كيف تساعدك البكتيريا في علاج الجيوب الأنفية ؟

اكتشف فريق بحثي بلجيكي نوعًا غير متوقعًا من البكتيريا يعيش في الأنف ويحميها من الأمراض المختلفة، ونشروا دراستهم في مجلة الخلية «Cell Press» في نهاية شهر مايو، فهل تساعدك البكتيريا في علاج الجيوب الأنفية ؟

نشارك أجسادنا مع كائنات دقيقة لا نراها تسمى البكتيريا، ولمَّا تشاركنا الجسم ووفرنا لهم المسكن ساعدونا في الحفاظ على هذا الجسد: فتقطِّع هذه الكائنات وتبَسِّط جزئيات الطعام في بطوننا لنتمكن من هضمها، وتحمي جلودنا ولساننا من البكتيريا الغريبة الضارة،  فماذا عن أنوفنا؟

لإجابة هذا السؤال، سحبت الباحثة سارة ليبيير «Sarah Lebeer» وفريقها عينة من أنوف سليمة من مائة شخص وعينات أخرى من مئات الأنوف المصابة بالجيوب الأنفية والأمراض المزمنة، ولكن ذلك لم يكن فقط لإزعاج المشاركين بالتجربة وإقلاق أنوفهم، بل لدراسة أنواع البكتيريا التي تسكن أنوفنا.

استوقف سارة وفريقها نوعٌ واحدٌ تحديدًا من البكتيريا: اللاكتوباسيلس «Lactobacillus»، والتي ملأت الأنوف السليمة عشرة أضعاف الأنوف التَعِبة، فإن كان هذا النوع من اللاكتوباسيلس لا يحب الهواء ويعيش في الأوساط الفارغة من الأكسجين، كيف لها أن تعيش في الأنف التي تستنشق الهواء والأكسجين إلى الرئتين ثم تزفره؟

تعتقد سارة وفريقها أن هذا النوع اللاكتوباسيلس تأقلم على حياة الأنف والرياح المارة فيها، فهذه البكتيريا تحمل على سطحها شعيرات وأيادي صغيرة «Fimbriae» تساعدها على التمسك بجدار الأنف، وتبني بيتًا لها من الخلايا الأنفية مانعة وصادة للميكروبات الضارة الأخرى، بل وتحمل جينات تساعدها على تحمل نسبة الأكسجين العالية في هواء الأنف.

حين عمرت هذه البكتيريا أنوف الأصحَّاء، منعت الميكروبات والبكتيريا الأخرى أن تحتل الأنف وجيوبها الأنفية، فهل تساعدك هذه البكتيريا في علاج الجيوب الأنفية ؟

يسكن في أمعائنا نوع آخر من اللاكتوباسيلس وتعد من المعززات والمعينات الحيوية «Probiotics» ، فتحمينا من الأمراض المختلفة مثل الإسهال،  ولكن نحتاج للمزيد من الدراسات للتأكد من فعاليتها في الأنف، فإن صحَّت، ستشكل علاجًا أفضل للجيوب الأنفية وبديلًا قويًا للمضادات الحيوية التي تخسر معاركها أمام البكتيريا يومًا بعد يوم . (في الحقيقة يشكل اليوم التعاطي المستمر للمضادات الحيوية والنقصان المستمر في قدرتها العلاجية أزمة عالمية.)

يحذرنا الباحثون من تعليق جميع آمالانا على هذا الفصيل من اللاكتوبايسلس، فهي لا تكفي وحدها للحفاظ على أنفنا وحمايتها من الجيوب الأنفية وسائر الأمراض، سيتطلب ذلك المزيد من الدراسات والتجارب كسائر الاكتشافات العلمية، لعل الصعوبة تكمن في اختلاف أنوفنا وكائناتها عن أنوف حيوانات التجارب.

المصادر :
Science Magazine
Cell Press
Applied and Environmental Microbiology

تحكي ثلاثة هياكل عظمية حياة العبيد الأفارقة في تاريخ المكسيك

تحكي ثلاثة هياكل عظمية حياة العبيد الأفارقة في تاريخ المكسيك حيث دفنوا في قبر جماعي جوار مشفى سانت جوزيه المكسيكية، فتش العلماء بين ثنايا عظامهم وفي أفواههم ومادتهم الوراثية لرسم صورة كاملة  وحية عنهم وعن معاناتهم.

قامت مستشفى سانت جوزيه الملكية «The Royal Hospital of Saint Joseph of the Indians»على الجانب الآخر من الكوكب منذ خمسة قرون، أمر بإقامتها إحدى ملوك الأسبان لخدمة الهنود، وهكذا قدمت خدمة متميزة لأهل المكسيك، كما شهدت تفشي الأوبئة التي أفتكت بنصف شعبها، أغلقت المشفى بابها وأخلت أجنحتها منذ ثلاثة قرون، وبقت المقبرة المجاورة وبقت جثثها، تحكي الجثث تاريخ وصول أوروبا للمكسيك وتاريخ المكسيك وأهلها، كما تحكي تاريخ الاستعباد فيها.

بدأت الحكومة المكسيكية مد خطوط مترو الأنفاق لتصل المناطق الحيوية في البلاد، والتي شملت مشفى سانت جوزيه ومقبرتها، استخرج علماء الحفريات جثث هذه المقبرة وما بقى منها لدراسة تاريخ دخول الأوروبيين وسيطرتهم على المكسيك من خلال فحص رفات الجثث وتحليلها.

لفت انتباه رودريجو باركيرا «Rodrigo Barquera» ثلاثة جثث بالتحديد مدفونة في قبر جماعي، وبدأوا دراستهم التي نشرت حديثًا هذا العام في مجلة الخلية «Cell Press»، بدأ الفريق البحثي تقصي حياة هؤلاء الثلاثة، والبحث بين ثنايا هياكلهم العظمية وربطها بمعلوماتنا التاريخية لرسم صورة كاملة وحية لثلاثة عبيد أفارقة على الجانب الآخر من الكوكب في فترة موبوءة من حياة المكسيك.

حين فارقت الروح الجثث، كان أصحابها بين العشرينات والثلاثينات من أعمارهم، ولم تكن حياتهم بالسهلة أبدًا، فأصابت طلقة نارية أحدهم وتركت رقعتها في قفصه الصدري، وآخر عانى من سوء التغذية والأنيميا حتى لتجد أن عظامه أصبحت أرفع وأخف، أما الثالث فأفصحت ساقه وعظامه عن كسور نتيجة المجهود البدني الغير المحتمل.

وجد الباحثون آثار بكتيريا وفيروسات باقية في فم وأسنان رفاقنا الثلاثة، فبعضها يفتك باللكبد وبعدها يصيب الجهاز التناسلي، يدفعنا تشابه هذه البكتيريا والفيروسات مع سلالتها الأفريقية بالظن أن رفاقنا حملوا هذه الأمرض معهم حين نُقلوا إلى المكسيك أول مرة، أو أصابتهم العدوى على السفينة التي نقلتهم.

لم يقتل رفاقنا أمراضهم ولا طلقة الرصاص ولا العمل المضني، ماذا قتلهم؟ لا نعرف، ربما يشير دفنهم في قبر جماعي في فترة شديدة الأوبئة إلى إصابتهم بأمراض عصرهم في المكسيك، ولكن لم يجد الباحثون دليلًا قاطعًا على ذلك.

أكَّد الباحثون الأصول الأفريقية لرفاقنا عن طريق تحليل مادتهم الوراثية ومقارنتها بجينات الشعوب الأفريقية، ولكنهم لم يستطيعوا تحديد وطن رفاقنا الأصلي الذي أُخرجوا منه، لعل أصولهم في ذاتها لا تثير الاستعجاب، ففي هذه الفترة نُقِل عشرات آلاف الأفارقة إلى المكسيك، فيحمل معظم المكسيكيين الآن جيناتٍ أفريقية.

قدم الباحثون لنا صورة حية لحياة ثلاثة أفراد في قبر جماعي بجوار أنقاض مشفى سانت جوزيه، صوروا لنا تعب أجسادهم والأمراض التي أغنصتهم والوطن الذي أفتقدوه ومصاعب حياتهم، رغم مرور قرون على آخر يومٍ التقطوا فيه أنفاسهم، لم تحك لنا كتب التاريخ والمؤرخون قصتهم – ربما لانعدام أهميتها بالنسبة لتاريخ الشعوب ككل وتاريخ حروبها، استطعنا نحن الآن استجواب الماضي ومعرفة أخبار،فكما حفظت هذه الجثث حياة العبيد الأفارقة في تاريخ المكسيك ، من يدري فلربما تحفظ أجسادنا أخبارنا وآلامنا قرونًا بعد موتنا فاتحة بابنا لأقوام غيرنا، لا يربطنا معهم سوا مرور الزمن.

المصادر:

أتصعق نفسك بالكهرباء إرضاء لفضولك؟

قد يمسكك الفضول بقبضته حتى لتقبل الصعق بالكهرباء لتعرف إجابة سؤال يجول في ذهنك، على الأقل هذا ما وجده باحثون من بريطانيا واليابان العام الماضي.

تحدثت أساطير أجدادنا مرارًا وتكرارًا عن سيطرة الفضول البشرية على المرء وأفعاله، وغالبًا ما أدى ذلك إلى نتائج مأساوية، فحين نظر أورفيس «Orpheus» خلفه فقد محبوبته يوريديس «Eurydice» للابد، وحين فتحت فتحت باندورا صندوقها على الرغم من نهي الآلهة، انطلقت الآلام والأوبئة إلى عالم البشر، البطلان في كلا الأسطورتين دفعا ثمنًا باهظًا نتاج فضولهما، فأي ثمن تدفعه أنت لتعرف إجابة سؤال يراودك أو لتشفي فضولًا ما في نفسك؟

حاول الإجابة على هذا السؤال عالمان النفس جوني لاو «Johny King L. Lau»وكو مورياما «Ku Murayama» وفريقهما   في دراسة نشرت آخر مارس الماضي في دورية الطبيعة للسلوك البشرية «Nature Human Behavior».

عرض الباحثون فيديو على المشاركين في التجربة، احتوى الفيديو على خدعة سحرية  أو مجموعة من الأسئلة، ولكن بدلًا من كشف سر الخدعة السحرية أو إجابة الأسئلة اعطوهم خيارين.

كان إحدى الخيارين هو انتهاء التجربة دون إخبار المشاركين بسر الخدعة السحرية، أما الخيار الثاني كان أكثر تعقيدًا وإثارة للاهتمام.

كان الاختيار الثاني عبارة عن عجلة حظ«fortune wheel»، عرضت عليهم عجلة الحظ احتمالات أن يعرفوا الإجابة إذا أداروها، فإن حالفهم الحظ عرفوا سر الخدعة السحرية، إما إن كانت الاحتمالات ضدهم أو كان حظهم تعسًا، أصابتهم صعقة كهربائية بسيطة.

أراد الباحثون بهذه التجربة قياس تأثير الفضول على قرارات البشر، هل يتحملون الألم مقابل معرفة بسيطة قد لا تفيدهم في حياتهم؟ الإجابة البسيطة -مثل الأساطير اليونانية: نعم.

كلما زاد فضول المرء لفهم الخدعة السحرية، كلما عرض نفسه لخطر الصعقة الكهربية مقابل لذة المعرفة في ذاتها.

حينما حاول الباحثون فهم النشاط الدماغي في هذه اللحظة، كيف تبدو الإشارات العصبية في مخ الإنسان حينما يمسك به الفضول؟

بتقنية رسم الدماغ «fMRI» وجد الباحثون أن الدوائر العصبية التي تتفعل أثناء الفضول البشري هي ذاتها التي تتفعل حين يجوع المرء! يعني ذلك أن طلب المعلومة الغريبة التي تحمل فضولًا اتجاهها يشبه طلب الطعام حينما يعصرك الجوع.

لعل ذلك يتحكم بنا فضولنا وقبضته القوية على هذا النحو، ولكن إن تقبل المشاركون في التجربة صعقة كهربائية لفهم خدعة سحرية، فماذا تقبل انت لفهم سؤال يدور في ذهنك ويسلبك النوم؟

المصدر: nature

الأوبسين : هل يمنحك بروتين واحد حاستين مختلفتين؟

تتكون الكائنات الحية من جزيئات صغيرة عضوية وغير عضوية، تتفاعل مع بعضها لتؤدي وظيفتها المخلوقة لأجلها.

تندفع الأيونات الموجبة إلى داخل خلية القلب فينبض، أو تندفع داخل الخلية العصبية فتشعر بحكَّة على ظهر يدك اليمنى!

نتحدث هذه المرة عن جزيء الأوبسين «opsin»، والذي كشفنا أنه يلعب دورًا هامًا في أنحاء الجسد المختلفة، والذي لا يقل دهشة عن أقرانه  من جزيئاتنا.

ظننا حتى هذه اللحظة -أو حتى الثاني من أبريل الماضي- أن الأوبسين يلعب دورًا واحدًا في العين وعملية الإبصار، حيث يأخذ شعاع الضوء الساقط على العين، ويعطي المخ إشارة لتفسيره مانحًا لك بصرك.

هكذا ظن العلماء طويلًا أن الأوبسين مقتصر على عملية الإبصار، ولكن دراسة جديدةً في مجلة الخلية «Cell Press» تؤكد أهمية دوره في عملية التذوق!

يختلف التذوق عن الإبصار اختلافًا شديدًا، حينما تفتح عينيك في الصباح الباكر، تسقط أشعة الضوء على عينك، فتغير تركيب جزيء الأوبسين، حينها يرسل الأوبسين إشارات عصبية في المخ، ويعد هذا التغير الناتج عن الضوء تغيرًا فيزيائيًا.

أما التذوق فيعتمد على ذوبان جزيئات الطعام في ماء الفم، واختلاطها بالجزيئات والتراكيب في خلايا التذوق، فتتفاعل كيميائيًا وتتغير، وعلى أساسها تعطي لعقلك إشارة بالمذاق.

راقب العلماء هذه الإشارة العصبيية عند نوعٍ من ذباب الفاكهة، مرةً في وجود ومرةً في غياب مادة الأوبسين، أطعموا الذباب محلولًا لاذعًا وشاهدوا الإشارات العصبية الناتجة في أدمغتهم.

أطلقت الخلايا المحتفظة بالأوبسين ما يقارب العشرين نبضة في الثانية، أما أقرانها التي نزع منها الأوبسين لم تصب إلا نصف هذا الرقم.

يدل ذلك على دور الأوبسين في عملية التذوق ذاتها، ووجد العلماء أنه فعلًا يساعد الذبابة على تذوق التركيزات الصغيرة للمحلول اللاذع المستخدم في التجربة.

رغم أنك لا يختلط عليك ما تراه وما تتذوقه، فلا ترى الطعم الحلو ولا تتذوق اللون الأحمر، إلا أن خلايا التذوق وخلايا البصر قد يشتركان في بعض الجزيئات والتراكيب، وجزيء واحد قد يشعرك – أو يشعر الذبابة في هذه الحالة- بمذاق الطعام ولون الأشياء.

يمكنك هنا مطالعة الخبر بالانجليزية من نشرة العلوم «science magazine»
رابط الدراسة من مجلة الخلية
رابط الصورة

صوت التفكير: من هو الصوت الهامس في أفكارك ؟

من هو الصوت الهامس في أفكارك ؟

أنت تعرفه جيدًا، فهو يرافق تفكيرك أينما ذهبت، بل وينطق هذه الكلمات همسًا الآن بين أذنيك، لعلك انشغلت بخاطرة ما البارحة أو ما قبل البارحة، فصاحبك هذا الصوت في انشغالك، يعرض عليك أفكارك ويجري بينها سريعًا أو على مهل، قد يتحدث كثيرًا فلا تستطيع إسكاته، وقد يصمت وقت أن تحتاجه، ولكن من هو الصوت الهامس في أفكارك؟

يسمى هذا بالحديث الداخلي «Inner Speech»، وكما لا يغيب عنك، فهو خاص بك، لا أحد يسمعه غيرك، ولا أحد يستطيع أن يخبر بما يدور في رأسك دون أن تطلعه على محتويات ذهنك، وذلك أدى إلى صعوبة دراسة هذه الظاهرة بين العلماء، ولكن بالطبع -لكونهم علماء- حاولوا تطوير وسائل لفهم هذه الظاهرة  من استبيانات واختبارات مختلفة وأدوات لفحص النشاط المخي أثناء الانخراط في التفكير، لفهم نشوءه وكيفية نموه معنا خلال طفولتنا وحتى شبابنا وشيخوختنا.

راقب طفلًا يلعب بألعابه وحده، أو إن كنت تذكر نفسك وقت طفولتك، هل يلعب طفلك صامتًا؟ أم يدلو بتعليقٍ من آن لآخر؟ “لا ليس هذا مكانها”، أو “فلأجرب وضع هذه القطعة فوق هذا الهيكل”؟
تسمى مثل هذه التعليقات بالحديث الخاص «Private Speech»، وتُطلقُ على حديث المرء مع نفسه بصوت عالٍ، ولكن دون وجود طرف آخر لهذه المحادثة، يعد هذا مرحلة بينية من الحديث المعتاد وبين حديث الصوت الهامس في أفكارك.

دليلك للنضوج

راقب علماء النفس في القرن الماضي هذه الظاهرة بتركيز للإجابة سؤال: كيف ينمو العقل والتفكير مع التقدم بالعمر؟ فنجد كلًا من جون بياجي «Jean Piaget» وليف فيجوتكسي «Lev Vygotsky» أتفقا أن في هذه المرحلة يحدث الطفل نفسه بديلًا عن أبويه او مرشده، فهو يصف ما يفعل، محاولًا إدلال نفسه على الخطوة التالية في لعبته، بعبارة أخرى، يكون هذا الحديث بديلًا عن التوجيه الكامل من الأبوين خلال اللعبة، فالطفل لا يحتاج لأبيه وأمه لكي يأتي بالدمية ويضعها على الطاولة، وذلك لأنه يخبر نفسه من آن لآخر ويصف نشاطه.

ولكن بياجي ظن أن هذا السلوك مجرد عادة، ينساها الطفل حين يكبر ويتمكن من سائر قواه الذهنية والعقلية، وينخرط في المحداثات والاجتماعيات المختلفة مع أهله وأقرانه، أما فيجوتسكي فاختلف رأيه، قائلًا بأن الحديث الخاص الذي ينطقه يتطور إلى عملية داخلية في عقله، أي أن يقولها في ذهنه بدل أن ينطق بها لسانه، ومنا هنا يأتي الصوت الداخلي.

العالم الروسي ليف فيجوتسكي (1896-1934). Heritage Images / Getty Images

في نظرة فيجوتكسي، لا يعمل الصوت الداخلي على تسليتك في مواصلات الجامعة أو أن يؤرقك ليلًا فقط، ولكنه مؤشر ودليل يرشد أفعالك وسلوكك، فما كان سابقًا تعليمات أبويك، تحول تدريجيًا إلى تعليقات تخبرها نفسك وحدك، إلى صوت داخلي تحمله داخلك باقي حياتك، تنتقل هذه التعليمات أو الفكار بعد ذلك إلى مراحل تطوير واختلاف أثناء النضوج، فتصبح أكثر عمومية، وتبتعد أكثر عن التعليمات السلوكية الفورية، لتشمل في النهاية شتى أنواع الأفكار التي تحظى بها الآن، فصوتك الداخلي صاحبك طوال رحلتك، وكان دليلك للنضوج.

هل من فوائد أخرى؟

لعل الحديثين الداخلي والخاص يقعان في وسط العديد من العمليات الذهنية التي يجب أن تتم كاملة ليتحققا، فيجب أن يكون العقل قادرًا على سماع أحرف الكلمات وتمييزها من عن بعضها، حين تفكر في كلمة “مفتاح”، فأنت تسمع صوت حروف الميم والفاء وغيرها، ولكن يتوجب أيضًا أن تقدر على فهم معنى كلمة “مفتاح” لتنخرط في التفكير الداخلي، وهذه وظيفة مختلفة تمامًا عن مجرد سماع الأحرف.

يحمل الحديث الداخلي والحديث الخاص رؤى هامةً في فهم كلا العمليتين، وعلاقتهما بالذاكرة، وإلى آخره من الأسئلة التي تتناول الوظائف الذهنية لدينا.

الصوت الهامس في أفكارك

في النهاية يعد صوتك الداخلي رفيقك، ما يخبرك به قد يحدد كيف تشعر ويتحكم فيما تريد، إن اتفقت مع رؤية فيجوتكسي أم لجأت إلى الوسائل التجريبية القليلة المتوفرة لدراسة هذه الظاهرة، فإلى ذاك الحين عليك تقديره ومحاولة التفاهم معه، ولعل عقلك يطيب.

المصدر: Psychological Bulletin

كيف يتنبأ النشاط الدماغي للأطفال بالاضطرابات النفسية ؟

كيف يتنبأ النشاط الدماغي للأطفال بالاضطرابات النفسية؟

يتنبأ النشاط الدماغي للأطفال بالاضطرابات النفسية في بحث جديد نشر بدورية الجمعية الطبية الأمريكية «JAMA psychiatry»، وذلك من خلال رصد نشاط المناطق المختلفة في المخ لدى الأطفال ذوي السبع سنوات ومتابعة تطورهم حتى عمر الإحدى عشر عامًا،  وجد الباحثون أن اختلاف النشاط العصبي لمناطق المخ المختلفة يحمل تنبؤات دقيقة عن عرضة الطفل للاضطرابات النفسية مع تقدم عمره.

هل تكفي الأعراض لتشخيص المرض النفسي؟

تنشأ الأمراض النفسية نتيجة لعدة عوامل داخلية وخارجية، سواء كانت الجينات أم التربية أم الصفات الشخصية أم عوامل مجتمعية أو خبرات حياتية مدمرة تدفع بالمصاب إلى مخالب المرض النفسي، لمواجهة هذه العوامل يحمل الطبيب النفسي أدواته لاستكشاف أعراض المصاب واضعًا في الحسبان مشاعره وأفكاره وسلوكه وظروفه الحياتية.

على الرغم من أن الأطباء يشخصون الأمراض النفسية من خلال فحص الأعراض الظاهرة على المريض ومن ثمَّ معالجتها  كلما أمكن، إلا أن أدوات علوم الأعصاب منحتنا نافذةً أوسع وأكثر دقة لفهم المرض النفسي.

يستطيع مسح المخ «Brain Scanning» تحديد موقع الخلل في الدماغ وتحديد أبعاد المرض النفسي والتنبؤ بأعراضه من خلال تحديد  وظيفة هذه المنطقة.

يتحكم كل جزء من أدمغتنا بوظيفة حيوية أو نفسية لدينا، فعادة ما يرجع الاضطراب النفسي إلى خلل منطقة ما في المخ، يتمكن علماء الأعصاب من تحديد هذه المنطقة من خلال الرسم الدماغي «Brain Scanning»، وهذا ما يمكنهم من فهم أي وظيفة نفسية أو ذهنية أدى اختلالها إلى ظهور أعراض المرض النفسي.

فمثلًا عند مرضى الأكتئاب «Major Depressive Disorder» لا تعمل المنطقة الواقعة في مركز القشرة المخية المسماة بالقشرة الحزامية الأمامية «Anterior Cingulate Cortex»، وهي المنطقة المسؤولة عن المشاعر ونشوءها نتيجة لاتصال هذه المنطقة بالمناطق المخية الآخرى المسؤولة عن العواطف، أيَضًا يزداد نشاطها في اضطراب فرط الحركة «ADHD» مع ازدياد نشاط منطقة القشرة الجبهية «Prefrontal Cortex» المسؤولة عن الانتباه والتفكير والسلوك الموجه «Goal-directed Behavior».

غالبًا ما يظهر هذا الخلل الدماغي مع أعراض المرض، فمثلًا يميل مرضة الاكتئاب إلى الانسحاب من حياتهم اليومية شيءً فشيءً بينما يميل مرضة اضطرابات فرط الحركة إلى انتباه مشتت، إلا أن الأطباء النفسيين صمموا استبيانًا يبين سلوك الأطفال وميولهم نحو الاضطرابات النفسية المختلفة قبل أن تظهر هذه الأعراض فعلًا، كان ذلك من خلال تصميم ما يعرف بلائحة سلوك الطفل «Child Behavior Checklist»،

يقوم المتخصص النفسي بسؤال الأبوين عن سلوكيات أطفالهم، ومن خلال إجابات الأبوين يستطيع المختص تحديد ميول الطفل نحو سلوك غير صحي بعينه، مثل العنف ضد زملائه، أو قلقه المستمر، أو نشاطه الزائد.

ولكن هل الأدلة السلوكية التي تقدمها هذه اللائحة تكفي للتنبؤ بعرضة الأطفال للأمراض النفسية لاحقًا؟ استعانت سوزان جابريلي «Susan Gabrieli»  وفريقها البحثي من جامعة نورث إيسترن الأمريكية «Northeastern University» بالأدلة التي أتاحتها دراسات المسح الدماغي لتجيب على هذا السؤال.

أداة جديدة للتنبؤ بالاضطرابات النفسية

بالنظر إلى الأفراد الأصحاء نجد أن منطقة المخية المسؤولة عن الانتباه والتفكير يقل نشاطها مع زيادة تفعيل المنطقة المسؤولة عن العواطف «Anti-correlated» ، والعكس صحيح، ولكن إن زاد نشاطهما معًا أو قل نشاطهما معًا، فهذا يدل على وجود خلل ما، ويعدُّ دليلًا على مرضي الاكتئاب أو مرض فرط الحركة

قامت سوزان وفريقها باستخدام الرنين المغناطيسي الوظيفي «fMRI» تقوم هذه التقنية على قياس معدل ضخ الدم إلى أجزاء المخ المختلفة، فالأجزاء النشيطة تزداد الدم الواصل إليها، فبالتالي تعكس نشاط مناطق المخ المختلفة، وقاموا بتطبيقها على أربعة وتسعين طفلًا في عمر السابعة، و تابعوا نمو هؤلاء الأطفال لمدة أربعة أعوام رصدوا خلالهم الأنماط السلوكية لدى الأطفال وميولهم نحو الاضطرابات النفسية المختلفة ومقارنتها بلائحة سلوك الطفل المعتاد استخدامها.

تخبرنا النتائج بأن النشاط الدماغي للأطفال يتنبًا بالاضطرابات النفسية، فكلما تماثل نشاط المناطق المسؤولة عن الانتباه والمناطق المسؤولة عن العاوطف -حتى بداية من سن السابعة- كلما زادت عرضة الأطفال للإصابة بالأمراض النفسية المختلفة عند وصولهم إلى سن الحادي عشر.

يفتح هذا الاكتشاف الباب أمام عالم أوسع وأرحب وأكثر دقة لاستخدام التصوير العصبي للتنبؤ بعرضة الأطفال للاضطرابات العصبية، ويخرج بنا خارج المقاييس السلوكية لتشخيص الأمراض النفسية، ولعله يسمح لنا بالوقاية منها عندما ندرك أي من أبناءها مهَّددٌ بخطر هذه الاضطرابات.

المصدر: JAMA Psychiatry

مصدر الصورة

إشارة عصبية جديدة يحتكرها مخ الإنسان

إشارة عصبية جديدة يحتكرها مخ الإنسان

إشارة عصبية جديدة يحتكرها مخ الإنسان تحمل الكثير من التأملات نحو القوة الحاسوبية لعقلنا دونًا عن سائر الكائنات، والتي تتحدى فرضيةً دامت طويلًا في التعلم الآلي.

تخبرنا دراسة نشرت بدورية العلوم «Science Magazine» في بداية هذا العام عن قوة خفية يحملها الثلثان الأخيران من قشرتنا المخية، تحديدًا في قلب الخلايا العصبية في هذه المنطقة.

الخلية العصبية كما فهمناها

صورة مبسطة لتركيب الخلية العصبية

تتكون الخلية العصبية من رأس وذيل، يسمى الرأس بجسد الخلية العصبية «Soma»، وتستقبل خلاله الإشارات الكهربية من الخلايا حولها، تسير الإشارة الكهربية في جسد الخلية العصبية حتى تصل إلى الذيل أو ما يسمى بالمحور «axon»، يستريح المحور على جسد خلية عصبية أخرى، ناقلًا إليها الإشارة الكهربية.

ولكن الأمر أكثر تعقيدًا من ذلك، حيث أن الخلية العصبية تحمل بوابات مختلفة للأيونات الموجبة والسالبة، مثل الصوديوم والبوتاسيوم والكاسيوم والكلور، وكل بوابة لهذه الأيونات لها طريقة عملها، فبعضها يتحفز سريعًا حينما تأتيه الإشارة الكهربية، بعضها ينشط ببطء، والبعض الآخر يحتاج قدرًا معينًا من الإشارات الكهربائية حتى ينشط، معًا تعمل هذه الأيونات على نقل الإشارات العصبية من خلية عصبية إلى أخرى، ومن منطقة من المخ إلى منطقة أخرى.

 تعمل الخلايا العصبية جميعها معًا على حل “المشكلات”، قد تكون هذه المشكلة ماذا نتناول في عشاء اليوم، أو كيف ننظم أنفسانا ونسترخي حين تكون حياتنا مستقرة ولا خطر يواجهنا.

ولأن الخلايا العصبية تعمل على مرور الكهرباء فيما بينها فقد مثلها علماء الأعصاب بصورة شبكة، حيث تمثل كل خلية عصبية نقطة ، وتنتشر الإشارة العصبية خلالها محكومة بنوع الأيونات ونوع الاتصالات عند هذه الخلايا العصبية.

علوم الأعصاب والتعلم الآلي

يستغل علماء الحاسوب مفهوم الشبكة العصبية «Neural Network» بدرجة كبيرة في شتى المشاكل، خاصة مشكلات التعلم الآلي Machine» «Learning، يحمل هذا المجال تطبيقات كبيرة في تحليل البيانات المختلفة والتفضيل بينها وإيجاد حلول لشتى المشاكل التي يتم عرضها على هذه الشبكة العصبية، ولكن تطبيقاتها لم تتوقف على علوم الحاسب فقط، ولكنها تستخدم في فهم الجهاز العصبي و تمثيله في نماذج وفهمه بقدر أكبر مما تطرحه فقط دراسة الخلايا العصبية  كجزيئات كيميائية وأيونات.

كان الفهم السائد من هذا المنطلق أن الخلية العصبية المفردة تعمل مثل بوابة المنطق AND المشهورة في الدوائر الكهربائية، فيجب أن يجتمع قدر معين من النشاط الكهربائي في جسد الخلية كي تتمكن من إرسال سيال عصبي خلال محورها إلى الخلية العصبية التالية. وهذا المفهوم يتناسق مع فهمنا لتركيب الخلية العصبية، حيث أن بعض الأيونات لا تدخل الخلية إلا عندما تأتيها إشارات عصبية قوية مجتمعة من عدة خلايا عصبية أخرى.

يتوقف دور الخلية العصبية المفردة على ذلك، لما فيه من بساطة، ولكن نظريًا فيمكن لشبكة من الأعصاب أن تقوم بأي وظيفة أيًا كانت، بل إن تحقيق بعض الوظائف يتوقف كليًا على شبكة الأعصاب، ولا يمكن القيام بها في خلية عصبية مفردة، بل قام بعض علماء الحاسب في أواخر ستينيات القرن الماضي بالإثبات النظري لاستحالة القيام بوظيفة XOR إلا من خلال شبكة عصبية متكونة من عدة طبقات، ولا تستطيع شبكة واحدة القيام بها.

تعمل بوابة XOR بقراءة إشارتين كهربيتين يدخلانها، فإن كان إحداهم موجبة أو 1، أما الثانية غير متواجدة أو 0، ترسل بوابة XOR إشارة موجبة أو تحمل قيمة 1 هي الأخرى لباقي أجزاء الشبكة العصبية أو الدائرة الكهربية، أما إذا جاءتها إشارتين بقيمة 1 أو إشارتين بقيمة 0 فلا تعمل.

هل كنا على خطأ؟

هذا إلى أن جاء ماثيو إيفان لاركم «Mathew Evan Larkum» من جامعة همبلدت برلين الألمانية «Humboldt University of Berlin» وفريقه البحثي لدراسة ظاهرة جديدة في الخلية العصبية، تحديدًا في ثلثي القشرة المخية الخارجيين وتفسير سلوكها الغريب الذي لا يستطيع تفسيره فهمنا عن الخلايا العصبية.

جامعة همبلدت الألمانية

باستخدام أيونات كالسيوم المشعة، وبغلق بوابات الأيونات الموجودة على الخلية العصبية، وجد الباحثون نوعًا جديدًا من بوابات الكالسيوم، والتي تحمل نوعًا خاصًا من  الإشارات العصبية dCaAP، تختلف في تحفيزها وتوصيلها للكهرباء عن سائر الخلايا العصبية التي درسناها من قبل.

بعد دراسة العديد من الخلايا العصبية التي تظهر هذا النمط من بوابات الكالسيوم، قام الباحثون بتصميم نموذج حاسوبي للخلايا العصبية بالخصائص الجديدة التي وجدوها.

في المحاكاة التي صمموها، تنطلق إشارات عصبية بشكل عشوائي نحو الخلايا وفيما بينها، مما يزيد من احتمال أن تصل إشارتان عصبيتان لنفس الخلية في نفس الوقت، حين يحدث ذلك، لا تنطلق أي إشارة عصبية من نوع الdCaAP، ولكن تنشط فقط حينما يصلها إشارة عصبية واحدة في الوقت الواحد.

يعد هذا النشاط مطابقًا تمامًا لوظيفة XOR التي تطرقنا إليها، يقول الباحثون في دراستهم: “طال الظن بأن التشابكات العصبية تقوم فقط بوظيفتي AND أو OR”، ولكن حسب نتائج دراستهم يكمل الباحثون “ولكننا وجدنا السيالات العصبية dCaAPs يستطيع القيام بهذه الوظيفة”.

لعل العامل الرئيسي الذي أدى لهذا الاكتشاف يكمن في قيام العلماء بدراسة شرائح من خلايا عصبية بشرية مستأصلة -لأسباب علاجية- من مرضى الأورام الدماغية ومرضى الصرع، فاعتمادهم على العينات البشرية كشف لنا ما لم تكشفه لنا أدمغة الفئران التي درسناها وبنينا على أساسها مفهومنا عن الخلايا العصبية ونشاطها، فهذا النوع يعد إشارة عصبية جديدة يحتكرها مخ الإنسان.

ماذا بعد؟

يدعو الباحثون العلماء في نهاية الدراسة بتجديد رؤيتهم للعقل البشري ومفهومنا عنه، فسيؤدي فهم قدرة الخلية المفردة ووضع نموذج سليمة لها في النهاية لفهم العقل البشري وكيف تتفاعل جميع عناصره لينشأ السلوك المخي في النهاية.

تخبرنا هذه الدراسة أيضًا أن الخلية العصبية المفردة تحمل داخلها قوة حاسوبية اقوى مما توقعناه، وهذا يفتح الباب أما تجديد العديد من المفاهيم، فالخلية العصبية ليست مجرد نقطة في شبكة تنتشر خلالها الإشارات الكهربية، ولكنها تحمل تعقيدًا كافيًا يجعلها في ذاتها كيانًا يستحق الدراسة والفهم، ومن يدري إلى ماذا ستصل تطبيقات هذا في علوم الحاسب ذاتها التي أنكرت إمكانية مثل هذا الأمر.

المصدر: Science Magazine

كيف يفسر لنا نشاط الخلايا العصبية سلوك اليرقات؟

هل يمكننا رصد الخلايا العصبية المفردة لفهم سلوك اليرقات؟

تمكن فريق من العلماء من رصد نشاط الخلايا العصبية المفردة لفهم سلوك اليرقات أثناء تحركها في بيئتها، تواجه الكائنات الحية دائمًا معادلة صعبة، هل يببحثون في بيئتهم عن مصادر الغذاء المختلفة؟ أم عليهم أن يكفوا عن البحث ويستغلوا الموارد التي يملكونها والفرائس التي يعرفون طريقها و يسهل الوصول إليها؟ توقفت قدرتنا على دراسة هذين النوعين من السلوك على مراقبة الكائنات الحية ورؤية أي مسلك تسلك، ولكن دراسة واعدة بدورية نيتشر «Nature»  منذ عدة أيام جعلتنا قادرين دراسة النشاط العصبي وراء سلوك يرقات أسماك الدنيو المخططة «zebrafish» .

كيف يمكننا رصد نشاط الخلايا العصبية؟

لعل التحدي الأكبر لهذه الدراسة يكمن في القدرة على مراقبة الخلايا العصبية لمخ اليرقة كاملًا أثناء حركة اليرقة، فرغم التقدم الحادث في التقنيات الحديثة لمراقبة المخ، إلا أنها إما تتم باستخدام مسح كاملٍ للمخ غير قادر على تحديد نشاط الخلايا العصبية المفردة، أو مراقبة للنشاط الكهربائي في الخلايا العصبية المفردة في منطقة محددة دون توافر معلومات كاملة عن باقي خلايا المخ.

فقام الفريق البحثي بقيادة ماركوس وزملائه بإضافة كالسيوم مشع معدل جينيًا «genetically modified calcium indaicators» إلى جسم اليرقات، فعند وضعها تحت الميكروسكوب يمكنك رؤية الخلايا العصبية النشطة تضيء تحت الميكروسكوب في المخ كاملًا، ولكن هذه التقنية تطلبت أن لا تتحرك اليرقة، أو تكون مشلولة تمامًا حتى تمكث تحت العدسة الميكروسكوبية، مما يجعل دراسة سلوك اليرقة الطبيعي وطريقة تعاملها مع العوامل التي تجدها في بيئتها أمرًا مستحيلًا، ولكن الفريق البحثي استخدم تقنية حديثة التطوير (قام نفس الفريق بتطويرها) باستخدام ميكروسكوب قادر على تتبع حركة اليرقة في بيئتها «Tracking fluorescence microscope»، ومن ثَمَّ مراقبتها ومراقبة خلاياها العصبية مباشرة أثناء حركتها.

صنف الباحثون سلوك اليرقات إلى عدة أنواع، فإذا سبحت بشكل حر ولمسافات واسعة دون استغلال الموارد المتاحة لها فهي في حالة الاكتشاف والبحث عن الموارد «Exploratory State»، أما إذا صغر مدى حركتها وبدأت في استغلال الغذاء والفرائس المتوفرة السهلة فهي في حالة الاستغلال «Exploitation State»، في الحقيقة فإن قرار الاكتشاف أم الاستغلال يعد قرارًا صعبة، فالبحث عن موارد قد يمكن اليررقة من توفير الغذاء بكميات أكبر من الآن، ولكنها تدفع الثمن من طاقتها ومجهودها، أما سلوك الاستغلال فهو موفر لهذا المجهود، ولكن يجب أولًا أن تتوافر الفريسة لها كي نستطيع استغلالها، و من هنا فيعتمد أي السلوكين ستسلك اليرقة على جوعها، وعلى قدرتها على إيجاد الفريسة على القرب منها.

ثلاث فئات مختلفة للنشاط الدماغي

تمكن الباحثون من رصد نشاط الخلايا العصبية المفردة لفهم سلوك اليرقات أثناء حركتها الحرة تحت الميكروسكوب، ومراقبة أي سلوك وأي نشاط دماغي مصاحب لحالات جوعها وحالات توافر الفريسة في بيئتها، قاموا برصد حالات عشرات آلاف الخلايا العصبية، مراقبين كيف يتغير هذا النشاط مع تغير سلوك اليرقات، أظهر لنا هذا الرصد ثلاثة فئات محددة من النشاط الدماغي.

في الفئة الأولى توزع نشاط الخلايا العصبية على المخ كاملًا، بلا زيادات عالية في النشاط في أي منطقة منهم، مما يظهر أن هذه الحالة مختصة بسلوك الاكتشاف، في الفئة الثانية وجدوا نشاطًا زائد في منطقة مخية تسمى الدورسال رافي «Dorsal raphe»، يزداد نشاط هذه المنطقة بشدة في بداية سلوك الاستغلال، وتقل مع مرور الوقت. أما الفئة الثالثة فيظهر النشاط الدماغي في مناطق مختلفة من أدمغة اليرقات، وتظهر عند الانتقال سلوك الاكتشاف إلى سلوك الاستغلال، مما يظهر أنها هي المسؤولة عن تفعيل سلوك الاستغلال هذا ومنها يمكن التنبؤ بالمدة التي سيستمر بها.

من المتوقع كما قلنا أن يزداد سلوك الاستغلال والنشاط الدماغي المصاحب له عند جوع اليرقات وتوفر فريسة سهلة لها، درس الباحثون هذه الفرضية، فوجدوا نشاط السلوك الاستغلالي لليرقات عند تعرض لضوء يبين لها الفرائس الموجودة من حولها بعد فترة من الظلام، تنشط منطقة الدورسال رافي مما يفيد سيطرة السلوك الاستغلالي، ولكن -عكس ما توقعنا- عندما يزداد جوع اليرقة فإنها تنشِّط سلوك الاكتشاف حتى مع وجود الفرائس السهلة حولها.

رغم أن تقنية الكالسيوم المشع تمكننا من الكثير من الأشياء التي لم تكن سهلة لنا من قبل، فإنها لا تقرب من أن تكون ثمالية، فهي لا تظهر إلا النشاط الدماغي في لحظات بعينها، ولكنا لا تظهر نشاط أي منطقة من المخ أدى إلى تنشيط باقي أجزائها، ولكنها مع ذلك تظهر توفر مجالًا واسعًا لدراسة الخلايا العصبية ونشاطها في الحالات المختلفة وبناء معرفة أقوى عن التركيب التشريحي للمخ وانتقال المعلومات المختلفة من خلاله.

المصدر: Nature

 

الأجسام المضادة الثلاثية – خطوة جديدة في العلاج المناعي للسرطان

الأجسام المضادة الثلاثية – خطوة جديدة في العلاج المناعي للسرطان

يحمل الجسم آليات دفاعية عديدة لمجابهة الأورام السرطانية، ورغم ذلك تتغلب الأخيرة على هذه الدفاعات إما عن طريق التنكر أو إضعافها كليًا، مما دفع العديد من العلماء لمحاولة تنشيط هذه الدفاعات ضد الخلايا السرطانية فيما يسمى بالعلاج المناعي، ولكن هذه المحاولات اقتصرت فقط على أنواع معدودة من الأورام بالإضافة إلى خطر الإصابة بأمراض مناعية أخرى، دعونا نتعرف سويا في هذا المقال على الأجسام المضادة الثلاثية ، التي يعتبرها البعض خطوة جديدة في العلاج المناعي للسرطان .

بحث جديد

لحسن الحظ فتح بحث نشر بدورية نيتشر لعلوم السرطان الباب أمام المزيد من التقدم عن طريق إعداد أجسام مضادة تستطيع أن تمسك بالخلايا المناعية والخلايا السرطانية في وقت واحد، جاعلة الخلايا المناعية أكثر قدرة على قتل الخلايا السرطانية.

كيف يحارب جسم الإنسان السرطان؟

يُعَدُّ جسم الإنسان من أعتد الأنظمة الحية التي تتعاون جميع أجزاءها لتحافظ على سلامة الجسد التي هي جزء منه، ولذلك يمتلك الجسم نظامًا محكمًا للخلايا المكونة له لضمان سلامتها، فإن توقفت عن العمل أو أصابها خلل تفعَّلت آلياتها المبرمجة داخلها لضمان تقلصها وانتهائها، لكن بعض الخلايا تهرب من عملية الموت الخلوي المبرمج هذه «Apoptosis»، وتنمو وتنقسم على حساب غيرها من الأنسجة السليمة، وهو ما يسمى بالورم «Tumor»، هنا يأتي دور جهاز المناعة ليهجم على الورم بشديد قوته ويقضي على تلك الخلايا الأبية للموت، رغم ذلك فبعض المجموعات من خلايا الجسم المختلفة تخدع جهاز المناعة، إما بأن تتخفى برداء وتتنكر في شكل الخلايا الطبيعية في الجسم موحية للخلايا المناعية أن كل الخلايا الموجودة سليمة لم يصبها شيء، او عن طريق تثبيط جهاز المناعة مباشرة؛ في هذه الحالة فتسمى خلايا الورم بالخلايا السرطانية «Cancerous Cells».

العلاقة بين الأورام وجهاز المناعة

يُقسّم العلماء العلاقة بين الأورام وجهاز المناعة إلى ثلاثة مراحل:

فالأول أن يكون جهاز المناعة قادرًا قدرة تامة على القضاء على الورم المتكون، فيقرأ المستقبلات الغريبة عن الجسم الظاهرة على أغلفة الخلايا «Non-self receptors»، فيسلط عليها آلياته المناعية مثل الخلايا التائية «T Lymphocyets» التي تلتصق بخلية الورم لتفرز عليها من الأسلحة والإنزيمات ما يمزق خلايا الورم إلى فتات صغير يتخلص منه الجسد فيما بعد.
أما المرحلة الثانية فحين ينمو الورم بدرجة كبيرة، ويكاد الجهاز المناعي يواكب معدل النمو هذا بتدمير خلايا الورم، فتصبح معدلات نمو الورم تساوي قدرة جهاز المناعة للقضاء على الورم، فيظل حجم الورم ثابتًا.
أما المرحلة الثالثة حينما يستمر الورم في النمو مجتازًا قدرة جهاز المناعة على المواكبة، في هذه الحالة يزداد حجم الورم ويتحول إلى ورم سرطاني، وخلال نموه يطور وسائل مختلفة لخداع جهاز المناعة، فقد يعرض على غشاءه الخلوي مستقبلات كتلك التي في الخلايا الطبيعية «Self receptors»، أو يخفي المستقبلات على غشائه الخلوي كليًا فلا يعرف جهاز المناعة بوجوده أصلًا، أما بعض الأورام فتفرز رسائل للخلايا المناعية لتخبرها -مجازًا- لأن تتوقف عن العمل والانتشار ومحاربة الجسد، مما يتيح الفرصة للسرطان بالنمو والانتشار.

حرب على السرطان باستخدام المناعة

كل ذلك دفع العلماء إلى تطوير علاجات تنشط جهاز المناعة ليكون أكثر قدرة على محاربة الأورام السرطانية فيما يسمى بالعلاج المناعي «Immunotherapy»، وذلك عن طريق تصميم مركبات كيميائية تسمى بالأجسام المضادة antibody، وتوجد في الجسم طبيعيًا وتساعده في التعرف على الأجسام الغريبة الموجودة داخله – كالميكروبات والخلايا السرطانية- وحصارها وجعلها فريسة سهلة للاستجابات المناعية، للأجسام المضادة يدان وتشبه حرف الـ Y في اللغة الانجليزية، في العلاج المناعي، يعدّل العلماء الأجسام المضادة تلك لتمسك إحدى يديها بالخلية السرطانية، أما اليد الأخرى فتمسك بالخلية التائية، مما يجعل المسافة بين الخليتين صغيرة جدًا فتستطيع الخلية التائية أن تفرز إنزيماتها لتدمر الخلية السرطانية.
في الواقع لا تعتمد فاعلية العلاج المناعي فقط على تقريب الخلية المناعية من الخلية السرطانية لممارسة مهمتها، ولكن لفهم ما يحدث علينا أولًا فهم كيف تتواصل الخلايا مع بعضها البعض.

كيف تتواصل الخلايا؟

خلايا الجسم كائنات جامدة غير عاقلة، لا تخطط ولا تفكر، ولكنها طورت نظامًا شديد التعقيد والتناسق في التواصل فيما بينها، هذا النظام يشمل المواد الكيميائية مثل الهرمونات وغيرها بالإضافة إلى المستقبلات التي تستقبلها، فتعرض كل خلية بروتينات مختلفة على سطحها تعرف بالمستقبلات، تمثل هذه المستقبلات بريدها التي تستقبل عليه الرسائل من الخلايا الأخرى المجاورة لها أو من الجانب الآخر كليًا من جسد الإنسان، وباقي الخلايا تفرز موادًا كيميائية تتشابك مع هذا المستقبل مثل المفتاح والقفل، والخلايا التائية ليست أجنبية عن ذلك، فهي تحمل مستقبلات مختلفة لرسائل الخلايا المجاورة، فمنها تعرف هل هناك خطر فيجب أن تنقسم وتتنشط لتقضي عليه؟ أم كل تحت السيطرة فلا داعي للنشاط والانقسام، ولكن بعض أنواع الخلايا السرطانية ترسل رسائل كاذبة وتأمر الخلايا التائية بأن يتوقف انقسامها ويقل نشاطها فكل شيءٍ على ما يرام! تكون هذه الرسائل في صورة انترليوكنات «Interleukin» وعوامل كيميائية أخرى، فتهدأ الخلايا التائية تاركة السرطان يفعل ما يحلو له.

كيف يحارب العلاج المناعي السرطانات؟

في العلاج المناعي لا يقوم الجسم المضاد المعدل بتقريب الخليتين من بعضها البعض، ولكنه يمسك في المستقبل المتحكم في تثبيط الخلية المناعية، فمهما أفرز السرطان من رسائل كاذبة ظلت المناعة نشطة تحارب الخلايا السرطانية، ولكن هذا يحمل خطر استمرار نشاطها إن غابت الخلايا السرطانية، مما يجعلها خطرًا على خلايا الجسم السليمة الأخرى فيما يسمى بتسمم المناعة الذاتية «Autoimmune toxicity»، وهنا جاءت الورقة البحثية في دورية نيتشر لعلوم السرطان «Nature Cancer» نوفمبر 2019 لتتقدم خطوة جديدة في العلاج المناعي.

ورقة بحثية جديدة

قام الباحثان لان وو «Lan Wu» و إدوار سون «Edward Sueng» وزملائهما بتطوير أجسام مضادة تعمل على تنشيط الخلايا المناعية بدلًا من منع تثبيطها، تقوم بذلك عن طريق تفعيل مستقبل خلوي يسمى CD28 والذي يعمل كمنشط مساعدة «Co-stimulatory» يساعد على انقسام الخلايا التائية وزيادة نشاطها ومنع موتها، مما يؤدي إلى استجابة مناعية قوية ضد الخلايا السرطانية، يمسك الجسم المضاد مستقبلين آخرين، الثاني هو CD3 في الخلية التائية والذي يعد عنصرًا رئيسيًا في تفعيلها وإطلاق أسلحتها ضد الخلية السرطانية، والثالث هو المستقبل الخلوي CD38 التي تظهره بعض الخلايا السرطانية على سطحها. في تجربتهم، أراد العلماء أن يعرفوا مدى تأثير المستقبل الخلوي CD28 الذي تتفاعل معه الأجسام المضادة على مقاومة جهاز المناعة للخلايا السرطانية، فزرعوا خلايا تائية بشرية وخلايا سرطان دم «Myeloma» بشرية في فئران التجارب، وأضافوا إليها العديد من الأجسام المضادة المختلفة في أطرافها وفي المستقبل التي تتفاعل معه، فوجدوا أن تفاعل الأجسام المضادة المعدلة مع المستقبل CD28 في الخلايا التائية زاد قدرتها على الانقسام و قتل الخلايا السرطانية، سواء في أجسام الفئران أو في المعمل، حتى في الجرعات الصغيرة من الأجسام المضادة.
رغم أن هذه الدراسة لم تقس خطر تكوين الأمراض المناعية نتيجة هذا النشاط الزائد للخلايا التائية، إلا أنها تعتبر خطوة هامة في العلاج المناعي للسرطان، فالأجسام المضادة ثلاثية الرابطة تمنح مرونةً أكبر للتعامل مع أنواع الأورام السرطانية المختلفة، وتفتح الباب أم مستقبلٍ أوسع في العلاج المناعي، جاعلة إياه أكثر فعالية ودقة.

مصادر:
1. Sciencedirect

2. CurrentProtocols

3. Nature

رابط الدراسة:
Nature Cancer

Exit mobile version