علم نفس الابتسامة: ما فوائد الابتسامة وأنواعها ودلالاتها؟

هذه المقالة هي الجزء 12 من 21 في سلسلة مقدمة في علم النفس

علم نفس الابتسامة: ما فوائد الابتسامة وأنواعها ودلالاتها؟

يقول أحد العلماء أن الابتسامة هي الوسط الأمثل للغموض. نحن نبتسم ونرى الابتسامات طوال الوقت حينما نكون سعداء، أو نتعامل مع الناس، أو نلتقط الصور. لكن هل يُمكن أن تخفي هذه البادرة الإنسانية البسيطة مزيدًا من التعقيد؟ دعونا نسكتشف ما فوائد الابتسامة وأنواعها ودلالاتها؟

ما الابتسامة؟

هناك عدد من الحقائق حول الابتسامة يتفق عليها العلماء وهي:

  • الابتسامة لغة عالمية مشتركة بين جميع البشر.

طرح داروين هذا السؤال وليتوصل إلى إجابته، عرض مجموعة من إحدى عشر صورة على ضيوفه وسألهم عن انطباعهم عنها. واتفقت إجاباتهم أن الصور تعبر عن السعادة والحزن والمفاجأة والخوف مع بعض المشاعر الأخرى، ومن هنا استنتج داروين أن هذه المشاعر عالمية يتعرف عليها جميع البشر.

  • الابتسامة فعل غريزي

هناك عدد من الدراسات تثبت أن الأطفال يبتسمون وعمرهم عدة أيام فقط، بل وتثبت دراسات أخرى أنهم يبتسمون داخل الرحم. بالطبع لم يتلق هؤلاء الأطفال أي تعليم للابتسامة مما يدل أنها فعل غريزي.

  • تستخدم الابتسامة كإشارات اجتماعية.

لا يبتسم البشر حينما يكونوا سعداء فقط، وإنما حينما يريدون نقل الشعور بالسعادة. أجريت أحد التجارب في صالات البولينج، حيث تم تصوير اللاعبين أثناء رمي الكرة وبعد إصابتهم جميع القطع. وجد العلماء أن هؤلاء الأشخاص لا يبتسمون عند نجاحهم في ذلك، وإنما تظهر الابتسامة حينما يلتفتون إلى أصدقائهم لينقلوا لهم الخبر السار.

  • لا تقتصر الابتسامة على البشر فقط، وإنما تظهر الرئيسيات أنواعًا من الابتسامات أيضًا.

هل تعبر الابتسامة دومًا عن السعادة؟

علم نفس الابتسامة: ما فوائد الابتسامة وأنواعها ودلالاتها؟

هذا هو الجزء الأكثر تشويقًا والذي يبحث فيه عدد من العلماء، على رأسهم «ماريان لافرانس-marianne lafrance» التي تعد خبيرة العالم الأولى في الابتسامة. يظهر البشر أنواعًا مختلفة من الابتسامات، وليس من الضروري أن تعبر جميعها عن السعادة.

قام أحد الطلاب في جامعة مينيسوتا عام 1924 بتجربة غريبة، جمع عددًا من الطلاب والأساتذة وعلماء النفس وأجلسهم في كراسي مريحة في غرفة واحدة وعرضهم لعدد من المؤثرات الغريية والخطيرة. بداية من وضع ألعابًا نارية تحت كراسيهم، وخداعهم بصعقهم كهربائيًا، وانتهاءًا بجلب فأر أبيض وسؤالهم قطع رأسه. تم تصوير وجوه المشاركين خلال جميع خطوات التجربة، وأمدتنا هذه الصور -رغم بشاعة التجربة وعدم أخلاقيتها- بنتائج مثيرة.

جاءت النتائج أن المشاركين لم يظهروا تعابير مثل الخوف أو الغضب بل أظهروا تعبير مشترك وهو الابتسامة!

فسر العلماء ذلك لاحقًا أن الابتسامة لا تعبر بالضرورة عن السعادة، وإنما يحتمل أن تعبر عن مشاعر مناقضة تمامًا، وفيما يلي سنتعرض للأنواع المختلفة للابتسامة.

أنواع الابتسامة

«ابتسامة دوشين-Duchenne smile»

سميت بهذا الاسم نسبة لعالم الأعصاب الفرنسي دوشين دي بولون الذي اكتشفها. اهتم دوشين بتعابير الوجوه، وكذلك بصعق الأشخاص كهربيًا، فكان يسرع إلى رؤوس الثوار الذين تم قطع رأسهم حديثًا ليصعقهم ويختبر ردود أفعالهم. حتى حالفه الحظ ووجد مريضًا مصابًا بانعدام الحس في وجهه وأجرى عليه جميع تجاربه.

اكتشف دوشين أكثر من 60 تعبيرًا للوجه، من بينهم الابتسامة. التي تتضمن رفع الخدين ووجود خطوط -تعرف باسم قدم الغراب- حول العينين. وتعد الابتسامة صادقة تعبر عن السعادة عندما يتوفر بها هذان المكونين.

ابتسامة الخوف

وتظهر الأدلة على وجود هذه الابتسامة في الرئيسيات. فيشير العلماء إلى إظهار حيوانات الشمبانزي نوعًا من الابتسامة حيث تفتح فمها وتضم أسنانها وتظهر لثتها. وتستخدم هذه الابتسامة عند وقت التوتر أو الخوف، لإظهار الخضوع للأفراد الأكثر هيمنة وقوة.

وبالرغم من أن الشعور بالخوف والابتسام لا يجتمعان عادة عند البشر، إلا أنه ثبت وجودهما عند الاطفال الصغار، الذين يظهرون ابتسامة حقيقية/دوشين عند رؤية أمهاتهم، وابتسامة الخوف أو التوتر عند اقتراب غريب.

فسر داروين هذه التصرفات بأنها يجب أن تخدم وظيفة تطورية ما، فكما فسر رفع البشر حاجبهم وقت الدهشة لزيادة مدى نظرهم وبالتالي سهولة الهروب من الخطر. فسر ابتسامة الشمبانزي أنها تظهر أسنانها مضمومة معًا لتعطي الإيحاء أنها مسالمة لا تنوي للخطر.

ابتسامة بان آم أو الابتسامة الزائفة

تختلف هذه الابتسامة عن ابتسامة دوشين في فقدانها لعنصر حركة العينين. وسُميت باسم «Panam- بان آم» نسبة إلى شركة الطيران الشهيرة، ونوع الابتسامة التي تظهرها مضيفات الطيران. فهي نوع من الابتسامة المهذبة التي تظهر وقت التحية ولا تعكس بالضرورة شعورًا بالسعادة.

ووجد العلماء أن حوالي 71% من الأشخاص يمكنهم التحكم في حركة العين بشكل إرادي، وبالتالي إظهار ابتسامة زائفة على أنها ابتسامة حقيقية.

ابتسامة الازدراء

وهي نوع آخر من الابتسامة التي لا تعكس بالضرورة شعورًا بالسعادة، رغم أنها تشبه إلى حد كبير ابتسامة دوشين. الفرق بينهما هو زم جانبي الفم في حالة ابتسامة الازدراء.

تعكس هذه الابتسامة مزيجًا من شعور الازدراء والاحتقار، وتظهر بشكل واضح في مجتمعات شرق آسيا التي تحرص على استمرار التناغم المجتمعي وعدم خوض صراعات. فنجد أن الأفراد هناك لا يظهرون غضبهم، وإنما يخفونه تحت ستار ابتسامة الازدراء.

ابتسامة الخجل

تظهر هذه الابتسامة في المواقف عالية التوتر التي تتضمن مخاطرة، وتريد عندها ترك انطباع إيجابي. تشبه هذه الابتسامة ابتسامة دوشين إلا أنها تتضمن حركة الرأس إلى الأسفل والجانب مع تجنب التواصل بالعينين.

فوائد الابتسامة

الابتسام فعل رائع، يجعلنا نشعر بشعور جيد حيال أنفسنا وحيال الآخرين أحيانًا. لكن الأمر لا يتوقف عند هذا الحد، يكاد يكون للابتسامة قوى خارقة لا ندرى عنها شيئًا. فما هي؟

  • يحسن الابتسام المزاج العام ويرفع من شعورك بالسعادة.

يشير أحد علماء النفس أن الابتسام يشبه إقامة حفل رفع معنويات لعقلك، فيزيد من معدل إفراز الدوبامين والسيروتونين والإندورفين. فيعمل الإندورفين كمسكن طبيعي للألم.

  • يزيد الابتسام من شعورك بالسعادة أكثر مما تفعل الشوكولاتة.

يشير عالم النفس الشهير رون جوتمان أن ابتسامة واحدة يمكنها أن تولد إثارة مخية بكمية تعادل تلك التي تولد عند أكل ألفي لوح شوكولاتة.

  • يتوقع الابتسام مدى نجاح علاقاتك على المدى الطويل.

قام جوتمان بتحليل العلاقات بين الأزواج، وتوقع ما إذا كان سيدوم زواجهم أم لا عن طريق أنواع الابتسامات التي يظهرونها لبعضهم.

  • يحسن الابتسام مظهرك أمام الآخرين.

عندما تبتسم، يزداد تقدير الآخرين لك، بمعنى أنهم يرونك مهذبًا ولطيفًا وأكثر كفاءة. ومن البديهي فهم كيف يجعلك الابتسام مهذبًا ومحببًا. لكن كيف يجعلك كفؤًا؟ تكمن الإجابة أن البشر يميلون إلى تفسير الحزن أو القلق أنه نقص خبرة أو كفاءة. لذا ربما الابتسام هو طريقك للنجاح في عملك!

  • تتنبأ ابتسامتك الآن بمدى سعادتك في المستقبل.

درست أحد التجارب العلاقة بين صور الطلاب في المرحلة الثانوية في فترة الخمسينات وشكل ابتسامتهم، وبين مدى سعادتهم في الوقت الحالي. وجد العلماء أن الطلاب الذين ابتسموا في صورهم أكثر سعادة وقدرة على تخطى العقبات من الطلاب الذين لم يبتسموا.

كذلك أظهرت الدراسات بعض الأدلة عن وجود علاقة بين الابتسامة وأعمار الأشخاص. الأشخاص ذوي الابتسامات في شبابهم يعيشون عمرًا أطول من هؤلاء قليلي الابتسام.

  • يجعلك الابتسام أكثر جمالًا.

أجريت أحد الدراسات على طلبة جامعيين طُلب منهم تقدير أعمار الأشخاص في الصور، وجاءت النتائج أنهم يتوقعون أن المبتسمين في الصور أصغر سنًا مما هم عليه في الواقع. كذلك ينطبق الأمر على الوزن، فيجعلك الحزن تبدو أكثر وزنًا وأكبر سنًا.

علم نفس الابتسامة: ما فوائد الابتسامة وأنواعها ودلالاتها؟

والآن بعد أن تعرفنا على واحدة من الأمور المشتركة التي تجمعنا كبشر وغير بشر معًا وهي الابتسامة، كذلك تعرفنا على أنواعها ودلالاتها المختلفة، وقواها الخارقة التي تعينك في كثير من جوانب حياتك. فلا تنس أن تبتسم، الابتسامة حقًا قد تنير لك الطريق!

اقرأ أيضًا: نظرة في تطور المشاعر

المصادر

Natgeo
BBC
psychologytoday

لماذا نخاف ؟ لماذا نحب أطفالنا ؟ لماذا نكره الخيانة ؟ نظرة في تطور المشاعر

هذه المقالة هي الجزء 11 من 21 في سلسلة مقدمة في علم النفس

لماذا نخاف ؟ لماذا نحب أطفالنا ؟ لماذا نكره الخيانة ؟ “ليتني أستطيع التحكم بمشاعري، ليتني أنحيها جانبًا واعتمد على عقلانيتي فقط في الحكم على الأمور”.هل سمعت هذا الكلام من قبل؟ ربما حدثك به صديق أو قلته لنفسك؟ يمكننا الجزم أن أغلبنا بالفعل سمع أو تحدث به. لكن هل التخلص من المشاعر نافع حقًا؟ لماذا نخاف ؟ لماذا نحب أطفالنا ؟ لماذا نكره الخيانة ؟

لماذا نخاف ؟ لماذا نحب أطفالنا ؟ لماذا نكره الخيانة ؟

النظرية الخاطئة للمشاعر

لمعرفة الإجابة سأقص عليك أولًا قصة صغيرة:
في الرابع والعشرين من سبتمبر عام 1848، تعرض الشاب «فينياس جايدج-phineas gage» صاحب الخمسة وعشرين عامًا لحادث مروع. عمل جايدج رئيسًا للعمال في منجم، وأثناء تأديته عمله حدث انفجار مفاجئ، أُصيب جايدج على إثره بأنبوب طوله متر تقريبًا دخل من خده الأيسر ليخرج من مؤخرة رأسه “ملطخًا بقطع من مخه” كما أدلى الطبيب المُستدعى إلى مكان الحادث.

المدهش أن جايدج لم يمت بعد هذا الحادث، ولم يفقد حتى الوعي، بل ركب على ظهر دابة حتى وصل إلى المشفى، وهناك تولى الطبيب علاجه حتى استقرت حالته بعد مدة. لو انتهت القصة هنا لقلنا هذا مثال رائع لحسن حظ جايدج وخبرة الطبيب المعالج. لكن لسوء الحظ، لم يحدث هذا.

لاحظ الطبيب تغير سلوك جايدج ووصفه بالطفولي المتقلب. لم يستطع جايدج التحكم في رغباته، وأهمل عمله حتى خسره، وانتهى به الأمر بترك عائلته والالتحاق بسيرك متنقل مع الأنبوب الذي أصابه!
تقدم لنا هذه القصة مثالًا رائعًا عن الفكرة الخاطئة عن المشاعر. التخلص من المشاعر ليس أمرًا جيدًا، والفصل بين العقلانية والمشاعر ليس منطقيًا. فنجد جايدج فقد جزءًا من قدرته الشعورية بسبب الحادث، وترتب على ذلك تأثر نشاطه العقلي بشكل كبير.

حالة فريدة

لفهم ذلك بشكل أوضح، سأقص عليك قصة أخرى.
بطل هذه القصة مريض لعالم الأعصاب «أنطونيو داماسيو-Antonio damasio» يُدعى إليوت. عمل إليوت في شركة تجارية، كان موظفًا ممتازًا وزوجًا مسئولًا. إلى أن أتته بعض نوبات الصداع اكتشف بعدها إصابته بورم في المخ. تم استئصال هذا الورم مع جزء كبير من الفص الأمامي من المخ ومن هنا بدأت المشكلة.

لم تتأثر ذاكرة إليوت بعد العملية، أو إدراكه، أو حتى معدل ذكائه، لكنه فقد القدرة على اتخاذ قرارته. كان إليوت يقضي الظهيرة بأكملها محاولًا إيجاد طريقة لتصنيف ملفات عمله، هل يصنفها حسب التاريخ أو الحجم أو النوع؟ ونتيجة لتأثر أدائه فقد إليوت عمله، كذلك انتهى زواجه سريًعا ولم تتحسن حالته مجددًا.
فقد إليوت جزءًا من مشاعره، لم يستطع التواصل مع ما يجلب له السعادة أو الحزن أو الغضب أو الخوف. عندما عرض عليه طبيبه صورًا تنقل هذه المشاعر، قال إنه يتذكر هذه المشاعر لكنه فقط لم يعد يختبرها. وهو ما وصفه الطبيب “أن تعرف لكن لا تشعر”
نتيجة لهذا الخلل تأثرت قدرات إليوت على اتخاذ القرارات، وهذا مثال آخر على عدم التعارض بين العقلانية والمشاعر. فبدون المشاعر لن نتمكن من فعل أي شيء.
لذا عندما يشكو لك صديقك مشكلته المرة القادمة، صرت تعرف ماذا عليك إخباره!

السؤال الأهم: لماذا؟

والآن بعد أن تعرضنا للنظرة الخاطئة عن المشاعر، دعنا نسرد الرواية الصحيحة لها.
يقول الفيلسوف ويليام جيمس

هناك عدد من الأسئلة تخطر في ذهن عالم النفس فقط. مثل: لماذا نبتسم عندما نشعر بالسعادة؟ لماذا لا نتجهم؟ لماذا لا نستطيع التحدث إلى جمهور كبير كما نتحدث مع صديق؟ ولماذا تثير فتاة معينة مشاعرنا بالكامل؟

وهنا يثير جيمس نقطة هامة، أننا نتعامل مع المشاعر كأنها حقائق مطلقة عن العالم، تحدث لأنها تحدث ولا بديل لذلك. أما التفسير فيكمن في علم النفس التطوري.
يجبرنا علم النفس التطوري على رؤية الأحداث بشكل علمي، أن نبتعد عن كونها طبيعية وغريزية ونتحرك خطوة للوراء لنسأل السؤال الأهم: لماذا؟
لماذا نخاف؟ لماذا نحب أطفالنا؟ ولماذا نكره الخيانة؟
تلك هي التساؤلات الثلاثة الكبري التي سنتعرض لها ونفسرها في مقال اليوم. نظرة في تطور المشاعر: لماذا نخاف؟ لماذا نحب أطفالنا؟ لماذا نكره الخيانة؟

لماذا نخاف؟

تنقسم المشاعر إلى مشاعر غير اجتماعية مثل الخوف ومشاعر اجتماعية مثل المشاعر تجاه الأقارب، وغير الأقارب.
الخوف شعور أساسي، وعالمي (يشعر به جميع البشر)، وله تعبير وجهي مميز يمكن لكل البشر التعرف عليه، كذلك تمتلكه معظم الفصائل غير البشرية. والسبب وراء تصنيف الخوف تحت بند المشاعر غير الاجتماعية هو أنك يمكنك أن تخاف شخصًا، كذلك يمكنك أن تخاف شيئًا مثل الأماكن المغلقة. وذلك على عكس المشاعر الاجتماعية التي تختص بالبشر فقط.
هناك مثيرات عالمية للخوف مثل: الثعابين والعناكب والعواصف والمرتفعات والظلام والمياه العميقة والحيوانات الضخمة. لكن ما الأمر المشترك بينهم جميعًا؟
الإجابة أن هذه المثيرات كانت مخيفة ومهددة للحياة في بيئة أجدادنا. فشكلت خطرًا على مدار التاريخ التطوري لنا، وانتقلت هذه المعلومات على مر الأجيال. لذا بالمقارنة بالسيارات والأسلحة ومفاتيح الكهرباء -رغم زيادة معدل خطرهم علينا في البيئة الحالية- نجد أننا لا نخافها مثل الثعابين مثلاً، لأنها اختراعات مستحدثة لم تؤثر في تاريخنا التطوري.
هناك دراسة تمت على أطفال نشأوا في ضواحي شيكاغو، سُئلوا عن أكبر مخاوفهم. وجاءت الثعابين والعناكب في المركز الأول، ليس القتل أو الأسلحة أو التعرض لحادث سيارة.
دراسة أخرى تمت على نوع من القردة، نشأت هذه القردة في المعمل فلم تتعرض لهذه المؤثرات قبلًا في الطبيعة. عُرضت عدة مقاطع لمجموعة من القردة ترى ثعبانًا فيظهر عليها الخوف وتبتعد عنه. ثم عُرضت قردة المعمل على ثعبان فأظهرت خوفًا كبيرًا. لكن هذا لم يثبت شيئًا، ربما خوف القردة من الثعابين فطري وريما اكتسبته من رؤية المقاطع، لذا قام العلماء بخطوة إضافية. نجحوا باستخدام تقنيات تعديل الصور والفيديو في عرض عدة مقاطع لقردة تخاف الزهور وتبتعد عنها. وعند تعريض قردة المعمل لنفس المؤثر. لم يظهروا أي خوف.
لذا توصل العلماء أن البشر والرئيسيات على حد سواء لديها النزعة للخوف من الثعابين أو العناكب، لأن تلك الكائنات شكلت خطرًا على أجدادنا، والأفراد الذين خافوها وتجنبوها استطاعوا النجاة والبقاء والتكاثر، وهذا هو الهدف التطوري الذي نسعى له جميعًا. نظرة في تطور المشاعر: لماذا نخاف؟ لماذا نحب أطفالنا؟ لماذا نكره الخيانة؟

لماذا نحب أطفالنا؟

ذكرنا سابقًا أن المشاعر الاجتماعية تشمل مشاعرك تجاه اقاربك، وغير أقاربك. جميعنا نحب أبنائنا وأخوتنا وآبائنا، لكننا أسلفنا أن علم النفس التطوري يسأل دومًا السؤال: لماذا؟
لماذا تطور البشر ليصبحوا طيبين وعطوفين؟ ما تفسير هذا السلوك الإيثاري؟
يكمن السر هنا في التكاثر وليس البقاء، لا تساعد الطيبة والإيثار والعطف على بقاء الإنسان، فمن المحتمل أن يدفعك الحب إلى التضحية بروحك من أجل ابنك مثلاً. لكنها تساعد على التكاثر وتكرار الجينات، وهذا هو الهدف الأكبر.
تخيل معي اثنين من الحيوانات يحملان جينين مختلفين، أحدهما يجعل الحيوان يهتم بذريته والآخر يجعله يهتم بنفسه فقط. ماذا سيحدث في الجيل التالي؟
سيتفوق الحيوان الذي تطور ليهتم بذريته -من وجهة نظر الانتقاء الطبيعي- على الحيوان الذي يهتم بنفسه فقط، لأن جيناته ستنتقل وتتكرر عبر الأجيال.
وتعرف هذه النظرية باسم نظرية «الجين الأناني-Selfish gene theory» لصاحبها العالم ريتشارد دوكينز. وتعد واحدة من أشهر النظريات وأكثرها جدلًا في علم بيولوجيا التطور التي شهدها القرن الماضي.

نظرية الجين الأناني

دعنا نتعمق قليلًا في نظرية دوكينز، ولفعل ذلك علينا تبني منظورًا مختلفًا. وهو منظور فيروس نزلة البرد. لماذا نعطس عندما نصاب بالبرد؟
أحد الإجابات أن الجسد يود التخلص من الجراثيم بداخله. لكنها ليست صحيحة تمامًا. تأتي الإجابة الأكثر تشويقًا عند التخلي عن المنظور الأناني (أنا مصاب بنزلة برد)، وتبني منظور فيروس نزلة البرد: تطورت الفيروسات عبر السنين مثل باقي الحيوانات، وجاء تطورها عن طريق البقاء والتكاثر. ووسيلة الفيروس للتكاثر هو جسمك، والتحكم به كي تعطس وتطرده خارجًا لينتشر ويتكاثر.
يستخدم الفيروس جسمك كأداة للتكاثر!
مثال آخر: أحد تأثيرات الأمراض المنتقلة جنسيًا مثل الزهري أنه يزيد الرغبة الجنسية ويدفع الناس إلى الانخراط في المزيد من العمليات الجنسية. هذه هي وسيلة الفيروس في الانتشار.
يوجد الجين الأناني أيضًا في الحيوانات. مثل طفيل «المقوسات-Toxoplasmosis» الذي يعيش في أجساد الفئران، ثم ينتقل إلى أجساد القطط التي تتغذى عليها، ومنه إلى فضلات القطط ثم أجساد الفئران مرة أخرى. الفأر المصاب بداء المقوسات معافٍ تمامًا، باستثناء أمر واحد فقط: يعدل الطفيل مخ الفأر ويجعله أقل خوفًا من القطط، وهذه هي آلية الطفيل لاستخدام جسد الفأر للتكاثر.
إذًا يرى دوكينز أن جسد الحيوان هو وسيلة الجين لصنع جين آخر/التكاثر. لكن ما أهمية هذا في علم النفس؟ وكيف يجيب عن سؤال الطيبة والإيثار؟

تطبيق نظرية الجين الأناني في علم النفس

قبل الإجابة عن هذا السؤال، دعونا نوضح اثنين من المفاهيم الهامة في علم النفس: «السببية القصوي والمباشرة-Ultimate and proximate causation»
السببية المباشرة: هي تفسير سلوك الحيوان وفقًا لآلياته الداخلية وعوامل الإثارة.
السببية القصوى: هي تفسير سلوك الحيوان وفقًا للتطور، كيف يساهم هذا السلوك في الانتقاء الطبيعي؟
لذا عندما سُئل أحد المفكرين: هل تضحي بحياتك من أجل أخيك؟
أجاب: لا، لكني سأمنحها بكل سرور لثلاثة أخوة، وخمسة من أبناء الأخ، وتسعة من أقارب الدرجة الأولى.
وهو بالطبع يمزح، لا يوجد شخص سوي يحسب هذه الحسابات عند التعامل مع أبنائه أو إخوته. إننا نحبهم لأننا فقط نفعل، نشعر بالسعادة في وجودهم، ونلجأ إليهم وقت الحاجة، نحب منحهم وقتنا ومالنا وربما أرواحنا، دون أن نسأل لماذا. وهذا بالتحديد السبب المباشر للإيثار.
أما الإجابة الأكثر علمية والتي تفسرها نظرية الجين الأناني: هي إجابة المفكر السابقة. نحن نحب أبنائنا وإخواننا وأقاربنا لأننا نتشارك معهم نفس الجينات. وإذا خُير الجين الأناني بين التضحية بالجسد الذي يسكنه، أو موت عدد من إخوته، سيختار التضحية. لأنها صفقة مثالية، حيث يحمل إخوته نفس جيناته، ويضمن بقائهم التكاثر وتكوين عدد أكبر من النسخ. وهذه هي السببية القصوى التي تفسر الإيثار من وجهة نظر الانتقاء الطبيعي. نظرة في تطور المشاعر: لماذا نخاف؟ لماذا نحب أطفالنا؟ لماذا نكره الخيانة؟

لماذا نكره الخيانة؟

لم يواجه التطور صعوبة كبيرة في تفسير المشاعر تجاه الأقارب، بما أن التطور مدفوع بقوى تهدف إلى تكرار الجين وتكاثره، فمن المنطقي أن تحب الحيوانات ذريتها وتعتني بها، لأنها حاملة جيناتها. لكن الأمر المحير حقًا هو علاقات البشر والحيوانات بغير أقاربها، كيف تعود هذه العلاقات المعقدة بالفائدة من وجهة نظر الانتقاء الطبيعي؟

تظهر أمثلة كثيرة لهذا النوع من العلاقات في الطبيعة. منها:

  • اعتناء الحيوانات بنظافة بعضها البعض، كما يحدث في القردة فتجدها تزيل الحشرات من أجساد رفاقها.
  • إطلاق صرخات تحذيرية عند اقتراب الخطر، رغم تهديد هذا الفعل لحياة صاحبه.
  • ترعى الحيوانات أطفال أحدها الآخر. ومن وجهة نظر تطورية بحتة، من الأفضل أن تلتهم هذه الحيوانات الأطفال، فهي مصدر البروتين كذلك لا تحمل جيناتها. لكن ما يحدث عكس ذلك.
  • تتشارك الحيوانات الطعام كما يحدث في الخفافيش.

الإيثار المتبادل

تعمل الخفافيش معًا في نظام دقيق، حيث تذهب مجموعة للصيد وجمع الدماء وتعود لتوزيعه على باقي الأفراد. وبهذا تتبع الخفافيش مبدأ «الإيثار المتبادل-Reciprocal alturistim»
بمعنى أن العمل معًا يعود بفائدة أكبر من العمل وحيدًا، أي تفوق المنفعة التكلفة.
فعندما يبدأ أحد الخفافيش بالإيثار يعود الأمر بالفائدة عليه، لأنه سيلتقي مساعدة في المقابل.
لو توقف الأمر عند هذا الحد، لصار التفسير سهلًا. نحن نعطي ونتوقع أن نأخذ في المقابل، أي تفوق المنفعة التكلفة، هذا ليس هدفًا تطوريًا سيئًا، أليس كذلك؟
لكن اللغز لا يتوقف هنا، حيث تظهر مجموعة من الغشاشين أو ما يطلق عليهم علماء الاقتصاد: المنتفعين بالمجان.
تخيل معي اثنين من الجينات، الجين الأول لخفاش يخرج للصيد ويشارك ما يحصل عليه مع باقي الأفراد. والجين الثاني لخفاش لا يخرج للصيد لكنه ينتفع مما يجلبه الآخرون. أيهما أكثر تفوقًا تطوريًا؟
الجين الثاني يحصل على كميات طعام أكبر وعمل أقل، وبالتالي يتفوق بلا شك على الجين الأول.
لكن أين التفسير؟ إذا كانت آليات الغش والانتفاع بالمجان أكثر تفوقًا، فكيف تطورت آليات التعاون وترسخت هكذا؟
تكمن الإجابة في «اكتشاف الغشاشين-Cheaters Detection»
لا يمكن للايثار المتبادل العمل إلا إذا كانت الحيوانات مهيئة مسبقًا لاكتشاف الغشاشين.
لفهم ذلك أكثر، دعني أسرد لك هذه التجربة.
تابع العلماء عشًا للخفافيش، وراقبوا نشاط خفاش معين خرج للصيد ثم عاد بعد فترة حاملًا الدم ليوزعه على رفاقه. لكن العلماء قاموا بطريقة ما بمنع هذا الخفاش من مشاركة الدم مع رفاقه. فماذا حدث؟
عندما خرج أفراد آخرون للصيد وعادوا بالدماء، لم يشاركوه الطعام وتركوه يتضور جوعًا.
ومن هنا نستنتج أن الاختيار الأفضل دائمًا هو التعاون، تعلمت الحيوانات هذا النظام، ونشأ من إيثارها المتبادل علاقات معقدة ومدهشة.
وبالطبع يظهر الإيثار المتبادل في البشر أيضًا، بل ويجادل بعض علماء النفس أن هذه الحساسية تجاه الغشاشين والتركيز على عملية الايثار التبادلي لها دور هام في تطور السلوك الاجتماعي عند البشر.

معضلة السجين

التفسير الكلاسيكي لهذا الرأي يأتي باستخدام «معضلة السجين-Prisoner’s dilemma»
معضلة السجين هي لعبة يستخدمها الباحثون في علم النفس لمعرفة متى يختار البشر التعاون أو الخيانة. لهذه اللعبة صور كثيرة، لكن الشكل الكلاسيكي لها كالتالي:
أنت وصديقك قررتما السطو على بنك لكن قُبض عليكما، فيأتي إليك الضابط ليعرض عليك مجموعة من الخيارات.

  • تخون وتعترف على السجين الثاني، فيُطلق سراحك ويقضي هو مدته في السجن.
معضلة السجين (حقوق الصورة: University of Michigan Heritage Project)
  • تتعاون ولا تشي بالسجين الثاني، بينما هو يشي بك، فيطلق سراحه، وتقضي أنت مدتك في السجن.
  • تتعاونا معًا ولا يشي أحدكما بالآخر، فيطلق سراحكما.
  • تشيا بأحدكما الآخر، فتذهبا كلاكما إلى السجن.


عند تحليل هذه الاختيارات، نجد أن أحسنها هو أن يتعاون كلاكما معًا فلا يُسجن أحد. وأسوأها أن تشيا ببعضكما فيذهب كلاكما إلى السجن.
لكن الاختيار الأسلم في كل مرة هو الخيانة، فأنت لا تضمن تعاون صديقك معك. لذا إذا اخترت الخيانة واختار صديقك التعاون فستخرج حرًا، وإذا اخترت الخيانة وكذلك صديقك فلن ينتهي بك الأمر وحيدًا في السجن.
وبتحليل الاختيارات المختلفة لمعضلة السجين، وجد العلماء أن مشاعرنا تتناظر مع كل اختيار منها:

  • نحب الأشخاص الذين يتعاونون معنا، ونتشجع أن نكون أكثر لطفًا معهم في المستقبل.
  • لا نحب أن يخدعنا أحد، يجعلنا هذا نشعر بالغضب والخيانة، ويحفزنا لتجنبهم في المستقبل.
  • نشعر بالسوء حينما نخون شخص تعاون معنا، ويحفزنا ذلك للتعامل بشكل أفضل في المستقبل.

نظرة في تطور المشاعر: لماذا نخاف؟ لماذا نحب أطفالنا؟ لماذا نكره الخيانة؟

والآن بعد أن تعرضنا لسؤال المشاعر وتفاصيله الدقيقة، وتعرفنا على الحالات المؤسفة لاختلال العقل نتيجة فقدان جزء من المشاعر، وفسرنا الرؤية الصحيحة لها، وأجبنا عن الأسئلة الثلاث الأكبر: لماذا نخاف؟ لماذا نحب أطفالنا؟ لماذا نكره الخيانة؟
في المرة القادمة التي تبتسم فيها، أو تتجهم، أو تستمتع بصوت ما، ويزعجك آخر، تذكر ألا تنظر إلى هذه الأمور كأنها حقائق كونية، واسأل نفسك دومًا السؤال الأهم: لماذا؟

اقرأ أيضًا: نظرية مثلث الحب

المصادر

التحيز المعرفي والاستدلال: كيف يمكن لعقولنا أن تخدعنا؟

هذه المقالة هي الجزء 10 من 21 في سلسلة مقدمة في علم النفس

التحيز المعرفي والاستدلال: كيف يمكن لعقولنا أن تخدعنا؟

لقد استيقظت توًا من النوم، نهضت لتستعد للذهاب إلى عملك، بينما تتسائل هل أذهب مشيًا أم أقود السيارة؟
وفجأة تظهر لك الإجابة، تتذكر أن طريق العمل مسدود منذ يومين لذا تختار الذهاب مشيًا.
ما الذي حدث هنا؟
لقد اتخذت قرارًا وحللت مشكلة بناءًا على تحليل منطقي، وهذه العمليات الثلاثة (اتخاذ القرار وحل المشكلات والتحليل المنطقي) مرتبطة بمهارة «الفكر-Thought» في نظامنا المعرفي. لكن السؤال هنا، هل تقوم بهذه العمليات الثلاثة في كل مرة تتخذ قرارًا في حياتك؟ التحيز المعرفي والاستدلال: كيف يمكن لعقولنا أن تخدعنا؟

التحيز المعرفي والاستدلال

الإجابة، قطعًا لا. وهنا يأتي دور الاستدلال.
اعتقد العلماء قديمًا أن البشر مفكرون منطقيون، يستخدمون المنطق والعقلانية لاتخاذ قراراتهم. لكن أثبتت الدراسات أن لدينا نوع من الآليات المجهزة مسبقًا، مخطط للأنواع والمفاهيم التي يمكن أن نصادفها في حياتنا، فنعود إليها وقت الحاجة. فيما يُعرف بـ «الاستدلال-Heuristic»
وصف العلماء الاستدلالات أنها نوع من الاختصارات التي تساعدنا في اتخاذ القرارات بشكل أسرع، لكنها غالبًا ليست دقيقة تمامًا، بل يُمكن القول أنها مضللة في بعض الأحيان. وهناك أربعة أنواع من الاستدلالات التي يُمكن أن تعيق التفكير المنطقي فيما يُعرف بـ «التحيز المعرفي-Cognitive Bias»

التحيز المعرفي وتأثير التشكيل

أولًا. «تأثير التشكيل-Framing Effect»
هو نوع من التحيز المعرفي الذي يؤثر على قرارتنا عند تغير شكله، أو بمعنى آخر اختلاف القرارات باختلاف شكل نفس السؤال أو المشكلة.
مثال: ترى إعلانًا لمطعم بيتزا يخبرك أنها 90٪ خالية من الدهون، وآخرًا يخبرك أنها تحتوي على 10٪ من الدهون. أيهما ستختار؟
ستختار على الأغلب المطعم الأول. رغم أن كلا المطعمين يقدمان نفس نسبة الدهون، لكن طريقة عرض المعلومة أثرت على اختيارك، وهذا هو تأثير التشكيل.

ولا يقتصر تأثير التشكيل على البشر فقط، أجريت أحد الدراسات على قردة الكابوتشين لتختبر تأثير التشكيل عليهم. فكان هناك شخصان يقدمان الطعام للقردة، أحدهم يعرض عليهم موزتين أولًا، ثم يعطيهم الموزتين نصف عدد المرات، ويعطيهم موزة واحدة النصف الآخر. الشخص الثاني يعرض عليهم موزة واحدة في المقام الأول، ثم يفعل مثل زميله، يمنحهم موزتين نصف عدد المرات وموزة واحدة النصف الآخر. وجدت الدراسة أن القردة يفضلون الشخص الثاني على الشخص الأول، رغم حصولهم على نفس كمية الطعام في الحالتين. وذلك بسبب تأثير التشكيل.

التحيز المعرفي ومعدلات الإسناد

ثانيًا. «مغالطة معدلات الإسناد-Base rate Fallacy»
تخيل معي مجموعتين من سبعين مهندسًا وثلاثين محاميًا، من بينهم جون. جون رجل في منتصف الأربعينات، متزوج ولديه طفل، انطوائي، لا يهتم بالسياسة، هواياته الإبحار وحل الألغاز. فإلى أي المجموعتين ينتمي جون؟
ربما تقول مهندسًا، وهكذا يجيب أغلب الناس أيضًا. لكن هل وضعت في اعتبارك حجم المجموعتين عند اتخاذ قرارك؟
هذا هو تأثير معدلات الإسناد. عند جمع معلومتين إحداهما فردية تخص شخصًا ما، والأخرى إحصائية. يميل الناس إلى تجاهل الأعداد (معدلات الإسناد) والتركيز على المعلومة الشخصية.

التحيز للوفرة

ثالثًا. «التحيز للوفرة-Availability Bias»
أيهما تعتقد أكثر خطورة: سمكة القرش أم سلطة البطاطس؟
ربما يبدو هذا السؤال سخيفًا، بالطبع سمكة القرش أكثر خطورة. لكن دعنا نراجع بعض الأرقام أولًا: معدل الإصابة من أسماك القرش هو 1 من كل 6 مليون شخص، ومعدل القتل من أسماك للقرش هو 1 من كل 500 مليون شخص. معدل الإصابة بسبب تسمم الطعام هو 1 لكل 800 ألف شخص، أما معدل الموت بسبب تسمم الطعام هو 1 لكل 55 ألف شخص. إذن سلطة البطاطس أخطر ألف مرة من أسماك القرش!
والسبب في اعتقادنا أن أسماك القرش أكثر خطورة هو التحيز للوفرة. بمعنى أننا نميل إلى المبالغة في تقدير الحدث إذا كان مآساويًا أو رائعًا أو مثيرًا للانتباه فيسهل تذكره. وبالتأكيد موت شخص جراء هجوم سمكة قرش أكثر إثارة من الاختناق بسلطة بطاطس!
مثال آخر: أيهما تعتقد له النسبة الأكبر في اللغة الإنجليزية: الكلمات التي تنتهي بـ ng أم الكلمات التي تنتهي بـ ing؟
يميل أغلب الناس إلى الإجابة الثانية، لأن هذه المجموعة من الكلمات أسهل وأسرع تذكرًا. بينما الحقيقة أن الكلمات التي تنتهي بـ ng تحتوي الكلمات التي تنتهي بـ ing أيضًا وبالتالي لها النسبة الأكبر.

التحيز للتوكيد

رابعًا. «التحيز للتوكيد-Confirmation Bias»
تخيل معي أنك قاضٍ تحكم بين زوجين لتقرر أيهما يستحق حضانة طفلهما. أولهما صاحب دخل متوسط، ومهارات اجتماعية فقيرة، وبصحة جيدة، وعلاقة متوسطة مع الطفل، ولا يتنقل كثيرًا. والثاني له دخل مرتفع، وحياة اجتماعية ممتازة، ويعاني من مشاكل صحية طفيفة، وعلى علاقة مقربة بالطفل، ويسافر كثيرًا لقضاء أعماله. أيهما ستمنحه حضانة الطفل؟
من المرجح أنك ستختار الشخص الثاني، وهذا ما ذهب إليه أغلب الناس أيضًا.
أما عند عرض نفس المواصفات على مجموعة مختلفة من البشر وسؤالهم: أي الزوجين ستحرمه حضانة الطفل؟
تقع النسبة الأكبر على الشخص الثاني أيضًا، فما تفسير ذلك؟
يُمكن تفسير هذه النتائج وفقًا لمفهوم التحيز للتوكيد وهو تفضيل المعلومات التي تتماشي مع معتقداتنا أو تحيزاتنا السابقة وتجاهل تلك التي لا تتماشى معها. فتجد في السؤال الأول كلمة: منح الحضانة، ويتجه تفكيرك تلقائيًا إلى الصفات الإيجابية التي تستدعي المنح، ونجد أن الشخص الثاني يتمتع بها. أما في السؤال الثاني: حرمان الحضانة، وهنا يتجه تفكيرك إلى الصفات التي تستدعي الحرمان، ونجد هذه واضحة أيضًا في الشخص الثاني.
ونلاحظ أن هذا المثال ينطبق كذلك على تأثير التشكيل، فعندما اختلف شكل السؤال اختلفت الإجابة.

التحيز للتوكيد والأرض المسطحة

وأمثلة التحيز للتوكيد في واقعنا كثيرة، منها: المؤمنون بالأرض المسطحة، أو إنكار هبوط الإنسان على القمر. فنجد هؤلاء الأشخاص يفضلون المعلومات التي تتماشي مع معتقداتهم السابقة، ويرفضون أي معلومات مغايرة. ويمكن أن يؤدي هذا النوع من التحيز إلى حالة من «ترسخ الاعتقاد-Belief perseverance» ورؤية العالم بذهن ثابت يرفض التغيير!

اقرأ أيضًا: كيف تعمل الذاكرة؟ وكيف يحدث النسيان؟

المصادر

١. Boycewire
٢. Verywellmind
٣. Verywellmind
٤. Decisionlab

كيف عرف ستيرنبرج الحب؟ وما العوامل التي تضمن حدوثه؟

هذه المقالة هي الجزء 9 من 21 في سلسلة مقدمة في علم النفس

كيف عرف ستيرنبرج الحب؟ وما العوامل التي تضمن حدوثه؟

الحب، إنه الشعور الأروع على الإطلاق. التجربة التي نتوق لها جميعًا ونحاول فك شفرتها. ونتمنى لو نجد إجابات سهلة عنها. لكن ما هو الحب؟ وهل حقًا استطاع العلماء فك شفرته؟

كيف عرف ستيرنبرج الحب؟

علم النفس الاجتماعي هو الفرع الذي يهتم بدراسة مشاعر الحب والانجذاب، وقام علمائه بتجارب جمة للتوصل إلى تعريف للحب وتحديد عوامل نجاحه. تطرق عدد من العلماء إلى تعريف الحب، لكن الأشهر بينهم وضعه العالم روبرت ستيرنبرج في ثمانينات القرن الماضي وعُرف نظرية مثلث الحب.

وتُفسِر هذه النظرية الحب أنه شعور يتكون من ثلاثة عناصر أساسية: الحميمية، والشهوة، والالتزام. الحميمية هي شعور القرب والتواصل، أو بمعنى آخر مشاركة الأمور الشخصية التي لا تتشاركها مع أي شخص آخر. والشهوة هي الرغبة أو الانجذاب الجسدي. والالتزام هو وضع عنوان للعلاقة أنها علاقة حب ومن ثم اتخاذ قرار الالتزام -على المدى الطويل- بها. وهكذا رأى ستيرنبرج أن وجود هذه العناصر ثلاث يعني تكامل الحب وتمامه. لكن ماذا يحدث عند وجود عنصر واحد من العناصر الثلاث؟ أو اثنان؟ أو لا عناصر على الإطلاق؟

أنواع الحب

هذا هو الجزء الأكثر تشويقًا من نظرية ستيرنبرج، فيمكن القيام بعمليات تبادلية بين العناصر الثلاث للتوصل إلى الأنواع المختلفة من الحب في أغلب العلاقات البشرية. وسنتطرق أولًا إلى العلاقات ذات العنصر الواحد:

  • الصداقة: عند وجود الحميمية أو شعور القرب والتواصل فقط، وغياب الرغبة والالتزام، نحصل على علاقات الصداقة، أو الإعجاب، التي يمكن أن تتطور إلى علاقات حب لاحقًا.
  • الافتتان: عند وجود الرغبة فقط، وغياب الحميمية والالتزام نحصل على الافتتان. وهي علاقات تقوم على الانجذاب الجسدي فقط دون معرفة عميقة أو قرار بالالتزام. ويكون تأثيرها عادةً قوي للغاية، ومن المحتمل أن ينمو إلى علاقات حب لاحقًا.
  • الحب الخاوي: عند وجود الالتزام فقط، وغياب الحميمية والرغبة نحصل على علاقات الحب الخاوي. ويظهر هذا كمرحلة أخيرة في العلاقات التي تسوء بمرور الوقت فيقرر طرفاها الالتزام من أجل الأطفال أو المظهر العام أو أسباب مادية. أو كمرحلة أولى في علاقات الزواج التقليدي التي تتم بدون معرفة مسبقة.

وثانيًا، العلاقات ذات العنصرين:

  • الحب الرومانسي: عند وجود الحميمية والرغبة وغياب قرار الالتزام نحصل على الحب الرومانسي. وهي علاقات تقوم على القرب والتواصل الجسدي دون أي قرار بالالتزام على المدى الطويل.
  • العشرة/الصداقة المقربة: عند وجود الحميمية والالتزام وغياب الرغبة نحصل على علاقات مثل الصداقة المقربة أو الزواج بدون جنس. أي علاقات تقوم على القرب وقرار الالتزام دون أي اتصال جسدي.
  • الحب الوهمي: عند وجود الشهوة والالتزام وغياب الحميمية نحصل على علاقات الحب الوهمي أو الحب الأبله. ونجد هذا في علاقات الزواج المتسرع قصير المدى.
  • أما عند غياب العناصر الثلاث نحصل على علاقات اللاحب، وهي العلاقات التي تربطك بالغريب الذي يمر بجانبك في الشارع. فلا توجد حميمية ولا شهوة ولا قرار بالالتزام.
  • وأخيرًا، الحب المتكامل وهو الحب الذي يتضمن العناصر الثلاث بدرجات متفاوتة خلال مراحل مختلفة من العلاقة. وهو الشكل الأمثل للحب في نظر ستيرنبرج.

كيف يحدث الحب؟

بحث علماء النفس الاجتماعي في الحب، وحاولوا فك شفرته، لكن جميع التجارب والنتائج التي وصلت إلينا تخص الانجذاب وليس الحب. باعتباره الخطوة الأولى التي يمكن أن تتطور لاحقًا إلى علاقات حب. وبهذا توصل علماء النفس إلى سبع عوامل/متغيرات لحدوث الانجذاب، منها ثلاثة عوامل رئيسية واضحة التأثير، وأربعة عوامل أخرى قوية أيضًا لكنها أقل وضوحًا وربما يغفل عنها الكثير.

أولًا، العوامل الثلاث الرئيسية:

  • «التقارب-Proximity»

هل حلمت يومًا بالغريب المثالي الذي ستلتقيه صدفة في ليلة ماطرة، تتبادلان حديثًا رائعًا ثم تقعان في الحب؟ باختلاف بعض التفاصيل -من المحتمل أنه صباح صيفي لا ليلة ماطرة- يمكننا القول أن أغلبنا اختبر هذا الأمر، الذي يمكن أن نصفه بالخرافة الثقافية. فيرى علماء النفس أنه من المرجح أنك ستنجذب لشخص مجاور لك، شخص يقع في حيز مكاني قريب عوضًا عن الغريب الرائع، وهذا هو مبدأ التقارب.

  • «التشابه-Similarity»

هل سمعت عن القاعدة الفيزيائية أن الأقطاب المتشابهة تتنافر والمختلفة تتجاذب؟ ربما سمعت بها قبلًا ورأيت من حاولوا تطبيقها على علاقاتهم. لكن علماء النفس الاجتماعي أثبتوا فشلها، ووجدوا أنه كلما زاد التشابه بين شخصين كلما زادت احتمالية انجذابهما لبعضهما. وذلك لعدد من الأسباب أهمها: أنه شعور رائع! تواجدك مع شخص يشبهك في نفس المكان يسهل التواصل بينكما، ويعطي نوع من التوكيد لكل منكما عندما تتبنيان نفس الرأي. فتزيد الثقة فيما تقولان وتتحمسان لقول المزيد.

  • «الألفة-Familiarity»

عرض العلماء مجموعة من الكلمات بلغة غريبة على عدد من الأشخاص لثوان معدودة، ثم عرضوا مجموعة أكبر من الكلمات الغريبة من بينها الكلمات التي رآها المشاركون سابقًا، ثم سألوهم: مع العلم أنكم لا تعرفون معنى أى من هذه الكلمات لكن أيها تفضلون؟ وجاءت إجابات المشاركين أنهم يفضلون الكلمات القديمة التي رأوها في المرة الأولى، حتى وإن لم يتذكروا رؤيتها من قبل!

وهذا هو تأثير الألفة، الذي يمكن تطبيقه على البشر بكل تأكيد. فيجد علماء النفس أننا نميل وننجذب للأشخاص اللذين نألفهم ونشاركهم نفس البيئة.

العوامل الأقل وضوحًا

الأربعة عناصر الأقل وضوحًا وهم:

  • «تأثير السقوط-Pratfall Effect»

من المعروف أننا ننجذب للأشخاص المهرة الأكفاء، الذين يدرون دورهم في الحياة. وهذا أمر طبيعي تمامًا لكنه غير مشوق، فمتى تحدث الإثارة؟

تحدث الإثارة حينما يرتكب الشخص الماهر خطأ أحمق، فيتضاعف إعجابنا به! وهذا ما يُعرف بتأثير السقوط. يشعرنا وقوع الشخص الماهر في الخطأ بشعورًا جيدًا حيال أنفسنا، نراه فجأة أكثر إنسانية وتواضعًا وقربًا، ونشعر أنه يشبهنا في نهاية المطاف، فننجذب له أكثر.

أشهر التجارب التي تفسر تأثير السقوط قام بها العالم إليوت أرنسون وجاءت النتائج مذهلة. أُجريت التجربة على طلاب جامعيين، طُلب منهم الاستماع إلى تسجيل صوتي للمتقدمين إلى تمثيل الجامعة في مسابقة تليفزيونية. التسجيل الأول لطالب مثالي، يحصل على علامات ممتازة ويشترك في كثير من الأنشطة. والتسجيل الآخر لطالب متوسط، علاماته جيدة، وأقل انخراطًا في أنشطة الجامعة. ثم سُأل المشاركون عن الطالب الذي يفضلونه؟

فذهب أغلبهم بالطبع إلى اختيار الطالب المثالي. لكن الأمر لم يتوقف هنا، استمر التسجيل الصوتي وسمع الطلاب قرقعة وضوضاء وبعدها شخص يقول: “اللعنة، لقد سكبت القهوة على بذلتي الجديدة”، سُأل المشاركون مجددًا عن الطالب الذي يفضلونه، فارتفع تقديرهم للطالب المثالي الذي سكب القهوة كثيرًا. ولسوء الحظ، انخفض تقديرهم للطالب المتوسط الذي سكب القهوة أكثر. وبهذا وجد ارنسون أن تأثير السقوط يعمل في كلا الاتجاهين، فيرفع من جاذبية الشخص الماهر، ويقلل من جاذبية الشخص المتوسط.

الجاذبية الجسدية

المظهر هو أحد الأمور المزعجة التي يرفض أغلبنا الاعتراف بأهميتها، فنقول لأنفسنا أنه ليس عادلًا أن الانجذاب الجسدي له أهمية في الحياة، خصوصًا إذا وجدنا أنفسنا خارج تصنيف الجاذبية الجسدية. وإذا سألت مجموعة من طلبة الجامعة عن الصفات التي يبحثون عنها في علاقاتهم، سيقولون لك صفات مثل التفاهم والذكاء وحس الفكاهة والتعاون، أما المظهر فليس هامًا للغاية. أما الحقيقة أنه إذا قابلت شخصًا للمرة الأولى، ولم يعجبك مظهره فمن المرجح أنك لن تراه ثانيةً.

أحد الدراسات التي بحثت أهمية الجاذبية الجسدية تُدعى «تجربة الشعر المستعار المجعد-The frizzy wig experiment». استعان القائمون على هذه التجربة بممثلة يراها أغلب الناس جذابة، وغيروا مظهرها لتصبح أقل جاذبية باستخدام شعر مستعار مجعد. كانت الممثلة تقابل مجموعة من الشباب وتطرح عليهم عددًا من الأسئلة ثم تعطيهم تقييمًا. وعندما كانت الممثلة أقل جاذبية لم يهتم المشاركون بتقييمها سواء كان إيجابيًا أم سلبيًا. أما عندما ظهرت الممثلة بهيئتها الجذابة، فرحوا بتقييمهم الإيجابي كثيرًا، واستاء هؤلاء الذين حظوا بتقييم سلبي، بل وطالبوا بإعادة المقابلة!

وهكذا توضح لنا هذه التجربة أننا نتأثر برأي الأشخاص الجذابين، ونعطيه أهمية كبيرة على عكس الأشخاص الأقل جاذبية. وهذا أمر غير عادل وغير منطقي لكنه عمليًا موجود. وتوضح أيضًا التناقض الكلاسيكي بين ما نعتقد أنه تافه وغير هام، وما يُثبت عمليًا أنه أكثر أهمية. لكن لحسن الحظ تثبت هذه الدراسات أيضًا أن الجاذبية الجسدية مهمة في تحديد نجاح المقابلات الأولى فقط، أما نجاح العلاقات على المدى الطويل فيحدده عوامل أقل سطحية من المظهر بالطبع.

«تأثير المكسب والخسارة-Gain loss effect»

هناك صفة تطورية اكتسبها البشر على مر الزمان، وهي حساسيتهم وانتباههم للتغيير. وهذا أمر طبيعي لأن الاستقرار يعني الأمان، أما التغيير فهو مؤشر للخطر أو فرصة جديدة، وقد يساعد التنبه لهذا التغيير على الاستمرار والبقاء. لكن كيف يحدث هذا في حالات الحب والانجذاب؟
هناك شخصان، أحدهما يحبك ويظهر مشاعره لك بصورة مستمرة، والآخر ينمو انجذابه لك مع الوقت. أيهما سيجذب انتباهك أكثر؟
الإجابة هي الشخص الثاني، الذي ينمو تقديره لك مع الوقت، حتى وإن كان متوسط مشاعره أقل من الشخص الأول. وهذا هو تأثير المكسب. التغير المفاجيء والنمو التدريجي للمشاعر يجذب الانتباه أكثر من المشاعر الثابتة.
ويمكن تطبيق ذلك أيضًا على المشاعر السلبية، فلا يقع عليك الأذى بسبب شخص يكرهك ويُظهر لك هذا دائمًا. وإنما يأتي الألم من تقدير الأشخاص المرتفع الذي يتلاشى بمرور الوقت. وهذا هو تأثير الخسارة، أو تحول المشاعر من إيجابية إلى سلبية بمرور الوقت.

«الإسناد الخاطيء لأسباب الإثارة-Misattribution of arousal»

يحدث هذا الأمر عندما تشعر بالإثارة الجنسية لكنك لا تعلم السبب، فتفسره تفسيرًا خاطئًا وتعتقد أنه حب أو انجذاب.
ولفهم هذا العامل ودوره في حدوث الانجذاب قام العلماء بعدد من التجارب، أشهرها «تجربة الجسر المتهالك-Rickety bridge experiment»، أُجريت هذه التجربة على جسر عالٍ ومتهالك يقع في مدينة فانكوفر بكندا، وعلى جسر آخر أكثر استقرارًا وثباتًا يؤدي إلى نفس الوجهة. استعان العلماء بممثلة جذابة، كانت تستوقف الذكور الذين يعبرون كلا الجسرين وتطلب منهم مساعدتها في استبيان ما ثم تعطيهم رقمها وتخبرهم أن يتواصلوا معها إذا أرادوا معرفة النتيجة.

وجد القائمون على التجربة أن هؤلاء الذين عبروا الجسر المتهالك اهتموا بالممثلة وتواصلوا معها بالفعل، على عكس هؤلاء الذين عبروا الجسر الآمن. وفسر العلماء ذلك أن عبور الجسر المرتفع المتهالك مرتبط بزيادة ضربات القلب وسرعة التنفس والتعرق. لذلك أسقط المشاركون هذه الإثارة على الممثلة الجذابة واعتقدوا أنهم منجذبون لها.

قام العلماء بتجربة أخرى طلبوا من المشاركين فيها وضع سماعات رأس تضخم صوت ضربات القلب بينما يتصفحون أحد المجلات الإباحية، ثم اختيار صورتهم المفضلة. جاءت النتائج أن أغلب المشاركين اختاروا الصورة التي زادت ضربات قلبهم عند رؤيتها. لكن الحيلة هنا، أنهم لم يستمعوا إلى نبص قلبهم الحقيقي وإنما إلى تسجيل صوتي لضربات القلب يقوم المسئول بتسريعه عشوائيا عند أي صورة. وبهذا يقع هؤلاء الأشخاص في فخ الإسناد الخاطيء للإثارة، فيعتقدون أن ضربات قلبهم المتسارعة دليل على الانجذاب والحب.

وهنا يجب القول أن هذا المفهوم تحديدًا له آثار أكثر خطورة في الواقع، منها: ضحايا العلاقات المسيئة والعنف المنزلي. ما يحدث أن هؤلاء الأشخاص لا يدركون أنهم في علاقات مسيئة، حيث يسبب لهم الصراخ والشجار والغصب إثارة من نوع ما، تُترجم خطئًا أنها حب. فيرددون عبارات مثل: لم يكن ليصرخ بي لو لم يكن يحبني. وبالطبع هذا خاطيء وغير حقيقي تمامًا.

خاتمة

تعرفنا على نظرية مثلث الحب لستيرنبرج، والعناصر الثلاثة الضرورية التي وضعها لتكامل الحب وتمامه، وهي الحميمية والشهوة والالتزام. بالإضافة إلى أنواع الحب المختلفة التي تنشأ عند وجود عنصر واحد فقط أو اثنين أو لا شيء على الإطلاق. كما تعرفنا على سبع عوامل تؤثر في حدوث الانجذاب الذي يمكن أن يتطور إلى حب. منها ثلاث ذات تأثير واضح وهي التقارب والتشابه والألفة. وأربع أقل وضوحًا وهي تأثير السقوط والانجذاب الجسدي وتأثير المكسب والخسارة واالإسناد الخاطيء للإثارة. لذا ربما حين تجتمع بأصدقائك المرة القادمة، ناقشوا علاقاتكم في ضوء عناصر الحب الثلاث لستيرنبرج، وربما تصدمك النتائج!

اقرأ أيضًا: متلازمة ستوكهولم: تعاطف الضحية مع جلادها

المصادر

كيف تعمل الذاكرة؟ وكيف يحدث النسيان؟

هذه المقالة هي الجزء 8 من 21 في سلسلة مقدمة في علم النفس

كيف تعمل الذاكرة؟ وكيف يحدث النسيان؟

بينما يجلس كلايف ويرنج يعزف البيانو، تدخل عليه زوجته فيقوم ليحييها بحرارة. وبعد قليل عندما تخرج زوجته لتعد كوبًا من الشاي يعود كلايف إلى عزفه. حينما تدخل الزوجة الغرفة حاملة الشاي يحييها كلايف بنفس الحرارة مجددًا كأنه لم يراها منذ دقائق معدودة. فما تفسير هذا التصرف؟ كيف تعمل الذاكرة؟ وكيف يحدث النسيان؟

مفهوم الذاكرة واسع ومراوغ للغاية. فلا تشمل الذاكرة معرفتك لاسمك وأحداث حياتك فقط، بل تمتد لتشمل أدق أجزاء المعرفة، منها معرفتك للمشي والوقوف والجلوس والمضغ والبلع. لكن ما هي الذاكرة؟ كيف تعمل ومم تتكون؟ هل يسعنا اختيار ما نتذكره؟ وإذا كانت الإجابة نعم، كيف يحدث ذلك؟ وفي ضوء القصة التي ذكرناها، كيف يحدث النسيان؟ وما تفسير تصرف كلايف ويرنج؟ كيف تعمل الذاكرة؟ وكيف يحدث النسيان؟

ما هي الذاكرة؟

يشير مصطلح الذاكرة إلى قدرتنا على الحصول على المعلومات، وتخزينها، وحفظها، ولاحقًا استرجاعها. وذلك عن طريق عمليات ثلاثة وهي: الترميز، والتخزين، والاسترجاع.

كل منها يمثل مرحلة مختلفة لتكوين الذكريات. فتمثل عملية الترميز التجربة التي تمر بها، او النشاط الذي تقوم به، والتخزين هو انتقال المعلومات الى الذاكرة، والاسترجاع هو القدرة على استخراج هذه المعلومات وقت الحاجة. لكننا نمر بمئات التجارب يوميًا ويحيط بنا كميات هائلة من المعلومات، فأيها نتذكره؟ وأيها لا؟ وعلى أي أساس يتم الاختيار؟ والإجابة هي الانتباه.

الانتباه

يشير مصطلح الانتباه إلى قدرتنا على معالجة المعلومات في البيئة المحيطة بنا. فهناك العديد من المؤثرات تحيط بنا دائمًا، مثلما تجلس أنت الآن وتقرأ هذا المقال، ويضغط الكرسي الذي تجلس عليه على جسدك، وتسمع أصوات الجيران، وتشعر بدفء ملابسك، وترى مكونات الغرفة التي تجلس بها. كل هذه مؤثرات تحيط بنا طوال الوقت، لكننا لا ننتبه لها ولا نتذكرها جميعًا. لو حدث ذلك، فسنصاب حتمًا بالجنون.

لذا يأتي السؤال، ما الذي يتحكم في دخول المعلومات الذاكرة؟ والإجابة هي الانتباه. يمكن اعتبار الانتباه بمثابة ضوء مسلط على التجربة التي تمر بها الآن، فيختار الحدث الأهم ويركز عليه ليدخل الذاكرة.

وللانتباه عدة خصائص:

١. محدود:

يمكننا الانتباه لعدد محدود من المحفزات ولفترة محدودة فقط. ويعتمد هذا الأمر على عدة متغيرات منها: وجود عوامل تشتت، ومدى الاهتمام بالمحفز المذكور. ولهذا السبب اعتبر العلماء عملية «تعدد المهام-Multitasking» خرافة لا أساس علمي لها. لأنها ستكلف الشخص وقتا أطول كما تقلل من جودة الانتباه إلى جميع المهام.

٢. اختياري:

يمكننا اختيار الأشياء التي نتنبه لها. لكن لا يحدث هذا دائمًا، فهناك بعض الأشياء التي نتنبه لها تلقائيًا، مثل: معاني الكلمات. فيما يُعرف بـ «تأثير ستروب-Stroop Effect». ولفهمه يمكنك إجراء هذا الاختبار الذي يطلب منك نطق لون الكلمة وليست الكلمة نفسها وتسجيل الوقت الذي يستغرقك لفعل هذا. من هنا

يفسر فارق الوقت بأن معرفتك للقراءة تصعب عليك مهمة نطق الألوان، فأنت تنتبه لمعاني الكلمات تلقائيًا رغم إرادتك لمزيد من الانتباه وجد العلماء أن الخاصية الاختيارية للانتباه مرتبطة بظاهرة شيقة أخرى تعرف باسم «عمى التغير-Change Blindness». ولفهم ذلك سأطلب منك مشاهدة هذا المقطع وعد التمريرات التي يقوم بها الفريق بالزي الأبيض.

الإجابة الصحيحة هي ١٥، لكن هل انتبهت للغوريلا؟ حوالي ٥٠٪ من الأشخاص الذين لم يروا هذا المقطع من قبل وقاموا بالعد لا يلاحظوا الغوريلا. أما الأشخاص الذين لم يقوموا بالعد لاحظوها.

تجربة أخرى أجراها العالم دان سايمونز يختار فيها أحد المشاة بشكل عشوائي ويسأله عن الطريق، وبينما يتحدثان يمر بينهما شخصان يحملان باب ويُستبدل السائل الأول بشخص آخر. وجاءت النتائج أن حوالي ٥٠٪ من الأشخاص لم يلاحظوا تغير السائل مطلقًا. فكيف يحدث هذا؟

يمكننا القول أن الانتباه نافذة ضيقة للغاية، فبينما تركز على شيء معين، تغفل عن الكثير من الأشياء من الأخرى. وهذا أمر طبيعي ومقبول، لأن الذاكرة تعمل وفقًا لحقيقة أن معظم الأشياء تظل على حالها طول الوقت، وليس من الضروري حفظ التفاصيل الدقيقة لكل مشهد، فمن غير المتوقع أن يتبدل الغريب الذي التقيته في الشارع إذا أشحت بوجهك عنه لثوان معدودة. والمغزى العام هنا هو أن إدراكنا للواقع ضئيل ومحدود أكثر مما تعتقد.

مم تتكون الذاكرة؟

عندما تشاهد فيلمًا يتحدث عن فقدان الذاكرة، تجد البطل يتجول في الشوارع شاردًا لا يتذكر اسمه أو أحداث حياته. وهذه هي الصورة التقليدية التي يتبناها البشر عن الذاكرة، ذاكرة السيرة الذاتية. لكن الحقيقة كما أسلفنا أن الذاكرة تشمل معرفتك لأصغر الأفعال مثل المشي والأكل والحديث، وهناك أنواع مختلفة لها: الذاكرة الحسية، والذاكرة قصيرة المدى أو الذاكرة العاملة، والذاكرة طويلة المدى.

كل عملية من عمليات تكوين الذاكرة التي أسلفنا ذكرها -الترميز والتخزين والاسترجاع- تختص بنوع من أنواع الذاكرة الثلاث.

أولًا: عملية «الترميز-Encoding»

بعد انتهاء دور الانتباه، واختياره المعلومات التي ستدخل المخ، يبدأ دور الترميز. والترميز هو عملية تحويل الإشارات/المعلومات القادمة من أعضاء الحس إلى صيغة يستطيع المخ التعامل معها وبالتالي تخزينها. وهناك تلاثة أنواع للترميز:

  • ترميز بصري: وهنا تُخزن المعلومة على هيئة صور.
  • ترميز سمعي: وهنا تُخزن المعلومة على هيئة أصوات.

وكلاهما يعرف بـ «المعالجة السطحية-Shallow Processing» وتختص بالذاكرة قصيرة المدى.

  • ترميز دلالي: وهُنا تخزن المعلومة على هيئة معاني. فيما يُعرف بـ «المعالجة العميقة-Deep Processing» وتختص بالذاكرة طويلة المدى.

    مثال: عندما تقرأ (ترى) كلمة في كتاب، يخزنها المخ بعد تحويلها إلى صوت أو معنى. الصورة الأولى للكلمة تخزن في الذاكرة الحسية لكنها سرعان ما تتلاشى. أما عند حفظ الكلمة وتكرارها عدة مرات فتخزن كصوت في الذاكرة قصيرة المدى، لكنها أيضًا تتلاشى بعد وقت قصير. وأخيرًا عند معرفة معنى هذه الكلمة فإنها تخزن في الذاكرة طويلة المدى لفترة طويلة جدًا. وهذا يأخذنا إلى المرحلة الثانية من عمل الذاكرة وهي التخزين.

ثانيًا: «التخزين-Storing»

هي عملية تخزين المعلومات لمدة قصيرة تصل إلى ثلاثين ثانية فقط في الذاكرة قصيرة المدى عن طريق التكرار (الاحتفاظ بالصوت أو الصورة). أو لمدة طويلة قد تصل إلى عمر كامل في الذاكرة طويلة المدى عن طريق الترميز الدلالي (الاحتفاظ بالمعنى). وتتأثر عملية التخزين بعوامل أخرى مثل: كمية المعلومات المخزنة ونوعها وكذلك مدة ومكان تخزينها.

كيف تعمل الذاكرة؟ وكيف يحدث النسيان؟

مكان التخزين نوعان:
الذاكرة قصيرة المدى والذاكرة طويلة المدى وهناك العديد من الدراسات التي توضح الفرق بينهما:

الذاكرة طويلة المدى

لدى الذاكرة طويلة المدى مساحة تخزين هائلة. فتتضمن مثلًا جميع كلمات اللغة(٦٠-٨٠ كلمة) ،ووجوه وأسماء جميع الأشخاص اللذين تعرفهم، والأماكن التي تتردد عليها، والكتب التي تقرأها، والأغاني التي تسمعها وغيرها الكثير، وهذه كمية معلومات هائلة. حتى الآن لم يستطع العلماء حصر المساحة الكاملة للذاكرة طويلة المدى.

الذاكرة قصيرة المدى

أما عن الذاكرة قصيرة المدى فهي محدودة للغاية مقارنة بنظيرتها. فلا تحمل من يزيد عن تسع قطع أو Chunks. والقطعة هي المصطلح الذي أعطاه عالم النفس جورج ميلر لوحدات التخزين الرئيسية للذاكرة. مثال: l a m a i s o n كل حرف من هذه الحروف يمثل قطعة أو Chunk، وإذا لم تستطع تكوين كلمات منها فستراها كسبع قطع منفردة. أما إذا كنت تعرف الفرنسية فستراها كقطعتين فقط، كلمة la وكلمة maison بمعنى المنزل.

وبالطبع يصبح تذكرها في هذه الحالة أسهل. وهنا يمكننا القول أن مقدار المعرفة يؤثر على مقدار ما نتذكر. لأنه يؤثر على ما يمكن احتسابه كقطعة/وحدة تخزين في الذاكرة، وهذا يظهر في «تأثير الخبراء-Expertise effect».

يظهر تأثير الخبراء في أحد التجارب التي أُجريت على مجموعة من المبتدئين والخبراء في لعبة الشطرنج. عُرضت عليهم اللوحة لعدة ثوان، وقطعها مرتبة بترتيب معين لاستراتيجية معروفة لممارسي اللعبة، ثم طُلب منهم إعادة ترتيبها بأنفسهم. استطاع الخبراء فعل هذا الأمر بسهولة بينما تعثر المبتدئين ووقعوا في بعض الأخطاء. وعند إعادة التجربة بترتيب القطع ترتيبًا عشوائيًا لا يشبه أي استراتيجية مألوفة. تعثر كل من الخبراء والمبتدئين في إعادة الترتيب.

وتؤكد هذه التجربة أن زيادة المعرفة وإضفاء المعنى والمنطق على المعلومة يساهم في تذكرها وسهولة تخزينها. رجوعًا إلى الذاكرة طويلة المدى، كيف تنتقل المعلومات من تذكرها لعدة ثوانٍ فقط (الذاكرة قصيرة المدى) إلى الاحتفاظ بها لعمر كامل (الذاكرة طويلة المدى)؟

ذكرنا أن الممارسة أو تكرار المحفز داخل رأسك مرارًا وتكرارًا يُمكنك من الاحتفاظ به في الذاكرة قصيرة المدى. فيظل الأمر عالقًا داخل رأسك طالما تكرره، لكنه لا يترسخ في الذاكرة طويلة المدى. تحتاج المعلومات إلى التنظيم والمعنى لكي تترسخ فيها. بمعنى أنه كلما فكرت في الأمر بشكل أعمق، كلما أكسبته المعنى والمنطق فيما عرفناه بالمعالجة العميقة، صار تذكره أسهل.

ثالثًا: عملية «الاسترجاع-Retrieval»

وكما يوضح الاسم تختص هذه العملية باسترجاع المعلومات المخزنة.

وتنقسم عملية الاسترجاع إلى مرحلتين:

أولًا «الاستعادة-Recall» وهي استخراج الذكرى فقط.
ثانيًا «الادراك-Recognition» وهو إدراك معنى الذكرى، وما كانت تتناظر معه في الماضي.

ويحدث الاسترجاع بشكل أساسي عن طريق «دلالات الاسترجاع-Retrieval cues» وهي إشارات ترتبط بالأمر الذي تحاول تذكره، فعندما تدعو شخصًا لموعد غداء ثم تراه صدفة، تتذكر هذا الموعد. وهذه الحالة (عندما يتماثل السياق الذي حدث فيه ترميز المعلومة واسترجاعها) تُعرف بمبدأ التوافق.

بمعنى أنك تتذكر الأشياء بشكل أفضل في السياق الذي تعلمته بها. فيما يعرف أيضًا بـ «الذاكرة المعتمدة على السياق-Context dependent memory» و«الذاكرة المعتمدة على الحالة-State dependent memory».

مثال: -من المرجح أنك ستتذكر المعلومات بشكل أفضل في امتحانك النهائي، إذا حضرته في نفس القاعة التي حضرت فيها محاضراته. لأن وجودك في نفس الغرفة سيعيد إليك دلالات الاسترجاع.

-الأشخاص اللذين يتعلمون أشياء تحت تأثير المخدرات (تأثير منخفض لا يؤثر على النشاطات العقلية الأخرى) يتذكرونها بشكل أفضل وهم تحت تأثير المخدرات مجددًا لا في حالتهم الواعية. هذا الأمر ينطبق أيضًا على شرب الكحوليات.

-الأشخاص اللذين يتعلمون أشياء وهم في حالة اكتئاب، أكثر قدرة على تذكره وهم في نفس الحالة المزاجية لا في حالتهم الطبيعية. وهنا توضح لنا هذه الأمثلة أن جزء كبير من استرجاع المعلومات يعتمد على استرجاع السياق الذي تم ترميزها به.

عندما تخفق الذاكرة- النسيان

تحدثنا عن العالم من حولنا ودور الانتباه في انتقاء المعلومات البارزة أما إراديًا أو لا إراديًا لكي تدخل المخ. وكيف تتم معالجة المعلومات في المخ من ترميز وتخزين واسترجاع. لكن يبقى مسار آخر لم نتحدث عنه وهو النسيان، ليس كل ما نتذكره نحتفظ به للأبد.

كيف تعمل الذاكرة؟ وكيف يحدث النسيان؟

كيف يحدث النسيان؟

النسيان نوعان:

النسيان الطبيعي

الذي يحدث بمرور الزمن وتغير الأشياء وله أسبابه:

أحد التفسيرات أن المخ شيء مادي، وجميع الأشياء المادية تتلف مع الوقت، كذلك مسارات المخ فيحدث النسيان.

الإجابة الثانية هي التداخل. تزداد صعوبة استرجاع المعلومات عندما يتعلم الشخص معلومات أخرى مشابهة لها. لذا يمكن القول أن قدرة الشخص على التعلم تضعف عندما يتعلم المزيد من الأشياء المتصلة بها، بسبب حدوث التداخل أو ارتباك داخل الذاكرة. بسبب تغير دلالات الاسترجاع: كلما مر الوقت كلما تغير العالم، وبما أن التذكر يعتمد بشكل كبير على دلالات الاسترجاع، فكلما تتغير أو تقل يحدث النسيان.

النسيان الذي يحدث بسبب تلف المخ.

مثل: «فقدان الذاكرة الرجعي-Retrograde amnesia» وهو فقدان جميع ذكريات الماضي، وقد يحدث نتيجة صدمة في الرأس فيفقد الشخص جميع ذكريات ذاكرته العرضية/ذاكرة السيرة الذاتية المختصة بأحداث حياته، وهذه هي الصورة التقليدية لفقدان الذاكرة كما ذكرنا.

«فقدان الذاكرة التقدمي-Anterograde amnesia» وهو فقدان القدرة على تكوين أي ذكريات جديدة، والمثال الأشهر على ذلك هو كلايف ويرنج الذي ذكرناه في بداية المقال.

ويرنج موسيقي بريطاني أُصيب يومًا بفيروس الزهري، الذي انتقل إلى مخه وأحدث تلفًا في الحصين وهو الجزء المختص بالذاكرة. فقد ويرنج ذاكرته الرجعية باستثناء بعض الأحداث المهمة مثل حبه لزوجته وامتلاكه لأولاد لا يذكر أسمائهم وكيفية لعب البيانو. وفقد ذاكرته التقدمية ففقد القدرة على تكوين أي ذكريات جديدة وعاش في حاضر دائم. لذا ينسى أنه رأى زوجته منذ دقائق معدودة فيحييها كأنه يراها أول مرة، وينسى أنه استيقظ من النوم فيقضي يومه في الاستيقاظ مجددًا كل بضعة دقائق!

يُفسر عدم نسيان ويرنج لكيفية لعب البيانو إلى أن هذا الفعل يُخزن في «الذاكرة الاجرائية-procedural memory» من الذاكرة طويلة المدى، وهذا الجزء من المخ لم يُصب بأذى. فبينما تتذكر أصابعه كيفية اللعب تغيب عن ذاكرة ويرنج أية ذكرى لتعلمه العزف. واعتبر العلماء حالة كلايف ويرنج من أشد حالات فقدان الذاكرة التي عرفتها البشرية على مر التاريخ.

كيف تعمل الذاكرة؟ وكيف يحدث النسيان؟

والآن إذا نجح هذا المقال في الاستحواذ على انتباهك، واستطاعت بعض معلوماته اجتياز حاجز الترميز والتخزين ووصلت بمساعدة المعنى والمنطق إلى الذاكرة طويلة المدى. فلا تنسى حديثنا عن الانتباه ورؤيته المحدودة للواقع بأفكارنا ومشاعرنا وتفضيلاتنا. كذلك كيفية صنع الذكريات، والعمليات الثلاثة التي تمر بها المعلومات لتصنع ماضينا وحاضرنا. وأخيرًا النسيان كناتج طبيعي لتغير المخ والعالم. وحالة كلايف ويرنج الشهير الذي يعيش في حاضر دائم.

اقرأ أيضًا: التحيز المعرفي والاستدلال: كيف يمكن لعقولنا أن تخدعنا؟

مصادر ( كيف تعمل الذاكرة؟ وكيف يحدث النسيان؟ ):

1- simplepsychology
2- psychology.wikia.
3– /psychology.wikia

كيف يحدث إدراك الصور؟ ولماذا نقع بسهولة تحت تأثير الخداع البصري؟

هذه المقالة هي الجزء 7 من 21 في سلسلة مقدمة في علم النفس

كيف يحدث إدراك الصور؟ ولماذا نقع بسهولة تحت تأثير الخداع البصري؟ سنتحدث اليوم عن جانب آخر مثير للإهتمام من الحياة العقلية البشرية، وهو الإدراك. ما الإدراك؟ كيف نتعرف على العالم من حولنا؟ وهل كل ما نراه حقيقيًا؟

دعونا نبدأ حديثنا بهذه الجملة: أيًا كان ما تراه أمامك حاليًا وتظنه حقيقيًا، فأنت على الأغلب مخطيء حياله، أو دعنا نقول (واهم)!

ما الإدراك ؟

الإدراك هو قدرة المخ على إيجاد المعنى فيما تختبره الحواس. فيدرك الشخص ماهية الأشياء والأشخاص من حوله. فيمكنه التمييز بين وجه صديقه وغريمه، ويدرك الفرق بين رائحة العطر والحريق! وعملية الإدراك تحدث بشكل لا واعي كما أنها ليست محايدة على الإطلاق. فيتأثر إدراكنا للعالم بالمعرفة والخبرة والمعايير الثقافية وحتى الحالة المزاجية.

عند دراسة الآلات والروبوتات، وُجد أن جميع المحاولات لصنع آلة تستطيع إدراك الأشياء فشلت فشلًا ذريعًا. فلا يوجد آلة على الأرض تستطيع التعرف على الأشخاص والأشياء بمستوى طفل ساذج بعمر السنة الواحدة. فما سبب هذه الصعوبة؟

دعونا نشرح الأمر من البداية، هناك العين، وهناك الشبكية الحساسة للضوء التي تقع في الجزء الأعمق من العين. عندما يصطدم الضوء المنعكس من البيئة حولنا بالشبكية، تستقبل خلاياها الضوء وتحوله إلى إشارات كهربية/نبضات عصبية تنتقل إلى الدماغ. حيث يحدث الإدراك. لكن هنا تظهر مشكلة جديدة. كيف يمكن للشبكية إدراك الأشكال والأجسام من حولنا؟

عبقرية الشبكية

الشبكية سطح ثنائي الأبعاد، ويرى البشر العالم من حولهم بشكل ثلاثي الأبعاد. وهذا الأمر (أن تختبر العالم من حولك بشكل ثلاثي الأبعاد مستخدمًا سطحًا ثنائي الأبعاد) مستحيل رياضيًا. إلا أنه حقيقي وحي فينا، فكيف يحدث؟

الحقيقة أن رؤية البعد الثالث: العمق -وهو ما سنتطرق إليه لاحقًا- خدعة من المخ. حيث ترسل كل عين نسختها -ثنائية الأبعاد- إلى المخ، الذي يستخدم بعض الدلالات أو الافتراضات ليكون نسخته ثلاثية الأبعاد عن العالم. ويستخدم المخ هذه الدلالات بشكل لا واعي، وهي لا تختص بإدراك العمق فقط بل بإدراك الألوان والأجسام أيضًا.

وما يعنيه هذا أن المخ هو المسئول بشكل كامل عن الإدراك وبالتالي تكوين الصورة ثلاثية الأبعاد. أما العينان فهما مصادر خام للبيانات فقط. وهذه البيانات ليست ما نراه فعليًا. ما نراه فعليًا يحكمه المخ (بمعرفته وخبراته وخلفيته الثقافية وحالته المزاجية) وليس العينان.

أولًا: إدراك الألوان

العين البشرية مدهشة في رؤية الألوان. فيمكن للشخص العادي التمييز بين ما يقرب من مليون درجة لون مختلفة. ولا يرتبط تمييزنا لأبيض الثلج وأسود الفحم مثلًا بالمادة التي تكون كل منهما فقط. ولكن بكمية الضوء المنعكس عن كل منهما أيضًا. وهو ما يجعلنا نرى شخص يتحرك من النور إلى الظل دون أن نهلع ونعتقد أنه شخص آخر! بل تدرك عقولنا -وبشكل تلقائي- أنه مازال نفس الشخص.

ثانيًا: إدراك الأجسام

برمجة حاسوب يستطيع التمييز بين عدة أشكال مختلفة أمر صعب للغاية. وأحد الإجابات المقترحة لطريقة تعرف البشر على الأجسام المختلفة هي «التقسيم- Segmentation».

ويحدث التقسيم عن طريق عدة دلالات في الطبيعة ترشد المخ أنه يتعامل مع أشكال مختلفة. وهذه الدلالات تعرف باسم «مباديء الجشطالت-Gestalt principles». كل منها موضح في الصورة التالية:

  • «الإغلاق-Closure» بمعنى أننا نميل إلى ملأ الفراغات، ورؤية العناصر في أشكال كاملة. عوضًا عن أجزاء متفرقة.
  • «التقارب-Proximity» بمعنى أننا نميل لوضع العناصر القريبة من بعضها في مجموعة واحدة.
  • «الاتصالية-Continuity» بمعنى أننا نربط بين العناصر التي تتبع خطًا أو منحنى واحدًا. على عكس العناصر التي لا تتبع نمطًا معينًا.
  • «التشابه-Similarity» بمعنى أننا نميل لوضع العناصر المتشابهة في مجموعة واحدة، كما نعتقد أن لديهم نفس الوظيفة.
  • «الشكل/الخلفية-Figure ground» بمعنى أننا نميل تلقائيًا لتحديد العناصر وفصلها عن عن الخلفية المحيطة بها.

وباستخدام هذه المباديء/الدلالات يحول المخ المعلومات البصرية غير المألوفة إلى صور أكثر منطقية وقابلة للإدراك والفهم. فتتحول الصورة من مجرد عدة مكونات متفرقة لا رابط بينها إلى لوحة متكاملة ذات معنى.

ثالثًا: إدراك العمق

ندرك بواسطة العمق مسافة الأشياء وشكلها الحقيقي. وذكرنا قبل قليل أن الشبكية سطح ثنائي الأبعاد، وأن إدراك البعد الثالث -العمق- يحدث في المخ. باستخدام عدد من الدلالات المثيرة للاهتمام. وتنقسم هذه الدلالات إلى:

  • «دلالات ثنائية العينين-Binocular Cues» ومنها:

«التفاوت الشبكي-Retinal Disparity». وهي دلالة العمق الوحيدة التي تتطلب استخدام العينين. وما يحدث أنه نتيجة لبعد العينين عن بعضهما بحوالي ٦ سم، تختلف الصورة في كلا الشبكيتين اختلافًا بسيطًا. ويستخدم المخ هذه الدلالة ليحكم على المسافة. فكلما قَرُب الجسم، كلما زاد الاختلاف بين الصورتين والعكس صحيح. ويمكنك رؤية التفاوت الشبكي بوضوح عندما تضع اصبعك مباشرة أمام عينيك. فتراه اثنين وليس واحدًا.

  • «دلالات أحادية العينين-Monocular Cues» وهي الدلالات التي تتطلب استخدام عين واحدة. وتساعد في تحديد مسافات الأجسام البعيدة ومقاسها. ومنها:

– «الحجم النسبي-Relative size» وهنا يستخدم المخ حجم الأجسام لتحديد مسافتها. فعند مقارنة جسمين من نفس الحجم تقريبًا، سيظهر الجسم الأقرب أكبر حجمًا من الجسم الأبعد.
– «المنظور الخطي-Linear Perspective» وهنا يرى المخ أنه كلما اقترب خطان متوازيان من بعضهما. كلما زادت المسافة.
– «التداخل-Interposition» ويحدث هذا عندما يحجب جسم جزءًا من جسم آخر. فيرى المخ الجسم الذي يظهر بشكل كامل (غير المحجوب) أقرب من الجسم المحجوب.
– «تدرج النسيج-Texture gradient» وهو ما يحدث حينما تراقب حقلًا ممتدًا، فتتلاشى تفاصيل شكل العشب بابتعاد المسافة. وتظهر التفاصيل واضحة بالقرب منك.

اقرأ المزيد عن عملية الرؤية وتفسيراتها

لا تثق في كل ما تراه!

رغم دقة عمل هذه الدلالات التي سبق وسردناها. والتفاصيل الصغيرة التي تختص بها كل منها. إلا أنه لا يمكننا الثقة بها دائمًا، فهناك حالات حيث تخدعنا جميعًا. وهنا يظهر مفهوم «الخداع البصري-Optical illusion».

يحدث الخداع البصري عن طريق ترتيب الأشكال أو تغيير الألوان أو الإضاءة بشكل معين، مما يضلل المخ فيرى ما ليس حقيقيًا. وللخداع البصري أمثلة كثيرة منها:

  • «خداع ميولر لاير-Muller lyer illusion» وهو عبارة عن خطين كما بالصورة. فأيهما أطول؟

إذا كنت مثل أغلب الناس ستكون إجابتك ان الخط العلوي أطول. أما الحقيقة أن الخطين متماثلان. فما التفسير؟

يمكن تفسير ذلك عن طريق دلالات العمق: يحتل الخطان نفس المسافة على شبكية عينك. لكن رغم ذلك يظهر أحدهما أطول من الآخر، لأنه هناك خطوط أخرى في الصورة تجعل مخك يصنع تخمينات عن المسافة. فيعطي السهم الذي يشير للخارج إيحاء أنه يقع على مسافة أبعد من السهم الذي يشير للداخل، وبالتالي يستنتج المخ أنه لا بد للخط الأبعد أن يكون أكبر حجمًا من الخط الأقرب.

  • «خداع بونزو-Ponzo illusion»

وهنا يظهر خطان أيضًا، وعلى الأغلب سترى الخط العلوي أطول من الخط السفلي. لكنهما في الحقيقة متماثلان. فما التفسير؟

يمكن تفسير ذلك في إطار دلالة المنظور الخطي التي سبق وشرحناها. فنجد الخطين المتوازيين يقتربان من بعضهما في حالة الخط العلوي مما ينبه المخ أن المسافة هنا أبعد. وبالتالي لا بد أن يكون حجم الخط أكبر.

نسختك المميزة عن العالم

في الختام، يمكننا القول أن عملية الإدراك البشري بالغة التعقيد. وأنه لكي تنظر إلى وجه صديقك وتعرف أنه صديقك -لا مجموعة أشكال غير مترابطة أو مألوفة- يبذل مخك الكثير من المجهود. فتتعاون الشبكية المدهشة مع خلايا المخ لتكوين الصورة الكاملة في جزء من الثانية. صورة تدرك فيها الجسم ولونه وحجمه وبعده وحركته. صورة مميزة يستخدم فيها عقلك البيانات الخام ثم يضفي عليها المعنى والسحر. لترى العالم بطريقة لا يراها أحد غيرك، فتتكون نسختك المميزة عن العالم!

المصادر

  1. britannica
  2. lumenlearning
  3. verywellmind
  4. verywellmind
  5. newworldencyclopedia

ما أصل اللغة البشرية؟ وما القواسم المشتركة بين جميع لغات العالم؟

هذه المقالة هي الجزء 6 من 21 في سلسلة مقدمة في علم النفس

تعد اللغة جانبًا غامضًا من الحياة العقلية البشرية الذي يحتاج للكثير من التفسير. ما اللغة؟ وكيف نحصل عليها؟ ما القواسم المشتركة بين جميع لغات العالم؟ وكيف تطورت جميعها؟ كل هذه الأسئلة ليست جديدة، بل طرحها كل فيلسوف أو عالم نفس أو عالم أعصاب اهتم يومًا بالطبيعة البشرية وتفسيرها. فاللغة جزء لا يتجزأ منا وتدور حولها الكثير من الأسئلة.

ما هي اللغة؟

تُعرف اللغة بأنها القدرة على إنتاج واستيعاب الكلمات سواء كانت منطوقة أو مُشار بها (في حالة لغة الإشارة). ويُعرف العلم المختص بدراسة اللغة وتركيباتها بـ «علم اللغويات-Linguistics». وهناك حقيقتان يجب معرفتهما عن اللغة:

  • تتشارك جميع اللغات في بعض القواسم العامة، منها قدرة اللغة على التعبير عن أي فكرة مجردة.
  • اختلاف جميع اللغات، فلا توجد لغة مطابقة لأخرى.

لذا تُدرس جميع النظريات عن اللغة من هذا المنظور. منظور وجود بعض القواسم المشتركة وكذلك الاختلافات، وسنتطرق لكليهما لاحقًا.

اللغة البشرية وداروين

قدم داروين نظرية شيقة عن اللغة فقال:

لدى الإنسان ميل خاص للحديث. ونرى ذلك حتى في ثرثرة أطفالنا الصغار. بينما لا نرى طفلًا منهم يميل إلى تعلم الخبز أو الكتابة

وما تعنيه جملة داروين أن اللغة البشرية مميزة وتختلف عن الأنشطة الأخرى، وأنه هناك نوع من الميل الغريزي تجاه تعلم هذه اللغة. وتدعم بعض الحقائق هذا الادعاء، منها:

  • لكل مجتمع بشري لغة خاصة به.
  • على الرغم من الاختلاف الواسع بين الثقافات البشرية إلا أن اللغة (بأشكالها المختلفة) هي وسيلة التواصل المشتركة بينهم جميعًا. وربما يشير هذا إلى وجود ميل غريزي لتعلم اللغة داخلنا
  • هناك الكثير من الحالات عبر التاريخ التي تنشأ فيها اللغة بشكل طبيعي ومذهل. منها: تجارة العبيد قديمًا. عمد القائمون على هذه التجارة على خلط العبيد من خلفيات ثقافية مختلفة لكي يصعب التواصل بينهم فتقل احتمالية الثورة، لكن ما حدث هو تطوير هؤلاء الأشخاص ذوي اللغات المختلفة نظامًا جديدًا. نظام اتصال مؤقت يسمح لهم بالتواصل مع بعضهم فيما يُعرف بـ «اللغة المبسطة-Pidgin» واللغة المبسطة ليست حقيقية وإنما هي خليط من الكلمات المستعارة من لغات مختلفة.
    بمرور الوقت وإنجاب هؤلاء الأشخاص أطفالًا. نجدهم -على عكس المتوقع- لا يتحدثون لغة آبائهم المبسطة. وإنما يطورون لغتهم الخاصة. هذه اللغة كاملة وثرية وتامة التكوين. وتعُرف باسم «اللغة الهجين أو الكريول-Creole».
  • هناك دراسات علم الأعصاب أيضًا التي تدعم نظرية داروين. فكما أشرنا سابقًا في سلسلة علم النفس إلى وجود أجزاء مخصصة من المخ لتعلم اللغة فقط، ويصاب الإنسان عند تلفها بعجز لغوي ما.
  • توجد أيضًا بعض الدراسات التي تبحث في الأصل الجيني للغة.

اكتشف العلماء وجود بعض الجينات المسئولة عن استخدام وتعلم اللغة. ويفقد الشخص القدرة على تعلم اللغة عند إصابتها بأي خلل.

فيم تتشارك جميع اللغات؟

ذكرنا قبل قليل أن أطفال ضحايا تجارة العبيد طوروا لغة آبائهم وحولوها إلى لغة كاملة وثرية. فما المعايير التي يتحدد بها كمال اللغة؟

علم الأصوات

أول خطوة لتعلم اللغة هي تعلم أصواتها. وهنا يأتي دور «علم الأصوات-Phonology»، وهو نظام الأصوات في اللغة. فتستخدم الإنجليزية على سبيل المثال أربعين صوتًا. وتقع جميع الكلمات التي يسمعها المتحدث الأصلي بها في نطاق هذه الأصوات، كما يستطيع تمييزهم جميعًا. فيمكنه التمييز بين صوتي L و R كما في كلمتي Lip و Rip. بينما لا يمكن لبعض غير المتحدثين الأصليين تمييز هذا الفرق.

يمكن أيضًا للمتحدثين الأصليين وضع الحدود بين الكلمات وتحديد بدايتها ونهايتها. وعلى عكس المتوقع هذه الحدود أو «الوقفات-Pauses» بين الكلمات لا تُتعلم، بل هي وهم نفسي. فعندما يتحدث شخص عبر جهاز الذبذبات الذي يقيس ذبذبات الصوت نجد أنه لا توجد وقفات بين الكلمات، وإنما يتعلم العقل متى تبدأ الكلمة ومتى تنتهي ويدرج الوقفة بينهما. ونلاحظ هذا بوضوح عند الاستماع للغة غريبة فلا نسمع سوى ضوضاء متواصلة.

علم الصرف

«علم الصرف أو المورفولوجيا-Morphology»، وهو علم الكلمات. المورفيم هو أصغر وحدة بنائية ذات معنى في اللغة، وهناك فارق بين المورفيم والكلمة. فتتكون جميع الكلمات من مورفيم واحد أو أكثر. بينما توجد مورفيمات مفردة لا تكون كلمات.

مثال: كلمة Dogs. هي كلمة واحدة لكنها تتكون من المورفيم Dog ومورفيم الجمع S. تصل عدد المورفيمات التي يعرفها المتحدث العادي إلى ثمانين أو مائة ألف مورفيم. وتصل إلى مائتي أو ثلاثمائة ألف عند متعددي اللغات. وهذا كم مذهل من الكلمات يحمله العقل البشري. ويستطيع الوصول إليه في جزء من الثانية!

وتظهر خاصية مميزة للغة في إطار المورفولوجيا وهي «اعتباطية الإشارة-Arbitrariness of the sign» بمعنى عدم وجود علاقة بين شكل الكلمة أو الإشارة (في حالة لغة الإشارة) ومعناها، فالرابط بينهما اعتباطي. فنجد كلمة كرسي أو دولة لا تعبر بأي شكل عن الشكل المادي لهما، وإنما تعبر عن فكرتهما فقط. وعن طريق هذه الخرائط الاعتباطية تنشأ كلمات اللغة.

علم بناء الجملة

  • «علم بناء الجملة-Syntax»

وهي مجموعة القواعد التي تساعدنا على تكوين عددًا لا نهائيًا من الجمل المفيدة. وهنا تظهر خاصية مميزة للغة أيضًا. وهي امتلاكها «نظام دمج-Combinatorial System». بمعنى استخدام اللغة لوسائلها المحدودة (أصواتها وكلماتها) بشكل غير محدود (تكوين عدد لا نهائي من الجمل).

تتمتع الموسيقى بهذا النظام أيضًا، فتمتلك عددًا محدودًا من النغمات التي ينطلق منها عددًا لا محدودًا من المقطوعات الموسيقية. وآلية اللامحدودية هي التكرار، بمعنى أن القدرة على تكرار الكلمات (في أُطر نحوية معينة) يضمن لنا عددًا لا نهائيًا ومتجددًا من الجمل.

نمو اللغة البشرية

سنعود مرة أخرى إلى العالم الذي سبق وعرفنا أنه وضع نهاية للسلوكية: نعوم تشومسكي. أتى تشومسكي بادعاء ثوري حول أصل اللغة. فرأى أن تعلم اللغة ليس تعلمًا حقيقيًا، وإنما يجب النظر إليه كشكل من أشكال النمو. فكما تنمو أعضاء الجسم المختلفة، تنمو أيضًا القدرة على فهم اللغة داخل المخ. لكن ما مدى صحة هذا الادعاء؟

  • لا ينكر العلم حقيقة تأثير البيئة المحيطة على تشكيل اللغة. فلا يمكن تعلم أي لغة بشكل كامل دون سماعها والتأثر بها.
  • تثبت دراسات الأعصاب وجود مراكز خاصة بتعلم اللغة في المخ. وعند تلفها يصاب الشخص بأمراض مثل «الحبسة-Aphasia». كذلك توجد بعض الاضطرابات الجينية التي تسبب عدم قدرة الأطفال على تعلم اللغة وتعرف باسم «اعتلالات اللغة الخاصة-Specific language impairments». وهنا يمكن القول أن تعلم اللغة منفصل عن باقي جوانب الحياة العقلية البشرية. فهؤلاء الأطفال ذوي الاضطرابات الجينية لا ينقصهم الذكاء العقلي أو الاجتماعي، لكنهم فقط لا يستطيعون تعلم اللغة.
  • يحدث تعلم اللغة دون أي نوع من التدريب أو التقييم. فبينما تنتشر ثقافة الحديث مع حديثي الولادة لكي يتعلموا اللغة، نجد مجموعات من البشر الذين يجدون هذه الفكرة سخيفة، ولا يتحدثون مع أطفالهم إلا بعد أن يكتسبوا هم القدرة على الحديث. وفي الحالتين، يتعلم الأطفال اللغة. كذلك تثبت دراسة أخرى عدم أهمية التقييم. فلا يصحح الآباء حديث صغارهم عندما يقعوا في أخطاء لغوية أو نحوية (مثل الإشارة إلى المؤنث بالمذكر أو العكس) بل يستقبلونها بعاطفة بحتة ولا يهتمون بتلك الأخطاء. ومع ذلك تتلاشى هذه الأخطاء بمرور الوقت دون أي تدريب أو تصحيح.

وهنا تقترح هذه الأدلة انفصال مراكز تعلم اللغة عن باقي الحياة العقلية. كما أنها تنمو وتتطور دون أي تدريب كما يحدث مع باقي أعضاء الجسم. لذا ربما يحمل ادعاء تشومسكي على الرغم من غرابته بعض الصحة.

نظام لا مثيل له!

دراسة اللغة والنظريات المتعلقة بها حقل واسع للغاية، وربما تظل الأسئلة التي تدور حولها بلا إجابات شافية لوقت طويل. لكننا نعلم حقيقة أن اللغة البشرية لا مثيل لها. فعلى الرغم من وجود لغات وسبل تواصل بين فصائل مختلفة من الكائنات الحية. إلا أن اللغة البشرية بتكويناتها الثلاث من أصوات وكلمات وقواعد، وما يرتبط بهم من خصائص مميزة مثل نظام الدمج واعتباطية الإشارة، لا مثيل لها في أي نظام آخر.

المصادر

  1. languagelog
  2. britannica
  3. britannica
  4. lumenlearning

كيف غير بياجيه نظرتنا لأطفال العالم؟

هذه المقالة هي الجزء 5 من 21 في سلسلة مقدمة في علم النفس

كيف غير بياجيه نظرتنا لأطفال العالم؟

  • يمكنك الاستماع لهذا المقال صوتيًا من هنا، سنبدأ حديث اليوم بطرح عدة أسئلة. كيف يكتسب الإنسان المعرفة؟ ما طبيعة الذكاء البشري؟ وكيف ينشأ وينمو؟ لا يمكننا إجابة هذه الأسئلة دون التطرق إلى علم نفس النمو. تحديدًا نظرية «النمو المعرفي- Cognitive Development» لعالم النفس السويسري «جان بياجيه-Jean piaget».

عن النظرية

لا يمكننا تفسير النمو المعرفي دون ذكر دور بياجيه. فهو أول عالم يضع نظرية تفسر طبيعة الذكاء عند الأطفال. كما يطرح أسئلة عن المعرفة نفسها، كيف تُكتسب ويستفيد منها البشر. اهتم بياجيه بنشأة المعرفة بشكل عام. واعتقد أن دراسة النمو الفردي للطفل سيرشده إلى الإجابة. فكان مؤمنًا أن نمو الفرد يحاكي النمو المتكرر للفصيلة. وصف بياجيه الأطفال أنهم مفكرون نشطون، أو علماء صغار. يحاولون اكتشاف العالم دائمًا. ويفعلون هذا عن طريق آليتين تعملان بالتبادل وتقودان الطفل خلال مراحل نموه المختلفة:

  1. «Assimilation -التماثل» وهي عملية إدخال معلومات جديدة على نظام معرفي موجود مسبقًا. أو بمعنى آخر توسيع نطاق المعرفة. مثل قدرة الطفل على التعرف على الكلب (هذا نظام معرفي وجد مسبقًا) تمتد لتسميته جميع الحيوانات ذوات الأرجل الأربع كلب.
  2. «التكيف-Accommodation» وهي عملية تكوين نظام معرفي جديد،يُمكن إدخال معلومات جديدة عليه. أو بمعنى آخر تغيير منظومة المعرفة نفسها. مثال: عندما يصحح الوالدان الطفل ويقولان أن هذا الحيوان صاحب الأرجل الأربع قطة وليس كلب، يكتسب الطفل معرفة جديدة.

بياجيه ومراحل نمو الطفل

آمن بياجيه بـ «المعرفة الجينية-Genetic Epistemology» بمعنى أن النمو المعرفي للطفل يحدث تبعًا لمخطط فطري وُجد قبل الولادة. وراقب بياجيه واختبر التغيرات التي تحدث للأطفال في مراحل عمرية مختلفة ومن خلالها وضع نظريته عن النمو المعرفي للطفل وقسمها إلى عدة مراحل:

  1. «المرحلة الحسية الحركية-sensorimotor stage» والتي تمتد حتى عمر السنتين. وفيها يكون الطفل كائنًا ماديًا للغاية. ليس لديه أي فهم للعالم الخارجي. يرى ويسمع ولا يفكر. وعند عمر الستة أشهر، يبدأ الطفل اكتساب مفهوم «ديمومة الأشياء-Object Permenance».

    أطلق بياجيه هذا الاسم على ظاهرة استيعاب البشر استمرار وجود الأشياء حتى عند غيابها عن النظر. البالغون يدركون هذه الفكرة، لكن الأطفال -حتى عمر الستة أشهر- كما ادعى بياجيه لا يدركونها. وهو ما فسر به انزعاج الأطفال عندما تخفي لعبتهم وراء ظهرك، فيعتقدون أنها اختفت للأبد.

فكرة أخرى مرتبطة بهذه المرحلة وهي فشل الأطفال الأكبر سنًا -عمر التسعة أشهر- في اختبار (أ وليس ب). مثال: تأخذ غرضًا يخص طفل عمره تسعة أشهر وتضعه في فنجان (نقطة أ) فتجد الطفل يمد يده ويأخذه.

تعيد التجربة عدة مرات فيتكرر نفس رد فعل الطفل. أما عند وضع الغرض في مكان آخر (نقطة ب) تجد الطفل يمد يده إلى النقطة أ. كأن الطفل في هذا العمر ليس ذكيًا بما يكفي ليمد يده إلى النقطة ب رغم رؤية الغرض يُنقل إليها. ومن هنا استنتج بياجيه قصور فهم عند الأطفال في هذا العمر، هذا القصور يتطلب الوقت والمرور بباقي المراحل ليتطور.

2. «مرحلة ما قبل العمليات-Preoperational stage» والتي تمتد حتى سبع سنوات. وهنا يتعلم الطفل اللغة، ويتطور خياله واستخدامه للرموز. وتتشكل فكرته عن العالم، لكن هذه الفكرة محدودة بمفهومين:

  • «التمركز حول الذات-Egocentrism» وهنا لا يقصد بياجيه الأنانية. وإنما عدم قدرة الطفل على استيعاب أن الآخرين يرون العالم بشكل مختلف عنه. أشهر التجارب التي توضح ذلك هي «مهمة الجبال الثلاث-Three mountains task».

    حيث عرض بياجيه مجسم ثلاثي الأبعاد لثلاثة جبال على أطفال في عمر الرابعة والخامسة، وطلب منهم رسم المشهد كما يرونه أمامهم. فلم يواجهوا صعوبة في ذلك. ثم طلب منهم رسم الجبل كما سيبدو لشخص يقف على الجانب الآخر. فواجه الأطفال صعوبة بالغة في فعل ذلك.
  • «الاحتفاظ-Conservation». بمعنى فهم أن إعادة توزيع المادة لا يؤثر على حجمها أو كتلتها أو طولها أو عددها. والأطفال في هذا السن كما يرى بياجيه لا يدركون هذا المفهوم. أحد التجارب الشهيرة التي توضح ذلك تضمنت وضع كميتين متماثلتين من الماء في إنائين متماثلين. ثم نقل الماء من أحدهما إلى إناء آخر أطول وأنحف. وسؤال الأطفال أي الإنائين يحوي كمية ماء أكبر. ورغم رؤية الأطفال تماثل كميات الماء في المقام الأول إلا أنه يقع اختيارهم على الإناء الأطول دائمًا.

3. «مرحلة العمليات الملموسة-Concrete Operations Stage» التي تمتد من سن السابعة حتى الحادية عشر. وهنا يدرك الطفل مفهوم الاحتفاظ. ويكتسب القدرة على التفكير المنطقي ولكن في نطاق مادي ملموس فقط. فلا يمتلك القدرة على التفكير المجرد.

4. «مرحلة العمليات الشكلية المجردة- Formal Operational Stage» التي تبدأ من سن الثانية عشر وتمتد فيما بعدها. وهنا يكتسب الطفل القدرة على التفكير المجرد خارج حدود العالم المادي.

نقد نظرية بياجيه

نجح بياجيه مقارنة بفرويد وسكينر وذلك لعدة أسباب: نظرية بياجيه عن النمو المعرفي للطفل متماسكة بما يكفي لاختبارها وإثبات خطأها. بمعنى أنها تتمتع بما ذكرناه سابقًا عن «قابلية الدحض-Falsification» على عكس فرويد وسكينر. كما حقق بياجيه نتائج مذهلة.

فلم يكن يدري أحد أن الأطفال يفكرون بشكل مختلف عن البالغين، بل اعتقد الجميع أنهم فقط غير قادرين على التفكير مثلهم. وجاءت مفاهيم بياجيه عن الاحتفاظ وديمومة الأشياء لتدحض هذه الفكرة.

لكن لم تخل نظرية بياجيه من بعض القصور. بعضها قصور نظرية: فلم يوضح بياجيه بشكل كامل كيف يكتسب الطفل المعرفة. كيف ينتقل من مفكر ملموس إلى مفكر مجرد. أو كيف يتحول من عدم إدراك ديمومة الأشياء إلى إدراكها. وبعضها قصور منهجية: اعتمد منهج بياجيه على الأسئلة والإجابات. لكن المشكلة أن الطفل ليس متمكنًا من التعبير واستخدام اللغة. وربنا يؤدي هذا إلى الاستهانة بما يعلمه الأطفال بالفعل. خاصة الأطفال الأصغر سنًا.

طفلك أذكى مما تعتقد!

يتشارك أغلبية البشر في نظرتهم تجاه الأطفال، أنهم صغار وسذج ولا يعلمون الكثير عن العالم. لكن العلم الحديث يثبت عكس ذلك. فالأطفال أذكي مما نعتقد. ولاكتشاف المدى الكامل لقدراتهم ربما علينا أن نكون أكثر ذكاءًا ونطور وسائل البحث. بدلًا من طرح الأسئلة وانتظار الإجابات هناك وسائل أكثر فاعلية. مثل: دراسة الموجات الدماغية، أو تحديد وقت النظر الخاص بهم. يعد الأخير أحد أهم الوسائل التي ساعدت في دراسة نمو الأطفال.

أحد التجارب الشهيرة التي قام بها العالم روبرت فانتز تضمنت عرض صورتين على أطفال بعمر يومين فقط وملاحظتهم. فوجد اختلاف في وقت نظرهم إلى الصورتين مما يقترح رؤيتهم للاختلاف بينهم. كذلك تفضيلهم للصورة التي ينظرون إليها لوقت أطول. وبهذا اكتشف العالم تفضيل الصغار للأسطح المزخرفة على الأسطح الفارغة.

تعتمد تجارب “وقت النظر” على مبدئين وهما:

  • التعود: كما فسرناه عند مناقشة السلوكية هو انخفاض الاستجابة للمحفزات المألوفة بسبب التعرض المستمر لها. وباستخدامه يمكن تحديد ما يراه الطفل مختلفًا. مثال: عرض صورة باللون الأحمر بشكل متكرر حتى يمل الطفل منها. ثم عرض صورة باللون الأخضر وملاحظة رد فعله. في حال انتباه الطفل لحدوث اختلاف فسينظر لوقت أطول.
  • المفاجأة: وتعتمد على رؤية الأطفال لأحداث تخالف فكرتهم المسبقة عن الأشياء وطريقة عملها. فنلاحظ ازدياد وقت نظرهم. مثال: «تجربة الجسر المتحرك-DrawBridge Study» الشهيرة. وُضعت شاشة متحركة على طاولة، تدور من وضع رأسي، وكذلك بشكل أفقي موازٍ للطاولة. رأي الأطفال هذا المشهد حتى اعتادوا عليه. ثم وُضع صندوق خلف الشاشة ليمنع دورانها بشكل كامل.

    تعرض الأطفال لنوعين من المحفزات أثناء الاختبار: محفز واقعي وهنا يعيق الصندوق الشاشة فتتوقف عن الدوران. ومحفز غير واقعي وهنا يُسحب العائق سرًا فتستمر الشاشة في الدوران بشكل طبيعي. ازداد وقت نظر الأطفال بشكل ملحوظ في الحالة الثانية مما يقترح فهم الأطفال لقوانين العالم المادي، واستيعابهم لديمومة الأشياء (استمرار وجود العائق خلف الشاشة حتى عندما لا يرونه) قبل عمر الستة أشهر.

والآن يثبت العلم إدراك الطفل للعالم المادي منذ البداية، لكن ليس بشكل كامل. بالرغم من وجود بعض المعرفة الفطرية إلا أنه هناك مساحة للتعلم والتطور. وهنا يأتي السؤال: كيف يمكن تفسير معرفة الطفل لأشياء لم يكن يعرفها من قبل؟ كيف نفسر هذا النمو؟

كيف نفسر النمو؟

أولًا: عن طريق نمو المخ أو النضج العصبي. الخلايا العصبية التي يمتلكها الشخص البالغ هي نفس الخلايا التي امتلكها حينما كان جنينًا في رحم أمه. وما يحدث هو عملية تشذيب، أو تخلص من فائض الخلايا العصبية غير المفيدة. الأمر الذي يغير من الهيكل العصبي بشكل جذري.

ثانيًا: نمو الوصلات العصبية بشكل كبير، تصل «الوصلات العصبية-Synapses» إلى ذروة نموها عند عمر السنتين.

ثالثًا: نمو «الغشاء الميليني-myelin sheath». وهو الغشاء الذي يحيط بمحور الخلية العصبية ليزيد من سرعتها وكفائتها. ينمو هذا الغشاء بشكل تدريجي، فنجده غير مكتمل النمو عند المراهقين، خاصة في الفص الجبهي من المخ. وهو الجزء المسئول عن الإرادة وضبط النفس.

رابعًا: عدم قدرة الأطفال على «المنع-Inhibition». ولفهم ذلك سنعود إلى تجربة (أ وليس ب) في بداية المقال. فسر العلماء تكرار ذهاب الطفل إلى النقطة أ رغم رؤيته تغير مكان الغرض أنه يصعب على الطفل التحكم في الفعل وإيقافه بعد أن قام به بشكل متكرر. وذلك لأن الجزء الخاص بالتحكم/ المنع في المخ لم ينشط بعد. بل لاحظ العلماء أيضًا أن الطفل يمد يده إلى النقطة أ بينما ينظر إلى النقطة ب. كأنه يعرف الخيار الصحيح لكنه فقط لا يستطيع التحكم ومنع نفسه.

الأطفال اجتماعيون بالفطرة

لا يتوقف ذكاء الأطفال عند إدراكهم للعالم المادي وبعض قوانينه فقط. بل تقترح بعض التجارب امتلاك الأطفال قدرًا من الذكاء الاجتماعي الفطري، الذي يتيح لهم التفاعل مع عناصر البيئة المحيطة بهم. ومن هذه التجارب:

تجربة روبرت فانتز التي ذكرناها سابقًا. حيث لاحظ روبرت انجذاب الأطفال (بمعنى النظر لوقت أطول) إلى الصور التي تحمل أنماطًا تشبه الوجوه البشرية.

تجربة أخرى شهيرة قام بها ميلتزوف تتضمن التفاعل مع أطفال حديثي الولادة. وجدت أن الأطفال يقلدون تعابير وجه الشخص البالغ الذي يقف أمامهم مثل فتح الفم وإبراز اللسان. نتائج هذه التجربة على وجه الخصوص مدهشة، لأنها تثبت أن الأطفال مقلدون بطبيعتهم. وأن هؤلاء الأطفال يمتلكون نوعًا من المعرفة الفطرية أن الشخص الذي يقف أمامهم (مثلهم) ومن نفس نوعهم.

تجربة أخرى قام بها العالم بول بلوم تضمنت عرض أفلام على أطفال بعمر التسعة أشهر. أحد شخصيات الفيلم متعاونة تساعد الكرة على تحقيق الهدف. والشخصية والأخرى تعيقها. ثم اختبار أي الشخصيات تلفت انتباه الأطفال أكثر. وجائت النتائج بميل الأطفال إلى الشخصية المساعدة. ومن هنا يمكن استنتاج أن الأطفال لديهم نوع من التفسير الاجتماعي لمفاهيم المساعدة والإعاقة. كما يمكن القول أنهم يميلون فطريًا إلى التعاون.

أبيض أم أسود؟

وهنا قد يعتقد البعض ان هذا الأمر مبالغ فيه، لماذا ندرس علم النفس النمو؟ ولماذا كل هذا الاهتمام بالصغار؟ فهم سيكبرون في جميع الأحوال! والإجابة أن دراسة نمو الأطفال ليس هامًا لهم فقط، بل لنا كبالغين أيضًا. هناك بعض الأسئلة التي لا يمكن إجابتها إلا بالعودة إلى الوراء والنظر في بدايات الأشياء. أحد الأمثلة الشهيرة: هل الحمار الوحشي أبيض بخطوط سوداء أم أسود بخطوط بيضاء؟ وهنا يمكنك التأمل والتفكر في جسد الحمار الوحشي كما تشاء ولن تصل إلى إجابة. أما إذا قررت العودة إلى الوراء، وقمت بالنظر في نمو جنين الحمارالوحشي ستجد الإجابة. وهنا تكمن أهمية ما نفعله.

المصادر

  1. britannica
  2. webmd
  3. verywellmind
  4. simply psychology
  5. cell

حديث عن السلوكية وسكينر

هذه المقالة هي الجزء 4 من 21 في سلسلة مقدمة في علم النفس

حديث عن السلوكية وسكينر

ذكرنا في الجزء السابق من سلسلة علم النفس دور فرويد وإسهاماته الفكرية ورأي العلم فيها. واليوم سنتعرض لمدرسة فكرية أخرى حظت بشهرة واسعة في القرن العشرين وهي السلوكية وأشهر مناصريها «بي.اف. سكينر- B. F. Skinner».

على عكس فرويد الذي طور نظرية التحليل النفسي بنفسه، فهي أقرب إلى الاختراع الفردي. ظهرت السلوكية قبل سكينر بوقت طويل. وناصرها علماء أهمهم جون واتسون. وترجع شهرة سكينر إلى جمعه أفكار السلوكية وتنقيحها وتطويرها وتقديمها للمجتمع العلمي.

مباديء السلوكية الثلاث

تتبنى السلوكية ثلاث رؤى متطرفة وشيقة للغاية وهي:
١. التشديد القوي على أهمية التعلم والتجربة. فيري السلوكيون أن طبيعة الإنسان كلها نتاج التجربة. ليست هناك طبيعة بشرية حقيقية، فالبشر طيعون وقابلون للتشكيل.

ويقول جون واتسون: “أعطني مجموعة من الأطفال الأصحاء المعافين ومساحتي الخاصة لتربيتهم بها. وأضمن لك أنني سأحول أي شخص منهم عشوائيًا إلى المتخصص الذي أختار، طبيب أو محامي أو تاجر أو مدير وحتى متسول أو لص. بغض النظر عن مهاراته أو إهتماماته أو ميوله أو قدراته أو مشاعره أو أصوله”

وفي هذا السياق، نجد واتسون مؤمنًا بالمساواة. فلا يوجد فصيل من البشر أفضل من الآخر. بل يعتمد الأمر كله على التعلم وأسلوب المعاملة.
٢. «معاداة السيطرة الذهنية-Anti mentalism». قدس السلوكيون كل ما هو علمي. وعلى عكس فرويد، آمنوا أن الحديث عن الحالة الذهنية الداخلية مثل الرغبات والأمنيات والأهداف والمشاعر غير علمي. لذا طوروا منهجهم دون الاعتماد على أي شيء غير قابل للرصد. بل استخدموا مفاهيم مثل: المحفزات وردود الأفعال والتعزيز والعقاب. وتشير جميعها إلى أحداث ملموسة في العالم الحقيقي.
٣. عدم وجود اختلاف يُذكر بين فصائل الكائنات الحية. رأي السلوكيون أن المفاهيم السالف ذكرها يمكن تعميمها على جميع الكائنات الحية. لذا طوروا منهجًا لدراسة السلوك البشري عن طريق دراسة سلوك الحيوانات.

كيف فسرت السلوكية السلوك البشري؟

وضع السلوكيون ثلاثة مباديء للتعلم. وزعموا أنها يمكنها تفسير كافة الحياة العقلية والسلوكيات البشرية.

المبدأ الأول وهو «التعود-Habituation». يمكن تعريف التعود أنه انخفاض الاستجابة للمحفزات المألوفة بسبب التعرض المستمر لها. مثل اعتياد صوت دقات الساعة أو ضوضاء المرور. ويعد التعود صورة هامة من صور التعلم وآلية تكيف مفيدة. تُمكن البشر من تعقب الأحداث والتغيرات الجديدة لتحديد إذا كانت ستؤذيهم أم لا. ومن ثم التوقف عن ملاحظة الأشياء بعد فترة، بعد أن تُثبت اندماجها بالبيئة المحيطة استعدادًا لملاحظة تغير جديد وهكذا.

المبدأ الثاني: «الشرطية الكلاسيكية-Classical Conditioning». يعد عالم النفس الروسي «إيفان بافلوف-Ivan Pavlov» أشهر من تحدث عن الارتباط الكلاسيكي. قامت تجربة بافلوف على تقديم الطعام إلى كلب وملاحظة كمية اللعاب التي ينتجها. كان بافلوف يقرع الجرس أولًا ويتبعه بتقديم الطعام للكلب فينتج اللعاب. ومع الوقت لاحظ بافلوف أن قرع الجرس وحده دون تقديم الطعام تسبب أيضًا في إنتاج اللعاب.

وهنا قدم بافلوف نتائجه التي فرقت بين نوعين من الارتباط بين المحفز ورد الفعل: أولًا، الارتباط غير المشروط. عندما يُسبب محفز غير مشروط (تقديم الطعام للكلب) رد فعل غير مشروط (إنتاج اللعاب). ويحدث هذا الأمر بشكل طبيعي، لم يضطر الكلب لتعلمه. ثانيٌا، الارتباط المشروط. عندما يُسبب محفز مشروط (صوت الجرس) رد فعل مشروط (إنتاج اللعاب). يحدث هذا الارتباط عبر التعلم، وفيه يتحول صوت الجرس تدريجيًا من عامل محايد إلى محفز مشروط. وهنا نجد أن الاقتران المتكرر بين المحفزات غير المشروطة والمحفزات المشروطة يؤدي في النهاية إلى إنتاج رد فعل مشروط.

المزيد من الشرطية الكلاسيكية

لم تقتصر تجارب الشرطية الكلاسيكية على الحيوانات فقط، بل عُممت على البشر أيضًا. قام سكينر بتجربة «ألبرت الصغير-Little Albert» الشهيرة. حيث أتي بالطفل ألبرت صاحب التسعة أشهر وعرض عليه مجموعة من “المحفزات” مثل: جريدة مشتعلة وقرد وأرنب وفأر أبيض. ولاحظ ردود أفعاله، فلم يبد الطفل أي إشارة خوف أو اضطراب.

أعاد سكينر التجربة، لكن عندما ظهر الفأر الأبيض أثار ضوضاء مزعجة، فأخذ الطفل يبكي. بعد إعادة التجربة عدة مرات وإقران الفأر الأبيض بالضوضاء كل مرة، صار ألبرت يبكي عند رؤية الفأر الأبيض فورًا حتى في غياب الضوضاء. ولم يقف الأمر عند هذا الحد، لاحظ سكينر بكاء الطفل عند رؤيته الأرنب أو معطف من الفرو أو قناع سانتا. امتد خوفه إلى كل ما هو أبيض ومكسو بالفراء فيما عرفه سكينر بـ «تعميم المحفز-Stimulus Generalization»

وهنا يمكننا القول أن الشرطية الكلاسيكية ليس مجرد ظاهرة معملية. فقد عُممت نتائجه على مختلف أنواع الحيوانات. بل وأدعى البعض أنه يفسر بعض الجوانب الشيقة من ردود الفعل البشرية. مثل: حالات «الرهاب-Phobia».

رأي السلوكيين في تجربة ألبرت الصغير تفسيرًا لنشأة الرهاب. وأيضًا شعور الجوع، تُفسر تجربة الجوع بوجود إشارات في البيئة المحيطة مرتبطة ومحفزة لهذا الشعور. وآمن السلوكيون أنه يحدث بسبب التاريخ الارتباطي بين المحفزات وردود الفعل. وأخيرًا تكوين الرغبة الجنسية خاصة الفيتيشية. رأي السلوكيون أنه إشراط كلاسيكي مباشر. فبينما يختبر الشخص المتعة الجنسية مع شريكه يحدث أن تقع عيناه على الحذاء مثلًا ومن هنا يحدث الارتباط. فيصبح الحذاء محفز مشروط لرد فعل مشروط وهو المتعة الجنسية.

الإسهام الأبرز لسكينر

المبدأ الثالث والأخير للتعلم عند السلوكية هو «الشرطية الإجرائية-Operant Conditioning». وهنا يحدث التعلم عن طريق المكافأة والعقاب، فيربط الشخص بين سلوك معين ونتائجه. طُور هذا المبدأ على يد سكينر. الذي اعتمد على «قانون التأثير-Law of Effect» لثورندايك بشكل أساسي وبنى عليه نظريته. ينص قانون التأثير أن احتمالية تكرار الأفعال المتبوعة بنتائج إيجابية أعلى من تلك المتبوعة بعواقب سلبية.

طور سكينر هذا المفهوم وأضاف إليه مصطلح «التعزيز-Reinforcement». ومعناه أن السلوك الذي يُعزز يتكرر وينمو تأثيره، أما السلوك الذي لا يُعزز يضعف تدريجيًا حتى يتلاشى. مثال على ذلك: تملك خنزيرًا وتود تدريبه على السير إلى الأمام فقط. عندما يسير الخنزير للأمام تكافئه وتقدم له الطعام. وعندما يسير للخلف تعاقبه وتمنعه عن الطعام. وبمرور الوقت وباستخدام تقنية المكافأة والعقاب ستحصل على خنزير يسير للأمام فقط. وهكذا استخدم سكينر الإشراط الإجرائي لتدريب الحيوانات. ولم يتوقف على تعليمها السير للأمام فقط بل دربها لفعل أمور أكثر تعقيدًا. مثل لعب كرة الطاولة، وأيضًا طور خلال الحرب العالمية الثانية قذيفة موجهة بطيور الحمام. لكن لحسن الحظ لم تُستخدم قط!

لو اقتصرت تجارب سكينر على الحيوانات فقط لما اتسعت شهرته. لكنه عممها على البشر وسلوكياتهم أيضًا. ناصر سكينر مبدأ الإشراط الإجرائي وآمن أنه يجب تطبيقه على الحياة اليومية لتصبح حياة البشر أكثر رضا وكمالًا. فطالب بإعادة إصلاح نظام السجون. وبدلًا من التركيز على مباديء العدالة والعقاب، ينبغى تعزيز التصرفات الحميدة والعقاب على التصرفات المسيئة.

رأي العلم في السلوكية

أثبت العلم أن الأفكار الثلاث التي قامت عليها السلوكية خاطئة بشكل كامل. وفيما يلي تفصيل للنقد الموجه للسلوكية:

أولًا: هل كل المعرفة تأتي من التعلم؟ أثبت العلم يقينًا أن كل شيء لا يأتي عن طريق التعلم. وهناك ما يكفي من الأدلة على وجود قدر من المعرفة والرغبات الفطرية عند البشر والحيوانات على حد سواء.

ثانيًا: هل الحديث عن الحالة العقلية غير علمي؟ ثبت خطأ هذا الاعتقاد أيضًا. تعتمد علوم مثل الفيزياء والكيمياء بشكل كبير على أشياء غير قابلة للرصد. ويبدو تفسير السلوك الإنساني تبعًا للآليات الداخلية له أكثر منطقية. مثلما يحدث مع الحاسوب فلن نستطيع تفسير لماذا يقدر على لعب الشطرنج مثلًا دون التطرق إلى برامجه وآلياته الداخلية.

ثالثًا: هل تحتاج الحيوانات للتعزيز والعقاب كي تتعلم؟ الإجابة أيضًا لا. ظهرت دراسات للعالم تولمان في القرن الماضي تثبت عكس ذلك. حيث وُضعت بعض الفئران في متاهة ووجدوا أنها تنهيها بسرعة عند تعزيزها بشكل مستمر. لكنهم وجدوا أيضًا أنها تنهيها بشكل أسرع إذا لم تُعزز على الإطلاق. لذا يمكننا القول أن مبدأ التعزيز والعقاب يساعد لكنه ليس الخيار الأمثل.

رابعًا: هل يمكن تعليم الحيوانات أي شيء دون قيود؟ والإجابة هي لا. لدى الحيوانات ردود فعل فطرية، التي يمكن استخدامها في تجارب التعلم لكن لا يمكن تغييرها. فيمكن تعليم حمامة أن تنقر الأرض من أجل الطعام أو ترفرف جناحيها للهروب لكن يصعب تعليمها العكس.

صحة الشرطية الكلاسيكية

أثبت العلم وجود استثناءات للشرطية الكلاسيكي منها ظاهرة تدعى «تأثير جارسيا-The Garcia Effect» التي تفسر النفور من الطعام عند الحيوانات والبشر. فعندما يتزامن شعور الغثيان مع وجود طعام جديد يتطور نفور تجاه هذا الطعام. والمثير هنا أن هذا النفور خاص ومميز. فإذا حُقن حيوان بعقار ما يجعله يشعر بالغثيان، وقدم له في نفس الوقت طعامًا جديدًا فسينفر من هذا الطعام. أما إذا صُعق كهربيًا وقُدم له طعامًا جديدًا فلن ينفر منه. ثنائية النفور من الطعام والغثيان فطرية وبالتالي فهي أقوى من ثنائية النفور من الطعام والألم.

استثناء آخر للشرطية الكلاسيكية وهو نشأة الرهاب. ثُبت خطأ الإدعاء القائل أن تطور الرهاب يحدث نتيجة ارتباطات كلاسيكية. بل اتضح أن هناك بعض أشكال الرهاب التي تطورنا كبشر لنصاب بها. فنجد أن البشر وحيوانات الشمبانزي أكثر عرضة للإصابة بالخوف من الثعابين. لذا من المرجح أن الإصابة بالرهاب لها علاقة بالتاريخ التطوري وليس التاريخ الشخصي.

النقد الأخير والأكثر قوة الذي وضع نهاية للسلوكية كنظرية سائدة كتبه المفكر نعوم تشومسكي. الحجة الرئيسية التي ساقها تشومسكي هي افتقار السلوكية -كما الحال مع فرويد- لـ «القابلية للدحض-Falsification». فعندما يتعلق الأمر بالبشر، تعد أفكار التعزيز والعقاب غامضة للغاية ولا يمكن احتسابها علمًا صحيحًا.

ختامًا، يمكننا الجزم أن السلوكية تلاشت تمامًا في وقتنا الحالي. لكنها تركت ورائها إرثًا هامًا ولا تزال تعد أحد أكبر الإسهامات الفكرية في القرن العشرين. فقد منحتنا فهمًا أفضل لآليات التعلم، فلا ننكر حقيقة آليات مثل التعود والإشراط الكلاسيكي ولا إمكانية دراستها بشكل علمي ولا الدور الهام الذي تلعبه في حياة الحيوانات وربما البشر أيضًا. لكنها فقط لا تشرح كل شيء.

المصادر

  1. verywellmind
  2. simplypsychology
  3. britannica
  4. verywellmind

ماذا قدم فرويد للبشرية؟

هذه المقالة هي الجزء 3 من 21 في سلسلة مقدمة في علم النفس

هل شعرت يومًا أنك تحب شخصًا ما أو تبغضه لسبب غير معلوم؟ هل وجدت نفسك في موقف ما تجادل وتدافع لأسباب لا تستطيع صياغتها بوضوح؟ أو هل نسيت اسم شخص ما في الوقت غير المناسب ولا تعرف لماذا؟ أجاب فرويد عن هذه الأسئلة، وطور نظرية شيقة للغاية عن دوافع البشر ورغباتهم. لكن في البداية دعونا نتعرف على عالم النفس الأشهر في التاريخ الحديث الذي تؤثر أفكاره على رؤيتنا للأمور حتى وقتنا الحالي.

حياة فرويد

ولد سيجموند فرويد في النمسا عام 1856م. وعاش في مدينة فيينا حتى عام 1938م، حيث انتقل إلى لندن بعد اندلاع الحرب العالمية الثانية ليتوفى فيها بعد مرور عام واحد إثر إصابته بالسرطان. لا ترجع شهرة فرويد إلى اكتشاف بعينه ولكن لتطويره نظرية شاملة للعقل البشري. ورغم شهرته الواسعة إلا أنه كان محل نفور كبير بسبب تعصبه لنظريته عن التحليل النفسي والترويج المستمر لها. كان نتاج فرويد الفكري غزير، لكنه لم يخل من شطحات وأراء غريبة حقًا منها فكرته حول «حسد القضيب-Penis Envy». حيث اعتبر فرويد النساء ببساطة رجال بدون قضيب. واعتبر حسد القضيب مرحلة تمر بها جميع الفتيات في نموها الجنسي، حيث تكتشف افتقادها للقضيب فتتمحور حياتها حول هذا النقص دائمًا! جانب آخر أكثر تشويقًا وأهمية من فرويد هو فكرته عن وجود الدافع اللاواعي، وفكرته عن ديناميكية اللاوعي أو الصراع اللاواعي.

رغبة صادقة.. ربما لا؟

يفسر «الدافع اللاواعي-Unconscious Motivation» السلوك البشري أنه نتاج لرغبات ودوافع وذكريات مكبوتة في اللاوعي. حيث آمن فرويد أن الجزء الأصغر من العقل البشري واعٍ وقابل للملاحظة، أما النسبة الأكبر لا واعية ولها التأثير الأكبر على أفعالنا. مثال على ذلك: إذا سألك أحدهم لماذا تود الزواج من هذا الشخص؟ فيأتي جوابك لأني أحبه، أو لأني أود تكوين عائلة. وربما تكون إجابتك صادقة لكن فرويد له رأي آخر، بالرغم من صدق إجابتك لايزال هناك رغبات ودوافع قد لا تكون واعيًا بها. لذا ربما تود الزواج من هذا الشخص لأنك تود الانتقام من شخص قام بخيانتك! قبول فكرة الدافع اللاواعي مخيف للغاية، على الرغم من سهولة استيعابه في إطار الإدراك البصري، حيث ننظر حولنا فنرى الأشياء ونتعرف عليها بشكل لاواعي ولا نتذمر بهذا الشأن. لكن تطبيقها على المشاعر والقرارات مرهق ويشكك في صدق كل شيء.

الهو والأنا والأنا الأعلى

الشخصية البشرية معقدة وتتكون من عدة عناصر تبعًا لفرويد، وهي الهو والأنا والأنا الأعلى. يظهر كل عنصر منها في مرحلة عمرية مختلفة ويسهم في تطوير جانب معين من الشخصية.

يظهر «الهو-The Id» عند الولادة ويعمل بشكل لا واعي. فهو الجزء الحيواني البدائي من الإنسان الذي يريد إشباع رغباته من جوع وعطش ودفء ويريد إشباعها فورًا. يعمل الهو على مبدأ اللذة وهو ما يفسر به فرويد نشأة البشر، الهو الخالص والرغبة الخالصة في اللذة.

لكن سرعان ما يدرك الطفل أن هذا الأمر ليس واقعيًا، ليس كل ما تريده تحصل عليه. مما يؤدي إلى تطوير مجموعة من ردود الأفعال للتكيف مع هذه الحقيقة. إما عن طريق التخطيط لإشباع الرغبة أو التخطيط لكبحها. وهذا النظام يُعرف باسم الأنا. يعمل «الأنا-The Ego» على مبدأ الواقعية، ويرشد الهو للحصول على اللذة بطريقة واقعية ومقبولة. ويمثل الأنا بالنسبة لفرويد أصل الوعي البشري.

وأخيرًا «الأنا الأعلي-Super Ego» الذي يظهر في سن الخامسة ويعمل تبعًا لمجموعة القواعد المنضوية للأبوين والمجتمع. فما يحدث هو أنك تحاول إشباع اللذة لكن تُؤنب أو تُعاقب. وما يمثله الأنا الأعلى هنا هو صوت الضمير الذي يمنع كل رغبات الهو تبعًا لمعايير مثالية وليست واقعية. لذا لا يقل الأنا الأعلى سذاجة عن الهو.

صراع دائم

يقع الأنا بين الهو والأنا الأعلى، ويستمر الصراع بشكل لا واعي بين هذه العناصر الثلاث دائمًا. وهذا ما يفسره فرويد في فكرته عن ديناميكية اللاوعي أو «الصراع اللاواعي- Unconscious Conflict». فلا ينهاك الأنا الأعلى عن فعل الأشياء الخاطئة فقط، بل ويمنعك من التفكير فيها. حيث يبعث الهو كل هذه الرغبات المجنونة والعنيفة ويقوم الأنا الأعلى بكبحها فلا تصل إلى الوعي. لكن للأسف لا تسير الأمور بسلاسة طوال الوقت. فتتسلل بعض هذه الرغبات لتظهر في الأحلام أو زلات اللسان أو حتى كأعراض مرضية.

وصف فرويد الآليات المختلفة التي نستخدمها لمنع رغبات الهو من الوصول إلى الوعي بـ «آليات الدفاع-Defense Mechanisms». وهي الآليات التي نستخدمها بشكل لا واعي لإنكار رغباتنا المشينة. كأن نمنحها تبريرًا لائقًا، أو نقوم بإسقاطها على شخص آخر، أو تركيزها على شيء آخر،أو حتى الهروب منها. وتبعًا لفرويد هذه الآليات ليست مَرضِيةً على الإطلاق، بل هي جزء من الحياة الطبيعية للحفاظ على التوازن بين أجزاء اللاوعي المختلفة.

فرويد وتطور الشخصية

أشهر أعمال فرويد وأكثرها إثارة للجدل هي نظريته عن النمو النفسي الجنسي للطفل. رأى فرويد أن الطفل يمر بعدة مراحل نفسية جنسية حتى تتطور شخصيته البالغة. قسم فرويد هذه المراحل إلى خمس، كل منها مرتبط بمنطقة شبقية محددة وحدوث خلل في أي من هذه المراحل يؤدي إلى ثبات الشخص بها.

المرحلة الأولى وهي «المرحلة الفموية-Oral Stage» التي يكون الفم فيها مصدر اللذة. ويبدأ الصراع عند الفطام المبكر للرضع، الذي يسبب صفات مثل الاعتمادية أو العدوانية عند الكبر، كما يرتبط بمشكلات أخرى مثل الإسراف في الأكل والتدخين واستهلاك الكحول.

المرحلة الثانية وهي «المرحلة الشرجية-Anal Stage» ويصبح التحكم في حركة الأمعاء والمثانة هو مصدر اللذة، لذا يتدرب الطفل على استخدام المرحاض، وتبعًا لفرويد يرتبط حدوث خلل في هذه المرحلة بصفات مثل البخل أو الهوس.

المرحلة الثالثة وهي «المرحلة القضيبية-Phallic Stage» وتكون الأعضاء التناسلية فيها مصدر اللذة. تفسير فرويد لهذه المرحلة شيق للغاية ويرتبط بمصطلح “عقدة أوديب”. تبعًا لفرويد يرى الطفل والده كخصم أمام عاطفته تجاه أمه، ويفكر في التخلص منه بقتله مثلًا، لكن بما أن الطفل لا يدرك وجود الحواجز بين ما يحدث داخل عقله والعالم الخارجي يشعر أن والده يعلم ما يدور بعقله وسيعاقبه، العقاب الذي يخشاه الطفل هو استئصال أعضائه التناسلية!

المرحلة الرابعة وهي «مرحلة الكمون-Latent Stage» تستمر هذه المرحلة حتى البلوغ، وفيها تهدأ جميع المشاعر الجنسية وتتطور الجوانب الأخرى من الشخصية.

المرحلة الخامسة وهي «المرحلة التناسلية-Genital Stage» التي تبدأ عند البلوغ وتستمر حتى الموت، ويتطور فيها الاهتمام بالجنس الآخر.

التقييم العلمي لنظريات فرويد

تتعرض نظريات فرويد للكثير من النقد وتعد محل جدل كبير. وبالرغم من غزارة إنتاج فرويد الفكري ألا أن أغلبه يرفضه العلم ولا يُدرس بشكل أكاديمي ولا يعمل به علماء النفس في وقتنا الحالي. النقد الأكبر الذي تتعرض له هذه النظريات هو افتقادها لما عرفه الفيلسوف الإنجليزي كارل بوبر بـ «القابلية للدحض-Falsification». وصف بوبر الفارق بين العلمي وغير العلمي بأن العلم يقدم إدعاءات قوية عن العالم وهذه الإدعاءات يمكن اختبارها وإثبات خطأها، أما إذا استحال إثبات خطأها فهي ليست جيدة بما يكفي لاعتبارها علم.

وهنا تكمن مشكلة نظريات فرويد، فهي مرنة وغامضة للغاية لدرجة لا يمكن إثبات صحتها بأي طريقة موثوقة. مثال على ذلك: لا يوجد أي دليل أن الصفات المرتبطة بالمرحلة الفموية أو الشرجية مثل الاعتمادية والبخل ذات علاقة بالفطام المبكر أو التدرب على استخدام المرحاض. كذلك أراء فرويد حول الجنس والمثلية لها قليل من الدعم التجريبي. أما الإدعاء أن التحليل النفسي أثبت نجاحه في علاج الأمراض العقلية فهو ليس صحيحًا تمامًا أيضًا، فيوجد علاجات أسرع وأكثر مصداقية. كذلك لا تساعد هذه الطريقة في تخفيف أعراض بعض الأمراض مثل القلق والاكتئاب.

لكن على الرغم من النقد اللاذع الذي تعرض له فرويد، تبقى فكرة ديناميكية اللاوعي ذات أهمية كبيرة. حيث أُثبت أن الكثير من العمليات العقلية تعمل بشكل لا واعي مثل: فهم اللغة الذي يحدث بشكل طبيعي وغريزي في جزء من الثانية، كذلك الأنشطة التي تتكرر بشكل يومي. وفي الختام يمكننا التأكيد أن الجزء الأكبر من نظريات فرويد وتفاصيلها خاطئة ومرفوضة تمامًا، لكن تبقى الفكرة العامة لفرويد، فكرة أننا لا نعي بشكل كامل لماذا نحب ما نحب ونكره ما نكره، صحيحة وتثبت نفسها في فروع علم النفس حتى اليوم.

المصادر

  1. IEP
  2. thepsychologist
  3. psychology
  4. verywellmind
  5. verywellmind

كيف يرى علم النفس الطبيعة الفريدة لعمل المخ؟

هذه المقالة هي الجزء 2 من 21 في سلسلة مقدمة في علم النفس

كيف يرى علم النفس الطبيعة الفريدة لعمل المخ؟

طرحنا في الجزء الأول من سلسلة علم النفس السؤال: ما هي طبيعة عمل المخ؟ وكيف ينشأ التفكير من المخ؟ وللإجابة على هذا السؤال ينبغي التعرف أولًا على تركيب المخ وأجزائه المختلفة.

مم يتكون المخ؟

الوحدة الرئيسية التي يتكون منها المخ هي «الخلية العصبية-Neuron»، وتعد الخلايا العصبية أصغر أجزاء المخ وأكثرها تشويقًا، حيث تقوم بعملية التفكير عن طريق استقبال الإشارات الحسية ثم تحويلها لأفعال أو أوامر حركية. وتتكون الخلايا العصبية بشكل رئيسي من ثلاثة أجزاء:

  • أولًا، «التغصنات-Dendrites» وهي زوائد تخرج من جسم الخلية العصبية وتستقبل الإشارات من الخلايا العصبية الأخري ثم تقوم بتوصيلها إلى المحور.
  • ثانيًا، «المحور-Axon» وهو تركيب رفيع وطويل وظيفته توصيل الإشارات العصبية التي تم استقبالها إلى الخلايا العصبية الأخرى.
  • ثالثًا، «الجسم-Soma» وهو الجزء الذي يحوي النواة التي تحمل الحمض النووي الخاص بالخلية العصبية وتقوم بتصنيع البروتينات الخاصة بها.

بالإضافة إلى جزء آخر لا يتواجد في كل أنواع الخلايا العصبية وهو «غشاء الميالين-Myelin sheath» الذي يحيط بالمحور ويعمل كعازل ويزيد من سرعة توصيل الإشارات العصبية. يبلغ عدد الخلايا العصبية حوالي مائة مليار خلية، ويمكن لكل خلية أن ترتبط بآلاف أو مئات الخلايا الأخرى. وتتنوع الخلايا العصبية ما بين الخلايا العصبية الحسية، والخلايا العصبية الحركية، والخلايا العصبية المتوسطة. والأخيرة تقوم بعملية التفكير عن طريق استقبال الإشارات الحسية وتحويلها إلى أوامر حركية.

مبدأ الكل أو لا شيء

تتبع الخلايا العصبية مبدأ الكل أو لا شيء، فإما أن تصل شدة الإشارة العصبية إلى حد معين يكفي لاستثارة الخلية أو لا تُثار الخلية مطلقًا. والسؤال هنا، كيف يمكن للخلايا العصبية التي تعمل بمبدأ الكل أو لا شيء أن تنقل المشاعر بتدرجاتها؟ والإجابة عن طريق ترميز شدة الإشارة العصبية بواسطة: عدد الخلايا العصبية المستثارة، ومعدل تكرار الاستثارة.

كيف تتواصل الخلايا العصبية مع بعضها؟

اعتقد العلماء أن الخلايا العصبية ترتبط ببعضها مثل أسلاك الحاسوب لكن الحقيقة أن الخلايا العصبية تتواصل كيميائيًا عن طريق «الناقلات العصبية-Neurotransmitters». يوجد بين كل خلية عصبية وأخرى فجوة ضئيلة تُعرف باسم «الوصلة العصبية-Synapse» وهي المنطقة التي تُنقل فيها الإشارات العصبية من خلية لأخرى بواسطة الناقلات العصبية. تنقسم الناقلات العصبية إلى نوعين: المنشطة والمثبطة. وتعتمد الكثير من الأدوية على تأثير الناقلات العصبية، وهذه الأدوية نوعان: أدوية من النوع «الناهض-Agonist» الذي يزيد من تأثير الناقلات العصبية عن طريق زيادة نسبة تصنيعها أو عرقلة القضاء عليها أو حتى محاكاة تأثيرها. وأدوية من النوع «المعارض-Antagonist» الذي يقلل تأثير الناقلات العصبية عن طريق تدميرها أو تقليل تصنيعها. مثل: عقار كوراري وهو من النوع المعارض الذي يمنع تأثير الخلايا العصبية الحركية على العضلات فيسبب الشلل التام ثم الموت. والكحوليات أيضًا من النوع المعارض، التي تثبط مراكز التثبيط في الفص الجبهي من المخ، هذه المراكز هي التي تمنع الشخص من القيادة بسرعة جنونية أو السب في مكان عام أو حتى ارتكاب جريمة وبالتالي عند تثبيط الأجزاء المثبطة من المخ يفقد الشخص القدرة على التمييز.

مثال آخر هو عقار بروزاك الذي يستخدم في علاج الاكتئاب، حيث يعمل على زيادة نسبة السيروتونين الذي يعد نقصه عاملًا من عوامل الاكتئاب. وأيضًا عقار إل دوبا الذي يستخدم مع مرضى الشلل الرعاش، حيث يعمل على زيادة نسبة الدوبامين وتقليل حدة الأعراض. والآن بعد أن تعرفنا على تركيب الخلية العصبية وكيفية التواصل بينها، كيف يعمل كل هذا لخلق كائنات لديها القدرة على التحدث والتفكير واتخاذ القرارات؟ اعتقد العلماء أن المخ موصل بطريقة أشبه بحاسوب هائل، لكن ثبت خطأ هذا الاعتقاد وظهر الاختلاف بين الحاسوب والمخ:

أولًا، المخ مقاوم للتلف

يتميز المخ بقدر كبير من المرونة والقدرة على تحمل التلف، بل ويمكننا القول أنه هناك نوع من المقاومة مبنية داخل المخ، مما يسمح لأجزاء مختلفة من المخ بتولي الأمور عند تلف أجزاء أخرى.

ثانيًا، المخ سريع للغاية

يعتمد المخ على الأنسجة بينما يعمل الحاسوب على الأسلاك والكهرباء. لكن أنسجة المخ بطيئة للغاية، لذا لو تم توصيلها بطريقة تشبه الحاسوب لاستغرقك الأمر أربع ساعات للتعرف على وجه شخص ما. وهنا يظهر السؤال كيف يمكن صنع تركيب على هذا القدر من السرعة والتعقيد باستخدام تلك الأنسجة البطيئة؟ كيف تتواصل هذه الأنسجة؟ والإجابة أن آلية عمل المخ تعتمد على عمليات معالجة متوازية هائلة.ما الذي يفعله المخ؟ قبل الإجابة على هذا السؤال سنفسر ما الذي لا يفعله المخ. توصل العلماء إلى بعض الأنشطة التي لا تتطلب عمل المخ، وتم اكتشافها باستخدام منهجية غريبة حيث كانت تُقطع رؤوس المرضى بينما يسرع علماء النفس لاختبار ردود أفعال الجسم. ومن هذه الأنشطة: رضاعة حديثي الولادة، أو انثناء الأطراف ابتعادًا عن الألم، أو انتصاب القضيب أو القيء. هذه بعض الأفعال الغريزية اللاإرادية التي لا تتطلب عمل المخ.

أما عمل المخ فيعتمد على بنية داخلية معقدة للغاية، وتنقسم أجزاء المخ إلى: النخاغ وهو الجزء المسئول عن تنظيم معدل ضربات القلب والتنفس والنوم. والمخيخ وهو الجزء المسئول عن التوازن والتنسيق الحركي، والقشرة وهي أكثر أجزاء المخ تشويقًا وتمثل 80% من حجم المخ. «قشرة المخ-Cortex» تنقسم القشرة إلى عدة أجزاء أو فصوص وتشمل: الفص الجبهي، والفص الجداري، والفص القذالي، والفص الصدغي. والمثير فيما يخص هذه الفصوص أنها تحمل خرائط طوبوغرافية/خرائط للجسد. توصل العلماء إلى تلك الخرائط عندما قام أحدهم بفتح جمجمة كلب ثم باستخدام صاعق كهربائي صدم أجزاءًا مختلفة من المخ ولاحظ ارتفاع قدم الكلب للأعلى. واعتمادًا على نفس المبدأ قام الدكتور بينفيلد من جامعة ماكجيل بتجاربه على مرضى في جراحة المخ،حيث صدم أجزاءًا مختلفة من المخ ولاحظ النتائج، رفع بعض المرضى أقدامهم بشكل لا إرادي، وبعضهم رأى ألوانًا أو سمع أصواتًا أو شعر بلمسات.

وبفضل هذه الأبحاث وأبحاث تبعتها توصل العلماء إلى خرائط الجسد في المخ، تحديدًا في القشرة الحسية والقشرة الحركية من المخ. وهناك ملاحظتان حول هذه الخرائط: أولًا، هذه الخرائط طوبوغرافية. بمعني أنه إذا تواجد جزئان على مسافة قريبة من بعضهما في الجسم فسيكونان قريبين أيضًا في المخ. ثانيًا، ما يمثله حجم العضو في المخ لا يتناظر مع حجمه الحقيقي في الجسم، نشاط العضو والتحكم الحسي والحركي له هو ما يحدد حجمه في المخ، فيفوق حجم اللسان في المخ حجم الكتف مثلًا. وتمثل هذه الخرائط أقل من ربع حجم القشرة أما البقية فتشارك في عمليات مثل اللغة والتفكير المنطقي والأخلاقي، وكلما زاد تعقيد الكائن الحي كلما قلت النسبة التي تشغلها هذه الخرائط. والسؤال هنا كيف نكتشف ما تفعله الأجزاء الأخرى من المخ؟

كيف نكتشف ما تفعله الأجزاء الأخرى من المخ؟

أولًا، بواسطة طرق التصوير الحديثة مثل: التصوير بالأشعة المقطعية أو أشعة الرنين المغناطيسي الوظيفي. والتي ذكرنا دورها في توضيح الأجزاء النشطة من المخ أثناء أداء المهام التي تتناظر معها. فيمكن تصوير شخص عند قيامه بمهمة لغوية مثلًا لمعرفة أي أجزاء المخ مسئول عن اللغة.
ثانيًا، ملاحظة التغيرات التي تطرأ على الشخص عند إصابة المخ بالأورام أو الجروح أو السكتات الدماغية أو الحوادث. فيمكن التوصل إلى دور أجزاء المخ المختلفة عن طريق دراسة التلف الذي يصيبها. والأمثلة على ذلك كثيرة. منها:

«اللا أدائية-Apraxia» وهو ليس شللًا، فيمكن للشخص المصاب الحركة والقيام بالأعمال لكنه لا يستطيع تنسيق حركاته، فلا يستطيع التلويح مودعًا أو إشعال سيجارة.

«العمه-Agnosia» وهنا يستطيع الشخص الرؤية بشكل جيد، فهو ليس أعمى لكنه يفقد القدرة على التعرف على الوجوه أو الأشياء.

«اضطرابات الإهمال الحسي-Disorders of sensory neglect» وهنا المريض ليس مصابًا بالشلل أو العمى لكنه يفقد فكرة أنه هناك جزءًا أيسر من جسده، أو حتى من العالم.

«الحبسة-Aphasia» اُكتشفت أول حالة عام 1861م لمريض تعرض لتلف في المخ ولم يستطع نطق سوى كلمة واحدة (Tan) وظل يكررها طوال الوقت.

«الحبسة الاستقبالية-Receptive Aphasia» وهنا يتحدث المريض بطلاقة لكنه لا يفهم الآخرين ولا تبدو كلماته منطقية على الإطلاق.

«الاضطراب العقلي المكتسب-Acquired Psychopathy» الذي يتضمن تلفًا في الفص الجبهي من المخ، فيفقد المريض القدرة على التمييز بين الصواب والخطأ.

كم عقلًا نملك؟

ينقسم المخ إلى نصفين، النصف الأيمن والنصف الأيسر ويربط بينهما ما يعرف «بالجسم الثفني-Corpus Callosum». يبدو نصفا المخ متماثلين إلى حد كبير من الخارج إلا أنه توجد اختلافات فعلية بينهما. فبينما يتحكم النصف الأيسر من المخ في مهارات الكتابة والقراءة والعمليات الحسابية والحديث، يتحكم النصف الأيمن في الإدراك البصري والتعبير عن المشاعر وفهم العلاقات وحتى الموسيقى. وتعتمد طبيعة عملهما على «التعابر-Cross Over»، فيستقبل النصف الأيمن من المخ الإشارات الحسية من النصف الأيسر من الجسد وكذلك يصدر الأوامر الحركية إليه، والعكس صحيح.

يتمتع المخ أيضًا بخاصية مميزة وهي «التجنيب-lateralization» فبينما يعتمد كل نصف من المخ على الآخر أثناء عمله، تبقى بعض المهام يهيمن فيها أحدهما على الآخر. مثل: مراكز اللغة التي تقع في النصف الأيسر من المخ عند أيمني اليد وتقع في النصف الأيمن من المخ عند العُسر.

قام بعض العلماء بتجربة مشوقة في ستينات القرن الماضي حينما قطعوا الجسم الثفني بين نصفي المخ في محاولة لفهم طبيعة عملهما. طُلب من المرضى محاولة لمس غرض ما باليد اليمني وتسميته في الوقت ذاته، وبما أن مراكز اللغة وحركة النصف الأيمن من الجسم تقع في النصف الأيسر من المخ لم يواجه المرضى صعوبة في فعل ذلك. لكن حينما طُلب منهم لمس نفس الغرض باليد اليسري وتسميته في الوقت ذاته، أخفقوا في فعل ذلك لغياب الاتصال بين نصفي المخ. وبالفعل حاز القائمون على هذه التجربة على جائزة نوبل لأنها ساعدت كثيرًا في فهم طبيعة نصفي المخ ودورهما.

وأخيرًا، بعد أن تطرقنا للطبيعة الفريدة لعمل المخ، وخلاياه العصبية والاتصال بينها، وأجزائه المختلفة ومقاومتها للتلف، وماذا يحدث عندما يقع هذا التلف. ينقصنا التعرف على جهود العلماء واستغلالهم هذه المعرفة لتفسير أمور على قدر أكبر من الخصوصية مثل الدين والحرب والحب وحتى المرض العقلي. أشهر هؤلاء العلماء هو سيجموند فرويد، الذي سنتعرف على نظريته في التحليل النفسي في الجزء القادم من سلسلة علم النفس.

المصادر:

1– QBI
2- https://www.britannica.com/science/synapse
3- WebMd
4- McGill
5- Psychology Notes HQ

ما هي الازدواجية في علم النفس؟

هذه المقالة هي الجزء 1 من 21 في سلسلة مقدمة في علم النفس

ما هي الازدواجية في علم النفس؟

تاريخ علم النفس

يعود مصطلح «علم النفس-Psychology» إلى اللغة اللاتينية ويعني دراسة الروح، تطورت الكلمة عبر العصور ليصبح علمُ النفس حاليًا علمَ السلوك والعمليات العقلية. ظهر المصطلح أول مرة في القرن السادس عشر، ولم تترسخ أسس العلم وقواعده المتعارف عليها حاليًا سوى في منتصف القرن التاسع عشر. شغل سؤال الوعي البشري ومنشأه تفكير العلماء والفلاسفة عبر العصور، منهم أرسطو الذي اقتنع أن الوعي منشأه القلب لا العقل. ومنهم الشعب الصيني، حيث طُورت أول اختبارات نفسية في العالم منذ ألفي عام تقريبًا وأُلزم الموظفون الحكوميون بالخضوع لاختبارات الشخصية والذكاء.

وأيضًا الرازي، الذي يُعد أول من وصف المرض النفسي وعالجه بل وخصص له جناحًا مستقلًا في مشفاه ببغداد. كان الغرض من جهود هؤلاء العلماء واحدًا وهو محاولة إيجاد الإجابات عن الأسئلة المهمة التي تخصنا نحن البشر، من نحن؟ وكيف يعمل عقلنا البشري؟ وماذا يجعلنا على ما نحن عليه؟مجالات علم النفس ينقسم علم النفس إلى خمس مجالات فرعية:

أولها: «علم الأعصاب-Neuro Science» وهو العلم الذي يهتم بدراسة العقل البشري والتفكير عن طريق دراسة المخ.

ثانيًا: «علم نفس النمو-Devlopmental Psychology» وهو العلم الذي يهدف إلى دراسة تطور البشر ونموهم وتعليمهم.

ثالثًا: «علم النفس المعرفي-Cognitive Psychology» وهذا العلم يُعد بمثابة أسلوب حاسوبي لدراسة العقل البشري، وذلك عن طريق مقارنة العقل بالحاسوب ومحاولة التوصل إلى كيفية فعل البشر الأشياء مثل: تعلم اللغة أو لعب الألعاب أو التعرف على الأغراض المختلفة.

رابعًا: «علم النفس الاجتماعي-Social Psychology» وهو العلم الذي يهتم بالعلاقات البشرية والطريقة التي يتفاعل بها البشر مع بعضهم البعض. خامسًا «علم النفس السريري-Clinical Psychology» وهو العلم الذي يهتم بالصحة العقلية والمرض العقلي.الفرضية المدهشة سنلقي الضوء في هذا الجزء على المجال الأول من علم النفس وهو علم الأعصاب.

أول ما سنتحدث عنه هو: المخ. وضع العالم الحائز على جائزة نوبل فرانسيس كريك فرضية تُدعى «الفرضية المدهشة-The Astonishing Hypothesis» والتي تنص على: “أنت وأفراحك وأحزانك، وذكرياتك وطموحاتك، وإحساسك بهويتك وإرادتك الحرة ليست سوى نتاج سلوك جماعي للخلايا العصبية والجزيئات المرتبطة بها” وهنا يمكننا التمهل قليلًا والتفكير، هل هذه الفرضية قابلة للتصديق؟ الحقيقة أن هذه الفرضية كانت محل جدل كبير، ولا يؤمن أغلب البشر بها.

لأنه في الواقع أغلب البشر “ازدواجيين”. لكن ما هي الازدواجية؟

ما هي الازدواجية في علم النفس؟

«الازدواجية -Dualism» عقيدة يتبعها أغلب البشر، وتظهر بشكل واضح في كل الأديان وأغلب الأنظمة الفلسفية على مر العصور. أكثر المدافعين عن الازدواجية شهرةً ووضوحًا هو الفيلسوف الفرنسي «رينيه ديكارت-René Descartes». طور ديكارت نظريته عن الازدواجية التي تصف العقل البشري أنه كيان غير مادي يستطيع القيام بعمليات التفكير والتخيل والشعور والإرادة بشكل منفصل عن الجسد.

وعندما طرح ديكارت السؤال: هل البشر مجرد آلات مادية؟ جاءت إجابته: لا، لسنا مجرد آلات مادية. اعتبر ديكارت الحيوانات آلات مادية بل ووصفها أنها آلات وحشية، أما عند البشر فالأمر مختلف، فبينما يتشارك البشر والحيوانات في امتلاك الجسد المادي، إلا أن البشر يمتلكون الروح/العقل غير المادي الذي يسكن/يتعلق بالجسد المادي.

إثبات الازدواجية ساق ديكارت حجتين لإثبات نظريته عن الازدواجية. الأولى التي تعتمد على تأملات الأفعال البشرية وتثبت أن البشر ليسوا آلات مادية. طور ديكارت هذه الحجة أثناء تأملاته في الحديقة الملكية الفرنسية، تميزت تلك الحديقة بوجود روبوتات هيدروليكية تعمل على تدفق المياه، فعندما تخطو على لوحة ما يظهر لك فارس بسيف في يده وعندما تخطو على أخرى تختبيء امرأة جميلة خلف الشجيرات، وهنا سأل ديكارت السؤال: هذه الآلات تستجيب بصورة معينة وكذلك البشر، فعندما تطرق على ركبة أحدهم سترتفع في الهواء، إذن هل البشر آلات مادية؟ وأجاب ديكارت: لا، لسنا آلات مادية!

لسنا آلات مادية من منظور ديكارت!

فسر ديكارت ذلك بتوضيح أن البشر ليسوا محدودين برد الفعل، بل على العكس لدى البشر القدرة على الابتكار والتصرف بعفوية. مثال على ذلك في اللغة: عندما يحييك أحدهم: مرحبًا، كيف حالك؟ سيأتي ردك فورًا: مرحبًا، أنا بخير. لكن الأمر لا يتوقف عند هذه النقطة، فأنت تملك الخيار أن تجيب على هذا النحو مثلًا: أنا في أحسن حال! وهنا يظهر الاختلاف بين الآلات والبشر، فالآلات لا يمكنها الاختيار ومحدودة برد الفعل، أما البشر فلا وبالتالي البشر ليسوا آلات مادية.

الحجة الثانية وهي الأشهر وتعتمد على مذهب الشك. شكك ديكارت في كل ما حوله، وأخذ يسأل نفسه: “ما الذي يمكنني أن أكون متأكدًا منه؟ فربما يوجد آله وربما لا، وربما أعيش في دولة غنية وربما يتم خداعي، وربما هذا الجسد ليس حقيقيًا، يظن المجانين في بعض الأحيان أن لديهم أطرافًا إضافية أو يرون أجسادهم بصور مختلفة عن الواقع، كيف أعرف أنني لست مجنونًا؟” الشيء الوحيد الذي لم يستطع ديكارت الشك فيه هو أنه يفكر، فلو فعل سيكون هذا بمثابة دحض لذاته. ومن هنا استخلص ديكارت أنه “هناك شيء مختلف فيما يخص امتلاك الجسد، إنه أمر غير مؤكد على عكس امتلاك العقل.”

وهكذا استخدم ديكارت مذهب الشك لإثبات نظريته عن الازدواجية وانفصال العقل والجسد. الازدواجية والفطرة تظهر الازدواجية بوضوح وبشكل فطري في اللغة، فالازدواجية واللغة مترابطان إلى حد كبير.

كافكا وهومر عن الازدواجية

مثال على ذلك، عند الحديث عن أشيائنا العزيزة والمقربة نقول: سيارتي أو كتابي أو قلبي أو ذراعي ولا يتوقف الأمر هنا فنقول: عقلي، نتحدث عن امتلاك العقل كأنه وبشكل ما منفصل عن الجسد. تظهر الازدواجية أيضا بشكل فطري في نظرتنا للهوية الشخصية، فنرى أن مرور الجسم بتغيرات كبيرة وجذرية لا يعني تغير الشخص ذاته. والأمثلة التي توضح ذلك خيالية، منها ما كتبه فرانز كافكا في واحدة من أعظم القصص القصيرة في القرن الماضي:

“استيقظ جريجوري سامسا في صباح ما من ليلة مليئة بالأحلام المزعجة، ليجد نفسه تحول إلى حشرة عملاقة.”

هنا يدعونا كافكا إلى تخيل الاستيقاظ في جسد صرصور ضخم وبالفعل لا نواجه صعوبة في ذلك. مثال آخر يعود إلى مئات السنين قبل الميلاد، حينما يصف “هومر” مصير رفقاء “أوديسيوس” اللذين وقعت عليهم لعنة شريرة ليعلقوا في أجساد خنازير، كان لهم رأس وجسد وشعر وصوت الخنازير لكن ظلت عقولهم/أرواحهم كالسابق لم تتغير.

وهنا أيضًا يتم دعوتنا بشكل فطري إلى تخيل مصير إيجاد أنفسنا في أجساد كائنات أخرى.الازدواجية والبشر يؤمن معظم البشر من جميع الأديان في معظم مناطق العالم على مر العصور بقدرتهم على النجاة من دمار أجسادهم. اختلفت الثقافات في تحديد مصير الروح، منها ما يقول أنها ترتقي إلى الجنة أو تهبط إلى الجحيم، ومنها ما يقول أنها تعود لتشغل جسدًا آخرًا، أو لتشغل حيزًا في عالم روحي لا شكلي. لكن الأمر المشترك بينهم جميعًا هو أن ما تكونه أنت، ما يعنيه وجودك كإنسان منفصل انفصالًا تامًا عن جسدك المادي.

ملحدون في الجنة الإيمان!

أحد المسوحات التي تمت في ولاية شيكاغو استطلعت ديانات الأشخاص وماذا باعتقادهم قد يحدث لهم عند الموت، وجائت النتائج كالتالي: رأت النسبة الأكبر من الأشخاص المعتنقين للمسيحية واليهودية أنهم سيذهبون إلى الجنة عند الموت، نسبة أقل من المشاركين نفت اعتناقها لأي دين، لكنهم اعتقدوا أيضًا أنهم سيذهبون للجنة عند الموت! دحض الازدواجية نستنتج مما سبق أن الازدواجية في كل شيء، وتعتمد عليها الكثير من الثوابت.

لكن يبقى للعلم رأي آخر، أشار كريك أن الإجماع العلمي يرى الازدواجية خاطئة، ليس هناك “أنت” منفصل عن جسدك، وبالتحديد ليس هناك “أنت” منفصل عن مخك، فالعقل هو ما يفعله المخ، العقل انعكاس لعمل المخ.

أما الازدواجية فهي عقيدة غير علمية لا تستطيع الإجابة عن أسئلة مثل: كيف يتعلم الأطفال اللغة؟ أو ما الذي يجعل الشخص جذابًا؟ أو كيف ينشأ المرض النفسي؟

تفسير الازدواجية!

تفسير الازدواجية الوحيد أن كل هذا ليس ماديًا، إنه جزء من كيان الروح/العقل غير المادي. وعاني ديكارت نفسه من هذه النقطة، فقد توصل إلى ضرورة وجود إتصال ما بين الجسد المادي والعقل غير المادي، وإلا فلماذا تشعر بالألم عندما يرتطم اصبعنا بشيء؟ ولماذا تقفز ركبتك في الهواء عند الطرق عليها؟ لكنه فشل في تحديد ماهية هذا الاتصال.

علاوة على ذلك، هناك أدلة قوية تثبت مشاركة المخ في الحياة العقلية، حيث تشير الأبحاث إلى تناظر أجزاء المخ مع نشاطنا العقلي. وهذا ليس بالاكتشاف الجديد، فقد عرف الفلاسفة والعلماء منذ وقت طويل أن الضرب على الرأس يمكن أن يغير القدرات العقلية، كذلك يمكن لمرض الزُهري أن يجعل المرء مختلًا، وللمواد الكيميائية مثل الكافيين والكحول تأثير على نشاط العقل.

لكن الأمر لا يتوقف عند هذا الحد، حيث مكنتنا تقنيات التصوير مثل الأشعة المقطعية وأشعة الرنين المغناطيسي من التعرف على المناطق النشطة من المخ أثناء المراحل المختلفة من النشاط العقلي مثل: الفارق بين رؤية الكلمات وسماعها وقراءتها وتوليدها تتناظر مع مناطق نشطة مختلفة من المخ. مثال آخر: يُمكن بتتبع المناطق النشطة من المخ معرفة ما إذا كان الشخص يستمع إلى الموسيقى أو يفكر في الجنس أو حتى يفكر في حل معضلة أخلاقية ما.

وأخيرًا يمكننا القول أن الإجماع العلمي يتفق مع فكرة أن العقل نتاج لعمل المخ، أن مشاعر البشر وضمائرهم وأخلاقهم وإرادتهم الحرة ذات أصل مادي، أن الإنسان في الحقيقة ليس سوى مخ! لكن يظل السؤال هنا، كيف يمكن أن ننشأ نحن البشر بكل تعقيداتنا من هذا العضو الرمادي الصغير بتلافيفه وتجاويفه؟ كيف يعمل العقل؟ والسؤال الأهم كيف ينشأ التفكير من العقل؟ وهذا ما سنتطرق إليه في الجزء القادم من سلسلة علم النفس.

المصادر:
Psychology
Mind-body dualism
The Astonishing Hypothesis
PhilPapers

التقاط أول صورة لاثنين من الكواكب غير الشمسية

التقاط أول صورة لاثنين من الكواكب غير الشمسية تدور حول نجم قريب شبيه للشمس!

تمكن علماء «المرصد الجنوبي الأوروبي-ESO» باستخدام «التيليسكوب بالغ الكبر-Extremely Large Telescope» من التقاط أول صورة لاثنين من «الكواكب غير الشمسية-Exoplanets» التي تدور حول نجم يافع شبيه للشمس على بُعد 300 سنة ضوئية من الأرض.

اعتبر العلماء هذا النجم -الذي يُعرف باسم TYC 8998-760-1- ويبلغ عمره 17 مليون عام فقط نسخة يافعة من نجم الشمس والذي يبلغ عمره 4.6 بليون عام، وبهذا يُعد في مراحل تطور مبكرة للغاية مقارنة بالشمس. ويقع هذا النجم ضمن «كوكبة الذبابة-musca constellation» ويمكن رصده جهة الجنوب.


التُقطت الصورة باستخدام أداة «بحث الكواكب غير الشمسية استقطابي الطيف شديد التباين-SPHERE» الخاصة بالتيليسكوب، وذلك عن طريق حجب الأشعة القوية المنبعثة من النجم المركزي والتقاط الأشعة الأضعف الخاصة بالكواكب، تمت هذه العملية عدة مرات وفي أوقات مختلفة ليتمكن العلماء من تمييز الكواكب عن النجوم في خلفية الصورة.


يُعد هذا الاكتشاف خطوة هامة تساعد على فهمٍ أفضل لتاريخ نشأة كواكب مجموعتنا الشمسية وتطورها. ويرجع تميز هذا الاكتشاف إلى التخطيط المُسبق له، فبينما اكتشف العلماء آلاف الكواكب بشكل غير مباشر، تبقى نسبة الكواكب التي رُصدت مباشرة وفقًا لمخطط مسبق ضئيلة للغاية. لذلك شدد ماثيو كينورثي (مؤلف مشارك في الدراسة وأستاذ بجامعة ليدن في هولندا) على أهمية عمليات الرصد المباشرة في البحث عن بيئات جديدة مناسبة للحياة.

بيئة مشابهة!

بالانتقال إلى الجزء الأسفل من الصورة نجد اثنين من الكواكب غير الشمسية، الأول وهو الأقرب للنجم ويُسمى TYC 8998-760-1b والثاني الأبعد عن النجم ويُسمى TYC 8998-760-1c. كلاهما غازي وهائل الحجم. وبمقارنتهما بنظيريهما -هائلي الحجم وغازيي التكوين أيضًا- في مجموعتنا الشمسية وهما كوكبي المشتري وزحل وجد العلماء بعض النتائج:


أولًا، المسافة بين كلا الكوكبين ونجمهما المركزي أكبر بكثير من المسافة بين المشتري وزحل ونجم الشمس. فبينما يبعد المشتري وزحل مسافة تبلغ 5 و 10 أضعاف المسافة بين الأرض والشمس على الترتيب، نجد أن كلا الكوكبين يبعدان مسافة تبلغ 160 و 320 ضعف المسافة بين الأرض والشمس على الترتيب.


ثانيًا، الكوكبان غير الشمسيين أثقل بمراحل من نظيريهما، فنجد أن كتلتيهما تبلغ 14 و 6 أضعاف كتلة كوكب المشتري على الترتيب. مع العلم أن كوكب المشتري أكبر كواكب مجموعتنا الشمسية.


وفي النهاية، أشار ألكساندر بوهن (المؤلف الرئيسي للدارسة وطالب ما بعد الدكتوراة بجامعة ليدن في هولندا) إلى الإمكانيات التي سوف تُتيحها الأدوات الحديثة، كتلك المتاحة على التيليسكوب بالغ الكبر، في المستقبل ومنها القدرة على رصد كواكب أصغر حجمًا. الأمر الذي يُعد خطوة بارزة في طريق فهم الأنظمة متعددة الكواكب وكذلك تاريخ نشأة نظامنا الشمسي.

كما صرح بوهن أن هذا الاكتشاف يُعد جزءًا من دراسة أكبر للكواكب غير الشمسية والنجوم شبيهة الشمس، والتي اُستكمل 20% منها فقط بينما تطمح الدراسة إلى رصد 70 هدفًا جديدًا مشابهًا للاكتشاف الأخير. وفي الختام أشار بوهن إلى إمكانية العثور على المزيد من الأنظمة متعددة الكواكب التي تدور حول نجوم تشبه النسخة اليافعة من الشمس.

المصادر:


1- eso
2- cnn
3- nasa

متى ظهرت موانع الحمل؟ من أين بدأت؟ وكيف تطورت؟

متى ظهرت موانع الحمل؟ من أين بدأت؟ وكيف تطورت؟ تتنوع موانع الحمل في وقتنا الراهن ما بين أقراص منع الحمل والعازل المهبلي والواقي الذكري واللولب الرحمي وغيرهم، لكن السؤال هنا كيف كان الحال منذ مائة عام مثلًا أو مائتين أو قل أربعة ألاف؟

متى ظهرت موانع الحمل؟ من أين بدأت؟ وكيف تطورت؟

العالم القديم

انتشرت موانع الحمل قديمًا في مصر القديمة وبلاد ما بين النهرين واليونان وروما. ترجع أقدم صور موانع الحمل إلى عام ١٨٥٠ ق.م. حيث عُثر على برديات بها وصايا لمنع الحمل، الكثير منها وصفات طبيعية تعتمد على النباتات والأعشاب. منها تلك التي تنتمي لمصر القديمة وتوصي باستخدام سدادة لعنق الرحم من العسل وصمغ السنط والكتان وذلك لصد الحيوانات المنوية. أو استخدام خليط من روث التماسيح والعسل وبيكربونات الصوديوم لخلق وسط حامضي يقلل «حركة الحيوانات المنوية-sperm motility» بينما فعليًا ساعد استخدام بيكربونات الصوديوم القلوي على زيادة حركة الحيوانات المنوية. كذلك مدّ فترة الرضاعة حتى ثلاث سنوات. وأخرى تنتمى لبلاد ما بين النهرين عُرفت ببردية الكاهون نصت على مضغ أقراص من صمغ السنط. أما عن اليونان وروما، فانتشر استخدام النباتات كموانع للحمل، أهمها: «السيلفيوم-silphium». انتشر هذا النبات في مناطق شمال أفريقيا (ليبيا حاليًا) وحظي بشهرة واسعة، فكانت قيمته تفوق قيمة وزنه من الفضة. ولكن في النهاية أدى الاستهلاك المتزايد إلى انقراض السيلفيوم بشكل كامل. وهنا بدأ الأطباء استخدام بدائل ذات خصائص مشابهة منها: «الحلتيت-asafoetida» وهو الأقرب للسيلفيوم وآخر يُدعى «الجزر البري-queen anne’s lace» الذي ما زال يُستخدم حتى وقتنا الحالي في بعض مناطق الهند. وبمرور الوقت توصل أحد الأطباء إلى طريقة «العَزْل-coitus interruptus» التي تتضمن سحب القضيب قبل بدء عملية القذف.

موانع الحمل وخرافات العجائز

لم تسلم النساء من المعلومات الخاطئة والخرافات فيما يخص موانع الحمل، ومن أقدم تلك الخرافات ما وُصيت به المرأة في بلاد اليونان من أن تحبس أنفاسها قبل بدء عملية القذف ثم تعطس مباشرة بعد انتهائها. أو كما انتشر في بلاد الفرس في القرن العاشر الميلادي من أن تصرخ المرأة وتقفز للخلف سبع أو تسع مرات لمنع الحمل، أو تقفز للأمام لإحداث الحمل. أما شعب الهوسا في شمال نيجريا فآمن بقدرة التمائم والتعويذات السحرية، فكتابة تعويذة على ورقة صغيرة توضع في كيس جلدي يربط حول خصر المرأة كافٍ لمنع الحمل. واعتادت نساء الهند في القرن السابع الميلادي شرب الزئبق والرصاص الذي يؤدي بالفعل إلى العقم أو الموت. بالإضافة إلى ذلك، اتجهت بعض النساء إلى الإجهاض باستخدام النباتات مثل: «حشيشة الدود-tansy» وآخر من فصيلة النعناع يدعى «الفُوتَنْج-pennyroyal» لكن الجرعة المطلوبة لإحداث الإجهاض يمكن أن تؤدي إلى تدمير الكبد والكليتين.

العصور الوسطى

لم تلق موانع الحمل رواجًا كبيرًا في أوروبا في العصور الوسطي، فلم تكتفِ الكنيسة الكاثوليكية بإبداء رفضها وحسب بل ذهبت إلى وصم من تستخدمن موانع الحمل بالشعوذة، لكن النساء تابعت استخدامها على أية حال. وفي عام ١٥٦٤م، ظهر الواقي الذكري لأول مرة كوسيلة لمنع انتشار « الأمراض المنتقلة جنسيًا-STDs» لا كمانعٍ للحمل ويرجع ذلك إلى تفشي مرض «الزهري-syphilis» في غرب أوروبا في تلك الفترة. وأتت مذكرات المغامر الإيطالي الشهير «جياكومو كازانوفا- Giacomo Casanova» بوصفٍ للأشكال والأحجام المختلفة للواقي الذكري، فكان كازانوفا نفسه يستخدم غلافًا من أمعاء الحيوانات المعقود بشريط حريري لمنع الأمراض المنتقلة جنسيًا والحمل، كما ذكر المواد المختلفة التي استخدمتها النساء لصد الحيوانات المنوية مثل الأعشاب والفاكهة والأقمشة، لكن كازانوفا أوصى باستخدام نصف ليمونة معصورة أو قطعة صغيرة من الإسفنج المُشبع بالبراندي.

القرن الثامن عشر

تابعت النساء استخدام موانع الحمل المُتعارف عليها خلال النصف الأول من القرن، أما النصف الثاني فشهد ضجة كبيرة حول الواقي الذكري، وذلك لتطور الصناعة وانخفاض سعر المطاط مما ساعد على انتشاره. وعلى الرغم من ذلك، لم يكن الطريق ممهدًا أمام النساء للاستفادة من هذه الوسائل، حيث استمرت الكنيسة في إبداء رفضها وعاونتها المؤسسات السياسية حتى أصدرت العديد من الولايات الأمريكية عام ١٨٤٠م تشريعًا يمنع تداول موانع الحمل. وبحلول عام ١٨٧٣م أصدرت الحكومة قرارها بتجريم موانع الحمل، ثم تجريم الإجهاض عام ١٨٨٨م. جاءت تلك التشريعات كجزء من «قانون كومستوك-comstock act» الذي اعتبر استخدام موانع الحمل فعلًا فاضحًا.

العصر الحديث

صُنع أول «لولب رحمي-IUD» عام ١٩٠٩م من أمعاء دودة القز، واُستبدل بآخر من الفضة عام ١٩٢٠م. لم ينتشر استخدام اللوالب سوى عام ١٩٦٠م لتوافر البدائل البلاستيكية حينها ولاستمرار القوانين المانعة طوال تلك الفترة. وهنا ظهر دور المقاومة، «مارجريت سانجر-margret sanger» أول من نشرت مصطلح «تحديد النسل-birth control» عام ١٩١٤م وافتتحت أول عيادة لتحديد النسل عام ١٩١٦م. لكن يُعلق نشاطها بعد تسعة أيام فقط، ويُقبض على سانجر لاختراقها قانون كومستوك وتُقدم للمحاكمة. ساعدت التغطية الإعلامية لتلك للمحاكمة على إثارة حركة تحديد النسل، لتؤسس سانجر بعد خمس سنوات من ذلك التاريخ أول اتحاد لحركة تحديد النسل في الولايات المتحدة الأمريكية. مهدت جهود سانجر وغيرها الطريق أمام العلم للبحث والتجريب فيما يخص صحة المرأة وموانع الحمل. حتى ظهرت أقراص منع الحمل عام ١٩٥٠م وانتشرت عام ١٩٦٠م، احتوت النسخ الأولية من أقراص منع الحمل على ما يقرب من ١٥٠ ميكرو جرام من هرمون الإستروجين، وفي نهاية الستينات درس العلماء احتمالية وجود علاقة بين النسبة المرتفعة لهرمون الإستروجين والإصابة بجلطات الدم أو السكتات الدماغية، ونتيجة لذلك طُورت أقراص تحتوي على ٣٠ ميكرو جرام فقط من هرمون الإستروجين. وتابع العلماء تطوير أقراص مصغرة تحتوي نسبًا ضئيلة من الإستروجين أو البروجسترون فقط.

وفي وقتنا الحالي، تحتوي الجرعة الشهرية من أقراص منع الحمل على نسبة هرمونات تعادل أو تقل عن نسبتها في قرص واحد يعود إلى بداية الستينات. ما بين الماضي والحاضر قطعت النساء شوطًا طويلًا منذ بداية التاريخ حتى اليوم فيما يخص صحتها الجنسية. بدايةً بالعسل وروث التماسيح، ومرورًا بخرافات العطس والقفز وتجرع المواد السامة، وانتهاءًا بأقراص منع الحمل. أثرت تلك الأقراص على حياة النساء بشكل كبير، حيث أشارت الأبحاث أن ثلث الأرباح التي جنتها النساء منذ بداية الستينات جاءت كنتيجة مباشرة لاستخدام أقراص منع الحمل. وكذلك ارتفاع معدل الالتحاق بالكليات في السبعينات بنسبة ٢٠٪ بين النساء اللاتي توفرت لهن الأقراص. علاوة على ذلك، ساعدت الأقراص على تحسين تجربة الحمل وتقليل المخاطر الصحية الناجمة عن الولادات المتكررة. بالإضافة إلى العائد الاقتصادي وتقليل معدلات الفقر بين كل من الأطفال والبالغين.

المصادر:

١-
Science Direct
٢-
Pandia Health
٣-
Our Bodies Selves

Exit mobile version