تنصيب سليم الأول وظهور مسألة الصفويين، في مسألة الغزو العثماني لمصر

بتولي السلطان سليم الأول للعرش العثماني، كان قد صحب ذلك تغيير جذري في استراتيجية  سياسة الدولة العثمانية التوسعية. فمعه توقفت الغزاوات التوسعية ناحية الغرب واتجهت ناحية الشرق الإسلامي. فبدأ سليم عهده بالدبلوماسية والسلمية متمثلا في إقامة سفارات مع كل من فيينا وهنغاريا وروسيا من أجل تأمين الالتفات نحو الشرق. وبعد ما عرضناه من جذور الصراع بين المماليك والعثمانيين فلا أهمية هنا لمناقشة عديد الآراء حول تفسير هذا التغيير في الاتجاه نحو الشرق الذي اتخذه سليم الأول. فالفترة ما قبل عصر سليم قد مهدت الطريق وهيأت للصدام الحتمي، ومعظم هذه الأحداث قد عاصرها سليم واليًا. وقد أثرت في تكوينه السياسي وفي نظرته لدولة المماليك.

صراع ثلاثي

ولأن هذه الحرب في معظم الأحيان لم تكن في صالح العثمانيين. فهذا التحرك ناحية الشرق ليس مرده إلى إنقاذ العالم الإسلامي من التحرك الإسباني في البحر المتوسط أو خطرالبرتغاليين في المحيط الهندي، كما يقول بعض الباحثين المؤدلجيين. وإنما كان من أجل تصفية الموقف الملتبس في المشرق الإسلامي حول مسألة السيادة الإسلامية العليا. ففي مطالع القرن السادس عشر الميلادي، كان هناك تنافس عميق وعنيف في الشرق بين ثلاث قوى تعمل كل منهم على سيادة العالم الإسلامي. فبجانب دولة المماليك والتي كانت احتفظت بمقرالخلافة وتسيطرعلى ثلاث مدن إسلامية مقدسة وهي مكة والمدينة والقدس، وترى أنها دولة الإسلام العظمى ومركز ثقله. 

ثانيهم، الدولة العثمانية التي تعتبر نفسها أقوى دولة إسلامية منذ سقوط القسطنطينية على يد محمد الفاتح، الذي حاول إرساء بعض النفوذ العثماني المعنوي والمادي في بعض المدن المقدسة كمكة والمدينة. وكان أول من فطن له هو خشقدم كما وضحنا سابقا، وذلك حتى قبل أن يدرك السلطان قايتباي بصورة مؤكدة مجيء خطر الزحف العثماني صوب السلطنة المملوكية بتدخلهم في شئون إمارتا قرمان ودلقادر المشمولتين بالحماية المملوكية.

ثالثهم، الدولة الصفوية بقيادة الشاه إسماعيل التي حاولت الولوج إلى منطقة صراع  النفوذ على هذه المنطقة. اعتقد الصفويون أن القضاء على الدولة العثمانية سيؤدي حتما إلى اضمحلال وابتلاع دولة المماليك وليس العكس. فعلى خلاف ما يرى بعض الباحثين بأن المماليك قد أصبحوا قوة تابعة فعليا للعثمانيين بعد تدمير الأسطول المصري بمعركة (ديو)، فهناك من يرَ من المؤرخين الأتراك مثل كيلماز أزوتونا أنها قد أصبحت تابعة حتى قبل عهد السلطان سليم الذي وضع يديه فعليا وعمليا على الأسطول المصري. بل ومنذ عهد بايزيد الثاني الذي أرسل البعثات والمهمات الاستراتيجية والبحارة والفنيين العسكريين والجنرالات العثمانيين إلى مصر.

الخطط الصفوية

لطالما كانت السلطنة المملوكية تمر بفترة انحطاط وتدهور وآخذة في الآفول، وهذا ما كان يدركه جيدا الشاه اسماعيل. فإذا كانت الدولة العثمانية تمتلك قوة بحرية وبرية شرسة جالت بها شرقي أوروبا، كانت قوة فارس الصفوية تتنامى على نحو لم يسبق له مثيل. وقد كانت قوة المماليك أضعف من مجابهة العثمانيين أو الصفويين بحريا كان أو بريا، وهذه حقيقة لم يفطن لها بعد المماليك في مصر.

لذلك وبعد أن انتصر الشاه اسماعيل على دولة (ألاق قوينلو) داخل فارس الكبرى وجعل من تبريزعاصمة له، عمل على حملاته الهامة في ما وراء حدود فارس. فهاجم مرعش والبستان وإمارة دلقادر. ومنذ ذلك الحين، أعلن عن بزوغ قوى إقليمية جديدة، تقف ندا لند مع كل من المماليك والعثمانيين لسيادة المنطقة. فبعد فارس تطلع الشاه مدفوعا بأسباب سياسية ومذهبية واقتصادية  لضم العراق، والذي كان لا يزال تحت حكم مراد بن يعقوب بن مرزا أحد أحفاد أوزون حسن.

أسباب مذهبية

من حيث الأسباب المذهبية، عمل الشاه على نشر المذهب الإثنى عشري بحيث اعتبر نفسه المدافع الأول عن هذا المذهب الشيعي. واعتقد أن بنشره ذلك المذهب وسيطرته على العراق، يكون قد حازعلى مكانة رفيعة لدى المسلمين الشيعة بما للعراق من أهمية مذهبية. ولا شك أن العراق مركز المذهب وثقله بضمه مزارات وعتبات وجبانات أئمتهم وبه مجمل تراثهم، مما سيساعده على التوجه قدما نحو إقامة دولة شيعية كبرى.

أسباب اقتصادية

العامل الإقتصادي الواضح من فكرة ضم العراق، يكمن في الرقعة الزراعية الخصبة للعراق القادرة على تلبية حاجة سكان إيران الكبرى. يضاف إلى ذلك، رغبة الشاه في إحكام السيطرة على الطريق التجاري الرابط بين ديار بكر والموصل والذي يصب في عمق وادي الرافدين نحو الخليج العربي عبر بغداد، ومنه الولوج إلى بلاد الشام ومن ثمّ إلى عالم البحر المتوسط.

كانت هذه غايات وأهداف الشاه اسماعيل من ضم العراق، والتي كان قد ركن إليها مراد بن يعقوب. وأدرك مراد في الوقت نفسه عجزه عن أن يقف بمفرده أمام أطماع وطموحات الشاه، فلجأ للسطان الغوري الذي أدرك بدوره هو الأخر توجه الشاه صوب المشرق العربي حيث السلطنة المملوكية. فأراد الغوري أن يعد العدة ويرسل التجريدات والحملات للتصدى لتلك التحركات. وعلى ما يبدو أن تحركات البرتغاليين في المحيط الهندي وسواحل البحر الأحمر قد حالت بين الغوري وبين الشاه في ذلك التوقيت.

استغلال الظرف

واستغلالًا لهذه الظروف التي تمر بها السلطنة المملوكية، هاجم الشاه الحدود الشمالية الشرقية متمثلة في ملطية. فتصدى له علاء الدولة وأجبره على الارتداد إلى حدود دولته، قبل أن تدخل القوات الصفوية إلى داخل الحدود المملوكية عبر البيرة. من الناحية الأخرى وفي هذه الأثناء، بنى الشاه سياسته التوسعية على ركيزيتين.

خطة الشاه

أولا،عمل الشاه على عقد تحالفات مع القوى المؤثرة والمعادية للماليك والعثمانيين حينئذ. فيحدثنا ابن إياس عن أن حاكم البيرة قد ألقى القبض على شخص قبرصي يحمل خطابا من الشاه اسماعيل إلى بعض ملوك الفرنج وقناصلهم بدمشق والإسكندرية. ويدعوهم لأن يكونوا عونا له على سلطان مصر بأن: “يجوا هم من البحر لمصر ويجي هو من البر”. كما يطلب منهم العون بإرسال إمدادات عسكرية للقضاء على الدولة العثمانية. مما حدى بالسلطان المملوكي القيام باستدعاء سفراء الفرنج بكل من ثغر الاسكندرية ودمشق وطرابلس اعتراضا على جواسيس اسماعيل الصفوي.

وثانيا، عمل الشاه على بث المذهب الشيعي بالأناضول داخل الحدود العثمانية. فما كان من السلطان بايزيد الثاني إلا أن قام بإرسال الرسل للشاه اسماعيل لثنيه عن نشر مذهبه داخل حدود دولته. ولم يقم بايزيد بأي عمل جدي ضد تحركات الشاه الدعوية والسياسية، حيث أنه على الأغلب لم يقدر خطورة أطماع الشاه بتحركاته هذه. وظلت الأمور على حالها إلى أن تغيرت تلك المعادلة السياسية وانقلبت رأسا على عقب، بموت السلطان بايزيد الثاني وتولي ابنه السلطان سليم الأول سلطنة الدولة العثمانية. وقد لمع دور سليم الأول في عملياته ضد الصفويين وإدراكه للخطرالشيعي، منذ أن كان حاكما لطرابزون جراء جهود الشاه في تحويل الأناضول للمذهب الشيعي كخطوة للسيطرة على الدولة العثمانية من الداخل. مما كان سيؤدي إلى فتح الطريق أمامه لدى الإنكشاريين، وإجبار بايزيد الثاني تخليه عن عرش السلطنة له رغم كونه أصغر اخواته السلطان أحمد والأمير قورقود سنا.

قضاء سليم على الصفويين

يعتبر عهد سليم الأول البداية الحقيقية للصراع العثماني الصفوي سياسيا واقتصاديا وعقائديا. ومن أسباب ذلك أيضا خلافا لسعي الشاه في نشر المذهب الشيعي داخل حدود الدولة العثمانية، هو إيواء الإيوان الصفوي لعشرات الأمراء العثمانيين الهاربين من سليم الأول، خشية تنفيذ قانون نامة ضدهم أو تصفيتهم في صراعه الداخلي. وما أن فرغ سليم من بعض المراسم الدموية التي دأب العثمانيون على تنفيذها تأمينا لعرشه، إلا أن بدأت مساعيه في تجهيز جيشه لمحاربة الشاه والزحف نحو أزنيق وقونية وقيسارية. وعند موقع اسمه جالديران التقى الجمعان، فانهزم الصفويون وتشتتوا وحقق سليم بقواته انتصارا كبيرا. وزحف بقواته نحو العاصمة تبريز ولم يبق فيها سوى وقت قليل بعد ضغط من قادة جيشه بالمغادرة.

تلك كانت حلقة ثالثة من حلقات سلسلة بعنوان “في مسألة الغزو العثماني لمصر وللشام”.

المصادر:
ابن اياس بدائع الزهور في وقائع الدهور، أجزاء الثالث والرابع والخامس.
العراك بين المماليك والعثمانيين الأتراك لابن أجا.
إنباء الغمر بأنباء العمر لابن حجر العسقلاني.
أخرة المماليك لابن زنبل.
در الحبب في تاريخ أعيان حلب لابن الحنبلي.
حوادث الزمان في وفيات الشيوخ والأقران لابن الحمصي.
مفاكهة الخلان في حوادث الزمان لابن طولون.
مقالة نهاية سلاطين المماليك، دكتور محمد مصطفى زيادة.
المجتمع المصري تحت حكم العثماني مايكل وينتر.
تاريخ الدولة العثمانية، يلماز اوزتونا.
تاريخ المماليك، محمد سهيل طقوش.
دراسة بعنوان “التجسس في العصرين الأيوبي والمملوكي”، عبدالله عيد كمال.
تكوين العرب الحديث، سيار الجميل.
– التحفة البهية في تملك آل عثمان الديار المصرية، محمد بن أبى السرور الصديقي البكري.
الفتح العثماني للشام ومصر، أحمد فؤاد متولي.

تأخير الانهيار بين حكمة مملوكية وغضب عثماني، في مسألة الغزو العثماني لمصر

تحدثنا كتب التاريخ هنا أنه رغم انتصار المماليك على العثمانيين في أول صدام مسلح بين الطرفين بسبب علي دولات، فقد آثر قيتباي حقن الدماء وأرسل قاصده جاني بك بهدية فخمة لترضية بايزيد الثاني. غير أن صدى الهزيمة التي منى بها العثمانيين قد زادت نار العداوة والغضب لدى السلطان العثماني وحملته على الانتقام الثاني من قايتباي. في هذه الأثناء وعند تحرك قاصد المماليك بهدف الصلح، كانت أعمال التجسس العثمانية عاملة بشدة في سلطنة المماليك، لتهيئة الأمر لجعل مصر والشام إيالات عثمانية. فالمصادر العثمانية تتحدث وقتذاك عن شخص مملوكي يدعى خاير بك قدم من الشام، التقى مع علاء الدولة أمير ذولقادر فأرسله إلى الصدر الأعظم مصلح الدين بك حاملا معه الرسائل والأخبار لكي يعرضها على السلطان. والرسالة محفوظة في أرشيف طويقبوسرايي باستنبول تحت رقم 06201.

قد تكون هذه أولى خيوط الخيانة لخاير بك الذي لم تحدده المصادر التاريخية. وقد لعب خاير بك الدور الأهم في زوال سلطنة المماليك الذي كلف مصر استقلالها ومركزيتها لعدة قرون. وبدافع هزيمة بايزيد الأولى هذه، رفض كل نداءات الصلح واعتدى على حدود المماليك المجاورة لتخوم الدولة العثمانية. فسيّر له قيتباي حملة بقيادة القائد أزبك وانتهت معركتهما بهزيمة العثمانيين وأسر أحد أمرائهم وهو أحمد بك ابن هرسك.

عاود بايزيد الكرة بعد عام تقريبا بالمناوشة، فأرسل له قيتباي الأمير أزبك مرة ثانية. وقبل أن يصطدم الطرفان، أرسل ثمة جاسوس يدعى إياس رسالة للسلطان العثماني يصف له فيها الاضطراب الذي ساد مصر والشام على يد العربان بقيادة يونس بك ابن عمر وأحمد بك ابن طلحة وجمعة أمراء الفيوم، ويستحثه على اقتناص الفرصة لإخضاع دولة المماليك بإرسال سفنه إلى طرابلس الشام والإسكندرونة. وحرك السلطان العثماني أسطوله نحو شواطيء الاسكندرونة، إلا أن عاصفة عاتية هبت وأغرقت معظم قطعه ولم تنجح خطة بايزيد في قطع الطريق على قوات الأمير أزبك، كي لا يصل إلى أذنة الذي حاصرها ثلاثة أشهر حتى سلمت له. وعاد أزبك منتصرا وفي ركبه عددا من الأسرى العثمانيين الذين دخلوا في خدمة المماليك واقتطعت لهم ثكنات سميت ب”العثمانية” نكاية في بايزيد.

إصرار بايزيد أمام سيف أزبك

اعتزم بايزيد المضي في هذه الحرب حتى النهاية، فالديوان العثماني لم يكن قد اعتاد على إنهاء حرب لم تكلل بالنجاح، على حد تعبير المؤرخ التركي يلماز أزوتونا. فلم يكد الأمير أزبك يولى وجهه شطر إلى القاهرة، حتى تحركت حملة عثمانية ثالثة جنوبا صوب المملكة المملوكية بأطراف أسيا الصغرى. فرد عليها قيتباي بتسيير حملة عسكرية لحماية نيابة حلب على أن يدعمها بجيش كبير إذا تطلب الأمر ذلك. غير أن قيتباي ظل يبحث عن سبل عقد الصلح مع بايزيد الثاني لسوء أحوال الخزانة السلطانية جراء النفقات الحربية التي صرفت للحملة الأولى والثانية. ومن سوء الطالع في هذه الأثناء، أن المماليك الجلبان قاموا بإشعال فتيل الفتنة معترضين الأمراء وطالبين منهم أن ينفق السلطان لهم مقابل نصرهم على العثمانيين. وأمام رفض قايتباي لشح الخزانة السلطانية، تهيأ الجلبان للإقتتال وإشهار السلاح.

وبعد توسط  من الأمير أزبك تقرر صرف خمسين دينار لكل مملوك مع بداية السنة. وكانت أحداث الجلبان هذه كاشفة للضعف العام الذي مُني به النظام المملوكي. وتحت كل هذه الضغوط التي أحاطت بقايتباي، ظل يعلل النفس بآمال الصلح مع بايزيد في حكمة مملوكية وغضب عثماني. وآية ذلك كان وصول القاصد العثماني من قبل داوود باشا مدعاة إلى الأمل في الصلح. ويبدو أن قايتباي كان متشككا في جدية بايزيد في الصلح فعمل في الوقت نفسه على إتمام الإستعدادات العسكرية.

فبينما كانت مفاوضات الصلح جارية، وصلت الأخبار بأن جندًا عثمانية تجمعت قرب قيصرية. وأن علاء الدولة أرسل إلى قيتباي يخبره بوصول فرقة عثمانية إلى بلدة كولك قرب الحدود المملوكية. لذلك أعد بالقاهرة جيشا أعلن فيه على رؤوس الأشهاد أنه سوف يقود الجيش بنفسه إلى الشام. في هذه الأثناء تحرك أزبك بجيشه نحو الشمال وبعث ماماي الخاصكي كرسول إلى الفرقة العثمانية لبحث سبل التصالح، غير أن العثمانيين قبضوا عليه وسجنوه. ملّ أزبك الإنتظار، فتوجه بجيشه صوب العثمانيين وجلاهم عن كولك، ثم زحف منتصرا نحو قيصرية وهزم الحامية العثمانية هناك وأسر كثيرا من قادتها. ثم تحرك بجيشه نحو ماونده دون أي اشتباك أو قتال، وعاد إلى مصر ودخل القاهرة دخول الظافر المنتصر.

خطوة لتأجيل الانهيار المملوكي

لم يفرح قايتباي كثيرا بهذا الإنتصار الثالث والسريع على بايزيد الثاني. إذ توقع ما قد تثيره هذه الهزيمة من سوء طالع في نفس السلطان العثماني، من عزم على الإنتقام لشرفه العسكري. لا سيما والخزائن السلطانية خاوية على عروشها خاصة في ظل تدهور الأوضاع الداخلية عقب الحملة الأخيرة والتي تركت أثرا سلبيا على الاقتصاد المملوكي، مقابل الموارد العسكرية الطائلة للعثمانيين. فعقد مجلسا بقبة يشبك وشرح الموقف شرحا جليا بحضرة القضاة الأربعة وقال لهم: “بأن ابن عثمان ليس براجع عن محاربة عسكر مصر. وأن أحوال البلاد الحلبية قد فسدت وآلت إلى الخراب، وأن التجار منعوا ما كان يجلب إلى مصر من الأصناف. وأن المماليك الجلبان يرمون مني النفقة وإن لم أنفق عليهم شيئا نهبوا مصر والقاهرة وحرقوا البيوت.” لذلك اقترح قيتباي من القضاة أن يوافقوه على جباية أجرة سنة كاملة عن جميع ممتلكات الأوقاف، فوافقوه على جباية خمسة أشهر فقط، إضافة إلى جبايات أخرى بسائر مصر والشام، وامتلأت  القاهرة بأخبار الحرب، وعزم السلطان على أن يخرج هذه المرة على رأس الجيش.

إن المتأمل في خطبة أو خطاب قايتباي هذا أمام مجلسه، يجد صدى وإشارة واضحة لما قد آلت إليه أحوال البلاد من خراب بمصر والشام نهاية القرن التاسع الهجري أو الخامس عشر الميلادي. فحلب قد خربت عن آخرها وضاق الأمر بالناس ذرعا من عسكر المماليك وسلاطينهم. فمع كل تجريدة عسكرية على عدو لهم، يفرضون الضارئب الفاحشة على الناس ويسلبون التجار أموالهم. وإذا كانت دمشق هي قاعدة الجيش المصري للانطلاق نحو الشمال والتي تحملت عبء تكاليف الحملات العسكرية هذه قد تقهقرت وخربت، فالجنود المماليك قد عاثوا في الأرض فسادا ونهبوا وسرقوا وحلوا محل أهلها في سكنى الديار. مما أجبر نائبها يشبك الجمالي على ترك منزله والخروج من المدينة خوفا على حياته، حسب تعبير ابن طولون.

إسقاطات خطبة قايتباي على مستقبل المماليك

سيخلف ذلك السلوك الأثر السلبي على فلول عسكر المماليك بعد معركة مرج دابق. فحينما يعلم الحلبيون وأهل دمشق بهزيمة المماليك على يد سليم الأول، اتخذونها فرصة للإنتقام وتصفية ما يجدونه أمامهم من جنود. أما الشيء الأكثر خطورة في كلام قيتباي هو الإشارة إلى انحلال النظام الداخلي للجيش المملوكي وعقيدته التي كانت مبنية على أساس الطاعة العمياء لأستاذه والقناعة التامة بما يخصص له من نفقة أو إقطاع. فقد تداعى هذا النظام كثيرا وتصدع  بنيان وأساس النظام السياسي المملوكي. حيث باتت المماليك الجلبان آداة للفوضى والعدوان ضد أهالي البلاد الأمنين وشوكة في حلق كل سلطان مهددين بالثورات ضدهم كل حين وأخر. وتحت وطأة هذه الضغوط المالية على قايتباي وإنفلات جبهته الداخلية وأخبار الحرب الشاملة تدوي في القاهرة، فقد حدث ما لم يكن في الحسبان.

الدبلوماسية تنقذ الوضع

عاد القاصد المملوكي ماماي الخاصكي من البلاد العثمانية بصحبة قاضي قضاة بروصة الشيخ علي الجلبي، يحمل تفويضا بالصلح على شروط قايتباي. وهنا التقت مصالح المماليك والعثمانيين في الصلح ولكل أسبابه، وذلك على مضض من اتجاه كبير في مجلس الحرب العثماني. وكان باي تونس الحمصي المتوكل على الله -مدفوعا بتحركات الجيوش المسيحية بقيادة فيرديناند الخامس وزوجته إزابيلا الأولى لانتزاع غرناطة أخر المعاقل الإسلامية بالأندلس، ومحاولة توحيد قوتي العالم الإسلامي الأولى والثانية لتدارك الخطر الذي يواجه سكان الأندلس والشمال الإفريقي – هو من لعب دور الوساطة والاتفاق على إرجاع الوضع على ما كان عليه قبل الحرب. فعادت تبعية إمارة بني رمضان وذلقادر إلى المماليك، وإمارة قرمان تحت النفوذ العثماني. فأنقذت الحكمة المملوكية المماليك من الغضب العثماني ولو مؤقتًا.

يبدو أن أسباب الصلح العثمانية هي إعادة ترتيب الأوضاع وبحث سبل فهم أسباب تفوق المماليك في هذه الحرب التي ظلت طيلة ثمانية أعوام حسوما. فسياسة الدولة العثمانية العالمية التي بزغت منذ سقوط القسطنطينية، ألزمت جراء هذه الحرب المملوكية العثمانية الأولى توجيه الأنظار إلى جوقور أوفا التي احتلتها عدة مرات. وأظهرت ضرورة توسع العثمانيين في الأناضول ثم هبوطهم لا محالة إلى العالم العربي لحل مشكلة الحدود نهائيا. وحينها سيحشد العثمانيين كل قواهم في حربهم  الفاصلة ضد المماليك لسيادة العالم الإسلامي. ومعها ستذهب الدولة المملوكية من مسارح التاريخ إلى كتبه وتقبع في خيالات المؤرخين.

تلك كانت حلقة ثاني حلقات سلسلة بعنوان “في مسألة الغزو العثماني لمصر وللشام”.

المصادر:
ابن اياس بدائع الزهور في وقائع الدهور، أجزاء الثالث والرابع والخامس.
العراك بين المماليك والعثمانيين الأتراك لابن أجا.
إنباء الغمر بأنباء العمر لابن حجر العسقلاني.
أخرة المماليك لابن زنبل.
در الحبب في تاريخ أعيان حلب لابن الحنبلي.
حوادث الزمان في وفيات الشيوخ والأقران لابن الحمصي.
مفاكهة الخلان في حوادث الزمان لابن طولون.
مقالة نهاية سلاطين المماليك، دكتور محمد مصطفى زيادة.
المجتمع المصري تحت حكم العثماني مايكل وينتر.
تاريخ الدولة العثمانية، يلماز اوزتونا.
تاريخ المماليك، محمد سهيل طقوش.
دراسة بعنوان “التجسس في العصرين الأيوبي والمملوكي”، عبدالله عيد كمال.
تكوين العرب الحديث، سيار الجميل.
– التحفة البهية في تملك آل عثمان الديار المصرية، محمد بن أبى السرور الصديقي البكري.
الفتح العثماني للشام ومصر، أحمد فؤاد متولي.

نشأة فكرة الغزو العثماني لمصر وللشام ونبوءة ابن خلدون

نرفض من منظور تاريخي الحكم القائل بأن الغزو العثماني لمصر وللشام، إنما كان نتيجة لسلسة متصلة من سوء الفهم بين تحركات الغوري وسليم الأول. فلا يعقل أن يحرك كلاهما جيشًا بكامل لواءاته بلا هدف استراتيجي واضح المعالم، لذلك لا نتفق مع ما ذهب إليه الباحث مايكل وينتر ومن دار في فلكه من الباحثين العرب، من أنه حين قاد سليم جيشا قويا في شمال الشام لم يكن واضحًا ما إذا كان يوجه نحو المماليك أو الفرس، وأن تقدم الجيش المملوكي نحو حلب بقيادة قنصوه الغوري خطوة غير عادية. بل إننا نجد رواية عند ابن الحمصي في تناوله لأحداث شهر ربيع الأخر من عام 920 هجرية أي حتى قبل موقعة جالديران بثلاثة شهور يتحدث عن تجمع عسكري للعثمانيين بقيادة السلطان سليم وانتشار الأقاويل بأن مملكة الجراكسة هي المقصودة بهذا التمركز على ما سيأتي بيانه.

نشأة فكرة الإمبراطورية العالمية

لم تكن الأحداث التي دارت بين السلطان قنصوه الغوري والسلطان سليم هي ما أدت إلى الغزو العثماني لمصر والشام. فلم تكن وليدة فترة حكمهم، وإنما كانت لها جذور عميقة وممتدة في التاريخ وترجع إلى عهود سابقة عليهم. وما أعتقده أن فكرة ضم بلاد الشام ومصر للحظيرة العثمانية، هي فكرة قديمة لدى السلاطين  العثمانيين. فإذا كان العثمانيين يرجعون بأصولهم إلى قبائل رعوية يتنقلون من مكان لأخر، أخذين في ضم الأراضي تلو الأراضي ويوحدون القبائل والإمارات ويخضعونها تحت سطوتهم، وعاشوا طيلة تاريخهم في حروب دموية توسعية.

وإذا كان التاريخ العثماني في مجمله يمتاز بصبغة إسلامية في عقيدته السياسية والتوسعية ضمن فلسفة الجهاد. فبطبيعة الحال هنا أن يتطلعوا إلى إقامة دولة عالمية إسلامية، ولن تقم لهذه الدولة المزمعة قائمة دون تغيير محور ارتكاز العالم الإسلامي من شمال أفريقيا وغرب آسيا حيث وجود الخلافة العباسية بالقاهرة، إلى أقصى بلاد الجنوب الشرقي لأوروبا حيث القسطنطينة أواستنبول. فالفكرة وإن كانت قديمة، فإنما قد اختمرت واكتملت في خُلد العثمانيين لحظة سقوط القسطنطينية على يد محمد الفاتح  حينما بدأت الدولة طور الإمبراطورية في منتصف القرن الخامس عشر. ومنذ ذلك الحين، أصبحت هذه الفكرة استراتيجية عامة لدى سلاطين آل عثمان حتى نُفذت على يد السلطان سليم الأول.

في الوقت الذي كانت فيه القاهرة تسُر وتحتفل للانتصارات العثمانية في أوروبا لاسيما فتح القسطنطينية. لم تكن آراء محمد الفاتح في الدولة المملوكية وسلاطينها -كما يحدثنا المؤرخ التركي يلماز أزوتونا- آراءًا طيبة على أي حال، رغم إخفائها بدقة ومهارة. فالسلاطين المماليك بالنسبة لمحمد الفاتح ” عبيدًا شركسيين”  لا ينحدرون مثله من أوغزخان. وبينما هو الخلف الشرعي لبني سلجوق، وبني سلجوق هم أسياد أسياد ” الأتابكة الزنكيين” الأيوبيين الذين هم أسياد المماليك. لذلك فإذا كان المماليك يتمتعون بفضل الإسلام، فالعثمانيون قد تقلدوا سيفه.

نبوءة ابن خلدون

لم يدر في خلد سلاطين المماليك هذه الأفكار الخطيرة التي لدى العثمانيين عنهم أو رغبتهم في تحقيق الغزو العثماني لمصر والشام. كما لم يدر في خلدهم أيضا بطبيعة الحال بعد احتلالهم البلقان ودويلات أسيا الصغرى، أن العثمانيين سيعملون على إخضاع السلطنة المملوكية لهم. وكان تجسيد هذه الفكرة بطريقة عملية قد حدثت زمن السلطان خشقدم حينما أتاه قاصد من لدى محمد الفاتح عام 868 هجرية و1464 ميلادية حينما رفض السفير العثماني الإنحناء أمام السلطان المملوكي بالقاهرة. خالف السفير بفعلته الأعراف الدبلوماسية المتبعة آنذاك

“فلم يُقبّل الأرض على جاري العادة من القصّاد، فحنق منه السلطان ولم يخلع عليه، ولما قرأ مكاتبة ابن عثمان، لم يجد بها ألقابا بما جرت به العادة فزدات حنقه وكاد أن يفتك بالقاصد ويشوش عليه فمنعوه الأمراء من ذلك، وكان هذا سببا لوقوع العداوة بين سلطان مصر وبين ابن عثمان واستمرت الوحشة عمالة بينهما إلى دولة الأشرف قيتباي”على حسب تعبير ابن إياس. 

ونحن لا نتفق مع ما ذهب إليه ابن إياس من فهم هذا التصرف من السفير العثماني على علاته هكذا دون التعمق في فهم دلالاته. وإنما كانت الاختبار الحقيقي لتجسيد فكرة الأحقية بالزعامة الإسلامية الكامنة لدى العثمانيين منذ زمن طويل. وخلاف لابن إياس، هناك مؤرخ ألمعي أخر وهو ابن خلدون،  كان قد استقرأ هذه الفكرة عند العثمانيين وتنبأ بالوضع الذي ستؤول إليه تلك الوقائع السياسية نهاية المطاف. يحدثنا ابن حجر العسقلاني في كتابه “إنباء  الغمر” في وقائع سنة 797، من أن الظاهر برقوق كان يشير دائما إلى تحذير ابن خلدون له بمقولته “ما يُخشى على مُلك مصر إلا من ابن عثمان”. وهذا على الرغم من وجود الخطر التيموري وقتذاك، فالظاهر برقوق يقول: “لا أخاف من اللنك فإن كل أحد يساعدني عليه وإنما أخاف من ابن عثمان”.

حذر وريبة رغم خطر تيمورلنك

لا نتفق مع ما ذهب إليه د. محمد مصطفى زيادة في مقالته ” نهاية السلاطين المماليك في مصر”، من أن المتتبع لحوادث الشرق الأوسط من أوائل القرن الخامس عشر إلى أوسطه لا يستطيع أن يجد فيها ما يدل على احتمال وقوع الحرب المملوكية العثمانية. فالترجمة الحقيقية لفكرة ضم ممتلكات وأراضي السلطنة المملوكية إلى السلطنة العثمانية، إنما بدأت باكرا منذ عهد السلطان مراد الأول 1359-1382، حينما أرسل قصاده إلى السلطان برقوق ليحذره من مغبة تحرك تيمور لنك وخطره على المماليك أو العثمانيين سواء. ورغم مخاوف السلطان برقوق من هذا الخطر التيموري القادم نحو بلاده، إلا أنه كان يخاف أكثر وأكثر من أطماع العثمانيين في مملكته. وبالفعل صدقت مخاوف السلطان برقوق الذي كان قليل الثقة ببايزيد الأول. فالسلطان  بايزيد هاجم قيصرية، والتي كانت مشمولة بحماية المماليك. ولكن مع  تجدد الخطر التيموري تجاه الأراضي العثمانية، بادر بايزيد بالاعتذارعما بدر منه تجاه قيصرية، واتخذ من سياسة التقرب نهجا مع برقوق لأنه يعلم بأن لا نصير له سوى المماليك.

هكذا كانت سياسة العثمانيين المتبعة مع المماليك، غلب عليها الود وتبادل الهدايا بفضل عداوة الخطر التيموري. بل وقد تصل إلى حد التحالف وعدم إظهار أية أطماع لصد هذا الخطر المدمر. غير أن أطماع العثمانيين كانت تدفعهم من آن لأخر للإغارة على بعض مناطق مشمولة بحماية المماليك. ففي عهد السلطان فرج، أسفرت محاولة بايزيد الصاعقة عن إظهار وجه العثمانيين الحقيقي برغبتهم الدائمة في تزعم العالم الإسلامي وحرمان المماليك من هذا الشرف. ففي سنة 1400، استولى بايزيد الصاعقة على ملطية وحاصر دارندة. وبعدها حاول التقرب مع السلطان المملوكي لصد الخطر المغولي القائم، لكن تم رفض طلب التحالف بعد مشاورة أمرائه. وكانت هذه فرصة جيدة سنحت لتيمور لنك من هزيمة القوتين كلا على حده. فهزم المماليك بالقرب من دمشق عام 1400، وهزم بايزيد الصاعقة وأسره في موقعة “جوبوق أووه” بالقرب من أنقره من عام 1402. وهذه الهزيمة توصف في الأدبيات التركية بإحدى أكبر الكوارث والتي أخرت نمو العثمانية وفتوحاتها نحو نصف قرن بتعبير ” يلماز أزوتونا”.

الحدود الشمالية تشعل الخلاف

بتولية خشقدم عرش السلطنة المملوكية، ما لبست العلاقة أن ساءت مع السلطان محمد الفاتح نظرا لاصطدام مصالح الدولتين في مناطق شرق الأناضول وجنوبه. فبدأ العثمانيون يتدخلون في شئون بعض الإمارات المشمولة بحماية المماليك، كإماراتي ذو القادر وقرمان. وقد ارتكزت عليهما الدولة المملوكية في الدفاع عن أمن أطرافها الشمالية. فكانت إمارة ذو القادر أيام حكم سليمان بك الذي كان على علاقة  حسنة سواء بالمماليك أو العثمانيين، بيد أن كل طرف  كان يريد تنصيب أمراء معينين يضمن ولائهم. فتمكن شاه بوداق من حكم الولاية وتحالف مع المماليك، على غير رغبة محمد الفاتح الذي تدخل من جانبه وأستطاع أن يعين مكانه شاه سوار لتأكده من ولائه للعثمانيين. الأمر الذي حمل خشقدم على الغضب، غير أن القدر لم يمهله  الكثير للرد عليه.

وعندما قويت شوكة شاه سوار تمرد على العثمانيين فسنحت الفرصة للماليك لتجريد حملة عسكرية عليه، وتمكنوا من أسره وشنقه على باب زويلة ونصّب قيتباي مكانه شاه بوداق مرة ثانية. لم يستسلم محمد الفاتح للأمر، فقام بمساعدة علاء الدولة صنيعة العثمانيين الذي كان يسميه ابن إياس بعلي دولات وبه بُدء أول صدام مسلح بين الطرفين. فيقول ابن إياس: “إن أصل هذا الصراع، كان تعصب ابن عثمان لعلي دولات وكان ابن عثمان متحاملا على سلطان مصر في الباطن بسبب أشياء لم تبدو للناس”. وعلى ما يبدو أن السبب المباشر لهذا الصراع المسلح هو رغبة العثمانيين الإنتقام من المماليك لإيوائهم ومؤازرتها للأمير جم. فجهز بايزيد حملة عسكرية بمساعدة قوات تركمانية منشقة عن المماليك لمساعدة علاء الدولة لمهاجمة ملطية. فتصدى لهم تمراز الشمسي واستطاع أن ينزل هزيمة فادحة بالعثمانيين، وعادت القوات المملوكية لثكناتها العسكرية مكللة ببشائر النصر.

تلك كانت حلقة أولى حلقات سلسلة بعنوان “في مسألة الغزو العثماني لمصر وللشام”.

المصادر:
ابن اياس بدائع الزهور في وقائع الدهور، أجزاء الثالث والرابع والخامس.
العراك بين المماليك والعثمانيين الأتراك لابن أجا.
إنباء الغمر بأنباء العمر لابن حجر العسقلاني.
أخرة المماليك لابن زنبل.
در الحبب في تاريخ أعيان حلب لابن الحنبلي.
– حوادث الزمان في وفيات الشيوخ والأقران لابن الحمصي.
مفاكهة الخلان في حوادث الزمان لابن طولون.
مقالة نهاية سلاطين المماليك، دكتور محمد مصطفى زيادة.
المجتمع المصري تحت حكم العثماني مايكل وينتر.
تاريخ الدولة العثمانية، يلماز اوزتونا.
تاريخ المماليك، محمد سهيل طقوش.
دراسة بعنوان “التجسس في العصرين الأيوبي والمملوكي”، عبدالله عيد كمال.
تكوين العرب الحديث، سيار الجميل.
– التحفة البهية في تملك آل عثمان الديار المصرية، محمد بن أبى السرور الصديقي البكري.
الفتح العثماني للشام ومصر، أحمد فؤاد متولي.

هل غاب مفهوم الحرية عن الإسلام؟

عكف المسلمون على التمييز بشكل حاسم وصريح بين نمطين من أنماط الحرية. الأول هو الحرية بمعناها الفلسفي والوجودي، وكان يحمل بعدًا كلاميًا ميتافيزيقيًا. والثاني بمعناها الاجتماعي. لذلك نجد متكلمي الإسلام يعبرون عنهما بمصطلحين يختلف أحدهما عن الأخر، وهما “حرية الإرادة” و”حرية الاختيار”. فهل غاب مفهوم الحرية عن الإسلام؟

الحرية في الإسلام

ورغم التعريفات المختلفة للحرية، إلا أن هناك مفهومًا لها يعني تسليم الفرد للقانون والنظام الإلهيين. وهذا المفهوم ينطبق بشكل أو بأخر على الوضع السائد لها في الإسلام. فكما يقرر لويس غارديه في مؤلفه (فلسفة الفكر الديني بين الاسلام والمسيحية): “رغم كل الاختلافات، فإن المفهومين الإسلامي والمسيحي للحرية يشتركان في أمر واحد، كلاهما على حد سواء يقف ضد البحث اللامشروع عن حرية متوهمة ولفظية. فالمسيحي كالمسلم ليس عنده حس بالحرية إلا إذا كان على توافق مع نفسه ومع نظام أسمى.” ويقول معه كاتب أخر أن: “الحرية في الإسلام هي حرية مربوطة بالخضوع.” وهذا الوصف للحرية أو المأزق بالأحرى، هو مأزق للحرية في أي تراث ديني أخر.

وفي لسان العرب لابن منظور عن تحرير الولد يقول: “أن يفرده لطاعة الله عز وجل ولخدمة المسجد.” ومنه قوله تعالى: “إني نذرت لك ما في بطني محررًا فتقبل مني”. قال الزجاج: “هذا قول امرأة عمران، ومعناه جعلته خادمًا يخدم في متعبداتك”.

الحرية والشريعة

ولمن نافلة القول هنا أن نتحدث عن الارتباط العضوي بين مفهوم الحرية، والربط بينها وبين التعلق والتسليم بالأوامر الإلهية في فترة أبعد من ذلك زمانيًا. فلقد تطور في مناخ الأديان الموحدة قبل الحقبة المسيحية، فنرى عند الربّي البابلي أحابار يعقوب الذي عاش سنة 300 ميلادية، ألواح الشريعة الموسوية تعني “رقيم” أو harut وفهمها على أنها تعني “الحرية”. لذلك كانت “الشريعة” هي ذاتها “الحرية” عنده.

والخضوع للشريعة هو حرية. حيث استشهد المدراش اليهودي بالفقرة نفسها ليثبت أن “الإنسان الحر الوحيد في العالم هو الذي يطبق أحكام ألواح الشريعة”. وقد عبّر أيضًا متصوفة الإسلام وزهاده عن الفكرة نفسها بأشكال متمايزة. هذه الفكرة تبرز بأوضح معانيها في قصة لقمان السرخسي الذي يُروى أنه التمس من الله أن يحرره من عبوديته، أو من موقفه كعبد في مقابل الله. فكانت الحرية التي منحت له هي الجنون.

تاريخ الحرية في العربية

أما عن تاريخ مصطلح الحرية بمعناها المجرد في اللغة العربية، فليس واضحًا على الإطلاق إن كان قد استخدمت عند عرب ما قبل الاسلام. وأقصد هنا بمعناها المجرد البعيد كل البعد عن المعنى المجازي لها. فإذا قصدناها بمعناها المجرد فهي غائبة تمامًا، وربما في الثقافة الإسلامية كلها فضلا ًعن عرب ما قبل الحقبة الإسلامية. حتى وإن وجدت فستكون بالمعنى المجازي كالنُبل، والسؤدد، والكرم، والشرف، والفعل الحسن، وهذا ما ورد في لسان العرب لابن منظور، الحُرُّ : الفعل الحسن، يقال: “ما هذا منك بِحُرٍ أي بحسن ولا جميل. وفي هذا يقول “طرفة”: “لا يكن حبك داء قاتلًا، ليس هذا منك، ماوي، بِحُرّ، أي بفعل حسن.” ووردت أيضا كلمة الحرية بمعنى نبيل في شعر” ذي الرمة” حيث قال:

فصار حيًا وطبق بعد خوف، على حرية العرب الهزالي. أي على أشرافهم، والهزالي مثل السكارى.

الحر والعبد

ورغم أننا قد نجد عند عرب ما قبل الحقبة الاسلامية نزعة -وإن كانت من مبادرات شخصية- إلى فك الأسرى وعتق الرقاب، مثلما فعل بعض سادات القبائل العربية، فقد ذكر بعض العلماء أسماء رجال عاشوا في الجاهلية، عرفوا بعدم رضاهم عن الأسر، وذلك حسبما ورد في كتاب “المفصل في تاريخ العرب” لجواد علي ويقول: “فكانوا يدفعون مالًا مقابل فك رقبتهم، ومن هؤلاء سعد بن مُشمت بن المُخيل، وهو من رجال قبيلة “بني المخيل”، وكان قد آلى ألا يرى أسيرا إلا افتكه.” غير أنها تظل كمفهوم مفقودة في الثقافة الإسلامية قاطبة. ويظل استخدام كلمة “حر” مقابل كلمة “عبد” واضح المعنى، فالإنسان الحر يمثل كل الصفات النبيلة، في حين يمثل العبد كل ما هو شرير ودنيء في الطبيعة البشرية.

الحرية عن فلاسفة العرب

لعل مما يلفت النظر في تعريف الحرية عند متكلمي الاسلام وفلاسفته، هو الغياب التام لمفهوم الحرية والتردد فيه. مثلما الحال مع “الكندي” الذي تجاهلها في رسالته حول الحدود. ويشير “فرانز روزيتنال” إلى أن أقدم تعريفات الحرية في الشرق الإسلامي قد صدرت في الأعمال السريانية لـ “ميخائيل أوبازوذ” 800 ميلادية، حيث كتب يقول: “الحرية هي القوة غير المحددة للطبائع العاقلة التي تتعلق بالحواس والإدراك العقلي معًا”. هذا التعريف يمثل -معبراً عنه بطريقة رديئة- عن نتائج المناقشات اللاهوتية التي دارت آنذاك حول حرية الإرادة في أوساط الكنيسة الشرقية.

كما يصف “أفراييم السوري” الحرية بأنها: “هبة الله التي قدمها لآدم، فامتدحها؛ لأنّها صورة الله التي بدونها ينهار العالم، فالحرية وجدت لكي يستطيع الإنسان أن يختارها أو يرفضها. كما يمكن أن تكون موضوع قيود ينزلها الله وتحددها الشريعة، وعبثاً يحاول الشيطان احتواءها.” ويقول أيضا “فرانز روزينتال” أن الجدل والنقاش حول مفهوم “الحرية” في علم الكلام الإسلامي هو نفس الصورة القاتمة، إذا أُخذ بعين الاعتبار الصلات الوثيقة بين اللاهوت المسيحي وعلم الكلام الإسلامي. فكان الجدل الإسلامي حول مسألة حرية الإرادة، محاولة شكلية لتأكيد حيز منزوٍ للحرية في النسيج العام. وهذا الحيز على محدوديته، كان ينظر إليه كضرب من التجاوز تجاه القدرة الإلهية المطلقة.

الحرية في المعاجم الإسلامية

إذا ما بحثنا عن تعريفات “الحر” و”الحرية” عند مؤلفي المعاجم الاسلامية، فأول ما يلاحظ هو اكتفاؤهم بتعريف الحر بأنه عكس الرقيق. أي أن مفهوم الحرية، ظل كما هو دون تغيير عن معناه القانوني في حقب ما قبل التاريخ. بيد أن “الواحدي النحوي” المتوفى سنة 1075 ميلادية، قد حاول تقديم تفسير للحرية من وجهة نظر فقهاء اللغة. فأشار النحوي إلى أن اللفظ مشتق من حَر الذي هو ضد البرد؛ لأنّ الرجل الحر يمتلك كبرياء وأخلاقاً حاثة تبعثه على طلب الأخلاق الحميدة. أما “الأصفهاني”، فقد حاول في معجمه لمفردات القرآن أن يقدم تعريفًا للحرية يقيم تمايزًا بين بعدها الشرعي وبعدها الأخلاق، فحدد الحُر أولا بأنه يقابل العبد، ثم فرق بين ضربين من الحرية: “والحر خلاف العبد، يقال حر بين الحرورية. والحرورة والحرية ضربان: الأول من لم يجر عليه حكم الشيء نحو (الحر بالحر). والثاني، من لم تمتلكه الصفات الذميمة من الحرص والشره على المقتنيات الدنيوية، وإلى العبودية”. ومنه قول الشاعر: ورق الأطماع رق مخلد. وقيل: عبد الشهوة أذل من عبد الرق.

أما فخر الدين الرازي، فقدّم تعريفًا فلسفيّا للحرية. وعبّر الرازي عن حرية النفس، فـ”النفس إما ألا تكون تائقة بغريزتها إلى الأمور البدنية، وإما أن تكون تائقة، فالتي تكون تائقة هي الحرة…”. أما “الجرجاني”، فيعطي للحرية بعدًا صوفيًا في كتابه “التعريفات “، فعرفها بأنها في اصطلاح أهل الحقيقة، الخروج عن رق الكائنات وقطع جميع العلائق والأغيار، وهي على مراتب. حرية العامة عن رق الشهوات، وحرية الخاصة عن رق المرادات لفناء إرادتهم في إرادة الحق، وحرية خاصة الخاصة عن رق الرسوم والأثار لانمحاقهم في تجلى نور الأنوار.

خلاصة القول في غياب الحرية في الإسلام

تعرض المقال لتحليل مفهوم الحرية في الإسلام، والتمييز بين نمطين منها، الأول هو الحرية بمعناها الفلسفي والوجودي، والثاني بمعناها الاجتماعي. يرى البعض أن الحرية في الإسلام هي حرية مربوطة بالخضوع، وأن مفهوم الحرية في الإسلام يعني تسليم الفرد للقانون والنظام الإلهيين، وهو مفهوم مشابه لمفهوم الحرية في الأديان الأخرى.

أشار المقال أيضًا إلى الربط العضوي بين مفهوم الحرية والشريعة، حيث يرى البعض أن الخضوع للشريعة هو حرية، وهذا يتفق مع فهم الشريعة عند الربي البابلي أحابار يعقوب. وبالرغم من أن الحرية في الإسلام تحمل معانٍ مختلفة، إلا أن هناك توافق فيما بين المفاهيم الإسلامية والمسيحية للحرية، إذ يتفق الاثنان على رفض البحث عن حرية متوهمة ولفظية، ويتمسكان بضرورة التسليم للنظام الإلهي.

Exit mobile version