الأدلة التشريحية على التطور

هذه المقالة هي الجزء 5 من 13 في سلسلة مقدمة في نظرية التطور

ما لبث أن نُشر كتاب أصل الأنواع لعالم الأحياء البريطاني «تشارلز داروين-Charles Darwin» في 24 نوفمبر عام 1859 حتى أثير الجدل حول أطروحات داروين في هذا الكتاب. واليوم تعد نظرية التطور إحدى أساسيات علم الأحياء، فالتطور حقيقة لا جدال فيها. قد تتغير بعض تفاصيل هذه الحقيقة كأي نظرية علمية، لكن صورتها الكلية المُفسرة لتباين الأنواع والفصائل هي الصورة العلمية الوحيدة المقبولة اليوم في الوسط العلمي. ويتبين لنا هذا من مجموعة ضخمة من الأدلة من مختلف فروع العلوم، ولهذا قمنا بتخصيص هذه السلسلة لعرض أدلة التطور المختلفة، واليوم سنناقش بعضًا من الأدلة التشريحية على التطور.

ولكن لكي نرى هذه الأدلة التشريحية علينا أن نعرف ما هو العلم الذي يختص بهذا النوع من الأدلة.

«التشريح المقارن-Comparative anatomy»

وفقًا لتعريف الموسوعة البريطانية، فإن التشريح المقارن هو دراسة البِنى الجسدية للحيوانات المختلفة في سبيل معرفة المسار التطوري الذي سلكته في انحدارها من الأسلاف المشتركة [1]. وبناء عليه قام العلماء بتقسيم البِنى التشريحية المشتركة بين الكائنات الحية إلى قسمين، وهما «البِنى المتناددة-Homologous structures»، وهي البِنى التي تؤدي وظائف مختلفة في كائنات حية مختلفة ولكنها تمتلك تركيبة متشابهة، والقسم الثاني هو «البِنى المتماثلة-Analogous structures» وهي البِنى التي تؤدي وظائف متشابهة بين الكائنات الحية ولكنها تمتلك تراكيبًا مختلفة نظرًا لاختلاف المسلك التطوري لدى الكائنات المختلفة. [2]

والآن بعد أن عرفنا ما هو التشريح المقارن، لنستعرض بعضًا من الأدلة التشريحية على التطور.

الأطراف الأمامية للفقاريات كأحد الأدلة التشريحية على التطور

تخيل معي عزيزي القارئ هذه البِنى المختلفة، زعنفة حوت، وجناح طائر، والأطراف الأمامية لكلب، وذراع إنسان.

تمتلك كل بنية من هذه البِنى وظائف هي أبعد ما تكون عن التشابه. فالحوت يستخدم زعانفه في السباحة، بينما تستخدم الطيور أجنحتها في الطيران، وتستخدم الكلاب أطرافها الأمامية في الحركة. بينما يستخدم الإنسان ذراعيه في الإمساك بالأشياء وحملها، إلا أن هذه البِنى المختلفة تمتلك نمطًا تشريحيًا متشابهًا!

أذرع كائنات حية مختلفة، كل لون يظهر عظمة معينة هي نفسها في كل الكائنات.

في الصورة المرفقة أعلاه يمكنك ملاحظة التشابه، حيث تتكون الأطراف الأمامية لهذه الكائنات الأربعة من عظمة كبيرة وهي عظمة «العضد-Humerus» (باللون البرتقالي)، ثم عظمتين وهما عظام «الساعد والزند-Radius and Ulna» (باللونين الأحمر والأبيض)، ثم عدد من العظام وهي عظام «الرسغ-Carpals» (باللون الأصفر)، ثم تنتهي ب «مشط اليد والأصابع-Metacarpals and Phalanges» (باللون البني)، وهو ما يدل على تطور هذه البِنى من بنية أبسط للأطراف الأمامية. [3]

ويمكنك ملاحظة أنه على الرغم من امتلاك وظائف مختلفة إلا أن هذه الأطراف الأمامية تمتلك نفس النمط التشريحي، وبالطبع هناك اختلافات لتساعد كل كائن على التكيف مع بيئته، فنرى أن عظام أصابع الحوت طويلة نسبيًا مقارنة بباقي الكائنات المذكورة لمساعدتها على السباحة.

الأطراف الخلفية للفقاريات كأحد الأدلة التشريحية على التطور

كما هو الحال مع الأطراف الأمامية للفقاريات، كذلك هي الأطراف الخلفية، فهي أيضًا تمتلك نمطًا تشريحيًا متشابهًا في كائنات مختلفة.

الأطراف الخلفية لكائنات حية مختلفة

وكما نلاحظ في الصورة أعلاه، فعلى الرغم من الاختلاف الظاهري لكل من الأطراف الخلفية للإنسان والشيمبانزي والكلاب والخِراف والأحصنة، إلا أنها تمتلك نمطًا يتكون من عظمة كبيرة وهي «عظمة الفخذ-Femur»، ثم عظمة في المنتصف وهي «الرضفة-Patella»، ثم عظمتين هما «قصبة الساق-Tibia»، و«القصبة الصغرى-Fibula». وكما قد تكون لاحظت فهي ليست متطابقة، إذ توجد اختلافات بينها لتناسب بيئتها، ولكنها في النهاية تتبع نمطًا موحدًا. [4]

«الفقرات العنقية – Cervical vertebrae» كأحد الأدلة التشريحية على التطور

أحد أكثر الأمور إثارة للدهشة هو عدد الفقرات العنقية في الثدييات، حيث تمتلك كل الثدييات نفس ال 7 فقرات عنقية مرتبة من الأعلى إلى الأسفل (C1, C2, C3, C4, C5, C6, C7)، وهذا الرقم ثابت سواء كان الحيوان الثديي حوتًا أو زرافة أو إنسانًا. فالزرافة البالغ طول عنقها 1.8 متر تمتلك نفس العدد من الفقرات في عنقها الذي يمتلكه الإنسان الذي يبلغ متوسط طول عنقه 12 سم. يشير هذا التشابه إلى وحدة الأصل الذي تتشاركه الثدييات، وما يمكننا اعتباره أحد الأدلة التشريحية على التطور. فالرقم ثابت مهما زاد طول العنق أو قصر. [5]

وتُعد كل من «حيوانات الكسلان-Sloths»، و«خِراف البحر-Mantees» هي الاستثناءات الوحيدة المعروفة لهذه القاعدة. فيمتلك حيوان الكسلان من 8 إلى 10 فقرات عنقية حسب النوع [6]، بينما لا يمتلك خروف البحر رقبة، حيث يمتلك 6 فقرات عنقية بدلًا من . ولهذا إن أراد أن يدير خروف البحر رأسه، عليه الدوران بجسده بأكمله. [7]

السلف المشترك للفقاريات

كما كنا قد ناقشنا في مقال سابق، فإن الخطوة الثانية من المنهج العلمي بعد المشاهدة هي وضع الفرضيات. ولأن الخطوة الثالثة هي التجربة لاختبار الفرضية، فهذا هو ما حدث مع نظرية التطور أيضًا.

كما نلاحظ من الأمثلة المذكورة أعلاه، هناك صفات تشريحية مشتركة بين الفقاريات (تحديدًا في الهيكل العظمي). تدفعنا تلك الصفات المشتركة لافتراض تطور هذه الفقاريات وانحدارها من سلف مشترك. فتقدم عالم الأحياء الإنجليزي «ريتشارد أوين-Richard Owen» برسم نموذج يوحّد هذه التراكيب المشتركة بين الفقاريات كنموذج أولي لها [8]. والجدير بالذكر أن ريتشارد أوين لم يكن من الداعمين لنظرية التطور، إلا أنه بهذا النموذج قدّم لنظرية التطور خدمة علمية مهمة. حيث اكتُشفت حفرية في الصين عام 1999 وهي حفرية «هايكوإكثيز-Haikouichthys» لسمكة عاشت من 530 مليون سنة في العصر الكامبري [9]. أظهرت الحفرية تشابهًا كبيرًا بينها وبين نموذج أوين، مما يجعلها أقدم الأسلاف المحتملة للفقاريات. [10]

نموذج أوين مقارنةً بالحفرية المكتشفة

المصادر

[1] britannica
[2] britannica
[3]the bones of the human and digits of fingers: britannica
[4] britannica
[5] britannica
[6] cambridge
[7] oceantoday
[8] jstor
[9] bbc
[10] fandom

عجائب مصر القديمة: الفن

هذه المقالة هي الجزء 1 من 9 في سلسلة عجائب مصر القديمة

برع المصريون القدماء في كافة مجالات ونواحي الحياة بشكل خلّد ذكراهم حتى يومنا هذا، فها هي أفواج السائحين تزور مصر كل عام لمشاهدة آثار هذه الحضارة العظيمة، وما لنا أن نذكر أي مجال من مجالات الحياة دون أن نقّر بدور حضارة مصر القديمة فيه، تلك الحضارة التي برعت في الفن والطب والسحر والهندسة وعلم الفلك، وفي هذه السلسلة (سلسلة عجائب مصر القديمة) سنتعرف على إسهامات المصريين القدماء في كل من هذه المجالات، وسنبدأ اليوم بالحديث عن الفن في مصر القديمة.

أنواع الفن في مصر القديمة وسماته

تنقسم أنواع الفن في مصر القديمة إلى 4 أنواع رئيسية:
1- الرسومات
2- التماثيل
3- العمارة
4- النقوش

والآن لنناقش كل نوع منهم ونرى سماته وأهم خصائصه

1- الرسومات

توجد العديد من الرسومات التي رسمها المصريون القدماء حتى يومنا هذا، وهذا لأن الرسومات لم تكن على ورق، وإنما كانت على جدران المعابد.

وتتميز الرسومات المصرية القديمة بالتسطيح التام، فهي لا توحي بالبروز، وإنما مشهد ثنائي الأبعاد فقط، كما حافظ المصريون القدماء على بعض سمات الرسومات التي وُجدت على جدران الكهوف في العصور القديمة، حيث رسموا الأجزاء المختلفة من الجسد البشري الواحد من مناظير مختلفة، وذلك ليسهل على المشاهد التعرف على أجزاء الجسد هذه، حيث اعتادوا رسم الأقدام بالمنظور الجانبي، وهذا لصعوبة التعرف عليها إن كانت مرسومة بمنظور أمامي، بينما رُسمت الأكتاف والجزء العلوي من الجسد بمنظور أمامي.

وعندما نأتي لمنطقة الوجه، نرى أن الفك مرسوم بمنظور جانبي، بينما العيون مرسومة بمنظور أمامي، ويمكنك ملاحظة كل ما ذكرناه في الصورة التالية.

وكما تلاحظ في الصورة السابقة، رسم المصريون الإله أنوبيس بحجم أكبر من الإنسان الواقف أمامه، وهذا لأن الحجم كان يستخدم في الرسومات المصرية القديمة للتعبير عن المكانة الاجتماعية، فرُسم الملوك والآلهة بأحجام كبيرة، حيث نلاحظ في الصورة القادمة صورة الملك وقد رُسم بجسد كبير، بينما جنود العدو أمامه بأحجام صغيرة.

كما استخدم المصريون خطوطًا متوازية تسّمى بال«قيود-registers»، وذلك التعبير عن المشاهد المختلفة وأيضًا للدلالة على الترتيب الزمني للأحداث.

ونلاحظ غياب هذه القيود في الرسومات التي تعبّر عن مشاهد الحرب أو الصيد، وذلك للدلالة على الفوضى وعدم النظام.

2- التماثيل

لم يُلقِ الفنانون بالًا لجمال الملامح البشرية في التماثيل كما فعل اليونانيون، بل اعتمدوا على الأشكال الهندسية الحادة، كما كانت معظم التماثيل في مصر القديمة تمثّل جسدًا بشريًا في وضعية الجلوس، كما وُضعت الأيدي فوق الركبتين، وذلك للدلالة على السكون والوقار والمكانة الاجتماعية العالية

3- العمارة

لا يجوز الحديث عن مصر دون الحديث عن مسلّاتها ومعابدها، تلك الهياكل المعمارية التي ظهر فيها إبداع الإنسان المصري القديم جليًا للعيان، حيث نحت المصريون القدماء كل مسلة من صخرة واحدة، وكانت المسلات في مصر القديمة تُزيّن بالنقوش بعد الفروغ من نحتها، ولعل أجدر المسلات بالذكر هي مسلة لاتران، والتي تُعد أكبر مسلات مصر القديمة الباقية حتى يومنا هذا، وهي موجودة في روما بإيطاليا، حيث أُعجب الرومان بالمسلات المصرية، فتم جلب العديد من المسلات المصرية إلى روما عاصمة الإمبراطورية الرومانية في ذلك الوقت.

وتلعب المعابد في مصر القديمة دورًا حيويًا، وذلك لاهتمام الإنسان المصري القديم بالدين والعبادة أشد الاهتمام، فكانت المعابد تُزيّن بالرسومات والنقوش من الداخل، فتكثر النقوش والرسومات على جدران المعابد المصرية وأسقفها بل وحتى الأعمدة.

كما نُحتت قمم أعمدة المعابد في مصر القديمة ب«تصميم زهري-floral design» بدقة مبهرة.

4- النقوش

انقسمت النقوش إلى نوعين:

• النقش البارز، وهي النقوش التي تبرز فيها الشخصيات والأجسام عن السطح المنقوش عليه.

• النقش الغائر، وهي النقوش التي تبدو الشخصيات والأجسام فيها كأنها غارقة بداخل الجدار أو السطح المنقوش عليه.

الفنانون في مصر القديمة

لم يكن الفنانون في مصر القديمة فنانين بالمعنى المتعارف عليه في يومنا هذا من حيث الإبداع والتنوع في الأساليب، وإنما كان الفنانون في مصر القديمة كالعمال، حيث يعمل النحاتون والرسامون في فِرَق من أجل إتمام عمل فني واحد، مُتقيدين في ذلك بقواعد ومواصفات محددة، بل وكان العمل الفني الواحد يتطلب أكثر من فريق لإتمام مراحله المختلفة.

أخناتون وتطور الفن في مصر القديمة

لم تمثل فترة حكم أخناتون البالغة 17 عامًا من تاريخ مصر القديمة نقطة تحول ديني فقط، وإنما شهد الفن في عهده تطورًا ملحوظًا، حيث نجد في تماثيله وتماثيل أسرته ملامح أنثوية بارزة، كما كانت النقوش تصوّره هو وأسرته بجماجم طويلة، وأيضًا توجد بعض النقوش لأخناتون وهو يقبّل أطفاله، وفي هذا انتباه للجانب الإنساني الشخصي من حياة الملك، وهذا ليس بالشيء المعهود عن الملوك في مصر القديمة الذين يظهرون في أغلب الرسومات في ساحة المعركة.

خاتمة

يستمر إبهار المصريين القدماء لنا حتى اليوم، سواء في الفن أو الهندسة أو أي مجال آخر، حتى أن هناك ألغازًا لم تُحل بعد عن هذه الحضارة العظيمة، وفي الجزء القادم من هذه السلسلة سنناقش جانبًا آخر اشتهرت به مصر في قديم الزمن، ألا وهو السحر.

المصادر

ancient.eu
visual arts
coursera

Exit mobile version