كيف تؤدي البيئة إلى إصابتنا بالأمراض؟

ليست جيناتنا وحدها المسؤولة عن الأمراض التي تصيبنا. فالتعديلات فوق الجينية تساهم بشكل كبير في آلية حصول هذه الأمراض متأثرة بشدة بالبيئة المحيطة والعادات التغذوية والسلوكية التي نتبعها. مما يؤدي إلى تباين شديد في أسبابها ونوعية عالية في آلياتها. فما هي الأمراض التي تساهم البيئة في خلقها؟ وكيف يتآثر الإبيجينوم مع البيئة لإحداثها؟

المجاعة الهولندية

في الحرب العالمية الثانية وتحديداً في شهر تشرين الثاني من عام 1944، قطع النازيون الإمدادات الغذائية عن المناطق الغربية من هولندا انتقاماً لدعم الحكومة الهولندية آنذاك للحلفاء. وقد امتد هذا الحصار حتى شهر أيار من عام 1945. توفي على إثره حوالي 000 200 شخص، وتضرر ما يقراب ال4.5 مليون. بالإضافة إلى الحصار عانى السكان حينها من شتاء قاس ومحصول سيء وأربع سنوات متواصلة من الحرب.

العوامل المساعدة على الدراسة

درس العلماء على مدى 25 عاماً النتائج طويلة الأمد المترتبة عن هذه المجاعة للأشخاص الذين كانوا ما يزالون أجنة في أرحام أمهاتهم ذلك الشتاء بالإضافة إلى أولادهم فيما بعد وأحفادهم. وساعد على هذه الدراسة عدة عوامل منها:

1. فترة المجاعة محددة بدقة.

2.تمتعت الفئة السكانية المدروسة بمستوى تغذية جيد قبل المجاعة.

3.الغذاء المتوافر خلال المجاعة كان مسجلاً ومحدداً بدقة.

4.المتابعة الطبية من قبل الأطباء والقابلات واحتفاظهم بسجلات طبية دقيقة خلال المجاعة.

النتائج المترتبة على المجاعة

إن المجاعة التي حصلت وما تبعها من سوء تغذية شديد أدت إلى تأثيرات جسدية وعقلية متنوعة على الأطفال الذين كانوا في رحم أمهاتهم خلالها. ومن أهم الدروس المستفادة من دراسة حالة على هؤلاء الأشخاص:

  1. وجود تأثيرات صحية على الأطفال الذين عانت أمهاتهم من المجاعة فترة حملهن بهم دون أن يؤثر ذلك على حجم الطفل بعد الولادة.
  2. ارتبطت تأثيرات سوء التغذية في الرحم بالفترة التي تتطور فيها الأعضاء والأجهزة:
  • ظهرت التأثيرت الشديدة لمن تعرضوا للمجاعة وهم في مرحلتهم الجنينية الأولى لاحقاً. وقد ارتبط سوء التغذية الشديد في المراحل الأولى من الحمل بتطور الأعضاء الأساسية.
  • ارتبطت المعاناة من المجاعة في مرحلة منتصف الحمل بارتفاع خطر الإصابة بأمراض الكلية( انخفاض رشح الكرياتينين) والقلب(ارتفاع نسبة الألبومين المجهري_ micro-albuminuria). ففي منتصف الحمل تتطور النفرونات لذلك أثرت المجاعة في هذه الفترة على التطور السليم للكلية. بالإضافة إلى تطور الرئة والشجرة القصبية، مما يؤدي إلى ارتفاع خطر الإصابة بمرض انسداد الطرق الهوائية. [1]

بالإضافة إلى ذلك يرتفع لدى الأطفال الذين تعرضت أمهاتهم للمجاعة خلال حملهن بهم خطر الإصابة بالفصام والسكري من النمط الثاني. بعد حوالي 60 عاماً من المجاعة قاس الباحثون معدل مثيلة الDNA لدى هؤلاء الأشخاص، فتبين أن معدل المثيلة مرتفع عند بعض الجينات ومنخفض عند جينات أخرى مقارنة بإخوتهم الذين لم يتعرضوا لمجاعة وهم أجنة. وهذا المعدل المتفاوت للمثيلة يوضح سبب ازدياد معدل الإصابة بالأمراض لديهم ودور البيئة فيه. [2]

تأثير ظروف البيئة وتغذية الأم على جنينها وإصابته بالأمراض

إنّ لنظام الأم الغذائي تأثير فوق جيني على التطور السلوكي العصبي كالعلاقة بين عمل الجهاز العصبي والسلوك الذي يؤدي إلى مشاكل في التعلم فترة الطفولة. ولكن هذه التأثيرات لا تزال غير مدروسة بشكل كاف. على سبيل المثال، يشير بحث إلى أن نظام الأم الغذائي قد يؤثر إيجاباً على المرونة العصبية طويلة الأمد (وهي قدرة الدماغ على تشكيل مشابك جديدة وإعادة تنظيمها) لمولودها. وجدت دراسة على الفئران أن نظام الأم الغني بالدهون والسكر معاً (الغربي) يحرض مثيلة جين BDNF في الدماغ بالإضافة إلى تأثيرات سلبية على السلوك. لكن أطفال أمهات الفئران اللواتي اتبعن نظاماً غنياً بالحموض الدهنية Omega-3 لم يتعرضوا للتأثيرات السلبية للنظام الغذائي الغربي. وقد أشار الباحثون إلى دور التعرض ل Omega-3 في الرحم في بناء احتياطي للدونة عصبية تحمي من مشاكل مستقبلية.

كما يمكن لطبيعة غذاء الأم أن تؤثر على تطور السرطانات لدى الطفل مستقبلاً. فقد وُجد في دراسة على جرذ أن نظام تغذية الأم عالي الدهون حرض تطور سرطان ثدي لدى الجرذ البنات والحفيدات أيضاً. ووجدت نفس الدراسة ارتباط النظام الغذائي عالي الدهون بنمط مثيلة معين في غدد الثدي. مما يشير إلى أن طبيعة غذاء الأم يمكن أن تؤثر على خطر الإصابة بالسرطان بآليات فوق جينية. [3]

السكري نمط 2

إنّ الآلية الإمراضية للسكري من نمط 2 معقدة نوعاً ما ومتعددة العوامل. حيث يتعلق بالاستعداد الجيني بالإضافة للسلوك كالنظام الغذائي والنشاط الفيزيائي. يوصف السكري من النمط 2 بخلل وظيفة خلايا بيتا البنكرياسية، ومقاومة الأنسولين وفرط أنسولين الدم. تتعلق هذه العوامل والأعراض بمرحلة المرض ومدى تأير الأنسولين وتنظيمه لمستوى الغلوكوز في الدم. لذلك نجد أن الآلية الإمراضية له تتعلق بعوامل جينية وفوق جينية ولا جينية.

على الرغم من اكتشاف مئات المتغيرات الجينية المرتبطة بالسكري نمط 2 إلا أنها لا تفسر سوى جزء بسيط من وراثة المرض. حيث أنه ينتج من تآثر الجينات مع العديد من العوامل البيئة بشكل أساسي.

تعد وظيفة خلايا بيتا البنكرياسية المفرزة للأنسولين مهمة جداً لتنظيم مستوى الغلوكوز في الدم. وفي حالة مرض السكري فإن خلل التنظيم فوق الجيني يؤدي إلى تقليل التعبير عن الجينات الضرورية لعمل خلايا بيتا بالإضافة إلى التعبير عن جينات لا يُفترض التعبير عنها في خلايا بيتا. مما يؤدي إلى زوال الطابع الجيني للخلية وبالتالي إلى فقدان هويتها. وفي النهاية، يؤدي ذلك إلى خلل وظيفة خلايا بيتا البنكرياسية، وضعف إفراز الأنسولين، وضعف وظيفة البنكرياس عامةً. فتكون السلسة على الشكل الآتي: البيئة-الكروماتين-الجينات-الخلايا-الأعضاء-الكائن الحي.

من المهم معرفة عوامل الخطر المتعددة التي تؤدي إلى خلل التنظيم فوق الجيني مثل انعدام الحركة والنشاط الفيزيائي، والسمنة الأبوية، وخلل وظائف الميتاكوندريا، والشيخوخة، وظروف البيئة غير السوية للأم أثناء الحمل التي تؤثر على جنينها، وتؤدي لإصابته بمختلف الأمراض. يمكن أن تؤثر هذه العوامل على المستوى فوق الجيني في مراحل زمنية مختلفة خلال حياة الفرد. بالإضافة إلى ذلك يتأثر الإبيجينوم بالظروف البيئية كالتمارين الرياضية والنظام الغذائي. وتعود هذه التآثرات إلى المرونة الإبيجينية.

بناءً على ما سبق أصبحت الأدوية التي تؤثر على الإبيجينوم هدفاً لمعالجة مرض السكري والحث على إفراز الأنسولين. [4]

السرطان

يعد السرطان أول مرض ارتبط بالمستوى فوق الجيني، وذلك في عام 1983. وقد وجد باحثون أن معدل مثيلة الDNA منخفض عند مرضى سرطان الكولون والمستقيم للخلايا المصابة بالسرطان مقارنة بالخلايا السليمة عند المرضى أنفسهم. وبما أن مثيلة الجينات توقف التعبير عنها بشكل طبيعي، فإن نقص مثيلة الجينات يؤدي إلى زيادة تفعيلها بشكل غير طبيعي. وبالمقابل فإن المثيلة الشديدة للجينات الكابحة الورمية يؤدي إلى فقدانها لوظيفتها الكابحة للورم.

وكما ذكرنا في مقالنا الأول فإن المثيلة تحدث على جزر CpG. يوجد كثافة لهذه الجزر في منطقة المحرض والتي لا تكون ممثيلة في الخلايا الطبيعية، ولكنها تصبح ممثيلة في الخلايا السرطانية. مما يؤدي إلى إسكات جينات لا يجب ان تكون معطلة في الحالة الطبيعية. وتعد هذه علامة واسمة للتعديلات فوق الجينية على الخلايا السرطانية في مراحلها الأولى. إن زيادة مثيلة جزر CpG عند بعض الجينات يوقف الخلايا الكابحة الورمية مما يؤدي إلى ظهور خلايا سرطانية. وتعد هذه الآلية في حدوث السرطان أكثر انتشاراً من وجود طفرات في تسلسل ال DNA.

كما يمكن للمثيلة الشديدة أن تؤثر على الترادفات المتسلسلة القصيرة(الساتل المكروي)-microsatellites، وهي تسلسلات متتالية من الDNA موجودة بشكل طبيعي لدى الأفراد ومكونة من تكرارات ثنائي النكليوتيد CA. إن المثيلة الشديدة لمعزاز جين MLH1 يؤدي إلى عدم استقرار الساتل المكروي، فإما أن يطوّل هذه التسلسلات أو يقصرها. وقد ارتبط هذا الخلل في الساتل المكروي بعدة سرطانات كسرطان القولون والمستقيم، والمبيض، وبطانة الرحم، والمعدة. [5]

متلازمة الصبغي X الهش

تعد متلازمة الصبغي X الهش من أكثر أمراض التخلف العقلي وراثةً وتحديداً عند الذكور. حيث إنه يصيب الجنسين ولكن لأن الذكور لديهم صبغي X وحيد فهم أكثر عرضة للإصابة بالمرض. يعاني المصابون بهذه المتلازمة من إعاقة ذهنية شديدة ،وتأخر التطور اللفظي، بالإضافة إلى سلوك شبيه للتوحد.

تأخذ هذه المتلازمة اسمها من الطريقة التي تأخذ بها المناطق غير الطبيعية من الصبغي X شكلها. ويحدث ذلك نتيجة شذوذ جين FMR1. يملك الأشخاص الأسوياء 50 إلى 60 تكراراً لثلاثي نكليوتيد CGGs في جين FMR1. توجد الطفرة عند الأفراد الذين يملكون أكثر من 200 تكرار. حيث تظهر لديهم أعراض المتلازمة، لأن التكرارات الكثيرة من ثلاثيات نكليوتيدات CGGs تؤدي إلى مثيلة جزر CpG في معزاز جين FMR2، الذي لا يكون ممثيلاً في الحالة السوية. تؤدي هذه العملية بدورها إلى تعطيل الجين وإيقافه عن تشكيل بروتين التخلف العقلي المرتبط بالصبغي x الهش.[5]

أصبحنا اليوم مدركين أكثر للدور الذي تلعبه البيئة في التأثير على التعبير الجيني في خلايانا. كما أصبح علم ما فوق الجينات أحد أهم محاور الدراسات الطبية التي تساعد على فهم الأمراض بشكل أعمق، وبالتالي تطوير الأدوية المناسبة والنوعية لها.

المصادر:

  1. The Dutch Famine Birth Cohort | OHCU
  2. What is Epigenetics? | CDC
  3. Prenatal Nutrition: The Epigenetic Impact of Maternal Diets | Today’s Dietitian
  4. Diabetes and Epigenetics | IntechOpen
  5. Epigenetic Influences and Disease

التعديلات فوق الجينية والعوامل المؤثرة عليها

تبدأ التعديلات فوق الجينية من المرحلة الجنينية في الرحم وتستمر بعدها في مختلف مراحل الحياة، متأثرة بالعوامل البيئية والسلوكية والتغذوية للفرد. وتعد “مثيلة” الحمض النووي أحد أهم الآليات التي تُستخدم على المستوى فوق الجيني. فيتحقق بذلك التفاعل بين البيئة المحيطة والمادة الوراثية لدى الإنسان. فما هي هذه التعديلات؟ وما أهم العوامل المشاركة في إحداثها؟

التعديلات فوق الجينية وتأثيراتها

علم التخلق والتطور

تبدأ التغيرات فوق الجينية في المرحلة الجنينية قبل الولادة. فجميع الخلايا لها نفس الحمض النووي DNA ولكنها تختلف عن بعضها البعض بالصفات الشكلية والوظيفية. يحدث ذلك التباين عبر الآليات فوق الجينية في الخلية التي تحدد الطريقة التي ستعمل بها الخلية ووظائفها أثناء مراحل نمو الإنسان وتطوره. كأن تتحول إلى خلية عصبية أو جلدية أو قلبية.

على سبيل المثال: تحوي كل من الخلية العضلية والعصبية نفس الحمض النووي ولكنهما تعملان بشكل مختلف. فالخلية العصبية تنقل المعلومات للخلايا الأخرى في الجسم، بينما للخلية العضلية بنية تساعد في الحركة. تسمح الآليات فوق الجينية للخلية العضلية بتفعيل الجينات التي تصنّع البروتينات الضرورية لعملها، وتعطيل الجينات المساهمة في عمل الخلية العصبية أو أي نوع آخر غير مفيد من الخلايا.[1]

علم التخلق والتقدم في العمر

تتغير التعبيرات فوق الجينية خلال الحياة ما بين الولادة والطفولة والبلوغ. على سبيل المثال: قيس معدل مثيلة ال DNA في ملايين المواقع في جينات طفل حديث الولادة، ومقارنتها بجينات شاب في السادسة والعشرين من عمره، ثم مقارنتها بجينات رجل معمّر بعمر 103 سنوات. وتبين أن معدل مثيلة ال DNA يتناقص مع التقدم في العمر. فللمعمّر أقل معدل مثيلة، بينما يملك الطفل حديث الولادة معدل أعلى، ويقع الشاب ذو الستة وعشرين عاماً بينهما. [1]

مرونة التّخلق أو المرونة الإبيجينية

ليست كل التغيرات فوق الجينية أو الإبيجينية دائمة، فبعض هذه التعديلات يمكن أن تُضاف أو تُحذف استجابةً للتغيرات البيئية أو السلوكية. على سبيل المثال: يُحدث التدخين تغيرات على المستوى فوق الجيني. مثلاً، يكون للمدخنين معدل مثيلة أقل على جين AHRR مقارنة بغير المدخنين. ويكون الاختلاف أكبر بكثير بالنسبة للمدخنين بكثرة أو لفترة زمنية طويلة. ولكن بعد الإقلاع عن التدخين يرتفع لديهم معدل المثيلة لجين AHRR. وفي النهاية، يمكن أن يصلوا لمعدل مثيلة قريب من معدل غير المدخنين. يمكن أن يحدث هذا التغيير في أقل من سنة لبعض الحالات، ولكنه يعتمد بشكل أساسي على الكمية التي اعتاد الشخص على تدخينها قبل إقلاعه والمدة التي قضاها مدخناً. [1]

تأثير نمط الحياة والغذاء على التعديلات فوق الجينية

على الرغم من أن التغيرات فوق الجينية أكثر ثباتاً لدى البالغين، إلا أنها تخضع لتعديلات متأثرةً بنمط الحياة والبيئة. فقد أصبح من الواضح أن التغيرات فوق الجينية لا تحدث فقط في الرحم، وإنما تطال كامل حياة الفرد، كما يمكن أن تكون قابلة للتغيير. ويوجد العديد من الأمثلة التي تبين كيفية تأثير تلك العوامل على التغيرات فوق الجينية للDNA وكيف تؤثر على حصيلة النتائج الصحية.

وقد أظهر النظام الغذائي دوراً في التعديلات فوق الجينية بطرائق متعددة. يكشف علم التغذية فوق الجيني Nuteriepigenomics كيف يعمل الغذاء والآليات فوق الجينية معاً في التأثير على الصحة. فقد وجدت إحدى الدراسات أن نظاماً غذائياً عالي الدهون ومنخفض الكربوهيدرات يمكن أن يباعد الكروماتين ويحسن القدرات العقلية عن طريق تثبيط HDAC. كما وجدت دراسات أخرى أن بعض المواد في الغذاء الذي نستهلكه يمكن أن تحمي من السرطان عن طريق تعديل علامات المثيلة على كوابح الجينات الورمية والمسرطنة. [2]

نحتاج للمحافظة على نمط مثيلة محدد لمجموعة معينة من المواد الغذائية في نظامنا الغذائي أن يتضمن مصدر لمجموعة الميثيل مثل المثيونين (حمض أميني) أو كولين (جزيئة معتمدة على الأمونيوم، غالباً ما يُجمع مع مركبات فيتامين (B أوحمض الفوليك: ويوجد في الخضروات الورقية والبقوليات والبرتقال). وعلى الرغم من أن حمض الفوليك لا يعطي بحد ذاته مجموعة الميثيل، إلا أنه يتفاعل مع المثيونين والكولين لضمان مثيلة الحمض النووي على كامل الجينوم. [3]

نستنتج مما سبق أن النظام الغذائي المعني بالتركيز على المستويات فوق الجينية يمكن أن يقود الفرد نحو النظام الغذائي الأمثل له.

تأثير العوامل البيئية على التعديلات فوق الجينية

تغير المؤثرات الخارجية كالضغط والنظام الغذائي والتدخين والتعرض للمبيدات الحشرية نمط مثيلة ال DNA. مما يمكن البيئة المحيطة من وضع بصمتها على المستوى فوق الجيني للفرد. [3]

حيث تعد البيئة عاملاً ذو تأثير قوي على التعبير فوق الجيني والحساسية للأمراض. وقد ازداد التركيز على التلوث بشكل كبير. حيث وجد العلماء أن تلوث الهواء يمكن أن يؤدي إلى تعديلات في مثيلة ال DNA. ورفع خطر الإصابة بالأمراض العصبية التنكسية. ومن إحدى الدراسات المثيرة للاهتمام دراسة حول إمكانية حماية فيتامين B من الأضرار فوق الجينية التي يسببها التلوث الهوائي، كما يمكن له أن يقاوم التأثيرات لبعض المواد الأخرى المضرة بالصحة. [2]

قد يُحدث الضغط النفسي الشديد في مراحل مبكرة من الحياة تعديلات على المستوى فوق الجيني، تساهم بارتفاع الاستجابة الفيزيولوجية للضغط بشكل مستمر. حيث يشكل ذلك التأثير آلية دفاعية ناتجة عن بيئة غير مستقرة في التجارب الحياتية الأولى. [4]

تأثير التعديلات فوق الجينية على الأجيال

أظهرت بعض الدراسات وجود نمط فوق جيني متطابق نسبياً لدى التوائم المتطابقة حديثة الولادة، ولكن التوائم الأكبر عمراً لديها اختلاف لافت في نمط مثيلة ال DNA. بالإضافة لذلك فإن نمط المثيلة يتشكل خلال تطور الجنين في الرحم. أي أن البيئة والنظام الغذائي للمرأة الحامل يمكن أن يكون له تأثيرات خفية على أنماط المثيلة للجنين النامي. علاوة على ذلك فالخلايا الجنسية للجنين تتطور مع تطوره داخل الرحم، والتي تصبح فيما بعد بيوضاً أو نطافاً. مما يعني أن الظروف البيئية والتغذوية التي تخضع لها المرأة الحامل لا تؤثر على أولادها فقط وإنما يشمل التأثير أحفادها أيضاً. [3]

وبذلك نجد أن التغذية والعوامل البيئية المحيطة تؤثر بشكل كبير على المستوى فوق الجيني. وبالتالي تؤدي إلى تغيير ملحوظ في التعبير الجيني والوظائف الخلوية.

  1. CDC | What Is Epigenetics?
  2. WHAT IS EPIGENETICS? | Epigenetics: Fundamental
  3. Australian Academy of Science| It is not All in the gene-the role of epigenetics
  4. Psychology Today| Epigenetics  

ما هو علم ما فوق الجينات؟

تحوي نواة كل خلية حية على الحمض النووي، ويحتوي الحمض النووي على جينات تقوم بإعطاء الخلية صفاتها الشكلية والوظيفية للكائن الحي. ولكن هل تعليمات الجينات وحدها من يقوم بهذه المهمة؟ أم توجد مستويات أخرى من التعديلات تؤثر على الجينات؟ هذا ما يدرسه علم التخلق أو ما يعرف بـ علم ما فوق الجينات، عن طريق دراسة الآليات الخلوية المسؤولة عن هذه التعديلات وكيفية تأثير العوامل البيئية والسلوكية على الجينات والتعبير الجيني.

تعريف علم ما فوق الجينات

علم ما فوق الجينات هو العلم الذي يدرس كيفية تأثير السلوك والبيئة على الطريقة التي تعمل بها الجينات. وعلى عكس التغيرات الجينية فإن التغيرات فوق الجينية تكون قابلة للتغيير في حياة الفرد، كما لا تغير من تسلسل ال DNA ذاته، ولكنها تغير الطريقة التي يقرأ بها الجسم هذا التسلسل.
يدل مصطلح التعبير الجيني على عدد مرات تخليق البروتينات تبعاً للتعليمات الجينية ومتى تصنع. بينما تستطيع التغييرات الجينية استبدال البروتين المُخلق، تؤثر التغييرات ما فوق الجينية على تحرير التعبير الجيني أو تعطيله. وبما أن البيئة والسلوك كالنظام الصحي والتمارين تؤدي إلى تغيرات على المستوى فوق الجيني فإنه من السهل رؤية الرابط بين الجينات وبين سلوك الفرد وبيئته. [1]

يشكل ال DNA الأساس الذي تتطور منه الصفات النفسية والشكلية للفرد عبر إعطاء تعليمات معقدة لتخليق البروتينات والجزيئات الأخرى. والطريقة التي تستخدم بها هذه التعليمات يمكن أن تتغير عبر عوامل عديدة. فعلم ما فوق الجينات يدرس هذه التعديلات الكيميائية التي تؤثر على النشاط الجيني دون المساس بال DNA ذاته. [2]

تاريخ علم ما فوق الجينات

في منتصف القرن العشرين بدأت مجموعة رفيعة المستوى من العلماء متضمنة كونراد هال ودينغتون وإرنست هادورن بحثاً واسعاً للربط بين الجينات وعلم الأحياء التطوري. تطور البحث فيما بعد إلى ما ندعوه اليوم بعلم التخلق أو علم ما فوق الجينات. في عام 1942، صاغ ودنغتون مصطلح علم ما فوق الجينات-Epigenetics من الكلمة اليونانية “epigenesis” والتي وصفت تأثير العمليات الجينية على التطور. وخلال تسعينيات القرن الماضي تجدد الاهتمام ب«الاستيعاب الجيني-genetic assimilation». وهذا ما قاد إلى تفسير الأساس الجزيئي لملاحظات ودينغتون بأن الضغوطات من البيئة المحيطة سببت استيعاب جيني لأنماط ظاهرية محددة. [3]

وبكلمات بسيطة فإن الدرجات العالية من الاجهاد والضغوط البيئية تغير المشهد اللا جيني للخلية مؤدية لظهور أنماط ظاهرية جديدة للصفات المعرضة لتلك الظروف، وندعو هذه العملية بالاستيعاب الجيني. [4]

تقام دراسات معمقة حالياً فيما يتعلق بآليات علم ما فوق الجينات على أحد أنواع التعديلات فوق الجينية وهو مثيلة ال DNA. يعود تاريخ اكتشاف مثيلة ال DNA، وهو إضافة جزيء ميثيل للشريط الوراثي، لعام 1969 حيث اقترح العالمان غريفز وماهلر أن مثيلة ال DNA قد تكون مهمة للذاكرة الوظيفية طويلة الأمد. كما درست آليات تعديلية أخرى فوق جينية سنتطرق لها في الفقرة القادمة.

قاد الاهتمام المتجدد بعلم ما فوق الجينات إلى اكتشافات جديدة تربط بين التغييرات ما فوق الجينية ومجموعة من الاضطرابات، كمجموعة واسعة من السرطانات، والأمراض المناعية، واضطرابات عصبية ونفسية وأخرى مرتبطة بالتأخر العقلي. [3]     

الآليات ما فوق الجينية في الخلية

قبل الخوض في هذه الآليات سنتطرق لشرح موجز عن الDNA والتعبير الجيني: [5]

  1. يتكون الDNA من أربعة أنواع من النكليوتيدات مكونة من سكر خماسي منقوص الأكسجين وزمرة فوسفات وأساس آزوتي تخلف فيه ن بعضها.
  2. النكليوتيدات الأربعة هي الغوانين والسيتوزين والأدنين والثايمين.
  3. يكون الDNA روابط مختلفة نتيجة تقابل قواعد الغوانين والسيتوزين، وبين التايمين واليوراسيل.
  4. ترتبط القواعد في الشريط الواحد بروابط فوسفاتية.
  5. تقوم عوامل النسخ بقراءة الDNA واصطناع RNA مرسال منه، فيغادر المرسال النواة حاملاً معه المعلومات الجينية الخاصة بجين معين.
  6. يترجَم الRNA مرسال إلى بروتين له وظائف بنيوية وشكلية محددة، وبذلك يحدث التعبير الجيني.

تعديلات الهيستون

يلتف شريط الحمض النووي بطريقة منظمة حول جزيئات بروتينية تدعى الهستونات مشكلة بذلك الجسيم النووي. تشكل هذه الجسيمات ما يشبه الخرز على العقد، والتي إما أن تكون متقاربة بشدة على بعضها البعض ومتكدسة أو متباعدة. يتحكم بحالة الجسيمات النووية من حيث التباعد أو التقارب وجود أو غياب مجموعات كيميائية مرتبطة بالهستونات.

عند اقتراب مجموعة أسيتيل [coch3] من مناطق معينة من الهيستون تؤدي إلى ارتخاء بنية الهيستون وبذلك تباعد الجسيمات النووية عن بعضها. يسمح هذا الشكل المفتوح بوصول عوامل الانتساخ بشكل أسهل لتقوم بقراءة الجينات الموجودة في هذه المنطقة من الحمض النووي وتشكلRNA مرسال ليستخدم في بناء البروتينات. يكون عندها الجين مفعل.

أما المجموعات الكيميائية الأخرى كمجموعة الميثيل [CH3]، تقرب الهيستونات من بعضها البعض (لكن يكون ذلك في حالات معينة تعتمد على المكان الذي ترتبط به مجموعات الميثيل). وبرصف القواعد بهذا الشكل يصبح من الصعب وصول عوامل النسخ للجينات، وبالتالي لا تنسخ ولا تترجم لبروتينات. وحينها نقول عن الجين أنه معطل أو مغلق.

مثيلة الحمض النووي

ترتبط مجموعة الميثيل مع الDNA  ثنائي الشريط عند قواعد السايتوزين أو ما يدعى بجزر CpG، وهي عبارة عن مناطق غنية بقواعد الغوانين والسيتوزين مرتبطة بروابط فوسفاتية أي أنها متتالية بجانب بعضها (تختلف هذه الحال عن ارتباط الميتيل بالهيستون).

يوجد قبل الجين في الDNA مناطق تدعى محفزات أو معززات. ويمتلك حوالي 60% من الجينات جزر CpG في منطقة المحفز. وعند مثيلة الجزر في المحفز، يصبح الجين غير مفعل وبذلك لا تتمكن عوامل النسخ من قراءته وتكوين RNA مرسال. فلا يتم التعبير عن هذا الجين أي تم إغلاقه أو تعطيله. [5]

RNAS غير المرمز

يختلف ال RNA عن ال DNA بأنه أحادي الشريط. كما أن له عدة أنواع، بعضها تؤثر مباشرة على عملية التعبير الجيني، وأخرى تشارك في بعض عمليات تعديل الهيستون ومثيلة ال DNA.

Small Non-Coding RNAS الرنا القصير غير المرمز

يوجد لل RNA غير المرمز القصير عدة أنواع سنتحدث عن اثنين منها وهي «RNA المكروي -microRNAs »و «RNA  المتداخل القصير-Short Interfering RNA» . كلاهما بطول 22-21 نكليوتيد، وتستطيع منع التعبير الجيني بطريقتين:

  1. ترتبط مع ال RNA مرسال لتشكل RNA ثنائي الشريط، وبسبب تشابه هذه البنية ثنائية الشريط مع ال RNA الفيروسي ثنائي الشريط، تتخذ الخلية وضعاً دفاعياً وتتخلص منه.
  2. إذا ارتبط ال RNA غير المرمز مع RNA مرسال بشكل غير تام (أي ارتباط قواعد غير متوافقة)، سيعيق عملية ترجمته إلى بروتين، ويكون بذلك قد أوقف التعبير الجيني. [5]

Long Non-Coding RNAS رنا غير مرمز طويل

ينظم الRNA الطويل غير المرمز التعبير الجيني عن طريق التعديل على إنتاج ال RNA. حيث يساهم في «تعطيل الجينات-Gene- Silencing» ، والوراثة اللاجينية (فوق الجينية)، وتمايز الخلايا الجذعية، وتنظيم الجهاز المناعي وانتشار السرطان. [5] وهكذا نرى بوضوح التداخل بين بعض الآليات الخلوية وعملية التعبير الجيني فإما أن توقفه أو تفعله.

ما زال هنالك الكثير لنتعلمه عن هذه الآليات والعوامل التي تؤثر على عملها والنتائج المترتبة عليها وعلى طفراتها، وهذا ما سنتناوله في مقالاتنا القادمة.

المصادر:

1-?CDC| What Is Epigenetics
2-Psychology Today| Epigenetics
WHAT IS EPIGENETICS.3
System Evolutionary Biology of Waddington’s Canalization and Genetic Assimilation.4
5.Australian Academy of Science| It is not All in the gene-the role of epigenetics

نظرية التعلق وأنماطه

لا يمكننا أن ننكر بعد الآن أن البيئة الأولى التي يعيش فيها الطفل بكل ما فيها من مقدمي الرعاية تساهم بتشكيل النسبة الأكبر من شخصيته مستقبلاً. فعلاقات البالغ المقربة تعكس طريقة تواصله مع أهله في سنوات حياته الأولى، وهذا ما استنتجه الباحثون وفسرت نظرية التعلق جزءاً منه.

تعريف نظرية التعلق

تولد مع الإنسان حاجة لتشكيل رابطة عاطفية قوية مع مقدم الرعاية، تتطور هذه الرابطة وتتشكل خلال الستة أشهر الأولى في حياة الطفل في حال كانت استجابة مقدم الرعاية مناسبة. ويخدم نمط التعلق هذا حاجتين أوليتين أساسيتين: 1. حماية الأشخاص الضعفاء من الأذى والتهديدات المحتملة 2. تنظيم المشاعر السلبية التي تلي تلك الحوادث. كما تحدد الطريقة التي يتلقى بها الفرد الرعاية والدعم أهدافه، نمط عمله وطريقة تعامله مع المواقف التي تثير أي نوع من المشاعر في علاقاته. [1]

وضعت نظرية التطور لأول مرة من قبل المحلل النفسي «جون بولبي- John Bowlby». وقد درس فيها تأثير الفصل بين الأطفال الرضع وآبائهم.

افترض بولبي أن السلوكيات المبالغ فيها والتي يلجأ إليها الرضيع عند فصله عن أحد والديه أو إعادته إليهم كالصراخ والبكاء والتشبث بهم ما هي إلا آليات تطورية. أي أن هذه السلوكيات قد تطورت من خلال الانتقاء الطبيعي وعززت فرص الأطفال بالبقاء على قيد الحياة، وتعد هذه السلوكيات استجابات غريزية اتجاه أي تهديد محتمل مصاحب لابتعاد مقدم/ي الرعاية واهتمامهم، وبالتالي تقليل فرص بقاء الطفل. وبما أن فرص البقاء ترتفع لدى الأطفال الذين يلجؤون إلى هذه السلوكيات فقد تم انتقاء هذه الغرائز وتعزيزها على مر الأجيال. [2]

هذا ما أطلق عليه بولبي «نظام التعلق السلوكي- attachment behavioural system» وهو ما يحدد لنا أنماط تشكيل علاقاتنا وبنائها وإصلاحها. فتجربة الطفل الأولى مع والديه واستجابتهم له ونمط الرعاية الذي يتلقاه في سنوات حياته الأولى تحدد نمط علاقاته المستقبلية كشخص بالغ، ولا يقتصر هذا الأثر على الوالدين فيمكن أن يشمل علاقة الطفل مع باقي أفراد العائلة أو مربية الطفل وغيرهم من الأشخاص الذين يكونون على تماس مباشر مع احتياجات الطفل. [2]

تاريخ نظرية التعلق

بدأ اهتمام بولبي بالسلوك التطوري للأطفال من تجربته التطوعية في مدرسة للأطفال غير المتكيفين. وقد أثار فضوله سلوك ولدين، الأول مراهق منعزل لم يكن لوالدته شخصية مستقرة خلال حياته وقد تم طرده مؤخراً لاتهامه بالسرقة. أما الثاني فهو طفل بعمر7 أو 8 سنوات يتسم بطبعه القلق، حيث كان يلاحق بولبي أينما ذهب، وبذلك اكتسب لقب ظل بولبي.

من خلال تجربته مع الأطفال أصبح لبولبي معتقد راسخ بتأثير البيئة التي نشأ منها الطفل على سلوكه وعواطفه. كما اقترح على المحللين النفسيين الذين يعملون مع الأطفال دراسة جميع الجوانب المتعلقة بحياة الطفل كالبيئة التي يعيش فيها وعائلته وتجاربه بالإضافة إلى التصرفات التي يبديها الطفل نفسه. وهذا ما أدى لخلق استراتيجية لمساعدة الأطفال تتضمن مساعدة ذويهم أيضاً.

وفي ذات الوقت كانت «ماري آنسورث- Mary Ainsworth» تنهي مرحلة تخرجها وتدرس النظرية المتعلقة بالأمان، والتي تنص على أن الأطفال بحاجة لتطوير علاقة اعتمادية آمنة مع أهلهم قبل الخوض في بيئات خارجية غير مألوفة.

في عام 1950 اجتمع طريق العالمين باشتراك آنسورث في وحدة بولبي البحثية في عيادة تافيستوك في لندن. وبعد تنسيق وجمع وحذف العديد من الأبحاث والدراسات توصلا لتطوير وإثباتات تخص نظرية التعلق. [2]

نظرية التعلق عند الأطفال

تتطور العلاقة بين الطفل ومقدمي الرعاية الأساسيين خلال الثماني عشرة أشهر الأولى حسب بولبي وآنسورث. بدءاً من التصرفات الغرائزية كالبكاء والصراخ والتي سرعان ما تتوجه نحو واحد أو أكثر من مقدمي الرعاية بشكل خاص. وفي عمر 7 أو 8 أشهر يبدأ الطفل بالاحتجاج وإظهار حزنه عند ابتعاد مقدم الرعاية عنه. بمجرد وصوله لمرحلة المشي يبدأ الطفل بتشكيل نموذج ارتباط داخلي لعلاقاتهم، ويحدد هذا النموذج الإطار الذي يستمد منه الطفل معتقداته حول قيمته الذاتية ومقدار اعتمادهم على الآخرين لتلبية احتياجاتهم. [2]

يتطور لدى الأطفال أربعة أنماط تعلق بشكل أساسي. إذا كان الطفل أثناء نموه يستطيع الاعتماد على أهله بشكل كامل لتلبية احتياجاته، فسيتطور لديه نمط تعلق آمن. وسيرى العلاقات مع الآخرين كمكان آمن للتعبير عن مشاعرهم.

وفي المقابل إذا كانت علاقة الطفل بوالديه متوترة تتشكل لديه أنماط تعلق غير آمنة. وعندها يعتاد الطفل على فكرة عدم قدرته على الاعتماد على الآخرين لتحقيق راحته وحاجاته الأساسية. [3]

أنماط التعلق عند البالغين

إن أنماط التعلق التي تشكلت في مرحلة الطفولة نتيجة طريقة التواصل بين الطفل ومقدم الرعاية تظهر فيما بعد في علاقاته مع الآخرين، وخاصة العلاقات الحميمية والمقربة:

 نمط التعلق الآمن

يتمتع أكثر من نصف البالغين بنمط تعلق آمن. يمتاز أصحاب هذا النمط بالقدرة على تشكيل علاقات آمنة ومريحة، حيث تتصف علاقاته بوجود ثقة وحب متبادلين حيث يستطيع الاعتماد على الآخرين دون أن يكون اتكالياً بشكل كامل. كما يستطيع أن يكون قريباً من الآخرين بسهولة نسبياٌ، ولا يشعر بالخوف والتهديد عندما يحتاج شريكه مساحته الخاصة. يعتبر هذا النمط صحياً وكل ما عداه غير صحي أو غير آمن. [4]

بعض صفات نمط التعلق الآمن: [3]

– القدرة على تنظيم المشاعر.
– القدرة على طلب الدعم العاطفي.
– الثقة بالآخرين بسهولة.
– عدم الانزعاج من البقاء وحيداً أو من التواجد في علاقات مقربة مع الآخرين.
– تقييم عالي للذات.
– القدرة على أن يكون متاحاً عاطفياً.
– لديه مهارات تواصل جيدة.

نمط التعلق القلق

وهو نوع من أنماط التعلق غير الآمنة. يميزه خوف شديد من الهجران أو التخلي. يبقى فيها الفرد في حالة خوف دائم من تخلي الآخرين أو شريكه عنه وبحاجة دائمة للتقدير. غالباً ما يرتبط هذا النمط بالحاجة للآخر والتصرفات التي تدل على تعلق شديد كالشعور بالقلق والانزعاج إذا لم يتم الرد على رسائله بسرعة والشعور الدائم بأن شريكه لا يهتم به بشكل كافٍ. [4]

يتطور هذا النمط نتيجة علاقة متقلبة مع الأهل لا تنسجم مع حاجات الطفل. حيث لا يستطيع الطفل توقع استجابة أهله، فمرة يكونون داعمين وملبيين لحاجاته ومرة أخرى يقومون بعكس ذلك. [3] إليك بعض صفات نمط التعلق القلق: [3]

– ميل شديد للتشبث بالآخرين.
– حساسية عالية من الانتقاد.
– الغيرة.
– الخوف من الرفض.
– صعوبة البقاء وحيداً.
– ضعف تقدير للذات.
– الشعور بعدم استحقاق الحب.
– صعوبة الوثوق بالآخرين.

نمط التعلق المتجنب

نمط آخر من أنماط التعلق غير الآمنة يشكل نسبة أكبر من نمط التعلق القلق. يميزه الخوف من الحميمية والتقرب من الآخرين. حيث يواجه الفرد صعوبة في التقرب من الآخرين والوثوق بهم، لأنه يعتقد أن هذه العلاقات لن تتمكن من تلبية احتياجاته. فيبقي مسافة بينه وبين شريكه أو يكون غير متاح عاطفياً بشكل كبير.

ويمكن أن يجد العلاقات العاطفية خانقة ومزعجة فيتجنبها كلياً، ويفضل أن يكون مستقلاً ويعتمد على نفسه. [4] يتطور هذا النمط نتيجة لوجود مقدمي رعاية صارمين أو بعيدين عاطفياً لا يلبون احتياجات الطفل ويدفعونه للاعتماد على نفسه كثيراً، ويصدونه في حال تعبيره عن مشاعره. [3] بعض صفات نمط التعلق المتجنب: [3]

– تجنب الحميمية الجسدية والعاطفية.
– عدم الراحة عند التعبير عن العواطف.
– صعوبة الوثوق بالآخرين.
– الشعور بالتهديد من أي شخص يحاول التقرب منه.
– قضاء الوقت وحيداً أكثر من التفاعل مع الآخرين.
– الإيمان بأنه لا يحتاج إلى الآخرين في حياته.
– «مشاكل في الالتزام – commitment issues»

نمط التعلق غير المنتظم

أو النمط الخائف المتجنب- Fearful-avoidant attachment style، ويعد نمطاً نادراً نسبياً، يتشكل من مزيج من كلا النمطين السابقين القلق والمتجنب. حيث يتوق الفرد للحصول على العاطفة والمودة ويسعى لتجنبهما بأي طريقة ممكنة. كما يكره صاحب هذا النمط العلاقات الرومنسية وفي نفس الوقت يريد أن يشعر بحب الآخرين له. [4]

بالإضافة لذلك يتصف بسلوك متضارب وصعوبة الوثوق بالآخرين، وغالباً ما يرتبط بمشاكل وأمراض الصحة النفسية لدى البالغ. يتطور هذا النمط نتيجة لصدمات الطفولة، الإهمال أو الإساءة بشكل أساسي والخوف من الأهل (غياب الشعور بالأمان معهم). [3] إليك بعض صفات نمط التعلق غير المنتظم: [3]

– الخوف من الرفض.
– عدم القدرة على تنظيم المشاعر.
– سلوك متضارب.
– مستويات عالية من القلق.
– صعوبة الوثوق بالآخرين.
– علامات كلا النمطين القلق والمتجنب.

نظرية التعلق في الحداد والصدمات

لاحظ بولبي وزميلته كولين مري باركس- Colin Murray Parkesعند العمل على نظرية التعلق أربع مراحل للحداد، سبقت المراحل الخمس المعروفة: [2]

  1. الصدمة وفقدان الحس: يشعر الشخص في هذه المرحلة بأن الفاجعة ليست حقيقية أو أنها مستحيلة. وقد يتعرض لكرب جسدي وعدم القدرة على فهم مشاعره والتعبير عنها.
  2. الحنين والبحث: وهنا يعي الشخص الفراغ الذي أصبح في حياته، ويمكن أن يحاول سداده.
  3. الاختفاء والفوضى: وهنا يقبل الشخص بأن ما حصل غير قابل للتراجع. كما يمكن أن يواجه اليأس والغضب والتساؤلات حيث يحاول جاهداً إعطاء معنى لهذه الحالة. كما يمكن أن ينسحب ويتجنب الآخرين في هذه المرحلة.
  4. إعادة التنظيم والتعافي: يعود للشخص إيمانه بالحياة، ويبدأ بإعادة وضع أهداف وعادات جديدة في حياته. وتعود له الثقة ويتراجع الحزن عنده.

بالطبع فإن نمط التعلق الخاص بالفرد سيؤثر على تجربته مع الحداد. فالشخص ذو نمط التعلق الآمن سيتجاوز هذه المراحل بسرعة نسبياً، بينما قد يعلق الآخر ذو نمط التعلق المتجنب أو القلق في أحد هذه المراحل.

كيف نستطيع تغيير نمط التعلق

  1. حدد نمط علاقاتك: ابدأ بعلاقتك مع والديك كطفل، سيساعدك ذلك على معرفة ما الذي شكل نمط تعلقك اليوم. وحاول أن تتعرف أيضاً على النمط الذي تتبعه في اختياراتك وعلاقاتك السابقة.
  2. اعمل على رفع تقديرك لذاتك: تعلم أن تقدر وتحب وتحترم نفسك أولاً.
  3. اعرف ماهي حاجاتك: تعلم أن تكون صارماً وتضع حدوداً، تقدر ما تشعر به، وعبر عما تريده بكلمات واضحة وصريحة.
  4. لا تخف من طلب العلاج النفسي: يقوم المعالج النفسي الخبير بمعرفة نمط تعلقك، والخوض في جراحك السابقة بالإضافة لمساعدتك في وضع حدود مناسبة ودعم علاقة صحية.

إن نظرية التعلق كغيرها من النظريات المتعلقة بسلوكيات الإنسان تثبت أهمية البيئة الأولى التي عاش فيها الإنسان في تكوين شخصيته وسلوكياته والطريقة التي يرى بها العالم ويتواصل بها مع الآخرين. لذلك علينا دائماً خلق بيئة صحية وسليمة للأطفال كي نتفادى قدر الإمكان الآثار السلبية في المستقبل.


المصادر:

1.Britannica| Attachment Theory
2. PositinePsychology| What is Attachment Theory? Bowlby 4 Stages Explaine
3. PsychCentar| Here Is How to Identify your Attachment Style
4. mbg| The 4 Attachment Styles in Relationships + How to Find Yours

الحصين حيث نحتفظ بالذكريات ونخلق الأحلام

يتّسم عمل الدّماغ بدقّة متناهية وتكاملٍ وظيفيّ يجمع بين مختلف أقسامه. غالباً ما يكون البناء المعرفيّ والنفسيّ أكثر تعقيداً وغموضاً من التّحكم بالوظائف الجسديّة. سنتحدّث في مقالنا عن جزء من الدّماغ تتداخل وظائفه ما بين تشكيل الذّكريات وبناء الأحلام والخيال، وهو الحصين أو قرن آمون.

لماذا يدعى الحصين؟

اكتُشف «الحصين-hippocompus» من قبل الجرّاح «يوليوس قيصر أرانتو -Julius Caesar Arantiu». وقد وصف شكله لأول مرة عام 1587 م مستعينًا بالمصطلح اللاتينيّ «hippokampos» والذي يعني حصان البحر. [1]

يتألّف التّشكيل الحصيني من عدة أقسام وهي: [2]

  • المناطق البنيويّة الأربعة(CA1-4) «لقرن آمون- cornu ammonis»
  • «التلفيف المسنن-dental gyrus»
  • «المرفد-subiculum»

وظائف الحصين

يقع قرن آمون في الفصّ الصدغي للدماغ، ويشكل جزءاً من الجهاز الحوفي الذي يعدّ مركزاً مهمًا لتنظيم الاستجابات العاطفية. [2] ويضمّ أيضاً الوطاء واللّوزة. تساعد هذه البنى في التّحكم بوظائف الجسم المختلفة مثل الجهاز الغدي وما ندعوه استجابة المواجهة أو الهروب. [1]

وهو مسؤول عن تحويل الذّاكرة قصيرة الأمد إلى ذاكرة طويلة الأمد تُخزّن في مكان آخر لاحقاً. كما يقوم بمعالجة واسترداد نوعين من الذّاكرة:[1]

1. الذّاكرة الصريحة وهي المتعلّقة بالحقائق والأحداث، مثل تعلّم كيفيّة حفظ نصّ لمسرحية ما.

2. الذّاكرة المتعلّقة بالعلاقات المكانية والفراغ، وترتبط بتذكّر الطرقات كسائق سيّارة الأجرة الذي يتعلّم الطرق داخل المدينة.

وقد دُعمت الفرضيّة المكانية للذاكرة عام 1971 باكتشاف تنشيط خلايا حصين فأر عند عبوره مسافات محددة من الحيّز المكاني حوله. وهذا ما أدّى إلى اعتباره أداةً يستخدمها الدّماغ لرسم مخطّطاتٍ وخرائط للبيئة المحيطة به. [2]

ماذا يحدث عند إصابة الحصين؟

يعاني الأشخاص نتيجة إصابة الحصين بسبب حادث أو مرض ما من فقدان الذّاكرة وعدم القدرة على تشكيل ذكريات جديدة طويلة الأمد. فقد لا يستطيعون تذكر الأحداث التي وقعت قبل فترة قصيرة من الإصابة، ولكنّهم قادرون على تذكّر الأشياء التي حدثت قبل فترة طويلة. ويعود ذلك إلى تخزين الذكريات القديمة في أجزاء أخرى من الدماغ عندما تم تحويلها إلى ذكريات طويلة الأمد. [1]

تجعل أذيّته تنقّل المريض من مكان إلى آخر صعباً. فقد يكون الشخص قادراً على رسم صورة للحيّ الذي سكن فيه في طفولته، ولكن يصعب عليه الذهاب إلى المتجر في منطقة جديدة. [1]

أجريت واحدة من الدراسات الأولى حول إصابة الحصين على مريض أُزيلت لديه مناطق من القسم المتوسط للفص الصدغي، وشملت الحصين والمناطق المحيطة به. وقد خضع المريض لهذه العملية عام 1953 للتخلص من نوبات الصّرع، وبعد الجراحة بقيت وظائفه الفكريّة سليمة ولكنّه فقد القدرة على تشكيل ذكريات جديدة، وتعرف هذه الحالة بفقدان الذاكرة. [2]

ويرتبط تلف خلاياه بالأمراض النّفسيّة والعصبيّة. فمثلًا، يتعرّض الحصين لخسارة الخلايا بشكل كبير في المراحل الأولى لمرض ألزهايمر. كما لوحظ تلفه في مرض الفصام، بالإضافة إلى تأثّره بالاكتئاب والضغط النفسي. [2]

علاقة الحصين بالأحلام

ترتبط علاقة الحصين بالأحلام بوظيفته المتعلّقة بالذاكرة، فحوالي نصف الأحلام تستمدّ على الأقل عنصراً واحداً من التجارب التي مرّ بها الشخص في حالة اليقظة. ومع ذلك فإنّ المرضى الذين تعرّضوا لإصابة في الحصين يحلمون أيضاً أحلاماً تتضمّن صوراُ من أحداثٍ جديدة لكن ليس لديهم ذاكرة واعية تجاهها.

فبالإضافة إلى ارتباطه بتشكيل الذّاكرة إلّا أنّه يستخدم الذكريات في بناء مشاهد متخيّلة وتصوّر أحداث مستقبليّة بشكلٍ متماسك يفتقده المصابون بخلل في الحصين.

وبملاحظة أربعة أشخاص يعانون من «فقدان الذاكرة-amnesi» ويفتقرون لوظائف الحصين، تبيّن افتقاد أحلامهم للتفاصيل الغنيّة، بالإضافة إلى قلّة عددها وتبين عدم وجود تفاصيل كافية فيما يتعلق بالحيز المكاني.

هذه الملاحظات تُبيّن أنّ المناطق المسؤولة عن بناء الأحلام في الدّماغ مشابهة لتلك التي تستعيد الذّكريات وتخلق صوراً وأحداثاً متخيّلة خلال اليقظة. فالأحلام كما الخيال والذاكرة تتطلّب تشكيل تفاصيل ومشاهد مبنيّة على ذكريات سابقة، ويبدو أن هذه العملية تعتمد على الحصين. [3]

وما زال هنالك الكثير لنعرفه عن آلية تشكيل الذكريّات وبناء الأحلام، من خلال مزيد من الدراسات حول الحصين والمراكز الأخرى المسؤولة عن الذاكرة.

المصادر:

1.Medical News Today | Hippocampus: Function, size, and problems

2. Britannica | Hippocampus | Definition, Location, Function, & Facts

3. eLife | Memory: How the brain constructs dreams

Exit mobile version