كيف يتنبأ النشاط الدماغي للأطفال بالاضطرابات النفسية ؟

كيف يتنبأ النشاط الدماغي للأطفال بالاضطرابات النفسية؟

يتنبأ النشاط الدماغي للأطفال بالاضطرابات النفسية في بحث جديد نشر بدورية الجمعية الطبية الأمريكية «JAMA psychiatry»، وذلك من خلال رصد نشاط المناطق المختلفة في المخ لدى الأطفال ذوي السبع سنوات ومتابعة تطورهم حتى عمر الإحدى عشر عامًا،  وجد الباحثون أن اختلاف النشاط العصبي لمناطق المخ المختلفة يحمل تنبؤات دقيقة عن عرضة الطفل للاضطرابات النفسية مع تقدم عمره.

هل تكفي الأعراض لتشخيص المرض النفسي؟

تنشأ الأمراض النفسية نتيجة لعدة عوامل داخلية وخارجية، سواء كانت الجينات أم التربية أم الصفات الشخصية أم عوامل مجتمعية أو خبرات حياتية مدمرة تدفع بالمصاب إلى مخالب المرض النفسي، لمواجهة هذه العوامل يحمل الطبيب النفسي أدواته لاستكشاف أعراض المصاب واضعًا في الحسبان مشاعره وأفكاره وسلوكه وظروفه الحياتية.

على الرغم من أن الأطباء يشخصون الأمراض النفسية من خلال فحص الأعراض الظاهرة على المريض ومن ثمَّ معالجتها  كلما أمكن، إلا أن أدوات علوم الأعصاب منحتنا نافذةً أوسع وأكثر دقة لفهم المرض النفسي.

يستطيع مسح المخ «Brain Scanning» تحديد موقع الخلل في الدماغ وتحديد أبعاد المرض النفسي والتنبؤ بأعراضه من خلال تحديد  وظيفة هذه المنطقة.

يتحكم كل جزء من أدمغتنا بوظيفة حيوية أو نفسية لدينا، فعادة ما يرجع الاضطراب النفسي إلى خلل منطقة ما في المخ، يتمكن علماء الأعصاب من تحديد هذه المنطقة من خلال الرسم الدماغي «Brain Scanning»، وهذا ما يمكنهم من فهم أي وظيفة نفسية أو ذهنية أدى اختلالها إلى ظهور أعراض المرض النفسي.

فمثلًا عند مرضى الأكتئاب «Major Depressive Disorder» لا تعمل المنطقة الواقعة في مركز القشرة المخية المسماة بالقشرة الحزامية الأمامية «Anterior Cingulate Cortex»، وهي المنطقة المسؤولة عن المشاعر ونشوءها نتيجة لاتصال هذه المنطقة بالمناطق المخية الآخرى المسؤولة عن العواطف، أيَضًا يزداد نشاطها في اضطراب فرط الحركة «ADHD» مع ازدياد نشاط منطقة القشرة الجبهية «Prefrontal Cortex» المسؤولة عن الانتباه والتفكير والسلوك الموجه «Goal-directed Behavior».

غالبًا ما يظهر هذا الخلل الدماغي مع أعراض المرض، فمثلًا يميل مرضة الاكتئاب إلى الانسحاب من حياتهم اليومية شيءً فشيءً بينما يميل مرضة اضطرابات فرط الحركة إلى انتباه مشتت، إلا أن الأطباء النفسيين صمموا استبيانًا يبين سلوك الأطفال وميولهم نحو الاضطرابات النفسية المختلفة قبل أن تظهر هذه الأعراض فعلًا، كان ذلك من خلال تصميم ما يعرف بلائحة سلوك الطفل «Child Behavior Checklist»،

يقوم المتخصص النفسي بسؤال الأبوين عن سلوكيات أطفالهم، ومن خلال إجابات الأبوين يستطيع المختص تحديد ميول الطفل نحو سلوك غير صحي بعينه، مثل العنف ضد زملائه، أو قلقه المستمر، أو نشاطه الزائد.

ولكن هل الأدلة السلوكية التي تقدمها هذه اللائحة تكفي للتنبؤ بعرضة الأطفال للأمراض النفسية لاحقًا؟ استعانت سوزان جابريلي «Susan Gabrieli»  وفريقها البحثي من جامعة نورث إيسترن الأمريكية «Northeastern University» بالأدلة التي أتاحتها دراسات المسح الدماغي لتجيب على هذا السؤال.

أداة جديدة للتنبؤ بالاضطرابات النفسية

بالنظر إلى الأفراد الأصحاء نجد أن منطقة المخية المسؤولة عن الانتباه والتفكير يقل نشاطها مع زيادة تفعيل المنطقة المسؤولة عن العواطف «Anti-correlated» ، والعكس صحيح، ولكن إن زاد نشاطهما معًا أو قل نشاطهما معًا، فهذا يدل على وجود خلل ما، ويعدُّ دليلًا على مرضي الاكتئاب أو مرض فرط الحركة

قامت سوزان وفريقها باستخدام الرنين المغناطيسي الوظيفي «fMRI» تقوم هذه التقنية على قياس معدل ضخ الدم إلى أجزاء المخ المختلفة، فالأجزاء النشيطة تزداد الدم الواصل إليها، فبالتالي تعكس نشاط مناطق المخ المختلفة، وقاموا بتطبيقها على أربعة وتسعين طفلًا في عمر السابعة، و تابعوا نمو هؤلاء الأطفال لمدة أربعة أعوام رصدوا خلالهم الأنماط السلوكية لدى الأطفال وميولهم نحو الاضطرابات النفسية المختلفة ومقارنتها بلائحة سلوك الطفل المعتاد استخدامها.

تخبرنا النتائج بأن النشاط الدماغي للأطفال يتنبًا بالاضطرابات النفسية، فكلما تماثل نشاط المناطق المسؤولة عن الانتباه والمناطق المسؤولة عن العاوطف -حتى بداية من سن السابعة- كلما زادت عرضة الأطفال للإصابة بالأمراض النفسية المختلفة عند وصولهم إلى سن الحادي عشر.

يفتح هذا الاكتشاف الباب أمام عالم أوسع وأرحب وأكثر دقة لاستخدام التصوير العصبي للتنبؤ بعرضة الأطفال للاضطرابات العصبية، ويخرج بنا خارج المقاييس السلوكية لتشخيص الأمراض النفسية، ولعله يسمح لنا بالوقاية منها عندما ندرك أي من أبناءها مهَّددٌ بخطر هذه الاضطرابات.

المصدر: JAMA Psychiatry

مصدر الصورة

إشارة عصبية جديدة يحتكرها مخ الإنسان

إشارة عصبية جديدة يحتكرها مخ الإنسان

إشارة عصبية جديدة يحتكرها مخ الإنسان تحمل الكثير من التأملات نحو القوة الحاسوبية لعقلنا دونًا عن سائر الكائنات، والتي تتحدى فرضيةً دامت طويلًا في التعلم الآلي.

تخبرنا دراسة نشرت بدورية العلوم «Science Magazine» في بداية هذا العام عن قوة خفية يحملها الثلثان الأخيران من قشرتنا المخية، تحديدًا في قلب الخلايا العصبية في هذه المنطقة.

الخلية العصبية كما فهمناها

صورة مبسطة لتركيب الخلية العصبية

تتكون الخلية العصبية من رأس وذيل، يسمى الرأس بجسد الخلية العصبية «Soma»، وتستقبل خلاله الإشارات الكهربية من الخلايا حولها، تسير الإشارة الكهربية في جسد الخلية العصبية حتى تصل إلى الذيل أو ما يسمى بالمحور «axon»، يستريح المحور على جسد خلية عصبية أخرى، ناقلًا إليها الإشارة الكهربية.

ولكن الأمر أكثر تعقيدًا من ذلك، حيث أن الخلية العصبية تحمل بوابات مختلفة للأيونات الموجبة والسالبة، مثل الصوديوم والبوتاسيوم والكاسيوم والكلور، وكل بوابة لهذه الأيونات لها طريقة عملها، فبعضها يتحفز سريعًا حينما تأتيه الإشارة الكهربية، بعضها ينشط ببطء، والبعض الآخر يحتاج قدرًا معينًا من الإشارات الكهربائية حتى ينشط، معًا تعمل هذه الأيونات على نقل الإشارات العصبية من خلية عصبية إلى أخرى، ومن منطقة من المخ إلى منطقة أخرى.

 تعمل الخلايا العصبية جميعها معًا على حل “المشكلات”، قد تكون هذه المشكلة ماذا نتناول في عشاء اليوم، أو كيف ننظم أنفسانا ونسترخي حين تكون حياتنا مستقرة ولا خطر يواجهنا.

ولأن الخلايا العصبية تعمل على مرور الكهرباء فيما بينها فقد مثلها علماء الأعصاب بصورة شبكة، حيث تمثل كل خلية عصبية نقطة ، وتنتشر الإشارة العصبية خلالها محكومة بنوع الأيونات ونوع الاتصالات عند هذه الخلايا العصبية.

علوم الأعصاب والتعلم الآلي

يستغل علماء الحاسوب مفهوم الشبكة العصبية «Neural Network» بدرجة كبيرة في شتى المشاكل، خاصة مشكلات التعلم الآلي Machine» «Learning، يحمل هذا المجال تطبيقات كبيرة في تحليل البيانات المختلفة والتفضيل بينها وإيجاد حلول لشتى المشاكل التي يتم عرضها على هذه الشبكة العصبية، ولكن تطبيقاتها لم تتوقف على علوم الحاسب فقط، ولكنها تستخدم في فهم الجهاز العصبي و تمثيله في نماذج وفهمه بقدر أكبر مما تطرحه فقط دراسة الخلايا العصبية  كجزيئات كيميائية وأيونات.

كان الفهم السائد من هذا المنطلق أن الخلية العصبية المفردة تعمل مثل بوابة المنطق AND المشهورة في الدوائر الكهربائية، فيجب أن يجتمع قدر معين من النشاط الكهربائي في جسد الخلية كي تتمكن من إرسال سيال عصبي خلال محورها إلى الخلية العصبية التالية. وهذا المفهوم يتناسق مع فهمنا لتركيب الخلية العصبية، حيث أن بعض الأيونات لا تدخل الخلية إلا عندما تأتيها إشارات عصبية قوية مجتمعة من عدة خلايا عصبية أخرى.

يتوقف دور الخلية العصبية المفردة على ذلك، لما فيه من بساطة، ولكن نظريًا فيمكن لشبكة من الأعصاب أن تقوم بأي وظيفة أيًا كانت، بل إن تحقيق بعض الوظائف يتوقف كليًا على شبكة الأعصاب، ولا يمكن القيام بها في خلية عصبية مفردة، بل قام بعض علماء الحاسب في أواخر ستينيات القرن الماضي بالإثبات النظري لاستحالة القيام بوظيفة XOR إلا من خلال شبكة عصبية متكونة من عدة طبقات، ولا تستطيع شبكة واحدة القيام بها.

تعمل بوابة XOR بقراءة إشارتين كهربيتين يدخلانها، فإن كان إحداهم موجبة أو 1، أما الثانية غير متواجدة أو 0، ترسل بوابة XOR إشارة موجبة أو تحمل قيمة 1 هي الأخرى لباقي أجزاء الشبكة العصبية أو الدائرة الكهربية، أما إذا جاءتها إشارتين بقيمة 1 أو إشارتين بقيمة 0 فلا تعمل.

هل كنا على خطأ؟

هذا إلى أن جاء ماثيو إيفان لاركم «Mathew Evan Larkum» من جامعة همبلدت برلين الألمانية «Humboldt University of Berlin» وفريقه البحثي لدراسة ظاهرة جديدة في الخلية العصبية، تحديدًا في ثلثي القشرة المخية الخارجيين وتفسير سلوكها الغريب الذي لا يستطيع تفسيره فهمنا عن الخلايا العصبية.

جامعة همبلدت الألمانية

باستخدام أيونات كالسيوم المشعة، وبغلق بوابات الأيونات الموجودة على الخلية العصبية، وجد الباحثون نوعًا جديدًا من بوابات الكالسيوم، والتي تحمل نوعًا خاصًا من  الإشارات العصبية dCaAP، تختلف في تحفيزها وتوصيلها للكهرباء عن سائر الخلايا العصبية التي درسناها من قبل.

بعد دراسة العديد من الخلايا العصبية التي تظهر هذا النمط من بوابات الكالسيوم، قام الباحثون بتصميم نموذج حاسوبي للخلايا العصبية بالخصائص الجديدة التي وجدوها.

في المحاكاة التي صمموها، تنطلق إشارات عصبية بشكل عشوائي نحو الخلايا وفيما بينها، مما يزيد من احتمال أن تصل إشارتان عصبيتان لنفس الخلية في نفس الوقت، حين يحدث ذلك، لا تنطلق أي إشارة عصبية من نوع الdCaAP، ولكن تنشط فقط حينما يصلها إشارة عصبية واحدة في الوقت الواحد.

يعد هذا النشاط مطابقًا تمامًا لوظيفة XOR التي تطرقنا إليها، يقول الباحثون في دراستهم: “طال الظن بأن التشابكات العصبية تقوم فقط بوظيفتي AND أو OR”، ولكن حسب نتائج دراستهم يكمل الباحثون “ولكننا وجدنا السيالات العصبية dCaAPs يستطيع القيام بهذه الوظيفة”.

لعل العامل الرئيسي الذي أدى لهذا الاكتشاف يكمن في قيام العلماء بدراسة شرائح من خلايا عصبية بشرية مستأصلة -لأسباب علاجية- من مرضى الأورام الدماغية ومرضى الصرع، فاعتمادهم على العينات البشرية كشف لنا ما لم تكشفه لنا أدمغة الفئران التي درسناها وبنينا على أساسها مفهومنا عن الخلايا العصبية ونشاطها، فهذا النوع يعد إشارة عصبية جديدة يحتكرها مخ الإنسان.

ماذا بعد؟

يدعو الباحثون العلماء في نهاية الدراسة بتجديد رؤيتهم للعقل البشري ومفهومنا عنه، فسيؤدي فهم قدرة الخلية المفردة ووضع نموذج سليمة لها في النهاية لفهم العقل البشري وكيف تتفاعل جميع عناصره لينشأ السلوك المخي في النهاية.

تخبرنا هذه الدراسة أيضًا أن الخلية العصبية المفردة تحمل داخلها قوة حاسوبية اقوى مما توقعناه، وهذا يفتح الباب أما تجديد العديد من المفاهيم، فالخلية العصبية ليست مجرد نقطة في شبكة تنتشر خلالها الإشارات الكهربية، ولكنها تحمل تعقيدًا كافيًا يجعلها في ذاتها كيانًا يستحق الدراسة والفهم، ومن يدري إلى ماذا ستصل تطبيقات هذا في علوم الحاسب ذاتها التي أنكرت إمكانية مثل هذا الأمر.

المصدر: Science Magazine

Exit mobile version