الوراثة والميلانين: فهم مرض البرص | Albinism

البرص: الجمال في الفرادة

هل صادفت يومًا شخصًا بشعر أبيض ناصع وعينين زرقاوين ساحرتين؟ قد يكون هذا الشخص حاملًا لسرّ من أسرار الطبيعة: مرض البرص!

منذ فجر التاريخ، لفت مرض البرص انتباه البشر. تمّ وصف “الرجال البيض” لأول مرة في النصوص المصرية القديمة، حوالي عام 2000 قبل الميلاد. ربطهم المصريون القدماء بآلهة الشمس، واعتبروهم رمزًا للنقاء والبراءة.

في العصور الوسطى، اتخذت نظرة المجتمع تجاه مرض البرص منعطفًا مظلمًا. تمّ اعتبار البرص علامة على لعنة أو مرض، وتمّ استبعاد الأشخاص المصابين به من الحياة العامة. عاشوا في عزلة، يواجهون الخوف والتمييز.

في القرن التاسع عشر، بدأ العلماء في كشف أسرار مرض البرص. اكتشف جوزيف جاكوبس (طبيب بريطاني) أنّ البرص ناتج عن نقص الميلانين، الصبغة التي تُعطي لونًا للجلد والشعر والعينين. ساعد هذا الاكتشاف في تبديد بعض الخرافات حول البرص، وفتح الباب أمام فهم أفضل للمرض.

شهد القرن العشرون تقدمًا هائلًا في علاج مرض البرص. تمّ تطوير واقيات الشمس التي تحمي جلد الأشخاص المصابين من أشعة الشمس الضارة. ساعدت النظارات الطبية والعدسات اللاصقة في تحسين الرؤية. [1]

تعريف البرص وأنواعه:

يُعرف البرص أو المهق (بالإنجليزية: Albinism) بأنه حالة جلدية وراثية تحدث بسبب خلل أو اضطراب في إنتاج صبغة الميلانين (بالإنجليزية: Melanin)؛ وهي مادة طبيعية يتم إنتاجها في الجسم وتمنح الشعر والجلد وقزحية العين لونها. وفي حين أن معظم الأشخاص المصابين بالبرص يتمتعون بصحة جيدة، إلا أنهم قد يعانون من مشكلات في الرؤية.

تقسم حالات البرص بشكل عام إلى نوعين رئيسيين، حيث يختلف كل نوع عن الآخر في الأعضاء المتأثرة والجينات المصابة بالخلل، وفيما يلي شرح موجز لكل منهما:

البرص العيني (Ocular Albinism – OA):
هذا النوع من البرص يتسبب في ظهور أعراضه بشكل أساسي على العينين، مما يؤدي إلى تغير في لون شبكية العين وقزحية العين. يحدث هذا نتيجة خلل أو طفرة جينية في الكروموسوم X، مما يؤثر بشكل رئيسي على المواليد الذكور، لكن قد يصيب الإناث أيضًا في حالات نادرة.

البرص العيني الجلدي (Oculocutaneous Albinism – OCA):
يؤثر هذا النوع من البرص على الجلد والشعر إلى جانب العينين، ويحدث نتيجة لخلل في الجينات المسؤولة عن إنتاج صبغة الميلانين.

بالإضافة إلى الأنواع الرئيسية المذكورة أعلاه، هناك أنواع أخرى أقل شيوعًا للبرص، منها:

متلازمة هيرمانسكي بودلاك (Hermansky-Pudlak Syndrome):
تتشابه أعراض هذا النوع مع أعراض البرص العيني الجلدي، إلا أنه يُسبب أيضًا مشكلات في الأمعاء والقلب والكلى والرئة، بالإضافة إلى اضطرابات النزيف بما في ذلك الهيموفيليا.

متلازمة شدياك هيغاشي (Chediak-Higashi Syndrome):
تتشابه أعراض هذا النوع أيضًا مع أعراض البرص العيني الجلدي، ومع ذلك، يميل لون بشرة المصابين به إلى الفضي أو الرمادي، بالإضافة إلى احتمالية حدوث اضطراب في خلايا الدم البيضاء، الأمر الذي يزيد من خطر الإصابة بالعدوى. [2][3]

أسبابه:

مرض البرص ينشأ نتيجة خلل وراثي يُولد به الطفل المصاب، حيث يحدث هذا الخلل في الجينات المسؤولة عن إنتاج أو توزيع صبغة الميلانين في الجسم، وهو ما قد يؤدي إلى غياب كلي أو انخفاض في كمية الميلانين المنتجة.

بالتالي، يُعتبر البرص اضطرابًا وراثيًا، ولكي يصاب الطفل به، يجب أن يكون كلا الوالدين مصابين بالمرض أو حاملين لجين الإصابة. وفي معظم الحالات، يكون لدى المصابين آباء حاملين لجين الإصابة فقط، دون أن تظهر عليهم أعراض المرض. [2]

ملاحظة:

هناك عدة جينات تلعب دورًا في إنتاج أو توزيع صبغة الميلانين في الجسم، ومن أهمها:

  1. جين TYR (Tyrosinase): هذا الجين يُعتبر أحد أهم الجينات المسؤولة عن إنتاج الميلانين، حيث يُشفر لإنزيم التيروزيناز الذي يلعب دورًا رئيسيًا في تحويل التيروزين (amino acid) إلى دوبا وبعدها إلى الميلانين. يقع هذا الجين على الكروموسوم 11.
  2. جين TYRP1 (Tyrosinase-Related Protein 1): هذا الجين يُشفر لبروتين مرتبط بإنزيم التيروزيناز (TYR)، وهو يشارك في عملية تكوين الميلانين. يقع هذا الجين على الكروموسوم 9.
  3. جين OCA2 (Oculocutaneous Albinism Type 2): يُعتبر هذا الجين مسؤولًا أيضًا عن إنتاج الميلانين، حيث يُشفر لبروتين يلعب دورًا في تنظيم نقل الميلانوسومات (organelles) داخل خلايا الجلد والشعر. يقع هذا الجين على الكروموسوم 15.
  4. جين SLC45A2 (Solute Carrier Family 45 Member 2): يُشفر هذا الجين لبروتين يُعتقد أنه يشارك في نقل الميلانين من داخل الخلايا نحو الخارج، مما يؤثر على توزيع الميلانين في الجسم. يقع هذا الجين على على الكروموسوم 5.

الأعراض:

  1. لون الجلد والشعر والعين:
    • الجلد: يتميز بالشعر الأبيض والبشرة الفاتحة للغاية مقارنةً بالأشقاء أو الأقارب الآخرين.
    • الشعر: قد يكون أبيضًا ناصعًا أو بنيًا. لدى المصابين بالبرص من أصول إفريقية أو آسيوية، يكون لون شعرهم أصفرًا أو أحمرًا أو بنيًا.
    • العيون: قد يتراوح لون العينين من الأزرق الفاتح جدًا إلى البني. يمكن أن يكون لون العين أحمرًا في بعض أنواع الإضاءة.
  2. مشكلات الرؤية:
    • تحرك العينين بشكل غير إرادي (الرأرأة).
    • وضعية رأس غير طبيعية لتحسين الرؤية.
    • عدم نظر العينين في الاتجاه ذاته أو نظر العينين إلى اتجاهين مختلفين (الحول).
    • عدم القدرة على رؤية الأشياء القريبة أو البعيدة (طول النظر أو قصر النظر).
    • حساسية شديدة للضوء (رهاب الضوء). [1][3]

تشخيص الإصابة بالبرص:

تشخيص البرص يتم عادة من خلال التقييم السريري للعلامات والأعراض المرتبطة بهذا المرض، ويشمل العناصر التالية:

  1. الفحص الجسدي: يقوم الطبيب بفحص الجلد والشعر والعيون للبحث عن علامات البرص، مثل البشرة الفاتحة أو غير الموجودة للميلانين، والشعر الأشقر أو الأحمر غير الملون، والعيون الزرقاء أو الرمادية.
  2. التاريخ الطبي والعائلي: يتم استجواب المريض للتحقق من وجود أي تاريخ طبي أو عائلي لحالات البرص، بما في ذلك إذا كان هناك أقارب في العائلة يعانون من المرض.
  1. اختبارات وظيفية: قد يتم إجراء اختبارات وظيفية للعينين والجلد لتقييم مدى تأثير المرض على الرؤية والحس الوجداني وحساسية الجلد لأشعة الشمس.
  2. التصوير الطبي: قد يطلب الطبيب إجراء فحوصات تصويرية مثل الرنين المغناطيسي أو الأشعة السينية لتقييم أي تغيرات في الهيكل أو الوظيفة الداخلية للجسم نتيجة للبرص.

بالإضافة إلى ذلك، يمكن أن تُجرى اختبارات جينية للتحقق من وجود تغيرات في الجينات المسؤولة عن البرص، وهذا قد يساعد في تشخيص الحالة وفهم سببها بشكل أفضل. تشخيص البرص يتطلب تعاونًا وثيقًا بين الطبيب والمريض، وقد يستغرق وقتًا قبل تأكيد التشخيص بشكل نهائي. [3]

علاجه:

على الرغم من أنه لا يوجد علاج نهائي لمرض البرص حتى الآن، إلا أن هناك عدة خيارات لإدارة الأعراض وتحسين جودة الحياة للمصابين. تشمل العلاجات الشائعة ما يلي:

  1. حماية البشرة من الشمس: ينبغي على المصابين بالبرص تجنب التعرض المباشر لأشعة الشمس وارتداء الملابس الواقية واستخدام واقي الشمس بشكل منتظم لحماية البشرة الحساسة من الضرر الناتج عن الأشعة فوق البنفسجية.
  1. علاج الأمراض المصاحبة: في حال وجود مشاكل صحية مصاحبة مثل مشاكل في الرؤية أو الجلد أو الأمعاء، قد يتطلب العلاج تدخلاً طبيًا متخصصًا.
  2. العلاج الجلدي: يمكن استخدام مستحضرات التجميل لتقليل مظهر البقع البيضاء على البشرة، كما يمكن استخدام الكريمات المرطبة لترطيب البشرة الجافة.
  3. العلاج العيني: قد يتطلب المرضى الذين يعانون من البرص العيني استخدام نظارات شمسية خاصة لتقليل التهيج والحماية من الضوء الساطع.
  4. العلاج النفسي والاجتماعي: يمكن أن يكون للمصابين بالبرص تحديات نفسية واجتماعية نتيجة لظهورهم بشكل مختلف، لذا قد يستفيدون من الدعم النفسي والاجتماعي لمساعدتهم على التعامل مع التحديات اليومية.
  5. البحث السريري: هناك جهود مستمرة في مجال البحث الطبي لتطوير علاجات جديدة وفعالة لمرض البرص، ومن الممكن أن يستفيد المرضى من الانضمام إلى التجارب السريرية لتقييم فعالية العلاجات الجديدة.

من المهم أن يتم توجيه خطة العلاج الخاصة بمرض البرص بناءً على احتياجات كل فرد بشكل فردي، ويجب استشارة الطبيب المختص قبل بدء أي علاج جديد. [2][3]

اقرأ أيضًا: متلازمة تيرنرمتلازمة داون

سير المرض:

مرض البرص أو المهق لا يؤثر سلبًا على صحة معظم المصابين، وعلى الرغم من ارتفاع خطر الإصابة بسرطان الجلد في بعض الحالات، إلا أن ذلك لا يؤثر بشكل كبير على معدل البقاء على قيد الحياة. يمكن اتخاذ الخطوات التالية لتجنب أو تقليل المشاكل المرتبطة بالبرص:

  1. فحص الجلد بانتظام: من المهم إجراء فحص دوري للجلد كل 6 – 12 شهرًا للكشف المبكر عن أي علامات محتملة لسرطان الجلد.
  2. حماية البشرة من الشمس: يجب تجنب التعرض المباشر لأشعة الشمس قدر الإمكان، واستخدام واقي الشمس ذي الحماية العالية وارتداء الملابس الواقية مثل القمصان طويلة الأكمام والقبعات والنظارات الشمسية.
  3. فحوصات العيون المنتظمة: يُنصح بإجراء فحوصات دورية للعيون كل 2 – 3 سنوات على الأقل للتحقق من صحة الرؤية والكشف المبكر عن أي مشاكل عينية محتملة.

مرض البرص يؤثر في الجلد، العين، والشعر، وقد تتسبب الأعراض في تقليل القدرة على القيام بالمهام اليومية بكفاءة. لذا، إذا لاحظت أي علامات أو أعراض مرتبطة بالبرص، يُنصح بالتوجه للطبيب للحصول على التقييم والعناية اللازمة.[3]

الأبحاث العلمية حول البرص:

ركزت االأبحاث والدراسات على طرق العلاج الفعال بالدرجة الأولى. حيث كان الاهتمام موجّهًا نحو تطبيقات العلاج الجيني والأدوية والخلايا الجذعية…

روابط لبعض هذه الأبحاث:

مراجع:

1- clevelandclinic

2- NCBI

3- MedlinePlus

4- https://www.albinism.org/

نشأة فكرة الغزو العثماني لمصر وللشام ونبوءة ابن خلدون

نرفض من منظور تاريخي الحكم القائل بأن الغزو العثماني لمصر وللشام، إنما كان نتيجة لسلسة متصلة من سوء الفهم بين تحركات الغوري وسليم الأول. فلا يعقل أن يحرك كلاهما جيشًا بكامل لواءاته بلا هدف استراتيجي واضح المعالم، لذلك لا نتفق مع ما ذهب إليه الباحث مايكل وينتر ومن دار في فلكه من الباحثين العرب، من أنه حين قاد سليم جيشا قويا في شمال الشام لم يكن واضحًا ما إذا كان يوجه نحو المماليك أو الفرس، وأن تقدم الجيش المملوكي نحو حلب بقيادة قنصوه الغوري خطوة غير عادية. بل إننا نجد رواية عند ابن الحمصي في تناوله لأحداث شهر ربيع الأخر من عام 920 هجرية أي حتى قبل موقعة جالديران بثلاثة شهور يتحدث عن تجمع عسكري للعثمانيين بقيادة السلطان سليم وانتشار الأقاويل بأن مملكة الجراكسة هي المقصودة بهذا التمركز على ما سيأتي بيانه.

نشأة فكرة الإمبراطورية العالمية

لم تكن الأحداث التي دارت بين السلطان قنصوه الغوري والسلطان سليم هي ما أدت إلى الغزو العثماني لمصر والشام. فلم تكن وليدة فترة حكمهم، وإنما كانت لها جذور عميقة وممتدة في التاريخ وترجع إلى عهود سابقة عليهم. وما أعتقده أن فكرة ضم بلاد الشام ومصر للحظيرة العثمانية، هي فكرة قديمة لدى السلاطين  العثمانيين. فإذا كان العثمانيين يرجعون بأصولهم إلى قبائل رعوية يتنقلون من مكان لأخر، أخذين في ضم الأراضي تلو الأراضي ويوحدون القبائل والإمارات ويخضعونها تحت سطوتهم، وعاشوا طيلة تاريخهم في حروب دموية توسعية.

وإذا كان التاريخ العثماني في مجمله يمتاز بصبغة إسلامية في عقيدته السياسية والتوسعية ضمن فلسفة الجهاد. فبطبيعة الحال هنا أن يتطلعوا إلى إقامة دولة عالمية إسلامية، ولن تقم لهذه الدولة المزمعة قائمة دون تغيير محور ارتكاز العالم الإسلامي من شمال أفريقيا وغرب آسيا حيث وجود الخلافة العباسية بالقاهرة، إلى أقصى بلاد الجنوب الشرقي لأوروبا حيث القسطنطينة أواستنبول. فالفكرة وإن كانت قديمة، فإنما قد اختمرت واكتملت في خُلد العثمانيين لحظة سقوط القسطنطينية على يد محمد الفاتح  حينما بدأت الدولة طور الإمبراطورية في منتصف القرن الخامس عشر. ومنذ ذلك الحين، أصبحت هذه الفكرة استراتيجية عامة لدى سلاطين آل عثمان حتى نُفذت على يد السلطان سليم الأول.

في الوقت الذي كانت فيه القاهرة تسُر وتحتفل للانتصارات العثمانية في أوروبا لاسيما فتح القسطنطينية. لم تكن آراء محمد الفاتح في الدولة المملوكية وسلاطينها -كما يحدثنا المؤرخ التركي يلماز أزوتونا- آراءًا طيبة على أي حال، رغم إخفائها بدقة ومهارة. فالسلاطين المماليك بالنسبة لمحمد الفاتح ” عبيدًا شركسيين”  لا ينحدرون مثله من أوغزخان. وبينما هو الخلف الشرعي لبني سلجوق، وبني سلجوق هم أسياد أسياد ” الأتابكة الزنكيين” الأيوبيين الذين هم أسياد المماليك. لذلك فإذا كان المماليك يتمتعون بفضل الإسلام، فالعثمانيون قد تقلدوا سيفه.

نبوءة ابن خلدون

لم يدر في خلد سلاطين المماليك هذه الأفكار الخطيرة التي لدى العثمانيين عنهم أو رغبتهم في تحقيق الغزو العثماني لمصر والشام. كما لم يدر في خلدهم أيضا بطبيعة الحال بعد احتلالهم البلقان ودويلات أسيا الصغرى، أن العثمانيين سيعملون على إخضاع السلطنة المملوكية لهم. وكان تجسيد هذه الفكرة بطريقة عملية قد حدثت زمن السلطان خشقدم حينما أتاه قاصد من لدى محمد الفاتح عام 868 هجرية و1464 ميلادية حينما رفض السفير العثماني الإنحناء أمام السلطان المملوكي بالقاهرة. خالف السفير بفعلته الأعراف الدبلوماسية المتبعة آنذاك

“فلم يُقبّل الأرض على جاري العادة من القصّاد، فحنق منه السلطان ولم يخلع عليه، ولما قرأ مكاتبة ابن عثمان، لم يجد بها ألقابا بما جرت به العادة فزدات حنقه وكاد أن يفتك بالقاصد ويشوش عليه فمنعوه الأمراء من ذلك، وكان هذا سببا لوقوع العداوة بين سلطان مصر وبين ابن عثمان واستمرت الوحشة عمالة بينهما إلى دولة الأشرف قيتباي”على حسب تعبير ابن إياس. 

ونحن لا نتفق مع ما ذهب إليه ابن إياس من فهم هذا التصرف من السفير العثماني على علاته هكذا دون التعمق في فهم دلالاته. وإنما كانت الاختبار الحقيقي لتجسيد فكرة الأحقية بالزعامة الإسلامية الكامنة لدى العثمانيين منذ زمن طويل. وخلاف لابن إياس، هناك مؤرخ ألمعي أخر وهو ابن خلدون،  كان قد استقرأ هذه الفكرة عند العثمانيين وتنبأ بالوضع الذي ستؤول إليه تلك الوقائع السياسية نهاية المطاف. يحدثنا ابن حجر العسقلاني في كتابه “إنباء  الغمر” في وقائع سنة 797، من أن الظاهر برقوق كان يشير دائما إلى تحذير ابن خلدون له بمقولته “ما يُخشى على مُلك مصر إلا من ابن عثمان”. وهذا على الرغم من وجود الخطر التيموري وقتذاك، فالظاهر برقوق يقول: “لا أخاف من اللنك فإن كل أحد يساعدني عليه وإنما أخاف من ابن عثمان”.

حذر وريبة رغم خطر تيمورلنك

لا نتفق مع ما ذهب إليه د. محمد مصطفى زيادة في مقالته ” نهاية السلاطين المماليك في مصر”، من أن المتتبع لحوادث الشرق الأوسط من أوائل القرن الخامس عشر إلى أوسطه لا يستطيع أن يجد فيها ما يدل على احتمال وقوع الحرب المملوكية العثمانية. فالترجمة الحقيقية لفكرة ضم ممتلكات وأراضي السلطنة المملوكية إلى السلطنة العثمانية، إنما بدأت باكرا منذ عهد السلطان مراد الأول 1359-1382، حينما أرسل قصاده إلى السلطان برقوق ليحذره من مغبة تحرك تيمور لنك وخطره على المماليك أو العثمانيين سواء. ورغم مخاوف السلطان برقوق من هذا الخطر التيموري القادم نحو بلاده، إلا أنه كان يخاف أكثر وأكثر من أطماع العثمانيين في مملكته. وبالفعل صدقت مخاوف السلطان برقوق الذي كان قليل الثقة ببايزيد الأول. فالسلطان  بايزيد هاجم قيصرية، والتي كانت مشمولة بحماية المماليك. ولكن مع  تجدد الخطر التيموري تجاه الأراضي العثمانية، بادر بايزيد بالاعتذارعما بدر منه تجاه قيصرية، واتخذ من سياسة التقرب نهجا مع برقوق لأنه يعلم بأن لا نصير له سوى المماليك.

هكذا كانت سياسة العثمانيين المتبعة مع المماليك، غلب عليها الود وتبادل الهدايا بفضل عداوة الخطر التيموري. بل وقد تصل إلى حد التحالف وعدم إظهار أية أطماع لصد هذا الخطر المدمر. غير أن أطماع العثمانيين كانت تدفعهم من آن لأخر للإغارة على بعض مناطق مشمولة بحماية المماليك. ففي عهد السلطان فرج، أسفرت محاولة بايزيد الصاعقة عن إظهار وجه العثمانيين الحقيقي برغبتهم الدائمة في تزعم العالم الإسلامي وحرمان المماليك من هذا الشرف. ففي سنة 1400، استولى بايزيد الصاعقة على ملطية وحاصر دارندة. وبعدها حاول التقرب مع السلطان المملوكي لصد الخطر المغولي القائم، لكن تم رفض طلب التحالف بعد مشاورة أمرائه. وكانت هذه فرصة جيدة سنحت لتيمور لنك من هزيمة القوتين كلا على حده. فهزم المماليك بالقرب من دمشق عام 1400، وهزم بايزيد الصاعقة وأسره في موقعة “جوبوق أووه” بالقرب من أنقره من عام 1402. وهذه الهزيمة توصف في الأدبيات التركية بإحدى أكبر الكوارث والتي أخرت نمو العثمانية وفتوحاتها نحو نصف قرن بتعبير ” يلماز أزوتونا”.

الحدود الشمالية تشعل الخلاف

بتولية خشقدم عرش السلطنة المملوكية، ما لبست العلاقة أن ساءت مع السلطان محمد الفاتح نظرا لاصطدام مصالح الدولتين في مناطق شرق الأناضول وجنوبه. فبدأ العثمانيون يتدخلون في شئون بعض الإمارات المشمولة بحماية المماليك، كإماراتي ذو القادر وقرمان. وقد ارتكزت عليهما الدولة المملوكية في الدفاع عن أمن أطرافها الشمالية. فكانت إمارة ذو القادر أيام حكم سليمان بك الذي كان على علاقة  حسنة سواء بالمماليك أو العثمانيين، بيد أن كل طرف  كان يريد تنصيب أمراء معينين يضمن ولائهم. فتمكن شاه بوداق من حكم الولاية وتحالف مع المماليك، على غير رغبة محمد الفاتح الذي تدخل من جانبه وأستطاع أن يعين مكانه شاه سوار لتأكده من ولائه للعثمانيين. الأمر الذي حمل خشقدم على الغضب، غير أن القدر لم يمهله  الكثير للرد عليه.

وعندما قويت شوكة شاه سوار تمرد على العثمانيين فسنحت الفرصة للماليك لتجريد حملة عسكرية عليه، وتمكنوا من أسره وشنقه على باب زويلة ونصّب قيتباي مكانه شاه بوداق مرة ثانية. لم يستسلم محمد الفاتح للأمر، فقام بمساعدة علاء الدولة صنيعة العثمانيين الذي كان يسميه ابن إياس بعلي دولات وبه بُدء أول صدام مسلح بين الطرفين. فيقول ابن إياس: “إن أصل هذا الصراع، كان تعصب ابن عثمان لعلي دولات وكان ابن عثمان متحاملا على سلطان مصر في الباطن بسبب أشياء لم تبدو للناس”. وعلى ما يبدو أن السبب المباشر لهذا الصراع المسلح هو رغبة العثمانيين الإنتقام من المماليك لإيوائهم ومؤازرتها للأمير جم. فجهز بايزيد حملة عسكرية بمساعدة قوات تركمانية منشقة عن المماليك لمساعدة علاء الدولة لمهاجمة ملطية. فتصدى لهم تمراز الشمسي واستطاع أن ينزل هزيمة فادحة بالعثمانيين، وعادت القوات المملوكية لثكناتها العسكرية مكللة ببشائر النصر.

تلك كانت حلقة أولى حلقات سلسلة بعنوان “في مسألة الغزو العثماني لمصر وللشام”.

المصادر:
ابن اياس بدائع الزهور في وقائع الدهور، أجزاء الثالث والرابع والخامس.
العراك بين المماليك والعثمانيين الأتراك لابن أجا.
إنباء الغمر بأنباء العمر لابن حجر العسقلاني.
أخرة المماليك لابن زنبل.
در الحبب في تاريخ أعيان حلب لابن الحنبلي.
– حوادث الزمان في وفيات الشيوخ والأقران لابن الحمصي.
مفاكهة الخلان في حوادث الزمان لابن طولون.
مقالة نهاية سلاطين المماليك، دكتور محمد مصطفى زيادة.
المجتمع المصري تحت حكم العثماني مايكل وينتر.
تاريخ الدولة العثمانية، يلماز اوزتونا.
تاريخ المماليك، محمد سهيل طقوش.
دراسة بعنوان “التجسس في العصرين الأيوبي والمملوكي”، عبدالله عيد كمال.
تكوين العرب الحديث، سيار الجميل.
– التحفة البهية في تملك آل عثمان الديار المصرية، محمد بن أبى السرور الصديقي البكري.
الفتح العثماني للشام ومصر، أحمد فؤاد متولي.

هل التوحد صعوبة تعليمية؟

 بالرغم من زيادة الفهم والوعي فيما يتعلق بالتوحد، إلا أن هناك الكثير من الالتباس في فهمه. فمثلًا، يربط الكثير بين التوحد ومستويات الذكاء العليا. ويخلط العديد بين التوحد وصعوبات التعلم، ولكن بتدقيق النظر، تصبح الاختلافات الجذرية بينهما واضحة وضوح الشمس. ويبقى السؤال: هل التوحد صعوبة تعليمية؟ أم هو إعاقة ذهنية؟ هل هناك فرق بينهما؟ وهل يجعل التوحد من المصابين أذكياء كما هو مصور في معظم الأفلام والمسلسلات؟ وكيف يؤثر التوحد على عملية التعلم؟

ما هو التوحد؟

يعرف التوحد، المعروف رسميًا باضطراب طيف التوحد (ASD)، بكونه اضطراب نمو عصبي شائع إلى حد ما، يبدأ في مرحلة الطفولة المبكرة. وطبقًا لمايو كلينك، فإنه عبارة عن حالة ترتبط بنمو الدماغ وتؤثر على كيفية تمييز الشخص للآخرين، والتعامل معهم، والتواصل معهم اجتماعيًا. ويتسبب في نهاية المطاف في حدوث مشكلات على مستوى الأداء الاجتماعي، في المدرسة والعمل مثلًا. كما يتضمن الاضطراب أنماط محدودة ومتكررة من السلوك[1].

ما هي صعوبة التعلم؟

طبقًا لأدلة MSD الصادر عن شركة الدواء العالمية Merck، تتضمن اضطرابات التعلم عدم القدرة على اكتساب مهارات أو معلومات معينة أو الاحتفاظ بها أو استخدامها على نطاق واسع. وهو ما ينجم عن مشاكل في الانتباه، أو الذاكرة أو التحليل، مما يؤثر في الأداء الدراسي. هناك ثلاثة أنواع شائعة من اضطرابات التعلم هي: اضطراب القراءة، اضطراب عسر الكتابة، اضطراب عسر الحساب [3] [2].

ويعرف د. عبد الحميد ود. صابر في كتابيهما صعوبات التعلم بأنها: “مجموعة غير متجانسة من الاضطرابات، والتي تتضح في المشكلات الحادة في الاكتساب والاستخدام الخاص بمجالات الاستماع والكلام والقراءة والكتابة ومهارات اللغة والاستدلال وقدرات الحساب. وأن هذه الاضطرابات ترجع إلى وجود خلل في الجهاز العصبي المركزي.” [4] ويمكن أن تتسبب في أن يواجه الشخص مشاكل في بيئة الصف الدراسي التقليدية. [6]‏

ما هي إعاقة التعلم؟

‏إعاقة التعلم -أو ما يعرف شيوعًا بالإعاقة الذهنية أو التأخر العقلي- هي انخفاض القدرة الذهنية (مستوى الذكاء) وصعوبة الأنشطة اليومية مثل المهام المنزلية، أو التعامل المجتمعي اليومي؛ مما يؤثر على الفرد طوال حياته [6]‏. وتظهر الإعاقة الذهنية بشكل كبير في مصابي متلازمة داون مثلًا [7]. يحتاج الأشخاص الذين يعانون من الإعاقة الذهنية إلى دعم من الآخرين وأحيانا من المعدات للتغلب على العقبات ومشكلات ‏‏الاتصال‏‏ التي تعيق رحلة حياتهم بشكل عام، ورحلة تعلمهم بشكل خاص.

هل يعد التوحد صعوبة تعلم؟ أم إعاقة تعلم؟

بعد تناول تلك المفاهيم الثلاث هنا، نتوصل إلى أن هناك تشابه واختلاف. إذ أنها كلها اضطرابات نمو عصبية وقد تنتج عن مشاكل جينية، وكلها تؤثر-سلبًا معظم الوقت-  على العملية التعليمية عمومًا، ولكن بشكل مختلف.

تؤثر الصعوبات التعليمية على اكتساب المهارات أصلًا، وتظهر بشكل خاص ومحدد في مهارات التعلم مثل القراءة والكتابة، ولا علاقة لها بمستوى الذكاء العام للفرد. أي أنها تتدخل فقط في كيفية تعلم الفرد لبعض المهارات. وهو ما يمثل نسبة ضئيلة من الضرر الذي يمثله اضطراب طيف التوحد، إذ أنه يؤثر على حياة الفرد بشكل عام؛ مما يشمل عملية تعلمه. لأنه يؤثر على كيفية معالجة الدماغ لمحفزات العالم الخارجي ككل [5].

فتكون الإجابة لهذا السؤال: لا، ليس التوحد بصعوبة تعلم ولم يصنّف ضمن الإعاقات الذهنية كذلك. إذ تمثل الإعاقة الذهنية -كما ذكرنا- تدني في مستوى الذكاء العام للفرد، بينما صعوبة التعلم هي صعوبة في القدرة على اكتساب بعض المهارات ولا تعيق الفرد من التعامل في أي ناحية من نواحي الحياة العامة، بينما التوحد هي صعوبة معالجة المعلومات المقدمة فقط. ولا علاقة لاضطراب التوحد بمستوى الذكاء العام للفرد.

كيف يؤثر التوحد على عملية التعلم؟

قد يخطيء العامة تعريف التوحد بكونه صعوبة تعلم كذلك لأنه قد يؤثر على المهارات اللفظية واللغوية سواء سمعًا أو تحدثًا. بالإضافة إلى تأثيره السلبي على المهارات الاجتماعية، والأداء التنفيذي ومهارات التفكير العليا، والتطور العاطفي. ونسرد هنا تفصيل تأثير التوحد على التعلم. [8]

  • ضعف المهارات الاجتماعية والتواصل

قد يسبب اضطراب طيف التوحد (ASD) صعوبة في فهم الإشارات الاجتماعية والاستجابة لها، مما يعقّد من عملية التواصل سواء بين الطالب والمعلم، أو بينه وبين زملائه، إذ يصعب على مصابي التوحد فهم كيفية التفاعل مع الآخرين؛ وهو ما يسبب حالة من الإحباط والارتباك لهم، والتي من شأنها أن تؤثر سلبًا على الأداء الأكاديمي للطالب. كما ويعاني العديد من المصابين بالتوحد للتعبير بدقة عن أفكارهم ومشاعرهم؛ مما يجعل من الصعب عليهم طرح الأسئلة أو المشاركة في المناقشات الصفية.

  • صعوبة معالجة المعلومات

تمتد هذه الصعوبة إلى ما هو أبعد من مجرد قدرتهم على تعلم مواد جديدة. في بعض الأحيان، يمكن أن يؤدي التوحد إلى مشاكل في تنظيم الأفكار أو تخطيط المهام أو اتباع الاستراتيجيات وما إلى ذلك؛ مما قد يجعل من الصعب على الطالب مواكبة بيئة الصف الدراسي التقليدية.

  • صعوبات المعالجة الحسية

قد يعاني الطلاب المصابون بالتوحد من حساسية عالية للمشاهد والأصوات، مما يجعل الفصول الدراسية الصاخبة مربكة وتشتت انتباههم عن أنشطة التعلم.

  • القلق

وأخيرا، غالبًا ما يأتي اضطراب طيف التوحد بمستويات أعلى من القلق. ويرتبط القلق هنا بصعوبة التركيز على المهام، ومشكلة في مهارات حل المشكلات، وصعوبة البقاء منظمًا خلال أداء المهمة، وصعوبة الانتقالات بين الأنشطة.

المصادر:

  1. مايو كلينك
  2. أدلة MSD إصدار المُستخدِم
  3. جامعة الأميرة نورة بنت عبدالرحمن
  4.  صعوبات التعلم
  5. Thriveworks
  6. Mencap.org.uk
  7. Seashell
  8. Applied Behavior Analysis Programs.com

ويلارد ليبي وثورة التأريخ بالكربون المشع

في عام 1946، اقترح العالم الفيزيائي ويلارد ليبي “Willard Libby” طريقة مبتكرة لتأريخ المواد العضوية عن طريق قياس محتواها من الكربون-14. الكربون-14 هو نظير مشع للكربون تم اكتشافه حديثًا حينها. و توفر هذه الطريقة، المعروفة باسم التأريخ بالكربون المشع، تقديرات موضوعية لعمر الأجسام المعتمدة على الكربون والتي نشأت من كائنات حية. إن “ثورة الكربون المشع” التي أصبحت ممكنة بفضل اكتشاف ليبي أفادت بشكل كبير مجالات علم الآثار والجيولوجيا. إذ سمحت للممارسين بتطوير تسلسلات تاريخية أكثر دقة عبر الجغرافيا والثقافات. فما هي تلك التقنية؟

من هو ويلارد ليبي؟

ولد “ليبي” في جراند فالي، كولورادو، في أمريكا في 17 ديسمبر 1908. درس الكيمياء في جامعة كاليفورنيا، بيركلي، وحصل على درجة البكالوريوس في عام 1931 والدكتوراه في عام 1933. وفي عام 1941، حصل ليبي على زمالة غوغنهايم، لكن خططه تعطلت بسبب دخول الولايات المتحدة في الحرب العالمية الثانية. ذهب ليبي إلى جامعة كولومبيا، حيث عمل على إنتاج اليورانيوم المخصب لبرنامج الأسلحة الذرية في البلاد.

عندما انتهت الحرب، أصبح ليبي أستاذًا في قسم الكيمياء ومعهد الدراسات النووية (معهد إنريكو فيرمي الآن) بجامعة شيكاغو. وهنا طور نظريته وطريقته في التأريخ بالكربون المشع، والتي فاز على إثرها بجائزة نوبل في الكيمياء عام 1960.
غادر ليبي شيكاغو عام 1954 بعد تعيينه مفوضًا لهيئة الطاقة الذرية الأمريكية. وفي عام 1959، عاد للتدريس في جامعة كاليفورنيا، لوس أنجلوس، حيث بقي حتى تقاعده في عام 1976. وتوفي ليبي في عام 1980 عن عمر يناهز 71 عامًا.

ويلارد ليبي

قصة اكتشاف التأريخ بالكربون المشع

إن التأريخ بالكربون المشع تقنية تعتمد على اضمحلال نظير الكربون-14 لتقدير عمر المواد العضوية. حيث تستخدم لتأريخ مواد مثل الخشب والجلود، ويصل عمرها إلى 58,000 – 62,000 سنة. اكتشفها العالم الفيزيائي “ويلارد ليبي” عام 1949. بدأ ليبي، أستاذ الكيمياء في جامعة شيكاغو، البحث الذي قاده إلى التأريخ بالكربون المشع في عام 1945. وقد استوحى أفكاره من الفيزيائي “سيرج كورف” من جامعة نيويورك، الذي اكتشف في عام 1939 أن النيوترونات يتم إنتاجها أثناء قصف الغلاف الجوي بالأشعة الكونية. وتوقع “كورف” أن التفاعل بين هذه النيوترونات والنيتروجين-14، الذي يسود الغلاف الجوي، سينتج الكربون-14، والذي يسمى أيضًا الكربون المشع.

دورة الكربون

أدرك ليبي بذكائه أن الكربون-14 في الغلاف الجوي سوف يجد طريقه إلى المادة الحية، والتي ستكون بالتالي موسومة بالنظائر المشعة. من الناحية النظرية، إذا تمكن المرء من اكتشاف كمية الكربون-14 في جسم ما، فيمكن تحديد عمر ذلك الجسم باستخدام نصف عمر النظير، أو معدل اضمحلاله. [1] في عام 1946، اقترح ليبي هذه الفكرة الرائدة في مجلة Physical Review.[2]

تحليل توازن الكربون

ركز مفهوم التأريخ بالكربون المشع على قياس محتوى الكربون في الأجسام العضوية. ولكن من أجل إثبات الفكرة، كان على ليبي أن يفهم نظام الكربون في الأرض. سيكون التأريخ بالكربون المشع أكثر نجاحًا إذا كان هناك عاملان مهمان صحيحان: أن تركيز الكربون-14 في الغلاف الجوي كان ثابتًا لآلاف السنين. وأن الكربون-14 يتحرك بسهولة عبر الغلاف الجوي والمحيط الحيوي والمحيطات والخزانات الأخرى في الغلاف الجوي في عملية تعرف باسم “دورة الكربون“. وفي غياب أي بيانات تاريخية تتعلق بكثافة الإشعاع الكوني، افترض ليبي ببساطة أنه كان ثابتًا. لقد رأى أن حالة التوازن يجب أن تكون موجودة حيث يكون معدل إنتاج الكربون-14 مساوياً لمعدل اضمحلاله، والذي يعود تاريخه إلى آلاف السنين. (لحسن حظه، ثبت فيما بعد أن هذا صحيح بشكل عام).

وبالنسبة للعامل الثاني، سيكون من الضروري تقدير الكمية الإجمالية للكربون-14ومقارنتها بجميع نظائر الكربون الأخرى. واستنادًا إلى تقدير “كورف” بأنه يتم إنتاج نيوترونين فقط في الثانية لكل سنتيمتر مربع من سطح الأرض، يشكل كل منهما ذرة كربون-14. فخَلُصَ ليبي إلي أن النسبة هي ذرة كربون-14 فقط لكل 1012 ذرة كربون على الأرض.

كانت مهمة ليبي التالية هي دراسة حركة الكربون خلال دورة الكربون. في النظام الذي يتم فيه تبادل الكربون-14 بسهولة طوال الدورة، يجب أن تكون نسبة الكربون-14 إلى نظائر الكربون الأخرى هي نفسها في الكائن الحي كما في الغلاف الجوي. ومع ذلك، فإن معدلات حركة الكربون طوال الدورة لم تكن معروفة آنذاك. قام ليبي وطالب الدراسات العليا “إرنست أندرسون” بحساب اختلاط الكربون عبر هذه الخزانات المختلفة، خاصة في المحيطات، التي تشكل أكبر خزان. تنبأت نتائجهم بتوزيع الكربون-14 عبر خصائص دورة الكربون وشجعت ليبي على الاعتقاد بأن التأريخ بالكربون المشع سيكون ناجحًا. [3]

خصائص الكربون-14 ونظائره

الكربون-14 هو نظير مشع للكربون، حيث تحتوي نواته على 6 بروتونات و 8 نيوترونات. يوجد هذا النظير بشكل طبيعي في المواد العضوية مثل الأشجار والأخشاب القديمة. ويوجد ثلاثة نظائر طبيعية للكربون على سطح الأرض: 99% منها كربون-12، و1% كربون-13، وكمية ضئيلة جدًا من الكربون-14، تقريبًا 1 جزء في التريليون (0.0000000001%) في الغلاف الجوي.

تم اكتشاف الكربون-14 لأول مرة في عام 1940 على يد “مارتن كامين” و”صامويل روبن”، اللذين قاما بإنشائه بشكل مصطنع باستخدام معجل السيكلوترون في مختبر الإشعاع بجامعة كاليفورنيا في بيركلي. أثبتت الأبحاث الإضافية التي أجراها ليبي وآخرون أن نصف عمر الكربون-14 يبلغ 5,568 عامًا، مما يوفر عاملاً أساسيًا آخر في مفهوم ليبي. لكن لم يتمكن أحد وقتها من اكتشاف الكربون-14 في الطبيعة. في هذه المرحلة، كانت تنبؤات كورف وليبي حول الكربون المشع نظرية بالكامل. من أجل إثبات مفهومه عن التأريخ بالكربون المشع، كان ليبي بحاجة إلى تأكيد وجود الكربون-14 الطبيعي، وهو تحدٍ كبير بالنظر إلى الأدوات المتاحة آنذاك.

في ذلك الوقت، لم تكن هناك أي أداة للكشف عن الإشعاع (مثل عداد جيجر) حساسة بما يكفي للكشف عن الكمية الصغيرة من الكربون-14 التي تطلبتها تجارب ليبي. تواصل ليبي مع “أريستيد فون جروس” من شركة Houdry Process Corporation الذي كان قادرًا على تقديم عينة من الميثان تم إثرائها بالكربون-14 والتي يمكن اكتشافها بواسطة الأدوات الموجودة. و باستخدام هذه العينة وعداد جيجر العادي، أثبت ليبي وأندرسون وجود الكربون-14 الموجود بشكل طبيعي، وهو ما يتوافق مع التركيز الذي تنبأ به كورف.

نجحت هذه الطريقة، لكنها كانت بطيئة ومكلفة. ولحسن الحظ، طورت مجموعة ليبي بديلاً. لقد أحاطوا غرفة العينة بنظام عدادات جيجر التي تمت معايرتها للكشف عن الإشعاع الخلفي الموجود في جميع أنحاء البيئة والقضاء عليه. وقد أطلق على التجمع اسم “مكافحة الصدفة” “anti-coincidence counter.”. وعندما تم دمجه مع درع سميك يعمل على تقليل إشعاع الخلفية بشكل أكبر وطريقة جديدة لتقليل العينات إلى كربون نقي للاختبار، أثبت النظام أنه حساس بشكل مناسب. وأخيرا، كان لدى ليبي طريقة لوضع مفهومه موضع التنفيذ.

عداد مكافحة الصدفة لويلارد ليبي

اختبار التأريخ بالكربون المشع

يعتمد مفهوم التأريخ بالكربون المشع على افتراض جاهز مفاده أنه بمجرد موت الكائن الحي، فإنه سينقطع عن دورة الكربون، وبالتالي يتم إنشاء كبسولة زمنية مع تناقص ثابت في عدد الكربون-14 بداخله. سيكون للكائنات الحية من اليوم نفس كمية الكربون-14 الموجودة في الغلاف الجوي، في حين أن المصادر القديمة للغاية التي كانت حية ذات يوم، مثل طبقات الفحم أو النفط، لن يتبقى منها شيء. بالنسبة للأشياء العضوية ذات الأعمار المتوسطة – بين بضعة قرون وعدة آلاف من السنين – يمكن تقدير العمر عن طريق قياس كمية الكربون-14 الموجودة في العينة ومقارنتها بنصف العمر المعروف للكربون-14.

ولاختبار هذه التقنية، طبقت مجموعة ليبي عدادًا مضادًا للمصادفة على عينات كانت أعمارها معروفة بالفعل. من بين الأشياء الأولى التي تم اختبارها كانت عينات من الخشب الأحمر وأشجار التنوب، والتي تم معرفة عمرها من خلال حساب دورات نموها السنوية. كما قاموا بأخذ عينات من القطع الأثرية من المتاحف مثل قطعة من الخشب من القارب الجنائزي للفرعون المصري سنوسرت الثالث، وهي قطعة عُرف عمرها من خلال سجل وفاة صاحبها.

و في عام 1949، نشر ليبي وأرنولد النتائج التي توصلا إليها في مجلة العلوم، مقدمين ما يعرف باسم “منحنى المعارف” “Curve of Knowns”. يقارن هذا الرسم البياني العمر المعروف للقطع الأثرية مع العمر المقدر كما هو محدد بواسطة طريقة التأريخ بالكربون المشع. وأظهرت أن جميع نتائج ليبي تقع ضمن نطاق إحصائي ضيق للأعمار المعروفة، مما يثبت نجاح التأريخ بالكربون المشع.

منحني المعارف لويلارد ليبي

كيفية قياس تركيزات الكربون-14

اليوم، هناك طريقتان أساسيتان لقياس تركيزات الكربون-14 في العينات وهي:

القياس الإشعاعي : حيث تقوم بحساب معدل اضمحلال الذرات الفردية في العينة باستخدام عداد الغاز المتناسب (أحد أشكال عداد جيجر) “gas proportional counter” أو عداد الومضات السائل “liquid scintillation counter”.

أما الطريقة الثانية، فهي القيام بإجراء تحليل نظائري كامل في مطياف الكتلة المسرع “Accelerator Mass Spectrometer(AMS)“.

يعد قياس الإشعاع  رخيصًا نسبيًا (حوالي 300 دولار/عينة)، ويستغرق حوالي شهر للحصول على إحصائيات مرضية، ويتطلب حوالي 100 جرام. وتعد طريقة جيدة لحساب متوسط المواد المكونة من مواد من مختلف الأعمار (رواسب البحيرات وما إلى ذلك). أما التحليل النظائري الكامل مكلفًا نسبيًا (حوالي 600 دولار/عينة أو أكثر اعتمادًا على وقت الإعداد المطلوب. ويرجع ذلك إلي أن أجهزة قياس الطيف الكتلي باهظة الثمن، حيث تبلغ قيمتها ملايين الدولارات، ولا يوجد بها سوى عدد قليل من المرافق)، ويستغرق حوالي أسبوع، ويتطلب حوالي جرام فقط. وتعد طريقة جيدة لتأريخ عينات معينة، إبرة صنوبر على سبيل المثال، عندما تحتوي العينة على مواد دخيلة أصغر سنا.

Accelerator Mass Spectrometer

و يتم استخدام معايير معايرة (calibration standards) مختلفة لقياسات النشاط الإشعاعي. ومن الأنواع الشائعة المستخدمة حاليًا هو حمض الأكساليك II، والذي تم استخلاصه من محصول دبس البنجر الفرنسي عام 1977. حيث تقوم المعامل بتأريخ هذا للتأكد من حصولهم جميعًا على نفس الإجابة. و يتضمن إعداد العينات (وهي عملية تتطلب مهارة وعمالة مكثفة) استخلاص الكربون في صورة ثاني أكسيد الكربون، وتنقيته، ثم تحويله إلى مركب عضوي مثل البنزين أو التولوين الذي يسهل التعامل معه وقد تختلف تلك الطرق من معمل إلي معمل.

تشمل المواد التي تم تأريخها بالكربون المشع منذ بداية هذه الطريقة ما يلي:

• الفحم، الخشب، الأغصان، البذور، الخث، حبوب اللقاح، الراتنجات.

• العظام والأصداف والشعاب المرجانية.

• الشعر، الجلد، بقايا الدم.

•بحيرة الطين والتربة والماء.

• الفخار، واللوحات الجدارية، والأقمشة، والورق، والرق.

ويجب أن تحتوي جميعها على الأقل على بعض الكربون من أصل عضوي. لسوء الحظ, ليس كل شيء سهلاً حتى الآن. فعلي سبيل المثال، لا تحتوي عظمة ساق الماموث الصوفي الموجودة في “جابريولا” على ما يكفي من الكولاجين لتحليل الكربون-14.

عظمة ساق الماموث الصوفي

ثورة الكربون المشع

كان لإدخال التأريخ بالكربون المشع  تأثير هائل على كل من علم الآثار والجيولوجيا. وهو تأثير يشار إليه غالبًا باسم “ثورة الكربون المشع”. فقبل بحث ليبي، كان على الباحثين في هذه المجالات الاعتماد على طرق تأريخ نسبية فقط، مثل مقارنة طبقات الموقع الذي تم العثور فيه على القطع الأثرية، على افتراض أن طبقات الموقع تم وضعها بتسلسل زمني. إن المقارنة النسبية تقوم ببساطة بترتيب الأحداث دون قياس عددي دقيق. على النقيض من ذلك، قدم التأريخ بالكربون المشع أول طريقة للتأريخ الموضوعي، وهي القدرة على ربط تواريخ رقمية تقريبية بالبقايا العضوية.

ساعدت هذه الطريقة في دحض العديد من المعتقدات السابقة، بما في ذلك فكرة أن الحضارة نشأت في أوروبا وانتشرت في جميع أنحاء العالم. كما ساهم عمل ليبي بشكل كبير في الجيولوجيا. وباستخدام عينات خشبية من الأشجار التي كانت مدفونة تحت الجليد الجليدي، أثبت ليبي أن آخر طبقة جليدية في شمال أمريكا الشمالية انحسرت منذ 10 آلاف إلى 12 ألف عام، وليس 25 ألف عام كما قدر الجيولوجيون سابقًا.

عندما قدم ليبي لأول مرة التأريخ بالكربون المشع للجمهور، قدر بكل تواضع أن هذه الطريقة ربما كانت قادرة على قياس أعمار تصل إلى 20 ألف سنة. ومع التقدم اللاحق في تكنولوجيا الكشف عن الكربون-14، يمكن لهذه الطريقة الآن أن تؤرخ بشكل موثوق مواد عمرها يصل إلى 50 ألف سنة.

المصادر

1-Radioactive decay

2-Radiocarbon Dating

3-Willard Libby and Radiocarbon Dating

كيف تحصل المباني على شهادة LEED؟

نال أكثر من 80 ألف مبنى بحلول عام 2015 على شهادة LEED في أنظمة تقييم المباني الخضراء GBRSs، وعمل أكثر من 100 ألف من المهنيين المعتمدين معهم. فما هي شهادة LEED؟ وما المباني التي تستحقها؟

ماذا يقصد بشهادة LEED؟

تستخدم «الريادة في تصميمات الطاقة والبيئة- LEED» برنامج لإصدار شهادات البناء الأخضر في جميع أنحاء العالم. وقد بدأ تطوير تلك الشهادات عام 1993 بدعم من «مجلس المباني الخضراء الأمريكي غير الربحي- USGBC». وتشمل مجموعةً من أنظمة التصنيف من أجل تصميم، وبناء، وتشغيل، وصيانة المباني، والمنازل، والأحياء الخضراء. ويسعى البرنامج عمومًا إلى مساعدة مالكي المباني، والمشغلين ليكونوا مسؤولين بيئيًا، لاستخدام الموارد المتاحة بكفاءة.[1]

كيف يعمل نظام تقييم LEED؟

يحصل كل مشروع على تقييم نقاط، ويبلغ الحد الأقصى الممكن تحقيقه 100 نقطة، عبر 6 فئات وهي: المواقع المستدامة، وكفاءة المياه، والطاقة والغلاف الجوي، والمواد والموارد، وجودة البيئة الداخلية IEQ، وابتكار التصميم.[2]

فئات تصنيف نظام LEED.

وتشمل كل هذه الفئات بعض المتطلبات الإلزامية التي يجب تحقيقها لكن لا يحصل المشروع على أية نقاط عليها. بالإضافة إلى ذلك، يمكن الحصول على ما يصل إلى 10 نقاط إضافية: 4 نقاط للائتمانات الإقليمية ذات الأولوية، و6 نقاط للابتكار في التصميم. بينما يعترف LEED المخصّص للمنازل بفئات إضافية خاصة مثل سهولة الوصول إلى وسائل النقل، والأماكن المفتوحة، والأنشطة البدنية في الهواء الطلق، وحاجة المباني إلى توعية شاغلي المساكن.[1][2]

ويوجد 4 مستويات من الشهادة وهي:

  1. شهادة مصدقة: بمجموع نقاط 40-49 نقطة.
  2. شهادة فضية: بمجموع نقاط 50-59 نقطة.
  3. شهادة ذهبية: بمجموع نقاط 60-79 نقطة.
  4. شهادة بلاتينية: بمجموع نقاط من 80 وما فوق.[2]
مستويات شهادة LEED.

تطوّر نظام التقييم

تطوّرت شهادة LEED منذ عام 1998لتمثيل، ودمجت تقنيات البناء الأخضر الناشئة بشكل أكثر دقة. وتضم:

LEED v3

طوّر LEED v3 عام 2009 ويشمل 10 أنظمة تصنيف، وتصميم ومنها عمليات صيانة المباني الخضراء، وتنمية الأحياء الخضراء، وتصميم وتشييد الإنشاءات الجديدة كالمدارس، ومرافق الرعاية الصحية وغيرها الكثير. وقام هذا الإصدار بمواءمة اعتمادات تقييم LEED مرجّحًا الأولوية البيئية مع برنامج شهادة طرف ثالث منقّح. [1]

قبل تقييم واعتماد أي مشروع للحصول على شهادة LEED v3 يجب أن يمتثل المبنى للقوانين واللوائح البيئية، وحدود الموقع ونسبة البناء وغيرها من الخطط. كما يجب على صاحب المشروع أن يتبادل البيانات عن كيفية استخدام المبنى للطاقة والمياه لمدة 5 سنوات بعد تشغيله وذلك للإنشاءات الجديدة، أو بعد تاريخ التصديق في حالة المباني الموجودة سابقًا.[1]

LEED Canada

حصل مجلس المباني الخضراء الكندي عام 2003 على إذن لإنشاء نظام LEED. وتحصل العديد من المباني في كندا على شهادة معتمدة بسبب ممارساتها في تجميع مياه الأمطار. [1]

LEED v4

طُوّر LEED v4 عام 2014 وفيما يتعلّق بالاعتماد في معيار LEED BD+C أي بتصميم وتشييد المباني الخضراء، فتتناول فئة جودة البيئة الداخلية كل من الراحة الحرارية، والبصرية، والصوتية، فضلًا عن جودة الهواء في الأماكن المغلقة. بالإضافة إلى ذلك، فقد ربطت البحوث رضاء السكان وأداءهم بالظروف الحرارية للمبنى. [1]

LEED v5

يعتبر v3 آخر إصدار، ويسعى لمواءمة البيئة المبنية مع أهداف اتفاق باريس للمناخ لعام 2030 و2050. ويتناول قضايا بالغة الأهمية مثل العدالة، والصحة، والأنظمة البيئية، والمرونة. وأطلق من الإصدار نظام تصنيف المباني القائمة والصيانة فقط، إذ ظهر لأول مرة في مؤتمر Greenbuild، ومعرض expo عام 2023. ولا تزال باقي التصنيفات تخضع للدراسة.[3]

ما خطوات الحصول على شهادة LEED؟

تُمنح شهادة LEED من قبل معهد شهادة المباني الخضراء GBCI والذي يرتّب عملية تحقيق امتثال المشروع لمتطلبات النظام من قبل طرف ثالث. وتتألف عملية التصديق من طلب التصميم، وطلب التشييد. فيقع طلب التصميم ضمن اختصاص المعماري، ويوثق في المخططات الرسمية للتنفيذ. أما طلب التشييد فهو من اختصاص مقاول البناء، ويوثق أثناء تشييد المبنى، وبدء تشغيله. ويلزم دفع رسوم لتسجيل المشروع، وتقديم طلبات التصميم والتشييد. وتقدر الرسوم الإجمالية على أساس مساحة المبنى، لكن تتراوح عمومًا بين 2,900 دولار كحد أدنى، وأكثر من مليون دولار لمشروع كبير. وتحدث مراجعة الطلبات وعملية التصديق من خلال الإنترنت.[1]

أداء الطاقة وجودة البيئة الداخلية

لا تحتاج المباني المصدقة من LEED إلى إثبات كفاءة الطاقة أو المياه في الممارسة العملية للحصول على نقاط. لكن بدل من ذلك، يعتمد النظام على برنامج نمذجة للتنبؤ باستخدام الطاقة في المستقبل. وقد أدى ذلك إلى انتقاد قدرة النظام على تحديد كفاءة المباني بدقة.[1]

على سبيل المثال؛ في عام 2013 حلّل باحث 21 مبنى معتمد من LEED في نيويورك، ووجد أن المباني الحاصلة على شهادة ذهبية تستهلك طاقة مصدرية أقل بنسة 20%. في حين أن المباني الحاصلة شهادة فضية تستهلك طاقة أكثر بنسبة 11-15% في المتوسط من نظيرتها التقليدية. بينما دراسة أخرى أجريت عام 2003 وجدت عند تحليل 60 مبنى معتمد من LEED أن المباني كانت في المتوسط أكثر كفاءة في استهلاك الطاقة بنسبة 25-30%. بالإضافة إلى ذلك ظهرت فوائد أخرى كبيرة مثل زيادة الإنتاجية بسبب تحسين التهوية، وضبط درجة الحرارة والإضاءة، والتلوث.[1]

أما عند النظر في جودة البيئة الداخلية فتشمل الدراسات عدّة عوامل مثل الصوتيات، ونظافة المبنى وصيانته، والألوان والتركيبات، وارتفاع السقف، وإمكانية الوصول إلى النوافذ وتظليلها، وغيرها من الأمور. وقد توفر المباني المعتمدة رضًا أعلى في الأماكن المفتوحة عن المكاتب المغلقة، وفي المباني الصغيرة عن المباني الكبيرة. كما يختلف الأمر بالنسبة للسكان والمستأجرين والعاملين في المكاتب التجارية ومدة عملهم ضمن البناء إذ تلاحظ الدراسة أن رضاهم في مباني LEED قد يميل إلى الانخفاض مع مرور الوقت. [1]

مشاريع LEED من منظور مالي

ترتفع تكلفة التصميم الأولي والبناء في أغلب الأحيان عند السعي للحصول على شهادة LEED. مثلًا يوجد نقص في توافر مكوّنات المبنى التي تلبي المواصفات المطلوبة. توجد كذلك تكاليف إضافية لمراسلة مجلس المباني الخضراء الأمريكي، ومستشاري مساعدي تصميم LEED. والتي لا تعتبر ضروريةً في حد ذاتها من أجل تنفيذ مشروع مسؤول بيئيًا. لكن يجادل المؤيدون أن هذه التكاليف يمكن تخفيفها من خلال الوفورات المتكبدة مع مرور الوقت بسبب التقنيات المستدامة. وقد يأتي كذلك عائد اقتصادي إضافي في شكل مكاسب إنتاجية الموظفين نتيجة العمل في بيئة أكثر صحية.[1]

وجدت عدة دراسات أجريت عام 2008 أن المباني المعتمدة من LEED تفرض عمومًا أجارًا وأسعار بيع، ومعدلات إشغال أعلى من المباني العادية، ومعدلات رسملة أقل، مما يعكس مخاطر استثمارية أقل. علاوةً على ذلك، فقد اعتمدت العديد من الحكومات المحلية برامج تحفيزية في هذا المجال. ويمكن أن تشمل إعفاءات ضريبية، أو مكافآت، أو رسوم منخفضة، أو قروض منخفضة الفائدة وغيرها الكثير. على سبيل المثال؛ اعتمدت سينسيناتي في أوهايو تدبيرًا ينص على إعفاء تلقائي من ضريبة الممتلكات العقارية بنسبة 100% من قيمة الممتلكات المقدرة التجارية أو السكنية المشيدة حديثًا أو المعاد تأهيلها، والتي تحصل على الحد الأدنى من شهادة LEED. كما أعلن مجلس المباني الخضراء الأمريكي عن حملة اسمها LEED Earth والتي ترد فيها رسوم التصديق على أول مشروع معتمد من LEED في بلد لا يوجد فيه مشاريع معتمدة سابقًا.[1]

انتقادات كثيرة

لا يختلف نظام التقييم بما فيه الكفاية فيما يتعلق بالظروف البيئية المحلية. مثلًا سيحصل مبنى في ولاية ماين على نفس النقاط لمبنى في ولاية أريزونا للحفاظ على المياه على الرغم من أن الظروف البيئية مختلفة جدًا. بالإضافة إلى ذلك، يشتكي الكثيرون من أن تكاليف التصديق يمكن استعمالها على نحو أفضل لجعل المشروع أكثر استدامةً.[1]

تهدف المباني المعتمدة من LEED إلى استعمال الموارد بكفاءة أكبر مقارنةً مع الهياكل التقليدية. بالرغم من ذلك، يبين تحليل بيانات استخدام الطاقة والمياه في نيويورك أن شهادة LEED لا تجعل بالضرورة المبنى أفضل ففي النهاية LEED هي أداة تصميم، وليست أداة قياس الأداء. وأظهر استعراض أجري في صحيفة USA Today أن 7100 مشروع تجاري معتمد استهدف نقاطًا خضراء رخيصةً، وسهلةً مثل توفير مساحات صحية أو توفير عروض تعليمية. بينما اعتمد عدد قليل من المشاريع على الطاقات المتجددة بسبب التكلفة الأولية المرتفعة.[1]

أطلق باحثون ما يدعى بدماغ LEED والذي لا يأخذ في الحسبان الموقع الذي يتواجد فيه المبنى المعتمد. على سبيل المثال؛ أنشأت شركة Gap inc في سان براون في كاليفورنيا مبنى العرض الأخضر. يعد المبنى في حد ذاته نموذجًا صديقًا للبيئة لكن بموقعه على بعد 26 كم من مقر الشركة في وسط مدينة سان فرانسيسكو، و24 كم من حرم شركة Gap في ميشن باي، أصبح المبنى ضارًا بالبيئة. بسبب إجبار موظفي الشركة على قيادة المزيد من المسافات وكذلك بسبب إضافة حافلات بين الأفرع المختلفة.[1]

في مثال آخر عن دماغ LEED، نقلت وكالة حماية البيئة الفيدرالية مقرها من وسط مدينة كانساس إلى مبنى معتمد على بعد 32 كم من المدينة. مما تسبب في جعل موظفي الوكالة البالغ عددهم 627 شخص يقودون مسافات إضافية من وإلى العمل. وقدر باحث أن انبعاثات الكربون المرتبطة بالأميال الإضافية المقطوعة ازدادت 3 أضعاف على ما كانت عليه سابقًا. نتيجةً لذلك يعد الكربون الذي وفره المبنى الجديد جزءًا صغيرًا من الكربون المنبعث بسبب الموقع الحديث.[1]

مبانٍ حصلت على شهادة LEED

مدرسة TBS في إسبانيا

بنيت مدرسة TBS في برشلونة عام 2022 لاستيعاب أكثر من 1100 طالب. وهي مبنىً مدرج مع واجهة خزفية تضم فتحات كبيرة. يهدف التصميم إلى إنشاء مساحات تعليمية فعّالة وعالية الجودة مرتبطةً بالغطاء النباتي. وقد حصلت المدرسة على شهادة LEED الذهبية.[4]

مدرسة TBS في برشلونة.
مدرسة TBS في برشلونة.

مركز John A.volpe الوطني لأنظمة النقل

بني المركز في كامبريدج عام 2023 من تصميم الشركة المعمارية SOM. ويبتعد عن الجوار من جميع الجوانب مسافة 22 م تقريبًا لأغراض أمنية تاركًا مساحةً لأماكن خضراء عامة في الهواء الطلق. وتقع كامبريدج في أحد المناخات الأكثر برودةً في البلاد، حيث تبقى الشمس منخفضةً معظم السنة. وفيما يتعلق بالمشروع فقد استهدف شهادة LEED البلاتينية، إذ تلعب الواجهة والتوجه دورًا رئيسيًا في تحقيق ذلك. فقد وجّهوا المركز لتعظيم الإضاءة النهارية بالكامل.[5]

مركز John A.volpe الوطني لأنظمة النقل.

فتواجه الواجهات ذات المساحة الأقل الشرق والغرب حيث يكون الوهج أقوى في الصباح والمساء، وتغطى بالزجاج مع ألواح الألمنيوم الرأسية التي تمتد إلى الخارج لمنع الوهج والإشعاع الشمسي. بينما تمتد الواجهة الجنوبية على أكثر مساحة، وتحميها الألواح الأفقية، فتتلقى معظم أشعة الشمس المباشرة في ساعات ما بعد الظهر. أما بالنسبة للجانب الشمالي، فيتلقى أشعة الشمس غير المباشرة على مدار السنة مما جعل من الممكن تحسين الإضاءة الطبيعية مع جدار ساتر بسيط من الزجاج والألمنيوم. بالإضافة إلى ذلك، يملك المبنى تقنيات أخرى تساعد على تحقيق الاستدامة مثل المضخات الحرارية، وتقنيات جمع مياه الأمطار والري وغيرها الكثير. [5]

مركز John A.volpe الوطني لأنظمة النقل.

مكاتب A111 في إسبانيا

تقع مكاتب A111 في برشلونة، وبنيت عام 2022 بمواد بناء طبيعية تذكرنا بطوب الإنشاءات القديمة فينسجم المشروع مع المشهد الحضري للحي. وتنطوي خطته على إدراج المحاور الخضراء مما يسمح بالتفاعل مع الطبيعة. كما يعزز التصميم صحة وراحة المستخدمين، ويضع مسطح مائي عند مدخل المبنى لتلطيف الجو وتعزيز الفائدة. يركز المشروع على التنوع البيولوجي، بحيث تحتوى جميع المكاتب على مساحات خارجية وفيرة من النباتات يبلغ مجموعها 1380 متر مربع من الشرفات. نتيجةً لكل ذلك، حصل المبنى على شهادة LEED البلاتينية.[6]

مكاتب A111 في إسبانيا.
مساحة داخلية من مكاتب A111 في إسبانيا.

برج TAIPEI 101 في تايوان

يعد برنامج TAIPEI 101 من أطول الأبراج في العالم مع 101 طابق، وقد نال شهادة بلاتينية بعد جمعه 82 نقطة. مثلًا يستخدم البرج أنظمة إدارة الطاقة والتحكم EMCS لتعديل درجات الحرارة وجداول تشغيل التكييف وفقًا لاحتياجات المستأجرين الفعلية. انخفض استهلاك الطاقة عمومًا، ويتم توفير أكثر من 2 مليون دولار أمريكي سنويًا. ورُكبت كذلك مصابيح تحتوي على كميات قليلة من الزئبق، أو لا تحتوي على زئبق في جميع أنحاء المبنى للحد من مستويات التلوث السام المحتمل. بالإضافة إلى ذلك، فقد أدخلت تركيبات مياه منخفضة التدفق إلى جانب نظم مخصصة لإدارة المياه. فأدى ذلك إلى خفض استهلاك المياه دون تعريض رضى المستأجرين للخطر. وساعد على تقليل استخدام مياه الشرب بنسبة 30% على الأقل مقارنةً مع متوسط استهلاك البناء سابقًا، مما يوفر حوالي 28 مليون لتر من مياه الشرب سنويًا.[7]

برج TAIPEI 101 في تايوان.

فهل برأيك تلعب أنظمة تقييم المباني الخضراء دورًا إيجابيًا في تعزيز الاستدامة وتشجيع العمارة الخضراء، أم أنها لا تشكّل أي تغيير مهم بل تزيد من التكلفة الإجمالية فقط؟

المصادر

  1. Scholarly community encyclopedia
  2. USGBC
  3. USGBC
  4. Archdaily
  5. Archdaily
  6. Archdaily
  7. USGBC

من هو ماركو بولو؟

يعد “ماركو بولو”  واحدًا من أهم الرحالة وأكثرهم تأثيرًا، حيث قام بمجموعة من الرحلات الكشفية. أضافت رحلاته قدر كبير من الوصف والتسجيل إلى رصيد التراث والمعرفة الجغرافية في العصور الوسطى.

نشأة ماركو بولو

ليس هناك تاريخ محدد لولادة “ماركو بولو”، إنما توجد تخمينات، ولكن التاريخ الأقرب إلى التصديق هو عام 1254م. حيث ولد ماركو في البندقية وكان والده “نيكولو” تاجرًا بحريًا بين البندقية والشرق الأوسط. وكان يتمتع بثروة ومكانة عظيمة في البندقية. انطلق “نيكولو” وشقيقه “مافيو” في رحلة تجارية قبل ولادة ماركو، وفي عام 1260 أقام الشقيقان في القسطنطينية. وتوقعوا حدوث تغيير سياسي، فقاموا بتصفية ثروتيهما إلى مجوهرات واتجهوا إلى آسيا. وقابلا “قوبلاي خان” أكبر ملوك امبراطورية المغول وحفيد “جنكيز خان”. وفي تلك الأثناء، كانت والدة ماركو تحتضر لتتولى عمته تربيته، فتعلم ماركو التجارة والقليل من اللاتينية.

حياته

كان اللقاء الأول بين ماركو ووالده في عام 1269م حيث بلغ من العمر خمسة عشر عامًا، وذلك بعد عودة والده وعمه من رحلتهم. وفي عامه السابع عشر اصطحباه معهما إلى آسيا، وعادوا من تلك الرحلة بعد 24 عامًا ومعهم العديد من الثروات والكنوز. ولكن تزامنت عودتهم مع حرب البندقية و جمهورية جنوى، فانضم ماركو إلى قوات البندقية، ووقع في الأسر لعدة أشهر من قبل جنوى. كان يملي فيهم ما رآه في رحلته لزميله في السجن “روستشيلو دا بيزا”، والذي قام بجمع ما أملاه عليه ماركو عن الصين والهند واليابان إضافة إلى حكايات من بلده وقام بنشرها. وسرعان ما انتشر الكتاب في أوروبا، وعُرف بكتاب “رحلات ماركو بولو”، حتى أنه ألهم كريستوفر كولومبس في رحلاته.

في أغسطس 1299م، أطلق سراح” ماركو بولو” وعاد إلى البندقية، وكان والده وعمه قد اشتريا منزلًا كبيرًا في “كونترادا سان جيوفاني كريسوستومو”. كما طورا أنشطة شركتهم، مما جعل ماركو تاجرًا ثريًّا. موّل ماركو العديد من البعثات إلى الشرق الأوسط. وتزوج من”دوناتا بادوير” في عام 1300م، ورزقا بثلاث بنات هن “فانتينا، وبيليلا، وموريتا”.

أهم رحلات ماركو بولو

قام”ماركو بولو” برحلتين مهمتين نحو الصين مرورًا بالشرق الأوسط. وأهمية تلك الرحلات تتمثل فيما تم تجميعه من معلومات حول الصين والمناطق المجاورة. مثل التبت وبورما، والتي نقلها إلى أوروبا عند عودته.

خرجت الرحلة الأولى من البندقية متجهة إلى هرمز عند مدخل الخليج العربي. ثم اتجهت شمالًا متتبعة طريق الحرير عبر وسط آسيا مرورًا ببلاد الرافدين وفارس وبلخ. وزار القائمين على الرحلة في طريقهم بخاري ثم اتجهوا إلى البامير. ثم واحة كشغر ومنها إلى لوب نور، وعبروا بعدها صحراء جوبي القاحلة حتى وصلوا إلى الصين. وقد زار الأخوان بولو وبصحبتهما ماركو بلاط خان الصين العظيم “قوبلاي خان” الذي رحب بهم وأبدى رغبته في الاستفادة من الحضارة الغربية. لذلك طلب من الأخوين بولو تسليم رسالة يطلب فيها إرسال مئة من العلماء ورجال الدين لتعليم المغول مبادئ الدين المسيحي والثقافة الغربية. ولكن البابا رفض طلب زعيم التتار.

انتظر الأخوان 12عامًا للقيام بالرحلة الثانية، والتي لم يتغير خط سيرها عن الرحلة الأولى. حيث خرجوا من البندقية ووصلوا إلى الصين بعد ثلاث سنوات. وهناك قابلوا خان الصين محملين بالهدايا من البابا “جريجوري العاشر” الذي اعتلى عرش البابوية. ووافق على الطلب السابق لزعيم التتار بإرسال العلماء ورجال الدين.

وفاة الرحالة العظيم

في عام 1323م، مرض “ماركو بولو”، وبعد عام واحد من مرضه كان يحتضر، فأحضرت عائلته” جيوفاني جويستينياني” قس سان بروكولو، ليوثق وصيته. وقد عين ماركو زوجته دوناتا وبناته قائمين بتنفيذ الوصية، كما كان للكنيسة جزء من تركته. فوافق ماركو وأمر بدفع مبلغ إضافي لدير سان لرونزو. حيث كان يرغب أن يدفن في هذا المكان، ثم أطلق سراح العبد التاتاري الذي رافقه من آسيا. وقسّم ما تبقى له من الممتلكات ما بين الأفراد، والمؤسسات الدينية والنقابات التي انتمى إليها. كما ترك خلفه ديون عديدة مثل 300 ليرة لأخت زوجته. وبعض الديون لدير سان جيوفاني وسان باولو، ورجل دين يدعى “بينفينوتو”.

لا يمكن تحديد الموعد الدقيق لوفاة “ماركو بولو”. وذلك طبقا لقانون البندقية الذي ينص على أن اليوم ينتهي عند غروب الشمس. ولكنه كان بين غروب الشمس يوم 8 و9 يناير 1324م. 

المصادر:

[1] Marco Polo | Biography, Accomplishments, Facts, Travels, & Influence | Britannica

[2] Marco Polo: Biography, The Travels of Marco Polo, Kublai Khan

[3] Marco Polo – Wikipedia

مرض العظم الزجاجي: حياة بين الهشاشة والأمل

بينما نتفاعل مع العالم من حولنا بأقدامنا الراشدة والرشيقة، بقوة يدينا الصلبة، يعتبر العظم بمثابة العمود الفقري لحياتنا، يدعمنا ويحمينا في كل خطوة نخطوها. لكن، ماذا لو كانت هذه الحماية تتلاشى ببطء؟ ماذا لو بدأت العظام تصبح هشة كالزجاج؟ هذا هو سردنا لمرض غامض يعرف بـ “مرض العظم الزجاجي”، حيث يتحول العظام من مصدر للقوة إلى زجاج يتمكن من تحطيمه بأبسط الإجهادات.

سنخوض سويًا في هذا المقال رحلة إلى عالم يعج بالتحديات والتساؤلات حول هذا المرض النادر، الذي يتسبب في تغيير حياة المرضى بشكل كامل. دعونا نستكشف معًا أسبابه، وتأثيراته، وأحدث التطورات في عالم علاجه…

جذور المرض واكتشافه:

يُعتقد أنّ مرض العظم الزجاجي Osteogenesis Imperfecta (OI)، ويُعرف أيضًا بـ “تكوّن العظم الناقص” أو “متلازمة العظام الهشّة”، موجود منذ فجر التاريخ. فقد تمّ العثور على بقايا عظمية تدلّ على إصابة بعض الأشخاص بهذا المرض في حضارات مختلفة، مثل مصر القديمة وبلاد الرافدين.

وفي عام 1788، قام الطبيب الفرنسي “بيير فريديريك بوزو” بوصف أول حالة لمرض العظم الزجاجي بشكلٍ دقيق…

يصيب تكوّن العظم الناقص ما يقارب الشخص بين كل 10.000-20.000 ألف شخص، حيث يوجد ما يقارب الـ50.000 حالة في الولايات المتحدة الأمريكية لوحدها. وينتشر بشكل متساوي بين كل من الذكور والإناث. [2][1]

تعريف مرض العظم الزجاجي وأسبابه:

هو حالة طبية نادرة تتسم بضعف في كثافة العظام وهشاشتها، مما يجعلها أكثر عرضة للكسور والتشققات، حتى بسبب الإجهادات البسيطة. ينشأ هذا الضعف نتيجة لنقص في كثافة المعدنيات في العظام، مثل الكالسيوم والفوسفور، مما يؤثر سلبًا على قوتها ومتانتها. وتعود أسباب هذا النقص إلى عوامل فسيولوجية أو راثية مختلفة، بما في ذلك اضطرابات في عملية تكوين العظام أو زيادة في تفكك العظام بسرعة أكبر من ترميمها. إضافة إلى العوامل البيئية (كالتغذية ومستوى النشاط البدني والتعرض لضوء الشمس وغيره)…

الفرق بين العظم الطبيعي (على اليسار) والمصاب بالهشاشة والمرض (الوسط واليمين)

لكننا في هذا المقال سنتطرق للعوامل الوراثية التي تسبب هذا المرض:

من الناحية الوراثية، يُعَزَّز المرض بسبب حدوث طفرات في أحد الجينات المسؤولة عن تكوين النوع الأول من الكولاجين في الجسم. حيث يعتبر الكولاجين النوع الأول مادة أساسية في بنية العظام والجلد والأنسجة الضامة الأخرى. حدوث طفرة في تكوين النوع الأول من الكولاجين يؤدي إلى تكون “عظم ناقص التكوين”، أي عظم هش وسهل الكسر بسبب فقدانه للمتانة والصلابة التي يوفرها الكولاجين السليم.

من أبرز جينات الكولاجين المهمة في عملية تكوين العظام هي:

  1. COL1A1 وCOL1A2: يُعتبر هذان الجينان من أهم الجينات التي تُشفر لإنتاج الكولاجين النوع الأول. هذا النوع من الكولاجين يُعتبر الأساسي في بنية العظام والأنسجة الضامة الأخرى.
  2. COL2A1: هذا الجين يُشفر لإنتاج الكولاجين النوع الثاني الذي يلعب دورًا هامًا في تكوين غضاريف المفاصل.
  3. COL5A1 وCOL5A2 وCOL5A3: هذه الجينات تُشفر لإنتاج الكولاجين النوع الخامس، الذي يساهم في تكوين الألياف الناعمة في الأنسجة الضامة.

تحتوي هذه الجينات على المعلومات الوراثية التي تحدد هيكل ووظيفة الكولاجين المنتج، وأي تغير أو طفرة في هذه الجينات قد يؤدي إلى تشوهات في الكولاجين المنتج، مما يمكن أن يؤدي في بعض الحالات إلى حدوث مرض العظم الزجاجي أو أمراض أخرى ذات صلة بالعظام والأنسجة الضامة.[2][1]

يمكنك معرفة المزيد حول بروتين الكولاجين وخصائصه من خلال مقالنا هنا

أنواعه:

هناك أنواع مختلفة من هذا المرض، وتختلف هذه الأنواع في الوراثة والتأثير على العظام. ومن بين أنواعه الشائعة:

  1. مرض العظم الزجاجي النوع I (OI): يُعتبر OI النوع الأكثر شيوعًا، وهو ناتج عن طفرات في جينات الكولاجين النوع الأول. يتسبب هذا النوع في عظام هشة وكسور متكررة، وقد تتراوح شدة الأعراض بين الأفراد المصابين.
  2. مرض العظم الزجاجي النوع II (OI): يعتبر هذا النوع من المرض أكثر خطورة وندرة من OI النوع I. يتسبب هذا النوع في تشوهات خطيرة في العظام، والتي قد تؤدي إلى وفاة الطفل في مراحل الطفولة المبكرة نتيجة لمشاكل التنفس والتغذية.
  3. مرض العظم الزجاجي النوع III (OI): يتميز هذا النوع بأعراض شديدة مثل تشوهات العظام وتقصر القامة والكسور المتكررة. يمكن أن يكون مرض العظم الزجاجي النوع III أكثر تشابهًا مع مرض العظم الزجاجي النوع II في بعض الحالات.
  4. مرض العظم الزجاجي النوع IV (OI): يتسبب هذا النوع في أعراض متوسطة إلى شديدة من مرض العظم الزجاجي، مع تشوهات في العظام وكسور متكررة.

تُصنَّف الأنواع المذكورة أعلاه تحت فئة Osteogenesis Imperfecta (OI)، ولكن هناك أيضًا أنواع أخرى من مرض العظم الزجاجي تُصنَّف بشكل منفصل، وتختلف في الأسباب والأعراض والتأثيرات على العظام.[2][1]

وراثة مرض العظم الزجاجي:

تعتمد وراثته على عدة أنماط وراثية مختلفة. يمكن أن تُشارك الوراثة في تطوير المرض بسبب الطفرات في الجينات المسؤولة عن تكوين الكولاجين، كما ذُكر في الشرح السابق.

  1. الوراثة الجسمية السائدة: في هذا النوع من الوراثة، يكفي أن يكون جين واحد مصاب بالطفرة في أحد الأبوين ليظهر المرض على الطفل. وغالبًا ما يكون لدى أحد الأبوين مرض العظم الزجاجي، ولكن يتميز المرض الذي ينتج عن هذا النوع من الوراثة بأنه يكون أقل حدة.
  2. الوراثة المتنحية: هنا يجب أن يكون الجين المصاب موجودًا في كلا الأبوين لظهور المرض. وفي هذه الحالة، لا تظهر الأعراض عادةً على الأبوين، ولكن الأبناء الذين يحملون الجين المصاب قد يظهرون أعراض المرض.
  3. الوراثة المرتبطة بالجنس: هنا يكون الطفرة الجينية المسببة للمرض موجودة على إحدى الكروموسومات الجنسية X أو Y. قد يكون المرض أكثر شيوعًا لدى الذكور إذا كان الجين المصاب موجودًا على كروموسوم X، نظرًا لأن الذكور لديهم كروموسوم واحد X وكروموسوم Y.
  4. الطفرات العشوائية: في بعض الحالات، يمكن أن تحدث الطفرات في الجينات بشكل عفوي ومفاجئ، دون أن يكون لها علاقة بتوارثها من الأبوين. وقد تؤدي هذه الطفرات إلى تطوير أشكال أكثر شدة من مرض العظم الزجاجي، ولا يكون هناك تاريخ عائلي للمرض في هذه الحالات.

كما ذكرنا سابقًا، أن تطور المرض وانتقاله يعتمد على مجموعة متنوعة من العوامل الوراثية والبيئية، وقد تكون الوراثة جزءًا فقط من الصورة الكاملة.[2][1]

أعراضه:

أعراض مرض العظم الزجاجي يمكن أن تتفاوت بين الأفراد وتعتمد على نوع وشدة المرض. ومع ذلك، فإن بعض الأعراض الشائعة تشمل ما يلي:

  1. كسور متكررة: يعتبر كسر العظام نتيجة لهشاشة العظام هو العرض الأساسي لمرض العظم الزجاجي. يمكن حدوث الكسور بسهولة حتى من الإجهادات البسيطة، وتكون الكسور شائعة خاصة في العمود الفقري والأذرع والأرجل.
  2. آلام العظام: يعاني الأشخاص المصابون بمرض العظم الزجاجي في بعض الأحيان من آلام في العظام، وخاصة بعد حدوث كسور أو مناورات جسمانية معينة.
  3. تشوهات العظام: قد تؤدي هشاشة العظام إلى تشوهات في هيكل العظام، مما يمكن أن يؤثر على الشكل الطبيعي للعظام ويسبب مشاكل في الحركة والوظيفة.
  4. قصر القامة: نتيجة للكسور المتكررة وتشوهات العظام، قد يتطور قصر القامة لدى الأفراد المصابين بمرض العظم الزجاجي.
  5. مشاكل الأسنان: قد تظهر مشاكل في الأسنان مثل تسوس الأسنان وفقدان الأسنان بشكل أكثر شيوعًا لدى الأشخاص المصابين بمرض العظم الزجاجي.
  1. ضعف العضلات: قد يعاني بعض الأشخاص المصابين بمرض العظم الزجاجي من ضعف في العضلات نتيجة لتقوس العظام وتشوهاتها.[2][1]

تشخيص تكوّن العظم الناقص:

التشخيص يتطلب تقييمًا شاملاً للأعراض والتاريخ الطبي، بالإضافة إلى استخدام عدة طرق تشخيصية. من بين الطرق الشائعة لتشخيص المرض:

  1. التاريخ الطبي والفحص البدني: يقوم الطبيب بجمع معلومات مفصلة عن التاريخ الطبي للمريض، بما في ذلك الأعراض التي يعاني منها وتاريخ الكسور السابقة وأي تاريخ عائلي لمرض العظم الزجاجي. يجري الطبيب أيضًا فحصًا بدنيًا لتقييم العظام والتحقق من وجود تشوهات أو علامات أخرى.
  2. الفحوصات الشعاعية: تعتبر الصور الشعاعية من أهم الفحوصات لتشخيص مرض العظم الزجاجي، حيث يمكن أن تظهر علامات الهشاشة العظمية وتشوهات العظام على الصور الشعاعية.
  1. اختبارات الدم: يمكن أن تُجرى اختبارات الدم لقياس مستويات المعادن الهامة لصحة العظام مثل الكالسيوم وفيتامين د والفوسفات.
  2. اختبارات الجينات: في حالة الاشتباه في وجود مرض العظم الزجاجي الوراثي، قد يتم إجراء اختبارات جينية لتحديد الطفرات في الجينات المسؤولة عن المرض (جينات الكولاجين).
  3. اختبارات الحالة العظمية: تشمل هذه الاختبارات اختبارات كثافة العظام (DEXA scan) لتقييم كثافة العظام ومعرفة مدى هشاشتها.

يجب أن يقوم الطبيب بتحليل البيانات المتاحة من هذه الفحوصات والاستنتاجات المستفادة منها لتحديد ما إذا كان المريض مصابًا بمرض العظم الزجاجي ونوعه وشدته، ومن ثم وضع خطة علاجية مناسبة.[2][1]

العلاج:

علاج مرض العظم الزجاجي يهدف إلى تخفيف الأعراض وتقليل خطر الكسور وتحسين نوعية الحياة للأشخاص المصابين. العلاج قد يشمل ما يلي:

  1. الرعاية الطبية المتخصصة: يتطلب علاج مرض العظم الزجاجي التعامل مع فريق طبي متعدد التخصصات، بما في ذلك أطباء العظام وأخصائيي الجراحة العظمية وأطباء الأطفال وأخصائيي التغذية وغيرهم.
  2. العلاج الدوائي: يمكن أن يشمل العلاج الدوائي تناول الأدوية التي تساعد في تقوية العظام وتحسين كثافتها، مثل البيسفوسفونات والكالسيترول وفيتامين د.
  3. العلاج الفيزيائي: يمكن أن يساعد العلاج الطبيعي في تحسين القوة العضلية والتوازن والمرونة، مما يقلل من خطر الكسور.
  1. الأدوية المضادة للآلام: قد يتم وصف الأدوية المضادة للآلام لمساعدة في تسكين الآلام المصاحبة للكسور والآلام العامة.
  2. التدخل الجراحي: في حالات الكسور الشديدة أو التشوهات العظمية الخطيرة، قد يكون الجراحة ضرورية لتصحيح التشوهات وتثبيت الكسور.
  3. العناية الذاتية: يمكن للأشخاص المصابين بمرض العظم الزجاجي اتخاذ إجراءات للعناية بالعظام، مثل الحفاظ على نظام غذائي غني بالكالسيوم والفيتامين د وممارسة التمارين الرياضية المناسبة.

يجب أن يتم تحديد العلاج المناسب لكل حالة بناءً على خصائص المرض وشدته، ويجب أن يتم ذلك بالتعاون مع الطبيب المعالج والفريق الطبي المختص.[2][1]

أبحاث علمية حول مرض العظم الزجاجي:

العلاج الجيني:

1- Curative Cell and Gene Therapy for Osteogenesis Imperfecta

2- Osteogenesis Imperfecta: Current and Prospective Therapies

العلاج بالخلايا الجذعية:

1- Stem Cell Therapy as a Treatment for Osteogenesis Imperfecta

2- Mesenchymal stem cells in the treatment of osteogenesis imperfecta

تحسينات في العلاج الطبيعي:

1- https://www.physio-pedia.com/Osteogenesis_Imperfecta

مراجع ومصادر:

Exit mobile version