كيف بدأت رحلة التعرف على دماغنا؟

كيف بدأت رحلة التعرف على دماغنا؟


نحن الآن في اواسط القرن التاسع عشر، شمال فرنسا في إحدى ضواحي مدينة العشاق باريس، بالتحديد في مستشفى بيوتر Bicetre للأمراض العقلية، نقف أمام سرير أحد المرضى الذي يجيب على كل أسئلتك بكلمتي ” تان تان ” ويرافقهما إيماءاتٍ تعبيرية وطبقات صوتية متمايزة، عند سؤالك عن المريض تان تخبرك إحدى الممرضات اللطيفات بأن اسمه لويس فكتور ليبورن Louis Victor Leborgne وأنه فقد قدرته على الكلام عند عمر الثلاثين، لا يملك أي علامات للضرر الجسدي او الادراكي، كما ان ذكائه لم يتأثر وحافظ على قدرات عقلية وبدنية سليمة تتجاوب مع ما يدور من حولها، فهو يدرك كل ما يُسأل عنه ويصنع أفضل رد فعل بشكل معنوي، تان تان هي الرد الذي يعبر به عن محاولاته الدائمة للتواصل، أصاب الشلل ذراعه اليمنى و تبعتها قدمه اليمنى كذلك، لم يسلم بصره ولا قدراته العقلية من التدهور، وها هو كما تراه الآن مستلقيا على سريره يرفض مغادرته وهو على هذه الحال منذ سبع سنوات.


لنسرّع الاحداث قليلا ونقفز إلى الحادي عشر من شهر نيسان لعام ١٨٦١ فها هو تان يعاني من الغرغرينة، ونهرع معه الى قسم الجراحة، لنقابل لأول مرة الطبيب المتخصص بعلم الانثروبولوجيا أو علم الانسان بيير بول بروكا Paul Broca ، أثار تان لدى الطبيب المتخصص الكثير من التساؤلات والتي دفعته لدراسة حالته وتقييم وضعه، ليبورن كان أيمن أي يعتمد بشكل أكبر على يده اليمنى، لذلك فقد قدرته على الكتابة بسبب الشلل الذي أصاب يمناه، لكنه استخدم يسراه للإيماءات التي كانت معظمها غير مفهومة، لكن عندما يأتي الأمر للأرقام، فهو يظهر كمية مفاجئة من التحكم، فهو يستطيع تحديد الوقت بالثانية، ويعلم بالضبط مدة مكوثه في المستشفى، تراجعت قدراته لكنه بطريقة ما بقى حادا كما كان.


اليوم هو السابع عشر من شهر نيسان، تدق الساعة لتنبيء عن بلوغها الرقم ١١ وبهذا تعلن عن مفارقة صديقنا تان للحياة عن عمر يناهز الواحد والخمسون عاما، مخلفاً وراءه دماغا كان السبب لفهمنا الواسع في علم النفس الادراكي، لذا دعونا نلقي نظرة على دماغ صديقنا الراحل ونلاحظ بعض الضرر والتلف في الفص الأمامي، لندع هذه الملاحظة جانبا وننطلق مع الطبيب الشغوف للقاء لازار ليلونغ Lazer Lelong ذو الثماني والاربعين عاما، والذي حضر للمستشفى لعلاج ما يعانيه من فقدان الذاكرة، يخبرنا احد المشرفين على حالة ليلونغ انه قبل عام كان قادرا على النطق بخمس كلمات : نعم ، لا ، ثلاثة ، دائما ، وليلو كمحاولة منه لنطق اسمه، يغادرنا ليلونغ تاركا دماغه الذي يظهر به ضرر مشابه لذلك الضرر الذي كان لدى ليبورن، لا بد أنك تفكر بما كان يفكر به الطبيب بروكا لكن دعنا لا نستبق الاحداث ونجري المزيد من الابحاث على مزيد من المرضى ممن يعانون من الاعراض ذاتها التي عانى منها ليبورن ( معظم هذه الأدمغة معروضة في جامعة بيير وماري كوري في فرنسا).


العديد من التجارب كانت كافية لتأكيد شكوكك عزيزي القاريء وشكوك الطبيب على حد سواء، فقد تم لأول مرة تحديد المنطقة المسؤولة عن النطق وانتاج الاصوات ذات المعنى في الدماغ، وعند تضررها كما هو الحال مع ليبورن وليلونغ نخسر قدرتنا على التواصل، الاجزاء غير المتضررة كانت مسؤولة عن الذكاء والإدراك، ولحسن الحظ فإن أي ضرر في أحد الاجزاء لا يعني تضرر الاجزاء الأخرى، ومع وصولنا لعام ١٨٦٥ ها هو بروكا يجزم ان عملية النطق تتدار في جزء من يسار الفص الأمامي ( والتي تحمل اسم منطقة بروكا الآن )، كما تأكد بروكا من أن وظائف الدماغ ليست ثابتة بشكل تام، خلال بضعة أسابيع يتحسن المصابون ويبدؤون باستعادة بعض من قدراتهم وذلك عند منحهم فرصة للتدريب، لربما أدهشك تساؤل بروكا حول إمكانية احتلال النصف الايمن لأجزاء من النصف الايسر! وستزداد دهشتك اذا علمت ان هذا يؤكد فهمنا الحالي لمطاوعة الدماغ وقدرته على التعلم باستخدام طرق جديدة للوظائف عندما لا تعود الطرق القديمة متاحة.


أطلق على حالة عدم القدرة على تشكيل الكلمات مع الحفاظ على القدرات العقلية Broca’s Aphasia وفيه يكون الضرر في منطقة بروكا ، وهذا مختلف عن الضرر الذي يصيب منطقة فيرنيك Werbicke الواقعة في خلف يسار الفص الصدغي وقتها يفقد المصاب قدرته على استيعاب اللغة وفهمها.


بما أننا في أواسط القرن التاسع عشر فلا بد أنك قد لاحظت الكثير من أجواء العنصرية تلوح في الأفق! ولم يكن طبيبنا مستثى من تلك الأجواء، فقد كان يعتقد وكثير من زملائه بأن المجموعات العرقية كانت بالفعل انواعا مختلفة، الملامح الجسمانية كبروز الفك السفلي او العلوي، نسبة طول الدماغ إلى عرضه أو طول الذراعين بالنسبة للجذع تستطيع التنبؤ بمقياس الذكاء، تحيزا للعرق الأوروبي فقد ربط بروكا وزملائه الذكاء مع قسمات تميل لأن تكون مشتركة بين الأوروبين، هذه الاعتقادات كلها اعطت فراسة الدماغ Phrenology فرصة ليعيش ذروة شبابه ، حيث يدعي هذا الحقل القدرة على وضع استنتاجات عن شخصية الفرد وذكائه بالاعتماد على شكل وخصائص جمجمته، نتوء في مكان خاطيء ربما توسمك بالمجرم او تكشف نزعة غريزية للعدوانية.


لا يمكن التقليل من أهمية عمل بروكا في علم النفس والاعصاب، فقد وضع حجر أساس لما ما نعرفه اليوم بعلم الاعصاب الادراكي وعلم النفس العصبي، وأساس لمبدآن مهمان يحكمان نظرتنا للدماغ : التوطين The Localisation والتفريق The Lateralization ، على الجانب الآخر فإن الاسس العنصرية لكثير من عمل بروكا تذكرنا بحقيقة انه حتى اولئك الذين وصلوا لاكتشافات عظيمة هم ايضا معرضون للاتطواء على بعض من الأفكار الغريبة وتذكرنا ان العلماء بشر والعلم الجيد يكون بتقدير محاسن الأفكار.


وهكذا نكون قد تعرفنا كيف بدأت رحلة التعرف على دماغنا؟ نأمل أن رحلتنا قد نالت استحسانكم، نلقاكم في جولات أخرى.

مصدرhttps://bit.ly/3ga3uvt

مصدرhttps://bit.ly/31qO2ae

إشارة عصبية جديدة يحتكرها مخ الإنسان

إشارة عصبية جديدة يحتكرها مخ الإنسان

إشارة عصبية جديدة يحتكرها مخ الإنسان تحمل الكثير من التأملات نحو القوة الحاسوبية لعقلنا دونًا عن سائر الكائنات، والتي تتحدى فرضيةً دامت طويلًا في التعلم الآلي.

تخبرنا دراسة نشرت بدورية العلوم «Science Magazine» في بداية هذا العام عن قوة خفية يحملها الثلثان الأخيران من قشرتنا المخية، تحديدًا في قلب الخلايا العصبية في هذه المنطقة.

الخلية العصبية كما فهمناها

صورة مبسطة لتركيب الخلية العصبية

تتكون الخلية العصبية من رأس وذيل، يسمى الرأس بجسد الخلية العصبية «Soma»، وتستقبل خلاله الإشارات الكهربية من الخلايا حولها، تسير الإشارة الكهربية في جسد الخلية العصبية حتى تصل إلى الذيل أو ما يسمى بالمحور «axon»، يستريح المحور على جسد خلية عصبية أخرى، ناقلًا إليها الإشارة الكهربية.

ولكن الأمر أكثر تعقيدًا من ذلك، حيث أن الخلية العصبية تحمل بوابات مختلفة للأيونات الموجبة والسالبة، مثل الصوديوم والبوتاسيوم والكاسيوم والكلور، وكل بوابة لهذه الأيونات لها طريقة عملها، فبعضها يتحفز سريعًا حينما تأتيه الإشارة الكهربية، بعضها ينشط ببطء، والبعض الآخر يحتاج قدرًا معينًا من الإشارات الكهربائية حتى ينشط، معًا تعمل هذه الأيونات على نقل الإشارات العصبية من خلية عصبية إلى أخرى، ومن منطقة من المخ إلى منطقة أخرى.

 تعمل الخلايا العصبية جميعها معًا على حل “المشكلات”، قد تكون هذه المشكلة ماذا نتناول في عشاء اليوم، أو كيف ننظم أنفسانا ونسترخي حين تكون حياتنا مستقرة ولا خطر يواجهنا.

ولأن الخلايا العصبية تعمل على مرور الكهرباء فيما بينها فقد مثلها علماء الأعصاب بصورة شبكة، حيث تمثل كل خلية عصبية نقطة ، وتنتشر الإشارة العصبية خلالها محكومة بنوع الأيونات ونوع الاتصالات عند هذه الخلايا العصبية.

علوم الأعصاب والتعلم الآلي

يستغل علماء الحاسوب مفهوم الشبكة العصبية «Neural Network» بدرجة كبيرة في شتى المشاكل، خاصة مشكلات التعلم الآلي Machine» «Learning، يحمل هذا المجال تطبيقات كبيرة في تحليل البيانات المختلفة والتفضيل بينها وإيجاد حلول لشتى المشاكل التي يتم عرضها على هذه الشبكة العصبية، ولكن تطبيقاتها لم تتوقف على علوم الحاسب فقط، ولكنها تستخدم في فهم الجهاز العصبي و تمثيله في نماذج وفهمه بقدر أكبر مما تطرحه فقط دراسة الخلايا العصبية  كجزيئات كيميائية وأيونات.

كان الفهم السائد من هذا المنطلق أن الخلية العصبية المفردة تعمل مثل بوابة المنطق AND المشهورة في الدوائر الكهربائية، فيجب أن يجتمع قدر معين من النشاط الكهربائي في جسد الخلية كي تتمكن من إرسال سيال عصبي خلال محورها إلى الخلية العصبية التالية. وهذا المفهوم يتناسق مع فهمنا لتركيب الخلية العصبية، حيث أن بعض الأيونات لا تدخل الخلية إلا عندما تأتيها إشارات عصبية قوية مجتمعة من عدة خلايا عصبية أخرى.

يتوقف دور الخلية العصبية المفردة على ذلك، لما فيه من بساطة، ولكن نظريًا فيمكن لشبكة من الأعصاب أن تقوم بأي وظيفة أيًا كانت، بل إن تحقيق بعض الوظائف يتوقف كليًا على شبكة الأعصاب، ولا يمكن القيام بها في خلية عصبية مفردة، بل قام بعض علماء الحاسب في أواخر ستينيات القرن الماضي بالإثبات النظري لاستحالة القيام بوظيفة XOR إلا من خلال شبكة عصبية متكونة من عدة طبقات، ولا تستطيع شبكة واحدة القيام بها.

تعمل بوابة XOR بقراءة إشارتين كهربيتين يدخلانها، فإن كان إحداهم موجبة أو 1، أما الثانية غير متواجدة أو 0، ترسل بوابة XOR إشارة موجبة أو تحمل قيمة 1 هي الأخرى لباقي أجزاء الشبكة العصبية أو الدائرة الكهربية، أما إذا جاءتها إشارتين بقيمة 1 أو إشارتين بقيمة 0 فلا تعمل.

هل كنا على خطأ؟

هذا إلى أن جاء ماثيو إيفان لاركم «Mathew Evan Larkum» من جامعة همبلدت برلين الألمانية «Humboldt University of Berlin» وفريقه البحثي لدراسة ظاهرة جديدة في الخلية العصبية، تحديدًا في ثلثي القشرة المخية الخارجيين وتفسير سلوكها الغريب الذي لا يستطيع تفسيره فهمنا عن الخلايا العصبية.

جامعة همبلدت الألمانية

باستخدام أيونات كالسيوم المشعة، وبغلق بوابات الأيونات الموجودة على الخلية العصبية، وجد الباحثون نوعًا جديدًا من بوابات الكالسيوم، والتي تحمل نوعًا خاصًا من  الإشارات العصبية dCaAP، تختلف في تحفيزها وتوصيلها للكهرباء عن سائر الخلايا العصبية التي درسناها من قبل.

بعد دراسة العديد من الخلايا العصبية التي تظهر هذا النمط من بوابات الكالسيوم، قام الباحثون بتصميم نموذج حاسوبي للخلايا العصبية بالخصائص الجديدة التي وجدوها.

في المحاكاة التي صمموها، تنطلق إشارات عصبية بشكل عشوائي نحو الخلايا وفيما بينها، مما يزيد من احتمال أن تصل إشارتان عصبيتان لنفس الخلية في نفس الوقت، حين يحدث ذلك، لا تنطلق أي إشارة عصبية من نوع الdCaAP، ولكن تنشط فقط حينما يصلها إشارة عصبية واحدة في الوقت الواحد.

يعد هذا النشاط مطابقًا تمامًا لوظيفة XOR التي تطرقنا إليها، يقول الباحثون في دراستهم: “طال الظن بأن التشابكات العصبية تقوم فقط بوظيفتي AND أو OR”، ولكن حسب نتائج دراستهم يكمل الباحثون “ولكننا وجدنا السيالات العصبية dCaAPs يستطيع القيام بهذه الوظيفة”.

لعل العامل الرئيسي الذي أدى لهذا الاكتشاف يكمن في قيام العلماء بدراسة شرائح من خلايا عصبية بشرية مستأصلة -لأسباب علاجية- من مرضى الأورام الدماغية ومرضى الصرع، فاعتمادهم على العينات البشرية كشف لنا ما لم تكشفه لنا أدمغة الفئران التي درسناها وبنينا على أساسها مفهومنا عن الخلايا العصبية ونشاطها، فهذا النوع يعد إشارة عصبية جديدة يحتكرها مخ الإنسان.

ماذا بعد؟

يدعو الباحثون العلماء في نهاية الدراسة بتجديد رؤيتهم للعقل البشري ومفهومنا عنه، فسيؤدي فهم قدرة الخلية المفردة ووضع نموذج سليمة لها في النهاية لفهم العقل البشري وكيف تتفاعل جميع عناصره لينشأ السلوك المخي في النهاية.

تخبرنا هذه الدراسة أيضًا أن الخلية العصبية المفردة تحمل داخلها قوة حاسوبية اقوى مما توقعناه، وهذا يفتح الباب أما تجديد العديد من المفاهيم، فالخلية العصبية ليست مجرد نقطة في شبكة تنتشر خلالها الإشارات الكهربية، ولكنها تحمل تعقيدًا كافيًا يجعلها في ذاتها كيانًا يستحق الدراسة والفهم، ومن يدري إلى ماذا ستصل تطبيقات هذا في علوم الحاسب ذاتها التي أنكرت إمكانية مثل هذا الأمر.

المصدر: Science Magazine

Exit mobile version