ستيفن هوكينج: أيقونة علوم الفضاء

إذا أردنا أن نجمع بين العلم وإثارة الجدل، يحق علينا أن نذكر ستيفن هوكينج؛ واحدٌ من أشهر -إن لم يكن أشهر- العلماء على مر التاريخ. يعرفه الملايين بفضل اكتشافاته في الفيزياء الكونية، وبالتحديد في الثقوب السوداء وإشعاعاتها. لخَّص “تاريخ موجز الزمان” في كتابٍ يحمل نفس الاسم، وتغلب على الضمور العضلي مقدمًا لنا درسًا ونموذجًا لن ننساه ما حيينا.

نسلٌ مفكر

وُلد ستيفن هوكينج في الثامن من يناير عام 1942، وبالصدفة العجيبة، يوافق هذا التاريخ المئوية الثالثة لوفاة العظيم جاليليو. وهو ما يفتخر به هوكينج نفسه في كتاب “تاريخ موجز الزمان”. يمكنك قراءة ملخص للكتاب من هنا.

تأججت عائلة ستيفن هوكينج بالمفكرين؛ فأمه -الأسكتلندية- درست في أكسفورد في ثلاثينيات القرن الماضي. ولمن لا يعلم، فهذا الوقت كان عصيًا على النساء فيه أن يلتحقوا بالجامعات، ناهيك عن أكسفورد التي تعد واحدة من أعرق جامعات العالم. أما أبوه، فكان خريجًا لنفس الجامعة أيضًا، وباحثًا كبيرًا في الأمراض الاستوائية Tropical diseases.

على الرغم من التصادف المميز بين مولد هوكينج ووفاة جاليليو، إلا أنه من الناحية العملية، لم يكن موعد مجيئه إلى هذه الحياة هو الأفضل بالنسبة لوالديه. فأبوه كان في ضائقة مالية، وإنجلترا، وبالتحديد لندن، كانت في ضائقة تهدد وجودها من الأساس بسبب تداعيات الحرب العالمية الثانية وقصف ألمانيا المستمر لها. المشكلة أن لندن كانت مستقرًا للأسرة؛ إذ إنها كانت المكان الذي عمل فيه والد ستيفن على أبحاثه. وبسبب الأحداث العصيبة التي كانت تمر بها لندن في ذلك الوقت، قررت أيزوبيل هوكينج (والدة ستيفن)، أن تعود إلى أوكسفورد كي تضع مولودها بسلام.

وفقًا لأحد المقربين من عائلة ستيفن هوكينج، كانت العائلة غريبة الأطوار. كانوا يتناولون العشاء في صمت، وكل فرد منهم يقرأ كتابًا بتركيز شديد. وبدلًا من امتلاك العائلة لسيارة عادية، كانوا يمتلكون سيارة أجرة “تاكسي” من طراز Taxi London القديم. كما لم يفكر أحدهم في إصلاح طوابق منزلهم المتهاوية. وكان قبو المنزل ملجأً للنحل وكانت العائلة تستمع بصناعة الألعاب النارية.

عادةً ما كانت الأم تصطحب ستيفن وإخوته في الباحة الخلفية من المنزل لتقضي معهم أفضل الليالي الصيفية. وهناك -في باحة المنزل- لاحظت أيزوبيل هوكينج أن ابنها ستيفن كان لديه فضول كبير، ودائمًا ما شعر أن النجوم هي مصدر إلهامه.

ستيفن هوكينج لم يكن متفوقًا!

قد تعتقد أن عالمًا بحجم هوكينج كان نابغةً دراسية بكل المقاييس، ولكن الحقيقية أنه لم يكن كذلك البتة، بل العكس هو الصحيح. ففي سنته الأولى في مدرسة St. Albans School، احتل هوكينج المركز الثالث من مؤخرة الترتيب. ولكن في نفس الوقت، كان لديه من الاهتمامات الأخرى ما ينبئ بشيء ما.

أحب ستيفن هوكينج الألعاب اللوحية Board Games، وصنع بمساعدة زملائه المقربين ألعابًا جديدة. وفي سنوات المراهقة، تمكن هوكينج من بناء حاسوب شخصي باستخدام أجزاء معادة التدوير. وكان الهدف الرئيسي من الحاسوب هو استخدامه في حل المعادلات الحسابية البسيطة.

في السابعة عشرة من عمره، التحق هوكينج -كأبويه- بجامعة أكسفورد. إذ أراد أن يدرس الرياضيات، ولكن في ذلك الوقت لم يكن هناك تخصص منفصل للرياضيات في أكسفورد. ولهذا اتجه الشاب الطموح إلى دراسة الفيزياء، وبالتحديد علم الكونيات.

تفوق هوكينج في دراسته وتخرج مع مرتبة الشرف ببكالوريوس في العلوم الطبيعية. ومن ثمَّ التحق بجامعة كامبريدج ليحصل على الدكتوراة في علم الكونيات. وفي ذلك الوقت، أي في عام 1968، أصبح ستيفن هوكينج واحدًا من أعضاء هيئة التدريس في قسم الفلك بجامعة كامبريدج. وكانت تلك الفترة مميزة بالنسبة لهوكينج وأبحاثه، بالإضافة لنشره أول كتاب له بعنوان “هيكل الزمكان واسع النطاق The Large Scale Structure of Space-Time”.

حياة ستيفن هوكينج الزوجية

في 1963، التقى هوكينج بطالبة اللغات، جين وايلد. وقعا في حب بعضهما وتزوجها هوكينج في 1965. حظي كلاهما بولد سمَّياه روبرت، وفتاة تدعى لوسي، وولد أخير اسمه تيموثي.

في 1990، توترت العلاقة بينهما وترك هوكينج زوجته من أجل إيلين ماسون، وهي إحدى الممرضات اللاتي كنَّ يعتنين به. وتزوجها في عام 1995، مما أضعف من علاقة ستيفن هوكينج بأولاده.

في 2003، اتهمت الممرضات الأخريات إيلين بأنها تستغل ستيفن هوكينج جسديًا، ولكنه نفى الأمر بنفسه عندما حققت الشرطة بالأمر. وفي 2006، تم الطلاق بينهما. تصالح هوكينج مع جين (زوجته الأولى) والتي تزوجت الآن، وكتب 5 روايات علمية مع ابنته المحبوبة لوسي.

قصته مع التصلب الجانبي الضموري ALS

إذا طلبت من أحدهم أن يتصور ستيفن هوكينج أو أن يصفه لك، ستجده يقول شيئًا مثل إنه ذلك العالم “المشلول” أو القعيد والذي يتحدث من خلال الشاشة الإلكترونية المتصلة بكرسيه المتحرك. ما آل بستيفن هوكينج إلى هذه الحالة كانت إصابته بمرض التصلب الضموري الجانبي ALS في عامه الواحد والعشرين. وهذا المرض -ببساطة شديدة- يصيب الأعصاب المتحكمة في العضلات، وبالتالي تشل جميع أطراف المريض به. تنبأ الأطباء أن يعيش ستيفن سنتين ونص فقط، ولكنه عاش أكثر من ذلك بالطبع!

بدأ هوكينج يشعر بأعراض المرض أثناء دراسته في أكسفورد، وتمثلت الأعراض في سقطات على الأرض، وتلعثم في الكلام، واختلال في الحركة. ولكن هوكينج لم يعط للأمر أهمية ولم يأخذ تلك الأعراض بجدية حتى عام 1963، وهو العام الأول لدراسته في كامبريدج.

حاول ستيفن أن يبقي الأمر سرًا بين طيات نفسه، ولكن سرعان ما اكتشف أبوه مصابه وعرضه على طبيب. بدأ ستيفن هوكينج يتلقى علاجه في المنزل، وأجريت عليه فحوصات بشكل دوري. شخص الطبيب ستيفن بأنه في المراحل الأولى من مرض التصلب الضموري الجانبي، وأُصيب صاحبنا وعائلته باليأس الشديد. ولكن سرعان ما تحول ستيفن إلى استيعابٍ وقبول بعدما شاهد حالة طفل مصاب بسرطان الدم، ليعلم أن مصابه أخف من غيره.

الجدير بالذكر أن الإصابة بهذا المرض جعلت هوكينج يهتم بدراسته. فقبل الإصابة، تشتت بالكثير من الأنشطة، ولكن بعد الإصابة لم يعد هناك الكثير لفعله كما قال ستيفن بنفسه.

ستيفن هوكينج والثقوب السوداء

في عام 1974، ساهمت أبحاث هوكينج المختصة بالثقوب السوداء -التي لا طالما ارتبطت سيرتها به- في شهرة صاحبنا في الأوساط العلمية بشكل كبير. غيَّر ستيفن وجهة نظر المجتمع العلمي بشأن ما كانوا يعتقدونه، وصُكَ مصطلح إشعاع هوكينج للمرة الأولى في تلك السنة.

بفضل اكتشافات هوكينج وإسهاماته في علوم الفضاء، حصل على زمالة الجمعية الملكية للعلوم Royal Society في الثانية والثلاثين من عمره. كما مُنح جائزة ألبرت أينشتاين وغيرها من الجوائز الأخرى المرموقة. وظهر هوكينج في العديد من الأعمال التلفزيونية ونشر من الكتب ما جعله، وكتبه، من الأشهر في تاريخ العلوم. وعلى الرغم من كل اكتشافاته وإسهاماته، لم يحصل على جائزة نوبل.

تنويه: هذا المقال جزءٌ من سلسلة تتناول سيرة “علماء فقدتهم نوبل”، وهدف السلسة هو التعريف بهؤلاء العلماء وحياتهم بشكل عام، وليس الهدف منه أن يتناول إسهاماتهم العلمية بشكل مفصل. إليكم مساق كامل عن الثقوب السوداء.

المصادر:

  1. Britannica
  2. Biography
  3. Spastephen-hawkingce

ما أنواع الأمواج الثقالية؟ وما أهم مصادرها؟

إن اضطرابات نسيج كوننا المتموجة، أو الأمواج الثقالية، أقرب إلينا مما قد تتوقع. ففي كل مرة تستقل فيها سيارتك وتسرع إلى عملك، أو تقلع بك الطائرة نحو وجهتك، فإنك –بطريقة ما- تجعل نسيج الكون يضطرب من حولك. ولا يتعلق الأمر بتكنولوجيا السيارات أو الطائرات الحديثة أو عملك حتى، بل بالفيزياء، كتلتك وتسارعك تحديدًا. فنظريًا، يقدر كل جسم متسارع على توليد أمواج جذبوية في نسيج المكان-الزمان لامتلاكه كتلة تؤثر فيه. إلا أن هكذا أمواج غير قابلة للرصد لضآلتها. بينما تنتج الأمواج المرصودة عن أحداث أكثر عنفًا، نجدها بعيدًا خارج مجموعتنا الشمسية. فما أهم مصادر وأنواع الأمواج الثقالية المرصودة؟

اتضح مؤخرًا أن كوننا مليء بأجسام تستطيع، بكتلها الهائلة وتسارعها الكبير، أن توّلد أمواجًا ثقالية قوية بما يكفي لنرصدها. ويتضمن ذلك أزواجًا من الثقوب السوداء والنجوم النيوترونية تدور حول بعضها استعدادًا لالتحامها. إلى جانب نجوم ثقيلة تنفث رمقها الأخير في انفجارات المستعر الأعظم. وقد صنف علماء مرصد لايغو أنواع الأمواج الثقالية في أربع مجموعات اعتمادًا على مصدرها: مستمرة، لولبية ثنائية النظام، عشوائية، ومتفجرة. وتتسم كل مجموعة منها بخصائص مميزة ونمط معين من الإشارات المرصودة.

الأمواج الثقالية المستمرة

يعتقد العلماء أن «الأمواج الثقالية المستمرة- Continuous gravitational waves» تصدر عن جسم فلكي ثقيل يدور حول نفسه وحيدًا، مثل نجم نيوتروني. ويشترط وجود عيب في شكل هذا الجسم، كأن يكون غير كروي تمامًا، ليولد حوله أمواجًا ثقاليةً أثناء دورانه. فإذا بقيت سرعة دوران النجم حول نفسه ثابتةً، حافظت الأمواج الثقالية التي يصدرها على تردد وسعة ثابتين “باستمرار”، مثل مغنًّ يستمر بغناء نوطه وحيدة.

وقد حوّل باحثو مرصد لايغو موجة جاذبية مستمرة إلى مقطع صوتي قصير، كتوضيح لما كانت ستبدو عليه تلك الموجة لو أنها موجة صوتية:

http://www.black-holes.org/sound/Periodic.wav
صورة توضيحية لنجم نيوتروني
حقوق الصورة: Casey Reed/Penn State University

الأمواج الثقالية اللولبية ثنائية النظام

 صنفت جميع الأمواج الثقالية المرصودة حتى الآن في مجموعة «الأمواج الثقالية اللولبية ثنائية النظام-Compact Binary Inspiral gravitational waves». تصدر هذه الأمواج عن أنظمة ثنائية من النجوم الكثيفة (الثقوب السوداء والنجوم النيوترونية). حيث يدور فيها نجمان كثيفان حول بعضهما ويقتربان قبل أن يندمجا، مطلقين أمواجًا ثقاليةً. كما تصنف الأنظمة الثنائية السابقة في ثلاث مجموعات فرعية:

  • نجمين نيوترونيين
  • ثقبين أسودين
  • ثنائي ثقب أسود-نجم نيوتروني    

وفي حين يولّد كل زوج سابق نمطًا مختلفًا من الأمواج الثقالية، تكون آلية التوليد ذاتها في المجموعات الثلاثة، وتسمى «الدوران اللولبي-Inspiral» (اقتراب جسم من جسم آخر أثناء الدوران حوله، فيرسم مسارًا أشبه باللولب).

صورة توضيحية للدوران الحلزوني لنجمين نيوترونيين
حقوق الصورة: Albert Einstein Institute (AEI)

يحدث الدوران اللولبي على مدى ملايين السنين عندما يدور زوجان من النجوم الكثيفة حول بعضهما. وأثناء ذلك، يصدر الثنائي أمواجًا ثقاليةً تحمل معها بعضًا من طاقة النظام المدارية، فيدوران أقرب فأقرب حول بعضهما. ثم نتيجةً لاقترابهما، تزداد سرعة دورانهما، فيصدران أمواجًا أقوى، ويخسران نتيجة ذلك طاقة مداريةً أكبر. وكلما اقتربا أكثر، يدوران أسرع، ويخسران طاقةً أكبر، فيقتربان مجددًا… وهكذا في رقصة كونية متسارعة لا مهرب منها.

يشبه الأمر إلى حد ما تلك الدورة السريعة التي يؤديها متزلجو الجليد. فلنتخيل أن ذراعي المتزلج المفرودتان هما نجمان نيوترونيان مثلًا، ولنعتبر أن جسد المتزلج هو قوة الجاذبية التي تضمهما معًا أثناء الدوران. الآن، عندما يقرّب المتزلج ذراعيه من جسده (عندما يدور النجمان أقرب فأقرب)، يدور المتزلج أسرع فأسرع. ولكن على عكس المتزلج، لا يمكن للنجوم النيوترونية أو الثقوب السوداء أن توقف رقصتها. فتستمر بإصدارها أمواجًا ثقاليةً واقترابها من بعضها دون توقف، إلى أن يصطدم الجسمان ويلتحمان معًا. 

زيادة سرعة دوران المتزلجة عند ضم ذراعيها في (b)

أجهزة لايغو ونطاق الرصد

صممت أجهزة مرصد لايغو لرصد نطاق معين من ترددات الأمواج الثقالية، مثلما تكون الأذن البشرية حساسة لترددات صوتية معينة. أي أن لايغو لا يستطيع رصد أي ترددات جذبوية تقع خارج هذا النطاق (كأن تكون أعلى أو أخفض). ولكن بما أن النجمين يتسارعان باستمرار، سيصلان في لحظة ما إلى حد يصدران عنده أمواجًا قابلة للرصد. 

وغالباً ما تَصدر الترددات المرصودة فترةً وجيزةً. ويعتمد ذلك أساسًا على كتلتي الجسمين الدوارين. فالأجسام الثقيلة، كالثقوب السوداء، تجتاز نطاقها المرصود بسرعة ولا تلبث فيه طويلًا، على عكس الأجسام الأخف كالنجوم النيوترونية. مما يعني أن إشارات اندماج ثقبين أسودين تكون أقصر بكثير من إشارات اندماج نجمين نيوترونيين في مرصد لايغو. مثلًا، أصدر أول زوج من الثقوب السوداء المندمجة إشارة طولها 0.2 ثانية فقط. بينما أصدر أول زوج نيوتروني مندمج عام 2017 إشارة استمرت أكثر من 100 ثانية. 

يوضح الفيديو التالي ما ستبدو عليه موجة اندماج ثقبين أسودين لو أنها كانت موجة صوتية:

وهنا صوت اندماج نجمين نيوترونيين بنفس التقنية السابقة:

اندماج نجمين نيوترونيين في كوكبة العذراء

الأمواج الثقالية العشوائية

من الممكن أن تمر عدة أمواج ثقالية متباينة من الأرض في اللحظة ذاتها، فترصدها الأجهزة كإشارات مبهمة. لذلك يتوقع فلكيو لايغو مرور أمواج صغيرة في الوقت ذاته، واختلاطها سويةً بشكل عشوائي تمامًا، مشكلةً ما يعرف ب«الأمواج الثقالية العشوائية-Stochastic gravitational waves». تأتي مركبّات هذه الأمواج من كافة أنحاء الكون، وسميت بالعشوائية لأن إشاراتها ذات نمط عشوائي، يمكن للعلماء تحليله ودراسته، ولكن يصعب عليهم تحديد مصدره بدقة. كما يعد هذا النوع من أصغر أنواع الأمواج الثقالية وأصعبها رصدًا، ويعتقد العلماء أن جزءًا منه نتج عن الانفجار العظيم

الأمواج الثقالية المتفجرة

إن البحث عن «الأمواج الثقالية المتفجرة-Burst gravitational waves» أشبه بالبحث عن إبرة في كومة قش، دون أن تعرف ما هي الإبرة، ودون التأكد من وجودها هناك حتى. ذلك لأن لايغو لم يرصد أيًا منها حتى الآن، ولأننا لا نعلم عما نبحث! فعلى سبيل المثال، لا يفهم العلماء فيزياء بعض الأنظمة الفلكية بما يكفي ليتنبؤوا بنمط الأمواج الثقالية التي قد تصدرها.    

لا تزال هذه المهمة شبه مستحيلة، ولكنها كفيلة –إن تحققت- أن تكشف معلومات ثورية عن كوننا، فهي –بذلك- تستحق المحاولة!

المصادر

LIGO
LIGO

ماذا يحدث عند اندماج الثقوب السوداء؟

هذه المقالة هي الجزء 8 من 10 في سلسلة رحلة إلى أعتم أجسام الكون، "الثقوب السوداء"

غالبًا ما تقطن الثقوب السوداء -كغيرها من الأجرام الفلكية- في تجمعات نجمية ومجرات. ف«الثقوب السوداء فائقة الكتلة-Supermassive black holes» مثلًا لا توجد إلا في مراكز المجرات الكبيرة كمجرة درب التبانة. كما أن بعضها يشكل أنظمة ثنائية مع نجوم عادية أو نيوترونية. لذا، فإن الثقوب السوداء تؤثر وتتأثر بغيرها، ويمكن أن تندمج مع نجم نيوتروني أو ثقب أسود آخر في ظروف مناسبة. فما الذي يحدث عند اندماج الثقوب السوداء مع النجوم النيوترونية؟ وماذا ينتج عن اندماج ثقبين أسودين فائقي الكتلة؟  

الثقوب السوداء والنجوم النيوترونية

ليست النجوم النيوترونية أو الثقوب السوداء بنادرةٍ في مجرة درب التبانة، فهما مصير كل نجم ثقيل بعد موته. وغالبًا ما توجد النجوم الثقيلة هذه في «أنظمة ثنائية-Binary systems»، يدور فيها كلا النجمين حول نقطة مشتركة بينهما.

اندماج الثقوب السوداء مع النجوم النيوترونية

في أثناء دوران الثقب الأسود والنجم النيوتروني حول بعضهما في نظام ثنائي ما، يطلقان «الأمواج الثقالية-Gravitational waves». وهي اضطرابات تحدث في نسيج المكان-الزمان نتيجة تغير تركيز الكتلة المفاجئ أو انتقاله.كما تزداد الأمواج الثقالية باقترابهما من بعضهما، إلى أن يندمجا سويةً مشكلين ثقبًا أسود أكبر، ومطلقين موجة جاذبية هائلة، نستطيع رصدها من الأرض. [1]

اندماج الثقوب السوداء مع بعضها

من الممكن أن يندمج ثقبان أسودان مع بعضها، ويحدث ذلك عندما يقتربان إلى درجة تسحب جاذبية كل منهما الآخرَ نحوها. يستمر الثقبان بالدوران نحو بعضهما، مصدرين أمواج جاذبية، إلى أن يندمجا في ثقب أسود أكبر. ورغم أننا لا نفهم كليًا كيفية حدوث ذلك، لكننا نعلم أنه يصدر طاقة هائلة، ويُحدث موجة جاذبية كبيرة في نسيج الكون. [2]

موجة GW150914

رصدت أول موجة جاذبية في مرصد «لايغو- LIGO» عام 2015 وسميت GW150914. وتبين أنها ناتجة عن اندماج ثقبين أسودين ثقيلين، يزن كل منهما حوالي 30 ضعف كتلة الشمس. كما ومنحت جائزة نوبل في الفيزياء عام 2017 لباحثي مركز لايغو المسؤولين عن الاكتشاف السابق تكريمًا لجهودهم، وهم الفيزيائيون «كيب ثورن-Kip Thorne» و«رينر ويس-Rainer Weiss» و «باري باريش-Barry Barish». [3]

اندماج ثقبين أسودين فائقي الكتلة

للثقوب السوداء فائقة الكتلة كتلٌ تتراوح بين ملايين إلى مليارات أضعاف كتلة الشمس. وتتوضع جميعها في مراكز المجرات الكبيرة في الكون. يمكن أن يندمج ثقبان أسودان فائقا الكتلة مع بعضهما عند اندماج مجرتين، فيدور كل منهما نحو الآخر إلى أن يندمجا مطلقين أمواج جاذبية هائلة. وتقترح المحاكاة الحاسوبية أن اندماجات الثقوب السوداء فائقة الكتلة، وعلى عكس الثقوب السوداء النجمية، تصدر إلى جانب الأمواج الثقالية أمواجًا ضوئية. حيث يصدر الغاز ذو الحرارة المرتفعة المحيط بالثقبين أشعة سينية في أثناء تساقط الثقبين نحو بعضهما. [4]

ويوضح الشكل التالي اندماج ثقب أسود فائق الكتلة مع قرينه:

حقوق الصورة: ESA

فنرى أن حياة الثقوب السوداء منذ ولادتها تضج بالعنف، فهل تكون ميتتها كذلك؟

المصادر:

[1] The Conversation
[2] Spacs
[3] LIGO
[4] ESA

كيف يمكن رصد الثقوب السوداء؟

هذه المقالة هي الجزء 7 من 10 في سلسلة رحلة إلى أعتم أجسام الكون، "الثقوب السوداء"

لم تولد الثقوب السوداء -كمفهوم علمّي ثوريّ- إلا بعد مخاض جادل فيه العلماء طويلًا. فواجهوا تحديات جمّة فرضتها الظروف المتطرفة التي تحيط بفيزياء الثقوب السوداء وطبيعتها العصية على الرصد. ولعل أبرز هذه العقبات يكمن في أساس تكوينها ويتجلى في اسمها. فالثقوب السوداء لا تشع أي ضوء، بل تبتلع ما يدخلها من فوتونات أبدًا. فإذا كنا غير قادرين على رؤيتها، كيف نعلم أنها موجودة؟ وكيف يمكن رصد الثقوب السوداء؟

يبدو أن هذه المهمة -التي تبدو مستحيلة- ممكنة فقط إذا استغنينا عن أساليب الرصد التقليدية، مستخدمين وسائل غير مباشرة. ويتبع العلماء اليوم طريقتين، تتكل كلاهما على جسم قريب قابل للرصد، فتدرس تأثير الثقب الأسود عليه من ناحيتين: الجاذبية، والإشعاع.

التأثير الجذبوي للثقوب السوداء على الأجسام المحيطة

لا تعد هذه الوسيلة حديثة العهد؛ لاستخدامها الدائم في أبحاث علم الفلك. كما أن لها فضل التوصل لاكتشافات هامة. فكوكب نبتون، على سبيل المثال، اكتشف عن طريق تأثير جاذبيته على كوكب أورانوس عام 1846. كما لوحظ وجود القزم الأبيض «الشعرى اليمانية ب- Sirius B» لتأثيره الجذبوي على قرينه «الشعرى اليمانية أ-Sirius A».
[1] [2]

وبالعودة إلى الثقوب السوداء، يمكن تحديد وجودها في مكان ما من خلال رصد تأثير جاذبيتها على النجوم أو الغازات في ذلك المكان. فقد لوحظ وجود منطقة خالية في مركز مجرة درب التبانة (لا تشع أي ضوء)، تدور حولها النجوم في مدارات غير منتظمة تحت تأثير جاذبية قوية. مما اعتبر دليلًا أوليًا على وجود مادة شديدة الكثافة فيها، وهو الثقب الأسود «الرامي أ-Sagittarius A».

تأثير الثقوب السوداء على النجوم في الأنظمة الثنائية

بدايةً، نعلم أن الثقوب السوداء تتشكل من انهيار نجم هائل الكتلة ريثما يصبح غير قادر على القيام بتفاعلات الاندماج النووي. وبما أن بعض النجوم هائلة الكتلة توجد قريبة من نجوم أخرى، مشكلةً «أنظمة ثنائية-binary systems»، بالتالي، يمكن أن توجد بعض الثقوب السوداء في أنظمة ثنائية كذلك. فإذا وُجد ثقب أسود في نظام ثنائي، وكان قريبًا بما يكفي من النجم، يمكن رصده بطريقة غير مباشرة. ويحدث الأمر على الشكل التالي:

تسحب جاذبية الثقب الأسود بعضًا من غازات النجم نحوها، فيدور الغاز بشكل لولبي نحو الثقب الأسود. وفي أثناء ذلك، يسخن الغاز نتيجة احتكاكه مع الغازات المجاورة. يصدر الغاز مرتفع الحرارة أشعةً سينيةً أثناء توجهه نحو أفق حدث الثقب الأسود. وما إن يتجاوز أفق الحدث حتى يتوقف عن كونه مرئيًا، ولكن إشعاعه يكون شديد السطوع طالما كان خارجه. ويمكن رصد الأشعة السينية السابقة بسهولة عن طريق الأقمار الصناعية؛ لأن غلاف الأرض الجوي يحجبها عنا. وبالتالي يرصد الثقب الأسود بشكل غير مباشر وتعرف خواصه من خلال دراسة تأثيره على نجمه القرين. [4]

كما أن أول ثقب أسود رصده البشر اكتشف بالتقنية السابقة، ولتبيان تفاصيلها، ندرس حالته كمثال:

الدجاجة  X-1

رصد العلماء مصدرًا قويًا للأشعة السينية كان الألمع في كوكبة «الدجاجة-Cygnus». ولم تكن الأشعة ذات شدة ثابتة، بل إن سطوعها تغير بشكل غير منتظم، مما ينفي كونها «نجمًا نابضًا للأشعة السينية- X-ray Pulsars». وأما تغيرات الشدة هذه فحصلت في فواصل زمنية قصير قدرها 0.1 ثانية. مما يعني أن الأشعة السينية هذه تصدر عن منطقة لا يتجاوز قطرها 3000 كيلومتر، أو ما يعادل قطر القمر.

وعند رصد المنطقة بأطوال موجية أخرى، تبين وجود نجم مجاور لها يدعى HDE 226868. والذي تبين أنه عملاق أزرق مرتفع الحرارة ذو كتلة تقدر نحو 30 كتلة شمسية. كما نعلم أن النجم السابق لا يصدر الأشعة القوية تلك، لأن النجوم غير قادرة على إشعاع ذلك القدر الهائل من الطاقة.

صورة توضح حالة الدجاجة X-1

كما وجد أن النجم HDE 226868 يتأثر بجاذبية نجم قريب منه؛ من خلال دراسة تأثير دوبلر في ضوء النجم. إذًا، النجم HDE 226868 يشكل نظامًا ثنائيًا مع المصدر المجهول الدجاجة X-1، الذي تبين أنه يزن 7 كتل شمسية.

والآن بجمع كل المعلومات السابقة نستنتج أن الدجاجة X-1 جسم فلكي مضغوط. ونجد أنه كتلته أكبر من أن يكون قزمًا أبيضًا أو نجم نيوتروني، فهو ثقب أسود. [4] فنرى أن العلم -قبل كل شيء- هو الإبداع، إبداع طرق جديدة لرؤية اللامرئي وكشف المستحيل.

المصادر

[1] NASA
[2] The Astrophysics Data System
[3] Chandra X-ray Observatory
[4] Georgia State University

تاريخ موجز للثقوب السوداء

هذه المقالة هي الجزء 1 من 10 في سلسلة رحلة إلى أعتم أجسام الكون، "الثقوب السوداء"

في زمنٍ اعتمد فيه علم الفلك كليًا على الضوء، شكلت طبيعة «الثقوب السوداء-Black holes» عائقًا في سبيل رصدها، فكانت مطاردتنا لها -منذ القرن الثامن عشر- خاسرةً لا محالة. إلا أن هذه الحقبة المظلمة أضيئت أخيرًا مع مطلع عام 2015، عندما طور الباحثون تقنيات للكشف عن الأمواج الثقالية: تلك الاضطرابات التي تسببها الأحداث الفلكية الكبيرة في نسيج المكان-الزمان. إليك تاريخ موجز للثقوب السوداء.

القرن الثامن عشر

تعود الجذور الأولى لمفهوم الثقب الأسود إلى القرن الثامن عشر. حيث طرحها لأول مرة الفيلسوف الطبيعي «جون ميشيل-John Michell» ومن بعده «بيير سيمون لابلاس-Pierre-Simon Laplace». فقد عمل كلا العالمين على حساب «سرعة إفلات-Escape velocity» جسيم الضوء من بعض الأجسام؛ اعتمادًا على قوانين نيوتن للجاذبية. واستنتجا إمكانية وجود نجوم شديدة الكثافة بحيث تتجاوز سرعة الإفلات فيها سرعة الضوء، فلا تصدر أي ضوء وتكون غير مرئية. وسماها ميشيل «النجوم السوداء-Black stars».
[1]

القرن التاسع عشر

لم تصمد فكرة النجوم السوداء طويلًا وسقطت في بداية القرن التاسع عشر مع اكتشاف الطبيعة الموجية للضوء عام 1801. ففي حين بنى العلماء فرضيتهم على تأثير جاذبية النجوم في جسيمات الضوء، لم يجدوا سببًا واضحًا لتؤثر في أمواج الضوء. فبحسب نيوتن، تؤثر الجاذبية في الأجسام فقط لا الأمواج. [2]

القرن العشرون

أينشتاين وشوارزشايلد ولوميتر

في عام 1915، قدم ألبرت أينشتاين نظريته النسبية العامة، نظريةً بديلةً لجاذبية نيوتن. وطرح فيها تأثير حقول الجاذبية على الأمواج الضوئية. ثم في عام 1916، طرح الفيزيائي «كارل شوارزشايلد-Karl Schwarzschild» حلولًا لبعض معادلات أينشتاين. واستنتج وجود حد يدعى «نصف قطر شوارزشايلد-Schwarzschild radius». وهو قيمة تعين محيط محدد للأجسام الفلكية، لا يمكن لأي شيء اجتيازه وبما فيه الضوء. ويشبه ذلك فكرة ميشيل إلى حد ما. لكن محيط شوارزشايلد الحدي هذا كان حاجزًا غير قابل للاجتياز. [3]

ثم في عام 1933 وضح «جورج لوميتر-George Lemaître» أن ما عده شوارزشايلد غير قابل للاجتياز هو مجرد وهم تختبره الأجسام البعيدة. وشرح ذلك مفترضًا وجود شخصين: أليس وبوب، حيث يقف بوب بعيدًا بينما تقفز أليس داخل الثقب الأسود. عندها يرى بوب أليس تتحرك أبطأ فأبطأ، إلى أن تتوقف قبل الوصول إلى نصف قطر شوارزشايلد. أما في الواقع، أليس تجتاز الحاجز، ولكن بوب وأليس يختبران الحدث بشكل مخالف كليًا. [4]

ولأن العلماء لم يعرفوا في ذلك الوقت أي جسم فلكي بكتلة كافية ليكون ثقبًا أسودًا، لم تؤخذ الأفكار السابقة محمل الجد. ولم تنل حقها من البحث حتى الحرب العالمية الثانية.

الحرب العالمية الثانية

في الأول من سبتمبر عام 1939، اجتاحت القوات النازية الألمانية بولندا، مشعلةً حربًا غيرت مجرى التاريخ إلى الأبد. وفي نفس اليوم، طرح الأمريكيان «ج. روبرت أوبنهايمر-J Robert Oppenheimer» و«هارتلاند سنايدر-Hartland Snyder» أول ورقة بحثية تناولت موضوع الثقوب السوداء في التاريخ. وتوقعا فيها استمرار انهيار بعض النجوم الثقيلة تحت تأثير جاذبيتها، مشكلةً جسمًا جاذبيته هائلة بحيث لا يستطيع الضوء الهرب منه. وقد قدموا بذلك النموذج الأول لتعريفنا الحديث للثقوب السوداء. ولكن فكرة الثقوب السوداء بقيت غريبة في الوسط العلمي، ولم تلق قبولًا حتى طورت بما يكفي في العقدين التاليين. [5]

ما بعد الحرب العالمية الثانية

في فترة الحرب العالمية الثانية، أيقن السياسيون أهمية العلم في إمداد الجيوش بالأسلحة المطورة. وقدمت الحكومات دعمًا كبيرًا لبحوث الفيزياء وخاصةً النووية، مهملةً علم الكونيات والفيزياء الفلكية وبما فيهم بحث أوبنهايمر. إلا أن علم الفيزياء -ككل- تطور بشكل كبير كنتيجة للحرب.

استئنفت دراسة الكون بعد الحرب، وأعيد الاعتبار لنظرية النسبية العامة، لاسيما أن الحرب زادت تقدير الحكومات للعلم والبحث العلمي. الأمر الذي كان أساسيًا لفهم فكرة الثقوب السوداء وقبولها في الوسط العلمي. [6]

الستينيات والدليل الحاسم

شكك بعض العلماء في وجود نجوم كتلتها تكفي لتتحول إلى ثقب أسود بعد انهيارها. فبما أننا لا نستطيع رصد الثقوب السوداء، لما لا نتحقق من وجود هكذا نجوم؟

ولحسن الحظ، تطورت تقنيات رصد الأشعة السينية بشكل كبير في ستينيات القرن الماضي. لا سيما بعد إطلاق عدة أقمار صناعية وتلسكوبات؛ فالأرض تحجب أي أشعة سينية تأتي من الخارج. [7]

وفي عام 1964، رصد العلماء واحدًا من ألمع مصادر الأشعة السينية في السماء في كوكبة الدجاجة، وسمي «الدجاجة X-1Cygnus – X-1». تميزت الأشعة المرصودة بتغيرها السريع في أقل من ثانية، مما اقترح أن مصدر الأشعة أصغر حجمًا من النجم العادية. وبعد ست سنوات، اكتشف العلماء وجود نجم مرافق للدجاجة x-1، مما مكن الفلكيين من تقدير كتلتها اعتمادًا على «تأثير دوبلر-Doppler effect» على النجم المرافق. وبلغت الكتلة المقدرة نحو 15 ضعف كتلة الشمس، متجاوزةً بذلك كتل الأقزام البيضاء والنجوم النيوترونية. أما كل هذه الخصائص المكتشفة -التغير الزمني السريع، وسطوع الأشعة السينية الكبير، والكتلة الكبيرة- فقد جعلوا من الدجاجة x-1 أول ثقب أسود محتمل يكشتفه البشر. [8]

إلى اليمين: صورة تخيلية للدجاجة x-1، إلى اليسار: صورة لموقع الدجاجة x-1
حقوق الصورة: NASA

القرن الحادي والعشرون

تطور مفهومنا عن الثقوب السوداء في السنوات القليلة الماضية، لا سيما بعد تحديد خصائص جديدة وأنواع مختلفة من الثقوب السوداء. وفي عام 2018، التقط مرصد «لايغو-LIGO» أمواج ثقالية ناتجة عن اصطدام ثقبين أسودين ببعضهما، منتجين أمواجًا مضطربة في نسيج المكان-الزمان. [9]

ولعل أبرز ما في تاريخ الثقوب السوداء أن أهم ما حققه البشر في سبيل فهمها فعلوه في أكثر فترة مظلمة في تاريخهم: فترة الحرب العالمية الثانية.

المصادر

[1] The Astrophysics Data System
[2] Las Cumbres Observatory
[3] Scientific American
[4] Springer Nature
[5] PHYSICAL REVIEW JOURNALS
[6] royal society publishing
[7] Chandra X-ray Observatory
[8] the Institute of Physics
[9] The conversation

ما أنواع الثقوب السوداء؟

هذه المقالة هي الجزء 6 من 10 في سلسلة رحلة إلى أعتم أجسام الكون، "الثقوب السوداء"

على الرغم من ظلامها وغموضها وصعوبة رصدها، تمكن العلماء من كشف عدة أسرار حول «الثقوب السوداء-Black holes». فصنفوها بحسب كتلتها إلى ثلاثة أنواع رئيسة، هي: الثقوب السوداء النجمية، ومتوسطة الكتلة، وفائقة الكتلة. فما الفرق بين أنواع الثقوب السوداء هذه؟ كيف يتشكل كل منها؟ وما خواصها؟

صورة توضح تسلسل كتل الأجسام الفلكية بالنسبة إلى كتلة الشمس

الثقوب السوداء النجمية

تشكلها

كما يشير اسمها، تعدُّ «الثقوب السوداء النجمية-Stellar black holes» مرحلةً متأخرةً من حياة النجوم. وتتشكل عندما ينفذ وقود النجم، ولا يعود قادرًا على القيام بعملية الاندماج النووي، فينهار على نفسه بفعل جاذبيته الكبيرة.  ففي حين تشكّل النواة الناجية من هذا الانهيار نجمًا نيوترونيًا أو قزمًا أبيض إذا كانت كتلته لا تزيد عن 3 أضعاف كتلة الشمس، تنهار النجوم الأثقل على نفسها دون توقف، مشكلةً ثقبًا أسود. [1]

خواصها

تتوزع هكذا ثقوب في أنحاء الكون، وعادةً ما تتراوح كتلتها بين 10 و 24 ضعف كتلة الشمس. ولأنها تتشكل من انهيار نجوم منفردة، تكون الثقوب السوداء النجمية صغيرةً مقارنة بقريناتها. لكنها تكون كثيفة جدًا؛ فأحدها يحوي أكثر من ثلاثة أضعاف كتلة الشمس في حيز لا يتجاوز قطر مدينة. ونتيجةً لذلك، تمتاز الثقوب السوداء النجمية بجاذبية قوية تجذب الأجسام المحيطة وتجعلها تدور حولها، وتبتلع ما يقربها من غاز وغبار.

وتكون الثقوب السوداء النجمية صعبة الرصد. وغالبًا ما يرصدها الفلكيون عندما يقترب منها نجم بما يكفي ليبتلع الثقب الأسود بعضًا من مادة النجم. حيث تصدر المادة أثناء ذلك أشعةً سينية قابلة للرصد.

أما عددها فيقدر بنحو 10 مليون إلى 10 مليار ثقب في مجرة درب التبانة وحدها. وقد قدر ذلك اعتمادًا على عدد النجوم الثقيلة بما يكفي لتتحول إلى ثقوب سوداء نجمية. [2]

الثقوب السوداء متوسطة الكتلة

لطالما اعتقد العلماء أن الثقوب السوداء تكون إما كبيرة جدًا أو صغيرة. في حين تظهر الدراسات الحديثة إمكانية وجود ثقوب سوداء ذات حجم متوسط. وتسمى «الثقوب السوداء متوسطة الكتلة-Intermediate-mass black holes»، واختصارًا: IMBHs.

[3]

تشكلها

يعتقد العلماء أن الثقوب السوداء متوسطة الكتلة تتشكل في قلب «العناقيد النجمية-Stellar clusters». فنتيجةً لازدحامها، تتصادم عدة نجوم بشكل متسلسل وتلتحم لتشكل نجومًا هائلة الكتلة، والتي بدورها تنهار على نفسها مشكلةً ثقبًا أسود متوسط. كما يُعتقد أن هذه العناقيد تشق طريقها إلى مركز المجرة، حيث تتجمع الثقوب السوداء المتوسطة وتندمج مشكلةً ثقبًا أسود فائق الكتلة. [2]

خواصها

بما أن اكتشافها لا يزال حديثًا نسبيًا؛ لا تزال الدراسات جارية لكشف خواص هذه الثقوب. فيما اقترحت إحداها أن الIMBHs توجد في مراكز المجرات القزمة (أي الصغيرة جدًا). حيث وجد باحثون 10 مجرات قزمة تطلق أشعة سينية من مركزها، وتشير شدتها إلى وجود ثقوب سوداء تتراوح كتلتها بين 36,000 و 316,000 أضعاف كتلة الشمس. [3]

الثقوب السوداء فائقة الكتلة

في حين تنتشر الثقوب السوداء النجمية في الكون، تسيطر قريناتها فائقة الكتلة عليه.

تشكلها

يقترح العلماء أربعة طرق ممكنة لتشكل «الثقوب السوداء فائقة الكتلة- Supermassive black holes»:

أولًا: يمكن أن تتشكل نتيجة اندماج عدة ثقوب سوداء صغيرة معًا.
ثانيًا: قد تتشكل من انهيار سحابات ضخمة من الغاز على نفسها والتحامها بسرعة.
ثالثًا: يمكن أن تتشكل نتيجة انهيار عنقود نجمي -أي مجموعة من النجوم- على نفسه.
رابعًا: قد تنشأ من عناقيد كبيرة من «المادة المظلمة-Dark matter». والأخير هو الخيار الأكثر غموضًا، لا سيما أننا لا نعلم حتى الآن طبيعة المادة المظلمة. [4]

خواصها

تتراوح كتلة هكذا ثقوب سوداء بين ملايين و بضعة مليارات كتل شمسية. ويعتقد أنها توجد في مركز كل مجرة، كما في مجرتنا درب التبانة. وغالبًا ما يرصدها العلماء بمشاهدة تأثيرها الجذبوي الهائل على النجوم المحيطة بها. [2]

وكما أننا ما توقعنا يومًا وجود ثقوب سوداء متوسطة، قد تفاجئنا هذه العماليق الداكنة مجددًا، وتحبطنا في كل مرة نعتقد أننا قاربنا كشف أصغر غموضها.

المصادر

[1] NASA_1
[2] NASA_2
[3] NASA_3
[4] Space

ما هو أفق الحدث؟

هذه المقالة هي الجزء 5 من 10 في سلسلة رحلة إلى أعتم أجسام الكون، "الثقوب السوداء"

تتعرف الثقوب السوداء -أحد أكثر مواضيع الفيزياء الفلكية غموضًا- بمفهومين الأساسيين: «المتفردة-Singularity» و«أفق الحدث-Event horizon». وفي حين تنهار قوانين الفيزياء التي نعرفها عند المتفردة، يجعل الثاني الثقب الأسود أسودًا، ويحمي المتفردة من فضولنا العلمي. فما هو أفق الحدث؟ ماذا يحدث قربه؟ وبما يتعلق حجمه؟

مفهوم أفق الحدث

يرتبط مفهوم أفق الحدث ب«سرعة إفلات-Escape velocity» الأجسام، وهي السرعة اللازمة ليفلت جسم ما من جاذبية جسم آخر. وفي حالة الثقب الأسود، كلما اقترب جسم ما منه، تأثر بجاذبيته أكثر، فاحتاج لقيمة أكبر من السرعة ليهرب منه. ومع اعتبار هذا التزايد التدريجي، يكون أفق الحدث حدًا من الثقب الأسود تبلغ عنده سرعة الإفلات مقدارًا أكبر من سرعة الضوء. وبما أنه يستحيل لأي شيء في الكون -بحسب النسبية الخاصة لأينشتاين- أن يتحرك أسرع من الضوء، نعتبره نقطة اللاعودة من الثقب الأسود. ويشير الاسم هذا بشكل أو بآخر إلى استحالة رؤية أي شيء يحدث خلفه. ذلك لأن الضوء الذي يدخله لا يغادره أبدًا، وكذلك أي شيء آخر. [1]

ماذا يحدث عند الاقتراب منه؟

بسبب «تأثير دوبلر-Doppler effect»، يبدو الجسم المقترب من أفق الحدث مائلًا للأحمر. كما يبدو باهتًا، لأن جاذبية الثقب الأسود تشتت الضوء المنعكس عن الجسم المرصود. أما عندما يبلغ أفق حدثه، فتختفي صورته نهائيًا ويغدو لا مرئيًا لأن الضوء لا يعود قادرًا على الهرب من جاذبية الثقب. [2]

ماذا يوجد خلف أفق الحدث؟

خلفه، وفي مركز الثقب الأسود، تقبع المتفردة. تلك النقطة التي انهار فيها الثقب الأسود، وبلغت كثافتها قيمةً لا منتهية. كما أن نسيج الزمان-المكان ينحني حول المتفردة بزاويةٍ قدرها لا نهاية، متأثرًا بجاذبيتها وجاعلًا قوانين الفيزياء التي نعرفها تنهار. وفي هذه الحالة، يحمي أفق الحدث المتفردة، ويفصلنا -أبدًا- عنها وعن قوانينها الفيزيائية. [3]

حجمه

يعتمد حجم أفق حدث ثقب أسود ما على كتلة هذا الثقب. مثلًا، إذا جُعلت الأرض ثقبًا أسودًا -بطريقةٍ ما- فإن قطر أفق حدثه لن يتجاوز ال 17.4 ميليمترًا. أما إذا حُولت الشمس إلى ثقب أسود، فسيبلغ قطره حوالي الستة كيلومترات، أي ما يعادل مساحة قرية أو بلدة صغيرة. [1]

بينما تكون الثقوب السوداء فائقة الكتلة أكبر بكثير. مثلًا، الثقب الأسود «Sagittarius A» الواقع في مركز مجرة درب التبانة كتلته أكبر من كتلة الشمس ب 4.3 مليون مرة، وقطره يبلغ 12.7 مليون كيلومترًا. [4]

الثقوب السوداء الدوارة

سابقًا، اعتقد العلماء أن جميع الثقوب السوداء لا تدور حول نفسها، واعتبروا متفرداتها نقاطًا منفردة. أما الآن فيميز العلماء نوعين من الثقوب السوداء: دوارة: «ثقوب كير السوداء-Kerr black holes»، وغير دوارة: «ثقوب شوارزشايلد السوداء-Schwarzchild black holes».

تدور ثقوب كير السوداء حول نفسها لأن النجوم التي تشكلت منها كان تدور في الأساس، ولأن المادة التي تبتلعها دارت حولها حلزونيًا قبل أن تسقط فيه. ويقترح بعض الباحثين أن متفردات هكذا ثقوب هي حلقات رفيعة بشكل لانهائي. ويكون أفق حدثها متطاول الشكل كالأرض، أي مضغوط عند الأقطاب، ومنتفخ عند خط الاستواء. [5]

أفق حدث ثقب أسود دوار

على عكس ثقوب شوارزشايلد، يمكن فصل أفق حدث ثقب كير الأسود إلى أفقين خارجي وداخلي. يتصرف الأفق الخارجي كنقطة اللاعودة للثقب الأسود، أي كأفق كلي لثقب أسود غير دوار. أما الأفق الداخلي فيعرف باسم «أفق كوشي-Cauchy horizon». حيث يتصف أفق كوشي بالغرابة الشديدة، فخلفه، لا يسبق السبب نتيجته دائمًا، بل ويمكن ألا يؤثر الماضي في المستقبل، فيكون السفر عبر الزمن ممكنًا. [5]

وفي جميع الأحوال، لا يمكننا أن ننكر -وبأي شكل- أن ما يخفيه هذا الأفق يتجاوز حدود مخيلتنا، وعلومنا أيضًا.

المصادر

[1] Space
[2] Science Alert
[3] NASA
[4] NASA_2
[5] Science Direct

ما هي متفردة الثقب الأسود؟

هذه المقالة هي الجزء 4 من 10 في سلسلة رحلة إلى أعتم أجسام الكون، "الثقوب السوداء"

ما هي متفردة الثقب الأسود؟

لكي نفهم مفهوم «المتفردة-singularity»، لا بد من تخيل مقدار هائل من الجاذبية، يضغطك إلى نقطة لا متناهية الصغر، بحيث لا يجعلك تشغل -حرفيًا- أيّ حجم يذكر. قد يبدو لك الأمر مستحيلًا، وهو بالفعل كذلك! ومتفردات كهذه، والتي يعتقد أنها موجودة داخل الثقوب السوداء وفي بداية الانفجار العظيم، لا تمثل شيئًا فيزيائيًا. بل يظهر مفهومها في الرياضيات ليخبرنا أن نظرياتنا الفيزيائية تنهار، وأننا نحتاج لتبديلها بنظريات أفضل.

تحديدًا، ما هي المتفردة؟

يمكن أن تحدث المتفردات في أي مكان، وهي شائعة بشكل كبير في الرياضيات التي يستخدمها الفيزيائيون ليعبروا عن نظرياتهم. وبشكل مبسط، يمكن القول أن المتفردات هي نقاط تسلك الرياضيات فيها سلوكًا “شاذًا”، غالبًا بإنتاجها أرقامًا كبيرةً لا منتهية، أو بأن يصبح التابع غير معرف في نقطة ما أو غير قابل للاشتقاق عندها. وكمثال على المتفردات في الرياضيات نأخذ العملية 1/X. فعمليًا، كلما أخذت معادلة ما القيمة السابقة، وسعت قيمة X إلى الصفر، تسعى قيمة المعادلة إلى اللانهاية. فنقول أن التابع السابق غير معرف عند الصفر، أي يملك متفردة عند الصفر. ويمكن حل غالبية هذه المتفردات بالإشارة إلى أنها تنقص عاملًا مفقودًا يجب إضافته إلى معادلتها. أو إلى استحالة الوصول إلى قيمتها الفعلية، وكأن نقول أن المتفردات غير “حقيقية”. [1]

الخط البياني للتابع 1/X

متفردة الجاذبية

ولكن بعض المتفردات في الفيزياء لا تحل بهذه البساطة. ومن أشهرها «متفردات الجاذبية-gravitational singularities»، أي القيم اللامنتهية التي تظهر في نظرية النسبية العامة لأينشتاين، أفضل نظرية حالية لوصف الجاذبية. في النسبية العامة، يوجد نوعان رئيسيان من المتفردات، هما «متفردة الإحداثيات-coordinate singularity»، و«المتفردة الحقيقية-Real singularity». تحدث متفردات الإحداثيات عندما تظهر لا نهاية في جملة إحداثيات معينة، وتختفي عند اختيار جملة أخرى، فتكون ظاهرية فقط.

*جملة الإحداثيات: في هذه الحالة تبين الاحداثيات المستخدمة للتعبير عن الزمان والمكان. [2]

مثلًا، طبق الفيزيائي «كارل شوارزشايلد-Karl Schwarzschild» قوانين النسبية العامة على نظام بسيط لكتلة كروية، مثل النجوم. فوجد أن حلول المعادلات تضمنت متفردتين: إحداهما في مركز الكرة، والأخرى على بعد معين من مركزها. وتعرف المسافة الثانية اليوم ب «نصف قطر شوارزشايلد-Schwarzschild radius» وتتعلق بكتلة الجسم. لعدة سنوات اعتقد الفيزيائيون أن كلا المتفردتين تمثل انهيارًا لقوانين الفيزياء، ولكنهم لم يبالوا للثانية طالما كان نصف قطر الكتلة الكروية أكبر من نصف قطر شوارزشايلد.

ولكن ما الذي يحدث لو تقلص جسم ما لأقل من نصف قطر شوارزشايلد الخاص به؟ عندها ستقع المتفردة الثانية خارج الجسم، ويعني أن النسبية العامة ستنهار في مكان لا يجب أن تنهار فيه. ولم تطل المعضلة حتى اكتشف العلماء أن متفردة نصف قطر شوارزشايلد هي متفردة إحداثيات لا أكثر. ومجرد تغيير في نظام الإحداثيات المستخدم يزيل المتفردة، ويحمي النسبية العامة من الانهيار. [3]

أين تحدث متفردات الجاذبية؟

بقيت المتفردة المتمركزة داخل مركز الجسم بينما أزيلت قرينتها. لأنك إن ضغطت جسمًا ما لأقل من نصف قطر شوارزشايلد الخاص به، تصبح جاذبيته شديدةً لدرجة أنه ينهار على نفسه باستمرار إلى نقطة لا متناهية الصغر. ولعقود من الزمن، تناقش الفيزيائيون حول إمكانية حدوث انهيار في اللانهاية كهذا، أو وجود قوة تمنع هكذا انهيار. ففي حين تحافظ «الأقزام البيضاء-white dwarfs» و«النجوم النيوترونية-neutron stars» على نفسها من الانهيار، أي جسم كتلته أكبر من 6 أضعاف كتلة الشمس سيملك مقدارًا هائلًا من الجاذبية. وتتغلب جاذبيته على كل قوى الطبيعة فينهار في نقطة لا منتهية، تشكل متفردةً حقيقة. [4]

ما هي المتفردة المجردة؟

إن التعريف السابق ذكره هو التعريف الفعلي لماهية «الثقب الأسود-black hole». فهو نقطة كثافتها لا متناهية، تحاط بأفق حدث يقع عند نصف قطر شوارزشايلد. حيث “يحمي” أفق الحدث المتفردة داخل الثقب، مانعًا المراقبين الخارجيين من رؤيتها إلا إذا عبروا أفق الحدث. اعتقد الفيزيائيون سابقًا أنه في النسبية العامة، تحاط جميع المتفردات بآفاق حدث. وعرف المفهوم السابق باسم «فرضية الرقابة الكونية-the Cosmic Censorship Hypothesis». وسموها كذلك لأنهم اعتقدوا بوجود عملية ما في الكون “تكون رقيبة” على المتفردات وتمنعها من أن تكون مرئية. ثم أظهرت المحاكاة الحاسوبية إمكانية وجود «متفردات مجردة-naked singularities». حيث تكون المتفردة المجردة عبارةً عن متفردة بدون أفق حدث، مما يجعلها قابلة للرصد من العالم الخارجي. ولكن يبقى وجود هكذا متفردات موضع جدل العلماء حتى اليوم. [5]

ما الذي يوجد في مركز الثقب الأسود؟   

ولأنها تعتبر متفردات رياضية، لا أحد يعلم حقًا ماذا يوجد في مركز الثقوب السوداء. ولكي نعلم ذلك، نحتاج إلى نظرية أخرى غير نظرية النسبية العامة، لأنها تنهار في المتفردة. وتحديدًا، نحتاج إلى نظرية كم للجاذبية، أي نظرية تصف سلوك الجاذبية القوية على مقاييس صغيرة جدًا. توجد بعض الفرضيات التي تعدل أو تستبدل نظرية النسبية العامة كليًا محاولةً وصف متفردة الثقب الأسود. ومنها فرضية «نجوم بلانك-Planck stars»، وهي حالة افتراضية لمادة شديدة الانضغاط. و«نجوم الطاقة المظلمة-dark energy stars»، وهي حالة افتراضية لطاقة الفراغ، تبدو وتتصرف كثقب أسود. وحتى يومنا هذا، تبقى  هذه الأفكار مجرد افتراضات لن تجيب عنها إلا نظرية كم الجاذبية المنتظرة. [6]

ما هي متفردة الانفجار العظيم؟

تعتبر «نظرية الانفجار العظيم-The Big Bang theory» والتي تفترض صحة النسبية العامة، النموذج الكوني الحديث لتاريخ كوننا. كما تتضمن متفردة تقع في الماضي البعيد، منذ حوالي 13.77 مليار سنة. فبحسب هذه النظرية، كان الكون بأكمله منضغطًا في نقطة لا متناهية الصغر تشكل ما يعرف بمتفردة الانفجار العظيم. [7]

ويعلم الفيزيائيون اليوم أن الاستنتاج السابق خاطئ. فرغم نجاحها الكبير في وصف تاريخ كوننا، إلا أنه وكما في الثقوب السوداء، يخبرنا وجود متفردة في الانفجار العظيم -مرة أخرى- أن نظرية النسبية العامة غير مكتملة، وتحتاج للتحديث.

المصادر

The Basque Center of Applied Mathematics [1]
The Stanford Encyclopedia of Philosophy [2]
[3] the University of California
Universe Today [4]
ScientificAmerican [5]
Physics of the Universe[6]
The Astrophysics Data System[7]

كيف تتشكل الثقوب السوداء؟

هذه المقالة هي الجزء 3 من 10 في سلسلة رحلة إلى أعتم أجسام الكون، "الثقوب السوداء"

تعرف «الثقوب السوداء-Black holes» بأنها مناطق من نسيج الزمان-المكان تكون جاذبيتها عالية لدرجة حتى الضوء لا يستطيع الفرار منها. ولعل أكثر خواصها أهمية وإثارةً للانتباه –وهو الجاذبية الهائلة- يعود إلى الطريقة العنيفة التي تشكلت بها. ولاسيما أن أعظم العلم يختبئ في البدايات، فكيف تتشكل الثقوب السوداء؟

لا تتشكل الثقوب السوداء من تلقاء ذاتها، بل يمكن اعتبارها مرحلةً متأخرةً أو مصيرًا محتملًا للنجوم فائقة الكتلة. فهي ببساطة ما تؤول إليه بعض النجوم بعد موتها.

كيف تموت النجوم؟

يتحدد مصير النجوم منذ ولادتها. حيث تنشأ النجوم عند دوران سحابة عملاقة من الغاز حول نفسها، فينضغط الغاز وتزداد سرعة دورانه تباعًا. يؤمن الضغط والحرارة هذان البيئة لحدوث تفاعلات الاندماج النووي التي تحدث على ثلاث مراحل. وتتحول فيها نواتا ذرتي هيدروجين (البروتون حيث لا تحتوي نواته على نيوترون) إلى ذرة «ديتريوم-Deuterium»، لتندمج الأخيرة مع بروتون آخر معطيةً ذرة هيليوم-3. وأخيرًا تندمج ذرة الهيليوم-3 مع بروتون وتعطي ذرة هيليوم-4 مكونة من بروتونين اثنين ونيوترونين. وتكون كتلة نواة الهيليوم الناتجة أصغر بقليل من مجموع كتل الجسيمات التي تكونها. أما فرق الكتلة هذا فيتحول إلى طاقة تنطلق بشكل أشعة كهرومغناطيسية تنبعث خارج النجم. [1]

التوازن الهيدروستاتيكي

يصحب إطلاق الأشعة الكهرومغناطيسية الناتجة عن التفاعلات النووية ضغط متجه نحو الخارج، في حين تؤثر الجاذبية في كل نقطة من الشمس محاولة ضغطها نحو الداخل. وأما التوازن بين هاتين القوتين المتعاكستين فيسمى «التوازن الهيدروستاتيكي-Hydrostatic equilibrium» وهو حالة ترافق النجوم طيلة حياتها، ويؤدي غيابه إلى انهيارها على نفسها بفعل الجاذبية. [2]

والآن لنتخيل أن وقود النجم من الهيدروجين (أو أي عنصر آخر كانت تجري عليه التفاعلات سابقًا) نفذ، وكانت درجة حرارته لا تكفي لحدوث تفاعلات الاندماج النووي على  ذرات أثقل منه. في هذه الحالة ينعدم التوازن الهيدروستاتيكي بسبب انعدام الضغط المتجه خارج النجم. في حين لا تتأثر قوة الجاذبية، بل تصبح مسيطرةً على حالة النجم، وهنا يموت النجم منكمشًا على نفسه. [3]

مصير النجوم وحد تشاندراسيخار

يعتمد مصير النجم بعد موته على الحالة التي سيتوقف عندها عن الانهيار. وبما أن انهيار النجم يحدث بفعل الجاذبية، والتي تتحدد شدتها بحسب كتلة النجم، فإن مصير النجم بأكمله متوقف على كتلته. وهنا يأتي مفهوم «حد تشاندراسيخار-Chandrasekhar limit» ليتوقع لنا مصير النجم بناءً على كتلته، حيث يساوي هذا الحد حوالي 1.4 كتلة شمسية. ويضعنا ذلك أمام احتمالين، إما أن تكون كتلة النجم أقل من هذا الحد أو أكبر منه. [4]

1.أقل من حد تشاندراسيخار

في أثناء انهيار النجم، تعمل الجاذبية على ضغط مادته بشدة لتجعل الذرات متراصةً فوق بعضها. وهنا يأتي دور «مبدأ باولي للاستبعاد-Pauli principle of exclusion» أحد أهم مبادئ ميكانيكا الكم. فيمنع هذا المبدأ الجسيمات مثل الالكترونات من التواجد في الحالة الكمية نفسها. [5]

تتعرف الحالة الكمية للإلكترونات بأربعة عناصر هي مستواه الطاقي الرئيسي في الذرة (العدد الكمي الرئيسي n)، ومستواه الطاقي الثانوي (العدد الكمي المداري l)، وتوجه مداره في الفراغ (عدده الكمي المغناطيسي m)، وحركته المغزلية وجهتها (عدده الكمي المغزلي s). [6]

وفي حين تعمل الجاذبية بضغطها جميع الذرات إلى نفس النقطة على جعل جميع الكترونات النجم في نفس الحالة الكمية مخالفةً مبدأ باولي، تقاومها قوة تعرف باسم «قوة تنكس الالكترونات-Electron degeneracy pressure». وتوقف هذه القوة انهيار النجم فيتشكل ما يسمى «القزم الأبيض-White dwarf».
[7]

تكون هذه القوة كافية لردع قوة الجاذبية في حال كانت كتلة النجم أقل أو مساوية لحد تشاندراسيخار. ولكن في حال كان أكبر من ذلك، تفشل قوة تنكس الالكترونات ويستمر الانهيار. [4]

2. أكبر من حد تشاندراسيخار

في هذه الحالة، يستمر النجم بالانهيار على نفسه، مجبرًا الالكترونات والبروتونات على الانصهار والتحول إلى نيوترونات، فتصبح مادته ذات كثافة فائقة. وهنا يأتي دور مبدأ باولي بالاستبعاد مرة أخرى. ولكن بدلًا من تطبيقه على الالكترونات نطبقه على النيوترونات، حيث ينشأ ما يعرفه الفلكيون باسم «قوة تنكس النيوترونات- Neutrons degeneracy pressure». وكسابقتها، توقف هذه القوة النجم عن الانهيار، ويصبح اسمه نجمًا نيوترونيًا.

وكما في الحالة السابقة، تكون هذه القوة غير كافية لردع قوة الجاذبية في حالة كانت كتلة النجم أكبر ن 3 أضعاف كتلة الشمس. [8]

تشكل الثقوب السوداء

في حالة كانت كتلة النجم أكبر من 3 أضعاف كتلة الشمس، فليس هناك قوة في الطبيعة، ولا أي قوة كمية، ولا ضغط تنكس كمي في الكون قادر على إيقاف الانهيار الذي سيستمر موصلًا المادة إلى حالة من أغرب ما رصده الإنسان في الكون، أو ما نعرفه باسم الثقوب السوداء. ففي حالة الثقوب السوداء، تكون كثافة المادة عالية لدرجة أنها تدفع منطقتها من نسيج الزمان -المكان إلى ما وراء هذا النسيج، مبعدةً إياه عن أنظار باقي الكون. [9]

وحتى هذه اللحظة، لا زال بالإمكان اعتبار الثقوب السوداء أحد ألغاز كوننا، ورغم أن ما نعرفه عنها ليس بقليل، لكنه بالتأكيد لا يرنو للإحاطة بغموضها وكشف ما تخفيه وراءها.

المصادر:

[1] CERN
[2] Harvard CFA
[3] The National Radio Astronomy Observatory
[4] NASA
[5] ScienceDirect
[6] ScienceDirect_2
[7] Western Michigan university
[8] NASA_2
[9] space

الثقوب السوداء: أكثر الأجرام ظلامًا في الكون

هذه المقالة هي الجزء 2 من 10 في سلسلة رحلة إلى أعتم أجسام الكون، "الثقوب السوداء"

تعرف «الثقوب السوداء-Black Holes» بأنها أجرام فلكية جاذبيتها هائلة جدًا، بحيث لا يمكن لأي شيء في الكون أن يفلت منها، ولا حتى الضوء. يسمى “سطحها” «أفق الحدث-Event Horizon»، ويمثل الحد الذي تتجاوز «سرعة الإفلات-Escape Velocity» فيه سرعة الضوء، أي على الجسم أن يتحرك أسرع من الضوء –وذلك مستحيل- كي يستطيع الإفلات من جاذبيتها. فأي مادةٍ أو إشعاع يصل ذلك الحد؛ يسقط فيها بلا عودة. [1]

من اكتشف الثقوب السوداء؟  

كانت سنة 1916 عام سعد الفيزيائي «كارل شوارزشايلد-Karl Schwarzschild». حيث اكتشف الثقوب السوداء صدفةً بينما كان يعمل على مسألة تتعلق بنظرية النسبية العامة لأينشتاين. فقد حاول شوارزشايلد دراسة قوة الجاذبية لجسم كروي منفرد ومتناسق، مثل الشمس في ضوء النسبية. لكن دراسته هذه انتهت إلى نتيجة غير مألوفة: لقد اختلفت الأمور كليًا عند نصف قطر معين، يسمى اليوم «نصف قطر شوارزشايلد-Schwarzschild radius».  وعرفت الثقوب السوداء حينها بأنها أجسام فلكية تحقق خاصية شوارزشايلد هذه. ثم توصل الباحثون لاحقًا لما يجعل طول شوارزشايلد مميزًا جدًا: إذا ضغطت كمية معينة من المادة في حيز أصغر من ذلك الطول، فستتغلب قوة جاذبيتها على كل القوى التي نعرفها، ولن يتمكن أي شيء من الهرب منها.

في البداية رفض الفيزيائيون فكرته، وافترضوا عدم إمكانية حدوث ذلك في الطبيعة. ثم في ثلاثينيات القرن الماضي؛ تبين أن الطبيعة تسمح للثقوب السوداء وقطرها الغريب بالوجود. فقد وضح الفيزيائي الهندي «صابرحمنيان تشاندراسيخار-Subrahmanyan Chandrasekhar» أنه إذا تجاوزت كثافة المادة حدًا معينًا، فلن تغلب قوة في الكون جاذبية هذه المادة، مما يتوافق كليًا مع فكرة شوارزشايلد. [2]

ما الذي يحدث داخل الثقب الأسود؟

ليست الثقوب السوداء بفضاء فارغ أبدًا، بل تحوي أطنانًا من المادة التي سحقت عند دخوله. حيث ينتهي المطاف بأي مادة تدخله إلى نقطة صغيرة لا متناهية في مركزه تدعى «المتفردة-Singularity». ومهما أبدى الجسم الساقط من مقاومة، ومهما يكن اتجاه سقوطه، فسينتهي في المتفردة خلال مدة وجيزة؛ بسبب قوة جذبها الهائلة.

لا يعلم الفيزيائيون طبيعتها على وجه التحديد، فعندها تنهار كل قوانين الفيزياء.  [3]

كيف يتأكد العلماء من وجود الثقوب السوداء؟

يعلم الفيزيائيون أن الثقوب السوداء موجودة، رغم عدم قدرتهم على رصدها مباشرةً أو رؤيتها، فمعظم أدلتهم غير مباشرة. مثلًا؛  رصد فريق من الباحثين أمواج سينية قوية تأتي من نظام «سيغنس إكس-1- Cygnus X-1» الذي يبعد عنا 6000 سنة ضوئية. ثم وجدوا أن النظام مكون من جسم كثيف معتم –ثقب أسود- يسحب الغلاف الجوي لجسم آخر قربه. لم ير الباحثون الثقب الأسود ذاته، ولكنه فيما يحاول ابتلاع الغلاف الجوي، ارتفعت حرارة الغاز فأطلق أمواج سينية قابلة للرصد وعلمنا أن الثقب موجود. [4]

صورة توضح ابتلاع الثقب الأسود سيغنس إكس-أ لمجاوره
حقوق الصورة: ESO

ما هي أحجام الثقوب السوداء؟

يمكن أن تكون الثقوب السوداء صغيرة أو كبيرة، ولكن أصغرها (بحجم الذرة) له كتلة هائلة (كتلة جبل). أما الثقب الأسود في سيغنس إكس-1 فهو أقرب ثقب أسود إلينا، وكتلته تعادل 20 ضعف كتلة الشمس، وهي كتلة متوسطة نوعًا ما مقارنة بباقي الثقوب السوداء في الكون. فيما قدر العلماء وجود 10 مليون ثقب أسود على الأقل في مجرتنا. وكغيرها من المجرات في الكون؛ يحتل ثقب أسود عملاق مركزها، ويسمى «القوس-أ-Sagittarius-A». تكون الثقوب السوداء العملاق أثقل بملايين المرات من الشمس، ومئات المليارات أحيانًا. وتصل هذه الثقوب لأحجام هائلة؛ نتيجة ابتلاعها كل ما يحيط بها من مادة، واندماجها مع ثقوب سوداء أصغر منها. [5]

ماذا يحدث لو سقطت داخل ثقب أسود؟

من حسن الحظ أن أقرب ثقب أسود يبعد عنا آلاف السنين الضوئية. فتأثيرهم على الاجسام البعيدة لا يخالف تأثير أي جسم ثقيل آخر في الكون. أما إذا بدلت الشمس بثقب أسود له نفس كتلتها، لن يتغير مدار الأرض أبدًا، لأن قوة الجاذبية بقيت نفسها. لكنك إن اقتربت من ثقب أسود عادي، فستكون قوة جاذبيته قوية لدرجة تجعل جسمك يمتط ويتحول إلى خيط رفيع من الجسيمات قبل أن تصل إلى أفق الحدث حتى، في حدث يسمى «تأثير السباجيتي-spaghettification».
[1]
وفي كل الأحوال؛ من المستبعد أن تصل إلى ثقب أسود، فلما القلق؟

المصادر

[1] NASA
[2] ScienceFocus
[3] NASA_2
[4] NASA_3
[5] California Institute of Technology

الأكوان المتعددة: لماذا يعتقد البعض بوجودها؟

هذه المقالة هي الجزء 2 من 9 في سلسلة رحلة بين 8 ألغاز كونية مذهلة!

تقترح فرضية «الأكوان المتعددة-Multiverse Hypothesis» أن كوننا –بما فيه من مجرات ونجوم- ليس الكون الوحيد. وتطرح احتمالية وجود أكوان أخرى مختلفة ومنفصلة تمامًا عن كوننا.  وبحسب هذه الفرضية؛ من الممكن وجود عدد لا نهائي من الأكوان، لكل منها قوانينه الفيزيائية الخاصة، ومجموعته من المجرات والنجوم (إن سمحت قوانينه بوجودها)، وحتى حضارته الذكية الخاصة التي اكتشفت -أو لم تكتشف بعد- وجود أكوان أخرى غير كونها. قد تبدو هذه الفرضية جامحة بشكل لا يصدق؛ فلماذا إذًا يعتقد بعض العلماء بها؟ [1]

الأدلة النظرية على الأكوان المتعددة

نظرية التضخم

يجد مفهوم الأكوان المتوازية مكانةً له في عدة مجالات فيزيائية وفلسفية أيضًا. لكن من المؤكد أن أبرز مثال يأتينا من «نظرية التضخم-Inflation Theory». تعنى نظرية التضخم بحال الكون بعد أقل من ثانية من تشكله. وبالتحديد؛ تصف حدثًا توسع فيه الكون جدًا في وقت ضئيل، “متضخمًا” ليصبح أضعاف حجمه السابق. ويعتقد العلماء أن حدث التضخم هذا انتهى منذ حوالي 14 مليار سنة. لكنه لم ينته في كل مكان في الوقت ذاته، فمن الممكن أنه انتهى في منطقة ما واستمر في الأخرى. [2]

وبالتالي؛ بينما انتهى التضخم في كوننا؛ من الممكن أنه استمر في مناطق بعيدة جدًا منه. بحيث ينتؤ كون مستقل من كل تضخم مستمر، وهكذا دواليك. ولفهم ذلك؛ تخيل أنك تنفخ بالونًا، وبسبب خطأ ما في تصنيعه كانت بعض المناطق منه أرقّ من غيرها. بينما توقف بالونك عن الانتفاخ بعد أن امتلأ هواءً؛ استمرت هذه المناطق الرقيقة منه بالانتفاخ، وبرزت كأنها بالون جديد ناتئ من بالونك الأساسي. والفرق هنا أن العملية لا نهائية في الأكوان المتعددة، فكل “نتوء” جديد سيحوي مناطق يستمر فيها الانتفاخ بعد ان يتوقف في غيرها، لنحصل على انتفاخات لا نهائية داخل انتفاخات أخرى.   

صورة توضح نشوء الأكوان المتعددة بالتضخم
حقوق الصورة: Express

وفي هذا السناريو من التضخم اللانهائي؛ كل كون جديد سيكون مستقلًا عن الكون الذي نشأ منه. ويكون له قوانينه الفيزيائية الخاصة، مجموعته من الجسيمات، ترتيبه من قوى الطبيعة، وقيمه وثوابته الخاصة. ربما يفسر ذلك لما لكوننا خواصه الحالية، وخاصةً تلك التي يصعب على الفيزياء النظرية شرحها، كالمادة المظلمة و«الثابت الكوني-Cosmological constant». فإذا كان هناك أكوان متعددة؛ سيكون هناك ثابت كوني مختلف لكل كون منها، وسيكون توزيع الثوابت عشوائيًا. ويكون ثابت كوننا ليس مميزًا ومحض صدفة لا أكثر. [1]

وجود حياة ذكية في الكون

يعتقد بعض العلماء أن أحد أهم الأدلة على الأكوان المتعددة هو وجودنا وتمكننا من طرح سؤال كهذا. فلطالما شعرنا وكأن كوننا معد مسبقًا ليحضن حياةً ذكية. وكأن كل القوانين والقوى مضبوطةٌ لتلائم وجودنا وتدعمه. وتبدو هذه السمات مميزة جدًا، من استقرار نواة الذرة وتوافر الكربون في الكون، إلى وجود الضوء وحياة النجوم الطويلة.  

ولكن كل ذلك يصبح “طبيعيًا” إذا ما افترضنا وجود عدد لانهائي من الكون. حيث تخبرنا الاحتمالات أنه لا بد من وجود كون من هذه الأكوان تجتمع فيه كل الشروط المناسبة لنشأة الحياة. وبالتالي هناك أيضًا عدد هائل من الأكوان التي لا تدعم الحياة، فلماذا وجدنا في هذا الكون بالتحديد؟ لأنه الوحيد الذي يسمح بذلك.

  ولا بد أن نذكر أن علماء الإحصاء اختلفوا معهم في ذلك، ولم يعتبروا وجود الأكوان المتعددة ضرورة لوجودنا.[3]

ميكانيك الكم

يعد «مبدأ التراكب-superposition» حجر الزاوية في ميكانيكا الكم. وينص أن الجسيم أو الكم يتواجد في حالتين و مكانين مختلفين في الوقت ذاته. ومثالًا على ذلك نرى الطبيعة المثنوية للضوء، فالضوء جسيم يدعى الفوتون وموجة كهرومغناطيسية في آن واحد. وأيضًا؛ يوجد الإلكترون هنا وهناك في الوقت ذاته، ولكننا عندما نرصده نجبره على اختيار مكان منهما. [4]

ويمهد هذا المبدأ لتجربة «قطة شرودينغر-Schrödinger’s cat»، وهي قطة محبوسة في صندوق مغلق، ومصيرها محكوم بأداة كمية قاتلة. وبما أن الأداة توجد في حالتين مختلفتين إلى أن نفتح الصندوق ونقوم بالرصد؛ فالقطة حية وميتة في آن واحد. [5]

وعوضًا عن افتراض أننا “نجبر” الكم على اختيار حالة أو مكان واحد عند رصدنا، يميل مؤيدو فرضية الأكوان المتعددة لتفسير أخر. حيث يعتقدون أنه لا حاجة للاختيار أصلًا! ففي اللحظة التي نرصد فيها الكم، ينقسم الواقع إلى نسختين: واحدة نرصده وقد اختار الحالة 1، وآخر نرصده وقد اختار 2. وكان الواقع يتكون من عدة طبقات متفرعة، كل منها يشكل كونًا من الأكوان المتعددة.  [6]

ولكن لا يزال العلماء متحفظين ومشككين في هذه الفرضية، فالأدلة حتى الآن غير مقنعة كفاية.

الأدلة المادية على الأكوان المتعددة

حاول عدة علماء إيجاد أدلة مادية رصينة تثبت وجود الأكوان المتعددة. مثلًا؛ لو حدث وكان كون ما قريب من كوننا بشكل كافي لالتحم معه مخلفًا أثرًا ما. قد يكون ذلك الأثر تشوهات في «إشعاع الخلفية الكونية الميكروي-cosmic microwave background radiation»* ، أو تصرفات غريبة للمجرات.  

في حين يبحث علماء أخرون في أنواع خاصة من الثقوب السوداء، والتي قد تكون آثارًا لقطع من كوننا انفصلت إلى داخل الكون الآخر في عملية تعرف ب«النفق الكمومي-Quantum tunneling». فإذا انفصلت مناطق من كوننا بهذه الطريقة؛ ستخلف وراءها “فقاعات” في كوننا والتي قد تتحول إلى ثقوب سوداء. [7]

*إشعاع الخلفية الكونية الميكروي: الإشعاع الذي أصدره كوننا عندما كان شديد الكثافة وأصغر بمليون مرة مما هو عليه الآن.

ولكن بحثهم هذا لم يثمر حتى الآن، ولا تزال فكرة الأكوان المتعددة افتراضًا فقط.

المصادر

[1] Nature

[2] NASA

[3] Scientific American

[4] Cornell University

[5] joint quantum institute

[6] space

[7] university College London

إلى أين تقودنا الثقوب السوداء؟

هذه المقالة هي الجزء 4 من 9 في سلسلة رحلة بين 8 ألغاز كونية مذهلة!

ها أنت ذا على وشك القفز داخل ثقب أسود. إذا اعتبرنا أنك وبطريقة ما استطعت البقاء على قيد الحياة، فما الذي ينتظرك هناك؟  أين سينتهي بك المطاف؟ وما القصص العجيبة التي سترويها للناس عند عودتك؟ ربما تكون أبسط إجابة على ذلك أن “لا أحد يعلم!” فالعلماء حتى الآن غير متيقنين من طبيعة الثقوب السوداء. كما أن عبور أفق حدث ثقب ما –إن لم يمزقك إربًا بسبب الجاذبية- يمنعك من إرسال أي رسالة للعالم الخارجي. فلا شيء يعود من ثقب أسود!

من المتوقع أن تكون الإجابة السابقة محبطةً ومؤلمةً بعض الشيء. فقد توقعت نظرية النسبية العامة لأينشتاين وجود الثقوب السوداء، عندما اعتبرت أن الجاذبية تؤثر في نسيج المكان-الزمان. ومنذ ذلك الوقت؛ عرفنا تشكل الثقوب السوداء بعد موت النجوم. حيث تموت النجوم هائلة الكتلة مخلفةً وراءها نواةً صغيرة وكثيفة من المادة. وإذا ما كانت كتلة هذه النواة أكبر من ثلاثة أضعاف كتلة الشمس أي «حد تشاندراسيخار-Chandrasekhar limit»؛ ستطغى الجاذبية وينهار النجم على نفسه في نقطة واحدة تدعى «المتفردة-Singularity».

ينتج عن كل ذلك ثقب أسود له قوة جاذبية هائلة، حتى أن الضوء لا يمكنه الهرب منه. أما «أفق الحدث-Event horizon» فهو حد من الثقب الأسود؛ وأي شيء يتجاوزه لا يستطيع العودة أبدًا. لا مهرب من أفق الحدث!

وبمجرد وصولك لأفق الحدث ستعمل قوى الجاذبية على تمزيقك لخيوط من الذرات فيما يعرف ب «تأثير السباجيتي-Spaghettification»، ثم ستعمل المتفردة على تحطيم ما تبقى منك. يبدو أن فكرة إمكانية الخروج من الثقب الأسود لمكان آخر أقرب إلى الخيال، فحتى لو قادك الثقب لمكان آخر؛ لن تصمد إلى ذلك الحين! [1]

ماذا عن الثقوب الدودية؟

منذ سنوات؛ درس العلماء احتمالية كون الثقوب السوداء ثقوبًا دوديةً تقودنا لمجرات أو عوالم أخرى. فقد حاول «ألبرت أينشتاين-Albert Einstein» بمساعدة «ناثان روزن-Nathan Rosen» وضع فرضية عن “جسور” تربط بين نقاط مختلفة من نسيج المكان-الزمان عام 1935. كما طرحت الفكرة مجددًا لافي الثمانينيات عندما قام الفيزيائي «كيب ثورن-Kip Thorne» بمناقشة إذا ما ستستطيع الأجسام عبور هذه الجسور. [2]

لكننا حتى الآن لم نرصد أي دليل على وجود هكذا جسور أو ثقوب دودية! فقد كتب ثورن في كتابه «The science of interstellar» عام 2014: “لا نرى أي أجسام يمكنها التحول لثقوب دودية في كوننا.” تكمن المشكلة في عدم قدرتنا على الاقتراب كفاية من الثقوب السوداء لنرى بأنفسنا، حتى أن أول صورة لثقب أسود التقطت مؤخرًا عام 2019.، أي بعد حوالي قرن من اقتراح فكرة الثقوب السوداء!

كما يعتقد «دوغلاس فينكبينر-Douglas Finkbeiner» وهو بروفيسور الفيزياء والفلك في جامعة هارفرد أننا حتى ولو اقتربنا؛ لن نستطيع رؤية رائد فضاء يسقط في الثقب الأسود. يمكننا فقط رؤيته يصبح باهتًا وأحمرًا مع اقترابه من أفق الحدث، نتيجةً لتأثير الانزياح نحو الأحمر بسبب الجاذبية. كما أنه وبمجرد سقوطه داخل الثقب؛ سيبقى محتجزًا فيه إلى الأبد. وكأن الثقوب السوداء تقود لنهاية الزمن! [3]

قد تقود الثقوب السوداء إلى ثقوب بيضاء

إذا قادتنا الثقوب السوداء لجزء آخر من المجرة أو إلى كون آخر؛ فلا بد من وجود شيء يقابلها في الجهة الأخرى. فهل يكون ذلك «ثقب أبيض-White hole»؟ وضع عالم الكونيات الروسي «إيغور نوفيكوف-Igor Novikov» فرضيته عام 1964، واقترح فيها أن الثقب الأسود يرتبط بثقب أبيض موجود في الماضي. وعلى عكس الثقوب السوداء؛ تسمح البيضاء للمادة والضوء بالخروج منها وتمنعها من الدخول. [4]

استمر العلماء بدراسة العلاقة المحتملة بين الثقوب السوداء والثقوب البيضاء. وفي دراسة نشرت في مجلة «Physical review D» عام 2014؛ ادعى الفيزيائيان «كارلو روفيلي-Carlo Rovelli»  و «هال م.هاغارد-Hal M. Haggard» أنه يوجد مقياس كلاسيكي متوافق مع معادلات أينشتاين تنهار فيه المادة داخل ثقب أسود ثم تنبثق من ثقب أبيض. أي أن كل المادة التي ابتلعها ثقب أسود ما يمكن أن تخرج من ثقب أبيض، كما أن الثقوب السوداء قد تتحول لبيضاء عندما تموت. وبعيدًا عن تدمير المعلومات التي تدخله؛ قد يتوقف انهيار الثقب الأسود، وقد يحدث نوع ما من الارتداد الكمي الذي سيسمح للمعلومات بالخروج. [5]

إشعاع هوكينج

تلقي الفكرة السابقة الضوء على مقترح عالم الكونيات الشهير ستيفن هوكينج، والذي ناقش في السبعينيات إمكانية إطلاق الثقوب السوداء جسيمات وإشعاع حراري فيما يعرف ب«إشعاع هوكينج-Hawking’s radiation». وبحسب هوكينج لا تدوم الثقوب السوداء إلى الأبد. فقد وجد أنها تفقد طاقتها نتيجة إطلاقها الإشعاع، وتتقلص تدريجيًا حتى تختفي. [6]

لكنه يقترح كذلك أن الإشعاع المنطلق عشوائي تمامًا ولا يتضمن أية معلومات عما سقط في الثقب. وكأن موت الثقب الأسود يمحي كمًا هائلًا من المعلومات. مما يعني أن فكرة هوكينج تتعارض مع نظرية الكم التي تشترط عدم ضياع أو تدمير المعلومات. قاد هذا التعارض لما يعرف بمفارقة معلومات الثقب الأسود، وحتى الآن لا نعرف إلام سيقود! [7]

فهل نعود لفكرة الثقوب البيضاء التي تشع معلومات محفوظة؟ ربما. في دراسة نشرت عام 2013 في مجلة «Physical Review Letters»؛ قام العالمان «خورخي بولين-Jorge Pullin» و«رودولفو غامبيني-Rodolfo Gambini» بتطبيق فكرة الجاذبية المكمّمة على ثقب أسود، ووجدوا أن الجاذبية ازدادت باتجاه المركز ثم تناقصت ملقيةً كل ما دخل الثقب في مكان آخر من الكون. أعطت نتائج الدراسة مصداقيةً أكبر لفكرة كون الثقوب السوداء بوابة. واعتبر العلماء أن المتفردة غير موجودة في الدراسة السابقة، وبالتالي لن يكون هناك حد فاصل يدمر كل المعلومات. [8]

قد لا تقودنا الثقوب السوداء لأي مكان

يعتقد العلماء أحمد المهيري و«دونالد مارلوف-Donald Marlof» و«جوزيف بولشينسكي-Joseph Polchinski» و«جيمس سولي-James Sully» أن هوكينج لم يكن مخطئًا تمامًا. فقد عملوا على فرضية تعرف باسم «جدار النار-AMPS Firewall». ووفقًا لحساباتهم؛ يمكن لميكانيك الكم أن تحول أفق الحدث إلى جدار عملاق من النار يحرق كل ما يلمسه بلمح البصر. وفي هذه الحالة؛ لا تقودنا الثقوب السوداء لأي مكان لأننا لا نستطيع دخولها حتى!

لكن هذا الادعاء يتعارض مع نظرية النسبية العامة؛ التي تقول أن الجسم الذي يعبر أفق الحدث يكون في حالة من السقوط الحر ويخضع لقوانين الكون المعروفة. وحتى لو لم يتعارض ذلك مع النسبية؛ فهو يقترح ضياع المعلومات، مما يخالف ميكانيك الكم. [9]

وفي جميع الأحوال؛ لا ننصحك بالاقتراب من ثقب أسود!

المصادر:

Space1 [1]

Space2 [2]

Space3 [3]

Space4 [4]

Physical Review D [5]

Nature [6]

Nature [7]

Physical Review Letters [8]

ScienceDirect [9]

“تاريخ موجز للزمان” ملخص كتاب للعالم ستيفن هوكينج

“تاريخ موجز للزمان” ملخص كتاب للعالم ستيفن هوكينج

يعتبر كتاب “تاريخ موجز للزمان” من أشهر كتب شرح الفيزياء لغير المتخصصين، والذي أحدث ضجة كبيرة وقت صدوره، كتب مقدمته العالم كارل ساجان، ويعد كاتبه من أكثر الشخصيات الملهمة والمؤثرة على مستوى العالم، فضلاً عن إسهاماته المتميزة في عالم الفيزياء النظرية على الرغم من التحديات الجسدية التي واجهها معظم سنوات حياته.

يستعرض الكاتب بصورة مبسطة مسيرة النظريات الكبرى عن الزمان والكون ابتداءً من نظريات أرسطو وجاليليو وصولا إلى نيوتن وآينشتاين مضيفًا نظرياته ودراساته الخاصة، ومحاولًا الإجابة عن أكثر الأسئلة المحيرة عن أصل الكون ومحاولات العلماء لإيجاد نظرية موحدة لأهم نظريات القرن العشرين، وخاصة نظريتي النسبية وميكانيكا الكم مهتديًا بالعلم والخيال النشط الخلاق، وفي هذا الملخص نستعرض معكم أهم ما تناوله ستيفن هوكينج في فصول الكتاب آملين أن ننطلق معه في رحلته المثيرة في الكون والزمان.

الفصل الأول: صورتنا عن الكون

العالم نيكولاس كوبرنيكوس

تطورت نظرية البشر عن الكون وماهيته على مدار سنوات طويلة بدأت منذ عصر ما قبل الميلاد، حينما طرح أرسطو في كتابه “عن السماوات” حجتين قويتين عن كروية الأرض، وكانت حججه قائمة على ملاحظته لشكل ظل الأرض على القمر عند الخسوف، وكذلك تغير موقع النجم الشمالي بالنسبة للراصد بناء على تغير زمن الرصد، وقبل هذا كان الاعتقاد السائد هو ثبوت ومركزية الأرض لما حولها من كواكب وأجرام سماوية.

أثارت نظرية أرسطو جدلًا كبيراً حتى ظهرت نظرية العالم الشهير نيكولاس كوبرينكس لتدحض نظرية مركزية الأرض، حيث قدم كوبرينكس نموذج يوضح ثبات الشمس في المركز ودوران الأرض وباقي الكواكب حولها في مدارات محددة.

لم تؤخذ نظرية كوبرينكس على محمل الجد بل هوجم بشدة بسببها، حتى بدأ جاليليو برصد السماء ليلًا وملاحظة دوران توابع صغيرة حول المشترى وهو ما يتنافى مع فكرة مركزية الأرض ويدعم نظرية نيكولاس كوبرينكس.

وفي عام 1687 نشر إسحاق نيوتن مؤلفه الشهير “المبادئ الرياضية للفلسفة الطبيعية” يطرح فيه نظرياته حول كيفية تحرك الأجسام في الزمان والمكان، ولم يكتف بذلك بل وضع أيضا الرياضيات المعقدة اللازمة لتحليل هذه التحركات، كما أنه وضع قانونًا للجاذبية الكونية، واستطاع التخلص من نموذجي بطليموس وكوبرنيكس وكذلك من فكرة أن للكون حد طبيعي وأنه لا متناه.

وبالرغم من كل تلك الدراسات والنظريات، كان الهدف النهائي للعلم هو محاولة إيجاد نظرية وحيدة تصف الكون كله، وحاول الكثير من العلماء بالفعل الوصول لمثل تلك النظرية ولكن الأمر كان معقدًا جدًا، وبدلًا من ذلك قسموا المشكلة إلى عدة أجزاء وابتكروا عددًا من النظريات الجزيئة تصف كل منها ظاهرة معينة في الكون، وفي يومنا هذا يصف العلماء الكون بنظريتين أساسيتين هما النسبية العامة وميكانيكا الكم، وهذا ما سيتطرق إليه الكاتب بالتفصيل في الفصول القادمة.

الفصل الثاني: الزمان والمكان

لم يكن جاليلو ينظر فقط إلى السماء ولكنه كان عالم رياضيات كذلك، يهتم بحركة الأجسام ذات الأوزان المختلفة، فقد استطاع أن يبرهن على زيف نظرية أرسطو التي توضح أن الحالة الطبيعية لأي جسم هي أن يكون ساكنا، وأنه لا يتحرك إلا إذا دفعته قوة أو دافع، وبناء على ذلك فإن الأجسام الثقيلة تسقط أسرع من الخفيفة، لكن ملاحظات جاليليو أثبتت أن عند إسقاط جسمين مختلفين في الوزن دون وجود مقاومة الهواء فإنهما يسقطان بالمعدل نفسه، وقد استخدم نيوتن قياسات جاليليو تلك أساسًا لقوانينه عن الحركة، ولكنه اختلف مع جاليليو في بعض أجزائها.

حيرت فكرة انتشار الضوء العلماء لسنوات طويلة، ولم تظهر نظرية ملائمة لتفسر الظاهرة حتى عام 1865 عندما استطاع العالم البريطاني جيمس ماكسويل توحيد النظريات الجزئية التي تصف قوى الكهرباء والمغناطيسية، وتنبأت نظريته أن موجات الراديو وأشعة الضوء ينبغي أن تنتقل بسرعة ثابتة، ولكن بنا أن نظرية نبتون كانت قد تخلصت من فكرة السكون المطلق للأشياء فكان لابد أن يذكر ما هو الشئ الذي تقاس هذه السرعة الثابتة بالنسبة له، وهكذا افترض العلماء وجود مادة تسمى “الأثير” توجد في كل مكان حتى في الفضاء الهاوي تنتقل من خلالها الموجات.

ولكن في عام 1905 نشرت ورقة بحثية لألبرت أينشتاين، بينت أن فكرة  وجود مادة الأثير لتوضيح ثبات سرعة الضوء غير ضرورية، بشرط أن يكون المرء على استعداد لنبذ فكرة الزمان المطلق، وحينها ظهرت نظرية النسبية كما أطلق عليها لاحقا والتي طورت بشكل ملحوظ أفكارنا عن المكان والزمان، وذكر الكاتب بإسهاب تفاصيل عن الدراسات التي أجراها أينشتاين بعد دحضه لفكرة وجود مادة الأثير، كما ذكر نشأة النظرية النسبية الخاصة والنظرية النسبية العامة، وطرح أينشتاين الثوري الذي يوضح اختلاف الجاذبية عن سائر القوى.

الفصل الثالث: الكون الممتد

ألهمت النجوم التي نراها في السماء الكثيرين للتساؤل عن ماهيتها، وكانت النجوم القريبة المرئية بالنسبة لنا تظهر وكأنها منتشرة عبر سماء الليل، ولكنها في الأصل تتركز في حزمة واحدة نسميها درب التبانة، وفي عام 1750 اقترح بعض العلماء تفسيرا لمظهر درب التبانة الذي يشبه اللولب، وذلك لأن معظم النجوم المرئية تقع في ترتيب وشكل واحد يشبه القرص.

أما صورتنا الحديثة عن الكون يرجع تاريخها إلى عام 1924 حينما اكتشف العالم إدوين هابل أن مجرتنا ليست الوحيدة في الكون، وإنما هناك الكثير من المجرات يقطع بينها قطع فسيحة من الفضاء الخاوي، وكان تحديد المسافة بيننا وبين تلك المجرات تحديًا لهابل فقد كانت بعيدة جدا وتبدو وكأنها ثابتة، فاضطر هابل لاستخدام وسائل غير مباشرة لقياس المسافة بيننا وبين تلك المجرات البعيدة، حيث إن اللمعان الظاهري لأي نجم يعتمد على عاملين، الأول هو قدر الضوء الذي يشع منه ويسمى بالضياء (الكمية الإجمالية للطاقة المنبعثة من نجم أو مجرة لكل وحدة زمنية)، والعامل الثاني هو بعد هذا النجم عنا، وبناء على ذلك فإذا أمكننا معرفة ضياء النجوم في المجرات البعيدة يمكننا حساب المسافة التي تبعدها عنا.

وفي السنوات التي تلت إثباتات هابل لوجود مجرات أخرى، استطاع رصد أطياف تلك المجرات وكان من المفاجئ أنه وجد أن كل المجرات تتحرك مبتعدة عنا، أي أن الكون في حالة تمدد مستمر، وكان هذا الاكتشاف إحدى الثورات الفكرية في القرن العشرين، وبالتالي تضعف فرضية أن الكون استاتيكي ثابت أمام اكتشافات إدوين هابل، ثم جاء الفزيائي الشهير أليكسندر فريدمان ليؤكد نظرية تمدد الكون وافترض أن الكون يبدو متماثلا في أي اتجاه ننظر إليه منه وأن هذا يظهر أيضا إذا راقبنا الكون من مكان آخر، ولذلك يتوقع ألا يكون الكون ثابتا، واستمرت بعد ذلك الأبحاث والدراسات من قبل الكثير من العلماء وكانت كلها تدعم فكرة تمدد الكون الدائم، وتثبت أيضا أن المسافة بين تلك المجرات كانت في يوم ما تساوي صفرا، وعندها كانت كثافة الكون وانحناء الزمكان لا متناهيان.

الفصل الرابع: مبدأ الريبة

كان مذهب الحتمية العلمية الذي حاجج به العالم الفرنسي الماركيز دي لابلاس هو الفرض العلمي القياسي حتى السنوات الأولى من القرن العشرين، حيث اقترح دي لابلاس أن الكون محتم بالكامل وينبغي وجود مجموعة من القوانين التي تسمح بالتنبؤ بأي شيء يحدث في الكون، ولكن سرعان ما تلاشى هذا الفرض أمام الحسابات التي قام بها العالمان لورد رايلي وسير جيمس جينيس، والتي نفت حتمية الكون وأثبتت أن أي جسم ساخن مثل النجوم يجب أن يشع طاقة، وفي عام 1900 اقترح العالم الألماني ماكس بلانك أن الضوء وأشعة إكس وباقي الموجات تبث من الأجسام الساخنة بطريقة ممنهجة وبقدر معين، وتكون في شكل حزمات من الطاقة أطلق عليها اسم “الكمات”، وكل كمة لها قدر معين من الطاقة يرتفع بارتفاع تردد الموجات، وهكذا كلما زاد التردد فإن بث كمة واحدة سيتطلب قدر كبير من الطاقة، لذلك فإن الإشعاع يقل عند الترددات العالية.

وفي عام 1926 قام العالم فرنر هايزنبرج بصياغة مبدأ الريبة، والذي يتوقع أنه إذا حاول المرء التنبؤ بموضع جسيم وسرعته في المستقبل فإنه يجب أن يتمكن من قياس سرعته وموضعه الحاليين، ويمكن فعل ذلك عن طريق تسليط ضوء على الجسم وعندها سوف تتشتت بعض موجات الضوء بواسطة الجسيم وسيدل ذلك على موضعه، ولكن حسب فرضية بلانك فلا يستطيع المرء استخدام قدرا اعتباطيا من الضوء، ولكن يجب أن يستخدم على الأقل كمة واحدة فقط لتجعل الجسيم يضطرب.

وبناء على تلك النظريات قام هايزنبرج وإروين شرودر وبو ديلاك بإعادة صياغة الميكانيكا في نظرية جديدة سميت بمكانيكا الكم، والتي أساسها هو مبدأ الريبة، حيث أن الجسيمات في هذه النظرية لم يعد لديها مواضع وسرعات منفصله واضحة، ولكنها بدلا من ذلك لديها حالة “كم”  وهي كود مكون من الموضع والسرعة، كما أنها لا تتنبأ بنتيجة واحدة محددة لمشاهدة ما ولكنها تتنبأ بعدد من النتائج الممكنة، كما تناول الفصل شرح مبسط لأهم مبادئ النظرية والمفارقات بينها وبين النظرية النسبية العامة لأينشتاين.

الفصل الخامس: الجسيمات الأولية وقوى الطبيعة

استمر الجدل بين العلماء على ماهية المادة، فكان أرسطو يعتقد أن أي مادة في الكون تتكون من أربعة عناصر أولية، التربة والهواء والماء والنار، وأن المادة يمكن تقسيمها إلى ما لا نهاية، أما ديميقريطس فقد توقع أن المادة مكونة من أجزاء أصغر منها أطلق عليها الذرات وافترض أنها لا يمكن تقسيمها لأجزاء أصغر منها، واستمر الجدل بين النظريتين لقرون دون الوصول لأي برهان حقيقي، حتى عام 1803 عندما استطاع جون دالتون التوصل لحقيقة أن المركبات الكيميائية ناتجة من اتحاد أجزاء صغيرة والتي افترض أنها ذرات ديميقريطس بنسب محددة، وفي عام 1905 قدم أينشتاين ورقة بحثية يوضح فيها أن الحركة البراونية (كالحركة العشوائية غير المنتظمة لجسيمات الغبار الصغيرة في أحد السوائل) يمكن تفسير حدوثها كنتيجة لاصطدام السائل بذرات الغبار.

وبرغم زعم ديميقريطس أن الذرات لا يمكن تقسيمها كان هناك بالفعل شكوك على أن الذرات يمكن أن تنقسم لأجزاء أصغر منها، وبالفعل استطاع العالم ج. تومسون اكتشاف جسيم من المادة له شحنة سالبة وأسماه إلكترون، وهذا الإلكترون له أقل من واحد من الألف من كتلة أخف الذرات، وفي عام 1911 استطاع العالم رذرفورد اكتشاف البنية الداخلية للذرات، وكان الاعتقاد في بادئ الأمر أن الذرات تتكون فقط من إلكترونات سالبة وبروتونات موجبة، ولكن تقدم جيمس شادويك  عام 1932 باكتشاف النيترونات متعادلة الشحنة، وكان السائد أن البروتونات والنيترونات هي الجسيمات الأولية للمواد إلا أن التجارب أثبتت وجود جسيمات أصغر سميت بالكواركات.

بعد ذلك بسنوات وبعد الاكتشاف السابق للخاصية الازدواجية للضوء (الموجة/الجسيم) استطاع العلماء توصيف كل شيء في الكون بما في ذلك الضوء والجاذبية، وذلك باعتبارات معينة لبعض الجسيمات اعتمادا على خاصية اللف المغزلي، أي أن تلك الجسيمات وكأنها تدور حول أحد المحاور، وعلى أساس ذلك تم تقسيم كل الجسيمات المعروفة إلى مجموعتين، جسيمات لها لف مغزلي يساوي ½ وجسيمات لفها المغزلي يساوي صفر أو 1 أو 2، وبالتالي تنشأ عنها قوى مختلفة وتخضع تلك الجسيمات لمبدأ الاستبعاد لبولي.

وبناء على ذلك بالإضافة لما طرحه العالم بول ديراك عام 1928، استطعنا فهم الإلكترونات والجسيمات الأخرى بصورة صحيحة، وتم التوصل إلى أن هناك بعض الجسيمات تحمل قوى معينة، وتم تقسيم تلك القوى إلى أربعة أنواع وذلك حسب شدتها والجسيمات التي تتفاعل معها.

النوع الأول هو قوة الجاذبية وتعتبر قوة شاملة أي أن كل الجسيمات الموجودة في الطبيعة تتأثر بها وذلك حسب كتلتها، وتعتبر قوة الجاذبية أضعف القوى الأربعة، وتتميز أنها تعمل على مسافات كبيرة، أما النوع الثاني فهو القوة الكهرومغناطيسية وهي تتفاعل مع الجسيمات المشحونة فقط مثل الإلكترونات والكواركات، وتعتبر أقوى من قوة الجاذبية بكثير.

النوع الثالث يسمى بالقوة النووية الضعيفة، وهي المسؤولة عن النشاط الإشعاعي وتعمل على كل الجسيمات ذات اللف المغزلي ½  مثل الفوتونات والجرافيتونات، والنوع الرابع والأخير هو القوة النووية القوية وهي المسؤولة عن ارتباط الكواركات معا في البروتونات والنيترونات.

وكالعادة حاول العلماء إيجاد نظرية موحدة تجمع بين القوى وأطلقوا عليها اسم النظرية الموحدة العظمى، والتي تجمع بين الثلاث قوى، النووية القوية والضعيفة والقوة الكهرومغناطيسية، حيث ترتكز على أن القوة النووية القوية تضعف في الطاقات المرتقعة، أما القوة الكهرومغناطيسية والقوة النووية الضعيفة فتصبح أقوى في الطاقات المرتفعة، وعند شدة طاقة معينة أطلقوا عليه طاقة التوحيد العظمى تتساوى الثلاث قوى، هكذا افترض العلماء أن الثلاث قوى أوجه مختلفة لقوة واحدة.

الفصل السادس: الثقوب السوداء

يعتبر مصطلح الثقوب السوداء حديثا جدا وقد صاغه العالم جون هويلر عام 1969، أما فكرة الثقوب السوداء فيرجع عمرها إلى مائتي عام على الأقل حينما وجدت نظرية ازدواجية الضوء، حيث يمكن النظر إليه على أنه موجة وجسيم معا، وبما أن الضوء يتكون من جسيمات فمن الطبيعي أن يتأثر بقوة الجاذبية، وأنه ينتقل بسرعة متناهية، وبناء على هذا الفرض كتب العالم جون ميشيل ورقته البحثية التي وضح فيها أن أي نجم له مقدار معين من الضخامة يكون له قوة جذب تحول دون انبعاث أي ضوء منه، بل إنها تعمل على جذب ذلك الضوء إلى داخل النجم، وبالرغم من أننا لا نرى تلك النجوم بسبب عتمتها إلا أننا نشعر بجاذبيتها، وهذه النجوم هي ما يطلق عليها الآن اسم الثقوب السوداء.

ولكي نتمكن  من فهم كيف تتكون الثقوب السوداء يجب أن نطلع على دورة حياة النجوم، حيث تتكون النجوم من كمية كبيرة من الغاز عادة ما يكون الهيدروجين، وبسبب قوة شد جاذبية تلك النجوم فهي تتقلص على نفسها للداخل، ولكن عند انكماشها فإن ذرات الغاز تتصادم ببعضها البعض مما يسبب ارتفاع درجة الحرارة، وبالتالي تتلاحم ذرات الهيدروجين وتعطي غاز الهيليوم، وتلك الحرارة المنبعثة هي ما تجعل النجم يلمع، بالإضافة إلى ذلك فإنها تسبب ارتفاع ضغط الغاز حتى يصبح الضغط كافيا للتوازن مع شد الجاذبية، وبالتالي يتوقف الغاز عن الانكماش وتظل النجوم مستقرة على حالتها زمنا طويلا.

ولكن في عام 1928 استطاع العالم سبرامنيان تشاندراسيخار التوصل لبعض الحسابات المهمة والتي تعطي تفسيرا أكبر لحياة النجوم، فكما ذكرنا سابقا أن النجوم تظل على حالها بفعل التوازن بين قوة شد جاذبيتها وقوى التنافر بين ذرات الغاز حسب مبدأ الاسبعاد لبولي، ولكن تشاندراسيخار تبين أن هناك حدا لذلك التنافر، بمعنى أنه عند وصول كثافة النجم إلى حد معين فإن التنافر سيكون أقل من شد الجاذبية، حيث أن نجما باردا تزيد كتلته عما يقرب من كتلة الشمس مرة ونصف لن يتمكن من الإبقاء على نفسه ضد قوة شد جاذبيته، ويعرف هذا المقدار من الكتلة بحد تشاندراسيخار، ثم طرح الكاتب في الفصل بعض الدراسات التي أجريت للبحث عن الثقوب السوداء ومحاولة فهمها بصورة أوضح وتفسير ما يحدث للضوء المنبعث منها أو المار بجانبها.

الفصل السابع: الثقوب السوداء ليست جد سوداء

ربما كان هذا الجزء من الصعب فهمه إلى حد ما حيث أنه نظري بحت دون مشاهدات أو دلائل مثبتة تفسر هذه النظريات، وما زالت الأبحاث والدراسات مستمرة حتى الآن عن الثقوب السوداء التي شغلت الكثير من العلماء وعلى رأسهم ستيفين هوكينغ، الذي حاول التوصل إلى تعريف منطقي يصف تلك الثقوب السوداء وبعد مناقشة أفكاره من صديقه  روجر بنروز وصلوا لتعريفها على أنها مجموعة من الأحداث التي لا يمكن الفرار منها، أي أن حد الثقب الأسود (أفق الحدث) يتكون من مسارات  أشعة الضوء في الزمكان (الزمان-المكان) التي أخفقت في الهروب بعيدأ عن الثقب الأسود، كما اكتشف أن مسارات تلك الأشعة لا يمكن أن يقترب أحدها من الآخر، ولذلك فإن مساحة أفق الحدث قد تبقى كما هي أو تزيد بمرور الزمن، ولكن لا يمكنها أن تقل.

كما تنبأ الكاتب بوجود ما يسمى بالثقوب السوداء البدائية، وهي ذات كتل صغيرة نسبيا وقد تكونت بفعل تقلص بعض مناطق الكون الغير منتظمة، ويفترض أن درجة حرارتها مرتفعة جدا وتبعث إشعاع بمعدل كبير في شكل أشعة إكس وجاما وهي أشعة ذات طول موجي قصير، وبالتالي يمكننا البحث عن الإشعاع الناتج عنها على الرغم من كونه ضعيف لأنها بعيدة جدا، إلا أن مجموع ما يصدر عنها جميعا قد يمكن الكشف عنه.

وتعتبر فرضية الإشعاع الناتج من الثقوب السوداء البدائية هي أول مثال لتنبؤ يعتمد بطريقة جوهرية على كلتا النظريتين، النسبية العامة وميكانيكا الكم، وذلك على الرغم من المعارضة التي لاقتها النظرية وقت نشرها، لأنها زعزعت فكرة راسخة لدى العلماء، فكيف يمكن لثقب أسود أن يشع أي شيء؟

الفصل الثامن؛ أصل ومصير الكون

“هل للكون حقيقة بداية ونهاية؟ وإذا كان الأمر كذلك، فكيف  تبدوان

كان لابد للكاتب قبل أن يفسر كيفية تأثير ميكانيكا الكم في أصل ومصير الكون أن يشرح تاريخ الكون المقبول بصفة عامة، والذي اعتمد على ما يعرف بنموذج الانفجار الكبير الساخن، يفترض هذا النموذج أنه إذا تمدد الكون فإن أي مادة فيه أو إشعاع يصبح أبرد، فعندما يتضاعف حجم الكون تنخفض حرارته إلى النصف، وهذا يكون له تأثير جوهري على ما فيه من مواد حيث إن نوع الجسيمات التي توجد في الكون يعتمد على درجة حرارته.

كما يفترض أن وقت الانفجار الكبير كان حجم الكون صفرا، أي أنه كان ساخنا على نحو لا متناه، وبعد الانفجار بثانية واحدة هبطت درجة الحرارة إلى عشرة آلاف مليون درجة، وكانت مادة الكون في ذلك الوقت تحتوي على فوتونات وإلكترونات وجسيمات صغيرة تدعى نيوترينو وهي جسيمات خفيفة جدا لا تتأثر إلا بالقوة الضعيفة والجاذبية، بالإضافة إلى مضادات الجسيمات وبعض البروتونات والنيترونات.

وباستمرار تمدد الكون وانخفاض درجة الحرارة تنخفض سرعة تكون الإلكترونات ومضاداتها، وبالتالي فإن معظم الإلكترونات ومضادات الإلكترونات  يفني أحدها الآخر ولا يتبقى إلا عدد قليل، أما جسيمات النيوترينو لا تفنى لأنها لا تتفاعل مع نفسها أو مع الجسيمات الأخرى إلا على نحو ضعيف، وهكذا يفترض العلماء أن تلك الجسيمات مازالت موجودة حتى الآن، وإذا تم رصدها فستخبرنا عن حالة الكون في المراحل المبكرة جدا من تكوينه.

وبعد الانفجار بمائة ثانية تصبح البروتونات والنيترونات غير قادرة على الهرب من جاذبية القوى النووية القوية، وتبدأ بالاتحاد معا وتكوين ذرات الديترويم (هيدروجين ثقيل)، ثم تتحد بعدها بالمزيد من البروتونات والنيترونات لتكون غاز الهيليوم وكميات صغيرة من الليثيوم والبرليوم.

وفي الورقة البحثية التي نشرها العالم جورج جاموف عام 1948 والتي تعرض صورة واضحة عن طور مبكر ساخن للكون، فقد تنبأ أن الإشعاع الناتج من أطوار الكون المبكرة الساخنة جدا لابد أن يكون موجودا حتى يومنا هذا، إلا أن حرارته تكون قد هبطت إلى درجات معدودة فقط فوق الصفر المطلق، وقد تم رصد هذا الإشعاع لاحقا بواسطة بنزياس وويلسون عام 1965.

أما بعد ساعات معدودة من الانفجار الكبير يستمر لكون في تمدده، وتتغير كثافته، ثم بعد ذلك تتكون المجرات والكواكب وباقي مكونات الكون التي نعرفها حتى الآن، ولم يكن شكل كوكب الأرض في الأطوار المبكرة من الكون كما نعرفه الآن، فقد كان ساخنا جدا وبلا أي غلاف جوي، وبمرور الوقت انخفضت درجة حرارته واكتسب غلافا جويا بفعل انبعاث الغازات من الصخور.

ولم تكن النظرية النسبية العامة بذاتها قادرة على تفسير هذه المراحل من الكون، وذلك لأنها تتنبأ بأن الكون بدأ بكثافة لا متناهية عند الانفجار الكبير، وبالتالي فإن النسبية العامة وكل القوانين الفيزيائية الأخرى تنهار عند متفردة الانفجار الكبير، ثم عرض الكاتب بعض الدراسات الشهيرة التي حاولت التنبؤ بالأشكال البدائية للكون، ولكن حتى نتنبأ بما ينبغي أن يكون الكون قد بدأ به، فإن المرء يحتاج إلى قوانين تصلح لبداية الزمان وبما أن كل قوانين العلم المعروفة تنهار عند متفردة البداية، فيمكن أن نفترض أن هناك قوانين جديدة تصلح للمتفردات.

الفصل التاسع: سهم الزمان

تغيرت آراؤنا عن طبيعة الزمان عبر السنين، وكذلك تغير اعتقادنا بأن الزمان مطلق، فبعد صياغة النظرية النسبية كان على العلماء نبذ فكرة أن الزمان مطلق والاقتناع بأنه نسبي، فلو افترضنا وجود ملاحظين في أماكن مختلفة فإن كل ملاحظ سيكون له الزمان الخاص به، أي أن الزمان أصبح مفهوم شخصي منسوب للملاحظ الذي يقيسه.

حاول الكاتب تفسير الزمان من خلال ثلاثة محاور أطلق على كل واحد منها اسم سهم الزمان، وبالتالي فإن هناك على الأقل ثلاثة أسهم مختلفة للزمان، أولا هناك سهم ديناميكي حراري ويعبر عن اتجاه الزمان الذي تزداد عنده الإنتروبيا (الاضطراب)، والثاني السهم النفسي للزمان والذي يعبر عن إحساسنا بمرور الزمن وتذكرنا الدائم للماضي وليس المستقبل، أما الثالث فهو السهم الكوني للزمان وذلك هو اتجاه الزمان الذي يتمدد فيه الكون بدلا من أن ينكمش.

ويخضع السهم الديناميكي الحراري للزمان للقانون الثاني للديناميكا الحرارية، أي أنه يوضح اتجاه الكون الدائم للإنتروبيا، بمعنى أن حالات الكون المضطربة أكثر من الحالات المنتظمة، وقد بينت الدراسات أن السهم النفسي للزمان في جوهره مماثل للسهم الديناميكي الحراري، أي أن السهمين يشيران إلى نفس الاتجاه، كما أن السهم الكوني كذلك يتفق مع السهم الديناميكي الحراري، فاتجاه الكون الدائم لحالة من الاضطراب يتمثل أيضا في تمدده الدائم، وهذا تفسير منطقي لأن الطور المنكمش من الكون غير ملائم لنمو كائنات ذكية لأنه ليس له سهم زمان ديناميكي حراري قوي.

الفصل العاشر: الثقوب الدودية والسفر عبر الزمن

ربما بدت فكرة السفر عبر الزمن خيالية، ولكن من المثير أن الكثير من العلماء قد ناقشوها وقدموا فيها أطروحات مميزة، ومن أشهر النظريات التي ناقشت السفر عبر الزمن  تلك التي طرحها العالم كيرت جودل الذي أمضى سنوات من العمل مع أينشتاين، ففي عام 1919 اكتشف جودل شكل جديد من الزمكان (المكان-الزمان) نتيجة لنظرية النسبية العامة، كما أنه صاغ مبرهنته لعدم الاكتمال التي تشبه نوعا ما مبدأ الريبة، وكان الزمكان الخاص به له خاصية عجيبة حيث يفترض أن الكون كله يدور، مما يرجح أنه إذا انطلق أحدهم بسفينة صاروخية ذات سرعة عالية فإنه يعود للأرض قبل أن ينطلق، وأزعج هذا الاكتشاف أينشتاين لأن النسبية العامة لا تسمح بالسفر عبر الزمن أصلا.

كما أن النسبية العامة تفترض أنه لا يمكن لأي جسم أن تصل سرعته إلى سرعة الضوء، وقد أثبت ذلك بالتجارب المعملية باستخدام معجلات الجسيمات، حيث اكتشفوا أن تلك الجسيمات عند تعجيلها تصل سرعتها إلى 99.99 من سرعة الضوء، ولكن مهما ازداد مقدار تعجيلها فلا تزيد سرعتها عن هذا الحد، ويبدو من هذه التجارب أنه من غير الوارد السفر السريع في الفضاء وكذلك السفر  عبر الزمن إلى الماضي.

وبالرغم من كل تلك التجارب المحبطة لفكرة السفر عبر الزمن، كان هناك أمل حينما ظهر افتراض وجود الثقوب الدودية التي تعتبر بمثابة جسور تصل بين منطقتين مسطحتين تقريبا من نسيج الزمكان وبينهما مسافة كبيرة، وهذا ما طرحه أينشتاين وروزن في ورقتهما البحثية عام 1935، ولكن كان هناك قصور في تلك النظرية حيث أن تلك الثقوب الدودية لا تبقى زمنًا كافيًا لأن تمر خلالها سفينة فضاء.

 وكان هناك بعض الأمل في قوانين ميكانيكا الكم التي استغلها الكثير من العلماء لمحاولة تفسير معضلة السفر عبر الزمن، وهناك الكثير من الأدلة التجريبية على إمكانية حدوث ذلك ومن أشهرها ما يسمى بتأثير كاسيمير، والذي افترض أن الزمكان يمكن أن ينحني بالطريقة التي تسمح بالسفر عبر الزمن، وهكذا فإننا نأمل مع تقدم العلم والتكنولوجيا أن نتمكن من السفر عبر الزمن يوما ما.

الفصل الحادي عشر: توحيد الفيزياء

كما ذكر في الفصول السابقة، كان من الصعب بناء نظرية موحدة لكل شيء في الكون، وقد انفق أينشتاين معظم سنواته الأخيرة في محاولة إيجادها ولكنه لم يستطع لأسباب كثيرة منها عدم إيمانه بحقيقة ميكانيكا الكم، ولكن بعد محاولات كثيرة استطاع العلماء توحيد القوى النووية القوية والضعيفة والقوة الكهرومغناطيسية في نظريات موحدة كبرى، ولم تكن تلك النظريات مرضية بشكل كبير حيث أنها لا تتضمن قوة الجاذبية.

وكانت الصعوبة الرئيسية في إيجاد نظرية توحد الجاذبية مع القوى الأخرى هي أن النسبية العامة نظرية كلاسيكية لا تتضمن مبدأ الريبة لميكانيكا الكم، وعند محاولة دمج النسبية العامة بمبدأ الريبة سيكون لدينا فقط كميتان يمكن تعديلها وهما شد الجاذبية وقيمة الثابت الكوني.

وفي ظل الكثير من النظريات التي طرحت في محاولات إيجاد النظرية الموحدة، ظهرت عام 1984 نظريات عرفت بنظريات الوتر، والتي افترضت أن الجسيمات لا تشغل نقطة واحدة في الزمكان وإنما هي أشياء لها بعد واحد فقط مثل وتر رفيع جدا يمكن إهمال سمكه، وقد تكون تلك الأوتار ذات طرفين فتسمى الأوتار المفتوحة أو متصلة بذاتها على شكل حلقة فتسمى الأوتار المغلقة، وأي نقطة تقع على هذه الأوتار يمكن وصفها برقمين أحدهما يعين الزمان والآخر يعين المكان، والأهم في هذه النظرية أن حساباتها تشمل جميع القوى وتوحدها في نظرية واحدة تسمى النظرية الفائقة.

ولكن نظريات الوتر لم تخل من القصور ووجود أجزاء كثيرة منها مبهمة وغير واضحة حتى الآن، وهكذا ما زال العلماء في عملية بحث دائم عن تلك النظرية الشاملة، والتي ما هي إلا الخطوة الأولى لفهمنا الكامل للأحداث من حولنا وكذلك فهم وجودنا نفسه.

إشعاع هوكينج | تأثير الكم في الثقوب السوداء

هذه المقالة هي الجزء 9 من 10 في سلسلة رحلة إلى أعتم أجسام الكون، "الثقوب السوداء"

إشعاع هوكينج | تأثير الكم في الثقوب السوداء

في عام 1975 نشر العالم ستيفن هوكينج دراسة صادمة: الثقوب السوداء ليست سوداء حقاً بل تصدر إشعاعاً حرارياً! فما علاقة الكمّ والنسبية وكيف جمعت هذه الدراسة بينهما؟ كيف يحدث الإشعاع؟ وما أهم المشكلات المتعلّقة به؟

النسبية وأفق الحدث

بشكل عام تبدو علاقة النسبية واضحة هنا، فالإشعاع صادر عن الثقوب السوداء التي تُعتَبر إحدى أهم تطبيقات النظرية النسبية، أما بشكل خاص فغالبية الأمر متعلق بأفق الحدث، الذي يعرف بأنه منطقة حول الثقب الأسود تشكل الحد الذي لا يمكن لأي شيء أن يفلت منه؛ حيث تتجاوز سرعة الإفلات سرعة الضوء التي لا يمكن تجاوزها بحسب النسبية الخاصة [3].

ولكن ما علاقة نظرية الكم؟

في الحقيقة إن ادعاء هوكينج يستند بشكل أساسي إلى ميكانيك الكم؛ حيث أثبتت نظرية الكم أن الفضاء الفارغ ليس فارغ حقاً في المستويات دون الذرية، فحتى أكثر المناطق فراغاً في الكون تتذبذب فيها حقول الطاقة مؤديةً لتشكل أزواج من الجسيمات الافتراضية بشكل مستمر، يتكون كل زوج منهما من جسيمين متكافئين في الكتلة ومتعاكسين في الطاقة يشكلان ما يعرف بزوج جسيم-مضاد جسيم؛ ونتيجة لطاقتهما المتعاكسة يُفنيان بعضهما فوراً في حادثة تعرف باسم «الفناء-annihilation»، حتى أن سبب تسميتهم بالجسيمات الافتراضية يعود لنفس السبب؛ فهذه الجسيمات تفنى قبل أن تصبح حقيقية [2].

كيفية حدوث إشعاع هوكينج

تتشكل الجسيمات الافتراضية السابقة قرب الثقوب السوداء كأي منطقة أخرى في الكون إلا أن الجاذبية الفائقة للثقب الأسود تحدث الفرق. فقد لاحظ هوكينج أنه عند تشكل زوج جسيم-مضاد جسيم قرب منطقة أفق الحدث تقوم قوى الجذب بفصل الجسيمين قبل أن يفنيان بعضهما. يسقط مضاد الجسيم (سالب الطاقة) في الثقب الأسود تاركاً قرينه الجسيم (موجب الطاقة) يغادر الثقب الأسود بشكل إشعاع هوكينج الذي يتكون من الفوتونات وجسيمات «النيوترينو- neutrino» وغيرها من الجسيمات الثقيلة. وتنص قوانين الكم على أن الجسيم الساقط في الثقب الأسود هو دوماً سالب الطاقة. وبالتالي سيقوم بإنقاص كتلة الثقب الأسود الذي سقط فيه فيبدو وكأنه ينكمش بمرور الزمن. [1] [2]

كيف يمكن لجسيم سالب الطاقة أن يكون حقيقاً ليؤثر في كتلة الثقب الأسود؟


رغم أن الجسيمات السالبة الطاقة لا يمكن لها التواجد بشكل حقيقي خارج منطقة أفق الحدث. إلا أنها تصبح حقيقية عندما تسقط في الثقب الأسود، بدايةً ليكون الجسيم حقيقياً يجب أن يملك طاقة موجبة بالنسبة إلى إحداثيات الزمن. أي أن يتحرك إلى الأمام من الحاضر إلى المستقبل لا العكس. وفي الثقب الأسود تجبر جاذبيته الجسيمات على ذلك بغض النظر عن طاقتها. [3]

لماذا الجسيم السالب هو من يسقط وليس الموجب؟

لا يمكن للجسيم الموجب أن يتجاوز أفق الحدث بينما يبقى الجسيم السالب خارجاً، لأن الجسيم السالب الطاقة لا يمكنه التواجد كجسيم حقيقي خارج منطقة أفق الحدث [3].

مفارقة معلومات الثقب الأسود:

وبالعودة إلى ميكانيكا الكم نجد أكبر المشكلات التي تحيط بفكرة إشعاع هوكينج وهي«مفارقة معلومات الثقب الأسود-black hole information paradox». فبحسب قوانين الكم لا يمكن أن تضيع المعلومات. ولا بد من وجود طريقة لاستعادة المعلومات، كمعرفة ما يدخله عبر قياس الحالة الكمية للإشعاع الصادر عنه. إلا أن الأمر ليس بهذه البساطة؛ فقد أوضح هوكينج أن الإشعاع الصادر شديد العشوائية بحيث لا يمكننا استخلاص أي معلومات مفيدة منه حتى ولو راقبنا الثقب الأسود يتبخر كاملاً! وقد قسمت هذه المفارقة العلماء إلى مجموعتين. منهم يدعي أن المعلومات ستختفي بموت الثقب الأسود والذي يتعارض مع قوانين ميكانيكا الكم. وحينها على العلماء إيجاد قوانين جديدة أفضل! والمجموعة الأخرى تتمسك بقوانين الكم التقليدية. وما زلنا بانتظار الدراسات أو الاكتشافات الجديدة التي ستثبت خطأ أحدهما وتحدث ثورة في هذا المجال. [1]

المصادر:

[1] nature
[2] nature
[3] springer

جائزة نوبل في الفيزياء 2020 تُثبت نظرية النسبية العامة

جائزة نوبل في الفيزياء 2020 تُثبت نظرية النسبية العامة، أخذ مفهوم “الثقب الأسود” معانٍ جديدةً في العديد من أشكال التعبير الثقافي ولكن بالنسبة لعلماء الفيزياء، فإن الثقوب السوداء هي نقطة النهاية الطبيعية لتطور النجوم العملاقة. أُجري  أول حساب للانهيار الدراماتيكي لنجم هائل في نهاية الثلاثينيات من قبل الفيزيائي “روبرت أوبنهايمر” الذي قاد فيما بعد مشروع مانهاتن الذي بنى أول قنبلة ذرية. عندما ينفد الوقود من النجوم العملاقة التي تبلغ كتلتها أكبر من الشمس عدة مرات، فإنها تنفجر أولاً على شكل مستعرات أعظمية ثم تنهار إلى بقايا شديدة الكثافة ثقيلة للغاية لدرجة أن الجاذبية تسحب كل شيء  إلى داخلها حتى الضوء. أُخذت فكرة “النجوم المظلمة”  بالاعتبار منذ زمن بعيد حتى نهاية القرن الثامن عشر كما هو موضح في أعمال الفيلسوف وعالم الرياضيات البريطاني “جون ميشيل” والعالم الفرنسي الشهير “لابلاس”. كلاهما استنتج أن الأجرام السماوية يمكن أن تصبح كثيفة لدرجة أنها ستكون غير مرئية – وحتى سرعة الضوء الهائلة لن تُسعفها من الهروب من جاذبيتها. بعد أكثر من قرن بقليل-عندما نشر ألبرت أينشتاين نظريته العامة عن النسبية-، وصفت بعض الحلول لمعادلات النظرية الصعبة مثل هذه النجوم المظلمة. حتى مطلع ستينيات القرن الماضي، كانت هذه الحلول تعتبر تكهنات نظرية بحتة تصف المواقف المثالية التي تكون فيها النجوم وثقوبها السوداء مستديرة ومتماثلة تمامًا. ولكن لا يوجد شيء مثالي في الكون وقد كان “روجر بنروز” الحائز على جائزة نوبل في الفيزياء 2020 أول من نجح في إيجاد حل واقعي لجميع المواد المنهارة بما فيها من نتوءات وعيوب طبيعية.

لغز  الكوازارات «quasars»

عادت مسألة وجود الثقوب السوداء إلى الظهور في عام 1963 مع اكتشاف الكوازارات وهي ألمع الأجسام في الكون. منذ ما يقرب من عقد من الزمان، كان علماء الفلك في حيرة من أمرهم بسبب الأشعة الراديوية من مصادر غامضة، مثل 3C273 في كوكبة العذراء. وأخيرًا  كشف الإشعاع الواقع ضمن طيف الضوء المرئي عن الموقع الحقيقي للكوازار- 3C273 والذ اتضح أنه بعيد جدًا لدرجة أن الأشعة  الصادرة منه يستغرق وصولها  إلى الأرض أكثر من مليار سنة. وكما هو معروف، إذا كان مصدر الضوء بعيدًا جدًا، فلا بد أن يكون له شدة تساوي ضوء عدة مئات من المجرات وقد أطلق العلماء على مصادر الضوء تلك اسم “كوازار”. سرعان ما وجد علماء الفلك الكوازارات التي كانت بعيدة جدًا لدرجة أنها أطلقت إشعاعها في الطفولة المبكرة للكون.  السؤال الذي يطرأ الآن؟ من أين يأتي هذا الإشعاع المذهل؟ هناك طريقة واحدة فقط للحصول على هذا القدر من الطاقة ضمن الحجم المحدود للكوازار أي من سقوط المادة في ثقب أسود فائق الكتلة.

الحل في مفهوم الأسطح المحاصرة

هل يمكن للثقوب السوداء أن تتشكل في ظل ظروف واقعية ؟ حيّر هذا السؤال الفائز بجائزة نوبل هذا العام “روجر بنروز”. الجواب، كما يتذكره لاحقًا، أثناء نزهة مع زميل له في لندن في خريف عام 1964، حيث كان “بنروز” أستاذًا للرياضيات في كلية “بيركبيك”. عندما توقفوا عن الحديث لوهلةٍ لعبور الشارع، ظهرت فكرة في ذهنه. في وقت لاحق من ظهر ذلك اليوم، بحث عنه في ذاكرته وكانت هذه الفكرة -التي أسماها الأسطح المحاصرة – هي المفتاح الذي كان يبحث عنه دون وعي، وهي أداة رياضية ضرورية لوصف الثقب الأسود. يجبر السطح المحاصر جميع الأشعة على التوجه نحو المركز وذلك بغض النظر عما إذا كان السطح منحنيًا للخارج أو للداخل. باستخدام الأسطح المحاصرة ، تمكّن “روجر بنزور” من إثبات أن الثقب الأسود يخفي دائمًا “التفرد”، وهو الحد الذي ينتهي فيه الزمان والمكان وكثافته لا حصر لها وحتى الآن لا توجد نظرية لكيفية التعامل مع هذه الظاهرة الغريبة في الفيزياء. أصبحت الأسطح المحاصرة مفهومًا مركزيًا في إكمال إثبات بنروز لنظرية التفرد إذ أن الأساليب الطوبولوجية التي قدمها تُعد من أفضل الأدوات لدراسة كوننا المُنحني.

طريق ذو اتجاه واحد حتى نهاية الزمان

 بمجرد أن تبدأ المادة في الانهيار ويتشكل سطح محاصر، لا شيء يمكن أن يوقف الانهيار من الاستمرار. لا مجال للعودة ، كما في القصة التي رواها الفيزيائي والحائز على جائزة نوبل “سوبراهمانيان شاندراسيخار”  في  طفولته في الهند. تدور القصة حول اليعسوب ويرقاتها التي تعيش تحت الماء. عندما تكون اليرقة جاهزة لفتح أجنحتها ، فإنها تَعِدُ بأنها ستخبر أصدقاءها كيف تبدو الحياة على الجانب الآخر من سطح الماء. ولكن بمجرد أن تمر اليرقة عبر السطح وتطير بعيدًا مثل اليعسوب لا تعود. ونتيجةً لذلك، لن تسمع اليرقات الموجودة في الماء قصة الحياة على الجانب الآخر.

وبالمثل، يمكن لكل مادة أن تعبر أفق حدث الثقب الأسود في اتجاه واحد فقط. ثم يحل الوقت محل المكان وتتجه جميع المسارات المحتملة إلى الداخل ، حيث يحمل تدفق الوقت كل شيء نحو نهاية لا مفر منها عند التفرد كما هو موضح في الصورة أدناه. لن تشعر بأي شيء إذا سقطت في أفق الحدث لثقب أسود فائق الكتلة  ومن الخارج، لا أحد يستطيع رؤيتك تسقط، وتستمر رحلتك نحو الأفق إلى الأبد. إن التحديق في ثقب أسود غير ممكن ضمن قوانين الفيزياء المعروفة؛ إذ أن الثقوب السوداء تخفي كل أسرارها وراء آفاق أحداثها.

عندما ينهار نجم ضخم بفعل جاذبيته، فإنه يشكل ثقبًا أسودًا ثقيلًا لدرجة أنه يلتقط كل شيء يمر عبر أفق الحدث. حتى الضوء لا يستطيع الهروب. في أفق الحدث، يحل الزمان محل المكان ويشير إلى الأمام فقط. يحمل دفق الزمان كل شيء نحو «التفرد-singularity» الأبعد داخل الثقب الأسود حيث تكون الكثافة لانهائية وينتهي عندها الزمان. يُظهر مخروط الضوء مسارات أشعة الضوء للأمام وللخلف بمرور الوقت. عندما تنهار المادة وتشكل ثقبًا أسود فإن المخاريط الضوئية التي تعبر أفق الحدث للثقب الأسود ستتحول إلى الداخل، باتجاه التفرد. وبذلك لن يرى المراقب الخارجي أبدًا أن أشعة الضوء تصل إلى أفق الحدث ، بل تدفعه فقط. ولا أحد يستطيع رؤية أزيد من ذلك

الثقوب السوداء تتحكم في مسارات النجوم

على الرغم من أننا لا نستطيع رؤية الثقب الأسود، إلا أنه من الممكن تحديد خصائصه من خلال مراقبة كيفية توجيه جاذبيته الهائلة لحركات النجوم المحيطة. يقود العالمان الحائزان على نوبل في الفيزياء 2020 “راينهارد جينزل” و”أندريا غيز” مجموعات بحثية منفصلة تستكشف مركز مجرتنا- درب التبانة- والتي تبدو من المسقط العمودي مشكل قرص مسطح يبلغ عرضه حوالي 100000 سنة ضوئية كما هو موضح في الصورة أدناه، ويتكون من الغازات والغبار ومئات المليارات من النجوم وأحد هذه النجوم هو شمسنا. من وجهة نظرنا على الأرض ، تحجب السحب الهائلة من الغاز والغبار بين النجوم معظم الضوء المرئي القادم من مركز المجرة. كانت التلسكوبات التي تعمل بالأشعة تحت الحمراء وتكنولوجيا الراديو هي أول ما سمح لعلماء الفلك برؤية قرص المجرة وتصوير النجوم في المركز. باستخدام مدارات النجوم كمرشدين ، توصل جينزل و غيز إلى الدليل الأكثر إقناعًا حتى الآن على وجود جسم فائق الكتلة مختبئ في مركز مجرتنا ويُعد الثقب الأسود هو التفسير الوحيد الممكن.


مجرة درب التبانة والتي تبدو من المسقط العمودي كقرصٍ مسطح يبلغ عرضه حوالي 100000 سنة ضوئية كما هو موضح في الصورة أعلاه، ويتكون من الغازات والغبار ومئات المليارات من النجوم وأحد هذه النجوم هو شمسنا

للتعرف على مساهمات الفائزين في جائزة نوبل في الفيزياء 2020 اضغط هنا.

المصادر

Nobelprize

Exit mobile version