النظرية التفاعلية في اكتساب اللغة

هذه المقالة هي الجزء 6 من 7 في سلسلة مقدمة في نظريات اكتساب اللغة

النظرية التفاعلية في اكتساب اللغة

ترى النظرية التفاعلية (Interactionist Theory) أن عملية اكتساب اللغة تحدث في سياق تفاعلي. حيث تؤكد على أهمية المدخلات اللغوية (language inputs) التي يتلقاها الأطفال من مقدمي الرعاية حولهم. ومع أن التفاعلية تؤمن بالاستعداد الجيني لدى البشر لتعلم اللغة – وهذه من أبرز نقاط النظرية الفطرية – لكنها تذهب أيضاً إلى التأكيد على أهمية البيئة الاجتماعية في هذه العملية – وهذا ما يذكر بالنظرية السلوكية. أي أن النظرية التفاعلية تمثل حلاً وسطاً للنقاش حول ما إذا كانت اللغة هي أمراً طبيعياً أم مكتسباً. ولكن ما يميزها هو تأكيدها على أهمية التفاعل مع الأشخاص الآخرين كعامل أساسي في اكتساب اللغة وتطويرها [1].

أساس النظرية التفاعلية

يعود أصل النظرية التفاعلية إلى عالم النفس السوفييتي فيغوتسكي (Vygotsky) الذي أرسى أصولها عندما طور النظرية الاجتماعية الثقافية في النمو. يرى فيغوتسكي أن تطور الإنسان هو عملية تتم بواسطة المجتمع، ويكتسب من خلالها الأطفال قيمهم ومعتقداتهم الثقافية عبر الحوارات الجماعية مع أفراد ذوي معرفة أوسع منهم [2].

فعلى خلاف بياجيه الذي أكد على أن نمو الطفل يسبق مرحلة التعلم، يناقش فيغوتسكي أن التعلم هو أحد الجوانب الضرورية والعالمية لعملية النمو التي يطور الطفل عبرها وظائف محددة ثقافياً ونفسياً. وبعبارة أخرى، فإن التعلم يأتي قبل النمو، ويوجه ميول الطفل حسب الثقافة السائدة [2].

التفاعلية واكتساب اللغة

كان عالم النفس الأمريكي “برونر – Bruner” أول من اقترح أن الأطفال بحاجة إلى تفاعل مباشر مع الكبار ليحققوا الطلاقة اللغوية. حيث يعتبر أن سلوك البالغين اللغوي عندما يتحدثون مع الأطفال، أو كما يعرف باسم الخطاب الموجه للأطفال (child-directed speech – CDS)، هو نمط معدل للغة يدعم عملية اكتسابها. وأطلق على هذا الدعم اسم السقالات (scaffolding). كما تحدث برونر عن نظام دعم اكتساب اللغة (Language Acquisition Support System – LASS) كرد على جهاز اكتساب اللغة (LAD) الذي تحدث عنه تشومسكي في النظرية الفطرية [3].

إذاً توجد ثلاث نقاط ركز عليها برونر في تطوير نظريته، وهي عوامل أساسية في اكتساب الطفل للغة وفق النظرية التفاعلية.

الخطاب الموجه للأطفال

يشير هذا المصطلح إلى الطريقة التي يتحدث بها مقدمو الرعاية والبالغون مع الأطفال. ومن المعتقد أنها تعزز التواصل مع الطفل عن طريق مساعدته بالتعرف على الأصوات والمقاطع والكلمات والجمل. كما أن طبيعة هذا الكلام البطيئة، والنبرة التي يستخدمها الكبار وتميل إلى التغم، تساهم في جذب انتباه الطفل [1].

يتسم هذا الحديث بكونه لغة بسيطة ومباشرة ليتم فهمه بسهولة، ويتحقق هذا بتضييق نطاق المفردات وتبسيط الصيغ القواعدية المستخدمة. يميل الكبار أيضاً إلى تكرار الأسئلة والعبارات التي يوجهونها إلى الطفل، إضافة إلى الوقوف لفترات أطول وأكثر بدلاً من الحديث بسرعة [1].

السقالات

استخدم برونر مصطلح السقالات لشرح دور مقدمي الرعاية في تنمية اللغة لدى الأطفال. واعتمد في هذا على أفكار فيغوتسكي التي تؤكد على حاجة الأطفال لوجود شخص آخر ذو معرفة أكبر كي يتسنى لهم تطوير معارفهم ومهاراتهم [1].

يمكن تلخيص نظرية برونر عن السقالات بأن المتعلمين يقومون بفعل التعلم لا عن طريق المذاكرة والحفظ. بل يعتمدون على التجربة والخطأ. حيث يشرح برونر أن الأطفال يحتاجون إلى المساعدة من المعلمين والبالغين في مسيرتهم لتعلم مفاهيم جديدة. وتكون المساعدة على شكل دعم فعال. في البداية، يعتمد الأطفال على هذا الدعم المقدم من الكبار. لكن مع الوقت يصبحون أكثر استقلالاً في تفكيرهم ويكتسبون مهارات ومعارف جديدة. وبالتالي، ينخفض مستوى اعتمادهم على الغير. وهذا يشبه السقالات التي تدعم عملية البناء، والتي تتم إزالتها عندما يكتمل العمل [3].

وعليه، تعرف الطريقة التي يدعم الأهل بها أطفالهم باستخدام الحديث الخاص بالسقالات لأنها تدعم عملية اكتساب اللغة وتحقق التفاعل الضروري لإتمامها. ومع الوقت، يتناقص استخدام الكبار للخطاب الموجه للأطفال مع تطور اللغة المكتسبة لديهم [1].

نظام دعم اكتساب اللغة

يقوم الكبار بدفع تطور لغة الأطفال عبر آلية السقالات الداعمة، وتتم هذه العملية عبر نظام أسماه برونر نظام دعم اكتساب اللغة. في الواقع، يوافق برونر مع طرح تشومسكي لفكرة جهاز اكتساب اللغة (LAD)، ولكنه يؤكد في الوقت ذاته أن للسياق الاجتماعي، وسلوك الأهل على وجه الخصوص، أثر كبير على تطور اللغة. ويطلق على هذا الدور للبيئة المحيطة اسم نظام دعم اكتساب اللغة، وهو ما يحتاجه جهاز اكتساب اللغة لدعم عملية تطوير اللغة لدى الأطفال [4].

ويتمثل الدعم الذي يزوده هذا النظام بتعديل اللغة كي تناسب الطفل، إضافة إلى أنشطة التعلم التعاوني. ومن هذه الأنشطة القراءة المشتركة التي يستخدم فيها الكبار الصور ويربطونها مع مفردات ذات صلة ليتعلمها الطفل. كما يعمل الأهل على تشجيع الطفل على الكلام وتقديم الملاحظات من خلال التفاعل. وخلال حديثهم، يعطي الأهل أمثلة ليقلدها الطفل، ويوظفون الألعاب التفاعلية في ممارسة اللغة [1].

توفر هذه التفاعلات الاجتماعية بيئة سقالات تساعد الأطفال في صياغة كلماتهم الأولى، ثم تدفع تطور اللغة لديهم أكثر مع الوقت [4].

مواطن ضعف النظرية التفاعلية

وجد بعض الباحثين أن البيانات التي تدعم النظرية التفاعلية هي بيانات منحازة، بمعنى أنها تمثل فئة معينة من الأفراد، وتحديداً العائلات الغربية ذات البشرة البيضاء ومن الطبقة المتوسطة. وهذا يعكس عدم إمكانية تطبيق نظرية التفاعل بين أطفال والآباء على مجتمعات وثقافات أخرى يسلك فيها الأهل نهجاً مختلفاً في الحديث مع أبنائهم. ولكن على الرغم من ذلك، يكتسب أطفال تلك المجتمعات اللغة بطلاقة [1].

أي أن استخدام الحديث المباشر مع الأطفال هو أمر مهم، ولكن نظراً لأنه ليس سائداً في كل المجتمعات، لا يتعبر أساسياً في اكتساب اللغة. حيث يمر الأطفال الذين لا يسمعون هذا النوع من الكلام بمراحل اكتساب اللغة نفسها ويصلون إلى الطلاقة [5].

المصادر

  1. Interactionist Theory – Study Smart
  2. Simply Psychology
  3. Scaffolding of Learning
  4. LASS
  5. Theories of language acquisition

النظرية المعرفية في اكتساب اللغة

هذه المقالة هي الجزء 5 من 7 في سلسلة مقدمة في نظريات اكتساب اللغة

النظرية المعرفية في اكتساب اللغة

تلخص النظرية المعرفية أو الإدراكية (Cognitive Theory) عملية اكتساب اللغة على أنها إحدى مظاهر النمو الفكري للطفل [1]. إذ يجب للطفل أن يدرك المفاهيم المحيطة به قبل أن يكتسب اللغة التي تعبر عن تلك المفاهيم. وقد عمل عالم النفس السويسري “بياجيه – Piaget” على فهم النمو المعرفي عند الأطفال من خلال مراقبة أطفاله الثلاثة وتدوين ملاحظاته بشكل يومي. كما قام بإجراء مقابلات ومراقبات إكلينيكية مع أطفال أكبر سناً باستطاعتهم فهم الأسئلة والخوض في حوارات [2].

أساس النظرية المعرفية

ترى نظرية بياجيه في النمو المعرفي أن ذكاء الطفل يتغير مع نموه. ولا يتمثل نمو الطفل المعرفي باكتساب المعارف فحسب، بل ينطوي أيضاً على تركيب نموذج عقلي عن العالم. وينتج هذا النموذج عن طريق التفاعل بين مقدرات الطفل الأصيلة وما يحدث في البيئة المحيطة به. وتتألف رحلة النمو المعرفي من أربع مراحل مختلفة يمر بها الطفل وتعكس مدى الزيادة في تعقد أفكاره مع التقدم بالعمر. إذاً، فإن النمو البيولوجي والنضج والتفاعل مع البيئة هي عوامل تحدد نمو الطفل المعرفي، وتنقله في المراحل التي تسير بترتيب معين. لكن بياجيه لم يربط تلك المراحل بأعمار محددة، بل من الممكن أن تتفاوت الأعمار التي ينتقل بها الأطفال من مرحلة إلى أخرى [2].

مراحل النمو المعرفي

أما عن هذه المراحل، فهي المرحلة الحسية الحركية (Sensorimotor stage)، ومرحلة ما قبل العمليات (Preoperational stage)، ومرحلة العمليات المحسوسة (Concrete operational stage)، ومرحلة العمليات المجردة (Formal operational stage) [2].

يعتقد بياجيه أنه لا يمكن للمعرفة أن تنبثق ببساطة من التجربة. بل يؤمن بوجود تراكيب قائمة أصلاً، وضرورية للمساعدة في فهم العالم. فالأطفال يولدون مجهزين بتركيب عقلي أساسي تبنى عليه المعارف الجديدة، ويمكن تحقيق النمو المعرفي العقلي عن طريق إدماج الأطر المفاهيمية البسيطة للمعرفة مع أطر بمستوى أعلى في كل مرحلة من مراحل النمو. ويسمي بياجيه هذه الأطر المفاهيمية بالسكيما (Schema) [3].

النمو المعرفي واكتساب اللغة

يبدأ الأطفال باكتساب اللغة في المرحلة الأولى التي يتطور فيها الإدراك الحسي والحركي. كما ذكرنا سابقاً، ينبغي أن يستوعب الطفل ما يحيط به من مفاهيم وأشياء قبل أن يكتسب اللغة للتعبير عنها. وفي هذه المرحلة، تتطور مجموعة من القدرات المعرفية وأهمها ديمومة الكائن (object permanence). وتكمن أهمية هذه القدرة أو الفهم بأنها تكون نتيجة تطور “سكيما” تمثيل الأشياء عقلياً حتى وإن لم تكن موجودة. أي يصبح بإمكان الطفل بعد عدة أشهر من المرحلة الأولى في النمو المعرفي أن يستوعب بقاء أغراضه أو ألعابه موجودة حتى وإن لم يكن يراها [2].

ولفهم ديمومة الكائن أهمية كبرى لأن الطفل يبدأ باستيعاب أن الأشياء هي أمور منفصلة ومستقلة بوجودها، ومن هنا يصبح بإمكان ربط تلك الأشياء بأسمائها واستخدام الكلمات للدلالة عليها [4].

 أي أن ظهور اللغة في هذه المرحلة يكون نتيجة إدراك الطفل لأهمية الكلمات في التعبير عن الأشياء والمشاعر [2]. ولكن لغة الطفل هنا تتميز بتمحورها حول ذاته، ويتمثل هدفها بالتواصل من أجل نفسه [3].

أما في مرحلة ما قبل العمليات، تشهد اللغة تقدماً سريعاً بسبب تطور السكيما العقلية لدى الطفل، والذي يسمح له بالتقاط عدد كبير من الكلمات الجديدة بسرعة. يصبح بوسع الأطفال هنا تركيب جمل بدائية بعض الشيء، وهذا يمثل انتقالاً من مرحلة الكلمة الواحدة [3].

ثم تأتي مرحلة العمليات المحسوسة، وتشهد تحولاً في طريقة تفكير الطفل التي تصبح أكثر منطقية، وتتوجه نحو أحداث ملموسة في البيئة المحيطة. كما يبدأ الطفل بالتفكير بحل المشكلات التي تواجهه. ينعكس هذا التطور في اللغة المكتسبة، والتي تصبح أكثر اجتماعية من كونها متمحورة حول الذات [3].

عند الوصول للمرحلة الأخيرة، وهي مرحلة العمليات المجردة، يكون استيعاب الشخص – الذي أصبح الآن بالغاً – قد تطور أكثر وأصبح يضم مفاهيم وأفكاراً مجردة. وبناء على هذا التطور تتغير اللغة لتلبي الحاجة للحديث عن مواضيع أخلاقية أو فلسفية [3].

مواطن ضعف النظرية المعرفية

تواجه النظرية المعرفية انتقادات تطال محدودية بعض جوانبها. فيلاحظ عالما النفس فيغوتسكي (Vygotsky) وبرونر (Bruner) أن بياجيه فشل في احتواء كافة الجوانب الثقافية والاجتماعية في تجاربه. حيث اقتصرت ملاحظاته على سياقات محددة ثقافياً. كما يرى هذان العالمان أن لبيئة الطفل الاجتماعية والأشخاص الراشدين من حوله دوراً مهماً في تطور قدراته المعرفية واكتسابه للغة. وعند الحديث عن رحلة النمو المعرفي، يرى فيغوتسكي وبرونر أن هذا التطور يحدث على شكل عملية واحدة مستمرة لا على شكل مراحل متعاقبة [3].

في النهاية، أجرى بياجيه أبحاثه ومراقباته لوحده، وكانت البيانات التي جمعها قائمة على تفسيره الشخصي للأحداث. أي أن منهجية البحث التي استخدمها تميل إلى كونها منحازة للتفسيرات الشخصية [2].

المصادر

  1. Theories of language acquisition
  2. Simply Psychology
  3. Cognitive Theory – Study Smart
  4. Very well mind

النظرية الفطرية في اكتساب اللغة

هذه المقالة هي الجزء 4 من 7 في سلسلة مقدمة في نظريات اكتساب اللغة

النظرية الفطرية في اكتساب اللغة

ترى النظرية الفطرية (Nativist Theory) أن قدرات البشر وعمليات التطور عندهم تكون موجودة منذ الولادة [1]. ولا يعد اكتساب اللغة استثناءً هنا. فحسب هذه النظرية، يولد البشر مع قدرة فطرية تمكّنهم من إنجاز عملية الاكتساب تلك. وقد حققت هذه النظرية ثورةً في مجال دراسة اكتساب اللغة لدى الأطفال بفضل العالم اللغوي الأمريكي نعوم تشومسكي (Chomsky) الذي يرى أن الأطفال يتعلمون لغتهم الأم دون الحاجة إلى تعليم رسمي. بل إن قدرتهم الفطرية هي التي تساعدهم على تنظيم قواعد اللغة، في حين يتمثل دور البشر الآخرين من حولهم في مساعدتهم بتفعيل هذه الموهبة [2].

أساس النظرية الفطرية

عند وصف اللغة بأنها ملكة فطرية، يقصد تشومسكي أن الأطفال يولدون مجهزين بمجموعة من القواعد حول اللغة في عقولهم. وقد أطلق على هذه المجموعة اسم النحو الكلي (Universal Grammar). تشكل هذه المجموعة الأساس الذي تُبنى عليه كافة اللغات البشرية. أي أنه وفقاً لتشومسكي، تشترك كافة اللغات بأساس واحد يكون موجوداً منذ الولادة. كما يرى في السهولة الكبيرة التي يتعلم بها الأطفال لغتهم الأم دليلاً يدعم فرضيته. إذ عند المقارنة، من شبه المستحيل أن يتعلم الأطفال الرياضيات أو ركوب الدراجة، مثلاً، بنفس الطريقة التي يتعلمون بها لغتهم [2].

النحو الكلي

ويعزو تشومسكي سهولة اكتساب اللغة الأم للنحو الكلي بناءً على عدة أسباب. أولاً، إن اللغة التي يتعرض لها الأطفال هي أبعد من أن تكون صحيحةً بالكامل. حيث أنه عندما يتحدث الكبار، يصدف أن يخطؤوا بالكلام أو يتلعثموا أو يقاطعوا بعضهم البعض. ولكن مع هذا، يتمكن الأطفال من اكتساب لغةٍ سليمة. بالإضافة لذلك، لا يقتصر اكتساب اللغة لدى الأطفال على نسخ ما يسمعونه من حولهم. بل يتعلمون أيضاً قواعد اللغة ويستخدمونها لإصدار جمل لم يسبق لهم أن سمعوها [2].

تقدم مجموعة النحو هذه عدداً محدداً من الاحتمالات الممكن استخدامها في اللغة. على سبيل المثال، توجد عدة طرق لترتيب الكلمات في الجملة، وجميعها مدرجة ضمن النحو الكلي. تتوزع هذه الطرق أو الأنماط المختلفة على لغات العالم. فنجد نمط “فاعل – فعل – مفعول به” في اللغات الإنكليزية والفرنسية والفيتنامية، كما يوجد ترتيب “فاعل – مفعول به – فعل” في اليابانية والتيبتية والكورية. ونرى ترتيب “فعل – فاعل – مفعول به” في الويلزية، أما ترتيب “فعل – مفعول به – فاعل” هو من قواعد اللغة الملغاشية [3].

وعليه، إن هذا العدد المحدد من الترتيبات هو جزء من النحو الكلي الذي يولد مع الأطفال، وعندما يبدؤون بالاستماع إلى أهلهم ومقدمي الرعاية، سيميز اللاوعي لديهم نوع اللغة التي يتعاملون معها. وبالنتيجة سيتم ضبط النحو والقواعد اللغوية وفقاً للصيغة الصحيحة. وهذا ما يسمى ضبط المعايير (setting the parameters). وكأن الطفل يُمنح مجموعة من الفرضيات عند ولادته، ويقوم بعد هذا بمطابقتها مع ما يسمعه من حوله. فالطفل لا يتلقى تعليماً مباشراً ورسمياً حول طريقة ترتيب الكلمات في الجملة، أو حول الكلمات التي تستخدم كفعل مثلاً. لكنه يدرك هذا بالفطرة التي تمكنه من التعامل مع المعلومات التي يتلقاها [3].

جهاز اكتساب اللغة

عند تفسير عملية اكتساب اللغة لدى الأطفال وطريقة اختيار القواعد الملائمة من مجموعة النحو الكلي، يتحدث تشومسكي عن جهاز اكتساب اللغة (Language Acquisition Device – LAD). وهو منطقة مفترضة من الدماغ تشرح كيف يمكن للأطفال أن يتعلموا اللغات بسرعة. إلا أنها ليست منطقة حقيقية يمكن رؤيتها عند التشريح، بل هي أقرب ما تكون إلى فكرة نظرية لتفسير اكتساب اللغة. حيث يشرح هذا الجهاز الطريقة التي يستخدم فيها الأطفال قدرتهم الفطرية لفهم اللغة وقواعدها [4]. ويفترض تشومسكي أن هذا الجهاز يتفعل عندما يسمع الطفل الكلام، وهو سمة بشرية لا تتواجد عند الحيوانات [5].

وقد عمل تشومسكي على تنقيح نظريته المتعلقة بجهاز اكتساب اللغة. فكان يعتقد أولاً أنه يضم مجموعة معارف محددة حول اللغة. ولكن فيما بعد، تطورت فكرة هذا الجهاز بأنها تمثل آلية عمل لاكتشاف قواعد اللغة أو استنتاجها [6].

مواطن ضعف النظرية الفطرية

كان عمل تشومسكي في مجال اللغة نظرياً، واهتمامه منصباً حول القواعد والنحو. ويتمثل قسم كبير من عمله بتفسيرات معقدة للقواعد النحوية. إلا أنه لم يتطرق في دراسته لأطفال حقيقيين. وتعتمد نظريته على تعرض الأطفال للغة في السياق المحيط بهم دون النظر في تفاعلهم مع الأطفال الآخرين أو مقدمي الرعاية. وعلاوة على ذلك، لا تشرح أبحاث تشومسكي الأسباب الكامنة وراء رغبة الطفل في الحديث أو ما يعرف بوظائف اللغة [7].

ولهذه الأسباب، قامت النظريات اللاحقة بالتركيز على الطرق التي يطور فيها الأطفال الحقيقيون اللغة لتلبية احتياجاتهم والتفاعل مع البيئة المحيطة، والتي تضم بشراً آخرين [7].

المصادر

  1. Encyclopedia of Child Behavior and Development
  2. Scientific Editing
  3. Noam Chomsky and Language Acquisition
  4. Study.com
  5. Nativist – Study Smart
  6. Chomsky – Study Smart
  7. Theories of language acquisition

النظرية السلوكية في اكتساب اللغة

هذه المقالة هي الجزء 3 من 7 في سلسلة مقدمة في نظريات اكتساب اللغة

النظرية السلوكية في اكتساب اللغة

تعد النظرية السلوكية (Behavioural Theory) إحدى نظريات علم النفس الخاصة بالتعلم. وتطرح فكرة أن تعلم جميع السلوكيات يتم عن طريق التفاعل مع البيئة في عملية تدعى الإشراط أو التكييف (conditioning) مع ظروف معينة محيطة بالشخص تسمى المحفزات. أي أن السلوك هو عبارة عن استجابة لتلك المحفزات [1]. وقد تم تطبيق هذه النظرية في علم اللغويات لتفسير عملية اكتساب اللغة الأم لدى الأطفال.

أساس النظرية السلوكية

يقوم المبدأ الأساسي للنظرية السلوكية على تحليلات السلوك البشري في التفاعلات التي تنطوي على استجابة محددة (response) لمحفز ما (stimulus)، والربط بين هذه الاستجابة وذاك المحفز. وكان عالم النفس الأمريكي إدوارد ثورندايك “Thorndike” أول من بحث في تفسير التعلم على أنه عملية خلق ارتباطات بين سلوك معين ونتائج هذا السلوك. كما طور عالم النفس الأمريكي ب. ف. سكينر “Skinner” نموذج الإشراط الإجرائي (operant conditioning) كجزء من نظرية التعلم القائمة على الاستجابة للمحفزات. حيث اعتبر سكينر أن التعلم بشكل عام هو عملية تأسيس عادات محددة، تنتج عن فعل التعزيز [2].

وعند البحث في الإشراط الإجرائي، تحدث سكينر عن نوعين من التعزيز يتلقاهما الشخص بناءً على سلوكه. فإما أن يتلقى تعزيزاً إيجابياً (positive reinforcement) عن طريق المكافأة (reward)، وهذا ما يثبّت السلوك محلّ الاهتمام. أو أنه يتلقى تعزيزاً سلبياً (negative reinforcement) عن طريق العقاب (punishment)، وهذا ما يحيّد السلوك غير المرغوب به [3].

السلوكية واكتساب اللغة

عند تطبيق السلوكية على عملية اكتساب اللغة، يقول سكينر أن الأطفال يعدلون استخدامهم للغة (أو يكيفوه!) كاستجابة للتعزيز. على سبيل المثال، قد يشعر الطفل بالجوع ويطلب الطعام باستخدام الكلمات المناسبة، كأن يقول “ماما، عشاء”. وهذا ما يؤدي إلى تعزيز إيجابي لهذا السلوك – المتمثل باستخدام اللغة – عن طريق إعطائه الطعام بالفعل، أو تلقيه للمديح والتشجيع من مقدم الرعاية. بالمقابل، عند استخدامه للغة بطريقة غير صحيحة، كأن يستعمل كلمات في السياق الخاطئ، سيتم تصحيحه، أو بأبسط الحالات تجاهله. وهذا ما يمثل تعزيزاً سلبياً ينتج عنه تهميش السلوك غير المرغوب، أي الاستخدام الخاطئ للغة. إضافة لهذا، يلتقط الأطفال اللكنات واللهجات العامية للغة من البيئة المحيطة. وهذا ما يدل على أن المحاكاة تلعب دوراً في اكتساب اللغة [3].

أما في مرحلة الدراسة، يصبح استخدام اللغة أكثر دقة وتعقيداً. ويمكن تفسير هذا بأن للمعلمين دوراً أكثر فعالية من دور مقدمي الرعاية في تصحيح الأخطاء لدى الأطفال. كما يرى بعض الباحثين أن تصحيح مقدمي الرعاية لأخطاء الأطفال هو تصحيح للمحتوى أكثر من تصحيح القواعد والتراكيب اللغوية. أي عندما ينطق الطفل بعبارة صحيحة من حيث المحتوى ولكنها خاطئة قواعدياً، سيتلقى تعزيزاً إيجابياً من مقدمي الرعاية بناءً على صحة حديثه. أما إذا حدث العكس، أي إذا استخدم الطفل لغة سليمة من ناحية القواعد ولكنها لا تنقل رسالة صحيحة المحتوى، فسيكون التعزيز سلبياً. فمقدمو الرعاية يهتمون بصحة الكلام وصدقه أكثر من دقته اللغوية. وتعتبر هذه من نقاط الضعف ضد النظرية السلوكية، حيث أن اللغة التي يسمعها الطفل ليست صحيحةً كل الوقت [3].

مواطن ضعف النظرية السلوكية

إذاً تواجه النظرية السلوكية انتقاداتٍ متعلقةً بمحدودية بعض أفكارها. كما ذُكر سابقاً، يصعب شرح كيفية اكتساب الأطفال للصيغ القواعدية في الوقت الذي لا يتلقون فيه تعزيزاً كافياً من هذه الناحية، أي قبل دخولهم للمدرسة. وأيضاً، يرى بعض الباحثين أن عملية التعزيز الإيجابي هي بطيئة مقارنة مع كمية المفردات التي يكتسبها الأطفال في سنوات اكتسابهم للغة. ثم إن النظرية السلوكية لا تشرح الاختلافات الفردية كتلك المرتبطة بمستوى الذكاء. وأخيراً، فإن الطبيعة المعقدة للعديد من جوانب اكتساب اللغة تجعل شرحها بطريقة الإشراط الإجرائي أمراً غير كافٍ [4].

المصادر

  1. Behaviorist Approach – Simply Psychology
  2. BEHAVIORIST THEORY AND LANGUAGE LEARNING – Dr Mehmet DEMİREZEN
  3. Behavioural Theory – Study Smart
  4. Behaviourist Theory of Language Acquisition

نظريات اكتساب اللغة

هذه المقالة هي الجزء 2 من 7 في سلسلة مقدمة في نظريات اكتساب اللغة

نظريات اكتساب اللغة

قبل الحديث عن نظريات اكتساب اللغة، لا بد أولاً من إعطاء فكرة عن هذه العملية وخواصها. يُعرّف اكتساب اللغة على أنه التطور التدريجي للمقدرة اللغوية لدى المتحدث. ويختلف اكتساب اللغة عن تعلمها بالنسبة للطريقة التي تتم من خلالها كل من هاتين العمليتين. وعند الحديث عن كيفية إتقان البشر للغتهم الأم منذ الصغر، فنحن نتحدث عن عملية اكتساب لا تتم بطريقة واعية ومخطط لها. بل تقوم على التأثر بالمحيط والتقاط اللغة من الناطقين بها مباشرة. وعليه تختلف عمليتا تعلم اللغة واكتسابها من ناحية طبيعة الخطوات التي تمران بها ومدى إدراك الفرد متعلم اللغة لما يحدث أو تحكمه به.

علم النفس اللغوي

يعد اكتساب اللغة من أبرز المحاور التي يجري البحث فيها ضمن علم اللغويات (linguistics). ولكن دراسته لا تقتصر على هذا العلم فحسب، إذ يمثل أيضاً أحد المواضيع المهمة في علم النفس (psychology). فينصب التركيز هناك على دراسة العمليات النفسية التي تمكّن البشر من إتقان اللغة واستخدامها. وعلى وجه الدقة، يسمى هذا القسم من علم النفس بعلم النفس اللغوي (psycholinguistics)، كما يطلق عليه أيضاً اسم علم اللغة النفسي. تنظر الأبحاث التي تجري تحت مظلة هذا العلم في تطور الحديث واللغة، وكيف يحدث فهم اللغة وإصدارها لدى الأفراد من مختلف الأعمار. ويعد اكتساب اللغة الأم، أي في مرحلة الطفولة، من أهم المحاور التي قامت حولها الكثير من النظريات والفرضيات [1].

اختلاف تفسير اكتساب اللغة

يفسر الباحثون عملية اكتساب اللغة لدى الأطفال بطرق مختلفة. وتتباين الأفكار المتعلقة بطبيعة المقدرة اللغوية لدى البشر، وبالعمر الأمثل لاكتساب اللغة. فيذهب البعض إلى أن اللغة أمر فطري يولد مع البشر ويتطور مع التقدم بالعمر. في حين يرفض آخرون هذا، ويعتبرون أن البيئة المحيطة هي العامل الأساسي في اكتساب البشر للغة. كما توجد فرضية تتعلق بالفترة العمرية التي ينجح فيها الأطفال بتطوير المقدرة اللغوية، وتسمى فرضية الفترة الحرجة (critical period hypothesis). باختصار، تقترح هذه الفرضية وجود فترة حرجة من عمر الإنسان يستطيع خلالها أن يتعلم لغةً معينةً ويتقنها كلغةٍ أمّ. تبدأ هذه المرحلة عند السنتين من العمر تقريباً، وتنتهي مع سن البلوغ. وبحسب هذه الفرضية، يصبح اكتساب اللغة أصعب بعد تجاوز هذه المرحلة، وتقل فرص النجاح، وهذا ما يفسر صعوبة تعلم اللغة لدى البالغين [2] [3].

حالة الطفلة “جيني” بالنسبة لنظريات اكتساب اللغة

يمكن توضيح الاختلاف في أفكار الباحثين حول تفسير عملية اكتساب اللغة عن طريق حالة طفلة أمريكية أطلق عليها اسم “جيني – Genie”. وقد كانت هذه الحالة – على غرابتها وقسوتها – موضوعاً مهماً في علوم اللغويات والنفس بشكل أساسي. في عام 1970، دخلت الطفلة جيني ذات 13 عاماً إلى أحد مشافي ولاية كاليفورنيا الأمريكية، بعد أن أنقذتها إحدى هيئات الخدمة الاجتماعية من والدها الذي كان يسيء معاملتها. فقد أمضت معظم حياتها مقيدة على كرسي في غرفة صغيرة مقفلة. ولم يكن مسموحاً لها بأن ترى أو تتواصل مع أي أحد، ما عدا والدتها التي كانت تدخل إلى غرفتها لبضع دقائق لا أكثر. بالنتيجة، وكما هو متوقع، لم يكن باستطاعة جيني استخدام اللغة عندما أُخرجت من عزلتها تلك. ولكن خلال فترة زمنية قصيرة، أصبح بإمكانها التجاوب مع حديث الآخرين وتقليد الأصوات والتواصل [4].

وقد كان لحالة جيني أثر كبير على دراسة اكتساب اللغة لدى الأطفال. فمن جهة، كانت لديها القدرة على تطوير الكلام واستخدام اللغة بعد تجاوزها عمر 13 عاماً. ولكن من جهة أخرى، كانت هذه القدرة بسيطةً، ولم تصل إلى مرحلة استخدام صيغٍ كلاميةٍ معقدةٍ قواعدياً. وهذا ما أثار تساؤل علماء النفس واللغويين على حد سواء، حيث أخذوا من حالة جيني وحرمانها فرصة لدراسة اكتساب اللغة لدى الأطفال، خاصة مع الأخذ بعين الاعتبار أنها كانت تعيش في بيئة لم يكن من المسموح فيه استخدام اللغة. ذلك الأمر حفز الجدال الأساسي، هل اللغة أمرٌ فطري أم أنها ناتجة عن التنشئة؟ هل نكتسب اللغة لأنها تولد معنا أو أنها تتطور لدينا بسبب وجودها في البيئة المحيطة بنا؟ كما أن حالة جيني كانت تدعم فرضية الفترة الحرجة لتعلم اللغة لدى الأطفال، وخاصة أنها لم تصل إلى مرحلة إتقان اللغة كلغة أم، حتى بعد إنقاذها والنجاح الخجول لمحاولات تعليمها الكلام والتواصل اللغوي [2].

نظريات اكتساب اللغة

إذاً، توجد العديد من النظريات التي تحاول تفسير طريقة اكتساب اللغة لدى الأطفال. منها ما يؤيد فكرة أن اللغة أمر فطري لدى البشر، تكون موجودة أصلاً، ثم تتطور. في حين تذهب نظريات أخرى إلى أن اللغة تنتج من المحيط وتتطور ضمنه. ولكن من الجدير بالذكر أن هذه النظريات ليست محض نظريات متناقضة، تحل إحداها محل الأخرى. بل تهدف كل نظرية منها إلى إغناء الفهم الكلي لفكرة اكتساب اللغة، ولكن عن طريق التأكيد على أحد الجوانب دوناً عن غيره في هذه العملية المعقدة. سنستعرض بعضاً من هذه النظريات بشكل عام، على أن يتم التوسع بكلٍ منها لاحقاً [5].

النظرية السلوكية في اكتساب اللغة

تعد النظرية السلوكية (Behavioural Theory) من أوائل نظريات اكتساب اللغة. ويعد عالم النفس الأمريكي “سكينر – Skinner” من أعلام السلوكية، وأحد أبرز الباحثين الذين يعزون تطور اللغة إلى تأثير البيئة المحيطة. وفقاً للسلوكية، يولد الأطفال مثل صفحة فارغة، دون أن يكون لديهم قدرة فطرية على تعلم اللغة. لكنهم يعتمدون في ذلك على التكيف مع البيئة المحيطة [6].

وفي تفسيره لاكتساب اللغة، يقترح سكينر أن الطفل يحاول تقليد والديه أو مقدمي الرعاية. وعندما ينجح بإصدار كلمات صحيحة، يقوم الكبار بتقديم الثناء أو المديح. وهذا ما يعزز محاولات الطفل الناجحة لإصدار اللغة الصحيحة، في حين ينسى المحاولات غير الناجحة التي لا يتم ترسيخها من المحيط [5].

النظرية الفطرية في اكتساب اللغة

من أبرز علماء اللغة الذين بحثوا في عملية الاكتساب وعملوا على تفسيرها هو الأمريكي “تشومسكي – Chomsky”. ويلمع اسم تشومسكي عند الحديث عن النظرية الفطرية (Nativist Theory) التي انتقد من خلالها سكينر والنظرية السلوكية. حيث يرى أن الأطفال لا يحصلون على مدخلات لغوية صحيحة بالقدر الكافي الذي يمكنهم من اكتساب اللغة السليمة. حيث أن الكبار من حولهم لا يستخدمون دائماً لغة صحيحة من ناحية القواعد أو التراكيب. كما أن الطفل لا يسمع إلا عدداً قليلاً من كلمات اللغة [5].

وعليه، تذهب النظرية الفطرية إلى أن الأطفال يولدون ولديهم مَلَكةٌ فطرية لاكتساب اللغة، الذي يحدث وفق عملية محددة بيولوجياً. يرى تشومسكي أن الدماغ تطور لدى الجنس البشري، وأصبحت داراته العصبية تحتوي على معلومات لغوية منذ الولادة. وتتحفز هذه القدرة الطبيعية على اكتساب اللغة عن طريق سماع الحديث الذي يستطيع عقل الطفل تفسيره نتيجة ما يحتويه أصلاً من قواعد وتراكيب. وهذا ما يطلق عليه في علم اللغة اسم “أداة اكتساب اللغة – Language Acquisition Device” [5].

النظرية المعرفية/الإدراكية في اكتساب اللغة

وضع عالم النفس السويسري “بياجيه – Piaget” اكتساب اللغة في إطار التطور العقلي أو المعرفي لدى الطفل، ويعد هذا من أهم مبادئ النظرية المعرفية أو الإدراكية (Cognitive Theory). حيث رأى أنه يجب للطفل أن يدرك المفاهيم التي يسمعها قبل أن يكون باستطاعته اكتساب لغة معينة تعبر عن تلك المفاهيم [5]. ويناقش بياجيه أنه لا يمكن للمعرفة أن تنبثق من مجرد التجربة العملية. بل ينبغي وجود تراكيب أو أنماط عقلية تساعد على فهم العالم. ويرى أن الأطفال يولدون ولديهم تركيب عقلي أساسي تبنى عليه المعرفة. ومع تطور إدراك الأطفال للعالم من حولهم، يصبح بمقدورهم اكتساب اللغة بشكل أكبر. على سبيل المثال، يشرح بياجيه أنه لا يمكن للأطفال استخدام زمن الماضي في حديهم أو إصداراتهم اللغوية ما لم يكونوا قد استوعبوا مفهوم الماضي وأدركوا دلالته [7].

النظرية التفاعلية في اكتساب اللغة

وفقاً للنظرية التفاعلية (Interactionist Theory)، يكمن الهدف من وجود اللغة في التواصل مع الآخرين، ولهذا لا يمكن تعلم اللغة إلا في سياق تفاعلي [5]. يعد عالم النفس الأمريكي “برونر – Bruner” من أبرز الأسماء التي أسهمت في النظرية التفاعلية وأول من ناقشها. حيث اقترح أن لدى الأطفال قدرة فطرية على تعلم اللغة، لكنهم بحاجة إلى تواصل وتفاعل مباشر مع الآخرين لتحقيق الطلاقة اللغوية الكاملة. أي أن مشاهدة التلفاز أو الاستماع للآخرين ليست كافية لاكتساب اللغة، بل لا بد للأطفال أن يتفاعلوا بشكل مباشر مع غيرهم كي يفهموا المواقف المختلفة الذي تستخدم اللغة ضمنها [8].

نظرية وظائف اللغة

تحدث اللغوي البريطاني “هاليداي – Halliday” عن سبع وظائف للغة (language functions) وتتدرج هذه الوظائف من ناحية التعقيد الذي يزداد مع تقدم الطفل بالعمر. يشرح هاليداي أنه مع تطور قدرة الأطفال على التعبير عن أنفسهم، تغدو حاجتهم للغة أكبر بصفتها رمزاً ثقافياً يساعدهم على أن يكونوا جزءاً من المجتمع. أي أنها ليست مجرد وسيلة للتواصل وحسب، بل إن تطور اللغة لدى الأطفال يتزامن مع تطور معرفتهم بالعالم من حولهم [9].

هل اكتسبت الطفلة جيني اللغة بعد عمر 13 عاماً؟

بالعودة إلى الطفلة جيني، كانت حالتها مجالاً لاختبار العديد من النظريات. فحتى مع عمرها المتقدم نسبياً، راقب الباحثون المراحل المعروفة لاكتساب اللغة لدى الأطفال. وبعد العمل معها، بدأت جيني تكتسب عدداً كبيراً من المفردات الجديدة. وقد كانت تمر فعلاً بالمراحل الأساسية التي يمر بها الأطفال، من مرحلة إصدار الكلمة الواحدة، إلى مرحلة الكلمتين، ثم الثلاث كلمات. ولكن لم يكن باستطاعتها تطبيق القواعد النحوية بفعالية، أو استخدام اللغة بطلاقة كاملة. وحتى عند تقدمها بالعمر وبلوغها سن الرشد، لم تنجح المحاولات في إكساب جيني “اللغة الأم” التي يمكن لها أن تتواصل عن طريقها. وقد دخلت قضيتها المعقدة تلك غياهب الكتمان نتيجة صعوبة وضعها وما ينطوي عليه من تعقيدات تتجاوز اهتمام علم اللغويات [2].

لكن مع كل الفرضيات والدراسات، يبقى البحث مفتوحاً في مجال علم النفس اللغوي لمحاولة الوصول إلى فهم أوسع لآلية اكتساب اللغة الأم لدى الأطفال.

المصادر

  1. Psycholinguistics – Science Direct
  2. Theories of Language Acquisition – Study Smart
  3. Critical Period – Study Smart
  4. George Yule, The Study of Language, 4th edition. Cambridge UP.
  5. Theories of Language Acquisition
  6. Behavioural Theory – Study Smart
  7. Cognitive Theory – Study Smart
  8. Interactionist Theory – Study Smart
  9. Halliday – Study Smart

تعلم اللغة واكتسابها: عمليتان مختلفتان في الظروف والمراحل

هذه المقالة هي الجزء 1 من 7 في سلسلة مقدمة في نظريات اكتساب اللغة

تعلم اللغة واكتسابها: عمليتان مختلفتان في الظروف والمراحل

بين عمليتي تعلم اللغة واكتسابها، يكمن فرق في الآلية التي تتم فيها العملية والظروف التي تجري ضمنها. إذ لا يتوقف الاختلاف بين هاتين العمليتين على رقم اللغة موضوع التعلم؛ فيما إذا كانت اللغة الأولى (اللغة الأم) أو لغة أخرى غيرها.

الفرق بين تعلم اللغة واكتسابها

يمكن تعريف اكتساب اللغة على أنه التطور التدريجي للمقدرة اللغوية لدى المتحدث. ويكون هذا التطور نتيجةً طبيعيةً لعمليات التواصل مع المحيط الناطق بهذه اللغة. فتلقي اللغة في هذه الحالة هو أمر عفوي وتلقائي، لأنها لغة المجتمع الذي يعيش فيه الشخص. لذا يكون إتقانها أمراً مفروضاً من مواقف الحياة اليومية أكثر من كونه خياراً [1].

بالمقابل، يُعرف التعلم على أنه عملية تتسم بالوعي والإدراك. أي أنها مقصودة ومخططٌ لها من قِبَل المتعلم. فهو يعمل على تجميع المعلومات المتعلقة باللغة الهدف. كما يدرس سماتها وقواعدها ومفرداتها باختياره. وغالباً ما يتم هذا في سياق تدريسي كصفّ أو مدرسة [1].

ترتيب اللغات التي يمكن اكتسابها / تعلمها

بالنسبة للغة الأم، يكون إتقانها لدى الأطفال ناتجاً عن عملية اكتسابٍ لا تعلم. فالطفل يتعرض للّغة مما يسمعه من الأشخاص من حوله. ويؤدي هذا إلى التقاطها وتطورها لديه. حتى عندما نتكلم عن الأطفال ثنائيي اللغة، يكون إتقانهم للغة الثانية أيضاً بعملية اكتساب. فهؤلاء هم الأطفال الذين يعيشون في بيئة تتحدث لغتين. قد تتمثل هذه البيئة بالوالدين أو مقدمي الرعاية أو المجتمع المحيط. وعادة ما يكتسب الطفل اللغتين بالتزامن مع بعضهما [2].

أما عند الانتقال إلى لغة غير اللغة الأم، يجب التمييز بين مصطلحين. فاللغة الأخرى هي إما أن تكون “لغة ثانية” أو “لغة أجنبية”، ولكل من هذين المصطلحين دلالةٌ مختلفة. بالنسبة للغة الثانية، فهي اللغة التي يتعلمها غير الناطق بها عندما يكون في مجتمعٍ أو محيطٍ يتحدثها. على سبيل المثال، عندما يسافر شخص عربي إلى فرنسا ويباشر تعلم اللغة الفرنسية، فهي لغة ثانية بالنسبة للمتعلم. فهو في تلك الحالة يعيش في مجتمع يتحدث اللغة الهدف. وحتى وإن درسها في مؤسسة تعليمية، فهو يعيش في بيئة تنطق بها وتتخذها لغة أصلية. أما إذا التحق المتعلم نفسه في أحد معاهد تعلم اللغة الفرنسية في بلده العربي، تكون عندها الفرنسيةُ لغةً أجنبيةً، لأنه يتعلمها ضمن مجتمع غير ناطقٍ بها [1].

اكتساب (وليس تعلم!) اللغة الأم

تنطوي أول سنتين من نمو الطفل على الكثير من عمليات التفاعل مع أشخاصٍ يستخدمون اللغة. وهذا ما يساهم في تطويرها لديه. إذ إن الأطفال الذين لا يسمعون اللغة – إما لأسباب صحية أو لغير ذلك من الظروف التي قد يتعرضون لها – لن يكونوا قادرين على الكلام. وهذا يدل على أن اللغة التي يتعلمها الطفل هي مكتسبةٌ وليست أصلية أو موروثة. كما أنها تتأثر بالبيئة المحيطة وبكيفية استخدام اللغة فيها [1].

المدخلات التي تساعد على اكتساب اللغة الأم

من الأمور التي تساعد الطفل على اكتساب اللغة وجود “المدخلات” اللغوية التي تنتج عن البالغين أو حتى الأطفال الأكبر سناً ممن يختلط معهم. وتمر هذه العملية بمراحل متعددة. فالطفل لا يبدأ باستخدام كلماتٍ كاملةٍ أو جملٍ صحيحةٍ مباشرةً. بل يأخذ وقتاً حتى يصل إلى مرحلة الإتقان اللغوي، خاصة وأن الكبار من حوله لا يستخدمون معه اللغة الصحيحة تماماً. بل يميل مقدمو الرعاية، إما الوالدان أو غيرهم من الكبار، إلى استخدام لغةٍ بسيطةٍ وعباراتٍ غير معقدة عند التواصل مع الأطفال الصغار [1].

تمر عملية اكتساب اللغة الأم لدى الأطفال بمراحل متعاقبة. وعند تقسيم هذه المراحل، من الجدير الانتباه إلى أن الأعمار التي تحدد هذه المراحل هي تقديرية. صحيح أن اللغويين يؤكدون على توخي الدقة في هذه التفاصيل. لكنهم يشيرون إلى أنه في مجال لغة الأطفال، يوجد احتمال تباين كبير بين مختلف الأطفال فيما يتعلق بالعمر الذي يبدؤون فيه بإصدار اللغة، ومراحل تطورها لديهم [1].

مراحل اكتساب اللغة الأم لدى الأطفال

في المرحلة الأولى، تكون المخرجات اللغوية من الطفل عبارةً عن أصواتٍ مثل “با با با” أو “غو غو غو”. تتزامن هذه المرحلة مع الأشهر الأولى من حياة الطفل، ومع تقدمه بالعمر، تتداخل مختلف الأصوات مع بعضها. كما يبدأ الطفل بمحاولة تقليد الكبار بالنبرة. بدورهم، يقوم مقدمو الرعاية والبالغون المحيطون بالطفل بالتفاعل مع هذه الأصوات كأنها تواصل متكامل. وبالنتيجة، تتطور قدرة الطفل على التفاعل الاجتماعي باستخدام الأصوات [1].

أما المرحلة الثانية لاكتساب اللغة، فتأتي بين عمر السنة وسنة ونصف. وتتسم لغة الطفل عندها باحتوائها على العديد من الكلمات ذات المقطع الصوتي الواحد، والتي يسهل تمييزها. وتشير معظم تلك الكلمات إلى أشياء من الحياة اليومية، كبعض أنواع الأطعمة مثل “كعك” أو “شاي”. كما يمكن أن تضم أسماء أدواتٍ يستخدمها الطفل مثل “ملعقة” أو “كوب”. لكن من الصعب أن تكون هذه الكلمات صحيحةً دائماً. بمعنىً آخر، قد يصدر الطفل لفظاً مؤلفاً من صوت واحد ويشير بالمقابل إلى شيءٍ ما، لكن ربما يكون هذا اللفظ بعيداً عن الكلمة الحقيقية في اللغة [1].

بعد بلوغه سنة ونصف السنة تقريباً، ينتقل الطفل إلى مرحلة أكثر تقدماً في التعبير. ويستخدم ألفاظاً أو كلماتٍ مؤلفة من مقطعين صوتيين. وعند الوصول إلى عمر السنتين، يصبح باستطاعته أن ينطق بتراكيب مؤلفة من كلمتين. ومع أن تلك التراكيب لا تكون دائماً صحيحة لغوياً، يستطيع الأهل أو مقدمو الرعاية أن يفهموا ما يقصده الطفل بناء على السياق [1].

وبالانتقال إلى المرحلة بين سنتين وسنتين ونصف، تتطور اللغة لدى الطفل وتأخذ شكل عدد كبير من الألفاظ التي يمكن تصنيفها على أنها كلمات معقدة. وتكمن أهمية هذه الألفاظ بتنوع صيغ الكلمات المستخدمة، فضلاً عن كثرة عددها. وبعد هذه المرحلة تتوسع مجموعة المفردات لدى الطفل بسرعة. وعند سن الثالثة، يصبح مخزون هذه المفردات عدة مئاتٍ، مع تحسن ملحوظ في اللفظ. حيث يأخذ لفظه شكلاً أقرب إلى لفظ البالغين منه إلى لغة الأطفال [1].

تعلم اللغة الثانية

ذكرنا أعلاه الفرق بين تعلم اللغة واكتسابها. كما وضحنا كيف يختلف مصطلحا اللغة الثانية واللغة الأجنبية. ولكن لأن هذه اللغة الجديدة هي لغة أخرى غير اللغة الأم أو الأولى، يستخدم عادة مصطلح “اللغة الثانية” للدلالة عليها في كلتا الحالتين.

بعد أن يتعلم الشخص لغته الأم وتتعزز لديه، يكون تعلم اللغة الثانية عمليةً واعيةً وضمن نطاق منتظم. كما يمكن أن تتم في أي عمر يختاره المتعلم؛ ليس بالضرورة منذ الطفولة. وتوجد العديد من الطرق لتعلم اللغة الثانية، منها ما هو نظري ومنها ما هو تفاعلي. لكن يميل البعض إلى تطبيق أساليب تفاعلية تجعل من التعلم أقرب للاكتساب الطبيعي. أي أن بعض منهجيات التدريس تركّز على تطبيق أنشطة تتضمن التواصل والتعرض للغة بطريقة تشبه اكتساب اللغة الأم. فقد أثبتت عملية الاكتساب فعاليتها أكثر من الطرق التقليدية التي تقوم على التلقين والحفظ [3].

اقرأ أيضاً: ما أهمية تعلم الأطفال اللغات؟

المصادر

  1. George Yule, The Study of Language, 4th edition. Cambridge UP.
  2. ESLbase
  3. Reading Rockets
Exit mobile version