اللغات الجرمانية وأصلها

اللغات الجرمانية وأصلها

تعتبر الكثير من اللغات التي نعرفها حالياً، كالإنكليزية والألمانية والدنماركية والنرويجية، من اللغات الجرمانية (Germanic languages). وتعود جميعها إلى أصل مشترك، لكن طرأ عليها بعض التغييرات التي ميزتها عن ذلك الأصل. كما أنها مختلفة فيما بينها في عدد من الجوانب. تعد اللغات الجرمانية من المجموعات الفرعية لإحدى العائلات اللغوية الأساسية كما سنرى في هذا المقال.

المجموعة الأم

أولاً، هناك عائلة من اللغات التي تجمع تحت سقفها تقسيمات فرعية كثيرة. وهذه العائلة هي اللغات الهندو أوروبية (Indo-European languages). وهي مجموعة من اللغات المرتبطة ببعضها، وتنتشر حالياً في الأمريكيتين وأوروبا وجنوب وغرب آسيا. وتقسم هذه المجموعة إلى تفرعات رئيسية عديدة، منها ما انقرض ولم يعد يُستخدم، ومنها ما بقي وانتشر وتطور عنه تقسيمات فرعية أخرى. تعتبر اللغات الجرمانية من أحد الفروع الرئيسية لعائلة اللغات الهندو-أوروبية [1].

أصل اللغات الجرمانية وتقسيماتها

يعود الدليل الأقدم على الناطقين باللغة الجرمانية الأصلية إلى النصف الأول من الألفية الأولى قبل الميلاد. وكان هؤلاء يقطنون في المنطقة الممتدة من جنوب شبه الجزيرة الاسكندنافية إلى ساحل بحر البلطيق الشمالي [1].

تقسم هذه اللغات إلى ثلاث مجموعات فرعية.

المجموعة الشرقية (East Germanic) هي مجموعة لغات منقرضة ولا وجود لها حالياً. كانت تتحدثها قبائل جرمانية قديمة كالقوطيين والبرغنديين والفاندال. وكانت تنتشر في المنطقة الممتدة بين نهر أودر في وسط أوروبا ونهر فيستولا في بولندا [2]. انتقلت هذه اللغات عن طريق حركات الهجرة إلى وسط وشرق أوروبا، وإلى شمال أفريقيا أيضاً. ويمكن الاطلاع على مثالٍ عن هذه المجموعة في الترجمة القوطية للإنجيل والتي تعود للقرن الرابع الميلادي [3]. ولكن بدأت المجموعة الشرقية تنقرض تباعاً منذ القرن الرابع الميلادي، وتوالت بالاختفاء حتى القرن الثامن عشر حين لم تعد أي منها من اللغات المحكية [4].

أما المجموعتان الموجودتان حالياً من فهما الجرمانية الشمالية (North Germanic) والجرمانية الغربية (West Germanic). تضم هاتان المجموعتان العديد من اللغات، إذ يبلغ عدد اللغات الجرمانية الحية 47 لغة على الأقل [4].

بالنسبة للمجموعة الشمالية، أو الإسكندنافية، فتحتوي على اللغات الدنماركية والنرويجية والسويدية والأيسلندية والفاروية. في حين تتألف المجموعة الغربية من اللغات الإنكليزية والألمانية، بكافة أشكالهما، والهولندية (بما في ذلك الأفريقانية السائدة في جنوب أفريقيا والفلمنكية) والفريزية [3].

بعض خصائص اللغات الجرمانية

طرأت تغيرات رئيسية على الجذر الهندو أوروبي أثناء تحوله إلى اللغة الجرمانية الأصلية، والتي تفرعت لاحقاُ إلى مجموعات اللغات المذكورة. ومع أن هذه اللغات قد تبدو مختلفة عن بعضها، توجد بعض النقاط المشتركة فيما بينها والتي تميزها عن غيرها.

مثلاً، تضم اللغات الجرمانية عدداً من الكلمات التي لا تملك مقابلات مشابهة في اللغات الهندو أوروبية الأخرى. من الممكن تفسير هذا بأن المقابلات كانت موجودة بالفعل، ولكنها اختفت من اللغات الهندو أوروبية الأخرى. أو أن هذه الكلمات دخلت إلى اللغات الجرمانية من لغات غير هندو أوروبية كاللغات المحكية في مناطق تعرضت لغزو القبائل الجرمانية.

كما طرأت بعض التغيرات على الأحرف الصوتية في اللغات الهندو أوروبية. ففي حين احتفظت اللاتينية بالصوت /o/، أصبح هذا الصوت /a/ في الجرمانية.

ومن التغييرات الأخرى اعتماد اللواحق لتغيير الفعل إلى الزمن الماضي. تحدث عالم اللغويات الألماني جاكوب غريم عن نوعين من الأفعال فيما يتعلق بالتحويل للزمن الماضي. حيث صنّف غريم هذه الأفعال إلى قوية وضعيفة. أولاً، تتسم الأفعال القوية بتطبيق تغيير داخلي على الفعل لتغيير زمنه إلى الماضي. ومثال هذا في الإنكليزية (rise/rose)  و (sing/sang). في حين أن الأفعال الضعيفة تستخدم لواحق لهذا الغرض، مثل (step/stepped) و (talk/talked). وتتشارك اللغات الجرمانية بهذه الميزة، وهي استخدام اللاحقة التي تضم الأصوات /t/ أو /d/.

كما تغير نظام تشديد النبرة الحر الموجود في اللغات الهندو أوروبية التي يتغير فيها تشديد النبرة من مقطع لآخر في صيغ مختلفة للكلمة الواحدة. من جهة أخرى، تعتمد اللغات الجرمانية على تشديد المقطع الأول من الكلمة. طبعاً توجد بعض الاستثناءات، وخاصة عندما يكون المقطع الأول للكلمة هو عبارة عن سابقة مضافة مثل كلمتي /believe/ و/forget/ في الإنكليزية. [5]

الفهم المتبادل ضمن المجموعة الجرمانية

وأخيراً، تتفاوت درجات فهم إحدى هذه اللغات لدى الناطقين بلغة أخرى من نفس المجموعة. على سبيل المثال، تعتبر السويدية والدنماركية أكثر اللغات الجرمانية قدرة على فهم بعضهما البعض. كما يمكن للألمانية والهولندية الوصول إلى درجة معينة من الفهم المتبادل. وتعد اللغة الإنكليزية أكثرها انتشاراً في العالم [6].

اقرأ أيضاً: العائلات اللغوية وتقسيماتها

المصادر

  1. World History Encyclopedia
  2. Britannica – East Germanic Languages
  3. John A. Hawkins – Germanic Languages
  4. Babble Magazine – All in The Language Family: The Germanic Languages
  5. History of ЄΝϞL·ΙЅΗ – Features of Germanic languages
  6. University of Groningen

الشخصية الانطوائية وسماتها

الشخصية الانطوائية وسماتها

تعرف جمعية علم النفس الأمريكية الشخصية الانطوائية (introverted) على أنها ميل الشخص نحو العالم الخاص الداخلي لنفسه وأفكاره ومشاعره بدلاً من التوجه نحو العالم الخارجي، عالم الأشخاص والأشياء. ويعد نمط الشخصية الانطوائية من السمات التي تظهر في نطاق واسع من السلوكيات والمواقف [1].

الشخصية الانطوائية عند كارل يونغ

تحدث عالم النفس السويسري كارل يونغ (Carl Jung) عن نمط الشخصية الانطوائية في كتاب Psychological Types (1921). وقارنها مع نمط آخر، نقيض لها، وهو الشخصية المنفتحة (extroverted) [2].

يشرح يونغ أن وراء هذين النمطين المختلفين يكمن موقفان مختلفان من الحياة. وهذا يعني أن طبيعة رد فعل الشخص للظروف والعوامل المحيطة تختلف باختلاف نمط شخصيته. وتبدأ هذه الأنماط بالتكوّن في مرحلة مبكرة من حياة الشخص. كما يحدد يونغ الفرق بين نمطي الشخصية هذين عن طريق الاختلاف بتوجه الليبيدو، أو الطاقة النفسية للشخص [2].

وهنا يجب توضيح الفرق بين مفهوم الليبيدو عند سيغموند فرويد (Sigmund Freud) وعند يونغ. فقد عرف فرويد الليبيدو على أنه الطاقة الجنسية التي تقود كافة رغبات البشر واندفاعاتهم وغرائزهم. حتى وإن لم يعلموا ذلك أو يدركوه، فهذه الطاقة هي الدافع الذي يتشكّل منذ مراحل الطفولة المبكرة.

لكن يخالف يونغ فرويد هنا في توصيف الليبيدو، فلا يحصر هذا المفهوم في الطاقة الجنسية وحسب. بل يصفه بشكل أعم على أنه الطاقة النفسية التي تحفّز الأفراد عبر العديد من الطرق المهمة. وتتضمن هذه الطرق المجالات الروحية والفكرية والإبداعية. كما يرى يونغ أن الليبيدو هو مصدر إلهام الأفراد للسعي وراء المتعة والحد من النزاعات، ويعمل على تحفيز العديد من السلوكيات [2] [3].

سمات الشخصية الانطوائية ومواطن الضعف فيها

إذاً، ما هو دور الليبيدو في تحديد نوع الشخصية سواء الانطوائية أم المنفتحة؟

في الواقع، يمثل اتجاه هذه الطاقة العامل الفارق في تمييز الشخصية الانطوائية عن المنفتحة. إذ يتسم الأشخاص الانطوائيون بتوجه طاقتهم النفسية نحو الداخل. فيكون التركيز على عوامل شخصية وذاتية، لا خارجية. وهذا عكس المنفتحين الذين تتوجه طاقتهم النفسية نحو العالم الخارجي [4].

يجد الأشخاص الانطوائيون السعادة في وحدتهم، ويتميزون بامتلاك خيال خصب. كما يفضلون التفكير والتأمل على القيام بالأنشطة الفعلية. فتراهم منعزلين وهادئين، ويميلون إلى الانسحاب عن المجموعات. كما يتحفظون في التعبير عن أفكارٍ أو مشاعر أو انطباعات ذات تأثيرٍ إيجابي. بل يغلب الشك على مواقفهم وآرائهم، ويفضلون العمل منفردين. وقد تكون هذه من مواطن الضعف لديهم. ويضاف إليها عدم ثقتهم بالأشخاص عموماً، واتسامهم بالخجل والتردد، وتجنب الحياة الاجتماعية [1] [4].

تدفع هذه السمات ومواطن الضعف إلى تشكيل صور نمطية أو أفكار مغلوطة عن الانطوائيين. فيراهم المجتمع، وخاصة الأفراد من ذوي الشخصيات المنفتحة، على أنهم أنانيون ومملون، وأن حياتهم تتمحور حول ذواتهم. وهذا غير دقيق، فطبيعة تعامل المرء مع عالمه تختلف باختلاف شخصيته، على الرغم من تشابه الطرق المستخدمة في مقاربة هذا العالم، بنوعيه الداخلي والخارجي [4].

تعامل الشخصية الانطوائية مع العالم

يتحدث يونغ عن أربع وظائف نفسية يمكن للمرء – الانطوائي أو المنفتح – أن يستخدمها، أو إحداها، في تعامله مع العالم. وهذه الوظائف هي التفكير (thinking) والمشاعر (feeling) والحس (sensation) والحدس (intuition). وينتج عن بروز إحدى هذه الوظائف لدى الشخص، وتقاطعه مع نمطي الشخصية الانطوائية أو المنفتحة، أنواع أكثر للشخصيات حسب ميل أصحابها وطريقة استخدامهم للوظائف [4].

بالنسبة للتفكير، يهتم الانطوائيون بالأفكار المجردة بدلاُ من الحقائق بحد ذاتها. فالغرض من التفكير لديهم لا يتمثل بجمع المعلومات، ولا بفهم العلاقة مع العالم الخارجي. أما من ناحية وظيفة المشاعر، فيغلب المظهر البارد على من يعتمد هذه الوظيفة من الانطوائيين. إلا أنهم في الواقع أشخاص متعاطفون ومتفهمون لأصدقائهم. كما أنهم قادرون على التضحية بالذات عندما يتطلب الأمر ذلك. وفيما يتعلق بوظيفة الحس، فالانطوائيون هنا يكونون حساسين وذوي خيال واسع لدرجة قد يصعب فهمهم أحياناً. ولديهم القدرة على تخيل أشياء غير موجودة، وهذا ما يجعل منهم مهندسين أو فنانين ناجحين. وأخيراً، عندما تكون وظيفة الحدس هي السائدة، يرتفع مستوى الإبداع لدى الشخص الانطوائي، والذي يكون قادراً باللاوعي على بناء احتمالات مستقبلية متعلقة بالظروف المحيطة بتجارب موجودة في الحاضر [4].

جوانب أخرى

تشير الدراسات إلى أن عدد الأشخاص الانطوائيين يوازي عدد المنفتحين، ولكنهم بالطبع أقل ظهوراً وأكثر هدوءاً. ويعزى هذا الميل في الشخصية إلى عوامل وراثية وبيئية. ولكن يمكن أن يتعلم الانطوائيون التصرف بطريقة أكثر انفتاحاً إذا اتبعوا خطة لتغيير بعضٍ من أنماط سلوكهم. مثلاً، يمكنهم التدرب على المبادرة ببدء حديث مع أحد ما بدلاً من انتظار الشخص الآخر ليتحدث أو الانسحاب من الموقف الاجتماعي [5].

ولكن هذا لا يعني أن الشخصية الانطوائية هي أمر سلبي. بل على العكس، يتسم هذا النمط بجوانب إيجابية في طريقة تعامله مع العالم. إذ يستمتع الانطوائيون بأحاديث غنية وعميقة بدلاً من المواضيع السطحية التي لا طاقة لهم عليها. كما يمكن للانخراط بالعالم الداخلي أن يزيد من مستوى الابتكار والإنتاج الإبداعي لدى المرء. ونرى أمثلة لفنانين أو مؤلفين انطوائيين أغنوا العالم بنتاجهم الفكري كالكاتبة جي كي رولينغ مؤلفة سلسلة هاري بوتر الشهيرة، والعلماء أمثال ألبرت أينشتاين وإسحق نيوتن، والقادة كالرئيس الأمريكي أبراهام لينكولن والناشطة الحقوقية روزا باركس. ولا تخلو حياة الانطوائيين من الأصدقاء. فمع أن دائرة صداقاتهم قد تكون ضيقة، إلا أنها عميقة ومنتقاة بعناية بعيداً عن العلاقات الاجتماعية العابرة أو المؤقتة [5] [6].

اقرأ أيضاً: مقدمة في علم النفس

المصادر

  1. جمعية علم النفس الأمريكية
  2. Psychological Types – Carl Jung
  3. Simply Psychology
  4. Philosophy Lander Edu
  5. Psychology Today
  6. Happier Human

أدب ما بعد الاستعمار: خصائصه وسماته

أدب ما بعد الاستعمار: خصائصه وسماته

يتمحور أدب ما بعد الاستعمار حول فكرة الاستعمار (Colonisation) في دولة ما. فنجد أعمالاً تناقش هذه المرحلة بحد ذاتها. في حين تنتقل أعمال أخرى للحديث عن مرحلة الاستقلال – أي ما بعد الاستعمار – وتبعات هذه التجربة التي خضعت لها الدولة المعنية.

مفهوم الاستعمار

للحديث عن هذا النوع الأدبي، يجب أولاً تعريف مفهوم الاستعمار، ولو بشكل بسيط ومختصر. يُعرَّف الاستعمار على أنه سيطرة دولة أو شعب على دولة أخرى أو شعب آخر وإخضاعهم. وينطوي الاستعمار على الانتقال الفعلي لمجموعة من الشعب الأول إلى أرض الشعب الآخر التي يريدون استعمارها، والاستقرار فيها، وممارسة سيطرة فعلية عليها. وهذا ما يميز مصطلح الاستعمار عن الإمبريالية (Imperialism). فالإمبريالية تعني سيطرة دولة ما على أخرى، سواء أكان ذلك عن طريق الاستقرار فيها أم التحكم بسيادتها بطرقٍ غير مباشرة [1].

كما يمكننا هنا التمييز بين عدة مصطلحات، تختلف من حيث المعنى ومن حيث ترتيبها الزمني بالنسبة لمرحلة الاستعمار. فيأتي أولاً مصطلح “الاستعمار” (colonisation) وهو، كما ذكرنا، فترة السيطرة الفعلية على شعب أو دولة ما. ثم يأتي مصطلح “إنهاء الاستعمار” (decolonisation) للدلالة على استقلال الشعب أو الدولة، واستعادة حريتهم. بعد ذلك، تأتي مرحلة “ما بعد الاستعمار” (post-colonisation) والتي تشير إلى الفترة التي تلي الاستقلال في هذه الدولة. وأخيراً لدينا مصطلح “الاستعمار الجديد” (neo-colonisation) الذي يُعنى بآثار الاستعمار التي تستمر حتى بعد انتهاء حكمه، والتي تتمثل بالاستعمار الثقافي والسيطرة السياسية غير المباشرة [2].

ولكن ما أهمية هذه المصطلحات في الأدب؟

أدب ما بعد الاستعمار

يطلق اسم “أدب ما بعد الاستعمار” (Post-colonial literature) على النتاج الأدبي الذي يناقش موضوعاً متعلقاً بالاستعمار في دولة ما. وعلى الغالب ينتمي المؤلف للدولة التي كانت ترزح تحت وطأة المستعمرين. وإن لم يكن قد عاش مرحلة الاستعمار مباشرة، يمكن أن يكون من الفئة التي عانت من الاستضعاف والاستعباد من قبل الفئة الأقوى. ونذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر، سلمان رشدي من الهند. وولي سوينكا وتشينوا أتشيبي من نيجيريا. الطيب صالح من السودان، وتوني موريسون الأفريقية الأمريكية.

ولكن قد ينتمي بعض أدباء ما بعد الاستعمار إلى الفئة الأقوى، فيناهضون بكتاباتهم الأعمال التميزية ضد الآخر. ومن الأمثلة على ذلك الكاتبة ندين غورديمير، وهي من جنوب أفريقيا. لكنها كانت تحظى بامتيازات في ظل نظام الفصل العنصري باعتبارها من الأقلية ذات البشرة البيضاء. ويقع في هذه الفئة أيضاً الكاتب البولندي-البريطاني جوزيف كونراد والكاتب الإنكليزي إي أم فورستر الذين استعرضا مواضيع متعلقة بالاستعمار في أفريقيا والهند في روايتيهما “قلب الظلام – Heart of Darkness” و”الطريق إلى الهند – A Passage to India”، على الترتيب. وأخيراً يمكن ذكر الكاتبة البريطانية جين ريس، والتي عاشت في جزيرة دومينيكا في منطقة الكاريبي. وتطرح روايتها الأشهر “بحر سارجاسو الواسع – Wide Sargasso Sea” الكثير من الأفكار التي تقارب فكرة الاستعمار وأثرها على الشعوب الخاضعة من منظور الضحية.

وقد حصل عدد لا بأس به من كتاب أدب ما بعد الاستعمار على جائزة نوبل للآداب، أمثال غورديمر، وموريسون، وسوينكا. وكان آخرهم الروائي التنزاني عبد الرزاق جُرنة “عن أعماله الأدبية الصريحة والمعبّرة عن آثار الاستعمار ومصير اللاجئ في المعبر بين الثقافات والقارات” [3]. وتُعزى أهمية أدب ما بعد الاستعمار إلى المواضيع التي يناقشها، والتي تمسّ حالة شعب كاملٍ، لا مجرّد أفراد أو أقليات. كما يتطرق في تسليطه الضوء على نتائج الاستعمار إلى أثر هذه التجربة على المستعمرين أنفسهم.

مواضيع أدب ما بعد الاستعمار

إذاً، يناقش أدب ما بعد الاستعمار تجربة الاستعمار وآثارها في الماضي والحاضر على مستوى المجتمعات المعنية التي عاشتها، وعلى المستوى الأوسع الذي يتضمن آثار الاستعمار العالمية. فمن الممكن أن يتحدّث العمل الأدبي من هذا النوع عن الحياة في ظل المستعمِر، أي في فترة الاستعمار (colonisation) نفسها. كما يمكن أيضاً أن يناقش كيف تحولت الحياة بعد الاستقلال (post-colonisation)، وما الآثار التي عانت منها المستعمرات بعد نيل حريتها (neo-colonisation) [4].

وكما ذُكر سابقاً، تتنوع جنسيات المؤلفين في هذا النوع الأدبي، ويعود هذا التنوع إلى خضوع عدد كبير من الدول للاستعمار. غالباً ما كانت الدول المستعمِرة دولاً أوروبية، وتعد إنكلترا إحدى أكبرها وأكثرها انتشاراً. وقد امتدت المستعمرات الإنكليزية والأوروبية في أفريقيا، وأمريكا الجنوبية، ومنطقة الكاريبي، إضافة إلى دولٍ في آسيا كالهند والدول العربية. لكن لم تتزامن جميع فترات استعمار الدول مع بعضها. وأدى هذا التوزع الجغرافي والزمني للاستعمار، إضافة إلى الاختلافات الثقافية للمجتمعات الضحايا، إلى إغناء النوع الأدبي الذي يناقش هذه المرحلة وتنوع مواضيعه. فنجد في هذه الأعمال الأدبية طرحاً للكثير من الأفكار كالهوية، والضياع، والنزوح، والتنقل، والتأثر بالآخر، والشتات، والاختلاف، وغيرها. وفيما يلي نتطرق للحديث عن موضوعي الهوية والشتات في أدب ما بعد الاستعمار لما لهما من مكانة جوهرية، وباعتبارهما يمثلان تجربة مشتركة بين أغلب الشعوب التي خضعت للاستعمار، إن لم نقل جميعها.

الهوية في أدب ما بعد الاستعمار

تعدّ فكرة الهوية (Identity) إحدى النقاط الجدلية لدى شخصيات أدب ما بعد الاستعمار. ويتجلى تعقيد الهوية هنا بالاختلاف (difference) الكامن بين هويتين لشعبين اجتمعا على أرض واحدة، مما قد يؤدي إلى ضياع هوية الأفراد الأصلية. فالامتزاج بين ثقافتين مختلفتين – ربما اختلافاً كبيراً – يحفّز هذا الشعور بالاختلاف. وهذا ما قد يؤدي إلى صراع بين “النفس-self” و”الآخر-other”. فبالنسبة للمستعمرين، تُعد الشعوب الأصلية هي الشخص الآخر المختلف عنهم، والعكس صحيح بالنسبة لضحايا الاستعمار.

التغير في الهوية الأصلية

تحدث الناقد الهندي هومي بابا (Homi Bhabha) عن فكرتي الهجين والازدواجية بالنسبة للهوية. تمثل الازدواجية (Ambivalence) المزيج المعقد من الانجذاب والنفور الذي يسم العلاقة بين المستعمر وضحيته. فالمستعمر يرغب بأن يجعل الشعب الآخر مثله ويفرض قواعده عليه. ولكن في الوقت ذاته، هذه المحاكاة (Mimicry) التي يمارسها الشعب الخاضع تخيف المستعمِر وتهدد بقاءه لأنها تجعل من ضحيته نسخة مشوشة عنه. مما يجعله غير قادر على التحكم بها أو توقعها، فهي تشبهه، ولكن ليس تماماً، وهذا ما يكسبها طابعاً غامضاً [5]. من الأمثلة على الازدواجية شخصية “Nwoye” في رواية “الأشياء تتداعى – Things Fall Apart” لشينوا أتشيبي. فهو يعيش حالة من عدم اليقين فيما يتعلق ببعض العادات التي يراها خاطئة في قبيلته، إلا أن عواطفه تجاه القبيلة تجعله متردداً في قبول الثقافة الجديدة.

كما يتحدث بابا عن وجود مزيج هجين (Hybrid) بين الهويتين المعنيتين، قد يؤدي إلى خلق مساحة جديدة (Third Space) تجمع بين عالم المستعمِر وعالم ضحيته. فالاعتراف الواعي والإدراك لهذه الهوية الثقافية المزدوجة يؤدي إلى تجاوز غرابة التنوع الثقافي الذي يحمله المستعمر عند التصادم مع الثقافة الأخرى. فبالنسبة للمجموعتين، تحمل تجربة الاستعمار مواجهة مع ثقافة جديدة كلياً كما ذكرنا، وهذا أمر لا يخلو من الاستغراب وردود الفعل المتباينة. لكن قبول هذه الازدواجية يؤدي إلى ظهور أفراد بشخصيات هجينة تحمل طابعاً من كل ثقافة على حدة.

وقد لا يحدث هذا لدى الجيل الأول من ضحايا الاستعمار أو المستعمرين، بل من الممكن أن يظهر في الأجيال القادمة التي باتت أكثر إغراقاً في ثقافة الآخر وتقبلاً لها [5]. ويمكن رؤية الشخصية الهجينة في الشاب “Olunde” من مسرحية “الموت وفارس الملك – Death and the King’s Horseman” للكاتب وولي سوينكا. وهو ابن فارس الملك الذي يغادر قبيلته لدراسة الطب في إنكلترا، لكنه لا يتخلى عن هويته الأصلية. بل يحتضن الجانبين في شخصيته، ويعود لتلبية نداء الواجب تجاه قبيلته عندما يتطلب الأمر.

التمسك بالهوية الأصلية

لا يمكن القول بأن جميع شخصيات أدب ما بعد الاستعمار تعاني من حالة تقلّب أو تذبذب أو صراع تجاه الهوية. فقد نجد أن هناك من يتمسك بهويته الأصلية بقوة. بل إن الاستعمار يزيد من صموده وتعلقه بجذوره. بالعودة إلى تشينوا أتشيبي، فهو يصور في روايته “أشياء تتداعى – Things Fall Apart” شخصية “Okonkwo” الذي يرفض اعتناق أي من المبادئ القادمة من الثقافة الجديدة. وهذا يؤدي به إلى المنفى بعيداً عن قبيلته. كما نرى هذا التشبث بالعادات الأصلية في رواية “قلب الظلام – Heart of Darkness” لجوزيف كونراد. ويتجسد في جماعة آكلي لحوم البشر (Cannibals) في الكونغو. فهم لا يأبهون لوجود المستعمر، بل يشرعون بممارسة عاداتهم التي يمكن وصفها بالمنفرة من وجهة نظر المستعمر، عندما تسنح لهم الفرصة.

الشتات في أدب ما بعد الاستعمار

من المواضيع الأخرى التي يسلط أدب ما بعد الاستعمار الضوء عليها هو موضوع الشتات (Diaspora). ويتمثل الشتات بشعوب البلاد الأصلية التي أجبرت على الخروج من بلادها في ظل الاستعمار. عادة ما تشرح الأعمال الأدبية فكرة الشتات بالتركيز على قصص الترحال والسفر وعدم الاستقرار. ونجد ذلك، مثلاً، في رواية “رحمة – A Mercy” للكاتبة توني موريسون، ورواية “بحر سارجاسو الواسع – Wide Sargasso Sea” للكاتبة جين ريس [6].

وأخيراً، لا تخلو روايات عبد الرزاق جُرنة من هذه لأفكار المميّزة لأدب ما بعد الاستعمار، إضافة إلى مواضيع أخرى. فنراه يتحدث عن الشتات واللجوء والضياع والهوية. ونرى شخصياته العربية الأفريقية تعيش تجارب التنقل في البلاد التي هاجرت أو هربت إليها. ولا يمكن تجاهل أثر تجربته الشخصية في الهروب من بلاده واللجوء إلى إنكلترا بعيداً عن الاضطرابات والعنف [7].

على أمل أن تجد أعمال جرنة طريقها إلى القارئ العربي، الذي لابدّ وأن عانت بلاده من الاستعمار، وعاش أجداده تجربة مشابهة لما يحكى عنه في أدب ما بعد الاستعمار.

اقرأ أيضاً: عودة نوبل الأدب 2021 لأفريقيا بعد عقدين من الزمان

المصادر

  1. Stanford Encyclopedia of Philosophy – Colonialism
  2. Introduction to Literature, Criticism and Theory – Andrew Bennet and Nicholas Royle
  3. The Nobel Prize
  4. The British Academy – What is postcolonial literature?
  5. Post-colonial Studies: Key Concepts – Bill Ashcroft, Gareth Griffiths, and Helen Tiffin
  6. Postcolonial Literatures in Context – Julie Mullaney
  7. Writers Make the Worlds

الالتزام السياسي والفلسفة السياسية

هذه المقالة هي الجزء 10 من 11 في سلسلة مدخل إلى الفلسفة وفروعها

الالتزام السياسي والفلسفة السياسية

تهتم الفلسفة السياسية (political philosophy) بدراسة المفاهيم السياسية والقضايا المتعلقة بها. ويمكن تحديد المجال السياسي بالممارسات المتعلقة بالحكومة والمواطنين وعلاقة هذين الطرفين ببعضهما. تركز الفلسفة السياسية على كيفية توظيف السلطة العامة في سبيل الحفاظ على الحياة البشرية والارتقاء بها. وفي هذا الصدد، يدخل ضمن نطاق مواضيعها المتنوعة موضوع الالتزام السياسي تجاه القانون، وكيفية تطبيق القانون من قبل السلطة [1].

هل يجب أن نتبع القوانين وفقاً للالتزام السياسي؟

تُلزم الدول أتباعها ومواطنيها بالتصرف وفق القوانين التي تحددها والامتثال لها. وقد يعتبر البعض أن الالتزام السياسي يوازي الالتزام الأخلاقي تجاه الدولة باتباع قوانينها [2]. ولكن هل نحن حقاً ملزمون بطاعة هذه القوانين؟ وإذا كنا كذلك فعلاً، فما هو سبب هذا الالتزام؟ [3]

طَرَح سوفوكليس هذه الفكرة – فيما إذا كان يجب علينا أن نمتثل للقوانين – في مسرحية أنتيغون في القرن الخامس قبل الميلاد. وقد تم اقتراح العديد من الإجابات على هذا السؤال في فترات مختلفة. لكن حتى الآن لا يوجد جواب واحد يحظى باتفاق واسع النطاق. بل إن عدداً من الفلاسفة المعاصرين في الفلسفة السياسية يعتبرون أنه من غير الممكن صياغة نظرية واحدة مُرضية للإجابة على سؤال الالتزام السياسي أو الالتزام بالقانون [2].

مسألة الالتزام السياسي

يتمحور موضوع الالتزام السياسي حول وجود أسباب أخلاقية لطاعة ما تفرضه السلطة على أتباعها ومواطنيها. حيث توجد نظريات تعتبر أن هذا الالتزام هو غير طوعي أو غير اختياري، في حين ترى نظريات أخرى أنه التزام طوعي وغير إجباري [4].

اللا طوعية

وفق هذا المفهوم، لا تعد إرادة الأتباع أو خيارهم من ضمن الأسباب التي تدفعهم إلى الالتزام السياسي بقوانين السلطة التي يعيشون في ظلها. أي أن خيارهم أو إرادتهم لا تدخل ضمن ما يجعلهم مرتبطين بعلاقة طاعة أو امتثال للقوانين المفروضة عليهم. وترى بعض التوجهات فيها أن مجرد طرح فكرة البحث عن تبريرٍ أو سببٍ للالتزام السياسي، يعني أننا لم نفهم حقاً معنى أن يكون الفرد جزءاً من مجتمع سياسي. حيث أن المؤسسات السياسية، وهنا يقصد بها أي مجتمع أو هيئة ينتمي المرء إليها كالعائلة أو الصداقة، هي بحد ذاتها مولدة للالتزام. فهذا الالتزام بالامتثال للقوانين هو التزام وليد مع المؤسسة المعنية [5].

أما بعض الآراء الأخرى في اللا طوعية، فتعتقد أن السلطة تفرض على أتباعها الالتزام بقوانينها بوصفها وسيلة لتساعدهم أو ترشدهم في القيام بما يجب أن يفعلوه. ومن الأفضل لهؤلاء الأفراد أن يتبعوا القوانين الملزمة للجميع، والتي ترتقي فوق أسباب أخرى قد تكون مناسبة لحالة واحدة، إذ تقوم السلطة بوضع القوانين لتساعد على التعاون بين أفراد المجتمع. وهذا ما يفسر اتباع الأفراد للقوانين حتى وإن لم ترضهم [5].

وتبرر فئة ثالثة هذا الالتزام السياسي بأنه من الضروري للسلطة أن تضع القوانين كي تؤدي مهامها. وبالتالي، من حقها أن تفرض ما يجب فعله لتأدية هذه المهام. لكن تواجه هذه الفكرة، كغيرها، أسئلة واستفسارات عما هو “ضروري” وما هي الحقوق المطلوبة للقيام بهذا [4].

الطوعية

تعزو الطوعية الالتزام بالقانون إلى أسباب تتمثل بالقبول والمنفعة والعدالة [4]. فيعتبر جون لوك (John Locke) أن مفهوم القبول هو مفهوم جوهري في الفلسفة السياسية. فيخضع الأفراد لقوانين الدولة لأنهم وافقوا على ذلك طوعاً. تعود تحليلات لوك إلى الحالة الطبيعية التي لا يكون فيها الأفراد أتباعاً لسلطة معينة. في هذه الحالة الطبيعية من الحرية والاستقلالية، يؤكد لوك على أن الموافقة الفردية هي اللبنة الأساسية لنشوء المجتمعات السياسية وانضمام الأفراد إليها. ومع أن بعض الالتزامات والحقوق تعود في أصولها لقوانين الطبيعة، لكن بعض الالتزامات تنشأ بمجرد قبولنا أو موافقتنا عليها طوعاً [5].

يواجه هذا الطرح بعض الانتقادات من مبدأ أن الأفراد لم يقوموا فعلياً بالموافقة على القوانين التي تفرضها حكوماتهم أو سلطات بلادهم. والرد هنا هو أنه من الممكن للقبول أن يكون ضمنياً. أي بمجرد أن يعيش المرء في بلد ما، يكون قد وافق ضمنياً على الالتزام بقوانين هذا البلد طالما أنه لا يزال يعيش فيها [5].

وترى تفسيرات طوعية أخرى أن التزام الأفراد باتباع قوانين بلادهم ناجم عن الفائدة التي يحصلون عليها من البلاد. فالمواطنون مستفيدون من الدولة والسلطة فيها، لذلك فهم ملزمون باتباع قوانينها. وهذا الالتزام هو نوع من الامتنان لتلك القوانين [3]. كما أنه تعبير عن مشاعر احترام الهدف من هذا القانون في إرشادنا. وأخيراً، تنمحنا طاعة القوانين شعوراً بالانتماء للمجتمع الذي يديره هذا القانون [4].

أما بالنسبة للعدالة، فتبرر هذه الطوعية أن أساس طاعتنا للقانون هو الرغبة بالانتفاع من نظام قائم على الالتزام المتبادل. ويشبه هذا مبدأ المنفعة إلى حد ما، وتحدث عنها كل من هارت (H. L. A. Hart) ورولز (John Rawls). إذ يكمن جوهر هذه الفكرة بأن من يقبل الانتفاع من خطة عادلة قائمة على التعاون، يقع على عاتقه القيام بواجبه ضمن هذه الخطة. يبني رولز هذه الفكرة على أساس أن جميع الأفراد متساوون وأحرار، وعلى المجتمع أن يكون عادلاً، وهذا ما يضفي الشرعية على السلطة السياسية وما تفرضه [6].

الالتزام السياسي أم الفوضوية؟

تواجه كل من هذه النظريات والتفسيرات للالتزام السياسي انتقادات وتساؤلات تجاه نقاط الضعف فيها. وكما ذكرنا سابقاً، فإن مسألة ما إذا كان الأفراد ملزمين باتباع القانون، أو الأسباب وراء هذا الالتزام إن وجد، لا تحظى بإجابة واحدة متفق عليها. ولا تخلو أي منها من ثغرات تفتح مجالاً لأنصار الفوضوية (anarchism) للاعتقاد بأنه من المستحيل تبرير الالتزام السياسي. ولذلك، يرفض هؤلاء الفوضويون كافة أشكال التراتبية في السلطة، ويدعون إلى انحلال الدول والحكومات بحجة أنها غير ضرورية، بل ومؤذية [4].

اقرأ أيضاً: هل تحول السلطة البشر إلى وحوش؟

المصادر

  1. Britannica
  2. Political Obligation
  3. Coursera: Fletcher,Guy, et al. Introduction to Philosophy [MOOC]. Coursera.
  4. Legal Obligation and Authority
  5. Locke’s Political Philosophy
  6. John Rawls

ملخص رواية زوربا اليوناني للكاتب نيكوس كازانتزاكي

ملخص رواية زوربا اليوناني

زوربا اليوناني هي رواية عالمية للكاتب اليوناني نيكوس كازانتزاكي. نُشرت بداية في عام 1946، وتُرجمت إلى العديد من اللغات ولاقت نجاحاً كبيراً.

لقاء زوربا في المقهى

تبدأ أحداث الرواية مع بداية نهار جديد في أحد المقاهي في ميناء “بيريه”. لكن هذه البداية لا توحي بإشراقة أمل أو مستقبل واعد. بل يعطي الطقس العاصف شعوراً بالضيق، ينعكس في حالة رواد المقهى من بحارين وغيرهم. فهم سئمون ومثقلون بهموم الحياة.

وسط هذه الصورة الرمادية، يطلّ الراوي الذي نسمع تفاصيل حكايته بصوته، ولكننا نجهل اسمه. يبدأ الحكاية وهو جالس في إحدى زوايا المقهى، مستعرضاً ذكريات لا تقلّ سوداوية عن اللحظة الحالية. فيحكي قصة وداعه لصديقه في هذا المقهى بالذات، حين كان هذا الصديق مسافراً إلى القوقاز. مع أننا لا نرى هذا الصديق ولا نسمع صوته مباشرة، إلا أنه يبقى حاضراً في ذهن الراوي.

في هذه الأثناء، يجلس الراوي في المقهى بانتظار مركب ليأخذه هو الآخر في مغامرة إلى جزيرة كريت. حيث قرر هذا الرجل، وهو رجل مثقف مفكر كاتب، أن يترك أوراقه وكراساته، وينطلق في مغامرة حقيقية أسوة بصديقه الذي كان دائماً يشجعه على هذه الخطوة. وها هو الآن، حزم أمتعته، وترك كتبه، واستأجر منجماً للينيت (أحد أنواع الفحم) كي يستثمره. لكنه يدسّ معه خلسة – ربما خلسة عن نفسه أو عن صديقه الحاضر في ذهنه – مخطوطاً كان قد بدأ بكاتبته ولم ينته منه، علّه يكمله على الجزيرة. ويبقى هذا المخطوط، الذي أسماه مخطوط “بوذا”، مرافقاً له لوقت ليس بقليل.

قبل أن يأتي القارب، يدخل على الراوي رجلٌ غريب يقارب الستين من العمر، وهو بطلنا ألكسيس زوربا الذي نتعرف عليه مع الراوي بلحظة شرود وصمت. يأتي زوربا طالباً أن يسافر معه، ويثير بأحاديثه العفوية فضوله، مما يدفعه إلى القبول بأخذه كمساعد.

ولكن زوربا لم يكن قد حزم الكثير من الأمتعة، بل اكتفى بأخذ السانتوري الذي يعشق موسيقاه، والذي عاش معه تجارب غيرت حياته. وفي خضم أحاديثه المتشعبة، يدرك الراوي، أو الرئيس كما يدعوه زوربا، أن هذا الرجل ذو القلب الحي والروح الخام هو الرجل الذي يبحث عنه ليساعده، ليس فقط في مغامرته، بل أيضاً في سعيه الفكري والروحي.

ثم على القارب

في القارب، يكتشف الرئيس جوانب أكثر لشخصية زوربا. فهو رجل صريح لا يخاف أن ينتقد ما لا يعجبه أو أن يعبر عن رأيه واستيائه للأحداث المعاصرة في بلاده. أما الرئيس فيغرق في تأملاته وأفكاره التي تطال كل الغيوم والجزر التي تمر في طريقهم، بل وحتى الركاب.

على القارب، يكشف زوربا للرئيس عن العذاب التي تسببه له فكرة الحرية، هذه الفكرة التي يقتل البشر بعضهم من أجلها، كما فعل هو في أيام شبابه عندما قامت الثورة في كريت. ويبقى موضوع الحرية أحد المحاور الأساسية التي تناقشها الرواية على لسان زوربا وفي أفكار الرئيس.

الوصول إلى القرية

مع الحديث عن الحرية، يترجل الرئيس وزوربا وينطلقان إلى وجهتهما، وهي إحدى القرى على جزيرة كريت. فالخطة أنهما سيمكثان هناك ويعملان في منجم اللينيت. يقصدان بداية الأمر مقهى القرية ويتعرفان على بعضٍ من رجالها. ثم يذهبان إلى نُزُلٍ تملكه سيدة غريبة عن القرية، سيدة فرنسية تدعى السيدة هورتانس، وهي امرأة ذات سمعة غير طيبة بين السكان.

في اليوم التالي بعد أن يستكشف الرئيس القرية، يمضي يومه مع زوربا والسيدة هورتانس التي تكرمهما بوليمة غداء تحكي لهما أثناءها عن مغامراتها السابقة عندما كانت مغنّية شابة. فقد عاشت أيام مجدها في زمن الثورة الكريتية حين كانت بصحبة جنرالات من إنكلترا وفرنسا وروسيا وإيطاليا.

لم يُكتب لهذه الأمجاد أن تدوم، فبعد انتهاء الثورة، رست مراكب السيدة هورتانس في كريت. ومع أنها لا تحظى باحترام كبيرٍ من الأهالي، إلا أنها تعيش بينهم وتدير فندقها في القرية. ويقضي زوربا والرئيس وقتاً ممتعاً عندها وتنشأ علاقة بينها وبين زوربا الذي دائماً ما يبحث عن سيدة أو أرملة يقضي معها بعض الوقت في كل مغامرة يخوضها.

الكوخ والصديقان

تمضي الأيام ويبني الرئيس وزوربا كوخاً على الشاطئ ويستقران فيه. ويبدأ العمل بمنجم اللينيت حيث يشرف زوربا على العمال. كما تتطور الصداقة بين الرجلين الذين لا تنتهي أحاديثهما. فالرئيس لا يملّ من حكايات زوربا، هذا السندباد البحري الذي دار بلاداً ومدناً كثيرة، وعاش تجارب لا تحصى. وكان الرئيس ينهل من هذه الأحاديث ما استطاع إليه سبيلاً من حكمٍ ومعانٍ لم يجدها في الكتب.

يكمن جمال العلاقة بين زوربا والرئيس بأن أحدهما يكمّل الآخر. فزوربا رجلٌ مدفوعٌ بغرائزه ورغباته، ويفخر بالتعبير عن مدى حبه للنساء والطعام والخمر وكافة الملذات الجسدية. كما أنه يقدّس الجمال في كل ما يرى، وهو “يرى يومياً كل الأشياء للمرة الأولى” كما يصفه الرئيس. أما هذا الآخر فهو رجل يحتقر ملذات الجسد، على حد اعترافه، ويُكثر التفكير والتحليل في كافة الأمور، حتى تستحيل إلى أفكارٍ مجردة يقبلها عقله. تتناقض سعة معرفة الرئيس وحكمته التي استقاها من الكتب مع اندفاع زوربا وطيش الشباب الذي لا يفارقه حتى بعمر الستين.

لا يقطع زوربا والرئيس علاقتهما مع أهل القرية ومع السيدة هورتانس التي يزورانها أيام الأحد. وهذا الاختلاط بالناس هو أحد المحفزات التي تخلق حوارات عميقة بين الصديقين. ويتمخض عن هذه الحوارات في أحد المرات اعتراف من الرئيس برغبته في إنارة العالم وإخراج هؤلاء الناس من غياهب الظلمات التي يغرقون فيها. وكالعادة، يختلف زوربا عنه في هذا المسعى، إذ يرى أن لا فائدة من إنارة الظلام، فقد اعتاد الناس عليه، وهم سعيدون فيه. لكن العالم الذي يرسمه الرئيس لهم هو ليس إلا ظلاماً آخرَ مجهول الماهية، ولن يحقق لهم أية سعادة إضافية لأنه غير معروف. “إنهم مرتاحون في بؤسهم. إذن دعهم والزم الصمت” ينصح زوربا الرئيس.

المخطوط والرئيس، زوربا والمنجم والرقص

لا تكف أفكار الرئيس عن مطاردته في هذه الجزيرة، فسكون البحر وصمت الليل يحركان “بوذا” المختبئ داخله، ويشعلان في قلبه وعقله الرغبة بالتحرر من الأعباء التي تثقله. فهو دائماً يتغنى بالحرية التي تحدث عنها بوذا، والآن على هذه الجزيرة، قطع على نفسه وعداً بأن يحرر روحه من القلق. عندما تنتابه هذه التأملات، ينكب على مخطوطه ويكتب فيه حتى يغيب في عالم النوم ويستيقظ مجدداً في دوامة تعب تعود به إلى الواقع.

أما زوربا، فكان همه هو العمل والمنجم. وكان في كل ليلة تقريباً، بعد أن يتعشى مع الرئيس، يحدثه عن سير الأعمال. في إحدى المرات، وبعد الحديث عن أفكار جديدة للمنجم، تغمر روح زوربا سعادة جمة لا يتحملها جسده المحدود. فينطلق إلى شاطئ البحر ويبدأ بالرقص تعبيراً عن كل المشاعر في داخله. ويعترف للرئيس عندها أن الرقص هو سلاحه في التعبير عندما تخونه الكلمات.

يمضي الرئيس أياماً لطيفة مع صديقه الجديد، لكنه لا ينسى صديقه القديم الموجود في القوقاز والذي يزور أفكاره بين الحين والآخر. ويمثل هذا الصديق الغائب الحاضر جزءاً عميقاً من نفس الرئيس، لا ينفصل عن كيانه، ويلجأ إليه في لحظات الضعف والاعتراف والبوح .وفي إحدى المرات يكتب له رسالة يحدثه فيها عن مغامرته، وعن هذا السندباد البحري الذي يعيش معه ويتعلم منه.

ظهور الأرملة

ذات نهار ماطر، وفي مقهى القرية، تظهر شخصية جديدة مثيرة للاهتمام، وهي الأرملة سورمولينا التي سلبت بجمالها قلب أحد الشباب في القرية، وهو بافلي، ابن السيد مافراندوني. كانت للأرملة أثر كبير على كل الموجودين، بجسمها القوي الممتلئ ونظرتها الثاقبة. وكما هو متوقع من زوربا، أضرمت الأرملة ناراً في قلبه، ولكنه في هذه المرّة آثر أن يشجع صديقه ليجري خلفها. فبدأ يحث الرئيس على السعي لطلب ودّها.

كان الرئيس قد أحس برغبة كبيرة تجاه هذه المرأة الشابة التي تشبه الفرس، فهو رجل بطبيعة الحال، لكنه كان أضعف من أن يعترف بذلك لعدم قدرته على احتضان الحب بكل قوته. إلا أن صورة الأرملة سورمولينا تعود لتقضّ مضجعه في مواقف متكررة، مذكّرة إياه بعدم ديمومة الحياة، وبضرورة تحصيل السعادة في كل مرة يستطيع الإنسان إليها سبيلاً.

أفكار الرئيس ومشاريع زوربا

تمر الأيام وتأتي السنة الجديدة، ويمضي زوربا والرئيس أيام الأعياد عند السيدة هورتانس، أو بوبولينا كما يفضل زوربا أن يناديها تيمناً ببطلة حرب الاستقلال اليونانية. وكانت هذه السيدة العجوز لا تبخل عليهما لا بالطعام ولا بالحفاوة، وبالمقابل، كان زوربا يكرمها بالحب.

أما الرئيس، فكانت حبيبته مخطوط “بوذا” الذي كان يخرجه من عزلته عندما تعطيه التجارب كمّاً من الأفكار ليضيفها إليه، خاصة تلك التي يتعلمها من مدرسة زوربا في الحياة. وقد أصبحت كتابة مخطوط “بوذا” تمثل صراع الرئيس مع ذاته تجاه السلام الروحي.

ومع الأيام، وعندما يلاحظ الرئيس عدم جدوى العمل في المنجم، يشجع زوربا على المضي قدماً في خطة جديدة. إذ كان الرئيس قد استأجر غابة صنوبر من دير الرهبان الواقع على الجبل، وكانا يريدان بناء مصعد لنقل الخشب من الأعلى. وكانت مهمة زوربا إيجاد الميل الملائم للمصعد. وعندما ينجح بذلك نظرياً، يقرر الذهاب إلى مدينة مجاورة لجلب الأغراض التي يحتاجها المصعد، على أن تستمر رحلته تلك ثلاثة أيام.

رحلة زوربا

يبقى زوربا في المدينة فترة أطول بكثير من المتفق عليها. ويبعث برسالة للرئيس يحكي له فيها عن سبب هذا التأخير. فقد كان يقضي أيامه مع صبية بعمر الورود تدعى لولا، كان قد تعرف عليها وقرر قضاء تجربة جديدة في الحب معها. ومع أنه كان يبدد مال الرئيس في المدينة، إلا أن الرسالة وما تحمله في سطورها من تأملات “زورباوية” عن الحب والحياة تبهج قلب الرئيس ولا تفتح مجالاً للغضب أو الانزعاج من هذا التصرف الطائش.

وأما السيدة العجوز هورتانس، فتصيبها حالة من القلق على محبوبها الذي تأخر في المدنية، وتأتي لتسأل صديقه عنه. ما الذي سيقوله الرئيس هنا؟ فهو لا يستطيع أن يكسر قلبها ويخبرها الحقيقة، لذلك ألّف لها قصصاً كثيرة عن زوربا، لا تخلو من أشواق ووعود وكلمات معسولة زعم أنه أرسلها لها في إحدى رسائله. ولكن مع كل هذا تبقى سعادتها ناقصة. عندها، يدرك  الرئيس بحكمته الواسعة أن هذه المرأة التي أمضت حياتها وشبابها كمغنية جميلة تنتقل من مدينة لأخرى ومن عشيق لآخر، كان لا بدّ لها في نهاية الأمر من أن تستقر مع زوج شرعي يعيد لها كرامتها بين الناس. فلم يكن منه إلا أن أكمل نسج كذبة على مقاس أحلامها وتمنياتها، وأخبرها أن زوربا ينوي الزواج منها عندما يعود.

أثر الأرملة الأول

تعود الأرملة سورمولينا إلى صورة الأحداث، مصحوبة بمأساة كانت قد حلت بالقرية. فقد قام العاشق الولهان بافلي بإغراق نفسه، إذ لم يعد يطيق رفض الأرملة له ووصل إلى قاع اليأس الذي قاده إلى انتحاره. يثير هذا سخط أهل القرية على الأرملة ويتهمونها بأنها سبب ما حدث، أما الرئيس فهو الشخص الوحيد الذي يدافع عنها. ولهذا ترسل له سلة من البرتقال امتناناً لموقفه معها. لكنه يبقى صامداً بمقاومة مشاعره ورغبته تجاهها.

زيارة الدير

عند عودة زوربا من المدينة، يتبادل الأخبار والقصص مع صديقه، ويخبره هذا الأخير بمشروع زواجه من هورتانس. لكن زوربا لا يسرّ من الفكرة ولا يعيرها الكثير من الاهتمام. ثم يذهب الرجلان إلى دير الرهبان الذي استأجرا منه غابة الصنوبر لإكمال الصفقة. ويقضيان يومين وليلة هناك، تدور فيها أحداث مريبة بين بعض الرهبان والآباء. يستغل زوربا هذا الموقف ليحصّل صفقة موفقة مع رئيس الدير، يوفر من خلالها على الرئيس الكثير من المال تعويضاً لما بدده في مغامرته مع لولا.

عند عودتهما إلى كوخهما على الشاطئ، يجدان عروس المستقبل بانتظارهما، طلباً لعريسها الذي سيخرجها من حياة العار. إن لزوربا قلباً رقيقاً لا يتحمّل رؤية أنثى، أياً كانت، حزينة أو كئيبة. ولهذا، يحنّ قلبه على السيدة هورتانس ويقوم بخطبتها فوراً تحت ضوء القمر وبوجود شاهدهما، الرئيس. ويعدها أنه سيتزوجها يوم عيد الفصح، أي بعد عدة أيام. في هذا الموقف، يتجلى زوربا رجلاً رؤوفاً وحنوناً وصادقاً حتى عندما لم يَقطع الوعد بنفسه.

أثر الأرملة الثاني

في اليوم التالي، يجتمع أهل القرية والكاهن عند الرئيس وزوربا لمباركة الخطوة الأولى في بناء المصعد. وبعد أيام قليلة، يأتي عيد الفصح وينتظر الرئيس وزوربا العروس العجوز، لكن يأتي صبي يخبرهما أنها مريضة. فيهرع زوربا للاطمئنان عليها، ثم ينضم لأهل القرية للاحتفال بالعيد.

أما الرئيس، فيبقى وحده في الكوخ، إلى أن يشعر بقوة داخلية تسري في جسده وتقوده إلى وجهةٍ لم يتوقف عقله الباطن عن التفكير بها مدة طويلة.

ها هو يصل إلى بيت الأرملة، يراها واقفة بين أشجار البرتقال المزهرة، يدق الباب ، ويقول لها أنه هو، فتفح له، ويدخل.

يعود الرئيس إلى كوخه في صباح اليوم التالي، ويجد صديقه منتظراً إياه بفارغ الصبر. فهذا العجوز المفعم بالحياة كان قد خمّن ما حصل، وملأت قلبه سعادة غامرة عند رؤية الرئيس قادماً من بيت الأرملة.

بعد تلك الليلة، يعيش الرئيس خليطاً من المشاعر التي تملأ قلبه بالسرور وتعمل على مصالحة كل التناقضات والصراعات في داخله. فيشعر في تلك اللحظات بغبطة واستقرار في نفسه، ويصبح أقرب إلى فهم روحه وجسده والعلاقة بينهما. ويحمله هذا الإدراك إلى مخطوطه العزيز، فقد آن لهذا المشروع أن ينتهي، وآن لبوذا أن يجد حريته مرة أخرى، لكن هذه المرة في عقل الرئيس.

أثر الأرملة الثالث

بعد أن ينتهي من مخطوطه، يأتي خبر للرئيس عن السيدة هورتانس ويذهب مسرعاً إليها. في طريق عودته يجد أهل القرية مجتمعين ومستمرين باحتفالات العيد، فيبقى بعض الوقت معهم. ولكن، يرى أحد الموجودين أن الأرملة قد خرجت من بيتها، وهي لحظة كان الجميع ينتظرها كي يأخذوا بثأر الشاب بافلي. وفعلاً، يذهب الجميع، نساءً ورجالاً، إلى حيث ذهبت الأرملة، وينقض ابن عم الشاب كي يقتلها. لكن زوربا يأتي في الوقت الحاسم ويحتد القتال بينه وبين الشاب المندفع، وعندما ينجح بإفلات سكينه ويهرع إلى أخذ الأرملة لمنزلها، يأتي والد الشاب الضحية ويقطع عنقها بضربة واحدة، ويرمي رأسها على الأرض.

كان هذا الحادث صدمة شديدة تحل على زوربا الذي يدخل في حالة من اليأس والحزن والذهول، وتتجلى هذه الحالة بكل تفاصيل حياته وعقله، بل حتى جسده الذي أضناه التعب. أما الرئيس، فكعادته، يبدأ بتحويل الواقع إلى أفكار مجرّدة كي يستوعبها عقله، ثم يقتنع به ويتصالح معه.

وداعٌ آخر

لا تنتهي المآسي هنا، فبعد أيام قليلة، تلفظ السيدة هورتانس أنفاسها الأخيرة، وتودّع الحياة الصاخبة التي عاشتها. تودع عشاقها ومحبيها الموجودين في ذاكرتها. كما تودع خطيبها زوربا الذي لم يفارقها في مرضها. ويودعها أهل القرية الذين كانوا ينتظرون موتها كي يقتسموا أغراض بيتها، فلا أولاد لها ولا أقارب. بل إنها غريبة عن البلاد كلها، ويرى أهل القرية أنهم أحق بهذا الإرث الذي خلفته المغنية حتى وإن لم يكنّوا لها أي احترام في أيام حياتها.

مع هاتين السيدتين، تنتهي سلسلة أحداث كانت تزين حياة زوربا والرئيس بتفاصيل عذبة وجلسات مرحة، وبأفكار وتأملات تبعث على الطمأنينة والهدوء.

المصعد، الأمل

تمضي الأيام وتتوالى المغامرات وجلسات التأمل والتفكير. أما عن العمل، فيشارف بناء المصعد على الانتهاء، ويقترب موعد تجريبه. وفي هذا اليوم المنشود، يجتمع أهل القرية ورهبان الدير والكهنة لتجربة المصعد والاحتفال بعد ذلك بهذا الإنجاز. لكن الفرحة لا تتم، وينهار المصعد أثناء التجربة، فيصاب جميع الموجودين بالذعر ويفرون هاربين. ويبقى زوربا والرئيس، يتأملون الفشل الذريع لهذا المشروع الذي كلف كثيراً من المال والوقت والجهد. ولكن الطريف بالأمر أنهما يكملان نهارهما بسعادة. يتناولان وليمة الغداء على شاطئ البحر، ويرقصان سوياً بعد ذلك، مدركين في قرارة نفسيهما أن وقت الفراق أصبح قريباً.

الحرية المنشودة ووداع زوربا

في اليوم التالي، يركض الرئيس في القرية بلا هدف ويصعد الجبل ويدرك مدى الحرية التي اكتسبها حقاً. فمع انهيار المصعد، تخلّص من كل همومه الدنيوية، وباتت الحرية تملأ عقله وقلبه. يتلقى في ذاك الصباح رسالة من صديقه في القوقاز ويسمع بعضاً من أخباره. لكن عندما يغفو وهو في حالة الغبطة تلك، ينتابه شعور غريب في الحلم ويحس بأن مكروهاً سيحصل لصديقه. فقد اتفقا عندما افترقا أن يرسل أحدهما للآخر إشارة عبر الأثير عندما يشعر بدنوّ أجله، ويبدو أن صديق القوقاز قد وفى بوعده. فبات الرئيس على يقين أن شيئاً ما سيحدث، وقد كان لهذا الإحساس أثر أكبر من الرسالة التي استلمها فعلاً وقرأ محتواها.

في آخر ليلة لهما، يتحدث الرئيس وزوربا حديث الوداع، لكنه ليس بذاك الحديث العاطفي المنمق المليء بالمشاعر المضطربة. فزوربا، بقوته وصدق كلماته، لا يختبئ خلف كلمات العزاء الفارغة. بل يبوح بمكنونات قلبه، ويخبر صديقه أنه يعلم بأنهما لن يلتقيا في المستقبل، ثم يذهب ويتركه وحيداً. ولا يلتق الصديقان بعد ذلك أبداً.

في صباح اليوم التالي، يودع الرئيس القرية ويذهب إلى المدينة ليكمل مشوار حياته وأسفاره، ويتلقى هناك برقية كان يعرف محتواها مسبقاً. كان صديقه في القوقاز قد مات فعلاً، بعد أن أرسل له تلك الإشارة الأثيرية المتفق عليها.

النهاية وزوربا والسانتوري

مرت سنوات خمس، ومازال الرئيس هائماً على وجهه. صحيح أنه لم يلتق زوربا، لكن وصلته منه عدة رسائل من أماكن مختلفة، مرة من جبل أثوس ومرة من رومانيا ومرة من الصرب، حيث يلتقي بأرملة جميلة ويتزوجها.

يتابع الرئيس خلال رحلاته التفكير والتأمل والكتابة، ويقرر أن يكتب عن زوربا حتى يخلّده ولا ينساه. فيكتب عنه أسطورة ذهبية يحكي فيها كيف كان هذا الرجل صديقاً ومعلماً، بل مدرسة كاملة. وعندما ينتهي من الكتابة، تأتي إليه رسالة من الصرب، مفادها أن زوربا العزيز قد مات، وقد أوصى بإعطاء السانتوري للرئيس.

تنتهي هنا حياة زوربا، لكنه في الواقع لم يمت. فقد بقي خالداً ليس فقط في كتابة الرئيس، بل في ذهن كل إنسان مر في حياته وكل امرأة لمسها وكل صديق خاطب روحه. كما أنه سيبقى حياً بفلسفته وحكمته وحريته في أذهان كل من يقرأ عنه.

للاستماع لموسيقى ميكيس ثيودوراكيس. من فيلم زوربا: هنا.

اقرأ أيضاً: ملخصات كتب.

المصادر

نيكوس كازانتزاكي، زوربا اليوناني. ترجمة جورج طرابيشي. دار الآداب، بيروت. الطبعة الحادية عشرة، 2013.

الشكوكية الفلسفية بين القديم والحديث: ما هي مفاهيمها وبماذا تبحث؟

هذه المقالة هي الجزء 7 من 11 في سلسلة مدخل إلى الفلسفة وفروعها

الشكوكية الفلسفية بين القديم والحديث: ما هي مفاهيمها وبماذا تبحث؟

يوجد توجهان في الشكوكية الفلسفية (Philosophical Scepticism)، يرفض أحدهما القدرة على امتلاك المعرفة، في حين يدعم الآخر فكرة تعليق الحكم على الأمور نتيجة لعدم الدقة.

تعريف الشكوكية الفلسفية

الشك هو الرؤية التي تعتبر أن وجود المعرفة (أو الاعتقاد المبرر تجاه شيء ما) هي أمر مستحيل [1]. ويعود أصل كلمة الشك بالإنكليزية (scepticism) إلى الكلمة الإغريقية (skepsis) وتعني البحث أو التحقيق. فقد كان المشككون القدماء يصفون أنفسهم بالباحثين أو المحققين الذين يسعون إلى التحري في أمر ما، وبالنهاية يعلّقون الحكم عليه. إذ يقوم جوهر الشك في الفلسفة القديمة على تكريس هدف الحياة للسعي وراء الأسئلة والبحث، وبما أنه لا يمكن تحصيل المعرفة النهائية، لا يمكن تأكيد أي شيء من وجهة نظر المشككين. فحتى المعتقدات هي موضع تساؤلات وبحث وتعليق بالنسبة لهم [2].

تختلف مفاهيم الشك لدى الإغريق عن تلك السائدة في العصر الحديث. فقديماً، كان المشككون يبحثون في مواضيع المعتقدات وتعليق الحكم على أمر ما ومعايير الحقيقة والمظاهر والتحقيق. أما حديثاً، فتتجلى المفاهيم المهمة بالمعرفة والتأكيد والاعتقاد المبرر. في حين تركز نظرية المعرفة وفلسفة اللغة على المواضيع التي كان يتناولها المشككون القدماء [2].

كيف ظهرت الشكوكية الفلسفية قديماً؟

تنقسم الشكوكية في اليونان القديمة إلى حركتين، وهما الشكوكية الأكاديمية (Academic Skepticism) والشكوكية البيرونية (Pyrrhonian Skepticism) [3].

تأسست الشكوكية الأكاديمية في أكاديمية أفلاطون (الأكاديمية الجديدة) في القرن الثالث قبل الميلاد. ويعد الفيلسوف أركسيلاوس (Arcesilaus) أول من أحال الأكاديمية إلى الفكر الشكوكي، وقد اعتمد في ذلك على قراءات جديدة لكتب أفلاطون [3].

أما الفيلسوف بيرو (Pyrrho) فيعتبر مؤسس الشكوكية البيرونية مع أنها ظهرت بعد وفاته. لم يخلّف بيرو وراءه أي كتابات أو مؤلفات. بل كان تلميذه تيمون (Timon) هو المصدر الذي نقل جزءاً من أفكاره. كما طرح الفيلسوف أنيسيديموس (Aenesidemus) فكرة الشكوكية في القرن الأول قبل الميلاد ونسب هذا المذهب إلى بيرو. وفيما بعد، في القرن الثاني الميلادي، أكد الفيلسوف سيكستوس إمبيريكوس (Sextus Empiricus) أن بيرو هو مؤسس الشكوكية، أو على الأقل كان مصدر إلهام لمبادئها ومفاهيمها [3].

اتفقت المدرستان على اتباع منهج شكوكي في الحياة يقوم على تعليق الحكم، لكن كانت بينهما نقاط خلاف حول هدف هذا المنهج أو نتيجته، بالإضافة إلى طرحهما لجدليات شكوكية مختلفة [4].

كان أنصار الشكوكية الأكاديمية يواجهون مدارس فلسفية أخرى حول إمكانية المعرفة. ومن أبرز هذه المدارس كانت الرواقية التي ادّعت أنه يمكننا معرفة الحقائق الأساسية من خلال الفهم الذي يعتبر قدرة عقلية لاستيعاب الأشياء. أما الشكوكيون الأكاديميون فقد اعتبروا جميع الأشياء غير قابلة للفهم، وأن أفضل ما يمكن أن نحققه هو مجرد احتمالية أو ترجيح [4].

بدورهم، كان البيرونيون أيضاً من الرافضين للرواقية في مسألة القدرة على فهم المعرفة، وتمسكوا بمبدأ عدم القدرة على الفهم الذي تستحيل معه كافة الأشياء إلى مظاهر. وتتمثل العملية الجوهرية في التشكيك بمساءلة كل قضية أو جدل عن طريق طرح جدل مناقض، وبهذا نبقى محايدين تجاه كل ما يتمحور حوله الجدل. عندها يتم تعليق الحكم والوصول إلى حالة من الهدوء أو السكينة [4].

الشكوكية الفلسفية الحديثة

تحدث العديد من الفلاسفة عن الشكوكية وسنستعرض بعضاً من أفكارهم.

الشكوكية عند ديكارت

حسب رينيه ديكارت (René Descartes)،  تتمثل المعرفة التامة بانعدام القدرة على إيجاد أسباب للشك بها أو التساؤل حولها. فانعدام أسباب الشك يحول القناعة إلى تأكد تام. وبهذا يظهر مفهوم الشك على نقيض مفهوم التأكد. أي كلما ازداد الشك، انخفض التأكد، والعكس صحيح. ويمثل شرط استحالة وجود أسباب للشك معياراً عالياً لتبرير المعرفة التامة. ولكن ديكارت يرى أن تحقيق هذا الشرط أمر صعب جداً [5].

تطرح الشكوكية الديكارتية تساؤلات حول إمكانية معرفة العالم الخارجي ونحن نواجه تحدياً متمثلاً بعدم معرفتنا لأوجه رفض الفرضيات الشكوكية. يمكن شرح هذا من خلال مثال ديكارت في تأمله الأول والمتمثل بفرضية وجود شيطان شرير يحول كل معتقداته – معتقدات ديكارت – إلى أمورٍ خاطئة في حين يجعلها تبدو له على أنها صحيحة. وفكرة ديكارت هنا هي كيف يمكننا أن نعرف أن نظرية الشيطان الشرير خاطئة؟ [6]

ومن الأمثلة الحديثة المنبثقة عن هذا التأمل الأول مثال “الدماغ في الوعاء – brain in a vat”. يقوم هذا الادعاء على افتراض أننا لا نعيش حياتنا كما نتخيل. بل تتم تغذية عقلنا بالتجارب عن طريق أجهزة حاسوب. إذا كان هذا الافتراض صحيحاً، فمعظم ما نعرفه عن العالم ونؤمن به هو عارٍ عن الصحة (أو أنه صحيح بطريقة تختلف عمّا نتوقعه)، وبهذا نحن لا نملك المعرفة. لا يمكن تمييز هذه الحالة المفترضة من عدمها، أي أننا لا نستطيع أن نعرف فيما إذا كنا في حالة دماغ في الوعاء، أو إذا كنا نعيش التجارب فعلاً كما نفترض أننا نعيشها. بالتالي، لا يمكن أبداً معرفة فيما إذا كان هذا الافتراض أو السيناريو خاطئاً نتيجة لعدم قدرتنا على التفريق بين الحالة المفترضة وعدم وجودها [7].

الشكوكية عند هيوم

يتحدث أيضاً ديفيد هيوم (David Hume) عن المعرفة والشك. في كتابه رسالة في الطبيعة البشرية، يسير تحليله لبعض المفاهيم في ثلاث خطوات. أولاً، يناقش هيوم عدم قدرتنا على اقتناء المعرفة التامة لبعض المفاهيم الفلسفية المهمة. ثانياً، يشرح كيف يمكن لاستيعاب المفهوم أن يعطينا فكرة ضيقة جداً عنه. ثالثاً، يبين أن بعض الآراء الخاطئة عن المفاهيم تقبع أصولها في الأوهام، ويوصي برفض هذه الآراء الخاطئة. يطبق هيوم هذه الخطوات عند تناوله للعديد من المواضيع كالفضاء والوقت والأشياء الخارجية والهوية الشخصية وغيرها [8].

أما عن الشك فيتحدث هيوم عن وجود ثلاث تناقضات في النظريات الفلسفية وهذا ما يرفع من مستوى الشكوكية. يتمحور أول هذه التناقضات حول ما ندعوه بالاستقراء، فنحن نبني أحكامنا على تجارب سابقة لا تخلو جميعها من عناصر الشك. وعليه، سنكون مضطرين للخروج بحكم حول هذا الشك، وهذا الحكم بدوره مبني على تجارب سابقة، فسيخرج عنه شك جديد. سنقوم من جديد بإطلاق أحكام عن الشك الثاني الجديد، وهكذا. أما التناقض الثاني فينطوي على صراع بين نظريتين حول الإدراك الخارجي نصل إليهما بعد عملية استقراء طبيعي. أولهما هي ميلنا الطبيعي لتصديق أننا نرى الأشياء مباشرة كما هي في الحقيقة. والأخرى هي رؤية ذات طبيعة فلسفية أكثر، تعتبر أن ما نراه هو مجرد صور عقلية أو نسخ للأمور الخارجية. بالنسبة للتناقض الثالث، فيتضمن صراعاً بين التعليل السببي والاعتقاد باستمرارية وجود المادة. وينتهي هيوم في أفكاره عن الشكوكية بأن هذه التناقضات ستشوب حتى أفضل النظريات عن الظواهر الجسدية والعقلية [8].

الشكوكية الراديكالية

إذا أردنا أن نتحدث عن الشكوكية الراديكالية (Radical Scepticism)، فهي تخلص إلى أننا لا نعرف ما نظن أننا نعرفه. فإذا كنا غير قادرين على استبعاد احتمالات أو سيناريوهات شكوكية – كمثال الدماغ في الوعاء – فنحن في الواقع غير قادرين على معرفة أي شيء [9].

وكحال كل الأفكار والنظريات الفلسفية، يوجد من يواجه الشكوكية ويطرح تساؤلات فيها وينقدها ويرد عليها. فالمواضيع في الفلسفة غير منتهية ولا حدود للنقاش فيها.

اقرأ أيضاً عن الفلسفة الرواقية ونظرية المعرفة

المصادر:

  1. Meta-epistemological Skepticism – Chris Ranalli
  2. Stanford Encyclopedia of Philosophy – Ancient Skepticism
  3. Internet Encyclopedia of Philosophy – Ancient Greek Skepticism
  4. Ancient and Medieval Philosophy: Essential Selections
  5. Stanford Encyclopedia of Philosophy – Descartes’ Epistemology
  6. PhilPapers
  7. Internet Encyclopedia of Philosophy – Contemporary Skepticism
  8. Internet Encyclopedia of Philosophy – David Hume
  9. Coursera: Pritchard, Duncan, et al. Introduction to Philosophy [MOOC]. Coursera.

نظرية المعرفة أو الأبستمولوجيا: أنواع المعرفة ومكوناتها وتحليلاتها

هذه المقالة هي الجزء 6 من 11 في سلسلة مدخل إلى الفلسفة وفروعها

نظرية المعرفة أو الأبستمولوجيا: أنواع المعرفة ومكوناتها وتحليلاتها

تعد الأبستمولوجيا (نظرية المعرفة) قديمة قدم الفلسفة، وكانت موضوعاً للعديد من التحليلات والفرضيات. فقد طرح العديد من الفلاسفة وجهات نظرهم وحاولوا تعريف “المعرفة”.

نظرية المعرفة – الأبستمولوجيا

في الفلسفة، تعرف نظرية المعرفة أو الأبستمولوجيا (Epistemology) على أنها الدراسة الفلسفية لطبيعة المعرفة البشرية وأصلها وحدودها. ويعود أصل كلمة أبستمولوجيا إلى الكلمتين اليونانيتين epistēmē  وتعني المعرفة، و logos وتعني المنطق [1]. يرجع تاريخ دراسة نظرية الفلسفة إلى أيام اليونان القديمة. فعند أفلاطون، كانت نظرية المعرفة تتمثل بمحاولة فهم ما معنى أن نعرف، وكيف تكون المعرفة جيدةً للعارف، ثم عند لوك (Locke) فكانت محاولة فهمٍ للعمليات التي يجريها الفهم البشري. في حين يرى كانت (Kant) أن نظرية المعرفة هي محاولة لفهم الظروف والشروط المحيطة بإمكانية الفهم البشري، وأما راسل (Russell) فيعتبر أنها محاولة فهم كيف يمكن تفسير العلم الحديث باللجوء إلى التجربة الحسية [2].

وتمثل كل هذه المحاولات التطور الذي طرأ على مفهوم المعرفة من وجهة نظر الفلسفة خلال تاريخها الطويل، والذي كانت المعرفة فيه تأخذ شكل نظريات وأطروحات، إضافة إلى أسئلة ومفاهيم وتصنيفات، وغير ذلك. يمكن تلخيص مواقف فلاسفة الأبستمولوجيا أو نظرية المعرفة عبر هذا التاريخ بأن بعضهم وضع أفكاراً عن ماهية المعرفة وماذا يمكن أن تكون، في حين أخذ بعضهم موقفاً رافضاً لإمكانية وجودها [3].

أنواع المعرفة

يتحدث د. دنكان بريتشارد من جامعة إدنبرة في كتابه ما المعرفة؟ عن نوعين من المعرفة وهما المعرفة الافتراضية (propositional knowledge) ومعرفة القدرة (ability knowledge) [4]. تتعلق المعرفة الافتراضية بافتراض معين (proposition)، تُخبرنا عنه جملة محددة تكون عادة جملة توضيحية (declarative) تفترض وجود حالة ما. مثلاً، تخبرنا جملة “تجلس القطة على السجادة” بالافتراض المتمثل بأن القطة موجودة على السجادة. يمكن القول أنّ هذه جملة توضيحية لأنها تصف حالة ما، وهذه الحالة قد تكون صحيحة أو خاطئة. فإذا كانت القطة فعلاً موجودة على السجادة، فالعبارة صحيحة، أما إذا كانت القطة موجودة على الكرسي، أو على الطاولة، فالعبارة خاطئة. كي نفهم المعرفة الافتراضية بطريقة أفضل، سنأخذ مثالاً على جملة ليست توضيحية وبالتالي لا تمثل افتراضاً. عندما نقول لأحد ما “أغلق الباب!” لا نكون قد أعطينا افتراضاً أو طرحاً معيناً لأن هذه الجملة لا تقبل أن تكون صحيحة أو خاطئة. فهي لا تفترض وجود حالة معينة [5].

أما النوع الثاني فهو معرفة القدرة ويسمى أيضاً الدراية العملية (know-how). وهي معرفة الطريقة التي تتم بها ممارسة نشاط معين. من الأمثلة على ذلك معرفة ركوب الدراجة أو معرفة السباحة. ومن المهم للإنسان أن يمتلك هذا النمط من المعرفة [4].

يكمن الفرق بين هذين النوعين بأن المعرفة الافتراضية تقتصر على كائنات متطورة نسبياً من الناحية العقلية، كالبشر، في حين أن معرفة القدرة هي شائعة بين الكائنات. على سبيل المثال، تعرف النملة الاتجاهات التي تسلكها أثناء السير في محيطها، ولكن هذا لا يعني أن النملة تمتلك معرفة افتراضية وحقائق معينة [4].

من الجدير بالذكر أنه ليس بالضرورة أن تكون المعرفة الافتراضية معصومة (infallible). فالمعرفة الافتراضية تعني وجود افتراضٍ معينٍ يصف حالة ما، ولكن هذا لا يعني أنها تشمل ما إذا كان الافتراض صحيحاً أم لا [5].

المكونات الأساسية للمعرفة

وفق تحليل المعرفة التقليدي، توجد ثلاث مكونات أو شروط رئيسية تعبّر عن المعرفة، وهي شرط الحقيقة (truth) وشرط الاعتقاد (belief) وشرط المبرر (justification). يسمى هذا بتحليل JTB للمعرفة [6]. ويتفق على هذا التحليل عددٌ من الفلاسفة، من بينهم أفلاطون وكانت وآخرون، وبناء عليه، إذا كان لدى أحد ما “اعتقاد حقيقي مُبَرّر” بأن افتراضاً ما هو صحيح، فهذا الشخص يعرف بأن الافتراض صحيح [7]. فما هي هذه الشروط؟

أولاً، وكي نقول أنّنا نعرف شيئاً ما، يجب أن يكون هذا الشيء حقيقياً، لأن الشيء غير الحقيقي أو غير الموجود لا يمكن أن يشكّل معرفة [5]. حتى تكون الجملة “تجلس القطة على السجادة” معرفة، يجب أن تكون القطة موجودة على السجادة، وإلا، فهذه ليست معرفة.

ثانياً، حتى تتحقق المعرفة، يجب أن يكون هناك اعتقاد وإيمان بالافتراض المطروح. بالعودة إلى مثال القطة، إذا لم أكن أؤمن أو أعتقد بأن القطة على السجادة، فلا أستطيع أن أقول بأنني أمتلك المعرفة الكامنة وراء هذا الافتراض [5]. في سياق تحليل JTB للمعرفة، يتمثل الاعتقاد باعتقاد كامل أو قوي وليس مجرد ثقة من شيء ما [6]. مثلاً، إذا كنت أعتقد بأن القطة موجودة على السجادة، ولكن لم يكن هذا الاعتقاد يقيناً، أي إذا لم يكن كاملاً، فلن يرقى لمستوى المعرفة. ويجب تأكيد الاعتقاد بشكل قطعي كي ندعوه معرفة [6].

ثالثاً، من الضروري وجود مبرر كي تتحقق المعرفة. فمثلاً إذا رمينا قطعة نقود وقلنا بأنها ستقع على جهة “النقش” وبالفعل حدث هذا، لا يمكن القول بأننا كنا “نعرف” أنها ستقع على جهة “النقش”. بل هذا تخمين وليس معرفة، ويعود السبب إلى أن الاعتقاد بأن القطعة النقدية ستقع على جهة دون سواها ليس اعتقاداً مثبتاً أو مبرراً، وعليه، فهو لا يمثل معرفة [6].

مسألة غيتييه (Gettier Problem)

في عام 1963، نشر الفيلسوف الأمريكي إدموند غيتييه (Edmund Gettier) مقالاً يتحدى فيه التحليل التقليدي للمعرفة ذو المكونات الثلاثة. ويضم هذا المقال عدداً من المسائل الحقيقية أو المحتملة يكون فيها لدى الشخص “اعتقاد حقيقي مُبَرّر” ولكنه لا يمثل معرفة. وقد كان لمقاله هذا أثر عميق في الأبستمولوجيا، حيث بدأ الباحثون في هذا المجال بإعادة النظر في طبيعة المعرفة، واتفق أغلبهم أن غيتييه نجح فعلاً في نقض تعريفها التقليدي. وفي الحالات المبنية على مسألة غيتييه، يوجد عنصران أساسيان، هما الخطأ في التبرير والحظ [8].

من الحالات التي عرضها غيتييه في مقاله الحالة التالية. كان لدى سميث وجونز مقابلة عمل، وقام رئيس الشركة بإخبار سميث أنّ جونز هو من سيحصل على الوظيفة. وكان سميث يعرف أن لدى جونز عشر قطع نقدية، فقد عدّها بنفسه. وبناءً على كلام رئيس الشركة وملاحظته لعدد القطع النقدية، خرج سميث بالاعتقاد المبرر التالي: من سيحصل على الوظيفة لديه عشر قطع نقدية. هنا لا يُعتبر افتراض سميث تخميناً، فلديه اعتقاد حقيقي وتبرير ليصنف افتراضه على أنه معرفة [8].

ولكن في نهاية الأمر، يحصل سميث على الوظيفة، وسميث نفسه لديه عشر قطع نقدية، وبهذا تكون فرضية سميث صحيحة ولكنها ليست معرفة. في واقع الأمر، توجد حقيقتان في هذه الحالة  – سميث حصل على الوظيفة، وهو يملك عشر قطع نقدية – وهاتان الحقيقتان تجعلان من افتراض سميث صحيحاً. ولكن لم تكن أي منهما معروفتين لسميث، وحسب رأي غيتييه، يمكن القول أنّ افتراض سميث لا يمثل معرفة. بعبارة أخرى، يرى غيتييه أن سميث فشل في معرفة أن الشخص الذي سيحصل على الوظيفة لديه عشر قطع نقدية [8].

تساؤلات لنظرية المعرفة: هل حقاً لدينا “معرفة”؟

ترى بعض أشكال الشكوكية الفلسفية (Philosophical Scepticism) أننا لا نعرف الافتراضات التي نظن أننا نعرفها [9]. ولأن الشك يمثل موضوعاً مثيراً للاهتمام في الفلسفة، فهو يستحق حيزاً مستقلاً للحديث عنه.

اقرأ أيضاً: ملخص كتاب نظرية المعرفة لزكي نجيب محمود

المصادر:

  1. Britannica – Epistemology
  2. Stanford Encyclopedia of Philosophy – Epistemology
  3. Internet Encyclopedia of Philosophy – Knowledge
  4. كتاب ما المعرفة؟ تأليف دنكان بريتشارد  – ترجمة مصطفى ناصر
  5. Pritchard, Duncan, et al. Introduction to Philosophy [MOOC]. Coursera
  6. Stanford Encyclopedia of Philosophy – The Analysis of Knowledge
  7. Paul K. Moser. Propositional Knowledge
  8. Internet Encyclopedia of Philosophy – Gettier Problem
  9. Stanford Encyclopedia of Philosophy – Skepticism

فلسفة الأخلاق: طبيعة الأحكام الأخلاقية وكيفية تفسيرها

هذه المقالة هي الجزء 9 من 11 في سلسلة مدخل إلى الفلسفة وفروعها

فلسفة الأخلاق: طبيعة الأحكام الأخلاقية وكيفية تفسيرها

يمثل تعريف الأخلاق (Morality) مسألة كبيرة ومتشعبة، كما أن طبيعة الأحكام الأخلاقية هي محور الكثير من النظريات والتفسيرات التي تعد جزءاً من فلسفة الأخلاق (Moral Philosophy).

الأخلاق

لا يوجد تعريف واحد يمكن أن يلخّص فكرة الأخلاق وماهيتها، لأنه لا يمكن تطبيق تعريف واحد على كافة النقاشات الأخلاقية. والسبب وراء هذا هو وجود معنَيَين واسعين للأخلاق يمكن التمييز بينهما من حيث المبدأ. فالمعنى الوصفي (descriptive) يشير إلى قواعد سلوك محددة يضعها مجتمع أو فئة معينة، كالدين مثلاً، وبناءً على هذا يتبناها الأفراد ممن ينتمون إلى هذا المجتمع أو تلك الفئة. أما بمعناها المعياري (normative) فتدل الأخلاق على قواعد السلوك التي يتفق جميع الأشخاص العقلاء عليها في ظروف محددة معطاة [1].

فلسفة الأخلاق

بالنسبة لفلسفة الأخلاق، فهي قسم في الفلسفة يبحث في طبيعة الأخلاق، ويدرس كيف يجب أن يعيش الناس حياتهم ويبنون علاقاتهم مع بعضهم البعض [2]. يقول سقراط، كما نقل عنه تلميذه أفلاطون في كتاب الجمهورية، الأخلاق “ليست مجرد قضيةٍ صغيرة، بل هي مسألةٌ تتعلق بكيف يجب أن نعيش.”

تحدّث عدد من الفلاسفة عن الأخلاق، ومنهم سقراط وأفلاطون وأرسطو في اليونان القديمة، وتوماس هوبز (Thomas Hobbes) في القرن السابع عشر، وإيمانويل كانت (Immanuel Kant) وديفيد هيوم (David Hume) في القرن الثامن عشر. ولكن في هذا المقال لن نسلط الضوء على رأي فيلسوف واحد دون غيره. بل سنتحدث عن طبيعة أو حالة الأخلاق (status of morality). وهذا يعني النظر في الأحكام الأخلاقية التي نطلقها ودراسة حالتها.

ما هي الأحكام الأخلاقية؟

تختلف الأحكام الأخلاقية (moral judgements) عن الأحكام التجريبية (empirical judgements) بأن الأولى هي أحكام مجرّدة في حين أن الأخيرة هي أحكام عملية يمكن إثباتها. فمثلاً، عندما نقول أنّ الأرض تدور حول الشمس، فهذا حكمٌ تجريبيٌّ مبنيٌّ على حقائق علمية وأبحاث مثبتة. لا يمكن نفي هذا الحكم، فهو صحيح، وإذا ادّعى أحدٌ ما أنّ الأرض لا تدور حول الشمس، فيمكننا ببساطة دحض ادّعائه والحكم عليه بأنه مخطئ. إذاً، الأرض تدور حول الشمس وهذه حقيقة لا تقبل الجدل. أما إذا قلنا أنّ الأعمال الخيريّة والتبرّع هو تصرّف صحيح، فيمكن الوقوف عند هذا الحكم والاختلاف عليه. إذ يرى البعض أن هذا الحكم صحيحٌ ويمكن أن يبرروا رأيهم من خلال نقاش معين. في حين قد يعتبر البعض الآخر أنه غير صحيح، وهؤلاء أيضاً لديهم حججٌ لدعم رأيهم [3].

حالة الأخلاق The Status of Morality

كما ذكرنا، تركّز دراسة حالة الأخلاق على النظر في الأحكام الأخلاقية و طبيعتها. لا يتمحور الاهتمام هنا حول تقييم إذا كان الحكم الأخلاقي صحيحاً أم لا، بل يكمن التركيز على حالة هذه الأحكام فيما إذا كانت تمثل حقائقَ موضوعية أم ممارساتٍ ثقافية أم آراءً شخصية. تسمى هذه الدراسة بالأخلاق الفوقية أو ما وراء الأخلاق (meta-ethics). وهي لا تنظر في صحة الأحكام الأخلاقية، بل تركز على السؤال عن طبيعة هذه الأحكام وأسسها وخصائصها [4]. ومن هنا يمكن التمييز بين عدة مذاهب فلسفية تنظر في طبيعة الأخلاق، ومن بينها الموضوعية والنسبية والانفعالية [3].

الموضوعية في فلسفة الأخلاق

ترى الموضوعية (Objectivism) أنه يمكن تصنيف الأحكام الأخلاقية تحت بند “صحيحة” و”خاطئة”. وتبني الموضوعية هذا التصنيف على أساس الأدلة. فهنا يمكن اعتبار الأحكام الأخلاقية أحكاماً موضوعية كالأحكام التجريبية، أي أنها إما صحيحة بالمطلق أو خاطئة بالمطلق [3]. تبرر الموضوعية موقفها بوجود أسس وأدلة وحقائق تُمكّننا من أن نقبل أحكاماً معينة على أنها صحيحة في حين نرفض أحكاماً أخرى ونراها خاطئة [5]. وهذه الأسس لا علاقة لها بمن نكون أو إلى أي ثقافة أو مجموعة ننتمي. بل هي حقائق مستقلة عمّا يحيط بها، وهي التي تقرر فيما إذا كانت الأحكام الأخلاقية صحيحة أم لا [3].

من الاعتراضات الموجهة ضد الموضوعية هو السؤال حول آلية إثبات الحقيقة الموضوعية وراء الحكم الأخلاقي. فمثلاً يمكن إثبات حكم تجريبي من خلال الملاحظة والأدلة الملموسة، كأن نثبت دوران الأرض حول الشمس بناءً على ملاحظاتٍ فلكية وظواهر تمكن مراقبتها. ولكن لا توجد طريقةٌ يمكن فيها إثبات حقيقة حكم أخلاقي. فإذا قلنا أنّ القتل أمرٌ خاطئ، وهذا حكمٌ أخلاقي، لا يمكن إيجاد طريقة عملية لإثبات هذا. وإذا كان هنالك رأي مخالف لهذا الحكم، من الصعب اتّباع طريقة إثبات الأحكام التجريبية من أجل الوصول إلى حل لهذا الخلاف [3].

النسبية في فلسفة الأخلاق

تتفق النسبية (Relativism) مع الموضوعية أنه من الممكن للأحكام الأخلاقية أن تكون صحيحة أو خاطئة. ولكن، ترفض النسبية أن صحة هذه الأحكام أو خطأها هو أمر مطلق، بل ترى أن هذا يتوقف على الخلفية الثقافية والسياق الذي بنيت هذه الأحكام ضمنه. أي أن هذا أمر نسبي لا يقوم على أسباب أو أدلة ثابتة. فقد تتغير النظرة لحكمٍ أخلاقي ما بناءً على البيئة والمعتقدات والظروف التي تحيط به، ويختلف هذا من شخص لآخر أو من ثقافة لأخرى [3].

مثلها مثل الموضوعية، تواجه النسبية اعتراضاتٍ وتساؤلاتٍ، من بينها عدم قدرتها على تفسير التقدم الأخلاقي. فإذا كان الحكم الأخلاقي يختلف بالنسبة لثقافة الفرد أو خلفيته، من الصعب عندها فهم التقدم الأخلاقي أو كيفية تطور الأخلاقيات البشرية. مثلاً، فيما مضى، كانت العبودية أمراً عادياً ومقبولاً، ولكننا الآن لا نقبل بها ونعدّها غير أخلاقية، وهذا ما يسمى التقدم الأخلاقي الذي جعل البشرية تغير من أحكامها الأخلاقية على موضوعٍ مثل العبودية. ولكن من وجهة نظر النسبية، ينتج هذا الاختلاف في الحكم الأخلاقي نتيجة التغير في الثقافة والمجتمع. أي أنه أمرٌ نسبيٌ، إذا قبله المجتمع فهو حكمٌ أخلاقيٌ صحيح، أما إن لم يقبله فهو حكمٌ أخلاقيٌ خاطئ. وعليه، يفسّر الاختلاف بين المجتمعات قديماً والمجتمعات الحالية اختلاف الحكم الأخلاقي تجاه العبودية. هنا، تعجز النسبية عن تفسير التقدم الأخلاقي لأنها تقيس الاختلاف في الأحكام الأخلاقية بناءً على تغير المجتمعات والثقافات [3].

الانفعالية في فلسفة الأخلاق

تختلف الانفعالية (Emotivism) عن الموضوعية والنسبية في نظرتها للأحكام الأخلاقية. فهي لا توافق على أن هذه الأحكام تقبل أن تكون صحيحة أو خاطئة. بل تعتبرها مجرّد آراءٍ شخصيةٍ وتعبيرٍ عن العواطفِ في لحظة إطلاق الحكم. بعبارة أخرى، ترى الانفعالية أن الأحكام الأخلاقية هي ردة فعل على العالم من حولنا و تعبيرٌ عمّا إذا كنا نرحب بفكرةٍ ما أم نكرهها، أو إذا كنا نقبل بها أم نرفضها. وهذا المذهب يجرّدُ الفكرة الأخلاقية المعنية من كونها صحيحة أو خاطئة، فموقفنا هو الذي يتغير وفقاً لمشاعرنا [3].

ومن التحديات التي تواجهها الانفعالية هو أننا في بعض الأحيان نطلق أحكاماً أخلاقية بناءً على تفكير منطقي يقودنا إلى تلك الأحكام. ولكن وفقاً للانفعالية، الأحكام الأخلاقية هي مجرد تعبيرٍ عن العواطف، ولا وجود لأي تفكيرٍ منطقي وراءها. وهكذا لا تستطيع الانفعالية تفسير التغيّر في أحكامنا على أمر ثابتٍ بناءً على تغيّر تفكيرنا المنطقي تجاهه. على سبيل المثال، في مسرحية الملك أوديب لسوفوكليس، يتزوج أوديب والدته جوكاستا وينجب منها. مبدئياً، إذا أردنا أن نحكم على الملك أوديب لأنه تزوج والدته، سنقول أنّ هذا تصرفٌ خاطئٌ أخلاقياً. أما إذا فكرنا بحقيقة أن أوديب لم يكن يعرف أن جوكاستا التي تزوجها هي والدته، وهذا تفكير منطقي مبني على معطيات تتعلق بالحادثة، سنرى أننا قد نغير رأينا وحكمنا بأن تصرفه خاطئ أخلاقياً. ولكن الانفعالية لا تستطيع أن تفسر هذا التفكير المنطقي في الأحكام الأخلاقية لأنها ترى أنها تعبير عن عواطف وردود أفعال، وهذا أحد المآخذ ضد التفسير الانفعالي أو النظرة الانفعالية للأخلاق [3].

إذاً، تنطوي فلسفة الأخلاق على مذاهب ومقاربات عديدة تفسر طبيعة الأحكام الأخلاقية والأسباب الكامنة وراءها. وتواجه كل من هذه المذاهب اعتراضاتٍ وتحدياتٍ تضعف موقفها من جهة معينة. ولكن هذا لا يعني أن المذاهب خاطئة بالمطلق، بل هذه التساؤلات التي يوجهها أنصار مذهب ما تجاه الآخر هو ما يحفز التفكير بنظريات أخرى والخروج بدراسات جديدة لطبيعة الأحكام الأخلاقية وأُسسها.

اقرأ أيضاً: ما هي النفعية؟

المصادر:

  1. Stanford Encyclopedia of Philosophy – Morality
  2. Ethics Unwrapped
  3. Chrisman, Matthew, et al. Introduction to Philosophy [MOOC]. Coursera.
  4. Internet Encyclopedia of Philosophy – Meta-ethics
  5. Stanford Encyclopedia of Philosophy – Moral Relativism

ما هي الفلسفة؟ وكيف يمكن شرح علاقتها بالعلوم الأخرى؟

هذه المقالة هي الجزء 1 من 11 في سلسلة مدخل إلى الفلسفة وفروعها

ما هي الفلسفة؟ وكيف يمكن شرح علاقتها بالعلوم الأخرى؟

صحيح أن معنى كلمة “فلسفة” هو “محبة الحكمة”، ولكن الحكمة لا تعني فقط توخي الحيطة في حياتنا. بل تدلّ أيضاً على معرفة كل الأشياء التي باستطاعة الإنسان أن يعرفها [1]. في الواقع، لا يمكن فصل الفلسفة عن العلوم الأخرى، بل على العكس، يمكن تطبيق جميع المفاهيم والطرق الفلسفية على جميع مجالات الدراسة والعلوم [2].

ما هي الفلسفة؟

عندما نطرح سؤال “ما هي الفلسفة؟” فنحن نغوص في عالم ما وراء الفلسفة (metaphilosophy). ويمكن تعريف هذه الدراسة على أنها استكشافٌ لطبيعة الفلسفة، أي معناها وكيفية ممارستها. وهذا وفقاً لشرح الفيلسوف البولندي/الأمريكي موريس لازروويتز (Morris Lazerowitz) [1].

كما يمكن تصنيف هذا السؤال على أنه فلسفة الفلسفة (the philosophy of philosophy). وهذا يعني تطبيق طرق الفلسفة على الفلسفة بحدّ ذاتها، حسب ما يرى الفيلسوف النمساوي/الإنكليزي لودفيغ فيتغنشتاين (Ludwig Wittgenstein) [1].

حتى الآن، نحن لم نجب على سؤالنا، بل كنا نشرح طبيعة هذا السؤال والمجال الذي يدور فيه.

كيف يمكن تعريف الفلسفة؟

والآن، إذا أردنا جواباً بسيطاً لسؤالنا، يمكننا القول بأن الفلسفة هي النشاط الذي نقوم به لاكتشاف الطريقة الصحيحة للتفكير بشيء ما. وفكرة تصنيف الفلسفة على أنها “نشاط” هي فكرة مهمة، تنطوي على ممارسة دائمة لهذا النشاط حتى نفهم ماهيته فعلاً [3].

أما إذا أردنا التعمق أكثر، والذهاب مع المنحى الفلسفي الغربي، فيمكن تقسيم دراسة ما وراء الفلسفة إلى ثلاث مجموعات، وذلك حسب كل من التحليلية (analytic philosophy)، أو البراغماتية (pragmatism)، أو القارية (continental philosophy). لنلقِ نظرة عامة على وجهات النظر الثلاثة، وكيف يُعرّف كل منها الفلسفة [1].

تعريف الحركة التحليلية للفلسفة

تذهب الحركة التحليلية إلى أن الفلسفة يجب أن تبدأ من تحليل القضايا. حسب آراء اثنين من رواد هذه الحركة، وهما فيتغنشتاين و بيرتراند راسل (Bertrand Russell)، يعطي هذا التحليل دوراً رئيسياً للمنطق، ويهدف إلى كشف التركيب العميق للعالم [1].

تعريف البراغماتية للفلسفة

أما وجهة النظر البراغماتية، فتعتبر أن الفلسفة يجب أن تُعنى بمشاكل حقيقية. ويرى بعض البراغماتيين الجدد أمثال الأمريكي ريتشارد رورتي (Richard Rorty) أنه يتوجب على الفيلسوف أن يصيغ فلسفته بطريقة تعزز أهدافه الثقافية والاجتماعية السياسية [1].

تعريف المدرسة القارية للفلسفة

وبالنسبة للمدرسة القارية وعلم الظواهر (Phenomenology) المرتبط بها، تُعتبر الفلسفة علماً عميقاً وتأسيسياً. ويرى الفيلسوف إدموند هوسرل (Edmund Husserl) أن الفلسفة هي قضية شخصية، بالإضافة لكونها شيئاً جوهرياً لإدراك التطلعات الإنسانية للتنوير [1].

يمكن البحث بعمق في هذه المذاهب وما انبثق عنها من أجل الوصول إلى تعريف للفلسفة، أو إلى رؤية لأهدافها وكيفية ممارستها. ولكن لدى القيام بذلك، سيصادف الدّارس آراءً كثيرةً لا تخلو من الاختلاف (وربما الخلاف!). كما أن التقسيمات الفرعية لكل مدرسة أو مذهب، وتصنيف الفلاسفة في أيّ منها، هو موضوع جدلي لا يوجد إجماع عليه. لذلك، سنركز على التعريف البسيط والذي يأخذ منحى عاماً، وننطلق منه لفهم طبيعة الفلسفة وصلتها بالعلوم الأخرى أو مظاهر الحياة اليومية.

ما علاقة الفلسفة بالعلوم الأخرى؟

سنعود إلى التعريف البسيط الذي اقترحه د. ديفيد وورد (David Ward) من جامعة إدنبرة، والذي يشرح فيه أن الفلسفة هي عبارة عن النشاط الذي نسعى من خلاله لاكتشاف الطريقة الصحيحة للتفكير بشيء ما. ومن هنا، يمكننا ربط الفلسفة مع علوم ومواضيع أخرى. فنحن نستخدمها لاكتشاف طريقة صحيحة للتفكير بشيء ما، وهذا الشيء قد يكون شيئاً عادياً في حياتنا، أو قد يكون أحد العلوم الأساسية [3].

لا نستطيع تجاهل أن كل العلوم ومجالات الدراسة تهدف إلى التفكير بمواضيعها بالطريقة الصحيحة. لكن الفرق هنا يكمن بين التفكير بالموضوع محور الاهتمام والبحث عن طريقة صحيحة للتفكير به [3].

بالطبع تتراوح أهمية هذا وفقاً للشيء الذي نفكر فيه. فيمكننا تطبيق التفكير الفلسفي على أمر عادي أو بسيط. مثلاً، قد يتساءل المرء: “هل أذهب اليوم إلى السينما؟” ويبدأ عندها بالتفكير بالأسباب التي قد تجعله يذهب والأسباب التي قد تمنعه، ويحللها ويربطها ببعضها حتى يصل إلى نتيجة “يذهب” أم “لا يذهب”. كما يمكن تطبيق هذا التفكير على أحد العلوم الأساسية والمهمة كالفيزياء أو الطب. ومن الواضح أن الفرق في الأهمية بين تطبيق التفكير الفلسفي في الحالتين يرجع إلى الموضوع محور التفكير: الذهاب إلى السينما / علم أساسي (الفيزياء أو الطب). في الحالة الثانية، علينا أولاً البدء بالعلم ومعرفة أهدافه أو المشاكل التي يسعى لحلها حتى نستطيع أن نطبق الفلسفة عليه [3].

يسعى علم الفيزياء، على سبيل المثال، إلى دراسة الطبيعة المادية عبر إجراء التجارب والقياسات وصياغة النظريات. أما ممارسة الفلسفة بالنسبة للفيزياء، فتتمثل بطرح أسئلة من قَبيل: ما المقصود “بالطبيعة المادية”؟ وكيف يمكن لنتائج تجربة ما أن تؤكد فرضية ما أو تنقضها؟ والهدف هنا هو التوصل إلى الطريقة الأمثل في دراسة الفيزياء بعد الإجابة على تلك الأسئلة التي تستهدف صلب اهتمامه وأساسياته [3].

يوضح هذا المثال البسيط علاقة الفلسفة بعلوم أخرى، الفيزياء هنا. فالمقاربة الفلسفية للقضايا تتضمن طرح أسئلة حول الافتراضات التي قد تكون من المُسلّمات، وتدفعنا لإثارة تساؤلات حولها والتفكير فيما إذا كنا نأخذها بالطريقة الصحيحة.

هل الفلسفة مهمة؟

نعم ولا في الواقع! يمكننا القول بأنها مهمة وغير مهمة في آنٍ واحد.

فمن جهة، يمكننا دائماً طرح أسئلة فلسفية حول أي قضية تمر بنا أو أي مسألة تواجهنا. وهذا يتضمن التفكير في القضية المعنية من مسافة أبعد، والتساؤل حول الافتراضات الموجودة فيها وفيما إذا كانت فعلاً صحيحة أم لا. ولكن من جهة أخرى، ليس بالضرورة أن نقوم بهذا. فمن الممكن أن نمارس أنشطة عديدة دون تطبيق مقاربة فلسفية تجاهها [3].

ما هي طريقة التفكير الفلسفي؟

يعتمد التفكير الفلسفي على عناصر أساسية، وهي المقدمات المنطقية (premises)، والنتيجة أو الخلاصة (conclusion). ويقوم التفكير الفلسفي على دراسة المقدمات وطريقة استنتاج الخلاصة منها، ثمّ الحكم عليها فيما إذا كانت صحيحة أو مقبولة، أم لا [3].

لمزيد من التفاصيل عن طريقة التفكير، يمكن قراءة: تقييم الحجة لممارسة التفكير النقدي.

طريقة التفكير الصحيحة

هل حقاً يمكننا إيجاد الطريقة الصحيحة للتفكير بشيء ما؟

السؤال هنا: هل توجد فعلاً طريقة صحيحة واحدة للتفكير بشيء ما؟ وكيف يمكننا أن نتأكد بأننا وصلنا إلى هذه الطريقة الصحيحة؟

في الحقيقة، لا تمكن الإجابة عن هذه التساؤلات، وهذا ما يؤكد الفكرة السابقة أنه يمكننا طرح أسئلة فلسفية تجاه أي موضوع، بما في ذلك تعريف الفلسفة بحد ذاتها. وهذا يأخذنا إلى الفكرة في بداية المقال عن وجهات النظر الثلاثة حول تعريفها. فلا يوجد تعريف واحد وصحيح. وهذا ينطبق على طريقة التفكير التي تسأل الفلسفة عنها. إذ لا يمكن التوقف عن طرح أسئلة فلسفية، ففكرة البحث عن طريقة تفكير أخرى في موضوع ما، ودراسة الافتراضات الموجودة في أحد العلوم أو المواقف التي نواجهها، هو الحافز الذي يبقي سلسلة الأسئلة الفلسفية قائمة ومستمرة [3].

ويمكننا بناءً على ذلك أن نفكر ببعض المفاهيم الأساسية – كالأخلاق أو المعرفة أو القانون، على سبيل المثال لا الحصر – من منظور فلسفي ونسأل أنفسنا: هل هذه المفاهيم هي صحيحة كما نعرفها؟ هل يجب أن نقتنع بالمعرفة التي نملكها عنها؟ أم يمكننا أن نذهب إلى ما وراء ذلك؟ هل هنالك ما يُلزمنا بالحفاظ على ثبات هذه المفاهيم كما عرفناها؟

سنجيب على هذه الأسئلة – أو على الأقل سنحاول ذلك – في مقالات لاحقة تكون الفلسفة والمقاربة الفلسفية محوراً أساسياً فيها.

المصادر:

  1. Internet Encyclopedia of Philosophy
  2. Philosophy and Other Disciplines
  3. Ward, Dave, et al. Introduction to Philosophy [MOOC]. Coursera.

فن التصوير بعد الموت أو تصوير الموتى: استخدام تقنيات العصر لتذكر الأحبة

فن التصوير بعد الموت أو تصوير الموتى: استخدام تقنيات العصر لتذكر الأحبة

يعتبر فن التصوير بعد الموت أو فن تصوير الموتى من العادات التي سادت في أوروبا وأمريكا في القرن التاسع عشر. ويقوم على تصوير الأشخاص حديثي الوفاة بهدف تخليد ذكراهم.

كيف ظهر فن التصوير بعد الموت؟

حتى نتعرف على بداية فن التصوير بعد الموت، أو تصوير الموتى، يجب أن نعود بالزمن إلى أول عملية تصوير فوتوغرافي ناجحة. وتعرف هذه باسم (داجيروتايب – daguerreotype). وهي تقنية طورها المصور والفيزيائي الفرنسي لويس جاك-ماندي ديجير (Louis-Jacques-Mandé Daguerre)، بالتعاون مع مواطنه المخترع جوزيف نيسيفور بييبس (Nicéphore Niépce) في ثلاثينيات القرن التاسع عشر [1]. وساعد هذا الاختراع على انتشار المصورين في أوروبا، وتمكين أبناء الطبقة المتوسطة من تحمّل تكاليف التقاط صورٍ شخصية. حيث كانت هذه التكاليف أقل من رسم الصور. وفي الخمسينات من القرن نفسه، انخفضت تكاليف الداجيروتايب بسبب الاستعاضة عن الفضة المستخدمة في هذه العملية بألواح الزجاج أو الورق أو معادن أخرى [2].

وقد ساعد هذا الاختراع على انتشار فن التصوير بعد الموت. ولكن سبب هذه الظاهرة يعود بالأساس إلى رغبة ذوي المتوفى بتخليد ذكراه، والاحتفاظ بصورة معالمه الأخيرة قبل الوفاة. ويكون هذا إما عن طريق رسم لوحة، أو التقاط صورة، وهي الطريقة الأقل تكلفة كما ذكرنا [3].

انتشار فن التصوير بعد الموت

لم يكن تصوير الموتى من ابتكارات القرن التاسع عشر. فمنذ العصور الوسطى، كانت تنتشر في أوروبا ممارسة الاحتفاظ بشكل الشخص الميت بعد وفاته عن طريق النحت أو الرسم. ولكن مع منتصف القرن التاسع عشر، بدأ فن التصوير ينتشر بالمجمل، وأدى ازدياد أعداد السكان وارتفاع معدلات الوفيات إلى ظهور “سوقٍ” جديدٍ للعمل في العديد من الدول الصناعية. وهكذا برزت ظاهرة تصوير الموتى في بريطانيا وأوروبا عموماً، وفي الولايات المتحدة [3].

وقد ساعدت ثقافة الحِداد وتقاليده في العصر الفيكتوري (1837-1901) على خلق نوع من الألفة مع فكرة الموت وأجساد الموتى. فقد أصرّت الملكة فيكتوريا على ارتداء اللون الأسود طيلة حياتها بعد وفاة زوجها الأمير ألبرت. وبناءً على هذا، سارع الإنكليز، ومن بعدهم الأمريكيون، إلى العمل بتجارة الملابس والحليّ الخاصة بمناسبات الوفاة وبفترة الحِداد المطلوب الالتزام بها وفق العادات الثقافية والاجتماعية. وساعد انتشار حالات إسقاط الجنين وانتشار الأمراض كالتيفوئيد على استمرار الطلب على معدات الحِداد [4]. وطبعاً، كان المصور من أوائل الأشخاص الذين يتم استدعاؤهم إلى منزل المتوفى من أجل التقاط الصورة الأخيرة [3].

تجهيز الموتى لالتقاط صورهم

في بداية الأمر، لم يكن هنالك اهتمام بتجميل الميت قبل التقاط الصورة. ففي المراحل الأولى من هذا الفن، يمكن مشاهدة صورٍ لأشخاصٍ يخرج الدم من أفواههم. وحتى إن كانت طريقة الوفاة شنيعةً، لم يكن أحد ليحاول تجميل هذا أو إخفاءه. ولكن مع انتشار التصوير بعد الموت، أصبحت العائلات – حتى الفقيرة منها – تهتم باللباس أو الموقع الذي يتم فيه التصوير بطريقة تساعد على تذكر الشخص الميت بأبهى حلة ممكنة [3].

وقد بدأت عادات مختلفة بالظهور في أمريكا وأوروبا. حيث كانت بعض العائلات في أمريكا تضع صور الموتى بإطارات خاصة. أما في أوروبا، كان البعض يقوم بعرض الصور كي تبقى ذكرى الشخص الميت محفوظة لدى الغير. فقد كان من غير المستغرب أن تجد صوراً للموتى في الصحف المحلية مثلاً. حتى أنه تم تصوير بعض الشخصيات المشهورة بعد وفاتهم، مثل الكاتب الفرنسي فكتور هوغو وتم عرض صورهم [3].

مثال عن تصوير بعد الموت – مشاهير – فكتور هوغو
المصدر

الوضعيات في الصور الملتقطة بعد الموت

في دراسة أجراها ثلاثة باحثين من جامعتي إنسوبريا (University of Insubria) وروما سابينزا (Sapienza University of Rome) في إيطاليا، تم تصنيف صور الموتى في ثلاث وضعيات رئيسية، إضافة إلى وضعية إضافية رابعة [5].

النمط الأول هو “النوم الأخير”، ويكون فيه الميت في وضعية الاستلقاء على سرير أو أريكة. ويضفي تموضع الجثة والمساحيق المستخدمة لتجميلها حالة صفاءٍ وسكينة. وفي بعض الحالات، كان يوضع عند رأس الميت نسخة من الكتاب المقدس، وتنثر الأزهار بجانبه دلالة على حالة الموت. وكان الهدف من هذا التأكيد على اللحظة التي تفارق فيها الروح الجسد [5].

مثال عن تصوير بعد الموت – النمط الأول
المصدر

أما النمط الثاني فيمكن تسميته “حيّ ولكن ميت”، وتعكس هذه الوضعية حالة نكران أو رفض للموت. إذ يستخدم المصور مهارته وخبرته من أجل إيقاف الجثة بدلاً من جعلها مستلقية. ويمكن هنا استخدام قضبان مخبأة لتدعيم الجثة، أو أعواد خشبية لإبقاء العينين مفتوحتين. وقد كان البعض يقوم برسم العينين على الصورة بعد انتهائها.

مثال عن تصوير بعد الموت – النمط الثاني
المصدر

النمط الثالث يقوم على وضع الشخص الميت بين أفراد العائلة وأخذ صورة جماعية. لا يمكن هنا تمييز الميت عن الأحياء بسهولة. ولكن بعد القليل من التدقيق في الصورة، تمكن ملاحظة الشخص الذي تغيب الحياة من نظراته، وفي الغالب يكون موضوعاً في وسط الصورة ليبدو “حياً مع الأحياء” [5].

مثال عن تصوير بعد الموت – النمط الثالث
المصدر

والنمط الإضافي الرابع هو عبارة عن طريقة كانت تُستخدم حتى عند تصوير الأطفال ممن هم على قيد الحياة. كانت تجلس الأم وتحمل طفلها، ولكنها كانت تُغطى بقطعة قماش كي لا تظهر في الصورة. وكان الهدف إبقاء الطفل هادئاً مدة التصوير، مع الحفاظ على وجوده وحيداً في الصورة. وفي التصوير بعد الموت، كانت تستخدم هذه الطريقة أحياناً مع الأطفال المتوفين، الذين كانوا يبدون وكأنهم أحياء بسبب قيام المصور بتلوين الوجنتين بلون وردي [5].

مثال عن تصوير بعد الموت – النمط الرابع
المصدر

هل استمر فن التصوير بعد الموت؟

مع نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، انخفض انتشار ظاهرة تصوير الموتى في أمريكا، وتبعه انخفاض في أوروبا خلال القرن العشرين. حيث أصبحت حالات الوفاة تحدث في المستشفيات أكثر منها في البيوت، الأمر الذي جعل من الموت جزءاً من الممارسات الطبية. وهذا ما فرض قيوداً على المصورين في ممارسة عملهم [3].

هنالك مظاهر أخرى لفن تصوير الموتى وخاصة في فترات الحروب. ويمكن أخذ مثال على هذا في الحرب العالمية الأولى (1914-1918)، حيث كان يتم تصوير الجنود القتلى. وكانت الصورة هي الجسر الوحيد الذي يصل بين من قُتل في الحرب وأهله الذين ينتظرون عودته. ولكن هذه الممارسة تختلف بعض الشيء عما كانت عليه في بداية هذا الفن. ومع تزايد الحروب، أصبح لتصوير القتلى والأموات طابعٌ آخر وأهدافٌ مختلفة قليلاً عن مجرد تذكر شخص محبوب في العائلة [6]. وهذا نمط مختلف من التصوير من الممكن أن يشكل موضوعاً مستقلاً للدراسة.

اقرأ أيضاً: طقس “فاماديهانا”، لماذا يرقص شعب مدغشقر مع موتاهم؟

المصادر

  1. Britannica
  2. BBC
  3. Daily History
  4. Clara Barton Missing Soldiers Office
  5. Borgo, Melania & Licata, Marta & Iorio, Silvia. (2016). “Post-mortem Photography: The Edge Where Life Meets Death?Human and Social Studies. 5. 10.1515/hssr-2016-0016.
  6. Penfold-Mounce, Ruth, et al. Photography and Death: Framing Death Throughout History. pp. 1-17. United Kingdom, Emerald Publishing Limited, 2020.

الحدس وتفسير حدوثه في عمليات التفكير وآليات المعالجة

الحدس وتفسير حدوثه في عمليات التفكير وآليات المعالجة

ينطوي الحدس على عمليات غير واعية وسريعة وعاطفية ويتم تفسير حدوثه على أنه نتيجة لعملية تفكير سريع غير متعمد.

ما هو الحدس؟

حسب قاموس جمعية علم النفس الأمريكية (APA)، يعرف الحدس على أنه البصيرة أو الإحساس المباشر بالفهم، على نقيض التفكير المنطقي أو الواعي [1]. كما يعرف قاموس أوكسفورد هذه الكلمة على أنها الفهم المباشر دون تدخل المنطق. [2]

لطالما أثار مفهوم الحدس – أي قدرةُ الأشخاص على اتخاذ قراراتٍ ناجحةٍ دون التفكير التحليلي المتعمد – فضول الفلاسفة والعلماء منذ أيام الإغريق القدماء على أقل تقدير. ولكنهم لم يستطيعوا إيجاد دليل قابل للقياس على حقيقة وجود الحدس. [3]

تفسير حدوث الحدس في علم النفس

حالياً، يشكل الحدس وتفسير حدوثه موضوعاً شائعاً في علم النفس. وعلى الرغم من قبول هذه الفكرة بين كل من علماء النفس الأشخاص العاديين على حد سواء، يفتقد العلماء اختباراً موثوقاً يستطيعون من خلاله جمع بيانات موضوعية عن الحدس، أو حتى إثبات وجوده [4].

يعزو علم النفس الحدس إلى القدرة على مطابقة الأنماط. إذ يقوم العقل بالتفتيش في التجارب المختلفة المخزّنة في الذاكرة طويلة الأمد، بحثاً عن مواقف مشابهة، ويُصدر أحكاماً لحظية بناءً عليها [5].

ولكن ما هي آلية العمل التي تؤدي بالنتيجة إلى إصدار هذه الأحكام؟

كيف يفسر العلم الحدس؟

وفقاً للباحث Ben Newell من جامعة نيو ساوث ويلز في أستراليا (UNSW)، لا يمثل الحدس عملية سحرية تأتي الإجابات فيها إلى ذهن الإنسان من العدم. بل على العكس من ذلك، تنتج القرارات الحدسية في أغلب الأحيان عن عمليات تفكير مكثفة ومستفيضة. ولكن تختلف عملية التفكير في اتخاذ القرارات الحدسية عن عملية التفكير المدروسة [6].

نظرية المعالجة المزدوجة

يعود تفسير هذا إلى نظرية المعالجة المزدوجة (dual process theory) التي تقسّم العمليات الذهنية إلى فئتين وفقاً لطريقة عملها: إما تلقائية أو مضبوطة [7]. يتصف النمط التلقائي بكونه سريعاً وترابطياً وعاطفياً، في حين يتميز النوع المضبوط بالبطء والتروي بالتفكير[8]. ويكمن الفرق بين هاتين العمليتين المختلفتين في مدى ملاحظتنا لخطوات الإدراك الوسيطة التي تحدث أثناء العملية [6].

في التفكير المدروس والمتعمّد، تنتج سلسلةٌ من الأفكار ومجموعةٌ من المعلومات تمثل الخطوات الوسيطة في وصولنا إلى النتيجة. ولكن تنعدم هذه الخطوات في عملية التفكير الحدسي، وتتم الاستجابة -سواء عن طريق اتخاذ قرار ما أو القيام بفعل معين- دون بذل جهد كبير [6]. ويتضمن الحدس تجميع حقائق ومفاهيم وتجارب وأفكار ومشاعر غير مترابطة بشكل كبير. كما أنها غزيرة ومتفرقة لدرجة يصعب معها معالجتها بشكل متعمد أو منطقي. وهذه العملية تتم بشكل لا واعي أو شبه واعي، أي أن طرق عملها مخفية للعقل الواعي. لذلك يبدو الحدس وكأنه ينشأ من العدم، ولا يمكن تفسيره فوراً أو بسهولة [9].

بحث جامعة نيو ساوث ويلز في الحدس وآثار حدوثه

بالعودة إلى جامعة نيو ساوث ويلز، قام مجموعة من الباحثين بابتكار تقنية جديدة تفسر كيف يمكن للحدس غير الواعي أن يقودنا في اتخاذ القرارات [3].

في هذه التجربة، تم تقديم معلومات ضمنية عاطفية لمجموعة من الأشخاص أثناء قيامهم باتخاذ قرارات حسية وواعية بالكامل. وتُظهر البيانات السلوكية والنفسية التي تم جمعها في البحث أنه يمكن للمعلومات العاطفية غير الواعية أن تعزز الدقة والثقة في اتخاذ القرار المتزامن معها، وتسرّع أوقات الاستجابة. وكانت نتائج البحث داعمة لفكرة أنه يمكن للمشاعر غير الواعية أن تحرف السلوك غير العاطفي المتزامن معها، وهذا ما يدعى بعملية الحدس [10].

ولكن هل يعني هذا أنه يمكننا الوثوق بحدسنا ثقة عمياء؟

عندما يحدث الحدس، هل يصيب دائماً؟

طبعاً لا!

في بعض الحالات أو المواقف الجديدة والمجردة والتي لا ترتبط بتجارب سابقة، من الضروري الاعتماد على التفكير المنطقي [2]. إذ يمكن للحدس أو نمط التفكير السريع غير المتعمد أن يوقعنا في الخطأ. ولكن وجد الباحثون في جامعة نيو ساوث ويلز في تجربتهم أن الدقة في اتخاذ القرارات بالتزامن مع المعلومات العاطفية غير الواعية كانت قد تعززت مع الوقت.

مما يعني أنه من الممكن تحسين الحدس عن طريق التمرين [10]. ولكن اتفق الجميع على أنه ينبغي علينا توخي الحذر عند الاعتماد على حدسنا. إذ توجد مواقف معينة تتطلب الاتكال على التفكير المتعمد والمنطقي.

اقرأ أيضاً: ما هي الـ ديجا فو-Déjà vu؟ وما تفسيراتها الطبية؟

المصادر

  1. قاموس جمعية علم النفس الأمريكية
  2. Intuition and Reasoning: A Dual-Process Perspective
  3. جمعية علم النفس الأمريكية
  4. Live Science
  5. Psychology Today
  6. Explainer: what is intuition?
  7. Gawronski, Bertram, and Laura A. Creighton. The Oxford Handbook of Social Cognition. Oxford University Press, 2013.
  8. Dual Process Theory of Thought and Default Mode Network: A Possible Neural Foundation of Fast Thinking
  9. The Psychology and Philosophy of Intuition
  10. Measuring Intuition: Nonconscious Emotional Information Boosts Decision Accuracy and Confidence

اللغات الرومانسية وأصلها

اللغات الرومانسية وأصلها

اللغات الرومانسية (Romance Languages) هي مجموعة كبيرة من اللغات المنتشرة حول العالم، والتي تعود إلى أصل مشترك نشأت عنه منذ زمن طويل. لكنها ليست من العائلات اللغوية الأساسية، ولا حتى من المجموعات الفرعية لهذه العائلات. بل هي مجموعة ضمن إحدى المجموعات الفرعية للعائلات الرئيسية كما سنرى في هذا المقال.

المجموعة الأم

أولاً، هناك عائلة من اللغات التي تجمع تحت سقفها تقسيمات فرعية كثيرة. وهذه العائلة هي اللغات الهندو أوروبية (Indo-European languages). وهي مجموعة من اللغات المرتبطة ببعضها، وتنتشر حالياً في الأمريكيتين وأوروبا وجنوب وغرب آسيا. وتقسم هذه المجموعة إلى تفرعات رئيسية عديدة، منها ما انقرض ولم يعد يُستخدم، ومنها ما بقي وانتشر وتطور عنه تقسيمات فرعية أخرى. من أحد هذه الفروع الرئيسية لعائلة اللغات الهندو-أوروبية يوجد ما يسمى مجموعة اللغات الإيطاليكية (Italic languages)، وهذه المجموعة تضم تحت سقفها المجموعة الأصغر والتي تدعى اللغات الرومانسية [1].

أصل اللغات الرومانسية وعددها:

يعود أصل اللغات الرومانسية إلى اللغة اللاتينية العامية (Vulgar Latin) وهي اللغة اللاتينية التي كان يتحدثها عامة الشعب في الإمبراطورية الرومانية. تختلف اللاتينية العامية عن اللاتينية الكلاسيكية (Classical Latin) التي كانت تُستخدم في الكتابة والأدب، والتي بقيت لاحقاً في النصوص الدينية [2]. وتعتبر اللغات الرومانسية من ضمن اللغات الإيطاليكية (Italic languages) التي تشكل بدورها مجموعة فرعية من أسرة اللغات الهندو أوروبية (Indo-European languages) [3].

إذاً، كان للغة اللاتينية في الإمبراطورية الرومانية عدة أشكالٍ، واستخدم أفراد الشعب العامية منها في الحديث والحياة اليومية في مناطق الإمبراطورية على اتساعها. ونتيجة هذا الاتساع وتوزع المناطق، كان حتى لهذه اللغة العامية أشكالٌ متباينة، تغيرت مع مرور الوقت لتنبثق منها اللغات الرومانسية التي نعرفها حالياً [2]. في واقع الأمر، يوجد الآن حوالي 42 لغة رومانسية أو أكثر. ولكن لا يمكن تحديد هذا الرقم بدقّة نتيجة عدم وجود توافقٍ كاملٍ على تعريف كلٍّ من مصطلحي “اللغة” و”اللهجة” والتفريق بينهما.

إلا أنه لا يختلف اثنان على أنّ أشهر خمس لغات رومانسية وأكثرها انتشاراً هي الإسبانية والفرنسية والبرتغالية والإيطالية والرومانية. بالإضافة لها، توجد لغاتٌ أقل انتشاراً مثل الكتالونية والسردينية وغيرها [3].

لماذا سميت باللغات الرومانسية؟

على عكس ما يوحي اسمها، لا علاقة لتسمية هذه اللغات بالمشاعر أو العواطف “الرومانسية”. بل تعود كلمة Romance هنا إلى اتصال هذه اللغات بروما. إذ يرجع أصل الكلمة الإنكليزية Romance إلى كلمة Romanicus وهي كلمة فرنسية قديمة من أصل لاتيني كانت موجودة في العصور الوسطى وتعني “روماني” أو “على النمط الروماني” [4].

ما الذي يميز اللغات الرومانسية؟

تتميز اللغات الرومانسية الخمسة الأكثر انتشاراً بمفرداتها وقواعدها ذات الأصول اللاتينية، وهذا ما يجعل من السهل على من يتحدث إحداها أن يفهم ولو بشكل بسيط اللغات الأخرى. كما أن من يتعلم واحدة منها لن يجد صعوبةً كبيرةً في تعلم إحدى أخواتها [5].

ومما تشترك فيه هذه اللغات هو التذكير والتأنيث لكافة الأسماء فيها، وإسقاط هذا على الصفات عند استخدامها مع الأسماء. ولكن تتميز اللغة الرومانية هنا بوجود كلمات حيادية الجنس وهذا ما اختفى في باقي أفراد المجموعة [6].

ما مدى التشابه بين اللغات الرومانسية واللغة اللاتينية؟

أما عن مدى انحراف هذه اللغات عن اللغة اللاتينية العامية التي نشأت منها، تعد اللغة الإيطالية الأقل تبايناً عن هذا الأصل. في حين أن اللغة الفرنسية هي الأكثر ابتعاداً من ناحية اللفظ. أما اللغة الرومانية، فتختلف أكثر من غيرها فيما يتعلق بالمفردات، ولكنها أكثر من حافظت على القواعد التي استخدمتها اللاتينية الكلاسيكية [5].

دعونا نأخذ مثالاً يوضح لنا كيف تحولت اللغة من الأصل إلى الفروع. كلمة “عشب” في اللغة اللاتينية هي “herba” وإذا ما تعقبناها في اللغات الرومانسية الأشهر، نراها موجودة كما يلي:

  • الفرنسية: herbe
  • الإسبانية: hierba
  • الإيطالية: erba
  • البرتغالية: erva
  • الرومانية: iarbã

لا يخفى تشابه هذه الكلمات على من يراها أو من يسمعها. فنلاحظ اختفاء الحرف (h) في الكلمة في جميع هذه اللغات. وحتى وإن حافظت الفرنسية والإسبانية عليه في التهجئة، لكنه سقط في اللفظ منذ زمن طويل. كما نرى أن أقرب شكل لهذه الكلمة إلى أصلها اللاتيني موجود في اللغة الإيطالية.

ولكن هذا التشابه لا يعني تطابق اللغات مع أصلها اللاتيني. فلا يمكن لمن يتحدث الفرنسية أو الإسبانية، مثلاً، أن يُعتبر طليقاً باللاتينية. بل على العكس، حتى يتقنها، ينبغي أن يتعلمها كأية لغة جديدة. وبالمقابل، لو سمع أي شخص روماني من الناطقين الأصليين باللاتينية إحدى هذه اللغات المتفرعة عن لغته الأم، كان ليرتبك ويعتبر أن ما يسمعه ينطوي على أخطاء عدة تحول دون فهمه له [7].

 في النهاية، تشهد كل لغة تغيرات وتعديلات على مر الزمن، تؤدي إلى ابتعادها عن الأصل الذي انبثقت منه. وهذه عملية طبيعية لا بدّ من حدوثها نتيجة اختلاط الناطقين ببعضهم، وحاجة اللغات إلى احتواء مفردات جديدة للتعبير عن كل ما هو جديد في مجالات الحياة المختلفة ودائمة التطور [8].

اقرأ أيضاً: العائلات اللغوية وتقسيماتها

المصادر:

  1. World History Encyclopedia
  2. ThoughtCo
  3. Britannica
  4. Babbel Magazine
  5. The Ancient Language Institute
  6. Superprof
  7. Language Evolution: How One Language Became Five Languages
  8. BBC

الوسواس القهري والشخصية الوسواسية القهرية: اضطرابان مختلفان وتشابه مزعوم

هذه المقالة هي الجزء 16 من 19 في سلسلة رحلة بين أشهر الاضطرابات النفسية

الوسواس القهري والشخصية الوسواسية القهرية: اضطرابان مختلفان وتشابه مزعوم

بين اضطراب الوسواس القهري (Obsessive-Compulsive Disorder – OCD) واضطراب الشخصية الوسواسية القهرية (Obsessive-Compulsive Personality Disorder – OCPD) تقبع مشكلة يعاني منها المصابون، وتنعكس على محيطهم.

فما هما هذان الاضطرابان؟ وما الفرق بينهما؟ وهل هما مجرد حبّ للنظافة وتعلق بالأشياء؟ لنتعرف عليهما أكثر في هذه المقالة.

مقارنة بين الوسواس القهري والشخصية الوسواسية القهرية

تتشابه بعض من أعراض اضطراب الوسواس القهري (OCD) مع اضطراب الشخصية الوسواسية القهرية (OCPD). إذ من الممكن للأشخاص المصابين بهذين الاضطرابين أن يكونوا من ذوي الإنجازات الكبيرة والمسؤولية العالية تجاه أعمالهم. كما يظهرون انزعاجاً إذا ما تدخل غيرهم بأنماط حياتهم [3]. ولكن بالنسبة للأشخاص الذين يعانون من اضطراب الوسواس القهري، تظهر لديهم هواجس وأفكار غير مرغوب بها، وتقودهم إلى تصرفات قهرية يصعب إيقافها [3]. في حين يؤمن من لديهم اضطراب الشخصية الوسواسية القهرية أن أفكارهم صحيحة. وتُصنف تصرفاتهم على أنها سماتٌ شخصية لا توجهها أفكار أو وساوس، بل هي مدفوعة بأهداف أو غايات معينة [4].

فيما يلي شرح مفصل عن كل من هذين الاضطرابين وأعراضهما وأسبابهما وطرق علاجهما.

ما هو اضطراب الوسواس القهري؟ Obsessive-Compulsive Disorder (OCD)

تعريف اضطراب الوسواس القهري

وفقاً لمؤسسة اضطراب الوسواس القهري الدولية (International OCD Foundation)، يعرّف اضطراب الوسواس القهري على أنه اضطراب في الصحة العقلية [5]. وحسب المراجعة 11 للتصنيف الدولي للأمراض (ICD-11) والصادرة عن منظمة الصحة العالمية (WHO)، يدخل هذا الاضطراب ضمن تصنيف الاضطرابات النفسية أو السلوكية أو اضطرابات النماء العصبي. ويوجد تحديداً في القسم الفرعي الخاص بالاضطرابات الوسواسية القهرية والاضطرابات المرتبطة بها. يمكن أن يعاني منه أشخاصٌ من كافة الفئات العمرية، حيث يدخل المصاب في دورة من الوساوس والتصرفات القهرية التي تكون أحياناً مرتبطة ببعضها [6].

أعراض اضطراب الوسواس القهري

كما ذُكر سابقاً، من أعراض اضطراب الوسواس القهري وجود سلسة الوساوس والتصرفات القهرية المتعلقة ببعضها. والتي تشكل حلقة متتابعة قد يصعب قطعها. لنتعرف على ماهيّة هذه الوساوس والأفعال القهرية حسب الدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات النفسية – الطبعة الخامسة المنقحة (DSM-5) [7].

الوساوس

هي أفكار أو صور أو دوافع متكررة الحدوث، ولكن حدوثها غالباً ما يكون غير مرغوب به. وتتسبب بالقلق أو الضيق لمعظم الأشخاص. قد يحاول الشخص تجاهلها أو قمعها، أو على الأقل تحييدها باستخدام أفكارٍ أو أفعالٍ أخرى [7]. من أكثر هذه الوساوس انتشاراً الخوف من الجراثيم، والحاجة لتنفيذ الأمور بطريقة مثالية، وبعض الأفكار المحرّمة غير المرغوبة كتلك التي تتعلق بالدين أو بأذية النفس أو الآخرين أو العدائية تجاههم [8].

التصرفات القهرية

هي الأفعال والتصرفات المتكررة، سواء كانت جسدية أو عقلية، والتي يشعر الشخص بأنه مرغمٌ على فعلها كرد فعلٍ على الوساوس التي يشعر بها. إذ تهدف هذه التصرفات القهرية إلى تهدئة التوتر أو القلق الناتج عن تلك الوساوس. ويسعى الشخص من خلالها إلى منع أحداثٍ أو مواقف مخيفة. ولكن هذه التصرفات لا تكون مرتبطة بطريقة واقعية بالأفكار التي من المفترض أن تهدئها أو تحيدها. وفي بعض الحالات، تكون هذه الأفعال القهرية مبالغاً بها بشكل واضح [7]. من الأمثلة على التصرفات القهرية التي يقوم بها من يعاني من اضطراب الوسواس القهري غسل اليدين والاعتناء بالنظافة الشخصية بشكل مفرط، والتنظيف المبالغ به للمنزل، والترتيب بطريقة معينة، والتأكد أو التحقق من أمور عدة كأقفال الأبواب أو مفاتيح الكهرباء [9]. ومن الممكن أن تكون هذه التصرفات عقلية كتكرار كلمات محددة أو العد لرقم معين [7].

تشخيص اضطراب الوسواس القهري

قد يعاني معظم الناس من أفكارٍ وسواسية و/أو تصرفاتٍ قهرية في فترة معينة من حياتهم. ولكنّ هذا لا يعني أننا جميعاً مصابون باضطراب الوسواس القهري. ففي حالة المرض، تكون هذه الوساوس والأفعال القهرية شديدةً، وتستهلك وقتاً طويلاً من حياة الشخص، الأمر الذي يشكل عائقاً أمام ممارسته لنشاطاتٍ مهمة في حياته [5]. إذاً، هنالك معياران يجب تحققهما كي يتم تشخيص المرء باضطراب الوسواس القهري. أولهما وجود الوساوس والتصرفات القهرية، وثانيهما المبالغة بهذه الأعراض لدرجة تستهلك وقتاً طويلاً (أكثر من ساعة في اليوم) أو تسبّبُ ضيقاً أو قلقاً أو تمنع الشخص عن متابعة حياته اليومية [7].

أسباب اضطراب الوسواس القهري وعلاجه

يعتقد الأطباء وأخصائيو الصحة العقلية أن سبب اضطراب الوسواس القهري قد يكون جينياً. إذ تكشف بعض الدراسات على العائلات ارتفاع احتمال الإصابة في حال كان أحد الأقرباء من الدرجة الأولى يعاني منه. كما يمكن أن تكون عوامل البيئة المحيطة من مسببات هذا الاضطراب، كالاعتداءات الجسدية أثناء الطفولة أو التعرض لصدمات أخرى. أما عن علاجه، فمن أكثر أنواع العلاج انتشاراً استخدام الأدوية أو العلاج النفسي، أو كلاهما [8].

ما هو اضطراب الشخصية الوسواسية القهرية؟ Obsessive-Compulsive Personality Disorder (OCPD)

تعريف اضطراب الشخصية الوسواسية القهرية

هو أحد الاضطرابات النفسية أو السلوكية أو اضطرابات النماء العصبي وفقاً للمراجعة 11 للتصنيف الدولي للأمراض (ICD-11). ولكنه لا يندرج ضمن الاضطرابات الوسواسية القهرية والاضطرابات المرتبطة بها. بل هو أحد اضطرابات الشخصية التي يتميز من يعاني منها بصفات معينة [6]. عموماً، تنطوي اضطرابات الشخصية على أنماط تصرفٍ دائمة تنبع من تجارب أو سلوكيات داخلية. وغالباً ما تكون هذه الأنماط ثابتة ومزمنة وغير نمطية، بل وحتى إشكالية [4]. وفي الحالة التي نتحدث عنها، أي حالة اضطراب الشخصية الوسواسية القهرية، يتمثل النمط السائد أو المتكرر بانشغال أو اهتمام زائد بالترتيب والكمالية والتحكم [7].

أعراض اضطراب الشخصية الوسواسية القهرية

يعاني المصابون باضطراب الشخصية الوسواسية القهرية من صعوبة في التعبير عن مشاعرهم. وهذا يجعلهم غير قادرين على التعاطف مع الآخرين أو الحفاظ على علاقات وثيقة مع غيرهم. وعادة ما يلجأ هؤلاء الأشخاص إلى وضع قوائم بالمهمات الموكلة لهم، والتقيد التام بالقواعد بشكل صارم يبعد عن المرونة. وتراهم دائماً مكرسين لعملهم ويبحثون عن الكمالية فيما يفعلون، حتى في الأمور البسيطة أو غير المهمة. كما يميلون إلى عدم إعطاء المهام للغير أو ترك أحد آخر يتحكم بمجريات الأمور [4].

تشخيص اضطراب الشخصية الوسواسية القهرية

قد نرى الأعراض السابقة أو قسماً منها، ولو بنسبة بسيطة، لدى كثير من الأشخاص. وقد نجدها في أنفسنا إذا ما راقبنا تصرفاتنا اليومية وسلوكنا الاعتيادي. ولكن هذا لا يعني دائماً أن الشخص مصاب بالاضطراب. فكما ذكرنا في حالة اضطراب الوسواس القهري، يتطلب تشخيص اضطراب الشخصية الوسواسية القهرية معايير محددة كي تصنف الحالة على أنها مرضية. إضافة للأعراض التي ذكرناها، يركز من يعانون من اضطراب الشخصية الوسواسية القهرية على الأمور الجانبية على حساب جوهر العمل أو الأمر الذي يقومون به.

فحين يقومون بوضع القوائم وترتيب المهام، يصل الأمر بهم إلى تحويل تركيزهم إلى القائمة بحد ذاتها. الأمر الذي يحيد انتباههم عن جوهر المهمة الأصلية، ويصبح الهدف الرئيسي ثانوياً. ويكون هؤلاء غير قادرين على تجاوز اهتمامهم بالعمل والانتباه الشديد للتفاصيل. ويصل ذلك إلى درجة مبالغ بها تقودهم إلى إلغاء الوقت الخاص للراحة أو لقاء الأصدقاء. ولكن على عكس المرغوب، يؤدي اهتمامهم المفرط بالكمالية إلى إضاعة الوقت وعدم إنجاز العمل أو المهمة المطلوبة.

ومن المعايير الأخرى التي تُعرّف هذا الاضطراب، الانصياع الصارم لكل القوانين ومبادئ الأخلاق دون قبول أي تغيير أو مرونة، ومحاولة إلزام الآخرين بذلك. كما يظهر في هذا الاضطراب تعلق زائد بالأشياء والمقتنيات ورفض التخلي عنها. حتى وإن لم تكن ذات فائدة، تسيطر على الشخص فكرة أنه من الممكن أن يكون لها حاجةٌ يوماً ما. وقد تصل هذه الحالة إلى حد لا يطاق من قبل عائلة الشخص أو من يشاركه السكن. كما يمكن أن يتعدى الحرص الزائد مسألة عدم التخلص مما هو غير ضروري، ويصل إلى حد البخل في إنفاق المال خوفاً مما قد يحدث في المستقبل. وأخيراً، لا يحب مصابو اضطراب الشخصية الوسواسية القهرية العمل مع أشخاص آخرين أو إعطاء مهام لغيرهم. بل يصرون أن تسير الأمور كما يريدون هم، وأن يعمل غيرهم وفقاً لتعليماتهم التي غالباً ما تكون شديدة التفصيل [7].

أسباب اضطراب الشخصية الوسواسية القهرية وعلاجه

تعزو بعض النظريات أسباب اضطراب الشخصية الوسواسية القهرية إلى مرحلة الطفولة. حيث يمكن لهذه الحالة أن تتطور لدى الأطفال الذين كان أهلهم يبالغون بحمايتهم. ويمكن أن يظهر أيضاُ عند الأشخاص الذين لم يكتمل نموهم العاطفي في مرحلة الطفولة، أو لم يستطيعوا تشكيل تعلق آمن بوالديهم [4]. أما عن علاجه، فإضافة لاستخدام بعض أنواع الأدوية وتمارين الاسترخاء، يعتبر العلاج المعرفي السلوكي (cognitive behavioural therapy – CBT) أحد أكثر الطرق استخداماً مع هذا الاضطراب [10]. إذ يركز هذا النوع من العلاج على نزعة الشخص نحو الكمالية وصرامة التفكير لديه. ويساعده على فهم المعايير المستحيلة والقواعد الحازمة التي يفرضها على نفسه، وكيف أنها تعيقه عن التقدم في حياته [11].

بناءً على ما سبق، يبدو أن اضطراب الوسواس القهري واضطراب الشخصية الوسواسية القهرية هما أكثر من مجرد تعلق بالنظافة والترتيب، أو إعطاء للأوامر وتسيير الأمور بطريقة محددة. ويُنصح دائماً بطلب الاستشارة من أطباء واختصاصيين نفسيين عند تفاقم الحالة كي لا تؤدي إلى عواقب سيئة على الأشخاص المعنيين وذويهم.

مصادر

  1. My Mind
  2. Abnormal Psychology
  3. Medline Plus
  4. Verywell Mind
  5. مؤسسة اضطراب الوسواس القهري الدولية
  6. التصنيف الدولي للأمراض
  7. الدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات النفسية – الطبعة الخامسة المنقحة
  8. Psycom
  9. الجمعية الأمريكية للأطباء النفسيين
  10. Healthline
  11. Psycom

الفردية بين حرية الفرد والمجتمع: هل هي تفضيل للفرد أم تحدٍّ للمجتمع؟

تعريف الفلسفة الفردية (Individualism)

بين حرية الفرد ومكانه في المجتمع، تُعرف الفلسفة الفردية على أنها فلسفة سياسية واجتماعية تركز على قيمة الفرد الأخلاقية وحريته ضمن المجتمع. قد يبدو مفهوم الفرد بسيطاً بعض الشيء، لكن فهمه ينطوي على طرق عدّة في كل من الناحية النظرية وتطبيقها. [1]

نشأة مصطلح “الفردية”

يعود مصطلح “الفردية” إلى القرن التاسع عشر [1]، لكن هذا الفكر كان موجوداً من قبل. حيث برز في عصر النهضة، وكان يركز آنذاك على سعي الفرد لتحصيل المعرفة، إضافة إلى التركيز على مواهب الفرد وإنجازاته، بغض النظر عن المجتمع. ,تطوّر مفهوم الفردية مع عصر التنوير في أوروبا في القرن الثامن عشر، حيث قام بعض أنصار المنطق والعقلانية بكسر قيود القمع الديني وتحرير الفرد ليتسنى له إيجاد نفسه والتعبير عنها وتحقيق غايتها [5]. أما عن مصطلح “الفردية” بحد ذاته، فقد ظهر في اللغة الفرنسية (individualisme) مع ردود الفعل الأوروبية على الثورة الفرنسية ومصدرها المزعوم في الفكر التنويري. في حقيقة الأمر، وبعد الفوضى والهياج اللذين نتجا عن الثورة الفرنسية، كانت ردود الفعل تجاه مفهوم الفردية سلبيةً ومناهضة، وذلك نتيجة الاضطرابات الاجتماعية التي شهدتها البلاد عقب الثورة. فقد كانت الثورة الفرنسية دليلاً قاطعاً على أن الأفكار التي ترفع من شأن الفرد هي التي تودي، في نهاية المطاف، بالاستقرار والمصلحة الاجتماعية. [6].

متى ظهرت الفلسفة الفردية؟

يمكن تتبع تاريخ الفلسفة الفردية في مراحل متعددة، فقد برزت في عصر النهضة والتنوير، كما مثلت عماداً أساسياً للثورة الفرنسية وانحلال الأرستقراطية، ووصلت إلى الثورة الصناعية وتطور الرأسمالية أو الديموقراطية. ولكن لا يخلو هذا التاريخ من تجمع آراء تناهض هذا الفكر وتعتبره شراً وتهديداً للتلاحم الاجتماعي [6].

إذاً، ما هي أفكار الفلسفة الفردية؟

خصائص الفلسفة الفردية وأهمية الحرية فيها

تركز هذه الفلسفة على استقلال الفرد وحريته، وتفضل مصالح الفرد الخاصة وترفعها فوق جميع المصالح الجمعية [1]. كما تعارض التدخلات الخارجية بخيارات الفرد، سواء كانت هذه التدخلات من المجتمع أو الدولة أو أية مجموعة أو مؤسسة أخرى [7]. إضافة لذلك، تؤمن الفلسفة الفردية باستقلالية الفرد وباحترام التنوع والحرية على حساب السلطة والامتثال للمجتمع. وكجزء من تركيزها على استقلال الأشخاص وتميزهم، تدعم الفردية تساوي الحقوق بين كل الأفراد من كافة الفئات العرقية والأنواع الاجتماعية والتوجهات الجنسية [8]. كما تركز على أهمية إعطاء الفرد ما أمكن من الحرية لينكبَّ على اهتماماته كما يريد. أما عن المجتمع، ترى الفردية أنه يمثل مجموعة من الأفراد ولا يزيد عن كونه وسيلةً لتحقيق غاياتهم [9].

ما أهمية المجتمع بالنسبة للفردية؟

وفي النظريات الاجتماعية والسياسية، تتمثل الأفكار الفردية بمناصرة حرية الفرد ورفاهه، في حين يعتبر وجود المجتمع متمحوراً حول أفراده وغاياتهم [10]. وترى أن مصالح الفرد العاقل تتحقق بالطريقة الفضلى عن طريق إعطائه الحرية الكاملة وتحميله مسؤولية اختيار أهدافه والوسائل التي سيستخدمها لتحقيق هذه الأهداف والتصرف وفقاً لذلك [1]. وهذه النقطة الجوهرية تعرّض الفلسفة الفردية لانتقاد معارضيها الذين يرون فيها سبباً وراء الانحلال الاجتماعي والفوضى.

الفردية مقابل الجماعية ونظرتهما للحرية وللمجتمع

على عكس الفردية، ترى الجماعية أن الفرد تابع للوحدة الاجتماعية، سواء كانت متمثلة بالدولة أو الأمة أو العرق أو الطبقة الاجتماعية [1]. ووفقاً لهذه العقلية، تطغى حاجات الجماعة وأهدافها على حاجات الفرد. بالمقابل، لا تنفي الفلسفة الفردية دور الوحدات الاجتماعية، لكنها تركز على حرية الفرد ضمن المجتمع، كما ترى أن مهمة الدول أو الحكومات تتلخص في حماية الأفراد من كافة أشكال الخطر الخارجية أو الداخلية، والكوارث الطبيعية أو تلك المفتعلة كالجرائم أو أعمال الشغب والحرب، وحتى من الأفراد الآخرين [11].

أبرز أنصار الفلسفة الفردية ومنح الحرية للفرد ضمن المجتمع

لمعت أسماء عديدة في تاريخ الفلسفة الفردية ممن دعموها وكتبوا عنها ودافعوا عن أفكارها. نذكر منهم الفيلسوف وعالم الاقتصاد الإسكتلندي آدم سميث (1723-1790) والذي عُرف بشكل رئيسي في مجال الاقتصاد السياسي بأفكاره المؤيدة لاقتصاد يتمتع بالحرية، وهذا ما أصبح لاحقاً جزءاً من النظام الاقتصادي المعروف بمبدأ “عدم التدخل” [2].

إضافة لسميث، يقدم كل من الانكليزيين هربرت سبنسر (1820-1903) وجون ستيوارت مل (1806-1873) في كتاباتهما شرحاً وافياً لهذه الفلسفة. كان سبنسر  أحد أوائل مؤيدي نظرية التطور وداعمي فكرة تفضيل الفرد على المجتمع [3]. أما ستيوارت  فقد تحدث في كتابه “عن الحرية” (1859) عن أهمية إعطاء الأفراد حرية ومساحة لتطوير ذواتهم وشخصياتهم، وهذه الأهمية لا تعود بالنفع على الأفراد فقط، بل على المجتمع ككل، وفقاً لستيوارت [4]. ومما قاله في كتابه المذكور، أن “المصدر الأزلي والثابت للتطور هو الحرية” وهذا يؤكد إيمانه بأهمية الحرية ليس فقط على صعيد شخصي، بل في سبيل التطور عموماً.

وفي ألمانيا، كان الفيلسوف إيمانويل كانت (1724-1804) منادياً بأهمية الحقوق والحريات الفردية مقابل الإكراه، وأن قدرة البشر على تحمل المسؤولية الأخلاقية تعطي لكل فرد كرامته. كما أكد أنه لا ينبغي أن يتخلى الأفراد عن حقوقهم المشروعة مقابل أي شيء [12].

إضافة لهؤلاء، كان الفيلسوف والكتاب الفرنسي فولتير (1694-1778) والفيلسوف السويسري جان جاك روسو (1712-1778) من أنصار الفلسفة الفردية. ورفض هؤلاء المدافعون اللجوء إلى مصدر أرفع من ضمير الفرد. حيث كانوا يعتبرون أن الفرد هو المركز، ووصل بهم الأمر إلى المناداة بحب الذات. هذا ما دفع البعض إلى استشعار أفكار خطيرة في هذه الفلسفة قد تؤدي إلى الفوضى الاجتماعية وانتشار المواقف المتمحورة حول تفضيل الذات [6].

انعكاسات الفردية ومفهومها عن الحرية والمجتمع في السياسة والاقتصاد

في السياسة، ترتكز الفردية السياسية على تحميل الأفراد مسؤولية رفاه حياتهم، دون الاعتماد على الحكومة، أو أي وكالة خارجية أخرى. ويؤكد هذا المنحى، والمتمثل بأفكار ليبرالية وديموقراطية، على أهمية استقلال الأفراد في اتخاذ قراراتهم السياسية عن طريق انتخابات ديموقراطية يختارون فيها ممثلين عنهم [13].

أما في الاقتصاد، فيتمحور الاقتصاد الفردي حول فكرة تقليل تدخل الحكومة أو انخراطها في الاقتصاد. حيث يعطي داعمو هذا المذهب الاقتصادي الأولوية لمبادئ حرية الاقتصاد والملكية الفردية والمنافسة والمصلحة الذاتية والاعتماد على الذات. وكما ذكرنا سابقاً، تتجلى الفردية في مبدأ عدم التدخل الاقتصادي الرأسمالي والليبرالية الكلاسيكية [14].

اقرأ أيضاً: فلسفة التنوير وتفكيك المقدس

المصادر

  1. https://www.britannica.com/topic/individualism
  2. https://www.britannica.com/biography/Adam-Smith
  3. https://www.britannica.com/biography/Herbert-Spencer
  4. https://www.britannica.com/biography/John-Stuart-Mill
  5. Philosophy Now
  6. Steven Lukes. The Meaning of Individualism. Journal of the History of Ideas, Vol. 32, No. 1 (Jan. – Mar., 1971), pp. 45-66
  7. The Basics of Philosophy
  8. Philosophy Terms
  9. Peter Nicholson. Individualism vs Collectivism. Cambridge University Press. pp 289-296
  10. Anu Realo et Al. Three Components of Individualism. European Journal of Personality. 16: 163–184 (2002)
  11. Political Science
  12. Learn Liberty
  13. History Crunch
  14. History Crunch
Exit mobile version