نوبل في الطب 2020: ما هو فيروس التهاب الكبد الوبائي سي؟ وكيف تم اكتشافه؟

نوبل في الطب 2020: ما هو فيروس التهاب الكبد الوبائي سي؟ وكيف تم اكتشافه؟

في صباح اليوم الإثنين الموافق 5-10-2020، أعلنت الأكاديمية السويدية الملكية للعلوم فوز كلاً هارفي ألتر، وتشارلز رايز، ومايكل هاوتون بجائزة نوبل في الطب لعام 2020 عن اكتشافهم فيروس التهاب الكبد الوبائي سي (HCV). فذلك الفيروس الذي ظل لغزاً مجهولاً لعقودٍ طويلة، ونتيجة للجهل بوجوده استطاع أن ينتشر في أرجاء المعمورة شرقاً وغرباً مما جعله واحد من أهم أمراض العصر؛ فطبقاً لمنظمة الصحة العالمية (WHO) هناك أكثر من 71 مليون مريض مزمن بفيروس التهاب الكبد الوبائي سي، يموت منهم نسبة كبيرة جداً نتيجة لتليف وسرطان الكبد. إلا أنه مع المعرفة الصحيحة للفيروس، وتطوير العلاجات المتسمر تنحصر تلك النسبة المتوفية بشدة. ولكن ما هو فيروس التهاب الكبد الوبائي سي؟ وكيف تم اكتشافه؟ هذا ما ستناوله بالتفصيل في الأسطر القادمة.

ما هو فيروس التهاب الكبد الوبائي سي؟

هو أحد أهم الفيروسات التي تصيب الكبد، وسر أهميته يكمن في صمته؛ حيث أنه لا يبدأ في إظهار أي علامات على وجوده إلا بعد فترة طويلة جداً من الزمن يكون الكبد قد تأثر بشكلٍ بالغ. ينتقل الفيروس عن طريق الدم مثله مثل فيروس ب ويتوجه للكبد ليبدأ دورة حياته:

  1. الارتباط : وفيها ترتبط مستقبلات على سطح الفيروس بمستقبلات على سطح خلية الكبد.
  2. دخول: بعد أن يتم الارتباط يتحرك الفيروس بما يحيطه من غلافه على سطح الخلايا مثل الكورة حتى يصل لنقطة معينة، تحديداً نقطة التصاق خليتي كبد متجاورتين، وهنا يدخل الفيروس الخلية مغلفاً بغلاف خلوي مصدره الغشاء الخلوي لخلية الكبد.
  3. التحرر: عند دخول الفيروس مغلفاً لا تلبث المادة الوراثية للفيروس أن تتحرر من الغلاف بفعل من درجة الأس الهيدروجيني للسيتوبلازم. وبذلك تكون المادة الوراثية للفيروس (وهي من النوع RNA) حرة.
  4. الترجمة: يتم ترجة المادة الوراثية للفيروس إلى مركب من البروتينات متلاصقة مع بعضها، يبلغ طولها حوالى 3000 حمض أميني.
  5. هنا يأتي دور إنزيمات من الخلية المضيفة حتى تشترك مع إنزيمات الفيروس في تقطيع ذلك المركب الضخم إلى البروتينات المنفردة التي تكون الفيروس، وعددها عشرة بروتينات.
  6. التكاثر: لاتزال الخلية المضيفة تقدم خدماتها لمراحل حياة الفيروس حيث في تلك المرحلة أيضاً تتعاون مع بعض بروتيات الفيروس حتى تكون ما يشبه بالحويصلة تصلح لتكاثر المادة الوراثية للفيروس، وزيادة أعدادها حتى تنتج أعداد غفيرة من الفيروس.
  7. التجميع: تجتمع البروتينات في ترتيبها الطبيعي محيطةً بالمادة الوراثية للفيروس ويضاف إليها بعض جزيئات من البروتينات الدهنية للخلية حتى يتكون التركيب الطبيعي للفيروس.
  8. الخروج والانتشار: بعد أن يكون الفيروس مكتمل النضج، يتحرر من الغشاء الخلوي لخلية الكبد للبيئة الخارجية للنسيج حتى يصيب المزيد من الخلايا.

تصاحب دورة حياة فيروس الكبد الوبائي سي العديد من الأعراض المرضية تُقسم حسب فترة ظهورها إلى أعراض حادة وأعراض مزمنة. أما عن الأعراض الحادة فتلك التي تظهر خلال ستة أشهر من الإصابة وتكون غير مميزة، ولا تستدعي الذهاب للمستشفى، وقد يستطيع جسم المُصاب أن يقضي على الفيروس في تلك المرحلة في قرابة 20% من الحالات فقط. في حالة نجاة الفيروس من تلك المرحلة يدخل المريض في الإصابة المزمنة التي غالباً ما يفشل جسم المريض فيها في التخلص من الفيروس وتتمثل خطورة تلك المرحلة في أنها قد تؤدي للإصابة بالتليف الكبدى وفشله عن أداء وظيفته بالإضافة للإصابة بسرطان الكبد المرتبط بشدة بالفيروس. وهنا يجب الإشارة أن السبب في كل ذلك هو رد الفعل المناعي تجاه الفيروس وليس الفيروس نفسه؛ فتواجد الفيروس داخل الخلية وتكاثره بها يتسبب في بعض التغيرات على سطح الخلية المضيفة تجعل الخلايا المناعية تتعرف عليها كجسم مريض يجب قتله، وبالفعل يتم قتل عدد كبير من خلايا الكبد المُصابة بسرعة تفوق قدرة الكبد على التعويض، وبالتالي يتم الشفاء عن طريق التليف، وكنتيجة لذلك لا يستطيع الكبد أداء وظيفته بشكلٍ مناسب ويكون معرض بشكل ضخم للفشل. والآن أصبح لدينا صورة كاملة ملخصة عن كيفية تفاعل الفيروس مع الجسم، تبقى لنا أن نعرف كيف استطاع علماؤنا الثلاثة الكشف عن ذلك العدو اللدود في الثلث الأخير من القرن الماضي

هارفي ألتر وفكرة وجود الفيروس:

كان كلاً من فيروس التهاب الكبد الوبائي أ و ب HBV&HAV متعارف عليه في أربعينيات القرن الماضي. وتم تطوير آليات للكشف عنهما في الدم بمرور الوقت؛ لتقليل الإصابة بإلتهاب في الكبد بعد عملية نقل الدم. وبالفعل قلة الإصابة بالاتهابات الكبد بشكل ملحوظ، ولكن ظلت هناك نسبة كبيرة من التهابات الكبد مجهولة المصدر والذي استطاع هارفي ألتر الكشف عنها في العديد من أوراقه البحثية سنتابع منهم ثلاثه أمثلة:

1. الدراسة الأولى:

قام ألتر بجمع عينات دم ل 22 حالة قبل وبعد اسقبالهم للدم وكشف فيها عن: أجسام مضادة للفيروس التهاب الكبد ب و أ، بالأضافة لأنتيجن فيروس ب (الأنتيجن هو مركب مميز على سطح الكائنات الممرضة تتعرف عليها خلايا المناعة)، وكذلك أجسام مضادة لفيروسات EBV و cytomegalovirus وجميعها تُصيب الكبد بالتهاب. وعلى الرغم من أن الحالات جميعاً كانت مصابة بالتهاب في الكبد ألا أن النتائج كانت كما يلي:

  1. فيروس أ: سالب قبل وبعد استقبال الدم.
  2. فيروس ب: سبع حالات كان لديها أجسام مضادة قبل استقبال الدم مما يعني إصابتها به من قبل، و 15 حالة لم تعبر عن أجسام مضادة سواء قبل أو بعد استقبال الدم فقط حالة واحدة ظهر فيها أجسام مضادة بعد عملية نقل الدم، إلا أن جميع الحالات لم يتواجد في عيناتها أنتيجين فيروس ب سواء قبل أو بعد نقل الدم.
  3. EBV: جميعهم تواجدت في أجسامهم الأجسام المضادة لذلك الفيروس قبل عملية نقل الدم، ولم يزداد تركيزها بعده مما يعني عدم الإصابة.
  4. cytomegalovirus: فقط تسع حالات من عبرت عن أجسام مضادة بعد نقل الدم إلا أنه يُستبعد أن يكون ذلك الفيروس السبب لالتهاب الكبد لديهم لعدم توافق أعراضه الإكلينيكية مع أعراض الحالات المُصابة.

2. الدراسة الثانية:

كانت هدف هذا الدراسة بشكل رئيسي تحسين الاختبارات المُستخدمة في عملية نقل الدم. وقد استعان فيها ألتر وفريقه بعينه مكون من 108 شخص استقبلوا الدم، واتضح أن منهم 12 شخصاَ أصيب بالتهاب في الكبد ولكن ما السبب؟! بعد عمل تحاليل الدم المناسبة اتضح أن أربع حالات فقط هي من أصيبت بفيروس التهاب الكبد الوبائي ب، أما الثماني حالات الباقية فلم تظهر تحاليلهم نتائج إيجابية للإصابة بكلٍ من فيروس ب وأ وEBV و cytomegalovirus. فبذلك جائت تلك الدراسة مؤكدة لسابقتها.

3. الدراسة الثالثة:

هنا أكد في تلك الدراسة على وجود فيروس مجهول يُسبب المرض وأكد أنه قبال للانتشار مثله مثل قرينه فيروس ب. في تلك الدراسة استعان فيها بحيوان الشمبانزي، ولكن لماذا الشمبانزي تحديداً؟ لإن الشمبانزي مثله مثل الإنسان يُصاب بفيروس التهاب الكبد الوبائي ب وأ. قام ألتر وزملائة بجمع عينات دم من أربعة مصابين بالتهاب كبد ثبت أنه ليس نتيجة لفيروس ب أو أ وحقنوها في خمسة حيوانات شمبانزي وعزلوهم عن بعضهم العض، وبعد فترة قاموا بمتابعة تحاليل الدم خاصتهم وأخذ عينات من الكبد التي أظهرت إصابة ثلاثة من الشمبانزي بالمرض حيث الارتفاع في إنزيمات الكبد، وكذلك أظهرت العينات تحت الميكرسكوب مظهراً مشابه بشدة لمظهر التهاب فيروس الكبد الوبائي ب مما يؤكد أن ما يتسبب في ذلك الاتهاب هو أيضاً فيروس، والأمر الآخر الذي يؤكد ذلك أنهم استطاعوا تحديد مدى معين لفترة الحضانة.

بذلك لن نكون مخطئين إذا قولنا أن هارفي ألتر نجح في توجيه الأبصر، والمجهودات ناحية فيروس جديد مجهول ممكن أن يكون أكثر خطورة من فيروس التهاب الكبد الوبائي ب.

مايكل هاوتون وعبقرية اكتشاف الفيروس:

إذا أردت أن تعرف أني موجود عليك أن تراني بعينيك، ولكن هل تلك الطريقة الوحيدة التي تتأكد فيها من وجودي؟ في الحقيقة لا فقط تدرك وجودي من آثار أقدامي مثلاً. ونحن أمامنا مثال حي يدعم تلك الإجابة وهو مايكل هاوتون؛ فهاوتون لم يكن تقليدياً في بحثه فلم يضيع وقته في محاولة عزل الفيروس ورؤيته بشكل مباشر. فاتبع افتراض أنه لطالما أن المسبب في ذلك المرض قد يكون بنسبة كبير فيروس فمؤكد سيسبب ذلك الفيروس رد فعل مناعي ويتواجد ضده أجسام مضاده في الدم، فلم لا نستغل النتيجة أو الأثر للوصول للسبب؟ هذا ما فعله هاوتون. حيث أنه قام بحقن عينة من مصابي التهاب كبد مجهول السبب في حيوانات الشمبانزي حتى تكون بمثابة بيئة لتكاثر المادة الوراثية للفيروس، بعدها تم الحصول على عينات من تلك الحيوانات وعزل المادة الوراثية التي تتكون من المادة الوراثية للشمبانزي والفيروس، وقام بتقسيمها وزراعتها في بكتيريا حتى تعبر تلك الأحماض النووية عن نفسها وتصنع بروتيناتها والجدير بالذكر أنه حصل على عدد ضخم جداً من تلك الأحماض النووية تُعد بالملايين. وبعد ذلك عرضها على بلازما مصدرها المرضى من البشر، ولك أن تتخيل عزيزي القارئ أن عينة واحدة فقط من الأحماض النووية كانت صحيحة أي ارتبطت بها الأجسام المضادة. تم عزل تلك العينة والإكثار منها للحصول على الترتيب الجيني للفيروس، وقد استغرق ذلك العمل قرابة السبع أعوام ونتج عنه التعرف على الفيروس وتسميته بفيروس سي.

تشارلز رايز وآخر قطع الأحجية:

هل يكفي فيروس سي وحده للتتسبب بالمرض؟ الإجابة كانت من عند تشارلز رايز الذي نجح في مقارنة الأحماض النووية لعينات من فيروس سي. حيث أن المادة الوراثية لفيروس سي هي من النوع RNA، ونتيجة لذلك يزداد معدل الطفرات بشكل قوي عن الطبيعي فبتالي ليست جميع جزيئات فيروس سي تمتلك نسخة مطابقة للمادة الوارثية بل إن الكثير منها قد يمتلك في طيات مادته الوراثية ما يعرقل تكاثره وتسبيبه للمرض وهذا ما اكتشفه تشارلز رايز. وقد اكتشف أيضا تتابع مميز من القواعد النيتروجينة في إحدى نهايات جزيئ ال RNA افتراض أنها مهمة جدا في دورة حياة الفيروس. وعليه قام تشارلز بعزل تلك التتابعات التي اعتقد أنها قد تعرقل تكاثر الفيروس، وحافظ على ذلك التتابع المهم، حتى يتكون لديه الفيروس المثالي ومن ثم قام بحقنه في الشمبانزي الذي تسبب فعلا في المرض والتدمير المزمن للكبد.

النتائج:

استطاعت تلك الأبحاث سالفه الذكر أن تغير من موقف البشرية أمام ذلك الفيروس المخادع؛ فبعد الوصول الدقيق لتركيبه الشكلي والجيني والبروتينات الموجودة على سطحه أصبح من الممكن توفير الإمكانيات المناسبة للتعرف على وجوده في الدم حتى يقل بذلك الإصابة بالتهاب الكبد الوبائي المرتبط بعمليات نقل الدم، وتتوفر الطرق المناسبة للتشخيص. والأهم أيضاً أن بالمعرفة الدقيقة للفيروس استطعنا تطوير علاجات مناسبه منها ما يمنع تكاثر الفيروس مثل Ribavirin عن طريق منع تصنيع مادته الوراثيه RNA. ومنها من يعمل على قتل واستهداف الفيروس بشكل مباشر. ومنها من يسهتدف خطوة تقطيع مركب البروتين الذي يتم تكوينة بعد خطوة الترجمة وبذلك يمنع تكوين الفيروس وانتشاره. وبالطبع هناك عقار Sovaldi المشهور الذي يمنع تكاثر الفيروس. ولا يزال التطور قائم باكتشاف عقارات جديدة أو بالدمج بين أكثر من عقار.

مصادر (نوبل في الطب 2020: ما هو فيروس التهاب الكبد الوبائي سي؟ وكيف تم اكتشافه؟):

WHO report

HCV life cycle-Hepatitis online

Us san diego health

nobel in medicine

NEJM

Lancet

Hepatology

Lancet

Science

Health line

نوبل في الطب وحل ألغاز العقل البشري

نوبل في الطب وحل ألغاز العقل البشري

مع بداية الألفية الجديدة احتفل المجتمع العلمي بتسليم جائزة نوبل لثلاثة علماء بدأوا في فك أُحجية طريقة عمل الجهاز العصبي عن طريق الفهم الكامل للآليات الجزيئية الموجودة في الكواليس، والمسؤولة عن عبقرية وإبداع عقولنا بالغة التعقيد؛ فاستطاعوا أن يقدموا فهماً أولياً لكيفية تحكم المخ في الحركة، وكيف تنشأ الأمراض النفسية كالفصام، وكذلك قدموا خطوة قوية في بداية طريقنا لفهم كيف نتعلم، وكيف تتحول المعلومات والأحداث من حولنا لذكريات نحتفظ بها لفترات طويلة قد تصل لعمرنا بأكمله.

انتقال المعلومات خلال الخلايا العصبية:

الوحدة الأساسية في الجهاز العصبي هي الخلية العصبية. وهي تتكون من جسم الخلية الذي يحتوي على النواة وما يحاطيها من سيتوبلازم يحتوي على عضيات الخلية المختلفة، فهو بمثابة العقل المسيطر على الخلية العصبية. في معظم الأحوال يستقبل جسم الخلية المعلومات عن طريق «الزوائد الشجيرية-Dendrites» ويرسلها للخلايا الأخرى عن طريق «المحور العصبي-Axon».

تركيب الخلية العصبية

في كل المراحل السابقة يكون تحرك المعلومات بطول الخلية على هيئة تغير في الحالة الكهربائية بها، وحتى نكون أكثر وضوحاً الخلية العصبية لا تختلف كثيرً عن الموصلات في الدائرة الكهربية؛ حيث في الموصلات تنتقل الإشارات عن طريق اختلاف الجهد وهذا ما يحدث في حالتنا تلك؛ حيث أن الأيونات على جانبي الغشاء الخلوي في الخلية العصبية مختلفة التركيز والشحنات بحيث يكون الخارج موجب والبيئة الداخلية للخلية تكون سالبة فيكون فرق الجهد من داخل الخلية لخارجها سالب، وعند وصول مؤثر عن طريق المستقبلات العصبية مثلاً تتحرك الأيونات خلال قنوات في الغشاء الخلوي حتى تنعكس الشحنة فيكون خارج الخلية سالب الشحنة وداخلها موجب، وبذلك تنعكس شحنة فرق الجهد من السالب للموجب. يحدث ذلك التغيير في جزء معين من الغشاء الخلوي الذي بدوره يؤثر على الجزء المجاور وينتشر التأثير تباعاً على طول الغشاء الخلوي، وهذا ما يسمي بالسيال العصبي. ولكن بعد أن انتقل ذلك التأثير على طول المحور العصبي ستأتي نهاية المحور، وهي عبارة عن مجموعة من التفريعات غالباً ما تكون متصلة بالزوائد الشجيرية لخلايا عصبية أخري لكن بالطبع يوجد بين نهايات المحور العصبي وبدايات الزوائد الشجيرية فراغ صغير جداً. يُسمى ذلك التركيب ككل باسم «التشابك العصبي- synapse» فعند وصول السيال العصبي لنهاية المحور العصبي تفتح قنوات الكالسيوم -الموجودة في التفرعات النهائية للمحور العصبي- حتى ينتقل لداخل الخلية محفزاً تحرر النواقل العصبية، وهي عبارة عن مركبات كيميائية تنتقل خلال الفراغ الموجود في التشابك العصبي حتى ترتبط بمستقبلات محددة موجودة على سطح الزوائد الشجيرية، لتقوم باستثراتها هي الأخرى وبداية سيال عصبي جديد.

«التشابك العصبي-synapse»

في الحقيقة التفاصيل التي تحدث في تلك المنطقة تم الكشف عنها من قبل ثلاثة علماء حازوا جائزة نوبل في الطب عام 2000 وهم «Arvid Carlsson-أرفيد كارلسون»، و«بول جرينجارد-Paul Greengard» و«إريك كاندل-Eric Kandel» سنستعرضها سوياً في السطور القادمة.

ماهية الناقل العصبي:

«Arvid Carlsson-أرفيد كارلسون»

هناك العديد من المركبات تقع تحت عنوان النواقل العصبية مثل السيروتونين، والأدرينالين، والأستيل كولين وغيرهم الكثير. لكن حتى خمسينيات القرن الماضي لم يكن الدوبامين معروف كناقل عصبي إنما كان يُعتقد أنه فقط أصل كيميائي لبعض النواقل العصبية الأخرى لكن أرفيد كارلسون غير كل ذلك عن طريق ابتكاره لطرق فحص جديدة استطاع عن طريقها رصد الدوبامين في بعض مناطق المخ وأهمها منطقة «النوى القاعدية-Basal Ganglia» وهي منطقة بالغة الأهمية في وظائف الحركة، وتشارك أيضاً في عمليات خاصة بالمشاعر والتصرفات. يوجد في تلك المنطقة ناقل عصبي يُسمى أستيل كولين في حالة توازن مع الدوبامين. وعند حدوث خلل في التوازن بينهم ينتج اضطرابات عنيفة في الحركة. فمثلا عند وجود نقص شديد في الدوبامين نتجية تآكل الخلايا المفرزة له ينتج عن ذلك مرض البركنسون أو الشلل الرعاش. فيعاني الشخص من حركات لا إرادية مع خشونة أو تصلب كبير في العضلات وتؤثر بالطبع على القدرة على الكلام وعلى جميع نواحي الحركة. ويتم علاج ذلك المرض بزيادة نسبة الدوبامين في المخ عن طريق دواء يُسمى L-dopa، وغيره من الطرق التي تخلق توازن بين الأستيل كولين والدوبامين في منطقة «النوى القاعدية-Basal Ganglia». استطاع كارلسون أيضاً أن يضع نظرية توضح دور الدوبامين في بعض الأمراض النفسية الأخرى مثل الشيزوفرينيا أو الفصام حيث قد تمتاز تلك الأمراض بنشاط زائد للدوبامين في بعض مناطق المخ فيعاني الشخص من هلاوس أفكار مغلوطة والخلط بين الواقع والخيال. فتعتمد الكثير من الأدوية على منع تأثير الدوبامين بإغلاق مستقبلاته في تلك المناطق، ولكن تذكر عزيزي القارئ أن التوازن بين الدوبامين والأستيل كولين مهم جداً في «النوى القاعدية-Basal Ganglia» للحفاظ على الحركة بشكلٍ مناسب، وعليه قد يعاني مريض الشيزوفرينيا الذي يتعاطى بعض الأدوية المضادة لحالته من خلل في الحركة قد يكون مشابه للخلل الحادث في مرض الشلل الرعاش عندما يكون الدوبامين أقل من الأستيل كولين في النوى القاعدية. وقد يعاني بعدها من حركات مشابهة لحركات الرقص أو أداء حركات غريبة بغير إرادته وهذا ما يُسمى Chorea عندما يزداد نشاط الدوبامين عن الأستيل كولين. كل ذلك وأكثر أبهرنا به الدكتور «Arvid Carlsson-أرفيد كارلسون» واستحق عليه نوبل في الطب عام 2000 بجدارة. لكن كيف يعمل الناقل العصبي على مستقبلات في الزوائد الشيجرية من الأساس؟ كانت إجابة ذلك السؤال من نصيب الدكتور «بول جرينجارد-Paul Greengard».

التفاعل على الضفة الأخرى:

«بول جرينجارد-Paul Greengard»

بعد أن تحرر الناقل العصبي من النهايات العصبية وسبح في الفراغ الموجود بين المحور العصبي والزوائد الشجيرية وصل أخيراً للضفة الأخرى حيث يوجد مستقبِله المخصص له ليتفاعل معه. وتم تقسيم التفاعل حسب السرعة إلى سريع، وبطيئ. ما يهمنا هنا هو التفاعل البطيء لتأثيراته الحيوية القوية حتى على النوع الآخر-السريع- ولأنه الطريقة التي يعمل بيها الدوبامين الذي اهتم به بول جرينجارد وفريقه؛ نظراً لدوره المهم في العديد من الأمراض كما وضحنا، وكذلك لأن كلا من خصائصه الكيميائية والأماكن التي يتواجد بها في المخ تجعلان ملاحظته أسهل كثيراً من النواقل العصبية الأخرى ذلك بحسب ما وضح جريناجرد في دراسته. ولفهم طريقة تفاعل النواقل العصبية تخيل معي مجموعة من الأطفال يلعبون لعبة يجري فيها أحدهم بعد أن يلمسه آخر الذي بدوره يلمس طفل آخر فيجري بعدما كان واقفاً ثابتاً بلا حراك، إذا نستطيع القول أن اللمسة هي بمثابة إشارة تنشيط ينقلها الأطفال بين بعضهم البعض لينتقلوا من حالة الثبات إلى الجري. في الحقيقة بروتينات أو إنزيمات الخلية لا يختلفون كثيراً عن هؤلاء الأطفال فبدل من أن تكون (اللمسة) إشارة النشاط ستؤدي (مجموعة الفوسافت) ذلك الدور حيث إضافة فوسفات إلى إنزيم معين قد يؤدي لتنشيطة وحركته أو إيقافه عن العمل. ففي البداية يسبح صديقنا الناقل العصبي عبر الفراغ المتواجد في تركيب التشابك العصبي ثم يتربط بالمستقبل الخاص به الذي بدوره يتسبب في تواجد برويتن آخر يسمى «الرسول الثاني-second messenger» في الحقيقة ذلك الرسول له عدة أنواع لكن أشرهم هو مركب يُسمى cAMP الذي بدوره يقوم بتنشيط مجموعة من الإنزيمات تُسمى اختصاراً PKA التي تقوم بإضافة مجموعة الفوسفات لبروتينات مختلفة في الخلية، تلك البروتينات مقسمه لأربعة أنواع: 1) قنوات الأيونات التي تتحكم بمرور الأيونات من خلالها فبالتالي تتحكم في النشاط الكهربي للغشاء الخلوي كما وضحنا في بداية المقال. 2) مضخات الأيونات التي تستعيد تركيز الأيونات أو الشحنات الطبيعي على جانبي الغشاء الخلوي؛ حيث لابد بعد عكس الشحنات السالبة والموجبة أثناء السيال العصبي أن تستعيد تلك الشحنات تركيزها ومكانها الطبيعي من جديد، وهذا ما تفعله مضخات الأيونات. 3) مستقبلات النواقل العصبية حيث أنها بذلك تؤثر على استقبال الخلية للمزيد من النواقل العصبية وبالتالي تؤثر على نشاطها العصبي. 4) تؤثر مجموعة ال PKA كذلك على مجموعة من البروتينات تتواصل مع الحمض النووي في النواة حتى تغير من ترجمة الجينات المختلفة لمختلف البروتينات تبعاً لنشاط الخلية العصبية، فبذلك تحدث مزامنة بين متطلبات الخلية وبين الجينات التي يتم ترجمتها. تلك هي الأربعة أنواع الأساسية لكن لا يمنع ذلك وجود غيرهم.

لم تكن تلك اكتشافات بول وفريقه الوحيدة فقد اكتشف مركباً غاية في الأهمية يُسمى اختصاراً DARPP-32 وهو بروتين مهم جداً في بعض الخلايا العصبية. يتم التأثير على نشاطه بنفس الطريقة التي تم إيضاحها مسبقاً حيث يتم تنشيطه بفعل بورتينات PKA فيقوم بدوره هو الآخر بالتأثير على الكثير من البروتينات مثل الأربع أقسام سابقين الذكر، فهو بمثابة قلب الحدث وإحدى المحطات الرئيسية للتحكم في نشاط الخلوى كرد فعل للارتبط بالناقل العصبي الدوبامين. والآن تعرفنا على اكتشافات ثلاثة من العلماء الحائزين على نوبل في الطب عام 2000 تبقى الثالث الذي صنع ثورة في عالم الذاكرة وتخزين المعلومات في المخ.

المخ ما هو إلا صلصال!

«إريك كاندل-Eric Kandel»

في حقيقة المرأ لا يموت المرأ بنفس المخ الذي وُلِد به فكل المتغيرات المحيطة بنا، أو بالأحرى المعلومات التي يكتسبها الفرد تغير من تركيب المخ. فمخ الإنسان ليس إلا صلصال يشكله بنفسه عن طريق ما يزرعه فيه من معلومات. وذلك عن طريق إحداث تغيرات في «التشابكات العصبية-Synapses». حيث تعرض الإنسان لمؤثر قوي ينتج عنه تغيرات موازية في المخ. حسب قوة وتكرار المؤثر حسب قوة التغيرات التي تصيب التشابكات العصبية وبدورها تتحكم في قوة احتفاظ الإنسان بذكرياته الجديدة. هذا ما اكتشفه الدكتور «إريك كاندل-Eric Kandel» عن طريق الاختبارات التي قام بها على أحد أنواع الرخويات البحرية يُسمى «سبيكة معرفة-sea slug» تتميز باحتوائها على عدد محدود من الخلايا العصبية؛ 2000 تقريباً وبالتالي أي تغيير سيكون ملحوظ. بتعريض ذلك الكائن لمختلف المؤثرات بمختلف الدرجات ينتج رد فعل مختلف في القوة، ويظل ذلك الرد ملازم لسبيكة البحر لفترة زمنية تختلف باختلاف تغيرات التشابك العصبي. حيث أن الذاكرة نوعان -كما وضح إريك- فهي إما قصيرة المدى أو طويلة المدى. لو كانت قصيرة فهي غالباً ما تنتج عن تحرير كمية كبيرة من النواقل العصبية دفعة واحدة ظلت تؤثر على الأعصاب المعنية لفترة من الزمن، وكذلك حدوث بعض التغيرات في تلك الأعصاب أدت لحساسية أكبر للنواقل العصبية، وفترة نشاط أكبر مثل زيادة كمية مركبات cAMP و PKA. ويمكن زيادة حجم التشابك العصبي، وكلما زاد تعقيد تلك التغيرات أدت لزيادة التمسك بالذاكرة حتى تتحول لطويلة المدى، بالطبع الوضع في العقل البشري أكثر تعقيداً بكثير لكنه يتبع نفس المبدأ حيث التغييرات التي تصيب مناطق التشابك العصبي بزيادة عددها، أو بزيادة حساسيتها للنواقل العصبية وفترة نشاطها وغيرها من الأمور التي تخدم الذاكرة والتعلم موجودة بين معظم الكائنات على اختلاف درجة التعقيد.

بذلك بدأت الألفية الجديدة بتكريم لإنجاز جديد في للبشرية في رحلة اكتشافها لنفسها.

مصادر (نوبل في الطب وحل ألغاز العقل البشري):

Nobel 2000

NCBI: Arvid Carlsson, and the story of dopamine

Science: The Neurobiology of Slow Synaptic Transmission ,Paul Greengard

المزيد:

زراعة الأعضاء من اللغز المستحيل لنوبل في الطب

زراعة الأعضاء من اللغز المستحيل لنوبل في الطب

زراعة الأعضاء من اللغز المستحيل لنوبل في الطب

لا يخفى على أحدٍ مدى أهمية عمليات نقل ورزاعة الأعضاء كحل أخير للكثير من الحالات الميؤوس منها التي عصف المرض بأحد أعضائها فلا حل سوا التخلص منه واستبداله. في الحقيقة الوصول للأعداد الضخمة من عمليات نقل الأعضاء التى يتم إجرائها اليوم، كان طريق غاية في الصعوبة ومحفوف بالمخاطر ومات في سبيله أعداد كبيرة من المرضى نتيجة للتجارب الغير موفقة. لكن بدايةً من مننتصف القرن الماضي بدأت الأمور في التغير، وفرصة نجاح تلك العمليات أصبحت في تزايد مستمر، وقد جذب البحث في ذلك المجال انتباه جائزة نوبل أكثر من مرة كان من أعظمهم نوبل 1990 من نصيب كلاً من «جوزيف موراي-Joseph Murray» و«دونال توماس-Donnall Thomas»؛ فقد أحدث كلاً منهما ثورة في عالم الطب ونقل الأعضاء. قبل الحديث عنهما وجب التعرف على مزيد من التفاصيل حول عملية نقل الأعضاء.

زراعة الأعضاء على المستوى الجزيئي:

كل فرد في الدولة يمتلك ما يثبت هويته المتمثل في بطاقة أو رخصة قيادة، وفي أثناء مرورك بنقطة تفتيش مثلاً تتفحصها الشرطة حتى تسمح لك بالمرور دون غرامات أو عقوبات. الأمر مشابه لخلايا جسمك بالضبط؛ فخلايا الجسم تمتلك على سطحها مركبات معينة يتعرف عليها جهاز المناعة حتى لا يقوم بمهاجمة خلايا الجسم. تلك المركبات تختلف بشكل كبير للغاية من شخصٍ لآخر؛ حيث أن الجين المسؤول عن ذلك البروتين يعبر عن أحماض أمينية متباينه من فردٍ لآخر. ويطلق على ذلك المركب اسم «MHC». في حالة نقل الأعضاء بين شخصين مختلفين جينياً تتعرف خلايا المناعة، والأجسام المضادة على تلك المركبات فتجدها غريبة عن الجسم، فتبدأ بالهجوم على العضو بقوة بشتى الطرق مثل قطع وصول الدم إليه، أو مواجهة الخلايا بشكلٍ مباشر. وبعد فترة يتسبب جهاز المناعة في تليف العضو الجديد وموته، تختلف تلك الفترة بحسب نشاط جهاز المناعة للشخص المستقبل للعضو ومدى الاختلاف الجيني بينه وبين المتبرع؛ فكلما اقتربا من بعضهما جينياً كلما كان الوضع أفضل، ويقل نشاط الجهاز المناعي حتى يصل للتسامح التام مع العضو الجديد كما هو الحال في التوأم المتطابق. فلو أردنا حل تلك المشكلة سنهتم بأمرين: الأول أن يكون كلاً من المتبرع والمستقبل متقاربين جينياً بالتالي متقاربين في تركيب مركب «MHC»، الثاني أن يتم تثبيط المناعة حتى لا ترفض العضو الجديد.

اجتهد عدد كبير من الأطباء لحل تلك المتطلبات بدايةً من «الكسيس كاريل-Alexis Karel» الحائز على نوبل في الطب عام 1912؛ نتجية لاسهاماته الكبيرة في وضع طُرق لتخييط الأوعية الدموية الأمر البالغ الأهمية في عالم الجراحة، وكذلك ساهم في معرفة العديد من المبادئ الهامة الخاصة بعملية نقل الأعضاء؛ فقد اكتشف وجود قوة رد فعل تحارب الأعضاء الجديدة وتتسبب في موتها، وأطلق عليها اسم «القوة الحيوية-biological force». تلك القوة التي عمل كلاً من جوزيف موراي ودونال توماس على التغلب عليها.

«الكسيس كاريل-Alexis Karel»

رحلة الخمسة وعشرون عام في زراعة الكلية:

من عام 1951 حتى عام 1976، قام جوزيف موراي وفريقه بدراسة زراعة الكلية حيث قاموا بزراعة كلى ل589 مريض ترواحت أعمارهم من 8 سنوات إلى 82 سنة. كانت أكثرهم نجاحاً ما تمت على سبع أزواج من التوائم المتماثلة حيث كانت صاحبة أكبر معدل نجاة فمنهم من عاش عشرات السنين، وأنجب أطفالاً. مما يدل أن رفض الأعضاء يكون أقل ما يمكن بين التوائم نتيجة لتقاربهم الجيني. وقد درس موراي الطرق المختلفة لتثبيط المناعة حتى لا تتسبب في قتل العضو. ذلك عن طريق تعريض المرضى لكمية كبيرة من أشعة X، ولكن ذلك الأسلوب لم يكن نجاحه كافٍ، فتعاون مع فريق من الباحثين لمعرفة دواء فعال مثبط للمناعة، وذلك من خلال تجاربهم على الكلاب. بناءاً عليه توصولوا لدواء «6-ميركابتوبورين-6-mercaptopurine» وهو دواء يستخدم في محاربة السرطان؛ لقدرته على تعطيل تصنيع بعض القواعد النيتروجينية التي تدخل في تركيب الحمض النووي للخلية بشكلٍ أساسي. أما في حالة تثبيط المناعة فذلك الدواء يسبب قتل «الخلايا المناعية التائية-T cells» -خلايا أساسية للغاية في رد الفعل المناعي- وقد تم تطوير نوع أقل سُمية منه في تلك الأثناء يسمى «الآزوثيوبرين-azathioprine» الذي كان فعال بشكلٍ كبير عند استخدامه في حالة نقل الأعضاء. ويصادف في تلك الفترة تطوير عقار الكورتيزون المثبط للمناعة، والذي تفائل به موراي وفريقه لاتسخدامه في نقل الأعضاء. وقد كشفت أبحاثه أيضاً على العديد من المشاكل المترتبة على نقل الأعضاء، وكذلك العديد من التحذيرات يستنير بها المتخصصون، حيث أنه نتجية لتثبيط المناعة ستزداد في المقابل فرصة الإصابة بالسرطان. هذا ما حدث في أكثر من حالة خاصةً إذا كان مصدر العضو شخص ميت بالسرطان حتى لو لم ينتقل السرطان إلى ذلك العضو، لذلك يظل المصدر المصاب بالسرطان غير مفضل على الإطلاق. وكذلك تزداد نسبة إصابة الشخص بالعدوى فتتحول بعض الفطريات والفيروسات والبكتيريا من حالة الضعف في الأشخاص الطبيعين إلى حالة أكثر قوة بكثير في حالة نقل الأعضاء.

دونالد توماس وزراعة نخاع العظم:

قام دونالد توماس بعدد من عمليات زراعة نخاع العظام -العضو المسؤوول عن تصنيع جميع أنواع خلايا الدم- وكان الكثير منها ناجح، ولكن الأهم أنه ترك منهجاً كاملاً للمتخصصين في كيفية تجهيز مستقبلين نخاع العظام عن طريق الإشعاع، أوباستخدام الأدوية المناسبة وكيفية التعامل معهم طبياً بعد زراعة نخاع العظام. وكانت المشكلة الكبرى والمميزة في زراعة نخاع العظام هي إمكانية مهاجمة خلايا المستقبل من قِبل خلايا نخاع العظام، يحدث ذلك في حالة احتواء نخاع العظام الذي تم زراعته على خلايا مناعية ناضجة خاصةً من نوع الخلايا التائية، وتكون مناعة الشخص المتسقبِل لنخاع العظام ضعيفة بحيث لا يستطيع قتل تلك الخلايا، فعند تعرض الخلايا التائية للمتبرع لخلايا المضيف سيتم تنشيطها وزيادة عددها للقضاء على خلايا المُضيف وإصابته بالمرض. وقد وضع توماس في أبحاثه خريطة لتشخيص تلك الحالة، وكيفية تفاديها باستخدام عقار «methotrexate-ميثوتريكسات» وهو عقار غالباً ما يتم استخدامه في مكافحة السرطان حيث أنه يمنع عمل الكثير من الإنزيمات المسؤولة عن تصنيع الحمض النووي. بذلك يمنع انقسام الخلايا الأمر المهم لتقدم السرطان كما هو مهم لزيادة عدد الخلايا المناعية أثناء الالتهابات بذلك هو سبيل للتعامل مع الحالة الماثلة أمامنا. وفي السنين الأخيرة يعتمد تفادي ذلك المرض على القضاء على الخلايا التائية في نخاع العظام باستخدام الأجسام المضادة.

وبذلك وعلى مدار عقودٍ طويلة تم تطوير طُرق قوية وفعالة لنقل الأعضاء والحفاظ عليها سليمة حتى أصبحت منتشرة في أرجاء المعمورة.

مصادر(زراعة الأعضاء من اللغز المستحيل لنوبل في الطب):

Nobel 1912

Nobel 1990

NCBI

azathioprine drug bank

the new England Journal of medicine

Methotrexate drug bank

NCBI graft versus host disease

أقرأ المزيد:

علاج السرطان بالمناعة، من الحُلم إلى نوبل في الطب

علاج السرطان بالمناعة، من الحُلم إلى نوبل في الطب

علاج السرطان بالمناعة، من الحُلم إلى نوبل في الطب

لطالما كان السرطان في عصرنا الحالي من أكثر الأمراض فتكاً بصاحبها بما يعانيه من أعراضٍ المزعجة والتي قد تسبب موته، والأسوأ ما يعانيه صاحبه في رحلته العلاجية المحفوفة بالمخاطر. وبوصول الأعداد المصابة بذلك المرض المميت إلى 18 مليون في عام 2018 من بينهم 9.6 مليون قتيل، أصبح البحث عن علاجات جديدة أمر بالغ الأهمية لا يمكن التساهل فيه. وقد لفتت المناعة نظر الباحثين كمفتاح محتمل للغز العلاج في العقود الأخيرة إلا أن ما بين أيدينا اليوم استطاع أن يبهر المجتمع العلمي لدرجة حصوله على جائزة نوبل عام 2018.

تفاعل المناعة مع الأجسام الغريبة:

هناك مراحل عديدة لتفاعل الجهاز المناعي مع الجسم الغريب وعند قولنا الجسم الغريب نقصد أي جسم قادر على استثارة جهاز المناعة حتى يتخلص منه قبل أن يضر المضيف، وتتم الاستثارة عن طريق تعرف المناعة على بعض المركبات المميزة لذلك الجسم الغريب تسمى تلك المركبات بالمتسضدات أو الأنتيجن. ونحن نستطيع القول أن الكثير من البكتيريا والفيروسات أجسام غريبة مسببة للمرض، وكذلك الخلايا السرطانية حيث تمتاز تلك الخلايا بعدد ضخم من الطفرات الجينية التي قد تنعكس على سطحها الخارجي، فيكون مستفز للجهاز المناعي. وقد يسبب انقسامها الزائد عن الحد الغير منظم إلى وجود مركبات حُرة مثل الأحماض النووية تتعرف عليها المناعة.

لكن كيف تهاجم المناعة؟ في حالة الخلايا السرطانية تتولى بعض الخلايا الهجوم عليها أو تحفيز خلايا مناعية أخرى للهجوم عليها. وتُعتبر أهم خلية في ذلك السياق هي الخلايا التائية التي تنقسم بدورها إلى «خلايا تائية مساعدة- T helper cells» و «خلايا تائية قاتلة-T cytotoxic cells». تمر الاستجابة المناعية بعدة مراحل؛ في البداية تلتهم بعض الخلايا المناعية البلعمية الخلايا السرطانية، وتحصل على الأنتيجن الذي من شأنه استفزاز الجهاز المناعي، لمهاجمة الخلايا السرطانية. تقوم الخلايا البلعمية بعرض تلك المركبات على سطحها حتى تتعرف عليها الخلايا التائية المساعدة وفي بعض الأحيان الخلايا التائية القاتلة أيضاً. حتى تنشط الخلايا التائية وتدخل في معركة قوية ضد السرطان، وذلك بإفراز بعض المركبات المناعية من الخلايا التائية المساعدة التي تحفز المزيد من الخلايا البلعمية؛ لأداء وظيفتها بقوة، وكذلك تحفز الخلايا التائية القاتلة التي تقتل الخلايا الغريبة بطرق مختلفة كإفراز السموم. وتقوم الخلايا التائية المساعدة بتحفيز خلايا مناعية أخرى مختلفة الأنواع. ولكن هل يتطلب تحفيز الخلايا التائية مجرد التعرف على الأنتيجن؟ في الحقيقة لا؛ فيتطلب أيضا وجود بعض الإشارات المحفزة لمستقبلات على سطح الخلايا التائية بفعل ارتباطها ببعض المركبات الموجودة على سطح الخلايا البلعمية، دعني أضرب لك مثالاً لتوصيل الفكرة:

بروتين B7: يتواجد على سطح بعض أنواع الخلايا البلعمية بروتين يُسمى B7 يرتبط ببروتين آخر يتواجد على سطح الخلية التائية المُراد تحفيزها يُسمى CD28، يساهم ذلك الارتباط في تنشيط الخلية التائية. هناك أكثر من محفز آخر غير B7 إلا أن هذا أكثر ما يهمنا في حديثنا اليوم. تلك الارتباطات ضرورية جدا لنشاط الخلايا التائية وغيابها يعني بالضرورة عدم تنشيط الخلايا التائية.

عزيزي القارئ، هل يمكنك تخيل وجود مركبة سباق بلا فرامل؟ بالطبع لا؛ فالأمر عندما يزيد عن الحد بالضرورة سيؤدي لضرر صاحبه إذا هل يمكن ترك المناعة بلا فرامل؟ بالطبع لا، فلو ظل رد الفعل المناعي زائدا عن الحد في الأوضاع الطبيعية سيؤدي ذلك بالضرورة للإضرار بالجسم، إذا للمناعة فرامل.

ما هي فرامل رد الفعل المناعي؟

هناك العديد من الأمور التي تثبط رد الفعل المناعي بعد فترة من نشاطه؛ من أهمها أحد أنواع الخلايا التائية التي تسمى «الخلايا التائية المنظمة-regulatory T cells»، المفرزة لبعض المواد المثبطة للمناعة عن طريق الحد من النشاط الخلايا التائية الأخرى. بالإضفة لذلك يوجد بعض البروتينات على سطح الخلايا التائية القاتلة خاصةً، وأحياناً الخلايا التائية المساعدة من شأنها الحد من نشاط تلك الخلايا. البروتينات المعنية حديثة الاكتشاف؛ فقد تم اكتشافها في أواخر القرن الماضي ومنهم:

  1. بروتين CTLA-4: يمنع ذلك البروتين التفاعل بين B7 وCD28 بالطبع كما ذكرنا من قبل تلك أحد أهم التفاعلات التي تصب في صالح تنشيط الخلايا التائية، وبغيابها يغيب نشاط تلك الخلايا كُلياً.
  2. بروتين PD-1: يتواجد ذلك البروتين أيضاً على سطح الخلايا التائية المساعدة والقاتلة كذلك، ومن شأنها أن تتسبب في إبطال نشاط تلك الخلايا وتُسبب موتها.

تلك الفرامل غاية في الأهمية لكبح نشاط الخلايا المناعية الذي قد يؤدي إلى الإضرار بالجسم نفسه، ولكن ماذا لو كنا نحتاج لذلك النشاط في بعض المواقف؟ دعنا نستعرض الصورة سوياً: الجسم لايزال يُعاني من السرطان حيث تتواجد تلك الخلايا السرطانية في نفس الوقت يقل نشاط الخلايا التائية بفعل تلك البروتينات، إذا كيف سيموت السرطان؟ بالطبع لن يموت لأن النشاط المناعي بدأ يقل في الوقت الذي يزداد فيه النشاط السرطاني. الأمر عزيزي القارئ أشبه بالضغط على فرامل مركبة السباق قبل بلوغ خط النهاية بكثير هل ستفوز حينها؟ بلا محالة لا. إذاً فما الحل؟

كيف نتحكم بالفرامل؟

كانت الإجابة على يد كلاً من الأمريكي «جيمس أليسون-james allison»، واليباني «تاسوكو هونجو-Tasuku Honjo» الحائزين على جائزة نوبل بالتقاسم عام 2018. فقد استطاع كلاً منهما التحكم بالفرامل لصالح القضاء على السرطان، وقد نجحا في ذلك نجاحاً مستحقاً لجائزة نوبل، فماذا فعلا؟

الأمريكي «جيمس أليسون-james allison»، واليباني «تاسوكو هونجو-Tasuku Honjo»

1. التحكم ببروتين CTLA-4:

قام جيمس أليسون وفريقه بعمل جسم مضاد لذلك البروتين قادر على منع نشاطه، واختبروا كفاءته على الفئران. قاموا بحقن الفئران ببعض الخلايا السرطانية، وعالجوا بعضهم بمضاد CTLA-4 والبعض الآخر لم يُعَالج تماماً، أو تم علاجه بمضاد CD28. فلاحظوا أن المجموعة المُعَالجة بمضاد CTLA-4 أظهرت تحسناً قوياً بالمقارنة مع باقي المجوعات. ثم تم اختبار الفئران الناجية بحقنهم بالخلايا السرطانية مرةً أخرى، فأظهرت الفئران التي تم علاجها في التجربة السابقة بمضاد CTLA-4 حماية قوية ضد السرطان مقارنة بباقي المجموعات. وبعد ذلك تم اختبار إذا كان رد الفعل ذلك ناجم عن تقديم مضادات CTLA-4 باكراً بعد حقن الخلايا السرطانية أم لا؟ فتم حقن فئران بالخلايا السرطان وتعريض أحد المجموعات لمضادات CTLA-4 في نفس اليوم، وتعريض المجموعة الثانية للمضادات بعدها بسبعة أيام. كانت النتيجة أن كلا المجموعتين كان لهم رد فعل قوي ضد السرطان بل أن تأخر العلاج قد يكون له رد فعل أقوى. بعد نجاح تلك الدراسة وتقديمها لنتائج جيدة للغاية تم تجربة ذلك النوع من العلاج على مرضى سرطان الجلد من نوع «ميلانوما-Melanoma»، وهو نوع خطير من سرطان الجلد إلا أن تقديم ذلك النوع من العلاج كان له أثر إيجابي ملحوظ.

2. التحكم ببروتين PD-1:

أظهرت دراسة منشورة سنة 2004-2005 -شارك فيها «تاسوكو هونجو-Tasuku Honjo»- أن التحكم ببروتين PD-1 باستخدام أجسام مضاده له يُعد طريقة واعدة بقوة في علاج السرطانات التي تنتشر عبر الدم، وأن ذلك النوع من العلاج قد يكون أقوى حتى من مضادات CTLA-4؛ فهو أكثر قدرة منه على محاربة السرطان المنتشر في الدم فقد يكون علاج قوي مستقل بذاته على عكس العلاج بمضادات CTLA-4 المُحتاج إلى علاجات مساندة له. ويعتمد ذلك العلاج على إطالة فترة نشاط الخلايا التائية، وزيادة أعداد الخلايا المناعية النشطة، فيعطي فرصة أكبر لقتل السرطان كما أن السرطانات التي تنتقل في أنحاء الجسم عن طريق الدم قد يسهل القضاء عليها باستخدام الخلايا المناعية؛ لتوافرها في الدم وقتها. وقد أظهرت بعض الدراسات الأخرى أن تقديم هذين النوعين من العلاج سويا قد يكون أقوى من تقديم أحدهم فقط.

في الحقيقة ذلك النوع عن العلاجات ليس بالشهرة الواسعة حتى الآن، ولايزال يحتاج للعديد من الدراسات لتقصي الأضرار الجانبية التي قد تنتج عنه؛ فزيادة النشاط المناعي بشكل مبالغ فيه قد ينجم عنه تدمير للأنسجة الطبيعية بالغة الأهمية. فلذلك ما زال ميدان البحث واسع للوصول للحقيقة الكاملة إلا أن الآمال عالية جداً، وخصوصا بعد جائزة نوبل في الطب عام 2018.

مصادر(علاج السرطان بالمناعة، من الحُلم إلى نوبل في الطب):

Cancer research UK

Nobel prize 2018

Oxford academia

Science

أقرأ المزيد:

الملاريا من السحر والخرافات إلى نوبل في الطب

الملاريا من السحر والخرافات إلى نوبل في الطب

الملاريا من السحر والخرافات إلى نوبل في الطب

عند سماعك لكلمة ملاريا ستقول: إن مرض الملاريا هو مرض يسببه طفيل يُسمى «بلازميديوم-Plasmodium» ينتقل عن طريق أنثى بعوضة الأنوفليس. تُعتبر تلك المعلومات بديهية بالنسبة للطفل في سنين دراسته الأولى لكنها أخذت آلاف السنين حتى تكون معروفة، وقد سبب ذلك التأخر في المعرفة إلى فقدان الملايين من الأرواح في كل حضارة ومكان تقريباً كما سنرى سوياً.

ولكن قبل البدأ في معرفة تفاصيل مرض الملاريا وجب معرفة بعض الأساسيات عن الأمراض التي تسببها الطفيليات؛ حيث يمر الطفيل بدورة حياة داخل ضيفه/عائله تهدف إلى التكاثر وزيادة أعداده، وفي كل مرحلة من تلك الدورة يكون للطفيل شكل مميز يتناسب مع وظيفته في تلك المرحلة، وأيضاً بالظروف المحيطة به. وترتبط كل مرحلة من دورة حياة الطفيل بأعراض مميزة لها تظهر على العائل. تنطبق كل تلك الأساسيات على مرض الملاريا الذي سنتعرف عليه تاريخياً وطبياً في السطور القادمة.

تأثير الملاريا على ملامح التاريخ:

يُعتبر مرض الملاريا مرض بالغ القِدم فقد تواجد في أغلب الحضرات القديمة وألفوا عنه عدة خرافات وأساطير. في الحضارة الفرعونية تم الكشف عن بعض «المركبات المميزة-Antigens» للطفيل المسبب للمرض في بعض المومياوات. وأطلق عليه الهنود قديماً لقب ملك الأمراض، وأما في الصين فقد كان يُعتقد بوجود علاقة بين أعراض الملاريا مثل تضخم الكبد والطحال بالإضافة لارتفاع درجة الحرارة والصداع والعرق الغزير مع ثلاثة شياطين أحدهم يمسك بدلو ممتلئ بالماء، والثاني يحمل مطرقة، والأخير يحمل عصى. وقد سبب تعداد السكان المرتفع في الهند والصين لتوفر ظروف مناسبة لتواجد المرض بشكلً كبير. وقد تحدث الكثير من فلاسفة اليونان عنه مثل أرسطو، وأفلاطون، وأبقراط وغيرهم. ويُعد انتقال المرض من إفريقيا إلى روما أهمية تاريخية بالغة الخطورة؛ حيث طبقاً لعدد كبير من المؤرخين ذلك المرض ساهم بقوة في سقوط روما حيث انتشرت الملاريا إلى أعالي النيل وانتقلت إلى اليونان ثم روما عن طريق الجنود والتجار وانتشرت في جميع أنحاء أوروربا القديمة لفترة طويلة وتسبب زيادة السكان في روما في ازدهار وانتشار المرض بينهم وساهم في تدمير المزارع حول مدينة روما.

ولم تسلم الحضارات الحديثة من خطر ذلك الوباء القاتل فقد انتشر مع العبيد الأفارقة إلى أوروبا، والجدير بالذكر أن الملاريا لم تكن مؤذية في نسبة ليست بقليلة من هؤلاء الأفارقة؛ حيث أن بعض الأمراض الوراثية التي تصيب كُرات الدم الحمراء مثل «فقر الدم المنجلي- sickle cell anemia» (مرض يحدث نتيجةً لعيب في تصنيع الهيموجلوبين يتسبب في جعل كرات الدم الحراء منجلية الشكل)، أو نقص إنزيم G6PD/الفوال (إنزيم يسبب تخلص كرات الدم الحمراء من المواد المؤكسدة) منتشرة بينهم وتعد واقية من مرض الملاريا. إلا أن تلك الأمراض أقل انتشاراً بين القوقازيين في أمريكا وأوروبا فلذلك كان يمثل الملاريا خطراً أكبر عليهم، وانتشر المرض في المناطق المدارية من أمريكا اللاتينية، ووادي المسيسيبي في أمريكا الشمالية، وكذلك في بريطينيا وكان ذلك بحلول عام 1750. وزاد خطر الملاريا في الولايات المتحدة الأمريكية مع زيادة المهاجرين إليها خاصةً من أوروبا، وأدى إلى زيادة الضعف بين صفوص الجنود في أثناء الحرب الأهلية. وفي الحرب العالمية الثانية كان يمثل خطر كبير على جنود الولايات المتحدة الأمريكية في حملة المحيط الهادئ؛ حيث أصاب الملاريا عدد من الجنود أكبر مما أصابه الأعداء نفسهم.

في حقيقة الأمر مرض الملاريا لم يترك حضارة أو قارة تقريباً دون أن يؤثر عليها بشدة، ولكن كانت أفريقيا أكثر القارات المفضلة بالنسبة له وكما ذكرنا سابقاً أن بعض أمراض الدم الوراثية الموجودة بين الأفارقة تُشكل حمايةً لهم من الملاريا، ولكن ذلك لم يتوفر في جنود الحملات الأوروبية التي فشلت أعداد كبيرة منها في الاستيلاء على أجزاء من وسط وغرب أفريقيا حتى سُميت تلك المناطق بمقبرة الرجل الأبيض.

الملاريا وجائزة نوبل في الطب:

كانت المعلومات المتاحة عن أسباب مرض الملايا بسيطة جداً والمعتقد السائد حينها أنها مرتبطة بالمستنقعات وتنتقل بالهواء!! لكن ذلك كان على وشك التغير على يد التطورات الضخمة التي كانت تحدث وقتها في طب المناطق الحارة الملازم لاتساع رقعة الاحتلال البريطاني والفرنسي. كان الطبيب الفرنسي «تشارلز لافيران-Charles Laveran» من المشاريكن في ذلك التغير؛ فقد افترض أن مرض الملاريا يحدث بسبب ميكروب يدخل جسم الإنسان ويتكاثر فيه ويسبب له الضرر، فبدأ بفحص عينات دم المصابين في الجزائر. فوجد كائن شبه شفاف على شكل هلال مع نقطة ملونة. أكدت فحوصات مشابهة من باحثين آخرين نفس النتائج، وقام هو أيضاً بنفس التجربة أكثر من مرة وكانت نفس النتائج. كان ذلك الاكتشاف في آواخر القرن التاسع عشر واكتشف بعدها العديد من الطفيليات في أمراض المناطق الحارة ونتيجة لتلك الاكتشافات وخاصةً اكتشافاته في الملاريا حاز على جائزة نوبل في الطب وذلك عام 1907.

«تشارلز لافيران-Charles Laveran»

في أثناء تلك الفترة من آواخر القرن التاسع عشر وبعد نتائج لافيران بدأ «رونالد روس-Ronald Ross» يقوم بدراساته على الملاريا بناءاً على تلك النتائج وبناءاً على فرضية باتريك منسون -الأب الروحي لطب المناطق الحارة- حيث كان منسون يفترض وجود طفيل الملاريا في نوع من البعوض ينقله من مكان لآخر، وقد وضح رونالد روس أسباب تبنيه لتلك الفرضية في ورقة بحثية له حيث:

  1. من وجهة نظر المعلومات المتوفرة عن الطفيليات وقتها، وبناءاً على النتائج التي قدمها الدكتور لافيريان؛ فالملاريا يحدث نتيجة طفيل يغزو كرات الدم الحمراء ويتكاثر بها، ومن الملاحظ سابقاً اربتاط مرض الملاريا بالهواء. فهل يُعقل أن ينتقل الطفيل في الهواء بلا حامل؟ فمن منطلق أن الطفيل لا يتواجد إلا في جسمٍ يتغذى عليه إذاً فهو لا ينتقل هكذا في الفراغ دون عائل يوفر له الغذاء.
  2. عند فحص عينة دم سنجد بعض الأشكال الهلالية في بعض أنواع طفيل البلازميديوم غير معلوم دورها بوضوح، ولكن يتضح تلك الأشكال الهلالية تُعطي أشكال أخرى بعد أخذ العينة بفترة، تتميز الأخيرة بقدرتها القوية على الحركة بفعل «الأسواط-flagella» الجدير بالذكر أن تلك الأشكال ذات الأسواط لا تتواجد في دم الإنسان، إذا لماذا ظهرت بعد سحب عينة الدم بفترة؟! إذا لابد أنها تستكمل مهمتها في التكاثر في عائل آخر خارج الإنسان.

رأى رونالد روس أن اتباع نظرية منسون سيقوده في النهاية لنتجية مُرضية وهذا ما حدث. فبعد فترة طويلة جداً من البحث والتجارب استطاع أخيراً رؤية الطفيل في معدة بعوضة الأنوفليس بعد أن عرضها للمصابين بالمرض في الهند، ولاحظ أن كمية الطفيل تزيد في البعوضة كلما تأخر في التشريح مما يعني حدوث تغير في العدد بجانب التغير في شكل الطفيل. وقد استكمل دراساته في مدينة «كالكوتا-Kolkata» على العصافير والغربان حيث لاحظ وجود الطفيل في الغدد اللعابية للبعوض الذي تغذت من دم من العصافير المصابة فعرض عصافير أخرى سليمة لذلك البعوض وبالفعل أُصيب بالملاريا. وبذلك استنتج رونالد روس أن أنثى بعوض الأنوفلس تمتص أطوار من الطفيل أثناء تغذيها على دم المصابين فيتكاثر الطفيل بها، وينتقل عن طريق لُعاب البعوضة للإنسان فيصاب بالملاريا. ونتيجة لتلك الدراسات المضنية حصل على جائزة نوبل في الطب عام 1902.

دورة حياة الملاريا:

ينتقل الطفيل من لُعاب البعوضة في أثناء تغذيها على دم الشخص، فيتوجه إلى الكبد عن طريق الدم وهناك يتكاثر في خلايا الكبد بكثرة لفترة معينة ثم ينتشر في الدم، حيث يغزو كرات الدم الحمراء ويزداد في العدد بشدة حتى تنفجر كرة الدم الحمراء ويتحرر منها كمية كبيرة جدا من الطفيل وكذلك بعض السموم، فتقوم المجوعة المتحررة بإعادة الكرة مرة تلو أخرى وغزو المزيد من كرات الدم الحمراء، إلا أن البعض منهم يتحول إلى «خلايا مشيجية-gametocytes» التي قد تكون هلايلة الشكل في بعض أنواع البلازميديوم. تأتي أنثي بعوضة الأنوفليس للغذاء فتمتص مع الدم تلك الخلايا المشيجية التي بدورها تُعطي «الأمشاج-gametes» المؤنثة والمذكرة في تجويف معدة البعوضة (توازي الحيوانات المنوية والبيوضات في الحيونات مع اختلاف الشكل) ثم تحدث عملية الإخصاب بين تلك الأمشاج فيتكون طفيل فرد جديد، ينتقل من تجويف الجهاز الهضمي للبعوضة لجداره ثم إلى الغدد الللعابية استعداداً للانتقال لإنسان جديد.

دورة حياة الملاريا

أعراض مرض الملاريا:

يمر الشخص في بداية المرض بالصداع وارتفاع درج الحرار وآلام في الجسم، ثم تبدأ الأعراض المميزة للمرض بالظهور تدريجياً حيث نتجية انفجار كرات الدم الحمراء التي تحتوي على الطفيل يتحرر منها أعداد ضخمة من الطفيل والسموم، يسبب ذلك مرور الشخص المصاب بثلاثة مراحل من الأعراض: تبدأ بالشعور بالبرد والرعشة الشديدة، ثم ارتفاع شديد في درجة الحرارة والشعور بالغثيان والقيئ، ثم المرحلة الأخيرة حيث العرق الشديد والشعور بالإعياء. تتكرر تلك الأعراض بشكل مستمر كل ثلاثة إلى أربعة أيام. يعاني الشخص المصاب من الأنيميا نتيجة لتكسير كرات الدم الحمراء، ويحدث تضخم شديد في الكبد والطحال. وقد يعاني الإنسان من بعض المضاعفات في الكثير من الأعضاء الحيوية مثل المخ والقلب والرئتين وغيرهم.

العلاج:

تحكى الأسطورة أن كونتيسة من «Chinchon- تشينتشون» -مدينة أسبانية- متزوجة من حاكم في دولة بيرو أصابها مرض الملاريا تم عالجها أحد الكهنة باستخدام لحاء أحد انواع الأشجار، فأخذه الناس كعلاج وسُميت الشجرة باسم «Cinchona-سيكونا أو كينا»، تيمماً باسم مدينة الكونتيسة ولكن مع تخفيف الاسم. تلك الشجر يُستخرج منها نوع من الأدوية يسمى «Quinine-كينين» الذي ظل العلاج الأساسي للملاريا حتى الحرب العالمية الأولى. يتعبر ذلك الدواء سام لطفيل البلازميديوم حيث يمنعه من التغذي على الهيموجلوبين مما يسبب موته. وهو مسؤول عن أعراض جانبية شديدة مثل اضطراب في الرؤية والسمع، والإسهال، وبعض المشاكل العصبية مثل التشنجات وفقدان الوعي وغيره من الأعراض؛ لذلك يُعد دواء كثير الأعراض الجانبية وقل استخدامه فيما بعد. حيث في الحرب العالمية الأولى استولى الحلفاء على الجزير الاندونيسية «Java-جافا» التي كانت تنتج ما يزيد عن 80% من الكينين مما أدى إلى نقص شديد في العلاج عند ألمانيا. فقام العلماء بعدة أبحاث واختبارات للوصول للعلاج المناسب الذي ظهر بعد عدة سنوات وكان هو «Chloroquine-الكلوروكين» الذي يعمل بطريقة مشابهة تقريباً للكينين حيث يسبب تعطيل هضم الطفيل للهيموجلوبين، ولكنه أقل في الأعراض الجانبية، وأكثر فاعلية. ويستخدم بحذر نتيجة لتأثيراته السلبية على الجهاز الدوري. وأدى انتشار مقاومة الملاريا لمثل تلك الأدوية فيما بعد إلى انتشار أدوية أخرى قوية مثل «Sulfadoxine-Pyrimethamine» الذي يمنع تصنيع «folic acid-حمض الفوليك» الضروري للكثير من التفاعلات الخاصة بالحمض النووي DNA وغيرها. بالإضافة لأدوية أخرى فما زالت التطورات مستمرة.

مصادر (الملاريا من السحر والخرافات إلى نوبل في الطب):

ncbi

Nobel prize

Nobel prize

Ncbi

CDC

Health line

Drugs.com

Drugs.com

Exit mobile version