ما هو الانتشار الثقافي في علم الإنسان؟

الانتشار الثقافي في علم الإنسان، مصطلح برز في أربعينيات القرن الماضي، وقد صاغه عالم الأنثروبولوجيا ألفريد كروبر. ويصف هذا المصطلح انتشار عناصر الثقافة من حضارة إلى أخرى، ويستخدم هذا المفهوم بكثرة في مجال الأنثروبولوجيا الثقافية، بالإضافة لاستخدامه في مجال الجغرافيا الثقافية. [2]

تعريف الانتشار الثقافي في علم الإنسان

يعرف الانتشار الثقافي Trans-cultural Diffusion بأنه: “العملية التي يتم من خلالها نشر فكرة أو أفكار، خاصة بثقافة معينة؛وانتشارها إلى مناطق أخرى خارج نطاق الثقافة التي نشأت فيها”. [3]
وصف ألفريد كروبر، عالم الأنثروبولوجيا الذي صاغ هذا المفهوم، بأن الانتشار عبر الثقافات يمر بعمليات إعادة صياغة لاحقة. ويصف هذا المفهوم العملية التي من خلالها يتم نقل ونشر العناصر الثقافية، والتي تتمثل بالأفكار، والأديان، والتقنيات، والعادات، بين مجموعة من الأفراد وذلك ضمن ثقافة واحدة، أو ثقافتين مختلفتين. ومصطلح الانتشار الثقافي يستخدم لشرح الطرائق التي تنتشر فيها هذه الأفكار، وتندمج من خلالها الأفكار في ثقافات مختلفة. [1]
والانتشار عبر الثقافات يعد ظاهرة موثقة، وطبيعية تمامًا؛ ويذكر علماء الأنثروبولوجيا أمثلة على هذا، الانتشار الكبير للوجبات السريعة أميريكية الأصل في دول شرق آسيا، بالإضافة لذلك قد انتشرت الوجبات الآسيوية على سبيل المثال في أمريكا بشكل كبير. علاوةً على ذلك، طرح العديد من العلماء فكرة أن الزراعة قد انتشرت من مكان ما في الشرق الأوسط إلى كامل أوراسيا “أي أوروبا وآسيا” وذلك قبل 10000 عام. هناك أمثلة أخرى على ذلك منها انتشار اللباس الغربي في مختلف أنحاء العالم كلباس رسمي عوضًا عن الزي التقليدي للمنطقة. [1]

آليات الانتشار بين الثقافات

يحدث الانتشار بين ثقافات مختلفة عن طريق ثلاثة طرق وهي:

الانتشار المباشر Direct Diffusion

وتحدث هذه الطريقة عند اختلاط ثقافتين تؤثران ببعضهما، وذلك بكامل إرادة كل ثقافة ودون أي فرض. مثال على ذلك التشابه الثقافي بين البلدان المتجاورة، مثل شيوع لعبة الهوكي والبيسبول في الولايات المتحدة الأميريكية وكندا. مثال فردي على هذه الطريقة هو تعرف شخصين من ثقافتين مختلفتين وزواجهما الذي يُحدِث نوعًا من الإندماج الثقافي. [2]

الانتشار القسري Forced Diffusion

هذا النوع من الانتشار يفرض قسرًا من قبل ثقافة على ثقافة ثانية، مثال عن هذه الطريقة هي فرض أي ثقافة من بلد استعماري لبلد آخر محكوم من قبله. [2]

الانتشار غير المباشر Indirect Diffucion

يحدث هذا النوع من الانتشار من خلال جهة ثالثة أو “وسيط”، بحيث يكون هناك ثقافة مؤثرة، وثقافة متأثرة، وبينهما وسيط ينقل العناصر الثقافية. ولا تكون الثقافتين مرتبطتان بأي شكل من الأشكال غير الوسيط. مثال ذلك هو انتشار الطعام المكسيكي في كندا، بالرغم من وجود حاجز هائل بين الثقافتين هو الولايات المتحدة. لكنها هنا تلعب دور الوسيط بين الثقافتين الثانيتين. [2]

أنواع حالات الانتشار الثقافي في علم الإنسان

هناك 6 حالات للإنتشار الثقافي، وهي: [3]

الانتشار الثقافي عبر التنقل

وهذا النوع يتم فيه الانتشار من خلال انتقال الأفراد من نقطة إلى أخرى، والاستوطان في مكان جديد. والذي يؤدي إلى دمج الثقافات عند هجرة مجموعة من السكان إلى نقطة غير مكان توطنهم.

الانتشار الثقافي في علم الإنسان عبر التوسع

هنا يتم انتشار فكرة ثقافية معينة، من حيث نشأت وتمتد إلى مناطق أخرى. وتبقى هذه الفكرة قوية في مكان منشأها، ويتوسع انتشار الفكرة المطروحة بالتدريج.

الانتشار الثقافي المعدي

وهو نوع من أنواع الانتشار التوسعي، يشير إلى انتشار العناصر الثقافية من خلال تفاعل الأفراد مع بعضهم. فعندما يتفاعل الأفراد يتأثرون بثقافة الشخص الآخر، ويؤثرون به بدورهم. وهذا مشابه لفكرة العدوى بأي فيروس، أشهر أمثلة على هذا هي انتشار مقاطع فيديو معينة على الانترنت وتحولها ل”تريند”.

الانتشار الهرمي

وفي هذا النوع يتم الانتشار من خلال أشخاص مشهورين يشاركون فكرة ما، وتنتشر هذه الفكرة مع عامة الشعب. وفي يومنا هذا يتم توظيف المشاهير أو المؤثرين “انفلونسرز” للقيام بنشر اسم علامة تجارية، ومن خلال هذا يتبنى باقي الأفراد رأي الشخص المؤثر ويتم نشر الفكرة المطلوبة.

الانتشار بالتحفيز

يتم هذا الانتشار عندما تتغير الثقافة خلال عملية الانتشار، قد يبقى العنصر الثقافي المنشور في المنطقة التي برز منها نفسه أو قد يتغير. لكن سوف يتغير بالتأكيد كلما زادت شهرته وانتشاره في الأماكن الأخرى. كما يدعي بعض المنظرين بأن للعالم ثقافة واحدة انتشرت، وخلال عملية انتشارها طرأت عليها تغيرات كثيرة أدت لظهور الثقافات الحالية، لكنه رأي غير مؤكد تمامًا.

انتشار مع انعدام القدرة على التكيف

يحدث هذا النوع عند انتشار ثقافة معينة إلى أماكن جديدة، ولا تكون هذه العناصر الثقافية ذات معنى في المناطق التي وصلت لها، بالرغم من ذلك فهي لا تتغير لتتكيف مع البيئة الجديدة. [3]

أهم النظريات في الانتشار الثقافي في علم الإنسان

هناك عدد من النظريات التي تشرح عملية الانتشار الثقافي، نذكر أهمها: [1]

الانتشار شمسيّ المركز Heliocentric diffusionism

تقول هذه النظرية بأن جميع الحضارات قد نشأت من ثقافة معينة، ثم تم تحويرها وتبديلها.

الانتشار بالدوائر الثقافية Kulturkreise

هذه النظرية تقول بأن الثقافات المتعددة في العالم، يعود أصلها لعدد صغير من الثقافات.

الانتشار التطوري Evolutionary diffusionism

تقول النظرية التطورية بأن كل المجتمعات تتأثر ببعضها، والبشر جميعًا يشتركون في سمات نفسية تجعلهم متساويون في احتمالية الابتكار. هذا ما يؤدي إلى حدوث ابتكارات مختلفة في كل منطقة بشكل معزول عن الثقافات الأخرى.

نقد نظرية الانتشار الثقافي في علم الإنسان

يؤخذ على هذه النظرية ما يلي:

  • أولًا، توجه لهذه النظرية انتقاد حاد لأنها تتمحور بشكل أساسي على العرق، وتحاول شرح أنماط الانتشارات من خلال هذا. وهذه العرقية تم التصريح عنها من قبل العديد من المنظرين للانتشار الثقافي، وطرحت فكرة أن الثقافات المستقبلة لن تكون قادرة على الابتكار، إنما تتلقى كل شيء من الثقافة المؤثرة.[4]
  • ثانيًا، من عيوب نظريات الانتشار الثقافي كونها تخمينية، ويصعب إثباتها بشكل تام أو دحضها. ولا يمكن استنتاج بعض الأفكار فيها إلا عندما تتضمن أوجه تشابه بين الثقافات، حتى أن العناصر تكون معقدة نسبيًا ولا يمكن الجزم بصحتها. [2]
  • ثالثًا، يؤخذ على هذه النظرية فشلها في تفسير سبب عدم نقل عناصر ثقافية معينة. [2]

بالرغم من المآخذ والانتقادات التي توجهت لنظرية الانتشار الثقافي في علم الإنسان، إلا أنها بدون أي شك من الأفكار المؤثرة جدًا في هذا العلم. ويجب أخذها بعين الاعتبار عند المقارنة بين مجتمعين أو عدة مجتمعات مدروسة.

المصادر:
1- artandpopularculture
2- helpfulprofessor
3- academia
4- aranthropos

النظرية المادية الثقافية في الأنثروبولوجيا

النظرية المادية الثقافية في الأنثروبولوجيا من المدارس المهمة التي برزت في ستينات القرن الماضي، على يد العالم مارفن هاريس الذي أرسى الدعائم الأولية لأفكار هذه النظرية في كتابه صعود النظرية الأنثروبولوجية كنموذج نظري وبحثي في عام 1968. وقد وضح في كتابه عملية تطور وتغير المجتمعات متأثرًا بكتابات كارل ماركس. بالإضافة لتأثره من منظري النظريات التطورية في العلوم الإنسانية مثل هيربرت سبينسر.

نشأة النظرية المادية الثقافية في الأنثروبولوجيا

نشـأت المادية الثقافية كمدرسة فكرية على يد العالم مارفن هاريس، وذلك في عام 1968. ولكن جذور المادية الثقافية تمتد إلى الأفكار الماركسية، فهي تعد امتدادًا للأفكار المادية الماركسية. وقد نشأت هذه المدرسة كرد فعل على الأفكار البنيوية، والنسبية الثقافية، بالإضافة للأفكار المثالية. تؤكد هذه المدرسة أن العالم المادي يؤثر على سلوك البشر في مجتمعهم. والسلوك البشري جزء من الطبيعة بالتالي يمكن فهم السلوك البشري بنفس منهجية فهم الظواهر الطبيعية؛ أي باستخدام مناهج العلوم الطبيعية. [2]
يعطي أنصار المدرسة المادية الأولوية للعالم المادي على الفكر والإيديولوجيا المحيطة، أي برأيهم الواقع المادي هو ما يحدد الإيديولوجيا المنتشرة وليس العكس. وهذه الأفكار مستمدة من أفكار كارل ماركس وفريدريك إنجلز التي انتشرت في أواخر القرن التاسع عشر، التي قدما فيها نمذجًا تطوريًا للمجتمعات. لكن قلة من علماء الأنثروبولوجيا قد التفتوا لهذه الآراء حينها ولم تحصل على القبول، لكن هذه الأفكار زاد انتشارها بين علماء الأنثروبولوجيا في عشرينات القرن الماضي وزاد الاعتماد على تفسير العالم المادي لتحليل المجتمع والتطور المجتمعي. [1]

افتراضات المادية الثقافية في الأنثروبولوجيا

يحدد الماديون الثقافيون ثلاثة مستويات من النظم الاجتماعية التي تشكل نموذجًا عالميًا وهذه النظم هي: البنية التحتية infrastructure، البنية structure، والبنية الفوقية superstructure. وجميع هذه البنى مترابطة ببعضها حيث تؤثر كل بنية بالأخرى وتتأثر بها، وتؤدي التغيرات في بنية إلى حدوث تغيرات في البنية الأخرى. كما أن هذه التغيرات لا تكون بالضرورة فورية، ولكنها تظهر على البنية لاحقًا. [3]

البنية التحتية Infrastructure

يحدد أنصار هذه المدرسة البنية التحتية كأساس لجميع المستويات الأخرى، وتضم هذه البنية كيفية تلبية الاحتياجات الأساسية وتفاعلها مع البيئة المحيطة وتتضمن الوضع الاقتصادي والتكنولوجي والعوامل الديموغرافية التي تؤثر في المجتمع.

االهيكل أو البنية Structure

وهي الطبقة الوسطى بين البنية الفوقية والتحتية، تتضمن التنظيم السياسي والاقتصادي والاجتماعي للمجتمع، والمؤسسات والمنظمات الموجودة في المجتمع

البنية الفوقية Superstructure

وهي البنية المرتبطة بشكل رئيسي بالإيديولوجيا السائدة والرمزية والدين. وقد أكد مارفن هاريس على أن البنية التحتية هي الأكثر أهمية. فهنا يحدث التفاعل الأساسي بين الثقافة والبيئة وهي التي تؤثر حكمًا بالطبقات التي تليها. [5]

المنهجية المتبعة في المدرسة المادية الثقافية

تركز المادية الثقافية على الأحداث القابلة للملاحظة والقياس الكمي، وتماشيًا مع الطريقة العلمية تدرس هذه الأحداث باستخدام الأساليب التجريبية الإمبريقية. يعتمد النهج الذي أسسه هاريس على دراسة الثقافة لإبراز كونها ناتجة عن الوضع المادي المحيط، ويركز على الممارسات المجتمعية التي تساهم في بقاء واستمرار المجتمع، بالإضافة إلى أن التحليل يتضمن عمليات قياس ومقارنة للظواهر في المجتمع المدروس. [1]

أبرز العلماء المؤسسين لهذه المدرسة

ساهم العديد من العلماء في الأنثروبولوجيا في تطوير مدرسة المادية الثقافية، نذكر أهم هؤلاء العلماء:

مارفن هاريس

وهو المؤسس لهذه المدرسة، خريج جامعة كولومبيا وحاصل على شهادة الدكتوراه في علم الإنسان في عام 1953. في كتابه صعود النظرية الأنثروبولوجية حدد المعالم الأساسية لهذه المدرسة الفكرية. درس هاريس التطور الثقافي باستخدام منهجية بحث المادية الثقافية، ومن أهم التحليلات التي قام بها تحليل سبب تحريم أكل لحم البقر وتقديسه عند الهندوس. حيث حاول في عمله توضيح سبب تركيزه على الظروف المادية في تحليله للظاهرة. بالرغم من تعرض هاريس لنقد شديد إلا أنه قد خلف إرثًا هائلًا في الأنثروبولوجيا. [1]

جوليان ستيوارد

طور ستيوارد مبدأ البيئة الثقافية، التي تطرح فكرة أن البيئة هي عامل إضافي مساهم في تشكيل الثقافات. كما حدد مفهوم التطور متعدد الطبقات باعتباره منهجية تهتم بالانتظام في التغيير الاجتماعي، وهدفه تطوير القوانين الثقافية تجريبيًا. كما وضع فكرة أنواع الثقافة التي تمتلك صلاحية إظهار عناصر ثقافية مختارة من أساس مرجعي وتمتلك نفس العناصر الثقافية. [1]

الانتقادات التي وجهت للنظرية

طالت المادية الثقافية العديد من الانتقادات من العديد من المدارس الفكرية في الأنثروبولوجيا، لعل أبرزها كان من الماركسيين المعارضين للمادية الثقافية، والمثاليين البنيويين، وأنصار مدرسة ما بعد الحداثة.

انتقادات الماركسيين

قام الماركسي ج. فريدمان بتسمية المادية الثقافية بالمادية المبتذلة، وذلك لاعتقاده بأن النهج التجريبي الإمبرييقي الخاص بهذه المدرسة ساذج وبسيط للغاية. كما انتقد الماركسيون فكرة الاعتماد الشديد على البنية التحتية وأنها هي الأكثر تأثيرًا في باقي البنى. مشيرين لأهمية النظر للبنية الفوقية بجدلية ديالكتيكية لفهم أهميتها. ويجادلون أن أنصار المادية الثقافية قد اهتموا بالجانب التحتي من المجتمع إلى مرحلة قد أدت بهم لإهمال البنية الفوقية بشكل كامل. [4]

انتقادات منظري المدارس المثالية

جادل المثاليون ومنهم أنصار المدرسة البنيوية مثل ايميل دوركهايم، بأن الثقافة هي نفسها العامل المسيطر في عملية التغير الثقافي في المجتمع. وهذه الثقافة تستند إلى هيكل موجود في دماغ الإنسان. وانتقدوا التركيز المادي على البيئة المحيطة من قبل الماديين الثقافيين بأنه قد يخلق استنتاجات متحيزة. [4]

انتقادات أنصار مدرسة ما بعد الحداثة

انتقد أنصار ما بعد الحداثة المنهج العلمي الصارم الذي استخدمه الماديون التاريخيون، مؤكدين أن العلم في حد ذاته ظاهرة مصممة ثقافيًا تتأثر بالطبقة، والعرق، وعوامل بنيوية أخرى من البنية التحتية. حتى أن بعض أنصار ما بعد الحداثة يقترحون بأن العلم هو أداة تستخدمها الطبقات العليا في المجتمع لقمع والسيطرة على الطبقات الأضعف منها. وهذا يعد هجوم مباشر على المادية الثقافية بدراساتها الموضوعية والمقارنات متعددة الثقافات. [4]

مدخل إلى الأنثروبولوجيا: النظرية البنيوية في الأنثروبولوجيا

النظرية البنيوية في الأنثروبولوجيا من النظريات التي برزت في خمسينات القرن العشرين، وتعد من المدارس الهامة في مجال الأنثروبولوجيا. بُنيت هذه النظرية على آراء المفكر كلود ليفي شتراوس، التي تقول بأن للمجتمعات بنى أصغر حجمًا تشكل مجتمعة المجتمع بكليته وعناصره.

نشأة النظرية البنيوية في الأنثروبولوجيا

نشأت النظرية البنيوية على يد كلود ليفي شتراوس في خمسينيات القرن العشرين، متأثرًا بالعديد من المفكرين والفلاسفة منهم هيغل. وأخذ العديد من الأفكار من علم اللغة البنيوي، ومنها أفكار فرديناند دي سوسور الذي جادل بأن علماء اللغة بحاجة إلى تجاوز أفعال الكلام الفردية والتوصل إلى فهم أوسع للغة. طبق ليفي شتراوس هذه النظرية في بحثه عن البنى العقلية الكامنة وراء أفعال السلوك البشري. فكما المتحدثين بلغة يتحدثونها بالرغم من جهلهم بالقوعد، فإن البشر يعيشون حياتهم دون إدراك طريقة عمل البنى الاجتماعية في حياتهم اليومية. [1]
ركزت البنيوية على كيفية تحديد السلوك البشري من خلال البنى الثقافية والاجتماعية والنفسية. أي أن الأشياء لا يمكن فهمها بمعزل عن غيرها، بل يجب رؤيتها في سياق الهيكل الأكبر أو البنية الكاملة للمجتمع. ولا توجد هذه الهياكل الكبرى في المجتمع من تلقاء نفسها إنما تتكون من خلال إدراكنا للعالم. [5]

افتراضات النظرية البنيوية

تأثرت النظرية البنيوية بمدارس الظواهر والجشتالت في علم النفس. اقترح ليفي شتراوس أن التركيز للدراسات الأنثروبولوجية يجب أن يكون على الأنماط الأساسية للفكر البشري التي تنتج الثقافات التي تنظم بدورها وجهات النظر العالمية. واعتقد أن هذه العمليات لا تحدد الثقافة وإنما تعمل بداخل هذه الثقافة. وأكد المنهج البنيوي أن عناصر الثقافة يجب أن تفهم من حيث علاقتها بالنظام بأكمله. أي أن الكل أكبر من الأجزاء، وعناصر الثقافة ليست تفسيرية في حد ذاتها، لكنها تشكل جزءًا من نظام ذو معنى. [2]

مفهوم البنية في المجتمع

المفهوم الأساسي للبنية هو أن جميع أنشطة البشر في المجتمع مبنية وليست طبيعية أو تلقائية. تميل البنيوية إلى التصنيف العلمي، وتقترح في ذلك علاقة متبادلة بين الوحدات أو ظواهر السطح وبين القواعد أو الطرق التي عن طريقها يتم تجميع الوحدات. يعتقد أنصار هذه النظرية أن البنى الأساسية التي تنظم القواعد والوحدات في أنساق ذات معنى يتم إنشاؤها عن طريق العقل البشري وليست عن طريق الإدراك الحسي. وتحاول البنيوية تقليل تعقيد التجارب البشرية وإرجاعها إلى بنى أساسية معينة تعمم على كافة المجتمعات. [3]
يكمن تعريف البنية على أنها أي نظام مفاهيمي له ثلاث خصائص وهي:
1- الكمال، أي أن النظام يعمل ككل.
2- التحويل، النظام ليس ثابتًا.
3- التنظيم الذاتي، أي أن الهيكل الأساسي يكون ثابت.

نظام القرابة

تتمحور نظرية ليفي شتراوس عن موضوع القرابة أن مجموعات القرابة القبلية عادة ما توجد في أزواج، أو في مجموعات ثنائية تعارض بعضها بعضًا، ولكنها بحاجة لبعضها في نفس الوقت، كما أضاف أن الطرق التي صنف بها الناس في البداية الحيوانات والأشجار كانت مبنية على سلسلة من التناقضات. [4]
وصف الحكايات الشعبية لأمريكا الجنوبية القبلية بأنها مترابطة من خلال سلسلة من التحولات، حيث يكون هنام تحول معاكس في الحكايات إلى نقيضها في حكايات أخرى. ويرى أن هذه الأضداد هي رمز للثقافة الإنسانية والتي عن طريق الفكر والعمل تتحول إلى أدوات مادية للقبيلة. [2] [4]
تعكس الهياكل الاجتماعية المعرفية التعامل مع الأنماط في التفاعل الاجتماعي وتكون مظهر لها، وتسعى البنيوية إلى تحديد روابط بين بنى الفكر والبنى الاجتماعية. طرح موس الهدية كمثال وجادل بأن الهدايا ليست مجانية، بل تلزم المتلقي بأن يردها بالمثل. وأشار إلى أن الهدايا ليست أشياء مادية فقط، وإنما لديها خصائص ثقافية وروحية. ومن هذا انطلق شتراوس بأن التبادل هو الأساس العالمي لأنظمة القرابة، التي تعتمد بنيتها على نوع قواعد زواج معينة، وسمي النموذج الخاص بليفي شتراوس لأنظمة القرابة باسم نظرية التحالف. [4]

نظام الزواج

وضح ليفي شتراوس في نموذجه أنظمة الزواج بين أبناء العم، وتبادل الأخت، وقواعد الزواج الخارجي. أشار إلى أنه مع الوقت تشكل قواعد الزواج بنى اجتماعية، أي أن كل نظام زواج يخلق علاقة مدين ودائن يجب موازنتها من خلال التزويج على الفور أو في الجيل التالي. وناقش فكرة تبادل النساء بين القبائل بأن محركها الأساسي كان أن فكرة سفاح القربى محرمة شمن الأسرة أو القبيلة بالتالي لجأت القبائل لتبادل النساء. واكتشف أن مجموعة كبيرة من الثقافات غير المرتبطة ببعضها لها قانون يقتضي بتزويج أبناء العم أي أطفال الأشقاء من الجنس الآخر. وقام وفقًا لذلك بتجميع أنظمة القرابة في مخطط يحتوي على ثلاثة هياكل قرابة أساسية تم إنشاؤها من نوعين من التبادل. أطلق على تراكيب القرابة أولية، شبه معقدة، ومعقدة. [4]

العلماء المؤسسون للنظرية البنيوية في الأنثروبولوجيا

من رواد البنيوية كلود ليفي شتراوس الذي أسسها، والعلماء الذين شاركوا في تطويرها تيرينس هوكز وروبرت سكولز. وفي ستينات القرن الماضي نذكر من العلماء تشارلز موريس ونعوم تشومسكي.

كلود ليفي شتروس

عالم الأنثروبولوجيا الفرنسي ومؤسس هذه النظرية والعالم الرئيسي الذي ساهم فيها، طبق النظرة البنيوية على الظوهر الثقافية مثل الأساطير وعلاقات القرابة، كما طبق مبادئ اللغة في بحثه عن البنى العقلية الأساسية للعقل البشري. قام بتقسيم الأساطير إلى إلى وحدات صغيرة ذات معنى أطلق عليها اسم mythemes. وبرأيه، يمكن فهم كل ثقافة من حيث التعارضات الثنائية الموجودة فيها وهي فكرة استمدها من فلسفة هيجل. وأظهر أن التناقضات ستتصارع فيما بينها، وسوف يتم حلها في قواعد الزواج والأساطير والطقوس الخاصة بالمجتمع. [2]

فرديناند دي ساسور

عالم لغويات سويسري، أثر عمله في علم اللغويات وعلم الأحياء بشكل كبير على ليفي شتراوس، ويعتبر أنه من الأباء المؤسسين لعلم اللغويات في القرن العشرين. [3]

مارسيل موس

عالم الاجتماع الفرنسي، قام بتدريس ليفي شتراوس وأثر في تفكيره حول طبيعة المعاملة بالمثل والعلاقات البنيوية في الثقافة. [3]

ميشيل فوكو

فيلسوف اجتماعي فرنسي، ارتبطت أعماله بالفكر البنيوي وما بعد البنيوي، كتب إلى حد كبير عن قضايا السلطة والهيمنة في أعماله، تأثر بالفكر البنيوي لكنه لم يعد نفسه عالمًا بنيويًا تمامًا ورفض هذه التصنيفات. [3]

الانتقادات التي وجهت للنظرية

مع ظهور الفكر التفسيري لما بعد الحداثة تراجعت النظريات البنيوية والوظيفية. وذلك بسبب عدم اتساقها الداخلي ومجموعة من القيود أضعفت هذه النظرية. ومن المآخذ على هذه النظرية تركيزها المفرط على العلاقات القبلية وعلاقات القرابة. وأشار نقاد هذه النظرية إلى أن هناك نقاط ضعف في أساليب ليفي شتراوس.وذلك بسبب بحثه عن بنى مثالية الذي دفع به إلى إهمال واقع وتعقيدات الممارسات الفعلية، فليست جميع القبائل معتمدة على نظام مبادل الزواجات. كما أن التماسك الاجتماعي لا يتم بشكل رئيسي في تبادل النساء كزوجات. إن ليفي شتراوس طور مفهومًا للبنى الفكرية ولكنه ببساطة افترض وجودها افتراضًا. [2]

مدخل إلى الأنثروبولوجيا: النظرية الوظيفية في الأنثروبولوجيا

الأنثروبولوجيا أو علم الإنسان؛ هي الدراسة المنهجية لحياة الإنسان. ترجع أصولها إلى مراحل تاريخية قديمة لكنها لم تتبلور وتصبح علمًأ ممنهجًا إلا في القرن الماضي. تتعدد المدارس الفكرية في الأنثروبولوجيا ولعل أكثرها تأثيرًا هي المدرسة الوظيفية.

النظرية الوظيفية

تعد من أبرز المدارس التي أثرت في علم الإنسان والاجتماع، وحاولت فهم المجتمع من خلال ملاحظة وظيفة كل مكون في هذا المجتمع. وتبحث عن الوظيفة أو الجزء الذي تلعبه المؤسسة أو الفرد في النسق الاجتماعي لتحافظ على هذا النسق. بالتالي هي تعتبر المجتمع كنظام أو نسق تعمل كل أجزاءه معًا لتعزز تضامنه واستقراره. [1]

نشأة الوظيفية في الأنثروبولوجيا

نشأت النظرية الوظيفية كرد فعل على النظريات التطورية والانتشارية، وتعود جذورها إلى أعمال علماء الاجتماع مثل سبنسر ودوركهايم وكونت. وتبلورت في علم الإنسان في عشرينات القرن الماضي ولكنها تراجعت في الحرب العالمية الثانية بسبب التغيرات الثقافية التي سببتها الحرب. ولأنها لم توضح مفهوم التغيرات الاجتماعية استبدلت بنظريات تتعلق بالتغيرات الثقافية. [2]

مفهوم الوظيفة في المجتمع

تعد الوظيفية الثقافة كوحدة مترابطة وليست مجموعة من السمات المعزولة. وشبهت المجتمع بالإنسان، فكما لدى الإنسان أعضاء مختلفة تعمل بترابط لتحافظ على سلامته، كذلك المجتمع.
يدرس الوظيفيون كييف ترتبط مرحلة ثقافية معينة بجوانب أخرى من الثقافة. وكيف تؤثر على جوانب أخرى في الثقافة، أي تدرس السبب والنتيجة. كما يأخذ علماء الأنثروبولوجيا الترابط بين المجالات الثقافية المختلفة بعين الاعتبار عند تحليلهم للثقافات، مثلًا عند تحليل الروابط بين استراتيجيات المعيشة وتنظيم الأسرة والدين. [3]

المنهج المتبع في الوظيفية

يستند أسلوب الدراسة في الوظيفية على العمل الميداني والملاحظات المباشرة للمجتمع المدروس. يصف علماء الأنثروبولوجيا المؤسسات الثقافية المختلفة التي تشكل المجتمع، ويشرحون وظيفتها الاجتماعية، ومساهمتها في الاستقرار العام للنسق الاجتماعي . [3]

العلماء المؤسسون للوظيفية

بما أن الوظيفية نشأت في علم الاجتماع قبل علم الإنسان. فإن أهم منظريّ هذه المدرسة ومؤؤسيها هم من كبار علماء الاجتماع.

أوغست كونت

في محاولته لضبط منهجية علم الاجتماع حاول كونت إحياء بعض المقارنات التي أجراها الإغريق. وفلاسفة آخرون من عصره مثل هوبز وروسو، وذلك بتشبيه المجتمع بالكائن الحي. وبذلك ربط كونت بين علم الاجتماع والبيولوجيا. وبرأيه فإن المجتمع يشبه الكائن الحي الذي ينمو، ونتيجة لذلك يمكن فحص أجزائه ودراستها للحفاظ على النسق الاجتماعي. كما يؤكد كونت على وجود تطابق حقيقي بين التحليل الإحصائي للكائن الحي في علم الاجتماع، والكائن الحي في علم الأحياء. وذهب أبعد من ذلك في تحليله البنية الاجتماعية تشريحيًا لعناصر وأنسجة وأعضاء. وتعامل مع المنظومة الاجتماعية على أنها مؤلفة من العائلات التي هي عناصر أو خلايا، تليها طبقات اجتماعية التي عدها بمثابة الأنسجة. وأخيرًا المدن والتجمعات التي هي الإعضاء الكبيرة الحقيقية. [4]

هربرت سبنسر

استخدم سبنسر المماثلة العضوية لإنشاء شكل واضح من التحليل الوظيفي، ويرى أن المجتمع متشابه مع الكائنات الحية وكذلك العمليات البيئية مثل المنافسة والاختلاف والتطور المجتمعي. صور مفهوم الأنظمة العضوية الفائقة على أنها تكشف التشابه في مبادئ الترتيب مع الكائنات الحية. وقدم من خلال ذلك مفهوم المتطلبات الوظيفية أو الاحتياجات. ورأى أن هناك ثلاث متطلبات أساسية للأنظمة فائقة العضوية وهي: 1- الحاجة لتأمين الموارد وتعميمها.
2- الحاجة لإنتاج مواد قابلة للاستخدام. 3- الحاجة إلى تنظيم ومراقبة وإدارة أنشطة النظام. بالتالي فإن أي نظام اجتماعي يمتلك هذه الفئات الثلاثة، والهدف من التحليل الاجتماعي هو معرفة كيفية تلبية هذه الاحتياجات في الأنظمة الاجتماعية التجريبية. [4]

إيميل دوركهايم

يرى دوركهايم بأن التفسيرات الاجتماعية يجب أن تبحث بشكل منفصل عن السبب الفعال للظاهرة الاجتماعية والوظيفة التي تؤديها. لكنه عكس سبنسر، افترض شرطًا وظيفيًا واحدًا فقط وهو الحاجة للاندماج الاجتماعي، إذًا يتضمن التحليل الاجتماعي لدى دوركهايم تقييم أسباب الظواهر ونتائجها أو وظائفها لتلبية احتياجات الهيكل الاجتماعي. [4]

أهم العلماء المساهمين في تطوير الوظيفية في الأنثروبولوجيا

برانيسلاف مالينوفيسكي

اقترح أن الأفراد لديهم احتياجات فيزيولوجية والمؤسسات الاجتماعية تتطور لتلبية هذه الاحتياجات. كما هناك أربع احتياجات مشتقة ثقافيًا أساسية وهي الاقتصاد والرقابة الاجتماعية والتعليم والنظام السياسي. وهذه تتطلب أجهزة مؤسسية لكل منها موظفين وميثاق وأجهزة المادية. يعتقد أن الاستجابات النفسية الموحدة ترتبط بالاحتياجات الفيزيولوجية. وتلبية هذه الاحتياجات حولت النشاط المادي الثقافي إلى دافع مكتسب من خلال التعزيز النفسي. [4]
أحد الموضوعات التي درسها هي التمييز بين السحر والدين والعلم في المجتمع. وبرأيه كان العلم معرفة تجريبية وعقلانية، بينما السحر كان منطقيًا بمقدمات خاطئة بالرغم من أن الاثنان يستخدمان كأدوات لفهم الطبيعة. وشدد على أهمية السلوك الاجتماعي والعلاقات الاجتماعية في سياقاتها الثقافية الملموسة من خلال الملاحظة المشاركة. واعتبر أنه من الأهمية النظر في الاختلافات الملحوظة بين القواعد والإجراءات؛ أي بين ما يقوله الناس وما يفعلونه في الحقيقة. ومن أهم مساهمات مالينوفسكي المفاهيمية كانت في مجالات القرابة والزواج مثل مفهوم الأبوة الاجتماعية. وفي السحر ولغة الطقوس والأساطير في دراسته للأسطورة كميثاق اجتماعي. [2]

ألفريد رادكليف براون

من الأباء المؤسسين للوظيفية المرتبطة بالبنيوية الوظيفية. ركز على دراسة مساهمة الظواهر في الحفاظ على البنية الاجتماعية، وركز بشكل خاص على أنظمة القرابة والنسب، واقترح أنها على الأقل في المجتمعات القبلية، تحدد طبيعة تنظيم الأسرة والسياسة والاقتصاد والعلاقات بين المجموعات. [2]

إدوارد إيفانز بريتشارد

تشمل أبحاثه العديد من المجموعات العرقية ودراسته لعدة قبائل مثل قبائل النوير، بالإضافة لعمله في التنظيم السياسي، حيث ساعد عمله على القرابة في تشكيل النظرية السياسية. أكد على ضرورة إدخال التاريخ في الدراسات الأنثروبولوجية الاجتماعية، ولكنه رفض فكرة الأنثروبولوجيا الاجتماعية كعلم واعتيرها تاريخًا مقارنًا. بالرغم من مساهمته في بشكل كبير في دراسته للمجتمعات الإفريقية، إلا أنه أهمل معاملة النساء كجزء من المجتمع ككل. على الرغم من أنه اتخذ منهجًا وظيفيًا إلا أنه تحول لاحقًا لنهج إنسانيّ. [2]

الانتقادات التي وجهت إلى الوظيفية

من أهم الانتقادات التي وجهت للوظيفية هي عجزها عن تفسير التغيير الاجتماعي. ولم تتمكن من تفسير عملية الصراع الاجتماعي، وأنها ذات طابع محافظ يحافظ على الوضع الراهن والقوة المهيمنة لطبقة النخبة، وأنها كانت تجريدية وغامضة في تفسيرها للعالم الحقيقي. من الطبيعي رؤية أن للمجتمع هياكل ووظائف حيوية ولكن ما هو غير منطقي افتراض أن الأنساق والأجزءا في هذا المجتمع هي الوحيدة التي يمكن إنشاؤها لتحقيق الأهداف التي تبتغي المحافظة على المنظومة الاجتماعية. [4]

مدخل إلى الأنثروبولوجيا، ما هو علم الإنسان؟

الأنثروبولوجيا أو علم الإنسان علم برزت أهميته خلال القرن الماضي بشدة، وهو فرع من العلوم الاجتماعية التي تبلورت من قرون ولكنها لم تصبح علمًا ممنهجًا إلا في القرن الماضي

تعريف الأنثروبولوجيا

الأنثروبولوجيا هي الدراسة المنهجية لحياة البشر، وتعني حرفيًا “علم الإنسانية”. فهي مشتق من كلمتين من الإغريقية وهما  anthrops أنثروبوس وتعني الانسان، و logos وتعني الدراسة العلمية. وبهذا تكونان كلمة انثروبولوجيا أو علم الإنسان.

وتدرس الأنثروبولوجيا البشرية بهدف الوصول لفهم لأصولنا التطورية، وتميز البشر كنوع، والتنوع الكبير في أشكال الوجود الاجتماعي للبشر حول العالم، وتطور الأنواع البشرية عبر التاريخ. أي ينصب تركيزها على فهم التنوع البشري وفهم تطورنا كنوع على الأرض.

نشأة الأنثروبولوجيا وتطورها

مرحلة ما قبل المنهجية العلمية

يرجع بعض المؤرخين أصول دراسة علم الانسان إلى الإغريق، حيث قام المؤرخ هيرودوتس بكتابة أفكار أصبحت لاحقًا جوهرية في علم الإنسان. فقام بوصف عادات وشعوب مختلفة عن الإغريق، ولكنه صنف اليونان كبلد مهيمن وبقية الحضارات أدنى مستوى منها، وهو ما عمل به العديد من الأنثروبولوجيين الأوروبيين لاحقًا بوضعهم أوروبا بالدرجة الأولى.

كما قام العلامة ابن خلدون بإضافات عديدة من ضمن أفكاره في علم الاجتماع ونشوء الدول وانهيارها، ما أسهم في تبلور علم الانسان لاحقًا. خلال العصور الوسطى تساءل بعض المفكرين عن أصول الانسان ولكن تم التعامل مع هذه الشؤون كأفكار دينية بحتة.

الأنثروبولوجيا خلال عصر التنوير

في بداية القرن الخامس عشر السابق لحقبة التنوير بدأت الاستكشافات العالمية وبدأ الأوروبيون باكتشاف حضارات غريبة عنهم مع اكتشاف قارة أميركا، وكتب الرحالة الذين وصلوا لهذه البلدان ملاحظات بسيطة ولكنها غير دقيقة ومشتتة وغير واضحة، ولكنها مهدت الطريق لنشوء علم لدراسة الانسان.
وفي عصر التنوير شهدت الأنثروبولوجيا تقدمًا ملحوظًا، حيث بنى المفكرون حينها أفكارهم على المنهج العلمي والمنطقي والعقلاني لا على التفكير الديني أو الغيبي. فكتب جان جاك روسو على سبيل المثال عن الصفات الأخلاقية لبعض الجماعات “البدائية”  وعن عدم المساواة بين البشر، ولكن ما زالت هذه الكتابات نظرية بحتة وتفتقر إلى الاحتكاك المباشر والتجربة.

الإمبريالية تمهد لنشوء علم الانسان الحديث

مع تزايد الاحتكاك مع الثقافات غير الأوروبية، وصعود الإمبريالية (السيطرة السياسية والاقتصادية على البلدان الأجنبية) في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر بدأ الأوروبيون بملاحظة سلوك الشعوب الأخرى واختلافهم ثقافيًا ولكن هذه المرة مع احتكاك مباشر مع الشعوب، فحصلوا على فيض هائل من المعلومات عن هذه الشعوب بسبب استعمارهم لها، الأمر الذي ساعد بتشكيل انثروبولوجيا مهنية.

وفي نهاية القرن التاسع عشر أصبحت الانثروبولوجيا علمًا معروفًا لدراسة البشر والإنسانية وبدأت بتشكيل تفرعات عنها.

الفروع الأساسية للأنثروبولوجيا

الأركيولوجيا “علم الآثار”

تعد من الفروع الأساسية لعلم الإنسان، وتدرس الأركيولوجيا البشرية من خلال تحليل الآثار الباقية عن الحضارات القديمة، بالإضافة لتحليل العظام والبقايا البشرية لمعرفة تطور البشر.

يبدأ النطاق الزمني للدراسات الأركيولوجية بدراسة أسلاف البشر منذ ملايين السنين ويمتد حتى التاريخ المعاصر.

الأنثروبولوجيا البيولوجية

وتسعى لفهم كيفية تكيف البشر مع ظروفهم المحيطة والبيئات المختلفة. الذي قد يسبب لهم المرض أو الموت المبكر وما الذي يساعدهم على التكيف. بالإضافة لفهم كيف تطور البشر من أسلاف أخرى، فيدرس العلماء البشر بالإضافة للرئيسيات الأخرى مثل القرود، والحفريات والمستحاثات. ويركزون على فهم عمل علم الأحياء والثقافة معًا لتشكيل الحياة الإنسانية التي نعرفها الآن.

الأنثروبولوجيا الثقافية

يستكشف علماء الأنثروبولوجيا الثقافية والاجتماعية كيف يعيش الناس ويفهمون العالم المحيط بهم. ويحاولون فهم ما يعتقده الناس أنه مهم والقواعد التي يضعونها والعادات والتقاليد حول العالم وتطورها وتغيرها عبر الزمن. مثل عادات الدفن وطقوس الزواج والاحتفالات الدينية والمناسبات الثقافية والعادات المختلفة للمجتمعات البشرية.

الأنثروبولوجيا اللغوية

يدرس علماء الأنثروبولوجيا اللغوية الطرق التي يتواصل بها الناس حول العالم. ويهتمون بكيفية ارتباط اللغة برؤية البشر لعالمهم، ودراسة اللغة وتطورها بمرور الزمن. وكيف يستخدم البشر اللغة في حياتهم للتواصل والتعبير وإنشاء العلاقات، فاللغة هي المفتاح الرئيسي للتواصل الاجتماعي وأول درب لفهم المجتمعات البشرية.

المدارس الرئيسية في علم الانسان

الأنثروبولوجيا الوظيفية

يعتقد الوظيفيون أن المؤسسات الاجتماعية كالمدرسة والأقران والأسرة، تعمل جميعها بشكل متكامل لتوفير بيئة مستقرة ليعيش الناس فيها. يدرس الوظيفيون كيفية عمل هذه المؤسسات الاجتماعية عن طريق طرح أسئلة مثل: ما هو الغرض من هذه المؤسسة؟ كيف يتم تشغيلها؟ كيف يتم اتخاذ القرارات فيها؟

قد تبدو الثقافات مختلفة لمن يراقبها، ولكن برأي الوظيفيين المجتمعات البشرية مجتمعات طبيعية لأنها تتكون من مؤسسات اجتماعية مختلفة تعمل لتأمين احتياجات الناس.

الأنثروبولوجيا البنيوية

ترى البنيوية، وقد طورها العالم الفرنسي ليفي شتراوس، أن المجتمعات هي عبارة عن أنساق اجتماعية تشكل أنماطًا ثقافية. أي أنماط متكررة في عادات الدينية والثقافية والفن.

الأنثروبولوجيا المادية الثقافية

ترى المادية الثقافية التي طورها مارفن هاريس في ستينات القرن الماضي، أن البنية التحتية للمجتمع مثل التكنولوجيا والإنتاج الاقتصادي والمؤسسات الاجتماعية تؤثر في بنية المجتمع (أي العلاقات والتنظيم الاجتماعي)، وبينتها الفوقية أي الأفكار والمعتقدات والقيم.

في النهاية تنبع أهمية دراسة الانثروبولوجيا لفهم التنوع البشري وختلاف العادات والتقاليد، كلما عرفنا أكثر كلما أدركنا أن البشر برغم اختلافهم الشديد عن بعضهم يتشابهون بأمور عديدة، وهذا ما علينا تذكره عند استهجان العادات الغريبة أو الجديدة علينا، أن التشابه بين البشر باختلاف أعراقهم أكبر من اختلافاتهم.


Exit mobile version