronesian Language Family

عائلة اللغات الأفريقية الآسيوية

هذه المقالة هي الجزء 5 من 8 في سلسلة العائلات اللغوية وأقسامها

عائلة اللغات الأفريقية الآسيوية

تعد عائلة اللغات الأفريقية الآسيوية (Afroasiatic Languages) من العائلات اللغوية الأساسية. وتقع هذه العائلة في الترتيب الرابع بين العائلات الأساسية من ناحية عدد المتحدثين. إذ ينطق بلغاتها ما يقارب 583 مليون شخصاً حول العالم. ويتجاوز عدد لغاتها 370 لغةً [1].

عائلة اللغات الأفريقية الآسيوية

تصنيف اللغات ضمن العائلة

تنتشر اللغات الأفريقية الآسيوية في شمال أفريقيا وشبه الجزيرة العربية والشرق الأوسط. ومما يساعد في انتشار هذه العائلة أنها تضم كلاً من اللغة العربية وهي لغة الدين الإسلامي، واللغة العبرية وهي لغة الدين اليهودي، واللغتين القبطية والسريانية وهما لغتا طائفتي الأقباط والسريان المسيحيتين [2].

في عام 1844، وجد العالم اللغوي الألماني ثيودور بنفي (Theodor Benfy) تشابهاً بين اللغات السامية والمصرية. وعليه، صنفها ضمن مجموعة أسماها عائلة اللغات السامية الحامية (Semito-Hamitic). والحامية هي نسبة إلى حام، ابن النبي نوح عليه السلام. كما يرجح أن تكون السامية أيضاً منسوبة لأخيه سام، ولكن لا يوجد دليل كافٍ على أصل هذا الاسم. لاحقاً، أطلق على هذه العائلة اسم العائلة الأفريقية الآسيوية تفادياً للحساسيات الثقافية من الاسم السابق [3].

أصل اللغات الأفريقية الآسيوية

لا يوجد إجماع على المكان الذي نشأت منه اللغة البدائية لهذه العائلة. ولكن يتفق أغلب الباحثين على أن الناطقين بها كانوا يعيشون في شمال شرق أفريقيا. فيقترح البعض أن أثيوبيا كانت موطن هذه اللغة السلف، في حين يرى آخرون أنها نشأت في السواحل الغربية للبحر الأحمر. أما عن تاريخها، فوجدت بعض الدراسات أن هذه اللغة الأصلية تعود إلى الألفية السادسة حتى الثامنة قبل الميلاد [2].

تتعقب أبحاث أخرى اللغة الأفريقية الآسيوية البدائية، وتقترح أنها كانت موجودة قبل 18,000 سنة، تحديداً في منطقة القرن الأفريقي. ومنها نشأت ثلاث لهجات مختلفة، والتي شكلت بدورها أصل اللغات البربرية والمصرية والسامية. مع الهجرة شمالاً وانتشار مختلف الناطقين، انتشرت هذه اللغات وتشعبت بمرور الوقت [3].

تشير الدراسات إلى وجود تشابه في تشكيل الكلمات والأصوات بين أفراد هذه العائلة. ومن أبرز التشابهات التشكيلية استخدام لواحق مع الكلمات للدلالة على الملكية، وهي سمة مشتركة بين كافة لغات العائلة [4].

المجموعات الفرعية للعائلة الأفريقية الآسيوية

تضم عائلة اللغات الأفريقية الآسيوية ست مجموعات فرعية أساسية. بدايةً مع المصرية (Egyptian)، وتتميز هذه المجموعة بأن جميع لغاتها قد انقرضت باستثناء اللغة القبطية. وحتى القبطية لم تعد تستخدم إلا في الصلوات لدى طائفة الأقباط المسيحية. ثم تأتي المجموعة بالسامية (Semitic)، وهي المجموعة الفرعية الوحيدة التي تنتشر خارج القارة الأفريقية. ومن بين لغات هذه المجموعة اللغة العربية واسعة الانتشار، واللغة العبرية، ولغات أخرى مهددة بالانقراض كاللغة الآرامية التي يتحدث بها عدد من سكان بلدة معلولا في سوريا. ثالثاً، توجد المجموعة الأمازيغية أو البربرية (Berber) والتي تنتشر في شمال وغرب أفريقيا. بعض من لغاتها اندثر مع الزمن، وبعضها لا يزال محكياً. أما المجموعة الرابعة فهي التشادية (Chadic)، ويتوزع ناطقوها في شمال نيجيريا وشمال الكاميرون والنيجر والتشاد. في أفريقيا أيضاً نجد المجموعتين الفرعيتين الخامسة والسادسة، وهما الكوشية (Cushitic) والأوموتية (Omotic). ويميل بعض الباحثين إلى تصنيفهما ضمن مجموعة واحدة [4] [5].

المجموعات الفرعية ضمن العائلة الأفريقية الآسيوية

المصادر

Ethnologue

Must Go

The Afro-Asiatic Language Family

Afroasiatic Languages

Sorosoro

عائلة اللغات النيجرية الكنغوية

هذه المقالة هي الجزء 4 من 8 في سلسلة العائلات اللغوية وأقسامها

عائلة اللغات النيجرية الكنغوية

تعد عائلة اللغات النيجرية الكنغوية (Niger Congo Languages) من العائلات اللغوية الأساسية. وتصنف على أنها ثالث أكبر عائلة بالنسبة لعدد الناطقين. ومن حيث عدد اللغات التي تضمها، فهي العائلة الأكبر. إذ إنها تحتوي على أكثر من 1500 لغةٍ، وينطق بها حوالي 570 مليون شخص [1].

عائلة اللغات النيجرية الكنغوية

تصنيف اللغات ضمن العائلة

تنتشر عائلة اللغات النيجرية الكنغوية في جزء كبير من أفريقيا، يعادل ثلثي مساحة هذه القارة. فهي تغطي كامل جنوب الصحراء الكبرى، امتداداً من السنغال في الغرب إلى جزر القمر في الشرق، ومن نيجريا في الشمال إلى جنوب أفريقيا في الجنوب [2].

يعود أقدم تصنيف معروفٍ للغات الأفريقية إلى القرن التاسع عشر. حيث قُسمت جميع اللغات الأفريقية إلى أربع مجموعات، منها ما هو في الشمال، ومنها ما هو في الوسط، ومنها ما هو في الجنوب. ثم طرأت تغيرات على هذا التصنيف نتيجة التعمق في دراسة اللغات ومقارنتها. حيث تم تقسيمها إلى مزيد من المجموعات، وأصبح تنوع اللغات موازياً لتنوع المجموعات العرقية. في القرن العشرين، ساعد العالم اللغوي الألماني ويسترمان (Westermann) في توضيح هذه التصنيفات. وتطرقت دراساته إلى اللغات “السودانية الشرقية” والتي تسمى حالياً اللغات النيلية الصحراوية (Nilo-Saharan languages). كما درس اللغات “السودانية الغربية” والتي باتت تعرف باسم اللغات النيجرية الكنغوية [3].

أصل اللغات النيجرية الكنغوية

لدى دراسة أصل عائلة اللغات النيجرية الكنغوية ومحاولة تصنيفها، واجه اللغويون تحديات بسبب التنوع والاتساع الجغرافي الكبيرين الذين تتمتع بهما. كما بقيت اللغات فيها تنقسم عن بعضها البعض، وتتمايز في لغاتٍ جديدة لآلاف السنين. ونتيجة الشحّ في السجلات التاريخية التي يعود المتوفر منها إلى مئات السنين لا أكثر، ومحدودية المعرفة حول عدد كبير من هذه اللغات، أصبح من شبه المستحيل إعادة صياغة لغة سلف مشتركة لكامل العائلة [4].

لكن قام ويسترمان في القرن العشرين بالتعمق في دراسة تفاصيل اللغات السودانية الغربية (النيجرية الكنغوية) التي عرّفها. وسعى من خلال هذا إلى اكتشاف روابط مع لغات البانتو (Bantu). فرتبها في ست مجموعات فرعية، ونسبها إلى عددٍ من الجذور في اللغة السودانية الغربية البدائية. كما قارن هذه الجذور مع جذورٍ في لغة البانتو البدائية التي كان قد أعاد صياغتها غيره من اللغويين قبل إجراء دراسته بسنوات [3].

لكن في العموم، لا يوجد اتفاقٌ بين الباحثين على أصول هذه العائلة ومسار تطورها التاريخي. ولكن عند تقسيمها إلى فروع رئيسية، تذهب التقديرات إلى أن هذه الفروع كانت قد نشأت من لغة سلفٍ تعود إلى 5000 سنة تقريباً [4].

المجموعات الفرعية للعائلة النيجرية الكنغوية

لا يمكن تحديد عدد اللغات في هذه العائلة بدقة. ففي ظل غياب السجلات التاريخية، يصعب تمييز ما إذا كانت لغتان معينتان ضمنها، هما لهجتان مختلفتان للغةٍ واحدة، أم أنهما فعلاً لغتين منفصلتين. ولكن قامت الدراسات بتقسيم العائلة إلى فروع رئيسية، ويتشابه بعضها أكثر من الآخر. ويعود هذا إلى التباعد الزمني في فترات انقسامها عن الأصل أو تمايزها كمجموعة لغات فرعية [4].

كما يوجد شبه إجماعٍ، أو على الأقل عدم خلاف، على أن التقسيمات الأساسية للعائلة النيجرية الكنغوية هي ما يلي. أولاً مجموعة لغات بينو-كونغو (Benue-Congo) وتضم لغات البانتو والعديد من اللغات المحكية في جنوب نيجريا. ثم مجموعة لغات كوا (Kwa) والممتدة من ساحل العاج إلى حدود نيجريا، ومجموعة لغات غور (Gur) التي تنتشر في قسمٍ كبيرٍ من بوركينا فاسو والأجزاء الجنوبية من مالي. أما في القسم الجنوبي الغربي من ساحل العاج وأغلب ليبيريا، توجد مجموعة فرعية تسمى لغات كرو (Kru). وعلى ساحل الأطلسي، في أجزاء من السنغال وغامبيا وغينيا وسيراليون تنتشر مجموعة اللغات الأطلسية (Atlantic). وأخيراً، في جبال النوبة في السودان، تنتشر لغات مصنفة في مجموعة يطلق عليها اسم الكوردوفانيان (Kordofanian) [5].

بعض المجموعات الفرعية ضمن العائلة النيجرية الكنغوية

في النهاية، لا يمكن القول أن هذه المجموعات الفرعية هي الوحيدة، حيث تتشعب العائلة النيجرية الكنغوية. وحتى في مجموعاتها الفرعية، يمكن العثور على تقسيمات أدق وأكثر تفصيلاً.

المصادر

  1. Ethnologue
  2. Sorosoro
  3. Exploring the Niger-Congo Languages
  4. MustGo
  5. Niger-Congo languages – Jeff Good

عائلة اللغات الصينية التبتية

هذه المقالة هي الجزء 3 من 8 في سلسلة العائلات اللغوية وأقسامها

تعد عائلة اللغات الصينية التبتية (Sino-Tibetan Languages) من العائلات اللغوية الأساسية. وتصنف على أنها ثاني أكبر عائلة من ناحية عدد المتحدثين، حيث يبلغ عدد الناطقين بلغاتٍ تنتمي إلى هذه العائلة حوالي 1,4 مليار شخص في العالم. ومن جهة عدد اللغات التي تضمها، فيوجد تقريباً 455 لغة صينية تبتية [1].

عائلة اللغات الصينية التبتية

تصنيف اللغات ضمن العائلة

تنتشر عائلة اللغات الصينية التبتية في الصين ومناطق أخرى في جنوب شرق آسيا، بما في ذلك في بورما ونيبال والهند [2]. وتعتبر دراسة هذه العائلة في علم اللغويات حديثة العهد، إذ لم ينشط الاهتمام بها إلا منذ حوالي 50 عاماً. في البداية، سعى الباحثون منذ أواسط القرن التاسع عشر إلى تحديد مكان اللغة الصينية في سياق أوسع من ناحية أصلها. وكان الاعتماد في هذا على العلاقة بين اللغتين الصينية والتبتية من جهة، وبين التبتية والبورمية من جهة أخرى. وبالعموم، أدت دراسة هاتين العلاقتين إلى توضيح بعض المفاهيم الغامضة حول عائلة لغاتٍ هندية صينية. وفيما يتعلق بمصطلح “الصينية التبتية،” كان أول من استخدمه روبرت شافير (Robert Shafer) الذي قاد مجموعة أبحاث لغوية في جامعة كاليفورنيا في ثلاثينيات القرن العشرين. وفي دراسته، قسم شافير هذه العائلة إلى ثلاث مكونات هي المكون الصيني، والمكون التبتي البورمي، والمكون الأخير وهو تاي-كاداي أو دايك [2] [3].

أصل اللغات الصينية التبتية

تشير الدراسات إلى أن موطن أصل هذه العائلة، والمتمثل باللغة الصينية التبتية البدائية (Proto-Sino-Tibetan)، يقع في منطقة الهيمالايا حيث تنبع الأنهار الكبيرة في آسيا كالنهر الأصفر (Yellow River) ونهر يانجتسي (Yangtze River) ونهر ميكتونغ (Mekong River) [2].

اعتمد أحد الأبحاث على تحليل هذه العائلة وفق علم الوراثة العرقي. وفيه، جمع الباحثون قاعدة بياناتٍ تضمّ 180 مفردةً أساسية من 50 لغة صينية تبتية قديمة تعود إلى أكثر من ألف عامٍ، كاللغات الصينية القديمة، والبورمية القديمة، والتبتية القديمة، إضافة إلى لغات حديثة. ثم قاموا بتحديد الكلمات التي تعود إلى أصل مشترك. كما درسوا لفظ هذه الكلمات لتبيان ما هي الأصوات التي قد تكون مرتبطة ببعضها. ومن بين الصعوبات التي واجهها هذا البحث هو وجود كلماتٍ استعارتها اللغات من بعضها، ولم تكن هذه الحالات بالقليلة. لكنّ المعرفة الجيدة لتاريخ لغاتٍ محددة، واستخدام تقنيات طورت خصيصاً لاكتشاف تاريخ استعارة الكلمات، أدى إلى تجاوز تلك العقبة. وبالاعتماد على طرائق حاسوبية، استطاع فريق البحث استخلاص العلاقات المحتملة بين هذه اللغات، ومن ثم تقدير الفترة الزمنية التي نشأت فيها. فكانت النتيجة التي رجحتها تقديرات الباحثين أن اللغة السلف لعائلة اللغات الصينية التبتية ظهرت قبل حوالي 7200 سنة في شمال الصين، وكان يتحدثها مزارعو الدخن [4] [5].

المجموعات الفرعية للعائلة الصينية التبتية

يمكن تقسيم هذه العائلة إلى مجموعات فرعية، وبالعودة إلى روبرت شافير، توجد ثلاث تقسيمات أساسية ضمن هذه العائلة الأمّ. أولاً، هناك الفرع الصيني (Chinese)، ويشير إلى اللغة الصينية ذات الأهمية الكبيرة في العالم. ويعرّف بعض الباحثين مرحلتين لتطور هذه اللغة وهما اللغة الصينية القديمة، واللغة الصينية المتوسطة [2].

ثانياً، يوجد الفرع المسمى التبتي البورمي (Tibeto-Burman)، والذي يضم اللغات المحكية في منطقة واسعة تمتد من هضبة التبت في الشمال إلى شبه جزيرة مالايو في الجنوب، ومن شمالي باكستان في الغرب إلى شمال شرق فيتنام في الشرق [6].

ثم في كتاب “مقدمة إلى اللغات الصينية التبتية” التي نشر في عام 1966، تحدث شافير عن القسم الفرعي الثالث وهو لغات تاي-كاداي أو دايك (Tai/Daic). وتضم هذه اللغات التايلاندية (السيامية) واللاوية وغيرها من اللغات كتلك المحكية في فيتنام [7].

وأخيراً، يمكن الحديث عن مجموعة فرعية أخرى وهي المجموعة الأصغر وتدعى اللغات الكارينية (Karen) ويتحدثها حوالي 3 مليون شخصاً متواجدون في جنوبي بورما وغرب تايلاند [8].

بعض المجموعات الفرعية ضمن العائلة الصينية التبتية

المصادر

  1. Ethnologue
  2. The Sino-Tibetan Language Family
  3. Britannica
  4. Origin of Sino-Tibetan Language Family Revealed by New Research
  5. Dated language phylogenies shed light on the ancestry of Sino-Tibetan
  6. MustGo
  7. Tai languages
  8. Babbel Magazine

عائلة اللغات الهندو-أوروبية

هذه المقالة هي الجزء 2 من 8 في سلسلة العائلات اللغوية وأقسامها

عائلة اللغات الهندو-أوروبية


تعد عائلة اللغات الهندو-أوروبية (Indo-European Languages) من العائلات اللغوية الأساسية. وتصنف على أنها العائلة الأكبر من ناحية عدد المتحدثين، إذ يزيد عدد الناطقين بلغاتٍ تنتمي إلى هذه العائلة على 3 مليار شخص في العالم. ولكنها ليست الأكبر من حيث عدد اللغات. فتقع تحت مظلة العائلة الهندو-أوروبية حوالي 445 لغة [1].

عائلة اللغات الهندو-أوروبية

تصنيف اللغات ضمن العائلة

كان أول من استخدم اسم “الهندو-أوروبية” العالم اللغوي الألماني فرانز بوب في عام 1816. وقد اشتق هذه التسمية للإشارة إلى عائلة اللغات الموجودة في أوروبا وآسيا، بما في ذلك شمال الهند وإيران وأفغانستان وباكستان وبنغلادش [2].
ولكن يرجع اكتشاف التشابه بين اللغات في أوروبا وتلك المحكية في الهند إلى قبل ذلك. وكان نتيجة فتح باب التجارة بين هاتين المنطقتين في القرن السادس عشر. حيث لوحظ وجود تشابه غريبٍ بين بعض المفردات في اللغة السنسكريتية ومقابلاتها في اللغة الإيطالية. ومن الأمثلة على ذلك كلمة “الإله” وهي “deva” بالسنسكريتية وتقابلها “dio” بالإيطالية، وكلمة الأفعى وهي “sarpa” بالسنسكريتية وتقابلها “serpe” بالإيطالية. إضافة إلى بعض الأرقام مثل “سبعة وثمانية وتسعة” وهي بالسنسكريتية “sapta, ashta, nava” وبالإيطالية “sette, otto, nove” على الترتيب [3].

وقد تعمق المستشرق ويليام جونز في القرن الثامن عشر في مقارنة السنسكريتية واللاتينية واليونانية القديمة. وخَلُص إلى أن التشابه بين جذور الأفعال والصيغ القواعدية هو أكبر من أن يكون بمحض الصدفة. كما كانت دراسات جونز أساساً لمزيد من الأبحاث التي أجراها هو وعلماءٌ لغويون من بعده، ممن أتقنوا اللغة السنسكريتية وقواعدها. ومن الجدير بالذكر أن جونز اعتمد في دراسته على أبحاث العالم اللغوي السنسكريتي بانيني، والذي كان قد وضع نظاماً منهجياً ودقيقاً لتحليل الكلمات حوالي عام 500 ق.م. [3].

أصل اللغات الهندو-أوروبية

يعود أصل اللغات الهندو-أوروبية إلى اللغة الهندو-أوروبية البدائية (Proto-Indo-European). وترجح الدراسات أن هذه اللغة القديمة – التي لم تعد موجودة الآن – كانت منتشرة في منطقة أوكرانيا والمناطق المجاورة في القوقاز وجنوبي روسيا. وانتشرت من هناك إلى معظم أوروبا، ثم وصلت إلى الهند. إضافة لذلك، وجدت الأبحاث التي تعقبت هذه اللغة أنها كانت قد بدأت تفقد وحدتها حوالي عام 3400 ق.م.

ولكن لم يطور المتحدثون الأصليون للغة الهندو-أوروبية البدائية نظام كتابة للغتهم، مما جعل إيجاد دليلٍ مادي عليها بالأمر الصعب. ولهذا السبب، يلجأ علم اللغويات إلى محاولة إعادة بناء هذه اللغة وصياغتها باستخدام طرق مختلفة. وتتفاوت هذه الطرق من مقارنة اللغات المختلفة التي تنتمي إلى هذه العائلة، إلى إجراء دراساتٍ مقارنة تتجاوز اللغة بحد ذاتها. على سبيل المثال، تركز بعض الأبحاث على دراسة الأساطير والقوانين والهيئات المجتمعية التي كانت سائدة في تلك المجتمعات الناطقة بهذه اللغة البدائية الأصلية [4].

المجموعات الفرعية للعائلة الهندو-أوروبية

تقسم عائلة اللغات الهندو-أوروبية إلى مجموعات فرعية، ولكن بعضها انقرض مع الزمن. ومن ضمن المجموعات الفرعية التي انقرضت اللغات الأناضولية (Anatolian). وقد كانت سائدة في الألفيتين الأولى والثانية ق.م. في المناطق التي تقابل حالياً القسم الآسيوي من تركيا وشمال سوريا. إضافة لذلك، توجد مجموعة اللغات الهندية الإيرانية (Indo-Iranian) والتي كانت منتشرة في مناطق وسط وشمال الهند، وإيران، وأفغانستان. ثم توجد اللغة اليونانية (Greek) التي تشكل مجموعة فرعية على الرغم من أنها كانت على مر التاريخ لغة واحدة، ولكن تضم لهجاتٍ متنوعة. ومثلها الأرمينية (Armenian) التي تشكل مجموعة فرعية في العائلة الهندو-أوروبية مع أنها لغة واحدة. ثم لا ننسى مجموعة اللغات الإيطاليكية (Italic)، وتعد اللغة اللاتينية من أبرز مكوناتها، وتضم بدورها اللغات الرومانسية كالفرنسية والإسبانية والإيطالية. وأخيراً سنذكر مجموعة اللغات الجرمانية (Germanic) التي انقرض بعض منها وبقي بعضها الآخر كالإنكليزية والألمانية والهولندية [5].

بعض المجموعات الفرعية ضمن العائلة الهندو-أوروبية

توجد المزيد من المجموعات الفرعية تحت مظلة اللغات الهندو-أوروبية. وعموماً، تنتشر هذه اللغات حالياً في معظم أوروبا والمستعمرات الأوروبية السابقة وأجزاء كثيرة من جنوب غرب وجنوب آسيا [5].

المصادر

  1. Ethnologue
  2. CLMC
  3. The Indo European Language
  4. World History Encyclopedia
  5. Britannica

العائلات اللغوية وتقسيماتها

هذه المقالة هي الجزء 1 من 8 في سلسلة العائلات اللغوية وأقسامها

تنتمي لغات العالم إلى عائلات لغوية (language families). والعائلة اللغوية هي مجموعة من اللغات المرتبطة ببعضها، والتي تطورت عن أصل مشترك (protolanguage) أو لغة سلف مشتركة (ancestral language). في أغلب الأحيان، لا تكون اللغة السلف معروفة بشكل مباشر، ولكن من الممكن اكتشاف بعضٍ من خصائصها عبر تطبيق دراسة منهجية مقاربة للغات المتفرعة عنها. فاللغة الأصلية أو السلف هي لغة كانت موجودة في فترة ما في التاريخ، ونشأت عنها مجموعة من اللغات الأخرى مع مرور الوقت [1].

ما هي اللغة؟ وكيف نجد العائلات اللغوية؟

لنقف أولاً عند تعريف اللغة. وفق قاموس«Merriam Webster» تُعرّف اللغة على أنها نظام الكلمات أو الإشارات التي يستخدمها الناس للتعبير عن أفكارهم ومشاعرهم والتواصل مع غيرهم [2]. ومعظم اللغات التي نعرفها حالياً هي نسخٌ مطورةٌ من لغات أقدم منها. لكن عند وصفها بالمطورة، لا نقصد أنها أفضل من أسلافها، بل المعنى هنا أنه طرأ عليها تعديلاتٌ وتغييراتٌ نتيجة التأثر ببعضها عبر الانتقال إلى مناطق جغرافية أخرى.

عادة ما يدرس علم اللغويات التاريخي ارتباط اللغات ببعضها. وكما ذكرنا، عبر تطبيق دراسة منهجية مقاربة، يسعى اللغويون إلى إعادة صياغة اللغة الأصل لمجموعة اللغات المرتبطة. تعتمد هذه الطريقة على دراسة الكلمات الأقل عرضة للتغير في اللغات، ومنها الضمائر، والكلمات التي تدل على القرابة العائلية، والكلمات التي تدل على أسماء أعضاء الجسم. وقد أثبتت هذه الطريقة فعاليتها في الكشف عن روابط بين لغات مختلفة، وبالتالي تتبع الأصل المشترك لها. ولكن من المهم أيضاً الانتباه إلى أن بعض التشابهات قد لا تكون نتيجة الاشتراك بالأصل. إذ من الوارد أن تستعير لغةٌ ما كلماتٍ من لغة أخرى حتى وإن لم تكونا من نفس السلف. وأحياناً يكون التشابه بمحض الصدفة لا غير [3].

تصنيف العائلات اللغوية

لا يخلو تقسيم العائلات اللغوية من الجدل حول آلية التصنيف وجمع لغات مع بعضها دون غيرها. إذ يرى البعض أنه من الأفضل تجميع عدد كبير من اللغات ضمن عدد قليل من العائلات. في حين يفضل آخرون التقسيم إلى عائلات أكثر وفق أسس أقوى تجمع اللغات ضمن العائلة الواحدة. بسبب هذا الاختلاف، ومع قلة عدد الأبحاث في دراسة لغات معينة، لا يوجد عدد ثابت ومتفق عليه للعائلات اللغوية. توجد عائلات لغوية لا تضم سوى لغة واحدة. في حين أنه من غير الممكن وضع لغات معينة مع غيرها، وعليه تصنف على أنها لغات معزولة لا تشبه غيرها [3].

تقسيم العائلات اللغوية

إذاً، فاللغات كالبشر، ترتبط ببعضها وتنقسم إلى عائلات، وتتشارك كل عائلة ببعض الصفات والخصائص. حسب موقع إثنولوج (Ethnologue)، توجد حوالي 142 عائلة لغوية مختلفة. والعائلات الستة الأساسية حسب تصنيف الموقع ذاته هي عائلة اللغات الهندو-أوروبية (Indo-European)، وعائلة اللغات الصينية التبتية (Sino-Tibetan)، وعائلة اللغات النيجرية الكنغوية (Niger-Congo)، وعائلة اللغات الأفريقية الآسيوية (Afroasiatic)، وعائلة اللغات الأسترونيزية (Austronesian)، وعائلة لغات ترانس غينيا الجديدة (Trans-New Guinea) [4].

العائلات اللغوية الأساسية

تقسم العائلات اللغوية إلى وحداتٍ أصغر تدعى الأفرع أو المجموعات الفرعية. على سبيل المثال، تنقسم عائلة اللغات الهندو-أوروبية إلى مجموعات فرعية كمجموعة اللغات الجرمانية، ومجموعة اللغات الإيطاليكية، وغيرها. وحتى هذه الأفرع تنقسم بدورها إلى مجموعات أصغر، منها ما هو موجود حتى الآن، ومنها ما انقرض ولم يعد مستخدماً. بالعودة إلى اللغات الهندو-أوروبية، تضم المجموعة الفرعية التي تدعى الإيطاليكية مجموعاتٍ أصغر، من بينها اللغات الرومانسية. واللغات الرومانسية بدورها هي مجموعة من اللغات الفردية كالفرنسية والإسبانية والإيطالية والبرتغالية وغير ذلك الكثير [1]. وسيكون هذا موضوع مقالات أخرى.

هل يزيد عدد اللغات أم ينقص؟

لكن هذا التنوع اللغوي في أنحاء العالم غير ثابت. إذ يؤدي نقص عدد متحدثي اللغة – ومتعلميها – إلى اضمحلالها وانقراضها. حالياً، لا يزيد عدد متحدثي ربع لغات العالم على الألف شخص. ويتوقع بعض اللغوين أنه خلال القرن القادم، ستختفي حوالي نصف اللغات الموجودة. وهذا يعني أن خطر الانقراض يهدد نسبة من اللغات أكبر بكثير من تلك التي يهددها من الأنواع البيولوجية [5].

المصادر
World Languages
Merriam Webster
Introduction to language families
Ethnologue
How many languages are there in the world?

مفهوم الاستهلاكية وعلاقتها بالاقتصاد

مفهوم الاستهلاكية وعلاقتها بالاقتصاد

لا يمكن للمرء أن يعيش دون استهلاك المواد الأساسية للحياة كالغذاء والمأوى والملابس، ومن هنا تأتي أهمية العمل لكسب المال. كما أن حاجة الأفراد للخدمات والسلع الاستهلاكية هي ما تبقي عجلة الاقتصاد في دورانها. وتمثل الاستهلاكية (Consumerism) مفهوماً أساسياً في هذه العلاقة الاقتصادية بين الأفراد المستهلكين والسلع أو البضائع التي يقومون باستهلاكها.

مفهوم الاستهلاكية في التاريخ

لا يعد مفهوم الاستهلاكية جديداً، إذ يعود إلى أيام الثورة الصناعية في أوروبا في القرن الثامن عشر. إذ لعب تطور الصناعة دوراً أساسياً في انتشار الاستهلاكية. قبل هذه الثورة، كان الإنتاج ضيق النطاق، ومقتصراً على بعض العائلات التي تعمل في منازلها. وعليه، انعكست ندرة المنتوجات وغلاء أسعارها سلباً على الاستهلاك، وجعلته مقتصراً على الطبقة التي تستطيع أن تنفق. أما بعد الثورة الصناعية، أدى الاعتماد على السياسات الاقتصادية الرأسمالية إلى نشوء العديد من المصانع. وهذه المصانع بدورها كانت قادرة على إنتاج كميات ضخمة من المنتوجات على مستوى كبير. وعليه، بات الاستهلاك أمراً واقعاً. بل أصبح هنالك المزيد من السلع الجديدة التي لم تكن تستهلك من قبل، وكان لا بدّ من ترويجها لزيادة استهلاكها وتصريفها. وبهذا، كان التغيير في نمط الإنتاج نقلة نوعية بالنسبة للاستهلاك عمّا سبق الثورة الصناعية [1].

الاستهلاكية والأفراد والاقتصاد

ولكن هل الاستهلاكية أمر إيجابي أم سلبي؟ في الواقع، يمكن النظر إليها بأكثر من طريقة، وبالتالي إسنادها سمات سلبية أو إيجابية وفق ذلك.

من جهة، تعتبر الاستهلاكية مفهوماً اقتصادياً يعزز فكرة أن زيادة استهلاك البضائع والخدمات هو أمر مرحبٌ به ومحفزٌ لنمو الاقتصاد. إذ إن تشجيع المستهلكين على الإنفاق هو من الأهداف الأساسية للسياسات الاقتصادية. ومن هذا المنظور، تُعتبر الاستهلاكية عاملاً إيجابياً يساهم في النمو الاقتصادي [2].

ولكن من جهةٍ أخرى، ومع الوقت، أصبحت الاستهلاكية دلالةً على ربط سعادة الأفراد ورفاههم بالمادية واقتناء المزيد من البضائع والسلع. وهذا ما يعطيها طابعاً سلبياً، ويجعل من الأفراد ضحايا لاستهلاك ما ليس لهم حاجة إليه بالضرورة. حيث أدخل عصر ما بعد الحداثة أنماط إنتاجٍ واستهلاكٍ جديدةً، تقوم على تعزيز الرغبة بتجميع المقتنيات، حتى غير الضرورية منها. وتتطور هذا الرغبة إلى حاجةٍ ملحةٍ للامتلاك والاستهلاك بشكل عشوائي. وتكون النتيجة استنزاف الموارد الطبيعية واختلال التوازن البيئي. إذ يتطلب ارتفاع مستوى الاستهلاك ارتفاعاً موازياً في مستوى الإنتاج. ويؤدي تسارع الإنتاج بدوره إلى زيادة المخلفات والآثار السلبية على البيئة [3].

إضافة لذلك، أصبح مصطلح الاستهلاكية يستخدم للدلالة على حركةٍ تهدف لحماية المستهلكين. حيث يسعى أنصار هذه الحركة إلى التأكيد على أهمية إعلام المستهلكين بما يشترون، وبممارسات التغليف والإعلان عن البضائع التي تقدم لهم. كما يتم التأكيد على ضمانات المنتج وتحسين معايير السلامة. وبهذا المعنى، تكون الاستهلاكية عبارة عن مجموعة سياسات تسعى لتنظيم المنتجات والخدمات وطرق التصنيع ومعاييره. بالإضافة إلى ضبط عمل الباعة ومسؤولي الإعلانات، وكل هذا في خدمة المشترين ولصالحهم [3].

أهمية الاستهلاكية في نمو الاقتصاد

إذاً، فالاستهلاكية هي أمرٌ مهمٌ لحياة الأفراد، وإن كانت في بعض الأحيان تنطوي على مبالغة غير ضرورية. كما أنها عاملٌ فعالٌ في الاقتصاد ونموه. وتكمن فعاليتها بكونها مؤشراً على رفاه الشعب وجاهزيته للإنفاق. وهذا ما يضمن دوران النقود في الاقتصاد. وبالمقابل، يعتبر انخفاض مستوى الاستهلاكية مؤشراً على مشاكل دفينة كارتفاع معدل البطالة بين الأفراد، أو ارتفاع سعر الفائدة. وبهذا، تساعد على الإشارة إلى الخلل في النظام الاقتصادي، إن وجد، وتحسينه بطريقة معينة تقود الأفراد إلى المزيد من الاستهلاك [2].

التقليلية في الاقتصاد في مواجهة الاستهلاكية المفرطة

تتغذى الرأسمالية على استهلاك الأفراد. فنظام الاقتصاد الرأسمالي يشجع دائماً على المزيد من الاستهلاك كي يصبح أقوى وأكثر استدامة. ومن هنا كانت التقليلية (Minimalism) هي النمط المقابل أو المضاد، والذي يهدف إلى تقليص الاستهلاك إلى أدنى حد ممكن. ولكن هذا لا يعني التخلي عن الممتلكات أو تجنب الاستهلاك لمجرد فكرة التخلي. ولكن يركز هذا الفكر على مواقف الأفراد من مفهوم الاستهلاك والامتلاك، ورغبتهم باقتناء المزيد أو عدم ذلك.

وتركز التقليلية على إيلاء الاهتمام لما يستحق ذلك فعلاً. فالعلاقات مع العائلة والأصدقاء وإمضاء الوقت برفقتهم هي أهم من الممتلكات والمشتريات التي نسعى للحصول عليها. هذا لا يعني التخلص من كل ما نملك أو الإحجام عن الشراء. بل ببساطة، يُطلب منا كأفرادٍ أن يكون سلوكنا الاستهلاكي واعياً ومدركاً لما هو مهم، وأن نولي المزيد من الاعتبار لأمور كنا قد أغفلناها، وهي أمور لا تتطلب الاستهلاك أو الإنفاق. أي أننا بحاجة إلى إعادة ترتيب للأولويات، مع القليل من التفكير فيما نستهلكه وفي أهميته أو حاجته المرجوة [4].

هل يجب ألا نستهلك؟

في الواقع، إن عدم الاستهلاك هو أمر مستحيل، بل لا منطقي. فنحن نحتاج إلى الطعام والدواء واللباس والمواد المتنوعة التي تشكل جزءاً أساسياً من حياتنا اليومية. لهذا لا يمكن النظر للاستهلاكية على أنها ذات تأثيرٍ سلبي بالمطلق في حياتنا. ولكن كما تدعو التقليلية، من الضروري التفكير فيما نسعى لاستهلاكه. ومن المهم أيضاً أن نكون نحن المسيطرين على السلع، لا أن نصبح سلعة في يد الاستهلاكية ومنتجاتها.

اقرأ أيضاً: مفارقة إيكاروس، كيف يقتلك ما كان السبب في نجاحك؟

المصادر

  1. History of Consumerism
  2. Consumerism
  3. What is Consumerism
  4. Minimalism, Consumerism, and Creativity

الميتافيزيقيا؛ فلسفة الماورائيات ما بين القديم والحديث

هذه المقالة هي الجزء 2 من 11 في سلسلة مدخل إلى الفلسفة وفروعها

الميتافيزيقيا؛ فلسفة الماورائيات ما بين القديم والحديث

فلسفة ما وراء الطبيعة أو الميتافيزيقيا

تمثل الميتافيزيقيا أو فلسفة الماورائيات القسم من الفلسفة الذي يدرس طبيعة الوجود والحقيقة والمعرفة والعقل والعلاقة بين الجسد والعقل والكثير من المواضيع التي تقبع في عالم ما وراء الطبيعة.

أطلق على هذا النوع من الفلسفة اسم الميتافيزيقيا – Metaphysics منذ البداية. ويعود هذا إلى أيام الإغريق القديمة، حيث تعني كلمة “meta” “بعد”. وقد استخدم هذا المصطلح أحد الفلاسفة الذين جمعوا أعمال أرسطو وحرروها، وأطلق اسم الميتافيزيقيا على مجموعة الكتب التي أُدرجت بعد كتب الفيزياء أو العلوم المادية [1]. حالياً، أصبح استخدام مصطلح الميتافيزيقيا ذو نطاق أوسع ليشمل مجالات الفلسفة التي تدرس بشكل عام ماهية الوجود والكينونة [1].

كيف اختلفت مواضيع الميتافيزيقيا؟

إذا أردنا التوسع في الاختلاف بين مجال دراسة الميتافيزيقيا في الماضي وما يقابله الآن، يمكن تلخيصه بما يلي. كان فلاسفة الإغريق والعصور اللاحقة يعرّفون الميتافيزيقيا بطبيعة المواضيع التي تدرسها، مثلها مثل أي علم آخر كالكيمياء أو علم الفلك. وفقاً لهذا، كانت تُعرف على أنها العلم الذي يدرس الكون وطبيعته، إضافة إلى الأسباب الأساسية للظواهر، وهذا يعني الأشياء التي لا تتغير بل تبقى كما هي أسباباً لأمور أخرى. ولكن عند النظر إلى الفلسفة الآن، لا يمكن تعريف الميتافيزيقيا بهذا.

أولاً، بات الفلاسفة الذين كانوا ينقدون مواضيع الميتافيزيقيا، كالأسباب الأساسية والأمور غير المتغيرة، باتوا يُعتبرون الآن على أنهم يقدمون طرحاً ميتافيزيقياً. ثم إن العديد من المواضيع الفلسفية التي تندرج الآن تحت الأسئلة الميتافيزيقية، أو على الأقل تشكل جزءاً من هذه الأسئلة، لا تمتّ بصلة إلى مواضيع الميتافيزيقيا القديمة كالأسباب الأساسية أو الأمور غير المتغيرة. ومن الأمثلة على ذلك مسألة حرية الإرادة أو العلاقة بين العقل والجسد [2].

يعود هذا الاختلاف أو التحول في معنى الميتافيزيقيا إلى القرن السابع عشر. ويعزى في الغالب إلى تغير دلالات كلمة “فيزياء” التي أصبحت علماً كمياً جديداً، وهو العلم الذي نعرفه الآن. [2].

الفرق بين العلوم الطبيعية وفلسفة الماورائيات

يقبع الفرق بين العلوم الطبيعية وتلك الميتافيزيقية في اختلاف طريقة الإجابة على تساؤلاتها أو البحث فيها. حيث تعتمد العلوم الطبيعية في إجاباتها على الملاحظة والتجربة والقياس والحساب. من جهة أخرى، يبني الميتافيزيقيون إجاباتهم على التفكير والتأمل. أي أن العلوم الطبيعية تدرس العالم التجريبي، في حين تهتم الماورائيات بمظاهر الواقع التي تتجاوز التجربة [1].

أبرز مواضيع الميتافيزيقيا

إذاً، اتسعت مواضيع الميتافيزيقيا أو فلسفة الماورائيات مع الزمن، لكن هذا لا يلغي اهتمامها بالمواضيع القديمة التي نشأت عليها. فما زالت تلك المواضيع من محاور هذه الفلسفة، ولو أنه طرأ عليها بعض التغيرات أو أصبحت تُرى من مناظير مختلفة. يعد موضوع الوجود من المواضيع الأساسية التي تقع في صلب هذه الفلسفة بكل معانيها ومفاهيمها. ويمتد هذا إلى البحث في مواضيع العدم واللاوجود. بالإضافة لذلك، بقيت المواضيع الأصلية في الماورائيات وهي طبيعة الكون والأسباب الأولى والأشياء غير المتغيرة من المواضيع المطروقة حتى بعد أرسطو.

أما حديثاً، فبدأت الميتافيزيقيا تتطرق لمواضيع أخرى، من أبرزها مواضيع الفضاء والوقت. ويعتبر السفر عبر الزمن من النقاط الجدلية التي تثير العديد من التساؤلات حول قضايا الوقت والسببية وقوانين الطبيعة والحرية والهوية الشخصية وغيرها [2].

السفر عبر الزمن

يعد ديفيد لويس (David Lewis) من أبرز من تحدث عن السفر عبر الزمن. حيث يشرح في ورقته البحثية “مفارقات السفر عبر الزمن” التي نُشرت عام 1976 عن منطقية احتمال السفر عبر الزمن في كلا الاتجاهين: للماضي وللمستقبل. طبعاً لم يدّع لويس أن هذا الأمر ممكن في الحقيقية أو في العالم الذي نعيشه أو حتى مع التقنيات المتطورة. لكن ما كان يرمي إليه هو تقديم تعريف ينطوي على تمييز طريقتين لتسجيل الوقت، وهما الوقت الشخصي والوقت الخارجي [3].

يتضمن الوقت الشخصي التغيرات التي تطرأ على الفرد بعبور الوقت، من تغيرات جسدية ووظيفية. أما الوقت الخارجي فهو الزمن الذي يسجل على المستوى الأكبر. أي الزمن الذي يمر إما بالذهاب للماضي أو للمستقبل. على سبيل المثال، يسافر أحد الأشخاص عبر الزمن إلى الماضي، قبل 50 عاماً، واستغرقت الرحلة للوصول إلى الوجهة خمس دقائق. يكون الوقت الشخصي 5 دقائق مرت من عمر الفرد الذي يقوم بالرحلة. في حين أن الوقت الخارجي هو 50 سنة، وهي النقطة المنشودة من الرحلة [3].

في هذه الرحلة كان الوقت الخارجي أطول من الوقت الشخصي، كما أن كلاً منهما سار باتجاه مختلف. فالوقت الشخصي كان يسير للأمام في حين أن الوقت الخارجي كان متجهاً للخلف. عند السفر في الزمن للمستقبل، تبقى الثغرة موجودة بين نوعي الوقت لكن اتجاههما يكون واحداً. فالوقت الشخصي يسير قدماً كما الوقت الخارجي.

وبهذا يشرح لويس أنه في السفر العادي، لا عبر الزمن، ينطبق كل من الوقت الشخصي مع الوقت الخارجي في الرحلة نفسها. في حين ينفصل هذان الوقتان عند السفر عبر الزمن ويحيدان عن بعضهما. ويحاول من خلال هذا الشرح إعطاء تفسير منطقي لفكرة السفر عبر الزمن.

طبعاً، لا تخلو الورقة البحثية من شرح للتناقضات المنطقية المحتملة والتساؤلات الناجمة عنها. لكن بالمجمل، وبالعودة إلى الماورائيات، يعد موضوع الوقت والفضاء، ومنهما السفر عبر الزمن، أحد المواضيع التي باتت تهم الميتافيزيقيا وأبحاثها.

 منهجيات فلسفة الميتافيزيقيا

تعمل الميتافيزيقيا وفق منهجيات معينة تختلف عن العلوم الطبيعية كما ذكرنا. فلا يمكن هنا استخدام التجربة العملية. ولكن يمكن الاعتماد على التفكير والتأمل والتخيل، عندما تكون هنالك القدرة على تخيل الأمور محط التفكير. يمكن أيضاً اللجوء إلى الحدس لتحديد ما هو منطقي وما هو غير ذلك.

ومع هذه الأدوات، تبقي فلسفة الميتافيزيقيا أو الماورائيات الباب مفتوحاً أمام المزيد من الإجابات والتساؤلات.

اقرأ أيضاً: نظرية المعرفة

المراجع

  1. The British Academy – What is Metaphysics
  2. Stanford Encyclopedia of Philosophy – Metaphysics
  3. Coursera: Alasdair Richmond, et al. Introduction to Philosophy [MOOC]. Coursera.

حرية الإرادة والحتمية في الفلسفة

هذه المقالة هي الجزء 4 من 11 في سلسلة مدخل إلى الفلسفة وفروعها

حرية الإرادة والحتمية في الفلسفة

يعد موضوع حرية الإرادة من المواضيع القديمة في الفلسفة، ومثلها فكرة الحتمية. وقد شكّلت الحرية على مر التاريخ معضلة للكثيرين، طرح فيها العديد من الفلاسفة آراءهم وتحليلاتهم. فالبعض يرى أننا نحن البشر نتمتع بالحرية في تصرفاتنا واختياراتنا. في حين يرى البعض الآخر أننا محكومون بحتمية الكون الذي يسير وفق خطة محددة تشترك فيها جميع العناصر، بما فيها نحن البشر.

لا تكمن المشكلة فقط في الخلاف على مدى حرية البشر في إرادتهم أم حتمية مصيرهم. بل تقود هذه البداية إلى مسألة أشد تعقيداً، وهي المسؤولية الأخلاقية. فما هي درجة المسؤولية الأخلاقية التي يتحملها البشر تجاه أفعالهم؟ وكيف تتغير هذه الدرجة عند الأخذ بوجهة نظر الحتمية دوناً عن حرية الإرادة؟ [1]

سنستعرض في هذا المقال بعضاً من الأفكار والتحليلات لمسألة حرية الإرادة وعلاقتها (أو عدم علاقتها!) بالحتمية، إضافة إلى ارتباطها بالمسؤولية الأخلاقية.

حرية الإرادة (Free Will)

تنطوي حرية الإرادة على حرية المرء في اتخاذ القرار بالأفعال التي يقوم بها. وفقاً لديفيد هيوم (David Hume) وتوماس هوبز (Thomas Hobbes)، تعني الحرية عدم وجود عوائق خارجية تمنع المرء من القيام بما يريد. ويمكن توسيع هذا إلى افتراض أن الحرية هي عدم إجبار الشخص على القيام بما لا يريد. فامتلاكنا لحرية الإرادة يؤدي إلى حريتنا في اختيار الأفعال التي نقوم أو لا نقوم بها. أي يربط كل من هيوم وهوبز حرية الإرادة بحرية الأفعال [2].

من الاعتراضات التي واجهت هذا الرابط هي أنه يمكن للمرء أن يكون حراً باختيار أفعاله، لكن قد يحدث ما يمنعه من القيام بهذه الأفعال. فالعوائق الخارجية التي قد تمنع الشخص من القيام بنشاط محدد لا تلغي حرية هذا الشخص باختياره للقيام بهذا النشاط أصلاً. فمثلاً، يمكن لأحد ما أن يختار الذهاب في نزهة، ولكن الطقس يمنعه من تنفيذ هذا الفعل. فهذا الشخص كان حر الإرادة باختيار ما سيفعله. أي أنه قرر بكامل إرادته أنه يرغب بالذهاب في نزهة. ولكن عوامل الطقس منعته من تنفيذ هذا العمل. لكن هذه الإشكالية التي يراها البعض في الربط بين حرية الإرادة وحرية الأفعال تتوقف على كيف نعرّف حرية الإرادة بالأصل [2].

الحتمية (Determinism)

الحتمية هي النظرة التي تربط الأمور في الكون بعلاقة سببية. فمن وجهة النظر هذه، لا يحدث شيء ما إلا ويكون وراءه سبب محدد أدى إلى حدوثه، قد يكون هذا السبب مباشراً أو غير مباشر. ولكن العلاقة بين جميع العوامل هي التي تؤدي إلى حدوث هذا الأمر بعينه دوناً عن سواه. وفقاً للحتمية السببية، يتحدد مسار المستقبل بأكمله وفق ما حدث في الماضي وحسب قوانين الطبيعة. فمثلاً إذا وقعت أحداث الماضي بطريقة معينة ورافقتها قوانين الطبيعة بصيغة معينة، سيؤدي اجتماع كل من هاتين القوتين إلى مسار وحيد للمستقبل لا يمكن أن يحيد عنه. وهذه هي حتمية المستقبل التي سببتها عوامل الماضي وقوانين الطبيعة. ولكن الحتمية لا تنطوي على ضرورة توقع المستقبل. إذ يمكن للمستقبل أن يكون محتوماً بعوامل الماضي وقوانين الطبيعة دون أن يكون باستطاعة أحد أن يتوقعه [2].

لكن النتيجة التي تقودنا إليها الحتمية هي أننا غير قادرين على امتلاك الحرية التي نظن أننا نملكها. ولا يمكننا أن نقوم بأي شيء مغاير للأمور المحتومة الناتجة عن اجتماع عوامل الماضي وقوانين الطبيعة. وفقاً لهذا، فحتى الأمور التي نقررها، ظناً منّا أنها بمحض إرادتنا “الحرة”، هي نتائج محتومة بناء على ما مضى.

فأين حريتنا إذاً؟ وكيف لنا أن نخرج من عباءة الماضي؟ لا يمكننا، وفقاً للحتمية، فنحن محكومون، وأفعالنا نافذة شئنا أم أبينا ولا تصدر عنا. بالتالي، لا تحمّلنا وجهة النظر هذه مسؤولية أفعالنا. وفيما يلي سنتوسع في هذه النقطة [3].

التوافقية بين حرية الإرادة والحتمية (Compatibilism)

بالعودة إلى حرية الإرادة، يرى البعض أن الحتمية لا تتناقض مع حرية الإرادة. فيمكن للمرء أن يقرر ما يريد حتى وإن كان هذا الأمر محتوماً. يمكن لنا أن نختار الأمر “المحتوم” دون أن تكون حتميته قد أجبرتنا على اتخاذ رأي أو موقف معين منه. تدعى وجهة النظر هذه بالتوافقية [1].

تأتي التوافقية رداً على فكرة الحتمية. وكما ذُكر في الفقرة السابقة، تعزو الحتمية أفعالنا إلى عوامل جرت في الماضي البعيد. أدت هذه العوامل، نتيجة وجودها مع قوانين الطبيعة المعينة، إلى ما نحن عليه الآن وإلى ما سيحدث في المستقبل. فنحن غير مسؤولين عما نختار. ولن يكون لخيارنا أي أثر فيما سيحدث، فما سيحدث هو أمر محتوم [3].

يأتي رد التوافقية على هذا الطرح لا ليناقضه أو ينفيه. بل يرى التوافقيون أن حتمية الأفعال لا تنفي أو تقوّض فكرة الحرية بقيامنا بهذه الأفعال أو اتخاذ القرارات المرتبطة بها. فالمرء يكون أمام خيارات متعددة ليقوم بها، ولديه الحرية في اتخاذ القرار بما سيفعل. إن كان هذا الفعل محتماً لا يعني أن المرء لم يكن لديه خيارات أخرى. لهذا يرى التوافقيون أننا مسؤولون عن أفعالنا لأن حتميتها لا تنفي حرية اختيارنا لها [3].

اللاتوافقية بين حرية الإرادة والحتمية (Incompatibilism)

بالمقابل، يرى مناصرو اللاتوافقية أن الحتمية، إن كانت صحيحة، لا تتوافق مع حرية الإرادة. أي أن حتمية سير الأمور في المستقبل تنفي امتلاكنا للحرية. وهذا يعني أننا، حتى وإن ظننا أننا نملك حرية الاختيار، فإن الخيار الوحيد الذي سنقوم به هو الخيار المحتم. وسبب حدوث هذا الخيار ليس إرادتنا بذلك، بل حتميته بناء على ما مضى [4].

وفق وجهة النظر هذه، يمكن تفسير عدم توافق حرية الإرادة والحتمية بطريقتين مختلفتين. تقول إحداهما أنه بسبب الحتمية، يستحيل علينا أن نكون نحن السبب في أفعالنا، ولا نستطيع التحكم بها. أما وجهة النظر الأخرى فتشرح أن الحتمية تجردنا من القوة أو القدرة على اختيار شيء أو القيام بفعل غير الأمر المحتوم مسبقاً [4].

المسؤولية الأخلاقية بين حرية الإرادة والحتمية (Moral Responsibility)

لنقف قليلاً عند بعض الآراء حول المسؤولية الأخلاقية. فعند الحكم على شخص ما أنه مسؤول من الناحية الأخلاقية، فمعناه أن هذا الشخص يتمتع بقدرة معينة، وأن سلوكه نابع من تطبيقه لهذه القدرة بطريقة ما. عندها، يمكن القول بأن هذا الشخص مسؤول عن أفعاله التي نتجت عن هذه القدرة [5].

لكن يرى بعض الفلاسفة أن افتقارنا لحرية الإرادة – أي في حال كانت الحتمية أمراً حقيقياً – يجعلنا غير مسؤولين من الناحية الأخلاقية [6]. كما ذُكر سابقاً، تعتبر الحتمية أن كل شيء ناتج عن عوامل من الماضي، من ماضٍ لا علاقة لنا به، ومن قوانين الطبيعة. وفق هذا، لا علاقة لنا بكل ما يحدث من حولنا، حتى الأفعال التي نقوم بها. ولذلك، فنحن لا نتحمل مسؤولية تلك الأفعال [5].

من جهة أخرى، يرى البعض أن الحتمية لا تلغي بالضرورة مسؤوليتنا الأخلاقية. فحتى إذا ألغت الحتمية قدرتنا على التحكم بما يجري، فهي لا تلغي قدرتنا على التحكم بكل ما تتطلبه المسؤولية الأخلاقية [2].

يمكننا هنا التوقف عند ما يسمى بمبدأ الإمكانيات المحتملة (The Principle of Alternative Possibilities). وفق هذا المبدأ، نتحمل مسؤولية أفعالنا فقط إذا كان لدينا القدرة على القيام بغير ما قمنا به. أي إذا كان أمامنا فعلان أو أكثر، وكان بمقدورنا الاختيار فيما بينها، وقررنا اختيار فعل ما، نتحمل مسؤولية خيارنا بسبب وجود بدائل عنه. لكن مبدأ الحتمية ينقض هذه المسؤولية لأنه لا يرى أن اختيارنا كان بسبب حرية إرادتنا. بل كان هذا الخيار محتوماً مسبقاً، ولم يكن باستطاعتنا القيام بغير ذلك حتى مع وجود بدائل [6].

تتشعب التحليلات والآراء فيما يتعلق بالمسؤولية الأخلاقية. وتبقى قضية حرية الإرادة والحتمية من القضايا الأساسية في الفلسفة لأهميتها في فهم مدى تحكمنا نحن البشر بأفعالنا.

اقرأ أيضاً: الفردية بين حرية الفرد والمجتمع

المصادر

  1. Coursera: Mason, Elinor, et al. Introduction to Philosophy [MOOC]. Coursera.
  2. Free Will – Internet Encyclopedia of Philosophy
  3. Compatibilism – Stanford Encyclopedia of Philosophy
  4. Incompatibilism – Stanford Encyclopedia of Philosophy
  5. Moral Responsibility – Stanford Encyclopedia of Philosophy
  6. JOHN FISCHER: FREE WILL AND MORAL RESPONSIBILITY

فلسفة العلوم: كيف ترى الفلسفة النظريات العلمية؟

هذه المقالة هي الجزء 5 من 11 في سلسلة مدخل إلى الفلسفة وفروعها

فلسفة العلوم: كيف ترى الفلسفة النظريات العلمية؟

فلسفة العلوم (Philosophy of Science) قد يبدو هذا العنوان غريباً، وقد يثير تساؤلاً حول علاقة العلم بالفلسفة. ولكن في الواقع، تعد فلسفة العلوم إحدى فروع الفلسفة، وتتطرق في دراستها إلى طرائق البحث والنظريات العلمية. تناقش هذه الفلسفة على وجه التحديد ما الذي يمكن اعتماده تحت تسمية “علم” ولماذا، إضافة إلى طرح منهجيات معينة لفهم مدى مصداقية النظريات العلمية [1].

وقد أثبتت الفلسفة فائدتها للعلوم، إذ تعمل على توضيح العديد من المفاهيم من خلال أبحاثها ودراساتها. ويسهم هذا التوضيح المفاهيمي في تحسين دقة المصطلحات العلمية واستخداماتها في الأبحاث ذات الصلة. كما يساعد في إجراء استقصاءات تجريبية جديدة. حيث تختلف كيفية فهم التجارب وإجرائها مع اختلاف الأطر المفاهيمية. وكلما تعرّفت هذه الأطر أكثر، أصبح من الممكن إجراء مزيد من البحوث والدراسات [2].

التوجهات ضمن فلسفة العلوم

إذا أردنا دراسة فلسفة العلوم من منظور واسع نسبياً، يمكننا الذهاب إلى مقاربتين مختلفتين حول طبيعة العلم بحد ذاته. فلا يوجد هنا تركيز على نظرية علمية محددة دون سواها. كما لا تتم دراسة موضوع أو تخصص واحد كعلم الأحياء، أو الفيزياء. بل يكمن الاختلاف بين هاتين المقاربتين في تعريفهما لطبيعة النظريات العلمية التي يمكن أن تُصنف على أنها نظريات جيدة. إضافة لذلك، تملك كل منهما وجهة نظر مختلفة حول ما يجب أن نأمل الحصول عليه من النظريات العلمية، بصفتنا متلقين للعلم. وبدقّة أكبر، يتمثل الاختلاف في الهدف من العلم، والنتيجة التي ينبغي أن تصل إليها النظريات العلمية [1].

أما عن هذين التيارين أو التوجهين ضمن فلسفة العلوم، فهما الواقعية العلمية (Scientific Realism) واللاواقعية العلمية (Scientific Anti-Realism).

الواقعية العلمية

يمكن تعريفها بطرق عدة، وباختصار، تمثل الواقعية العلمية موقفاً تجاه النظريات العلمية ينص على أن هدف هذه النظريات هو إيصالنا إلى الحقيقة. أي أن النظريات العلمية هي تلك التي تنجح، من خلال المصطلحات العلمية النظرية، بتفسير ما يحدث في العالم المرئي (كدراسة علم الفلك للكواكب) وغير المرئي (كدراسة الفيزياء للبروتونات والإلكترونات). ويوجد هنا توجه نحو فكرة الحقيقة التي يجب على النظريات العلمية أن تؤدي إليها. أي أن لهذه النظريات جانباً معرفياً، لأنها تمنحنا مظاهر معرفية مرتبطة بالعالم، بما في ذلك المظاهر غير المرئية منه [3].

وفق الواقعية العلمية، يكمن هدف العلم في إعطاء تفسيرات وتوصيفات صحيحة لما يحدث في العالم. ويمكن في هذا السياق الحديث عن جانبين للنظرية العلمية، هما الجانب المعنوي أو الدلالي (semantic) والجانب المعرفي (epistemic). بالنسبة للجانب المعنوي، يجب أن نفهم لغة النظرية العلمية والمصطلحات المستخدمة فيها. وهذا يعني أن يكون لهذه المصطلحات دلالات في العالم الخارجي يمكننا ربطها بها. على سبيل المثال، عندما تتحدث النظرية عن الكواكب، ينبغي لنا أن نعرف دلالة كلمة “كوكب” ونفهم معناها وما تمثله في العالم الخارجي [1].

أما بالنسبة للجانب المعرفي، يجب أن نصدق النظريات العلمية على أنها صحيحة بالنسبة لما تطرحه من أفكار حول العالم أو الأشياء التي تدل عليها. فنص النظرية العلمية يهدف إلى إعطاء شرح وتفسير لظواهر العالم. لهذا لا بد أن نصدق أنها صحيحة، ولو بشكل تقريبي، بمعنى توافقها مع الحقائق الصحيحة في الطبيعة [1].

اللاواقعية العلمية

تضم اللاواقعية العلمية أفكاراً مختلفة، من أهمها التجريبية البنائية والتي طورها بشكل رئيسي الفيلسوف الأمريكي فراسن (Bas van Fraassen) في ثمانينيات القرن الماضي. وتختلف اللاواقعية عن الواقعية في تحديدها للهدف من النظريات العلمية [1]. وفقاً للتجريبية البنائية، يسعى العلم لإعطاء نظريات دقيقة من الناحية التطبيقية، لكن ليس بالضرورة نظريات صحيحة. فلا يشترط لقبول نظرية ما على أنها نظرية علمية أن تثبت صحتها. بل يكفي أن تكون دقيقة عملياً [4]. وتتفق هذه النظرية مع الواقعية العلمية في الجانب المعنوي أو الدلالي. أي أنها تركز أيضاً على ضرورة فهم المصطلحات العلمية التي تستخدمها النظرية، وربط هذه المصطلحات بالعالم ودلالاتها فيه. لكن يكمن الاختلاف في الجانب المعرفي. فهنا لا يشترط أن نؤمن بصحة النظرية كي نعتبرها نظرية علمية جيدة. بل نلجأ إلى التجربة العملية التي يجب أن تكون دقيقة [1].

يتمحور التركيز هنا حول الجوانب المرئية من العالم، والتي يجب أن تكون دقيقة عملياً. وتنطوي الدقة العملية أو التطبيقية في النظرية على حسن إعطاءها لتفسير صحيح للظواهر المرئية. باختصار، يجب للنظرية أن تكون قادرة على احتواء الظواهر المرئية التي نؤمن بوجودها كي تكون نظرية علمية. أي أنه، بالنسبة للتجريبية البنائية، لا تنطوي صحة تفسير الظواهر المرئية التي نصدقها في النظرية العلمية على صحة تفسير الظواهر غير المرئية، ولا مشكلة بهذا في النظرية العلمية [5].

الفلسفة والعلوم

إذاً تختلف وجهات النظر الفلسفية في طريقة رؤيتها للنظريات العلمية. وفي الواقع، هذا الاختلاف يغني العلوم ويوسع النطاق المعرفي الذي تجري الأبحاث ضمنه – إما بناء على توسيع الإطار المفاهيمي، أو بناء على نقد الافتراضات العلمية. إذ يمكن للفلسفة أن تكون على مستوى من الفعالية في تأثيرها على صياغة نظريات جديدة تكون قابلة للاختبار، وتساهم في وضع مسارات جديدة لأبحاث تطبيقية [2].

اقرأ أيضاً: فلسفة العقل وعلاقة العقل بالجسد

المصادر

  1. Coursera: Massimi, Michela, et al. Introduction to Philosophy [MOOC]. Coursera.
  2. Why Science Needs Philosophy
  3. Stanford Encyclopedia of Philosophy – Scientific Realism
  4. Constructive Empiricism – Paul Dicken
  5. Stanford Encyclopedia of Philosophy – Constructive Empiricism

فلسفة العقل وعلاقة العقل بالجسد

هذه المقالة هي الجزء 3 من 11 في سلسلة مدخل إلى الفلسفة وفروعها

فلسفة العقل وعلاقة العقل بالجسد

يمكن تعريف فلسفة العقل (Philosophy of Mind) على أنها دراسة طبيعة العقل، والظواهر والوظائف والخواص العقلية. كما يبحث هذا الاختصاص من الفلسفة في ماهية العلاقة بين العقل والجسد [1]. ويسعى للإجابة على التساؤلات حول اختلاف العقل عن المادة، وماهية التفكير والإحساس والتجربة والتذكر وغيرها من الوظائف المرتبطة بالعقل دون الجسد [2].

فسر الفلاسفة في هذا الاختصاص طبيعة العقل بطرقٍ عدة. ونتج عن هذه التفسيرات والتحليلات لعلاقة العقل بالجسد أكثر من اتجاه. سنسلط الضوء في هذا المقال على كل من الثنائية (Dualism)، ونظرية هوية العقل (Identity theory)، والوظائفية (Functionalism).

الثنائية في فلسفة العقل – ثنائية العقل والجسد

في تفسيره للعقل واختلافه عن الجسد، يشرح ديكارت (Descartes) أن مكوّنات العقل تختلف اختلافاً كلياً عن مكونات الجسد. فالعقل ذو طبيعة لا مادية، ولكنّ الجسد هو مادة ملموسة [3].

ويؤكد أنصار هذا الاتجاه على الاختلاف الجذري بين العقل والمادة. ويذهبون إلى رفض اعتبار أن العقل والدماغ هما شيء واحد. بل يصل بعضهم إلى حد رفض فكرة أن العقل هو بكلّيّته منتج من منتجات الدماغ. إذاً، كيف يفسر أنصار الثنائية هذا الاختلاف بين العالمين العقلي والمادي؟

تناقش الثنائية المادية أن العقل والجسد مؤلفان من مادتين مختلفتين. فالعقل هو أداة تفكير لا يتمتع بخواص الأشياء المادية كالحجم والشكل والصلابة. ولا يتبع قوانين الفيزياء التي تتأثر بها الأشياء المحسوسة. ويفسر بعض هؤلاء العلاقة بين الجسد والعقل على أنها علاقة تفاعلية يؤثر فيها كل منهما على الآخر [4]. ولكن هذا يضعهم أمام تساؤل عن كيفية تأثر مادتين مختلفتين ببعضهما. فقد واجه ديكارت هذا الاستفسار حول إمكانية العقل البشري، وهو أداة التفكير غير المادية، بأن يحدد تحركات الجسد المادي [3].

نظرية هوية العقل في الفلسفة

من جهة أخرى، ترى نظرية هوية العقل أن العقل هو شيء مادي. ويشرح هذا الاتجاه أن حالات العقل وعملياته هي متطابقة تماماً مع حالات الدماغ وعملياته. والدماغ هو مادة باعتباره عضواً من الجسم البشري. فمثلاً عندما نشعر بالألم، أو نرى شيئاً، أو نتخيل شيئاً، تفسر نظرية هوية العقل أن هذه التجارب التي نعيشها في عقلنا ليست مرتبطة بالدماغ مجرد ارتباط، بل هي عمليات تحصل في الدماغ فعلاً. وتدعي هذه النظرية أن كل الظواهر العقلية تقابلها حالات جسدية. فالشعور بالألم مثلاً، أو الإحساس بالمحبة لشيء ما أو الكره لشيء آخر، يقابله تحفيز لإحدى الألياف العصبية [5].

لكن تواجه نظرية طبيعة العقل تساؤلات من منظور “التحقيقية المتعددة” (Multiple realisability). حيث تطرح فكرة إمكانية تجسيد الحالات العقلية بأكثر من حالة جسدية. كما أنه يمكن للأحياء الأخرى أن تعيش نفس الحالات الجسدية من دون وجود حالات عقلية تشبه تلك الموجودة لدى البشر. فالأحياء تشعر بالألم مثلاً، ولكن أدمغتها ليست كأدمغة البشر، ولا تعيش الحالات العقلية نفسها التي تسبب لدى البشر تحفيز شعور الألم. أي أن هذا الشعور الممثل لحالة عقلية معينة، يتفسر جسدياً بأكثر من طريقة لدى أكثر من كائن. وهذا يتحدى فكرة ارتباط حالة عقلية بحالة جسدية مقابلة لها كما تطرحها نظرية هوية العقل [3] [6].

الوظائفية

وأخيراً، ترى الوظائفية أن الظواهر العقلية لا تُعرَّف بمادتها ومكوناتها. بل هي عبارة عن الوظائف التي تؤديها والدور الذي تلعبه في المنظومة التي تشكل جزءاً منها. وفق هذا، يفسَّر الألم على أنه الحالة التي تخلق شعوراً بوجود شيء ليس على ما يرام في الجسد. وهذا يؤدي إلى رغبة بالخروج من هذه الحالة. حيث أنه يمكن لكل المخلوقات أن تشعر بالألم وتعيش تلك الحالة العقلية إذا أدت لديها نفس الوظيفة. أي إذا خلقت لديها الرغبة بالخروج من هذه الحالة [7].

مقارنة العقل بجهاز الحاسوب

مهدت الوظائفية الطريق لمقارنة العقل بجهاز الحاسوب من ناحية عمله. فالحاسوب هو جهاز لمعالجة المعلومات. يعمل عن طريق تلقي نوع معين من المعلومات (كدفعة كهربائية ناتجة عن ضغط زر معين)، ثم يحولها إلى معلومة من نوع آخر (ظهور حرف معين على الشاشة). ومثله العقل الذي يأخذ المعلومات من الحواس والحالات العقلية التي نعيشها، ثم يعالجها، ويخرج بسلوكيات أو حالات عقلية أخرى.

ولكن تواجه هذه المقارنة بعض التحديات. إذ تعمل الحواسيب على معالجة رموز محددة تتلقاها. وللرمز جانبان مترابطان، هما الجانب البنيوي (syntactic) والجانب المعنوي (semantic). مثلاً، يمكن ربط رمز معين – ولنقل المربع – ببدء نشاط معين – وليكن الرسم. يتمثل الجانب البنيوي بشكل الرمز (أربعة أضلاع وأربع زوايا قائمة). في حين يمثل بدء الرسم الجانب المعنوي المرتبط بالرمز. عند برمجة جهاز حاسوب على هذا، سيبدأ بالرسم فور إدخال رمز المربع. وبنفس الطريقة، عند تعريف العلاقة بين المربع والرسم للعقل، سيقوم بربطهما وبإعطاء الأوامر لبدء الرسم فور رؤية المربع. ولكن الفرق هنا، والذي يمثل تحدياً أو تساؤلاً لتشبيه الحاسوب بالعقل، هو أن الحاسوب يعمل فقط على الجانب البنيوي للمعلومة أو الرمز الذي يعطى له. فهو مبرمج على إعطاء مخرج معين عند إعطائه مدخلاً ما، ولكنه لا يفهم الجانب المعنوي للرمز. ولا يعمل وفقاً لمعناه. بل يركز فقط على شكله [3].

إذاً، تمثل طبيعة العقل موضوعاً شائكاً في الفلسفة أدى إلى ظهور فلسفة العقل المختصة بهذا السياق. ولا يمكن القول بأنه يوجد اتفاق على طبيعة العقل وعلاقته بالجسد. بل توجد عدة اتجاهات ترى هذا الموضوع من منظار معين لكل منها. وبنفس الوقت، تواجه كل منها تحديات وتساؤلات تؤدي إلى الخروج باتجاهات أخرى.

اقرأ أيضاً: كيف تتواصل مع دماغك؟ معضلة العقل والجسم

المصادر:

فلسفة الشهادة وعلاقتها بالمعرفة

هذه المقالة هي الجزء 8 من 11 في سلسلة مدخل إلى الفلسفة وفروعها

فلسفة الشهادة وعلاقتها بالمعرفة

تركز فلسفة الشهادة على دراسة ما يتم تناقله بين الأشخاص ويمكن أن يكون أساساً معرفياً. تعد الشهادة (Testimony) مصدراً كبيراً لما نعرفه عن العالم من حولنا. والشهادة هنا تعني ما يخبرنا به الآخرون – أي ما يشهد به الآخرون. فنحن نعرف التاريخ من الكتب التي كتبها المؤرخون، ونعرف الأخبار مما نقرأه في الصحف أو نراه على شاشة التلفاز. كما أن العلم وتطوراته كافة تأتينا عن طريق “الشهادة” من أشخاص قاموا بأبحاث ودراسات وأطلعونا على نتائجها [1].

تعريف فلسفة الشهادة

تركز فلسفة الشهادة أو نظرية معرفة الشهادة (Epistemology of Testimony – Philosophy of Testimony) على كيفية تقييم هذه الاعتقادات التي نبنيها على شهادات الآخرين. فتطرح تساؤلات حول إمكانية تبرير هذه الاعتقادات، ومتى يمكن لها أن ترقى لمستوى المعرفة [2].

يمكن تعريف فلسفة الشهادة على أنها التقاء “طبيعة المعرفة” و”اللغة”، وهما من المواضيع المهمة في الفلسفة. فما نكتسبه من شهادة الآخرين – ويمكن أن نعتبره معرفة – يصل إلينا عن طريق اللغة. فالمرء الناقل للشهادة يحتاج وسطاً ينقل به شهادته، ويشترط لتحقيق عملية نقل فعالة أن يكون هذا الوسط ملائماً للمتلقي. إذ إنّ هذا الوسط هو ما يمكن للشخص الآخر اكتساب المعرفة من الشهادة عن طريقه. ويتمثل هذا الوسط بشكل رئيسي باللغة التي نقرأها أو نسمعها [3].

وعند التدقيق في هذين العاملين، نرى أن انتشار المعرفة عن طريق اللغة هو أمر واقع لا غبار عليه. فنحن نسمع أو نقرأ شهادة غيرنا، ونفهمها، من خلال اللغة التي توصلها لنا. ولكن الجدال يكمن في طبيعة هذه المعرفة. وكما ذُكر آنفاً، تطرح فلسفة الشهادة تساؤلات حول إمكانية اعتبار ما يصلنا بطريق الشهادة على أنه معرفة [3]. وهنا تختلف وجهات النظر المجيبة على هذا التساؤل.

الاختزالية (Reductionism)

ترى الاختزالية أنه يشترط لاكتساب المعرفة عن طريق الشهادة أن يكون لدينا أسباب موجبة للإيمان بأن الشخص الناقل للشهادة هو محلّ ثقة [2]. وفي هذا الصدد، يعد الفيلسوف ديفيد هيوم (David Hume) من أوائل المنادين بأهمية الدليل في تبرير تصديق الشهادة. وهذا الدليل، إما أن يكون دليلاً على مصداقية الشخص المعني، أو دليلاً عاماً على مصداقية البشر بالمجمل [4].

ويرى هيوم أن ثقتنا تتناسب طرداً مع معقولية محتوى الشهادة. أي أنها تتناقص بالقدر الذي تكون فيه الشهادة غير اعتيادية أو غريبة. والعكس صحيح، فعادة ما نميل إلى تصديق ما يقوله الآخرون إذا كان أقرب للواقع، أو إذا كان لحدوثه احتمالية عالية [4].

لنفرض أنك ذهبت إلى مقهى وطلبت فنجاناً من القهوة. ولكن النادل اعتذر عن تلبية طلبك لأن آلة صنع القهوة معطلة. يسهل هنا تصديق شهادة النادل نتيجة ارتفاع احتمال حدوثها. ولكن تخيل أن يقول لك النادل أن فضائيين أتوا ليلاً وسرقوا مخزون القهوة من المقهى، ولهذا لا يمكنه تلبية طلبك. مع هذه الشهادة، يصعب إعطاء المصداقية لناقلها. فمن غير المحتمل، بل ربما من المستحيل، أن يحدث هذا في الواقع [4].

ويتوسع هيوم في شكوكه حول الشهادة، ويطال بذلك المعجزات (miracles). ففي كتابه مبحث في الفاهمة البشرية، يعبر عن رأيه بوجوب عدم تصديق حدوث المعجزات بناءً على شهادة الغير. حيث يعرّف المعجزة على أنها “نقض لقوانين الطبيعة.” وعليه، لا يرى أنه من الممكن أن تصل أية شهادة إلى درجة من المصداقية يمكن معها تصديق حدوث شيءٍ منافٍ لقوانين الطبيعة. والاستثناء الوحيد الذي يطرحه هيوم، والذي يمكن معه تصديق حدوث المعجزة، هو أن يكون عدم حدوثها أمرٌ أكثر إعجازاً وأكثر غرابة من حدوثها [4].

يدعم هيوم موقفه من الشهادة بأن الناس عادة ما يميلون إلى إعطاء شهادات غير دقيقة. ربما يكون هذا بدافع الكذب أو المزاح أو المبالغة. وربما يكون من دون دافع، أي أنهم لا يعلمون أن شهادتهم خاطئة، بل لديهم اعتقاد بأن ما يقولونه هو الصواب [4].

اللا اختزالية (Non-Reductionism)

من جهة أخرى، يرى منتقدو الاختزالية أن الأدلة الموجِبة غير ضرورية. بل للمرء حق مفترض بتصديق شهادة الآخرين، طالما أنه لا يوجد سبب قاهر يقتضي عدم تصديق ناقل الشهادة. فتصديق الشهادة في هذه الحالة هو الأمر الطبيعي [1].

ويعد الفيلسوف توماس ريد (Thomas Reid) من مناصري هذا الفكر الذي يعبر عن جاهزية أكبر ورغبة أقوى في تصديق الغير. حيث يدافع ريد عن رأيه عن طريق الأطفال الذين يميلون إلى تصديق كل ما يسمعونه، مع أنهم لا يملكون أية قاعدة استقرائية من تجارب سابقة. ويقول إنه إذا كانت الرغبة في تصديق الآخرين مبنية على التفكير والتجارب، فبالأحرى لها أن تتعزز مع تزايد التجارب والقدرة على التفكير المنطقي. لكن ما يحدث هو أن هذه الرغبة أو الجاهزية تكون في أقوى درجاتها عندما تأخذ شكل الفطرة أو الهبة الطبيعية. تكون الفطرة وفقًا لما هو متعارف عليه لدى الأطفال، مما يدفعهم تلقائياً إلى تصديق كل ما يقال لهم. لكنها تتضاءل مع تقدمهم في العمر ومرورهم بالتجارب وتشكيلهم للمنطق [2].

على عكس فكرة هيوم الذي يرى أنه من الممكن للبشر أن ينطقوا بشهادات مغلوطة لأسباب متعددة، يرى ريد أنه من الممكن لنا أن نعتمد على شهادة المتحدث للأسباب التالية. أولاً، إن البشر يتمتعون بميل لقول الحقيقة. ثم إن لديهم نزعة لتصديق ما يسمعون. وأخيراً يستطيعون أن يشعروا عندما يكون المتحدث غير أهل للثقة [1].

ومن غير المستغرب هذا الموقف من ريد. فهو رجل دين، يرى الأمور من منظور مؤمن بالطبيعة البشرية كإيمانه بخالقها. أما هيوم، فقد حملت كتاباته أفكاراً مناهضة للدين وللعقائد الدينية. وهذا ما جعله محل انتقاد للبعض، ومن بينهم ريد نفسه [5] [6].

علاقة فلسفة الشهادة بالاستقلال/التضامن الفكري

وأخيراً، يمكن تبنّي إحدى وجهتي النظر في التعامل مع الشهادة. فالبعض يرى أهمية كبيرة لكسر التفكير التقليدي والابتعاد عن التلقي. ومن الأمثلة على هذا ما كتبه الفيلسوف إيمانويل كانت (Immanuel Kant) عند حديثه عن التنوير (Enlightenment). ويرى (كانت) أن التنوير هو انبثاق المرء من حالة عدم النضج المنغمس فيها. ويعرّف “عدم النضج” بأنه عدم قدرة المرء على استخدام فهمه الخاص دون الاستدلال بالآخرين. ويقصد هنا مدى اعتماد الشخص في تكوين الآراء والمعتقدات على شهادة الآخرين وعدم الخروج من عباءتهم. فيرى (كانت) أهمية كبيرة – بل فضيلة – في قدرة الشخص على الاستغناء عن شهادات الآخرين كقاعدة للأفكار. وهذا ما يدعوه الفلاسفة المعاصرون بالاستقلال الفكري [4].

ومن جهة أخرى، قد يفضل البعض وجهة النظر التي تحافظ على العادات السائدة ولا تنسلخ عنها. وفي هذا تضامن فكري يرى فيه ريد فضيلة تفوق الفردية والاستقلال. فهذا النمط من التفكير يحافظ على معتقدات المجتمع ككل، ولا يؤدي إلى ابتعاد جذري عنه [4].

اقرأ أيضاً نظرية المعرفةالشكوكية الفلسفيةفلسفة التنوير

المصادر

  1. Stanford Encyclopedia of Philosophy – Epistemological Problems of Testimony
  2. Internet Encyclopedia of Philosophy – Epistemology of Testimony
  3. Elizabeth Fricker and David E. Cooper – The Epistemology of Testimony
  4. Coursera: Hazlett, Allan, et al. Introduction to Philosophy [MOOC]. Coursera.
  5. Stanford Encyclopedia of Philosophy – David Hume
  6. Stanford Encyclopedia of Philosophy – Thomas Reid
Exit mobile version