نشأة فكرة الغزو العثماني لمصر وللشام ونبوءة ابن خلدون

نرفض من منظور تاريخي الحكم القائل بأن الغزو العثماني لمصر وللشام، إنما كان نتيجة لسلسة متصلة من سوء الفهم بين تحركات الغوري وسليم الأول. فلا يعقل أن يحرك كلاهما جيشًا بكامل لواءاته بلا هدف استراتيجي واضح المعالم، لذلك لا نتفق مع ما ذهب إليه الباحث مايكل وينتر ومن دار في فلكه من الباحثين العرب، من أنه حين قاد سليم جيشا قويا في شمال الشام لم يكن واضحًا ما إذا كان يوجه نحو المماليك أو الفرس، وأن تقدم الجيش المملوكي نحو حلب بقيادة قنصوه الغوري خطوة غير عادية. بل إننا نجد رواية عند ابن الحمصي في تناوله لأحداث شهر ربيع الأخر من عام 920 هجرية أي حتى قبل موقعة جالديران بثلاثة شهور يتحدث عن تجمع عسكري للعثمانيين بقيادة السلطان سليم وانتشار الأقاويل بأن مملكة الجراكسة هي المقصودة بهذا التمركز على ما سيأتي بيانه.

نشأة فكرة الإمبراطورية العالمية

لم تكن الأحداث التي دارت بين السلطان قنصوه الغوري والسلطان سليم هي ما أدت إلى الغزو العثماني لمصر والشام. فلم تكن وليدة فترة حكمهم، وإنما كانت لها جذور عميقة وممتدة في التاريخ وترجع إلى عهود سابقة عليهم. وما أعتقده أن فكرة ضم بلاد الشام ومصر للحظيرة العثمانية، هي فكرة قديمة لدى السلاطين  العثمانيين. فإذا كان العثمانيين يرجعون بأصولهم إلى قبائل رعوية يتنقلون من مكان لأخر، أخذين في ضم الأراضي تلو الأراضي ويوحدون القبائل والإمارات ويخضعونها تحت سطوتهم، وعاشوا طيلة تاريخهم في حروب دموية توسعية.

وإذا كان التاريخ العثماني في مجمله يمتاز بصبغة إسلامية في عقيدته السياسية والتوسعية ضمن فلسفة الجهاد. فبطبيعة الحال هنا أن يتطلعوا إلى إقامة دولة عالمية إسلامية، ولن تقم لهذه الدولة المزمعة قائمة دون تغيير محور ارتكاز العالم الإسلامي من شمال أفريقيا وغرب آسيا حيث وجود الخلافة العباسية بالقاهرة، إلى أقصى بلاد الجنوب الشرقي لأوروبا حيث القسطنطينة أواستنبول. فالفكرة وإن كانت قديمة، فإنما قد اختمرت واكتملت في خُلد العثمانيين لحظة سقوط القسطنطينية على يد محمد الفاتح  حينما بدأت الدولة طور الإمبراطورية في منتصف القرن الخامس عشر. ومنذ ذلك الحين، أصبحت هذه الفكرة استراتيجية عامة لدى سلاطين آل عثمان حتى نُفذت على يد السلطان سليم الأول.

في الوقت الذي كانت فيه القاهرة تسُر وتحتفل للانتصارات العثمانية في أوروبا لاسيما فتح القسطنطينية. لم تكن آراء محمد الفاتح في الدولة المملوكية وسلاطينها -كما يحدثنا المؤرخ التركي يلماز أزوتونا- آراءًا طيبة على أي حال، رغم إخفائها بدقة ومهارة. فالسلاطين المماليك بالنسبة لمحمد الفاتح ” عبيدًا شركسيين”  لا ينحدرون مثله من أوغزخان. وبينما هو الخلف الشرعي لبني سلجوق، وبني سلجوق هم أسياد أسياد ” الأتابكة الزنكيين” الأيوبيين الذين هم أسياد المماليك. لذلك فإذا كان المماليك يتمتعون بفضل الإسلام، فالعثمانيون قد تقلدوا سيفه.

نبوءة ابن خلدون

لم يدر في خلد سلاطين المماليك هذه الأفكار الخطيرة التي لدى العثمانيين عنهم أو رغبتهم في تحقيق الغزو العثماني لمصر والشام. كما لم يدر في خلدهم أيضا بطبيعة الحال بعد احتلالهم البلقان ودويلات أسيا الصغرى، أن العثمانيين سيعملون على إخضاع السلطنة المملوكية لهم. وكان تجسيد هذه الفكرة بطريقة عملية قد حدثت زمن السلطان خشقدم حينما أتاه قاصد من لدى محمد الفاتح عام 868 هجرية و1464 ميلادية حينما رفض السفير العثماني الإنحناء أمام السلطان المملوكي بالقاهرة. خالف السفير بفعلته الأعراف الدبلوماسية المتبعة آنذاك

“فلم يُقبّل الأرض على جاري العادة من القصّاد، فحنق منه السلطان ولم يخلع عليه، ولما قرأ مكاتبة ابن عثمان، لم يجد بها ألقابا بما جرت به العادة فزدات حنقه وكاد أن يفتك بالقاصد ويشوش عليه فمنعوه الأمراء من ذلك، وكان هذا سببا لوقوع العداوة بين سلطان مصر وبين ابن عثمان واستمرت الوحشة عمالة بينهما إلى دولة الأشرف قيتباي”على حسب تعبير ابن إياس. 

ونحن لا نتفق مع ما ذهب إليه ابن إياس من فهم هذا التصرف من السفير العثماني على علاته هكذا دون التعمق في فهم دلالاته. وإنما كانت الاختبار الحقيقي لتجسيد فكرة الأحقية بالزعامة الإسلامية الكامنة لدى العثمانيين منذ زمن طويل. وخلاف لابن إياس، هناك مؤرخ ألمعي أخر وهو ابن خلدون،  كان قد استقرأ هذه الفكرة عند العثمانيين وتنبأ بالوضع الذي ستؤول إليه تلك الوقائع السياسية نهاية المطاف. يحدثنا ابن حجر العسقلاني في كتابه “إنباء  الغمر” في وقائع سنة 797، من أن الظاهر برقوق كان يشير دائما إلى تحذير ابن خلدون له بمقولته “ما يُخشى على مُلك مصر إلا من ابن عثمان”. وهذا على الرغم من وجود الخطر التيموري وقتذاك، فالظاهر برقوق يقول: “لا أخاف من اللنك فإن كل أحد يساعدني عليه وإنما أخاف من ابن عثمان”.

حذر وريبة رغم خطر تيمورلنك

لا نتفق مع ما ذهب إليه د. محمد مصطفى زيادة في مقالته ” نهاية السلاطين المماليك في مصر”، من أن المتتبع لحوادث الشرق الأوسط من أوائل القرن الخامس عشر إلى أوسطه لا يستطيع أن يجد فيها ما يدل على احتمال وقوع الحرب المملوكية العثمانية. فالترجمة الحقيقية لفكرة ضم ممتلكات وأراضي السلطنة المملوكية إلى السلطنة العثمانية، إنما بدأت باكرا منذ عهد السلطان مراد الأول 1359-1382، حينما أرسل قصاده إلى السلطان برقوق ليحذره من مغبة تحرك تيمور لنك وخطره على المماليك أو العثمانيين سواء. ورغم مخاوف السلطان برقوق من هذا الخطر التيموري القادم نحو بلاده، إلا أنه كان يخاف أكثر وأكثر من أطماع العثمانيين في مملكته. وبالفعل صدقت مخاوف السلطان برقوق الذي كان قليل الثقة ببايزيد الأول. فالسلطان  بايزيد هاجم قيصرية، والتي كانت مشمولة بحماية المماليك. ولكن مع  تجدد الخطر التيموري تجاه الأراضي العثمانية، بادر بايزيد بالاعتذارعما بدر منه تجاه قيصرية، واتخذ من سياسة التقرب نهجا مع برقوق لأنه يعلم بأن لا نصير له سوى المماليك.

هكذا كانت سياسة العثمانيين المتبعة مع المماليك، غلب عليها الود وتبادل الهدايا بفضل عداوة الخطر التيموري. بل وقد تصل إلى حد التحالف وعدم إظهار أية أطماع لصد هذا الخطر المدمر. غير أن أطماع العثمانيين كانت تدفعهم من آن لأخر للإغارة على بعض مناطق مشمولة بحماية المماليك. ففي عهد السلطان فرج، أسفرت محاولة بايزيد الصاعقة عن إظهار وجه العثمانيين الحقيقي برغبتهم الدائمة في تزعم العالم الإسلامي وحرمان المماليك من هذا الشرف. ففي سنة 1400، استولى بايزيد الصاعقة على ملطية وحاصر دارندة. وبعدها حاول التقرب مع السلطان المملوكي لصد الخطر المغولي القائم، لكن تم رفض طلب التحالف بعد مشاورة أمرائه. وكانت هذه فرصة جيدة سنحت لتيمور لنك من هزيمة القوتين كلا على حده. فهزم المماليك بالقرب من دمشق عام 1400، وهزم بايزيد الصاعقة وأسره في موقعة “جوبوق أووه” بالقرب من أنقره من عام 1402. وهذه الهزيمة توصف في الأدبيات التركية بإحدى أكبر الكوارث والتي أخرت نمو العثمانية وفتوحاتها نحو نصف قرن بتعبير ” يلماز أزوتونا”.

الحدود الشمالية تشعل الخلاف

بتولية خشقدم عرش السلطنة المملوكية، ما لبست العلاقة أن ساءت مع السلطان محمد الفاتح نظرا لاصطدام مصالح الدولتين في مناطق شرق الأناضول وجنوبه. فبدأ العثمانيون يتدخلون في شئون بعض الإمارات المشمولة بحماية المماليك، كإماراتي ذو القادر وقرمان. وقد ارتكزت عليهما الدولة المملوكية في الدفاع عن أمن أطرافها الشمالية. فكانت إمارة ذو القادر أيام حكم سليمان بك الذي كان على علاقة  حسنة سواء بالمماليك أو العثمانيين، بيد أن كل طرف  كان يريد تنصيب أمراء معينين يضمن ولائهم. فتمكن شاه بوداق من حكم الولاية وتحالف مع المماليك، على غير رغبة محمد الفاتح الذي تدخل من جانبه وأستطاع أن يعين مكانه شاه سوار لتأكده من ولائه للعثمانيين. الأمر الذي حمل خشقدم على الغضب، غير أن القدر لم يمهله  الكثير للرد عليه.

وعندما قويت شوكة شاه سوار تمرد على العثمانيين فسنحت الفرصة للماليك لتجريد حملة عسكرية عليه، وتمكنوا من أسره وشنقه على باب زويلة ونصّب قيتباي مكانه شاه بوداق مرة ثانية. لم يستسلم محمد الفاتح للأمر، فقام بمساعدة علاء الدولة صنيعة العثمانيين الذي كان يسميه ابن إياس بعلي دولات وبه بُدء أول صدام مسلح بين الطرفين. فيقول ابن إياس: “إن أصل هذا الصراع، كان تعصب ابن عثمان لعلي دولات وكان ابن عثمان متحاملا على سلطان مصر في الباطن بسبب أشياء لم تبدو للناس”. وعلى ما يبدو أن السبب المباشر لهذا الصراع المسلح هو رغبة العثمانيين الإنتقام من المماليك لإيوائهم ومؤازرتها للأمير جم. فجهز بايزيد حملة عسكرية بمساعدة قوات تركمانية منشقة عن المماليك لمساعدة علاء الدولة لمهاجمة ملطية. فتصدى لهم تمراز الشمسي واستطاع أن ينزل هزيمة فادحة بالعثمانيين، وعادت القوات المملوكية لثكناتها العسكرية مكللة ببشائر النصر.

تلك كانت حلقة أولى حلقات سلسلة بعنوان “في مسألة الغزو العثماني لمصر وللشام”.

المصادر:
ابن اياس بدائع الزهور في وقائع الدهور، أجزاء الثالث والرابع والخامس.
العراك بين المماليك والعثمانيين الأتراك لابن أجا.
إنباء الغمر بأنباء العمر لابن حجر العسقلاني.
أخرة المماليك لابن زنبل.
در الحبب في تاريخ أعيان حلب لابن الحنبلي.
– حوادث الزمان في وفيات الشيوخ والأقران لابن الحمصي.
مفاكهة الخلان في حوادث الزمان لابن طولون.
مقالة نهاية سلاطين المماليك، دكتور محمد مصطفى زيادة.
المجتمع المصري تحت حكم العثماني مايكل وينتر.
تاريخ الدولة العثمانية، يلماز اوزتونا.
تاريخ المماليك، محمد سهيل طقوش.
دراسة بعنوان “التجسس في العصرين الأيوبي والمملوكي”، عبدالله عيد كمال.
تكوين العرب الحديث، سيار الجميل.
– التحفة البهية في تملك آل عثمان الديار المصرية، محمد بن أبى السرور الصديقي البكري.
الفتح العثماني للشام ومصر، أحمد فؤاد متولي.

«نصل أوكام-occam’s Razor»: عندما يكون أفضل الطرق أقصرها

● ما هو نصل أوكام؟

يستخدم مبدأ «نصل أوكام-occam’s Razor» المعروف أيضاً ب «مبدأ التقتير-Principle of Parsimony» على نطاق واسع في العلم والفلسفة كوسيلة منطقية للاستدلال على المعرفة، حيث يدل ببساطة على تفضيل النظريات ذات الكينونات والمبادئ الأقل عن غيرها كمنهج تعليلي للظواهر.

تُنسب تسميته إلى الفيلسوف واللاهوتي الانكليزي «ويليام الأوكامي-William of ockham’s»
(1287-1347A.C) ‏الذي نص في كتاباته حرفياً على “ضرورة أن لا تتكاثر أو تتعدد الكينونات دون ضرورة”. [1][5] وبعبارة أخرى كما صاغها واستخدمها ابن خلدون في مقدمته “الطبيعة لا تترك أقرب الطرق في أفعالها وترتكب الأعوص والأبعد”. [2]

● على أرض الواقع:

هذا ما يتم تطبيقه حقيقةً اليوم في العلم، إذا ما قُورنت نظريتان تفسران نفس الظاهرة بدقة، فإن النظرية التي تعتمد على كينونات أقل لتفسير الموجودات هي التي تُعتمد كتفسير للظاهرة. [1]

لعب هذا المبدأ دوراً هاماً في نجاح وتدعيم التفسير العلمي للطبيعة منذ العصور الوسطى وحتى الآن، إذ أن البساطة الشاملة هي أحد أهم العوامل التي تؤدي إلى تفسيرات أفضل كلما تم تقديم أدلة جديدة حول مشاهدة ما؛ دون الحاجة لافتراض عوامل زائدة التعقيد. [1]

من السهل اختبار صحة نصل أوكام من حيث المبدأ بالتجربة؛ إذ أنه ينص على أن «التفسيرات الأبسط أفضل في العادة من التفسيرات المعقدة طالما كانت جميع العوامل الأخرى متساوية»، عن طريق المقارنة التاريخية بين النظريات التي اعُتمدت و كانت تقدم نتائج صحيحة، نلاحظ عندئذ أن النظريات الأبسط هي الأنجع. [1][5]

● تطبيقات المبدأ:

في العلم:

كتطبيق على هذا في حقل العلم؛ تعتبر ظاهرة تشكل البرق مثالاً جيداً، حيث كان الاعتقاد السائد في الميثيولوجيا الاسكندنافية قبل ظهور التفسيرات الحديثة هو أن «ثور-Thor» إله الرعد يضرب بمطرقته السحب مشكلاً البرق لأنه غاضب، تبين لاحقاً أن الظاهرة تفسر بدقة بتفريغ مفاجئ لمناطق ضمن الغلاف الجوي، كان هذا أبسط من التفسير الاسكندنافي الميتافيزيقي، لأنه لم يحتاج لافتراض وجود آلهة غاضبة أو قرع مطرقة عملاقة في السماء.

في الفلسفة:

مع بداية القرن العشرين، اكتسبت التعليلات المعرفية القائمة على الاستقراء، والمنطق، والبراغماتية، وعلم الاحتمالات بصفة خاصة شهرة أكبر في أوساط الفلاسفة فوجب استخدام المبدأ.

لا يوجد خلاف حول جدوى مبدأ نصل أوكام في الفلسفة، لكن غالباً ما يثار الجدل عند تطبيقه، فعلى سبيل المثال: رأى أنصار المذهب السلوكي في فلسفة الذهن أنه يمكن تفسير اللغة والسلوك دون الرجوع إلى الحالات الذهنية التي يختبرها الفرد، كالأفكار والمشاعر والنوايا والأحاسيس، فتطبيق «نصل أوكام-occam’s Razor» ينفي وجود هذه الحالات الذهنية، لأنها لا تقوم بأي دور في تفسير أفعالنا؛ لأنها مجرد نتائج جانبية مصاحبة للعمليات المادية التي تحدث في أدمغتنا، وتجعلنا نتصرف بصورةٍ معينة، لإنكار وجود كينونات أو حالات محددة؛ بل إنه يعمل على التمييز بين الحالات التي تقوم بدور في التفسير والحالات الأخرى التي لا تقوم بدورٍ مماثل، وهنا فإن تطبيق المبدأ يعد أمراً جيداً إذا ما تم التفريق بين ما يعد تفسيراً بسيطاً وتفسيراً تبسيطياً مخلاً. [3]

● كيف نتجنب الخلط؟

يجب التأكيد نهايةً على ضرورة عدم الوقوع في خطأ التشويش بين الحاجة إلى تفسيرات معقدة أحياناً والبساطة الشديدة، لكن من الأجدى تقديم التفسيرات البسيطة قبل التصورات الأكثر تعقيداً لحدث ما؛ قبل إفتراض كينونات إضافية تغطي الظاهرة المدروسة، بصياغة أخرى (النظريات الأبسط تفضَّل دوماً على النظريات الأعقد دون داعِ). [4][5]

المصادر

[1] Stanford Encyclopedia of Philosophy
[2] ابن خلدون – المقدمة
[3] Baggini, Julian. Fosl, Peter. The philosopher’s toolkit: A compendium of philosophical concepts and methods, 2nd ed. New York: Wiley-Blackwell; 2010. 209-210 p.
[4] University of Nottingham. Baron, Sam; Tallant, Jonathan
Do not revise Ockham’s razor without necessity

[5] Technische Universitaet Muenchen
Cognitive Systems, vol. 7, no. 2 (2009) 133-138Arcisstr. 21, D-80333 Muenchen, Germany

Exit mobile version