كيف يمكن رصد الثقوب السوداء؟

هذه المقالة هي الجزء 7 من 10 في سلسلة رحلة إلى أعتم أجسام الكون، "الثقوب السوداء"

لم تولد الثقوب السوداء -كمفهوم علمّي ثوريّ- إلا بعد مخاض جادل فيه العلماء طويلًا. فواجهوا تحديات جمّة فرضتها الظروف المتطرفة التي تحيط بفيزياء الثقوب السوداء وطبيعتها العصية على الرصد. ولعل أبرز هذه العقبات يكمن في أساس تكوينها ويتجلى في اسمها. فالثقوب السوداء لا تشع أي ضوء، بل تبتلع ما يدخلها من فوتونات أبدًا. فإذا كنا غير قادرين على رؤيتها، كيف نعلم أنها موجودة؟ وكيف يمكن رصد الثقوب السوداء؟

يبدو أن هذه المهمة -التي تبدو مستحيلة- ممكنة فقط إذا استغنينا عن أساليب الرصد التقليدية، مستخدمين وسائل غير مباشرة. ويتبع العلماء اليوم طريقتين، تتكل كلاهما على جسم قريب قابل للرصد، فتدرس تأثير الثقب الأسود عليه من ناحيتين: الجاذبية، والإشعاع.

التأثير الجذبوي للثقوب السوداء على الأجسام المحيطة

لا تعد هذه الوسيلة حديثة العهد؛ لاستخدامها الدائم في أبحاث علم الفلك. كما أن لها فضل التوصل لاكتشافات هامة. فكوكب نبتون، على سبيل المثال، اكتشف عن طريق تأثير جاذبيته على كوكب أورانوس عام 1846. كما لوحظ وجود القزم الأبيض «الشعرى اليمانية ب- Sirius B» لتأثيره الجذبوي على قرينه «الشعرى اليمانية أ-Sirius A».
[1] [2]

وبالعودة إلى الثقوب السوداء، يمكن تحديد وجودها في مكان ما من خلال رصد تأثير جاذبيتها على النجوم أو الغازات في ذلك المكان. فقد لوحظ وجود منطقة خالية في مركز مجرة درب التبانة (لا تشع أي ضوء)، تدور حولها النجوم في مدارات غير منتظمة تحت تأثير جاذبية قوية. مما اعتبر دليلًا أوليًا على وجود مادة شديدة الكثافة فيها، وهو الثقب الأسود «الرامي أ-Sagittarius A».

تأثير الثقوب السوداء على النجوم في الأنظمة الثنائية

بدايةً، نعلم أن الثقوب السوداء تتشكل من انهيار نجم هائل الكتلة ريثما يصبح غير قادر على القيام بتفاعلات الاندماج النووي. وبما أن بعض النجوم هائلة الكتلة توجد قريبة من نجوم أخرى، مشكلةً «أنظمة ثنائية-binary systems»، بالتالي، يمكن أن توجد بعض الثقوب السوداء في أنظمة ثنائية كذلك. فإذا وُجد ثقب أسود في نظام ثنائي، وكان قريبًا بما يكفي من النجم، يمكن رصده بطريقة غير مباشرة. ويحدث الأمر على الشكل التالي:

تسحب جاذبية الثقب الأسود بعضًا من غازات النجم نحوها، فيدور الغاز بشكل لولبي نحو الثقب الأسود. وفي أثناء ذلك، يسخن الغاز نتيجة احتكاكه مع الغازات المجاورة. يصدر الغاز مرتفع الحرارة أشعةً سينيةً أثناء توجهه نحو أفق حدث الثقب الأسود. وما إن يتجاوز أفق الحدث حتى يتوقف عن كونه مرئيًا، ولكن إشعاعه يكون شديد السطوع طالما كان خارجه. ويمكن رصد الأشعة السينية السابقة بسهولة عن طريق الأقمار الصناعية؛ لأن غلاف الأرض الجوي يحجبها عنا. وبالتالي يرصد الثقب الأسود بشكل غير مباشر وتعرف خواصه من خلال دراسة تأثيره على نجمه القرين. [4]

كما أن أول ثقب أسود رصده البشر اكتشف بالتقنية السابقة، ولتبيان تفاصيلها، ندرس حالته كمثال:

الدجاجة  X-1

رصد العلماء مصدرًا قويًا للأشعة السينية كان الألمع في كوكبة «الدجاجة-Cygnus». ولم تكن الأشعة ذات شدة ثابتة، بل إن سطوعها تغير بشكل غير منتظم، مما ينفي كونها «نجمًا نابضًا للأشعة السينية- X-ray Pulsars». وأما تغيرات الشدة هذه فحصلت في فواصل زمنية قصير قدرها 0.1 ثانية. مما يعني أن الأشعة السينية هذه تصدر عن منطقة لا يتجاوز قطرها 3000 كيلومتر، أو ما يعادل قطر القمر.

وعند رصد المنطقة بأطوال موجية أخرى، تبين وجود نجم مجاور لها يدعى HDE 226868. والذي تبين أنه عملاق أزرق مرتفع الحرارة ذو كتلة تقدر نحو 30 كتلة شمسية. كما نعلم أن النجم السابق لا يصدر الأشعة القوية تلك، لأن النجوم غير قادرة على إشعاع ذلك القدر الهائل من الطاقة.

صورة توضح حالة الدجاجة X-1

كما وجد أن النجم HDE 226868 يتأثر بجاذبية نجم قريب منه؛ من خلال دراسة تأثير دوبلر في ضوء النجم. إذًا، النجم HDE 226868 يشكل نظامًا ثنائيًا مع المصدر المجهول الدجاجة X-1، الذي تبين أنه يزن 7 كتل شمسية.

والآن بجمع كل المعلومات السابقة نستنتج أن الدجاجة X-1 جسم فلكي مضغوط. ونجد أنه كتلته أكبر من أن يكون قزمًا أبيضًا أو نجم نيوتروني، فهو ثقب أسود. [4] فنرى أن العلم -قبل كل شيء- هو الإبداع، إبداع طرق جديدة لرؤية اللامرئي وكشف المستحيل.

المصادر

[1] NASA
[2] The Astrophysics Data System
[3] Chandra X-ray Observatory
[4] Georgia State University

ما هو أفق الحدث؟

هذه المقالة هي الجزء 5 من 10 في سلسلة رحلة إلى أعتم أجسام الكون، "الثقوب السوداء"

تتعرف الثقوب السوداء -أحد أكثر مواضيع الفيزياء الفلكية غموضًا- بمفهومين الأساسيين: «المتفردة-Singularity» و«أفق الحدث-Event horizon». وفي حين تنهار قوانين الفيزياء التي نعرفها عند المتفردة، يجعل الثاني الثقب الأسود أسودًا، ويحمي المتفردة من فضولنا العلمي. فما هو أفق الحدث؟ ماذا يحدث قربه؟ وبما يتعلق حجمه؟

مفهوم أفق الحدث

يرتبط مفهوم أفق الحدث ب«سرعة إفلات-Escape velocity» الأجسام، وهي السرعة اللازمة ليفلت جسم ما من جاذبية جسم آخر. وفي حالة الثقب الأسود، كلما اقترب جسم ما منه، تأثر بجاذبيته أكثر، فاحتاج لقيمة أكبر من السرعة ليهرب منه. ومع اعتبار هذا التزايد التدريجي، يكون أفق الحدث حدًا من الثقب الأسود تبلغ عنده سرعة الإفلات مقدارًا أكبر من سرعة الضوء. وبما أنه يستحيل لأي شيء في الكون -بحسب النسبية الخاصة لأينشتاين- أن يتحرك أسرع من الضوء، نعتبره نقطة اللاعودة من الثقب الأسود. ويشير الاسم هذا بشكل أو بآخر إلى استحالة رؤية أي شيء يحدث خلفه. ذلك لأن الضوء الذي يدخله لا يغادره أبدًا، وكذلك أي شيء آخر. [1]

ماذا يحدث عند الاقتراب منه؟

بسبب «تأثير دوبلر-Doppler effect»، يبدو الجسم المقترب من أفق الحدث مائلًا للأحمر. كما يبدو باهتًا، لأن جاذبية الثقب الأسود تشتت الضوء المنعكس عن الجسم المرصود. أما عندما يبلغ أفق حدثه، فتختفي صورته نهائيًا ويغدو لا مرئيًا لأن الضوء لا يعود قادرًا على الهرب من جاذبية الثقب. [2]

ماذا يوجد خلف أفق الحدث؟

خلفه، وفي مركز الثقب الأسود، تقبع المتفردة. تلك النقطة التي انهار فيها الثقب الأسود، وبلغت كثافتها قيمةً لا منتهية. كما أن نسيج الزمان-المكان ينحني حول المتفردة بزاويةٍ قدرها لا نهاية، متأثرًا بجاذبيتها وجاعلًا قوانين الفيزياء التي نعرفها تنهار. وفي هذه الحالة، يحمي أفق الحدث المتفردة، ويفصلنا -أبدًا- عنها وعن قوانينها الفيزيائية. [3]

حجمه

يعتمد حجم أفق حدث ثقب أسود ما على كتلة هذا الثقب. مثلًا، إذا جُعلت الأرض ثقبًا أسودًا -بطريقةٍ ما- فإن قطر أفق حدثه لن يتجاوز ال 17.4 ميليمترًا. أما إذا حُولت الشمس إلى ثقب أسود، فسيبلغ قطره حوالي الستة كيلومترات، أي ما يعادل مساحة قرية أو بلدة صغيرة. [1]

بينما تكون الثقوب السوداء فائقة الكتلة أكبر بكثير. مثلًا، الثقب الأسود «Sagittarius A» الواقع في مركز مجرة درب التبانة كتلته أكبر من كتلة الشمس ب 4.3 مليون مرة، وقطره يبلغ 12.7 مليون كيلومترًا. [4]

الثقوب السوداء الدوارة

سابقًا، اعتقد العلماء أن جميع الثقوب السوداء لا تدور حول نفسها، واعتبروا متفرداتها نقاطًا منفردة. أما الآن فيميز العلماء نوعين من الثقوب السوداء: دوارة: «ثقوب كير السوداء-Kerr black holes»، وغير دوارة: «ثقوب شوارزشايلد السوداء-Schwarzchild black holes».

تدور ثقوب كير السوداء حول نفسها لأن النجوم التي تشكلت منها كان تدور في الأساس، ولأن المادة التي تبتلعها دارت حولها حلزونيًا قبل أن تسقط فيه. ويقترح بعض الباحثين أن متفردات هكذا ثقوب هي حلقات رفيعة بشكل لانهائي. ويكون أفق حدثها متطاول الشكل كالأرض، أي مضغوط عند الأقطاب، ومنتفخ عند خط الاستواء. [5]

أفق حدث ثقب أسود دوار

على عكس ثقوب شوارزشايلد، يمكن فصل أفق حدث ثقب كير الأسود إلى أفقين خارجي وداخلي. يتصرف الأفق الخارجي كنقطة اللاعودة للثقب الأسود، أي كأفق كلي لثقب أسود غير دوار. أما الأفق الداخلي فيعرف باسم «أفق كوشي-Cauchy horizon». حيث يتصف أفق كوشي بالغرابة الشديدة، فخلفه، لا يسبق السبب نتيجته دائمًا، بل ويمكن ألا يؤثر الماضي في المستقبل، فيكون السفر عبر الزمن ممكنًا. [5]

وفي جميع الأحوال، لا يمكننا أن ننكر -وبأي شكل- أن ما يخفيه هذا الأفق يتجاوز حدود مخيلتنا، وعلومنا أيضًا.

المصادر

[1] Space
[2] Science Alert
[3] NASA
[4] NASA_2
[5] Science Direct

الثقوب السوداء: أكثر الأجرام ظلامًا في الكون

هذه المقالة هي الجزء 2 من 10 في سلسلة رحلة إلى أعتم أجسام الكون، "الثقوب السوداء"

تعرف «الثقوب السوداء-Black Holes» بأنها أجرام فلكية جاذبيتها هائلة جدًا، بحيث لا يمكن لأي شيء في الكون أن يفلت منها، ولا حتى الضوء. يسمى “سطحها” «أفق الحدث-Event Horizon»، ويمثل الحد الذي تتجاوز «سرعة الإفلات-Escape Velocity» فيه سرعة الضوء، أي على الجسم أن يتحرك أسرع من الضوء –وذلك مستحيل- كي يستطيع الإفلات من جاذبيتها. فأي مادةٍ أو إشعاع يصل ذلك الحد؛ يسقط فيها بلا عودة. [1]

من اكتشف الثقوب السوداء؟  

كانت سنة 1916 عام سعد الفيزيائي «كارل شوارزشايلد-Karl Schwarzschild». حيث اكتشف الثقوب السوداء صدفةً بينما كان يعمل على مسألة تتعلق بنظرية النسبية العامة لأينشتاين. فقد حاول شوارزشايلد دراسة قوة الجاذبية لجسم كروي منفرد ومتناسق، مثل الشمس في ضوء النسبية. لكن دراسته هذه انتهت إلى نتيجة غير مألوفة: لقد اختلفت الأمور كليًا عند نصف قطر معين، يسمى اليوم «نصف قطر شوارزشايلد-Schwarzschild radius».  وعرفت الثقوب السوداء حينها بأنها أجسام فلكية تحقق خاصية شوارزشايلد هذه. ثم توصل الباحثون لاحقًا لما يجعل طول شوارزشايلد مميزًا جدًا: إذا ضغطت كمية معينة من المادة في حيز أصغر من ذلك الطول، فستتغلب قوة جاذبيتها على كل القوى التي نعرفها، ولن يتمكن أي شيء من الهرب منها.

في البداية رفض الفيزيائيون فكرته، وافترضوا عدم إمكانية حدوث ذلك في الطبيعة. ثم في ثلاثينيات القرن الماضي؛ تبين أن الطبيعة تسمح للثقوب السوداء وقطرها الغريب بالوجود. فقد وضح الفيزيائي الهندي «صابرحمنيان تشاندراسيخار-Subrahmanyan Chandrasekhar» أنه إذا تجاوزت كثافة المادة حدًا معينًا، فلن تغلب قوة في الكون جاذبية هذه المادة، مما يتوافق كليًا مع فكرة شوارزشايلد. [2]

ما الذي يحدث داخل الثقب الأسود؟

ليست الثقوب السوداء بفضاء فارغ أبدًا، بل تحوي أطنانًا من المادة التي سحقت عند دخوله. حيث ينتهي المطاف بأي مادة تدخله إلى نقطة صغيرة لا متناهية في مركزه تدعى «المتفردة-Singularity». ومهما أبدى الجسم الساقط من مقاومة، ومهما يكن اتجاه سقوطه، فسينتهي في المتفردة خلال مدة وجيزة؛ بسبب قوة جذبها الهائلة.

لا يعلم الفيزيائيون طبيعتها على وجه التحديد، فعندها تنهار كل قوانين الفيزياء.  [3]

كيف يتأكد العلماء من وجود الثقوب السوداء؟

يعلم الفيزيائيون أن الثقوب السوداء موجودة، رغم عدم قدرتهم على رصدها مباشرةً أو رؤيتها، فمعظم أدلتهم غير مباشرة. مثلًا؛  رصد فريق من الباحثين أمواج سينية قوية تأتي من نظام «سيغنس إكس-1- Cygnus X-1» الذي يبعد عنا 6000 سنة ضوئية. ثم وجدوا أن النظام مكون من جسم كثيف معتم –ثقب أسود- يسحب الغلاف الجوي لجسم آخر قربه. لم ير الباحثون الثقب الأسود ذاته، ولكنه فيما يحاول ابتلاع الغلاف الجوي، ارتفعت حرارة الغاز فأطلق أمواج سينية قابلة للرصد وعلمنا أن الثقب موجود. [4]

صورة توضح ابتلاع الثقب الأسود سيغنس إكس-أ لمجاوره
حقوق الصورة: ESO

ما هي أحجام الثقوب السوداء؟

يمكن أن تكون الثقوب السوداء صغيرة أو كبيرة، ولكن أصغرها (بحجم الذرة) له كتلة هائلة (كتلة جبل). أما الثقب الأسود في سيغنس إكس-1 فهو أقرب ثقب أسود إلينا، وكتلته تعادل 20 ضعف كتلة الشمس، وهي كتلة متوسطة نوعًا ما مقارنة بباقي الثقوب السوداء في الكون. فيما قدر العلماء وجود 10 مليون ثقب أسود على الأقل في مجرتنا. وكغيرها من المجرات في الكون؛ يحتل ثقب أسود عملاق مركزها، ويسمى «القوس-أ-Sagittarius-A». تكون الثقوب السوداء العملاق أثقل بملايين المرات من الشمس، ومئات المليارات أحيانًا. وتصل هذه الثقوب لأحجام هائلة؛ نتيجة ابتلاعها كل ما يحيط بها من مادة، واندماجها مع ثقوب سوداء أصغر منها. [5]

ماذا يحدث لو سقطت داخل ثقب أسود؟

من حسن الحظ أن أقرب ثقب أسود يبعد عنا آلاف السنين الضوئية. فتأثيرهم على الاجسام البعيدة لا يخالف تأثير أي جسم ثقيل آخر في الكون. أما إذا بدلت الشمس بثقب أسود له نفس كتلتها، لن يتغير مدار الأرض أبدًا، لأن قوة الجاذبية بقيت نفسها. لكنك إن اقتربت من ثقب أسود عادي، فستكون قوة جاذبيته قوية لدرجة تجعل جسمك يمتط ويتحول إلى خيط رفيع من الجسيمات قبل أن تصل إلى أفق الحدث حتى، في حدث يسمى «تأثير السباجيتي-spaghettification».
[1]
وفي كل الأحوال؛ من المستبعد أن تصل إلى ثقب أسود، فلما القلق؟

المصادر

[1] NASA
[2] ScienceFocus
[3] NASA_2
[4] NASA_3
[5] California Institute of Technology

Exit mobile version