مقدمة مبسطة لفهم جائزة نوبل في الفيزياء 2023 وسبب الفوز بها

ذهبت جائزة نوبل في الفيزياء لعام 2023 إلى الفرنسي بيير أغوستيني والمجري النمساوي فيرينك كراوس والفرنسية آن لويلير وذلك عن إنجازهم في توليد نبضات قصيرة للضوء بسرعة الأوتوثانية. إنجاز العلماء الثلاثة سيفتح أمامنا أفق جديدة في فهم ما يحدث بداخل عالم الذرة وأخذ لقطات لحركة الإلكترونات السريعة للغاية، إذ اكتشفت آن لويلير تأثيرًا جديدًا من تفاعل ضوء الليزر مع ذرات الغاز ووضح كل من بيير أغوستيني وفيرينك كرواس إمكانية استخدام التأثير السابق في إنشاء نبضات ضوئية شديدة القصر. فكيف فعلوا ذلك؟ هذا ما سنوضحه في مقالنا لمقدمة مبسطة لفهم جائزة نوبل في الفيزياء 2023 وسبب الفوز بها.

فهم ما يحدث داخل عالم الذرة السريع ليس مستحيلًا بعد الآن!

حينما تشاهد فهدًا يلحق فريسته بسرعة تصل إلى 64 ميلًا في الساعة، لا يمكنك لمح حركة جسده بالتفصيل بل ستراه كالطيف يمر أمامك. كذلك حينما ترى مقاطع فيديو في الأصل هي عبارة عن بضع صور ثابتة ولكن تم استخدام أحد البرامج لتسريع مرور تلك الصور أمام عيونك.

لا يمكن لحواسنا البشرية ملاحظة الحركات شديدة السرعة هذه، لذا نحن بحاجة للتكنولوجيا وحيلها كالالتقاط وتصوير اللحظات القصيرة التي تحدث، لفهم ما يحدث في عالمنا. يتيح لنا التصوير الفوتوغرافي عالي السرعة والإضاءة التقاط صور تفصيلية للكثير من الظواهر. وكلما كان حدوث الظاهرة أسرع، لابد أن تكون سرعة التقاط الصورة أسرع. وينطبق هذا المبدأ على جميع أساليب القياس أو تصوير أي عملية تحدث بسرعة، فإذا كان النظام سريع، يجب أن يكون القياس بسرعة أكبر من سرعة النظام وذلك لالتقاط الأحداث التي تحدث داخل هذا النظام.

يُعد المقياس الزمني الطبيعي للذرات قصير للغاية. فيمكن للذرات في الجزيء أن تتحرك وتتحول في جزء من مليون من مليار من الثانية (الفيمتوثانية). وقد كان أقصى ما يمكننا فهمه هو التفاعلات الكيميائية بين الجزيئات باستخدام نبضات الليزر في زمن قدره فيمتوثانية والتي فاز عنها العالم المصري أحمد زويل بجائزة نوبل سابقًا، لكن العلم لم يتوقف عند ذلك الحد بل مستمر. لذا كان اهتمام العلماء مصوب حول فهم ما هو أدق، أي عالم الذرات هائلة السرعة! وقد ساهم العلماء الثالثة في تصميم تجارب توضح طريقة لإنتاج نبضات ضوئية شديدة القصر، لالتقاط صور للعمليات داخل الذرات والجزيئات.

ولأن حركة الإلكترونات داخل الذرات والجزئيات سريعة للغاية، وتفوق سرعتها الفيمتوثانية، فتتغير مواقع وطاقات الإلكترونات بسرعة تتراوح بين واحد وبضع مئات من الأوتوثانية، والأوتوثانية هي جزء من مليار من مليار من الثانية! فهي قصيرة لدرجة أن عددها في الثانية الواحدة هو نفسه عدد الثواني التي مضت منذ ظهور الكون أي ما يقارب 13.8 مليار سنة. بمعنى أخر، الأوتو ثانية الواحدة فقط تعادل ثانية من عمر الكون.

كشف أسرار عالم الذرة باستخدام نبضات الأوتوثانية!

يتكون الضوء من موجات، اهتزازات في المجالات الكهربائية والمغناطيسية، تتحرك تلك الاهتزازات مع بعضها في الفراغ على نحو سريع، أسرع من أي شيء. كما أن لها أطوال موجية مختلفة وبألوان مختلفة. فمثلًا يبلغ طول موجة الضوء الأحمر حوالي 700 نانومتر، أي جزء من مائة من عرض شعرة الرأس، وتدور بمعدل أربعمائة وثلاثين ألف مليار مرة في الثانية تقريبًا. فلا يمكن للأطوال الموجية المستخدمة في أنظمة الليزر العادية أن تقل عن الفيمتو ثانية، لذا في الثمانينيات، كانت أقصر نبضات ضوئية ممكنة هي تلك التي تصدر في زمن قدره فيمتوثانية، ولا يمكن خرق ذلك. كان اختراق الفيمتوثانية تحدٍ هائل، فماذا يفعل العلماء؟

بالرياضيات، سنحصل على أقصر الموجات!

توضح الرياضيات لنا أنه يمكننا أن نشكل موجة من أمواج أصغر متراكبة، لذا إذا استُخدم عدد من الموجات ذات الأحجام والأطوال الموجية القصيرة في نطاق الأوتوثانية والسعات الصحيحة (المسافات بين القمم والقيعان)، وتراكبت تلك الموجات، ستنشأ لدينا موجات قوية وشديدة القصر في نطاق الأوتوثانية. وإذا تمكننا من رصد تلك الموجات، فبإمكاننا اكتشاف عالم الذرات والجزيئات.

لم يقتصر الأمر على استخدام الليزر فقط لإضافة أطوال موجية جديدة للضوء، حيث مفتاح الوصول إلى أقصر لحظة تمت دراستها هو باستخدام الظاهرة التي تنشأ عند مرور ضوء الليزر عبر الغاز. إذ يتفاعل الضوء مع ذرات الغاز ويسبب موجات انعكاسية تكمل عددًا من الدورات الكاملة لكل دورة في الموجة الأصلية. يمكن مقارنة ذلك بالنغمات المختلفة التي تعطي الصوت طابعه الخاص، مما يسمح لنا بسماع الفرق بين نفس النغمة التي يتم عزفها وتمييزه ما بين الجيتار والبيانو. وفي عام 1987، نجحت آن لويلر وزملاؤها في أحد المختبرات الفرنسية بإنتاج وإظهار النبضات بتسليط أشعة الليزر تحت الحمراء على ذرات غاز خامل.

مساهمة العلماء الثلاثة في جائزة نوبل في الفيزياء 2023

عندما يسلّط ضوء الليزر على الغاز، يؤثر على ذراته ويحدِث اهتزازات كهرومغناطيسية تشوه المجال الكهربائي الذي يحمل الإلكترونات حول نواة الذرة. مما يمكّن الإلكترونات بعد ذلك من الهروب من الذرات، لكن ما يمنعها من الهروب هو المجال الكهربائي الذي ينشأ عنه قوة جذب تحبسها. وعند تسليط الأشعة كما ذكرنا، يحدث بالقوة اضطراب لفترة زمنية صغيرة جدًا فتتمكن بعض الإلكترونات من الهرب أي تتأين طبقًا لميكانيكا الكم حيث ينشأ نفق كمي. من ثم تكتسب تلك الإلكترونات طاقة من المجال الكهربي لأشعة الليزر. لكن حينما يتغير اتجاه المجال الكهربي لأشعة الليزر، تعود الإلكترونات حول الذرة وتطلق الطاقة التي اكتسبتها سابقًا على شكل موجات ضوء في نطاق الأشعة فوق البنفسجية ذات الطول الموجي الصغير في نطاق الأوتوثانية الزمني. وعندما تحدث تلك الظاهرة من عدد كبير من الإلكترونات التي ستكتسب طاقات مختلفة، سيكون لدينا أمواج فوق بنفسجية مختلفة الترددات، تتراكب معًا وتنشأ موجة قوية قابلة للرصد طولها الموجي في نطاق الأوتوثانية.

هذا ما فعلته آن لويلير في 1987 وبيير أغوستيني ومجموعته البحثية في فرنسا عام 2001 في إنتاج ودراسة سلسلة من النبضات الضوئية المتتالية. توصل الباحثان إلى أن نبضة تستمر 250 أوتوثانية. في الوقت نفسه، كان فيرينك كراوس ومجموعته البحثية في النمسا يعملون على تقنية يمكنها اختيار عربة واحدة تشبه النبض يتم فصلها عن القطار وتحويلها إلى مسار آخر واستمرت النبضة التي نجحوا في عزلها لمدة 650 أوتوثانية.

أظهرت هذه التجارب أنه يمكن ملاحظة وقياس نبضات الأوتوثانية، ويمكن استخدامها أيضًا في تجارب جديدة. إن هذه النبضات الضوئية القصيرة يمكن توظيفها لدراسة حركة الإلكترونات، إذ أصبح من الممكن الآن إنتاجها ورصدها بسرعات تصل إلى بضع عشرات من الأوتوثانية فقط، وهذه التكنولوجيا تتطور طوال الوقت.

أقرأ أيضًا: لماذا كانت النبضات الضوئية القصيرة السبب في الفوز بجائزة نوبل عام 2023؟

المصدر: بيان موقع نوبل.

شرح مبسط لجائزة نوبل في الفيزياء 2022 وسبب الفوز بها

باستخدام التجارب الرائدة، أظهر كلا من آلان أسبكت وجون كلاوزر وأنتون زيلينجر، الحائزين على جائزة نوبل في الفيزياء 2022، إمكانية التحقيق والتحكم في الجسيمات الموجودة في حالات التشابك. حيث ما يحدث لجسيم واحد في زوج متشابك يحدد ما يحدث للآخر حتى لو كان أحدهما بعيدًا عن الآخر على نحو كبير جدًا. فما طوره العلماء الحائزين على نوبل في الفيزياء 2022 للأدوات التجريبية بمثابة الأساس لعصر جديد من تكنولوجيا الكم.

قوة التشابك الكمي هو سر نوبل في الفيزياء 2022

لا تمثل ميكانيكا الكم مجرد نظرية أو قضية فلسفية! بل هناك بحث وتطوير مكثف للاستفادة من الخصائص الخاصة بأنظمة الجسيمات الفردية. كل ذلك يصب في مصلحة بناء حواسيب كمية وتحسين القياسات وبناء شبكات كمية وإنشاء اتصال آمن مُشفر كميًا. وتعتمد الكثير من التطبيقات على تقنية الكم، إذ تسمح لجسيمين أو أكثر بالوجود في حالة متشابكة وذلك بغض النظر عن مدى تباعد كلا منهما عن الآخر. يُعرف ذلك باسم «التشابك-Entanglement» والذي أثار جدل واسع في ميكانيكا الكم منذ أن صيغت النظرية.

تحدث ألبرت أينشتاين عن تلك الحركة الخفية عن بُعد. كما قال إروين شرودنجر إنها أهم سمة لميكانيكا الكم. وهذا العام استكشف الفائزون بجائزة نوبل في الفيزياء 2022 هذه الحالات الكمية المتشابكة. ووضعت تجاربهم الأساس للثورة القائمة حاليًا في تكنولوجيا الكم.

ما هو التشابك الكمي؟

حين يتشابك جسيمان كميًا، يمكن للشخص الذي يقيس خاصية لجسيم واحد أن يحدد على الفور نتيجة قياس مكافئ للجسيم الآخر. يحدث الأمر دون الحاجة إلى التحقق، فهو مضمون. وقد يكون ذلك عجيب على مسامعك بالبداية! لكن إذا فكرنا في الكرات بدلاً من الجسيمات. فيمكننا تخيل تجربة يتم فيها إرسال كرة سوداء في اتجاه ما وكرة بيضاء في الاتجاه المعاكس. ويمكن للمراقب الذي يمسك كرة ويرى أنها بيضاء أن يعرف على الفور أن الكرة التي تحركت في الاتجاه الآخر سوداء.

فما يجعل ميكانيكا الكم مميزة هو أن مكافئتها للكرات ليس لها حالات محددة حتى يتم قياسها. قد يبدو الأمر كما لو أن كلتا الكرتين ذو لون رمادي، حتى ينظر شخص ما إلى أخر. بعد ذلك، يمكن أن يأخذ بشكل عشوائي كل الأسود الذي يمكن لزوج الكرات الوصول إليه أو يمكن أن يظهر أنه أبيض. فتتحول الكرة الأخرى على الفور إلى اللون المعاكس.

ولكن كيف يمكن معرفة أن الكرات لم يكن لها لون محدد من البداية؟ حتى لو بدت رمادية اللون، فربما كانت تحتوي على ملصق مخفي بالداخل. يشير إلى اللون الذي يجب أن تصبح عليه عندما ينظر إليها شخص ما.

هل هناك لون ما من الأساس في حالة غياب المراقبة؟

كي نفهم الأمر، يمكن مقارنة الأزواج المتشابكة لميكانيكا الكم بآلة ترمي كرات ذات ألوان متناقضة في اتجاهات متعاكسة نحو طفلين وهما بوب وأليس. وعندما يمسك “بوب” الكرة ويرى أنها سوداء، يعرف على الفور أن “أليس” قد التقطت كرة بيضاء.

نظريًا، عند استخدام المتغيرات الخفية بدلًا من الألوان المحددة من البداية، بدا أن الكرات تحتوي دائمًا على معلومات خفية حول اللون الذي يجب إظهاره لبوب أو أليس. وعلى الرغم من ذلك، تقول ميكانيكا الكم أن الكرات كانت رمادية اللون بشكل ما، إلى أن نظر إليها أحدهما. وعندما تحولت إحداهما إلى اللون الأبيض بنظر أليس إليها، أصبحت الأخرى سوداء. وتفترض مبرهنة بيل لعدم التساوي أن هناك تجارب يمكن أن تفرق بين هذه الحالات. ولكن ما سنراه لاحقًا، أن تلك التجارب أثبتت أن وصف ميكانيكا الكم هو الصحيح وليس مبرهنة بيل.

المتغيرات الخفية وميكانيكا الكم

سبب منح جائزة نوبل في الفيزياء لعام 2022

يُعدّ جزء مهم مما تمت مكافأة العلماء الثلاثة عليه بجائزة نوبل في الفيزياء لعام 2022 هو الإطاحة بمبرهنة عدم التساوي لبيل. إذ تسمح مبرهنة عدم التساوي لبيل بإمكانية التفريق بين “اللا تحديد المسبق للجسيمات في ميكانيكا الكم” من جهة و”الوصف البديل باستخدام تعليمات سرية أو متغيرات خفية” من جهة أخرى. حيث أظهرت التجارب أن الطبيعة تتصرف كما تنبأت ميكانيكا الكم وليس كما توضح المبرهنة. فالكرات رمادية اللون، وبدون معلومات سرية، والمصادفة وحدها هي التي تحدد اللون الأسود والأبيض في التجربة. أي أنه لا توجد حالة أساسية محددة للون الكرات قبل إطلاقها!

طرق جديدة من خلال الحالات الكمية

يمكننا من خلال الحالات الكمية المتشابكة إيجاد طرق جديدة لتخزين المعلومات ونقلها ومعالجتها. وتحدث أشياء مثيرة للاهتمام إذا كانت الجسيمات في زوج متشابك وتتحرك في اتجاهين متعاكسين. فإذا التقى أحدهما بجسيم ثالث بطريقه تصبح متشابكة معهم. ثم يدخلون مع بعضهم في حالة مشتركة جديدة. فيفقد الجسيم الثالث هويته، لكن خصائصه الأصلية انتقلت الآن إلى الجسيم المنفرد من الزوج الأصلي.

هذه الطريقة لنقل حالة كمية غير معروفة من جسيم إلى آخر تسمى النقل الآني الكمي. كان هذا النوع من التجارب أجراه أنتون زيلينجر وزملاؤه في عام 1997. ومن اللافت للنظر أن النقل الآني الكمي هو الطريقة الوحيدة لنقل المعلومات الكمية من نظام لآخر دون أن يفقد أي جزء منها. حيث من المستحيل تمامًا قياس جميع خصائص النظام الكمي ثم إرسال المعلومات إلى المستلم الذي يريد إعادة بناء النظام. وذلك لأن النظام الكمي يمكن أن يحتوي على عدة نسخ من كل خاصية في وقت واحد، حيث يكون لكل نسخة احتمالية معينة للظهور أثناء القياس. وبمجرد إجراء القياس، تبقى نسخة واحدة فقط، وهي النسخة الذي قرأتها أداة قياس. لقد اختفى الآخرون ومن المستحيل معرفة أي شيء عنهم. وعلى الرغم من ذلك، يمكن نقل الخصائص الكمية غير المعروفة تمامًا باستخدام النقل الآني الكمي وتظهر سليمة وكاملة دون فقدان في جسيم آخر، مع ملاحظة أنها تُدمر في الجسيم الأصلي.

هل أمكننا تطبيق الانتقال الآني عمليًا؟

بمجرد عرض الانتقال الآني بشكل تجريبي، كانت الخطوة التالية هي استخدام زوجين من الجسيمات المتشابكة. فإذا تم تجميع جسيم واحد من كل زوج معًا بطريقة معينة، فيمكن للجسيمات غير المضطربة في كل زوج أن تتشابك على الرغم من عدم ملامستها أبدًا لبعضها البعض. تم توضيح تبادل التشابك هذا لأول مرة في عام 1998 من قبل مجموعة أنتون زيلينجر البحثية.

تمكن الفريق من إرسال أزواج الفوتونات المتشابكة وجزيئات الضوء في اتجاهين متعاكسين من خلال الألياف الضوئية لتعمل كإشارات في شبكة كمية. ويتيح التشابك بين الزوج من تمديد المسافات في مثل هذه الشبكة. فهناك حد للمسافة التي يمكن أن ترسل فيها الفوتونات عبر الألياف الضوئية قبل امتصاصها أو فقدان خصائصها. كما يمكن تضخيم الإشارات الضوئية العادية. لكن هذا لم يحدث مع الأزواج المتشابكة. إذ يجب على المضخم أن يلتقط ويقيس الضوء الذي يكسر التشابك. ومع ذلك، فإن تبادل التشابك يعني أنه من الممكن إرسال الحالة الأصلية إلى أبعد من ذلك، وبالتالي نقلها عبر مسافات أطول مما كان ممكنًا.

أجسام تتشابك دون اتصال!

ينبعث زوجان من الجسيمات المتشابكة من مصادر مختلفة. حيث يتم تجميع جسيم واحد من كل زوج معًا بطريقة خاصة تجعلهم متشابكين مع بعضهم البعض، ثم يتشابك الجسيمان الآخران (مثل 1 و 4 في الرسم التخطيطي) أيضًا. على هذا النحو، يمكن أن يتشابك جسيمان لم يكونا على اتصال مطلقًا.

من التناقض إلى اللا مساواة

أينشتاين أخطأ

نحن نسلم بأنه لا يمكن أن يتأثر شيء ما بحدث يقع في مكان آخر دون أن تصل إليه أي إشارة أولًا؟ كما لا يمكن للإشارة أن تنتقل أسرع من الضوء. هذا المبدأ، الذي يسميه الفيزيائيون بالمحلية، كان يُنظر إليه منذ فترة طويلة على أنه افتراض أساسي حول قوانين الفيزياء. لكن ميكانيكا الكم دائمًا مبهرة وعجيبة! فقال ألبرت أينشتاين أن ميكانيكا الكم تسمح “بعمل مخيف عن بعد” -وهو التشابك الكمي-، على حد تعبير أينشتاين. في ميكانيكا الكم، لا يبدو أن هناك حاجة لإشارة لتوصيل الأجزاء المختلفة لنظام ما. حيث أن التشابك الكمي كسر تصور لازمية وجود إشارة وأن تكون أسرع من الضوء، لإنه بالفعل يحدث بسرعة كبيرة. وهذا التناقض مع المحلية محير بالنسبة لإينشتاين وغيره، نظرًا لعدم معرفة ماهية هذا التشابك.

قدم أينشتاين وزملائه منطقهم في عام 1935، بأنه لا يبدو أن ميكانيكا الكم تقدم وصفًا كاملاً للواقع. وذلك أصبح يسمى بمفارقة EPR -الاسم من عدد الأحرف الأولى من أسماء الباحثين-. كما وضحوا أن هناك «متغيرات خفية محلية-local hidden variables».

ما هي المتغييرات الخفية؟

لنفرض أن لديك زوج من الإلكترونات والذي إجمالي دورانهما يساوي صفر وذلك يعني أنه عند قياس دوران أي منهم على طول محور معين سيؤول لنتائج معاكسه للآخر، نظرًا لدورانهما عكس بعضهم البعض. وعلى الرغم من أن الدوران الكلي له قيمة محددة لكن الدوران الفردي لكل إلكترون غير محدد.

الآن لنفرض أنك فصلت هذه الإلكترونات المتشابكة ونقلتها إلى مختبرات بعيدة عن بعضها وأن فرقًا من العلماء في هذه المختبرات يمكنها إجراء قياسات الدوران. فعندما يقيس كلا الفريقين على طول نفس المحور، فإنهما يحصلان على نتائج معاكسة بنسبة 100٪ أيضًا.

يقترح أينشتاين أنه يمكن أن يأتي كل زوج من الإلكترونات مع مجموعة مرتبطة من “المتغيرات الخفية” -كما وضحنا- التي تحدد دوران الجسيمات على طول جميع المحاور في وقت واحد. لكن هذه المتغيرات الخفية غائبة عن الوصف الكمي للحالة المتشابكة، حيث يمكن للمتغيرات الخفية أن تفسر لماذا تؤدي قياسات المحور نفسه دائمًا إلى نتائج معاكسة دون أي انتهاك للمحلية -والمحلية توضح أنه لا يوجد شيء أسرع من الضوء-، قياس إلكترون واحد لا يؤثر على الآخر ولكنه يكشف فقط عن القيمة الموجودة مسبقًا لمتغير خفي.

بيل يستبعد المتغييرات الخفية

أثبت الفيزيائي جون بيل أنه يمكن استبعاد المتغيرات الخفية المحلية أي استبعاد الموقع تمامًا، عن طريق قياس دوران الجسيمات المتشابكة على طول محاور مختلفة. إذ أنه أليس من الممكن أن يكون السبب في النتائج المعاكسة دائمًا هم الأشخاص ذاتهم، ففي المثال السابق علماء المختبر هم المتحكمين في الدوران وقد يتفقوا على قياسات معينة. كما وضح اختلاف عالم الكم عن العالم الكلاسيكي، وأن ميكانيكا الكم غير متوافقة مع المتغييرات الخفية المحلية، لإن التشابك الكمي كسر مبدأ المحلية في العالم الكلاسيكي. ووضح كل ما ذكرناه من خلال مبرهنته عدم التساوي أو عدم المساواة والتي تبيّن أن جميع النظريات ذات المتغيرات الخفية، يكون الارتباط بين نتائج القياسات أقل من قيمة معينة أو مساوي لها على الأكثر. وهذا ما يسمى عدم التساوي لبيل. وعلى الرغم من ذلك، يمكن لميكانيكا الكم أن تنتهك المبرهنة والتنبؤ بقيم أعلى للارتباط بين النتائج مما هو ممكن من خلال المتغيرات الخفية.

تجارب لاختبار عدم التساوي لبيل

أصبح جون كلاوزر مهتمًا بأساسيات ميكانيكا الكم عندما كان طالبًا في الستينيات، ولم يستطع التخلص من فكرة جون بيل بمجرد أن قرأ عنها. في نهاية المطاف، تمكن هو وباحثين آخرين من تقديم اقتراح لنوع واقعي من التجارب يمكن استخدامه لاختبار عدم التساوي لبيل.

تتضمن التجربة إرسال زوج من الجسيمات المتشابكة في اتجاهين متعاكسين. في الممارسة العملية، يتم استخدام الفوتونات التي لها خاصية تسمى الاستقطاب. فعندما تنبعث الجسيمات، يكون اتجاه الاستقطاب غير محدد، وكل ما هو مؤكد هو أن للجسيمات استقطاب متوازي.

يمكن التحقق من ذلك باستخدام مرشح يسمح بالاستقطاب الموجه في اتجاه معين. هذا هو التأثير المستخدم في العديد من النظارات الشمسية، والذي يحجب الضوء الذي تم استقطابه في مستوى معين.

إذا تم إرسال كلا الجسيمين في التجربة نحو المرشحات التي يتم توجيهها في نفس المستوى على نحو عمودي، وانزلق أحدهما عندئذٍ سيمر الآخر أيضًا. إذا كانوا في زوايا قائمة لبعضهم البعض، فسيتم إيقاف أحدهم بينما يمر الآخر. الحيلة هي القياس باستخدام المرشحات الموضوعة في اتجاهات مختلفة بزوايا منحرفة، إذ يمكن أن تختلف النتائج بعد ذلك. فمثلًا، أحيانًا ينزلق كلاهما وأحيانًا واحدًا فقط وأحيانًا لا شيء. يعتمد عدد المرات التي يمر فيها كلا الجسيمين عبر المرشح على الزاوية بين المرشحات.

فتؤدي ميكانيكا الكم إلى ارتباط بين القياسات. تعتمد احتمالية الحصول على جسيم واحد على زاوية المرشح، التي اختبرت استقطاب شريكه على الجانب الآخر من الإعداد التجريبي. هذا يعني أن نتائج كلا القياسين في بعض الزوايا، تنتهك تساوي بيل ولها ارتباط أقوى مما لو كانت النتائج محكومة بمتغيرات خفية وتم تحديدها مسبقًا عند انبعاث الجسيمات.

انتهاك عدم التساوي

بدأ جون كلاوزر على الفور العمل على إجراء هذه التجربة. قام ببناء جهاز يُصدر فوتونين متشابكين في وقت واحد، وكل منهما باتجاه مرشح يختبر استقطابهما. في عام 1972، مع طالب الدكتوراه ستيوارت فريدمان (1944-2012)، كان قادرًا على إظهار نتيجة تمثل انتهاكًا واضحًا لعدم التساوي لبيل واتفق مع تنبؤات ميكانيكا الكم.

في السنوات اللاحقة، واصل جون كلاوزر وغيره من الفيزيائيين مناقشة التجربة وحدودها. كان أحدها أن التجربة كانت عمومًا غير صحيحة. حيث تم أيضًا ضبط القياس مسبقًا مع وجود المرشحات عند زوايا ثابتة. لذلك كانت هناك ثغرات، حيث يمكن للمراقب أن يشكك في النتائج وأنه ماذا لو الإعداد التجريبي بطريقة ما اختار الجسيمات التي تصادف أن يكون لها ارتباط قوي ولم تكتشف الجسيمات الأخرى؟ إذا كان الأمر كذلك، فقد لا تزال الجسيمات تحمل معلومات خفية.

كان القضاء على هذه الثغرة بالذات أمرًا غاية في الصعوبة. لأن الحالات الكمية المتشابكة هشة للغاية ويصعب إدارتها، ومن الضروري التعامل مع الفوتونات الفردية. بعدها قام طالب الدكتوراه الفرنسي آلان أسبكت ببناء نسخة جديدة من الإعداد قام بتحريرها على عدة تكرارات. في تجربته، تمكن من تسجيل الفوتونات التي مرت عبر المرشح وتلك التي لم تمر. هذا يعني أنه تم اكتشاف المزيد من الفوتونات وكانت القياسات أفضل.

في النهاية، كان قادرًا أيضًا على توجيه الفوتونات نحو مرشحين مختلفين تم ضبطهما في زوايا مختلفة. تمثلت البراعة في الآلية التي غيرت اتجاه الفوتونات المتشابكة بعد تكوينها وانبعاثها من مصدرها. كانت المرشحات على بعد ستة أمتار فقط، لذا يجب أن يحدث التبديل في بضعة أجزاء من المليار من الثانية. إذا كانت المعلومات حول أي فوتون سيصل إليه، أثرت في كيفية انبعاثه من المصدر، فلن تصل إلى هذا المرشح. ولا يمكن أن تصل المعلومات المتعلقة بالمرشحات الموجودة على جانب واحد من التجربة إلى الجانب الآخر وتؤثر على نتيجة القياس هناك.

بهذه الطريقة، أغلق آلان أسبكت ثغرة مهمة وقدم نتيجة واضحة جدًا، وهي أن ميكانيكا الكم صحيحة ولا توجد متغيرات خفية.

شرح لتجارب كلا من جون كلوزر وآلان أسبكت وأنتون زيلينجر بالرسوم

  • استخدم جون كلاوزر ذرات الكالسيوم التي يمكن أن تصدر فوتونات متشابكة بعد أن أضاءها بضوء خاص. أقام مرشحًا على كلا الجانبين لقياس استقطاب الفوتونات، وبعد سلسلة من القياسات، كان قادرًا على إظهار أنها انتهكت عدم التساوي لبيل.
تجربة جون كلاوزر
  • طور آلان أسبكت هذه التجربة، باستخدام طريقة جديدة لإثارة الذرات بحيث تنبعث منها فوتونات متشابكة بمعدل أعلى. يمكنه أيضًا التبديل بين الإعدادات المختلفة، لذلك لن يحتوي النظام على أي معلومات مسبقة يمكن أن تؤثر على النتائج.
تجربة آلان أسبكت
  • أجرى أنتون زيلينجر في وقت لاحق المزيد من الاختبارات حول عدم التساوي لبيل. حيث قام بإنشاء أزواج متشابكة من الفوتونات عن طريق تسليط ليزر على بلورة خاصة. واستخدم أرقامًا عشوائية للتبديل بين إعدادات القياس. استخدمت إحدى التجارب إشارات من مجرات بعيدة للتحكم في المرشحات والتأكد من أن الإشارات لا يمكن أن تؤثر على بعضها البعض.
تجربة أنتون زيلينجر

في النهاية

وضعت هذه التجارب والتجارب المماثلة التي سبقتها الأساس للبحث المكثف الحالي في علم المعلومات الكمي. حيث تتيح لنا القدرة على معالجة الحالات الكمية وإدارتها والوصول إلى أدوات ذات إمكانات غير متوقعة. هذا هو أساس الحساب الكمي ونقل وتخزين المعلومات الكمية وخوارزميات التشفير الكمي. الأنظمة التي تحتوي على أكثر من جسيمين وكلها متشابكة وقيد الاستخدام الآن، وكان أنتون زيلينجر وزملاؤه أول من استكشفها.

فتعمل هذه الأدوات المحسنة بشكل متزايد على تقريب التطبيقات الواقعية من أي وقت مضى. حيث تم الآن إظهار حالات الكم المتشابكة بين الفوتونات التي تم إرسالها عبر عشرات الكيلومترات من الألياف الضوئية وبين قمر صناعي ومحطة على الأرض.

يمكنك أيضًا قراءة: ما هو الانتقال الآني الكمي؟

المصدر: موقع جائزة نوبل.

Exit mobile version