الإنسان الأخير .. كيف انقرض إنسان النياندرتال؟

إنها الشمس في أفق السماء، ترسل ما تبقى من أشعتها في نهاية هذا اليوم الحزين. في اللحظات العادية للبشرية، فإن هذا الأمر لا يعدو مشهدًا رومنسيًا جميلًا، أو على الأقل نهايةً عاديةً ليوم عادي. لكن، إذا كانت هذه اللحظة هي لحظة نهاية العالم، حرفيًا، ومجازيًا، فلا أعتقد أن الأمرَ سيكون مريحًا. يطل إنسان النياندرتال من فتحة كهفه على ذلك الغروب الكئيب للشمس. أمام عينيه، السماء، التي بدأت تتلون باللون الرمادي، وتنخر أذنيه نقاط المياه التي نخرت أيضًا طبقات الزمن. تصدر صوتًا اشبه بحازوقة الأطفال، لكن وللأسف، لم يعد هنالك أطفال، ولا أثر لإنسان أخر، قد يشارك هذا البائس غروبه الأخير. انقرض إنسان النياندرتال .

لكن وبعد ألاف السنين، عاد الصوت ليصدح من جديد في هذا الكهف القديم. صوت المعدات الأثرية لعلماء الأثار، وصوتٌ أخر لأغنية الإنسان الأخير.

أحد عشر سنًا

لم يرحل إنسان النياندرتال عن هذه الأرض بدون أن يخلف لنا شيئًا لنتذكره. بل شاءت الصدفة أيضًا أن يكون أثرًا ربما يدل على قاتله. إحدى عشر سنًا وجدوا سنة 1910 في كهف 《La Cotte de St. Brelade》 على جزيرة 《جرسي – Jersey》 قرب السواحل الشمالية الغربية لفرنسا. اعتبرت هذه الأسنان لفترة طويلة لعدة أفراد من النياندرتال. لكن دراسةً حديثة أجريت عليها أثبتت أنها تعود لنوع هجين من الإنسان. لنوع يتداخل فيه النياندرتال مع الإنسان العاقل في مرحلة عاش فيها النوعان معًا.

أظهرت الدراسة أن إثنين على الأقل من الأسنان المدروسة تحمل خصائص تعود للنياندرتال و للإنسان العاقل على حد السواء. الدراسة المنشورة في مجلة  Journal of Human Evolution  والتي قام بها باحثون من 《متحف التاريخ الطبيعي – Natural History Museum》 مع فريق من 《معهد الاثار -institute of archaeology》 وفريق من 《جامعة كنت- university of kent》 أكدت أن جذور الأسنان (Root) تشبه كثيرًا جذور أسنان النياندرتال، لكن 《العنق -Neck》 《والتاج- Crown》 في السن فهي تشبه أسنان الإنسان الحديث اليوم.

 استعمل الباحثون 《التصوير المقطعي المحوسب – Computed tomography 》كتقنية لمسح الأسنان من أجل دراستهم وهذه التقنية أدت إلى اظهار تفاصيل دقيقة لم تكن متاحة من قبل.

إن أهمية هذه الدراسة تكمن في أن عمر هذه الأسنان يعود لأقل من 48 ألف سنة. أي بذات الفترة التي عاش فيها الإنسان العاقل مع إنسان النياندرتال. هذه المرحلة الانتقالية كانت مجهولة سابقا وربما نكون الأن قد أزحنا الستار عن السبب الحقيقي لانقراض إنسان النياندرتال.

سنان للنياندرتال وجدوا في جزيرة جيرسي. الصورة لمتحف التاريخ الطبيعي.

أشباه البشر

إن هذا الكهف على جزيرة جيرسي قد سكن من 200 ألف سنة. وبالإضافة إلى الأسنان فقد كشفت الحفريات التي أجريت فيه في أوائل القرن العشرين عن 20 ألف أداة حجرية بالإضافة لعظام ماموث ووحيد القرن الصوفي. هذا الكهف كان بحجمه الكبير نادرًا جدًا وقد سكن لألاف السنين.

أما النياندرتال الذي ظهر من 400 ألف سنة تقريبًا فقد سكن هذا الكهف من 200 ألف سنة. وانتشر في منطقة كبيرة من أوروبا الغربية إلى سيبيريا. كان النياندرتاليون أقصر وجسمهم أضخم من جسم الإنسان العاقل. وهؤلاء البشر كانوا أقوى عضليًا من العقلاء وأدمغتهم أكبر وكانوا أكثر تكيفا مع المناخات الباردة. استخدموا النار والأدوات وكانوا صيادين جيدين ويبدوا أنهم اعتنوا بمرضاهم وعجزتهم. (اكتشف علماء الأثار عظاما لنياندرتال عاشوا عدة سنين مع إعاقات جسدية حادة مما يدل على أن أقاربهم كانوا يعتنون بهم.) كانت الفكرة السائدة عن أن النياندرتال كانوا سكان كهوف همجيين وأغبياء لكنها تغيرت اليوم.

التواصل بين الإنسان العاقل والنياندرتال قد حصل تقريبا من 45 ألف سنة. هذه المجتمعات التي وجدت خلال العصر الحجري القديم الأوسط هي دليل محتمل على أن الانقراض ربما ليس أفضل كلمة لوصف مصير إنسان النياندرتال.

نرشح لك أيضًا: كيف يمكن لإبهامٍ صغير أن يحمل حضارةً بأكملها؟

علاقة حميمية قاتلة

لم يصل الإنسان العاقل إلى أوروبا الا قبل 70 ألف سنة تقريبا. فقد انتقل أولًا إلى الجزيرة العربية ومنها إلى أوراسيا. وعندما وصل الإنسان العاقل إلى الجزيرة العربية كان معظم أوراسيا مستوطنًا حينها من قبل أنواع بشرية أخرى. وبالفعل مع استقرار الإنسان العاقل في مناطقه الجديدة بدأت أعداد هذه المجموعات البشرية الأصلية تتناقص حتى انقرضت نهائيا.

فما الذي حدث لهم؟

علميًا هنالك عدة نظريات لكن معظمها يدور حول نظريتين أساسيتين: 《نظرية التهجين – Interbreeding Theory》. والتي تخبرنا عن انجذاب وعلاقات جنسية وامتزاج بين الأنواع. وحسب هذه النظرية تزاوج المهاجرون الأفارقة الذين انتشروا حول العالم مع مجموعات بشرية أخرى وبشر اليوم هم نتاج هذا التهجين.

على سبيل المثال عندما وصل العقلاء الى أوروبا التقوا بالنياندرتال وعاشوا معًا لمدة 5000 سنة قبل أن يختفي الأخير. وفقًا لنظرية التهجين عندما انتشر العقلاء في أراضي مجموعة النياندرتال فإن المجموعتين تزاوجتا معًا حتى اندمجتا. فإذا كان هذا هو ما حدث فإن الأوراسيين اليوم ليسوا عقلاء أنقياء فهم خليط من العقلاء والنياندرتال.

تسرد النظرية المضادة والتي تسمى《 نظرية الإحلال Replacement- Theory》 قصة مختلفة محورها الإختلاف والنفور وربما الإبادة الجماعية. وفقًا لهذه النظرية فإن العقلاء وبقية الأنواع البشرية كانت لديهم اختلافات تشريحية وعادات تزاوج مختلفة بل وحتى روائح أجسام مختلفة. وإن الاهتمام الجنسي لأحد النوعين بالأخر كان ضعيفًا. فحتى لو وقع روميو نياندرتال في حب جوليت الإنسان العاقل فلن يمكنهما إنجاب أبناء يتمتعون بالخصوبة. فالفجوة الجينية الفاصلة بين المجموعتين لا يمكن تجاوزها اصلًا.

 بقت المجموعتان متمايزتان تمامًا. وعندما مات النياندرتال أو قُتل ماتت جيناته معه. فوفقًا لهذا الرأي فان العقلاء حلوا محل كل المجموعات البشرية السابقة دون أن يندمجوا معًا. فإذا كان هذا ما حدث فإن أنساب جميع البشر المعاصرين يمكن ارجاعها حصريا إلى شرق أفريقيا قبل 70 ألف سنة. إن كل واحد منا اليوم هو عاقل نقي.

لكن وعلى العكس فإذا كانت نظرية التهجين صحيحة فستكون هناك اختلافات جينية بين الأفارقة والأوروبيين والأسيويين تعود لمئات ألاف السنين.

خريطة توضح مناطق بعض الأنواع البشرية وإنتشار الإنسان العاقل (مواقع التواصل)

البقاء للأصلح

كانت نظرية الإحلال هي الرائجة سابقًا وقد سندتها أدلة أثرية وكانت أصح من الناحية السياسية. لكن ذلك انتهى عام 2010 عندما نشرت نتائج جهود أربع سنوات لتحديد جينوم النياندرتال.

كانت الجهود كلها مركزة لعقد مقارنة بين جينوم النياندرتال وجينوم الإنسان الحديث. حيث اتضح أنه ما بين 1-4 بالمئة من جينوم البشر المميز للمجموعات المعاصرة في الشرق الأوسط وأوروبا هو جينوم نياندرتال. أيضًا بعدها بعدة أشهر عثر على أحفورة عظمة إصبع تعود إلى فرد من نوع دينوسوفا. أظهرت أن نسبة 6 % من جينوم سكان أستراليا الأصليين المعاصرين هو جينوم دينوسوفا.

لكن بما أن النسبة هذه قليلة، صعب الحديث عن اندماج تام بين الأنواع. يبدو أنه من 50 ألف سنة كان العقلاء والنياندرتال والدينوسوفا قادرين على التزاوج وإنتاج ذرية. يمكن أن نفكر الأن في أننا كبشر عقلاء عاشرنا نوعًا مختلفًا وأنجبنا منه أولاد!

يمكن للدراسة المنشورة حديثًا في مجلة تطور الإنسان أن تكون من أبرز الأدلة التي تدعم نظرية التهجين. فهي قد سلطت الضوء على المرحلة الانتقالية التي تزاوج فيها النياندرتال مع الإنسان العاقل. وامتص فيها الإنسان العاقل جينات النياندرتال ومع مرور الوقت لم يعد هنالك وجود للنياندرتال. 

لكن هل يوجد تفسير أخر؟

إن التفسير الآخر الوحيد لظهور هذا النوع الجديد المهجن من الإنسان هو أن هذه المجموعة قد طورت في بيئة مغلقة مزيجا غير عادي من السمات بمعزل عن غيرها. لكن في هذا الوقت في العصر الجليدي الأخير وبسبب انخفاض مستوى سطح البحر، كانت جيرسي مرتبطة بالتأكيد بفرنسا المجاورة. لذا فإن مستوى العزلة طويل الأمد أمر غير مرجح.

لا تزال الصورة غير واضحة كليًا سيعمل الفريق الآن على تحليل DNA لعظام هذا النوع الهجين من أجل تأكيد وجود هذه المرحلة الانتقالية. عندها ستميل الكفة إلى الفرضية القائلة بأن الإنسان العاقل استطاع أن يمتص جينات النياندرتال ويدفع به إلى الانقراض.

عاش الإنسان العاقل خلال العشرة ألاف سنة الماضية وهو يألف كثيرًا أنه النوع البشري الوحيد لدرجة أنه من الصعب علينا تصور احتمال أخر. سهل عدم وجود إخوة وأخوات لنا أن نعتبر أنفسنا صفوة الخلق، لكن ماذا لو بقي النياندرتال والدينوسوفا جنبًا إلى جنب مع الإنسان العاقل؟ أي نوع من المجتمعات والسياسات والبنى الثقافية كانت ستنشأ؟ للأسف لن نجد الجواب فهذه الأنواع قد انقرضت للأبد.

*ملاحظة: استعان الكاتب إلى جانب البحث المنشور في مجلة Journal of Human Evolution بكتاب العاقل تاريخ مختصر للجنس البشري للكاتب يوفال نوح هَراري وبكتاب أقارب Kindred للعالمة ريبيكا راغ سايكس.

المصادر:

كيف يمكن لإبهامٍ صغير أن يحمل حضارةً بأكملها؟

كم مرة في اليوم نحمل القلم لنكتب أو نفرقع اصابعنا للفت الانتباه؟ نمسك هاتفنا الذكي لنتصفح بعض المواقع، أو حتى نفتح كيسًا من البطاطس المقرمشة للتسلية؟ كم من مرة نستخدم أصابع أيدينا لنمسك او نصنع الأشياء؟ يقولون إننا لا نعرف قيمة الأشياء إلا بعد أن نفقدها. لكن في بعض الأحيان تكون هذه الأشياء هي من أعطت قيمة لحضارتنا بأكملها. تطور الإبهام عند البشر منذ ما يقارب مليوني سنة وبعدها غير التاريخ البشري بدون رجعة. فكيف يمكن لإبهامٍ صغير أن يحمل حضارةً بأكملها؟

الإبهام في أيدينا وعلى الرغم من صغر حجمه (مقارنةً بباقي الجسد) ارتكزت عليه حضارتنا الإنسانية بأكملها. هذه المعجزة التطورية سمحت لأسلافنا الأوائل بصناعة الأدوات وزيادة خيارات غذائهم. تقترح دراسة حديثة منشورة في مجلة Current Biology أن الإبهام كما نعرفه اليوم ربما يكون قد ظهر من حوالي مليوني سنة. وفي الغالب قد ظهر مع جنس الإنسان.

مهارة يدوية قديمة

منذ مليوني سنة كان البشر الأوائل يعيشون في شرق أفريقيا. كان يمكن أن نجد بعض الشخصيات التي تشبه الشخصيات البشرية اليوم، عدة أطفال يلعبون بالطين، وبعض الشباب المشغولين في بعض الأعمال، وعدة عجائز كانوا قد شاهدوا هذا كله.  لعب هؤلاء البشر وكونوا صداقات وعملوا وتنافسوا عل السلطة. لكن هذا أيضا ما فعلته حيوانات أخرى كالشنابز والفيلة.. لم يكن هنالك ما يميز البشر بل كانوا حيوانات عديمة الأهمية لا يتجاوز تأثيرهم على بيئتهم تأثير الغوريلات أو قنادل البحر.

تمتلك العديد من الرئيسيات إصبع الابهام لكن القليل منها يشبه إبهام الإنسان. فإبهام الإنسان مواجه ومناسب بشكل دقيق لكف اليد مما يسمح له بالقيام بالعديد من الأعمال الدقيقة. ويرى العلماء أنه من أهم هذه الأعمال التي ساعد فيها الإبهام البشر الأوائل كانت صناعة الأدوات.

تشير 《كاتارينا هارفاتي – Katerina Havarti》  المشاركة في الدراسة، أن المهارة اليدوية المرتبطة مباشرة بصناعة الأدوات كانت تحددها الأبحاث سابقًا فقط من خلال المقارنة التشريحية لعظام يدي الإنسان المعاصر مع أحافير متحجرة لأيدي بشر قدماء. ومدى التشابه بين العظام كان يحدد قدرة البشر القدماء في صنع الأدوات. هذه المهارة اليدوية والتي ربطت سابقًا بتطور يد الإنسان كانت تؤرخ لحوالي 2.5 مليون سنة.

كانت الأبحاث في السابق تنظر إلى 《الأسترالوبثقس – Australopithecus》 بأنهم يمتلكون إبهاما متطورًا بسبب قدرتهم على صنع بعض الأدوات. والأسترالوبثقس ربما كانوا السلف المباشر الذي تطور منه الإنسان.

تذكير

تطور البشر لأول مرة في شرق أفريقيا منذ حوالي 2.8 مليون سنة من جنس أسترالوبثقس والتي تعني الإنسان الجنوبي. وقبل حوالي مليوني سنة ترك بعض هؤلاء الرجال والنساء موطنهم ورحلوا إلى المناطق الشاسعة في شمال أفريقيا وأوروبا وآسيا واستوطنوها. ولأن البقاء في الغابات الثلجية في شمال أوروبا تطلب سمات تختلف عن تلك المطلوبة للبقاء في أدغال أندونيسيا الحارة، فإن المجموعات البشرية تطورت في اتجاهات مختلفة.

في أوروبا وغرب آسيا تطور البشر إلى نوعان: Homo Neanderthalensis والمعروف شعبيًا بالنياندرتال وهو أضخم من الإنسان العاقل وله عضلات أكبر تمكن من التكيف مع مناخ العصر الجليدي البارد. أما في شرق آسيا فسكن نوع بشري يدعى 《الإنسان المنتصب- Homo Erectus》 وبقي هنالك لمدة مليوني سنة. في المناطق الاستوائية عاش 《إنسان سولو- Homo Soloensis》. وبقي البشر يتطورون في شرق أفريقيا أيضًا، وصولًا إلى 300 ألف سنة من يومنا حيث ظهر 《الإنسان العاقل- Homo Sapiens》.

 ميزة تطورية

بالعودة إلى الدراسة فإن المهارة اليدوية لجميع أنواع الإنسان الذي سكن العالم القديم وصولًا لنوعنا اليوم كانت أكثر تطورًا من باقي أنواع الرئيسيات مثل الشمبانزي. فقد اعتمدت هذه المهارة على حركة إبهام فعالة ودقيقة مكنت الإنسان من صناعة واستخدام أدوات أكثر تعقيدًا.

من أجل التوصل إلى هذه النتيجة درس الباحثون أيادٍ بشرية حديثة مع أيادٍ لشمبانزي وعدد كبير من أحافير نوع الإنسان منهم هومو نياندرتالينسيس وهومو ناليدي وثلاث أنواع من الأسترالوبثقس وقد اعتمد الباحثون على عنصرين لتحليل هذه العظام هما تشريح عظام الكف والأنسجة الهشة.

صورة تبين شكل العضلات المستعملة لاحتساب فعالية حركة الإبهام
Image: Katerina Harvati, Alexandros Karakostis, Daniel Haeufle

ولأن العضلات تتحلل في الأحافير بشكل طبيعي، فقد ركز الباحثون مجهودهم على تحديد المكان الذي كان مهيئ لها على سطح الطبقة العظمية. هذه العضلة كانت مسؤولة عن حركة الإبهام. وقد تم احتساب نسبة المهارة اليدوية التي امتلكها كل نوع عبر المقارنة التشريحية لعظام اليد بالإضافة إلى انشاء تمثيل افتراضي ثلاثي الأبعاد لليد البشرية .

بينت النتائج أن جميع أنواع الجنس البشري ومن مليوني سنة قد أظهروا تطور بحركة الإبهام بشكل فعال. وهذا الأمر يدل على الأهمية العظيمة لهذه الميزة التطورية في التطور الثقافي الحيوي لجنسنا. فقد ظهرت هذه الميزة في ذات الفترة تقريبًا التي ازداد فيها مستوى صنع واستعمال الأدوات الحجرية في أفريقيا. وفي ذات الفترة التي تميزت بزيادة مستوى التعقيد الثقافي في العالم القديم. ومع أن نوع 《الهومو ناليدي- Homo naledi》 الذي كان يعيش في ذات الفترة تقريبًا في جنوب أفريقيا امتلك دماغًا صغيرًا نسبيًا إلا أن هذه الميزة التطورية قد وجدت في أحافير تعود له أيضًا.

نرشح لك أيضا: الفينيقيون الجدد .. كيف ترسم السياسة حدود الحضارات؟

ثقافة مبنية على حركة إصبع

هذا التطور في صناعة واستعمال الأدوات الحجرية أدى إلى استغلال متزايد وتدريجي للموارد الغذائية الحيوانية. فقد تمكن الإنسان عبر أدوات أفضل من صيد حيوانات أضخم ومن محاربة الحيوانات الأشرس. وبعد أن كان الإنسان ينتظر دوره ليأكل ما تبقى من الفريسة بعد الأسود والضباع أصبح على رأس الطابور. فقد ظهر الإنسان المنتصب وهو من اشباه البشر ذوي الأدمغة الكبيرة والأجساد الضخمة وقد سكن في أفريقيا وأوراسيا.

بالطبع لم يكن من الممكن أن تبنى هذه الثقافة على حركة الإبهام فقط. فهي كانت بحاجة لتفكير أكبر ولحجم دماغ يساعد على ذلك. وهذا ما حصل بعد أن ازدادت الخيارات الغذائية للإنسان عبر تناول لحوم أكثر.

بعد هذا البحث يسعى الفريق اليوم للنظرعن كثب إلى مجموعات أخرى محددة منها النياندرتال. ليرسم صورة أكبر لمدى تطور المهارة اليدوية للبشر القدماء. ومدى اختلاف مهارتهم عن المهارة التي نمتلكها اليوم. ويأمل الفريق أن التحقيقات الأبعد ستظهر نتائج جديدة لانتشار الاستعمال المنظم للأدوات بين اقاربنا القدماء. أما أنت وفي المرة القادمة التي تمسك فيها هاتفك لتصفح موقع الأكاديمية أو لطلب ديلفري للغداء تذكر أن إبهامك قد ساعدك على ذلك.

ملاحظة:

استعان الكاتب الى جانب البحث المنشور في مجلة  Current Biology  عل كتاب “العاقل تاريخ مختصر للنوع البشري” للكاتب يوفال نوح هراري.

المصادر

  1. الدراسة المنشورة في مجلة Current Biology

العصر البرونزي الحديث .. كيف تصبح العولمة سببًا لانهيار الحضارات ؟

لا بد أن اللحظات الأخيرة للسفينة كانت مرعبة. ربما غرقت بعد اصطدامها بشيء مغمور في الماء، أو أنها غرقت بسبب عاصفة قوية أو ربما يكون طاقمها قد أغرقها عن عمد ليتجنب سقوطها بيد القراصنة. لا يمكن الجزم في سبب غرقها، لكن علماء الأثار قد انتشلوا حمولتها، وعلموا أن السفينة كانت مبحرة من منطقة شرق المتوسط إلى منطقة إيجة حاملة معها الدليل الأكبر على العولمة والسبب الأساسي لانهيار الحضارات القديمة. لكن، كيف تصبح العولمة سببًا لانهيار الحضارات ؟

عام 1982 وأثناء قيام غطاس تركي شاب من صائدي الإسفنج البحري بأولى غطاساته قبالة الساحل الجنوبي الغربي لتركيا وفي منطقة 《أولوبورون – Uluburun》 تحديدًا، يكتشف عن طريق الصدفة ما يدعوه بقطع البسكويت المعدنية. أدرك قائده مباشرةً أن الشاب كان جائعًا وأنها ليست قطع بسكويت بل سبائك جلد الثور النحاسية التي تعود للعصر البرونزي الحديث. لم يكتشف الشاب مجرد سبائك نحاسية بل حطام سفينة قد غرقت سنة 1200 ق.م. في عصر بدأت فيه العولمة وكانت سببًا في انهيار حضاراته.(1)

استلم عالم الأثار البحرية 《جورج باس- George Bass》 مهمة التنقيب عن السفينة. وأثناء تنقيبه اكتشف زجاجًا خامًا وجرار تخزين مملوءة بالشعير والتوابل وربما الخمر. أما أثمن ما في الحمولة فهوا حوالي طن من القصدير الخام وعشرة أطنان من النحاس الخام الذين كانوا سيمزجون معا لتشكيل معدن البرونز الرائع.(1)

رسم تخيلي لسفينة أولوبورون (مواقع التواصل )

 في الواقع إن اكتشاف باس مدهش. ولكن قيمته حقًا لم تكن في هذه الحمولة الهائلة، بل بأنه أزاح الستار عن عصر أممي تربطه طرق تجارية وعلاقات دبلوماسية واسعة. كان هذا العصر يعتمد على معدن البرونز كما النفط في يومنا هذا.

علاقات دولية

كان عصر البرونز الحديث (1550-1200) عصر أممي بامتياز. قامت فيه امبراطوريات عظيمة سيطرت على العالم القديم وارتبطت ببعضها عبر التجارة والحروب والعلاقات الدبلوماسية. بحيث كان يمكن لشخص من مصر مثلا أن يقوم برحلة إلى اليونان للتسوق مارًا بجزيرة كريت ثم إلى مدن البر اليوناني ثم يعود إلى مصر. (2)

لم تكن سفينة أولوبورون الدليل الأول أو الوحيد على أممية هذا العصر. بل إن عالم الأثار نفسه قد اكتشف سفينة أخرى كانت قد غرقت قبلها بمئة سنة. ولم تكن هذه السفن سوى واحدة من مئات السفن التي كانت تجوب المتوسط عبر طرق بحرية أساسية كانت تربط العالم القديم ببعضه.

العولمة القديمة

وفي قصة مثيرة تعود لبداية هذا العصر حوالي عام 1477 ق.م. في مدينة بيرو نيفر في دلتا النيل والتي تعرف حاليًا بتل الضبعة. يأمر الفرعون المصري تحتمس الثالث ببناء قصر كبير له، بزخارف ورسومات جصية مذهلة لم يكن لها مثيل في مصر.

استأجر الفرعون لهذه المهمة حرفيون من جزيرة كريت البعيدة، والتي تقع في أقصى الغرب في الجانب الأخر من الأبيض المتوسط. رسم هؤلاء الحرفيون صورًا لم يراها أحد في مصر قبلًا، مشاهد غريبة لرجال يثبون فوق ثيران. وكانوا يستعملون الطلاء فوق الجص قبل أن يجف بحيث يمتص الألوان ويصبح جزئًا من الجدار نفسه. وهذا ما يسمى بأسلوب الفريسكو.

كانت هذه المشاهد والتقنية المستخدمة في الرسم المستوحاة من جزيرة كريت، موجودة أيضًا في مناطق كنعانية ساحلية وفي تركيا وقطنة في سوريا. (2) وتشكل هذه الرسوم مثالًا أخر على العولمة التي تعود لأكثر من 3400 سنة من يومنا هذا.

إن العلاقات بين جزيرة كريت والشرق الأدنى كانت أقدم من ذلك. فعلى جزيرة كريت نفسها عُثر عى العديد من الأغراض المصرية والكنعانية وأغراض تعود لبلاد الرافدين.  وكما تقول مؤرخة الفن هيلين كانتور لا تشكل الأدلة التي حفظها لنا مرور الزمن سوى نسبة ضئيلة مما لا بد وأنه كان موجودا يوما ما. كل وعاء استورد يمثل عشرات من الأوعية الأخرى التي اندثرت.

ربما ينبغي أن نفهم أن التجارة بين منطقة إيجة ومصر والشرق الأدنى كانت أكبر بكثير مما نظنه اليوم.

أرشيفات ملكية

عام 1887 ميلاديًا وفيما كانت امرأة قروية من مصر تبحث عن بعض الأخشاب للتدفئة في منطقة تل العمارنة. عثرت على واحد من أهم الأرشيفات التي دونت العلاقات الدبلوماسية والتجارية في العالم القديم. عثرت على أرشيف تل العمارنة.

بنى هذا الأرشيف الفرعون المصري أمنحتب الثالث خلال القرن الرابع عشر ق.م. واحتفظ فيه بجميع المراسلات الدبلوماسية والتجارية التي كانت تجري بين مصر ودول البحر المتوسط. مات أمنحتب الثالث وخلفه ابنه أخناتون أو كما نعرفه اليوم بفرعون النبي يوسف الذي قام بثورة التوحيد في مصر. ربما تخلى أخناتون عن كل موروث والده الديني وأغلق معابد أمون. لكنه فهم أهمية الحفاظ على العلاقات الدولية فاحتفظ بهذا الأرشيف وأضاف عليه.

كان أرشيف تل العمارنة كنزًا دفينًا يعج بالرسائل بين ملوك وحكام مناطق الشرق الأدنى. كان موضوع هذه الرسائل في العادة طلبًا للمساعدة من حكام مناطق تابعة لمصر. لكن رسائل القوى الكبرى كانت على مستوى دبلوماسي أعلى بكثير. (2)

نرشح لك: الفينيقيون الجدد .. كيف ترسم السياسة حدود الحضارات؟

عقوبات تجارية

قصة أخرى مثيرة للاهتمام، عثر المنقبون في مختلف المناطق الحيثية (تركيا حاليًا) على العديد من الأغراض والبضائع من مختلف البلدان في الشرق الأدنى. وأيضا عثروا على بضائع حيثية في جميع تلك البلدان. لكن الاستثناء الوحيد كان في منطقة اليونان فلم يتم إيجاد أي أغراض حيثية في البر الرئيسي لليونان خلال العصر البرونزي الحديث. وكذلك في الأراضي الحيثية لم يجد العلماء أي دلائل على استيراد أي أغراض من المملكة المسينية التي حكمت اليونان خلال الألفية الثانية. (2)

قد يكون الأمر أن أي من الطرفين لم ينتج اغراضًا احتاجها الأخر أو أن الأغراض المتبادلة كانت عرضة للتلف. لكن الأثرين قد عثروا على معاهدة دبلوماسية حيثية تنص عل حظر اقتصادي متعمد على الميسينيين ويبدوا أنه من المرجح أننا نطالع هنا أحد اقدم الأمثلة على ما ندعوه اليوم بالعقوبات اقتصادية.

ربما الدافع لإنشاء هذا الحظر هو قيام الميسينيين بدعم أنشطة معادية للحيثيين في غرب الاناضول. أو ربما هذا الحظر كان نتيجة لاتفاقية معادية للحيثيين وقعت بين مصر وميسينيا أثناء عصر الفرعون أمنتحتب الثالث. خلاصة القول يبدوا أن التجارة والدبلوماسية منذ 3500 عام مضت لم تكن تختلف اختلًافا كبيرًا عن ما يمارس في عالمنا المعولم اليوم من إجراءات حظر اقتصادي  وبعثات دبلوماسية وغيرها.

لقد كان العصر البرونزي الحديث عصرًا ذهبيًا في التاريخ لكن لكل شي نهاية ونهاية هذا العصر كانت مأساوية.

نهاية عصر

انهار العالم في نهاية عصر البرونز الحديث وانهارت معه الحضارة ورغم الكارثة التي أحلها هذا الانهيار إلا أنه لم يحدث فجأة ولا بسبب كارثة نووية بل حدث على مرحلة زمنية طويلة وبسبب عدة أزمات. سنة 1177 ليست السنة التي حدث فيها الانهيار بل السنة التي بدأ فيها كل شيء.  (2)

تشير أخر الأبحاث الأثرية والأدلة النصية المستخرجة من مدينة أوغاريت (رأس شمرا حاليًا على الساحل السوري) أن العلاقات والصلات الدولية بقيت قائمة حتى أخر لحظة من الانهيار، تدمرت أوغاريت نهائيا بين سنة 1190-1192 ق.م. ويورد المنقبون في تقاريرهم أدلة على دمار ونيران في سائر أنحاء المدينة. مع وجود العديد من رؤوس السهام منتشرة في أطلال المدينة. وهذا ما يدل على أن التدمير الذي حصل للمدينة هو نتيجة غزو خارجي.

في ذات الفترة تقريبا دمر عدد من المدن والبلدات في جنوب سوريا وكنعان، المشكلة أنه لم يتمكن العلماء لحد الأن من تحديد سبب الدمار أو هوية الفاعل.

خريطة المواقع المدمرة في نهاية عصر البرونز (مواقع التواصل )

فاعل مجهول

كان سائدًا ولفترة طويلة أن شعوب البحر هي المسؤولة عن الدمار الحاصل في نهاية عصر البرونز في كل المدن. وأن هذه الشعوب قد غزت معظم العالم القديم، ففي هذه الفترة في القرن الثاني عشر تعرضت معظم المدن للدمار مما كان يعزز هذه الفرضية. وذلك يعود بطريقة أو بأخرى للنص الذي كتبه رمسيس الثالث والذي ذكرناه في المقال الأول.

هذا النص يتحدث عن تدمير هذه الشعوب لعواصم الدول الكبرى لكن الأدلة الأثرية اليوم ربما تشير إلى غير ذلك.

يتحدث الكتاب المقدس ومصادر أخرى عن خمس مدن في جنوب كنعان احتلتها شعوب البحر وهي عسقلان وأشدود وعقرون وجت وغزة. التنقيبات الأثرية في مدينة عقرون وأشدود تشير إلى تدمير كبير في المدينتان يعود لنهاية عصر البرونز الحديث. وقد تم استبدال الثقافة المحلية للمدينتين بثقافة أجنبية (أحواض الاستحمام والمواقد والأدوات الفخارية …) وهذا ما يشير إلى تدفق أشخاص جدد في أعقاب انهيار كنعان وانسحاب القوات المصرية من المنطقة.

الأمر نفسه قد حدث في مدينة عسقلان ربما كانت شعوب البحر مسؤولة فعليًا عن دمار هذه المدن لكن ماذا عن باقي الممالك الكبرى؟

حروب محلية

في بلاد الرافدين وجد علماء الأثار أدلة تدمير في مواقع متعددة تشمل بابل، لكن من الواضح الأن أن المتسبب في ذلك كان قوى أخرى غير شعوب البحر فالجيش العيلامي الذي زحف من جنوب غرب إيران كان متسببًا في جزء من هذا الدمار.

وفي الأناضول (تركيا حاليًا) وفي نفس الفترة، نرى تدمير للعديد من المدن الكبرى منها حاتوسا عاصمة الحيثيين التي أظهرت الدراسات الأثرية تدمير القصر والمعبد فيها بنيران كبيرة. لا يمكن الجزم بأن شعوب البحر قد فعلوا ذلك وخصوصًا أن للحيثيين أعداء يسمون بالكاشكا ربما استغلوا فرصة ضعف الإمبراطورية الحيثية وهاجموها.

عمليات التدمير حصلت في ذات الفترة تقريبًا في المملكة الميسينية في اليونان. فمن المتفق عليه بشكل عام أن ميسيناي، عاصمة المملكة الميسينية، وعدة مدن كبيرة أخرى في اليونان قد لحقت بهم عملية التدمير في القرن الثالث والثاني عشر ق.م. ومجددًا لا يمكن تحديد هوية الفاعل لكن هذه المرة ربما كانت الطبيعة مسؤولة عن جزء من هذا الدمار، حيث تظهر بعض الأدلة أن زلزالًا أو سلسلة من الزلازل دمرت ميسيناي ومدن أخرى في اليونان. 

الأم الطبيعة

في الواقع عندما تقرر الطبيعة أن تدمر قطعة منها فيمكنها أن تفعل ذلك بعدة أشكال.

بفضل الأبحاث التي أجراها مؤخرًا علماء الزلازل الأثرية بات من الواضح أن اليونان ومساحة كبيرة من منطقة إيجة وشرق المتوسط كانت قد ضربتها سلسلة من الزلازل بدأت من سنة 1225 ق.م. استمرت طيلة خمسين عامًا يدعوها علماء الأثار اليوم بعاصفة الزلازل وقد ضربت في هذه الفترة الزمنية ميسيناي والعديد من المدن الميسينية الأخرى. ويمكن رؤية ضرر الزلازل في مواقع عديدة أخرى تشمل طروادة في تركيا حاليًا وحاتوسا في الأناضول وأوغاريت ومجدو وعكا وأشدود في المشرق. (3)

تغير مناخي

يعتقد بعض الباحثين اليوم أن المشكلة ليست فقط في الزلازل فالطبيعة تحمل في جعبتها الكثير. نشر فريق دولي من الباحثين يضم 《ديفيد كينوسكي – David Kaniewski》 بحثًا يتضمن عدة أدلة علمية على التغير المناخي والجفاف في إقليم البحر المتوسط في نهاية القرن الثالث عشر ق.م.

اعتمد الباحثون على بيانات استمدوها من تل تويني في شمال سوريا. وعبر دراسة حبوب لقاح مأخوذة من رواسب طمي بالقرب من الموقع استنتجوا وجود فترة جفاف شديدة في المنطقة (4). استمرت هذه الفترة ما يقارب 300 عام وتسببت في تلف المحاصيل ونقص الغذاء والمجاعة مما سرع الأزمات وفرض نزوحًا بشريًا إقليميًا في شرق المتوسط وغرب آسيا.

لاحقًا نشر براندون دريك من جامعة نيو مكسيكو عدة أدلة اضافية من مناطق في فلسطين وغرب اليونان، تشير إلى حصول جفاف في هذه المناطق وفي ذات الفترة تقريبا.. (2)

أحجار الدومينو

من شأن الجفاف والزلازل أن تحدث أزمات داخل الدول، وربما تؤدي إلى الهجرة. لكن هذه الكوارث قد حصلت في عصور سابقة ولم تؤدي لانهيار حضاري كامل فما هو السبب إذًا؟

هذه العوامل مجتمعة أسهمت في انهيار ممالك وامبراطوريات العصر البرونزي المتأخر وهذا هو الاحتمال المرجح حاليًا. فانهيار الأنظمة على هذا النحو لا يمكن أن يسببه زلزال أو مجاعة أو حرب لكن اجتماعها معًا يمكن أن يسبب أزمة كبيرة. وفي ظل تعقيد العلاقات بين الامبراطوريات واعتمادها على العولمة والأممية يمكن لكل هذا أن يؤدي إلى ما يسميه العلماء بالتأثير المضاعف حيث تتضخم تأثيرات تلك العوامل وتؤدي إلى الانهيار الكامل. (2)

كان معدن البرونز لذلك العصر كما النفط في يومنا وكانت السفن تعود الى ميسينيا محملة بالمواد الأولية لصناعة هذا المعدن . اعتمد الاقتصاد الميسيني بشكل أساسي على هذا المعدن، ومع انهيار التجارة الدولية لم تعد المواد الخام تصل الي ميسينيا الأمر الذي أدى إلى انهيارها. وكأحجار الدومينو تساقطت الحضارات الواحدة تلوى الأخرى مخلفةً عصورًا مظلمة استمرت لمئات السنين اللاحقة وهكذا تصبح العولمة سببًا للانهيار الحضاري الأكبر على الإطلاق.

لكن ماذا لو أن هذا العالم القديم لم ينهار كيف كان سيبدو عالمنا اليوم؟

نرشح لك: الانهيار الحضاري الكبير .. هل احتلت شعوب البحر العالم؟

المصادر:

  1. PULAK C. The Uluburun shipwreck. The oxford handbook of the Bronze Age Aegean. 2012 :1305-1327.
  2. Cline E. 1177 BC. Princeton University Press; 2015.
  3. Nur A, Cline E. Poseidon’s Horses: Plate Tectonics and Earthquake Storms in the Late Bronze Age Aegean and Eastern Mediterranean. Journal of Archaeological Science [Internet]. 2000;27(1):43-63. Available from here.
  4. Kaniewski D, Van Campo E, Weiss H. Drought is a recurring challenge in the Middle East. Proceedings of the National Academy of Sciences. 2012;109(10):3862-3867.

الانهيار الحضاري الكبير .. هل احتلت شعوب البحر العالم؟

يرزح الاقتصاد العالمي تحت ضغط كبير، وتجتاح الأزمات دول الشرق الأوسط. انهيار اقتصادي في لبنان وسوريا وحرب في اليمن، تدخلات تركية وإيرانية تأجج نيران الصراع في المنطقة. العراق يعيش حالة من الاضطراب واقتصاد اليونان في حالة يرثى لها. أليس هذا هو الحال في سنة 2021 ميلاديًّا؟ بلى، ولكن الوضع أيضا كان هكذا في سنة 1177 ق.م. منذ أكثر من ثلاثة آلاف سنة وفي عصر يدعى بالعصر البرونزي، حلَّ الانهيار الحضاري الكبير ، فانهارت حضارات منطقة البحر المتوسط الواحدة تلو الأخرى. وبانهيارها غيرت مسار ومستقبل العالم إلى الأبد.

استمر العصر البرونزي في منطقة الشرق الأدنى، ومصر وبحر إيجة ما يقرب من ألفَي عام. من سنة 3200 ق.م تقريبًا إلى بُعَيْد سنة 1200 ق.م. قامت في هذه الفترة العديد من الممالك الصغيرة والإمبراطوريات الكبيرة التي سيطرت على منطقة الشرق الأوسط. أسست نظمها وسياساتها الخاصة، وتشابكت العلاقات فيما بينها عبر طرق تجارية دولية واسعة حتى دعيت تلك الفترة بأول فترة أممية. إن أول ظهور للعولمة كما نعرفها اليوم قد بدأ منذ ذلك الحين. لكن وبعد قرون من التطور الثقافي والتكنولوجي، انتهى الحال بغالبية أقاليم البحر المتوسط إلى نهاية مأساوية. فسرعان ما انهارت الامبراطوريات الكبيرة والممالك الصغيرة، وانهار معها النظام العالمي. مخلفًا سنوات من الظلام قبل أن تظهر نهضة ثقافية جديدة في المناطق المتضرِّرة، ممهدة الطريق لتطور المجتمع الغربي على الصورة التي نعرفه عليها في وقتنا الحاضر.(1)

لسنوات عديدة وجهت معظم الأبحاث الأثرية التي درست هذا الانهيار وأسبابه أصابع الاتهام نحو شعوب البحر، اتهموا بأنهم قد اجتاحوا هذا العالم القديم ودمروه، فمن هم هؤلاء الشعوب؟

البداية والنهاية

في العام 1177 ق.م. وفي السنة الثامنة لحكم الفرعون المصري رمسيس الثالث وفي وقت واحد تقريبا بدأت عدة معارك برية وبحرية في دلتا مصر أو بالقرب منها. هاجمت قوات شعوب البحر الجيش المصري الذي كان في انتظارها. يوجد احتمال أن هذه المعارك كانت تمثل كمائن أخذ فيها المصريون أعدائهم على حين غرة أو أنها معركة واحدة طويلة، لكن ما هو مؤكد أن المصريين قد انتصروا فيها.

في معبده الجنائزي في مدينة هابو بالقرب من مدينة الأقصر حاليًا يمثل رمسيس الثالث معركته مع شعوب البحر بعدة جداريات ونقوش، وقد كتب بإيجاز في أحد هذه النصوص:

أعدَّت البلاد الأجنبية مؤامَرةً في جُزرها. وفجأة ودونما إنذار انتزعوا البلدان ودمَّروها في خضمِّ المعارك الحامية الوطيس. ولم يستطع أي بلد أن يَصمد في مواجهة جيوشهم، فاغتُصِبت البلدان بدءًا من خاتي، وكودي، وكركميش، وأرزاوا، وألشية وما بعدها دُفعةً واحدة. [لقد أقاموا] معسكرهم في مكان واحد في عمورو، والتي قتلوا شعبها، وكان حال أرضها كحال أرضٍ خَرِبة لم يكن ثمَّة وجودٌ لبشرٍ عليها من قبل. كانوا آخذين في التقدُّم صوب مصر، بينما كانت النارُ مُعدةً لهم. كان تحالفُهم يتكوَّن من الفلستيين، والتجيكر، والشيكليش، والدانونا، والويشيش، والتي كانت بلدانهم متحدة. لقد احتلوا بلدانًا بقدر ما وصلت إليه أيديهم، وكانت قلوبهم واثقةً وموقنةً بالنصر.(1)

يعطي هذا النقش العديد من المعلومات عن شعوب البحر. وكان يعتبر بالإضافة لباقي النقوش المصرية الدليل الأساسي لاجتياح شعوب البحر للعالم القديم وتدميره في أواخر عصر البرونز.

شعوب البحر

شعوب البحر، هو الاسم الذي أطلقه الباحثون عليهم اليوم، لكن المصريين القدماء لم يستخدموا هذا المصطلح أبدًا. عوضًا عن ذلك ححدوا هويتهم باعتبارهم مجموعات منفصلة تعمل معًا: الفلستيون، والتجيكر، والشيكليش، والشاردانا، والدانونا، والويشيش. وهي أسماء أجنبية الوقع لأناس بملامح أجنبية.

أسماء هؤلاء الشعوب ووجوههم محفورة على جدران معبد رمسيس الثالث الجنائزي في مدينة هابو. على هذه الجدران تظهر دروع الغزاة المستديرة، وأسلحتهم، وملابسهم، وقواربهم بوضوح تام، وبتفصيل كبير لدرجة أن الباحثين قد قارنوا بين الدروع والسفن في هذه الرسوم مع ما يشبهها في حضارات العالم القديم بحثًا عن أصل هذه الشعوب.

نقش يمثل معركة رمسيس الثالث مع شعوب البحر (مواقع التواصل )

على رؤوسهم ريش

بالنسبة لأشكالهم يظهرون في الرسوم وهم يرتدون قبعات من ريش على رؤوسهم، أو بأغطية رأس على شكل جماجم أو ذات قرون، كما يظهر بعضهم بلحية قصيرة مدببة وبإيزار قصير، وبعضهم الأخر بملابس طويلة تكاد تشبه التنانير. يشير هذا الاختلاف في الشكل واللباس إلى أن هذه الشعوب كانت من مناطق جغرافية وثقافات مختلفة.

لقد استعمل الغزاة القوارب التي تشبه مقدماتها رؤوس الأحصنة وهذا النمط كان منتشرا في حضارة بحر إيجة، كما استعملوا مركبات تجرها الثيران. قاتلوا بسيوف برونزية حادة واستعملوا رماح برؤوس معدنية وأقواس وسهام. أما دروعهم فكانت دائرية الشكل وهذا النمط كان منتشرًا أيضا في حضارة بحر إيجة. لقد جاء الغزاة في موجات وعلى مدى فترة طويلة من الزمن فهل أتوا من الفراغ؟

نقش يظهر أشكال شعوب البحر (مواقع التواصل )

أراضي خلف البحار

لم تترك المجموعات الست المنفصلة التي كوَّنت شعوب البحر أثناء هذه الموجة من الغزو أي نقوش تدل على أصلها. كان الدانونا معروفين منذ زمن بعيد على أنهم الدانانيون الذين أتى هوميروس على ذكرهم، والذين كانوا يعيشون في منطقة إيجة في العصر البرونزي. أما الشيكليش فقد أتوا من جزيرة صقلية الحالية. والشاردانا أتوا من جزيرة سردينيا، استنادًا إلى أوجه التشابه بين الحروف الساكنة في كلٍّ من الحالتَين. ومع ذلك لا يقبل كل الباحثين هذه الاقتراحات. توجد مدرسة فكرية بكاملها تقترح أن شعبي الشيكليش والشاردانا لم يأتيا من غرب المتوسط، وإنما كانا من مناطق في شرق المتوسط وأنهما فرَّا فحسب إلى منطقتَي صقلية وسردينيا، ومنَحا اسمَيهما لهاتَين المنطقتَين، بعد هزيمتهم على يد المصريين.

ما علاقة فلسطين بكل هذا؟

من بين كل المجموعات الأجنبية النشطة في هذه الساحة في ذلك الوقت، لم يحدد الباحثون على نحو مؤكَّد سوى مجموعة واحدة فقط. اعتبر الباحثون أن الفلستيون من شعوب البحر ليسوا سوى الفِلَسْطِينِيِّينَ، الذين حدِّد الكتاب المقدس أنهم أتوا من جزيرة كريت. يبدو هذا واضحا من تشابه الاسماء وبالإضافة إلى هذا التحديد  نشر فريق من العلماء سنة 2019 ورقة بحثية في مجلة ساينس ادفانس اعتمدوا فيها على تحليلات الحمض النووي لتحديد أصول الفلستيين. اختاروا للبحث أكثر من مئة رفات من مدينة عسقلان تعود للفترة الانتقالية بين عصر البرونز والحديد. 10 عينات فقط أعطت كميات كافية للتحليل. وقد بينت النتائج أنه في أوائل العصر الحديدي أو نهاية العصر البرونزي حصل تغيير في التركيب الجيني لسكان المنطقة في فلسطين مع وجود جينات من أصل أوروبي في رفات بعض العينات، وهذا ما يتناسب مع الوقت الذي كان مقترحًا لوصول الفلستيين إلى الساحل المشرقي.(2)

نرشح لك: التضحية بالأطفال .. قصة فينيقيو قرطاجة

غزو عالمي

يعتقد الباحثون اليوم أن شعوب البحر كانوا يتنقَّلون باستمرار من موقع إلى آخر، آخذين في اجتياح البلاد والممالك أثناء مرورهم بها. وحسب النصوص المصرية، فأنهم أقاموا معسكرًا في سوريا قبل الاستمرار بحذاء ساحل منطقة كنعان (التي تتضمَّن أجزاءً من سوريا الحالية، ولبنان، وفلسطين) وإلى دلتا نيل مصر.

هاجمت هذه الشعوب دول العالم القديم في فترات زمنية مختلفة انتقلوا برًا من يونان إلى تركيا اما بحرًا فقد هاجموا الحضارة الميسينية حوالي سنة 1210-1200 ق.م. ثم انتقلوا إلى جزيرة كريت ومنها هاجموا قبرص ثم السواحل المشرقية سنة 1192-1190 ق.م. ثم انتقلوا إلى ديلتا مصر سنة 1177 ق.م.

في مدينة أوغاريت في سوريا عثر العلماء على لوح طيني منقوش عليه رسالة من ملك أوغاريت في شمال سوريا إلى ملك جزيرة قبرص:

  أبي الأن وصلت سفن العدو. إنهم يضرمون النار في  مدني وألحقوا بالبلد الأذى. ألا يعرف أبي أن كل الرجال المشاة خاصتي ومركباتي الحربية متمركزون في خاتي، وأن كل سفني متمركز في أرض اللكا؟ أنهم لم يعودو بعد، لذا فالبلد ليس له حماية. فليكن أبي لى علم بها الأمر. الأن سفن العدو التي كانت اتية  قد ألحقت بنا الكثير من الضرر. وإذا كانت سفن أخرى ستظهر. فإعلمني بطريقة ما.

لا  نعلم اذا كانت هذه الرسالة قد وصلت  إلى وجهتها او لا لكن أوغاريت قد تدمرت كليا سنة 1190 – 1192 ق.م وهذا ما أظهرته دراسة حديثة.(3)

أما على ساحل المشرق الجنوبي فقد أسست هذه الشعوب ثلاثة مدن هي 《غزة – Gaza》و《 أشدود – Ashdod》و 《عسقلان – Ashkelon》و 《جاث – Gath》و《 عقرون – Ekron》

المناطق التي هاجمها شعوب البحر (مواقع التواصل )

غزاة أم لاجئون؟

نسب الباحثون السابقون كل الدمار الذي وقع في هذه الفترة إلى شعوب البحر. لكن قد يكون من المبالغة أن يلقوا بلائمة نهاية العصر البرونزي برمتها عليهم. فهم بذلك يمنحون تلك الشعوب قدرًا لا تستحقُّه من الأهمية، إذ إننا لا نَملك أدلة واضحة، باستثناء النصوص والنقوش المصرية، التي تُعطي انطباعات متضاربة. هل توجَّهت شعوب البحر إلى منطقة شرق المتوسط على هيئة جيش منظم نسبيًّا؟ هل كانت تلك الشعوب على هيئة مجموعة من المُغيرين المنظَّمين تنظيمًا ضعيفًا، مثل الفايكينج الذين ظهروا في عصر لاحق؟ أم كانوا لاجئين يفرُّون هربًا من كارثة؟

لم يعد هناك يقين أن كل المواقع التي يوجد دليل على تدميرها قد دُمِّرَت على يد شعوب البحر. فيمكن للباحثين مثلا أن يستنتجوا من الأدلة الأثرية أن موقعًا ما قد تعرَّض للتدمير، ولكن لا يستطيعوا دومًا أن يستنتجوا السبب أو الفاعل. علاوة على ذلك، فإن المواقع لم تُدمَّر كلها على نحو مُتزامِن، ولا حتى بالضرورة في خلال نفس العقد من الزمن.

تشير الأدلة المتوفرة حاليًا إلى أنه من المرجح أن شعوب البحر ليسوا الفئة الوحيدة التي تقع عليها اللائمة في ذلك. يبدو مرجحًا الآن أن تلك الشعوب كانت الضحيةَ بقدر ما كانت المُعتدية في مسألة انهيار الحضارات. تقترح إحدى الفرضيات أن تلك الشعوب أُجبِرَت على الخروج من أوطانها جراء سلسلة من الأحداث المأساوية وارتحلت شرقًا حيث صادفت مَمالك وإمبراطوريات كانت بالفعل آخذةً في الانحسار. من المحتمَل جدًّا أيضًا أن السبب تحديدًا في قدرتها على مهاجمة الكثير من ممالك المنطقة والقضاء عليها في نهاية الأمر هو أن تلك الأنظمة الملَكية كانت بالفعل آخذةً في الانحسار وفي حالة ضعف لسبب أو لعدة أسباب أخرى سنتكلم عنها في المقال القادم.

اقرأ أيضًا: الفينيقيون الجدد .. كيف ترسم السياسة حدود الحضارات؟

المصادر

  1. https://press.princeton.edu/books/paperback/9780691168388/1177-bc
  2. https://advances.sciencemag.org/content/5/7/eaax0061
  3. https://journals.plos.org/plosone/article?id=10.1371/journal.pone.0020232

الفينيقيون الجدد .. كيف ترسم السياسة حدود الحضارات؟

على مقربة من سواحل مدينة جبيل اللبنانية، وفي ساعات الصباح الأولى، يقف بحارٌ أسمرُ اللون في سفينته الدائرية بمقدمتها التي تشبه رأس الحصان والمصنوعة من خشب الأرز اللبناني، ينظر بحيرة نحو البحر أمامه، ربما كان يفكر بوجهته أو ربما بتجارته، لكن ابدًا لم يكن ليخطر على باله بأن هويته بعد 2800 سنة من وفاته ستصبح ولسنوات عديدة، محط جدلٍ كبير.(1) الفينيقيون الجدد والحركات السياسية، قضيةٌ تعود لتطفو على السطح مجددًا، هي موضوع مقالنا اليوم.

تقول المؤرخة وعالمة الآثار 《جوزيفين كوين – Josephine Quin》أنه ومن أجل أن تحكم على مجموعة من الناس أنهم شعب واحد يجب أن تتوفر فيهم عدة معايير، أولها اسم مشترك بالإضافة لانتمائهم لأرض وثقافة واحدة ووجود حس التضامن فيما بينهم، وأنا لا اعتقد أن أيا منها قد توفر بالفينيقيين. (2)

إن الشائع بين الناس عن الفينيقيين أنهم بحارة مهرة وتجار أذكياء، استطاعوا أن يصلوا بسفنهم إلى كل مناطق البحر المتوسط، أسسوا فيها محطات ومستوطنات وحملوا اليها تجاراتهم وصباغهم الأرجواني وأبجديتهم، أما ما هو يقين للجميع فإن الفينيقيين قد شكلوا شعبًا واحدًا.

صدر كتاب كوين سنة 2017 بعنوان In Search Of The Phoenicians وقد غير بصدوره نظرة المجتمع العلمي عن الفينيقيين كليًا فما كان يقينًا عن أنهم شعب واحد قد أصبح اليوم غير صحيح. تشير كوين أن معظم الأبحاث المثيرة التي حصلت في العقود الماضية عن الهوية الفينيقية قد أهملت فكرت الهوية نفسها، وفي بحثها تحدت كوين كل ما كان مألوفًا عنهم وقالت إن المفاهيم القومية الحديثة هي من أنشأت الهوية الفينيقية وهذه الهوية قد خُلقت لتخدم أهدافًا سياسية في العصر الحديث. فكيف خدم الفينيقيون هذه السياسات الحديثة؟

الفينيقيون الجدد

البداية في لبنان او كم درج تسميتها لسنوات بأرض فينيقيا الأم، ظهرت فكرة الفينيقيين الجدد لأول مرة في كتابات المؤرخ اللبناني طنوس الشدياق حيث ربط بين فينيقيا ولبنان في كتابه history of the notables of mount Lebanon الصادر سنة 1859، يناقش في فصله الأول حدود لبنان وسكان المدن الفينيقية فيه. بعدها سرعان ما اخذت فكرة القائلة بأن اللبنانيين هم الفينيقيين القدماء ضجة واسعة في بداية القرن العشرين بين المهاجرين اللبنانيين في مصر والولايات المتحدة، وبمساعدة وثائق الحكومة الأمريكية التي هدفت إلى تحويل المهاجرين من الساحل السوري من عرب إلى فينيقيين من أجل رفع رتبتهم.

لم تصبح هذه الفكرة مشهورة في لبنان نفسه إلا بعد نهاية الحرب العالمية الأولى وانهيار الامبراطورية العثمانية، ومع قدوم التأثير الثقافي الأوروبي وما تبعه من انتداب فرنسي لأراضي سوريا ولبنان اعتنق هذه الفكرة بعض رواد الاعمال والسياسيين والنشطاء اللبنانيين، كان الهدف هنا هو تقسيم لبنان وفصله عن سوريا واقناع اللبنانيين أنهم ليسوا عربًا، بل ربطهم ثقافيًا وشكليًا وحتى روحيًا بحضارة أقدم بكثير من العرب بالحضارة الفينيقية.

لا يمكن أن نعلم على وجه الخصوص إذا ما كانت هذه النزعة نحو الماضي هي فعلٌ فطري طبيعي او أنها كانت ستحدث دون تدخل الفرنسيين لتحويرها، لكن الفينيقية لم تكن الحركة الوحيدة في الشرق الأوسط في أوائل القرن العشرين التي تريد العودة إلى جذورها القديمة، هنالك أيضا الفرعونية والاشورية والآرامية في سوريا والكنعانية في فلسطين.

لماذا التاريخ القديم مهم لهذه الحركات السياسية الجديدة؟

يقول المؤرخ البريطاني《 إريك هوبسبام – Eric Hobsbawm》 الدول هي كيانات حديثة تاريخيا تتظاهر بأنها كانت موجودة لفترة طويلة ولتكون دولًا من الأساس يجب ان يكون لها ماض متفق عليه بين جميع مواطنيها وليس ضروريًا أن يكون هذا الماضي حقيقي. إذا كان من الضروري للبنان الخارج حديثا من الانتداب الفرنسي ان يتذكر اجداده الفينيقيين العظماء ويربط هويته بهم ليتحول اللبنانيون اليوم إلى الفينيقيين الجدد.

ساعدت القومية الفينيقية الفرنسين على فصل لبنان عن سوريا لكنها قد وحدت التونسيين ضد الاستعمار الأوروبي وإن كانت هذه القومية حقيقية أم اختراعا حدث في القرن التاسع عشر لا بد من وجود أدلة ملموسة عليها.

نرشح لك: التضحية بالأطفال .. قصة فينيقيو قرطاجة

فينيقيون مجهولون

خلال حياتهم لم يطلق الفينيقيون على أنفسهم أي اسم، اليونان هم من اسموهم فينيقيين ولا يمكن الحسم في معنى هذه التسمية بعد، فربما دلت على لون أرجواني او شجرة النخيل أو على طائر الفينيق الخالد… اما الاسم الثاني الشائع عنهم فهو الكنعانيون، ويعتبر معظم الأكاديمييون اليوم أن هذا الاسم من أصل سامي أي أن الشعب المحلي وبلغته الخاصة قد عرف بهذا الاسم عن نفسه، لكن كوين تعود لتؤكد أن هناك القليل جدًا من الأدلة على هذا الاستخدام، وتقترح أن هذه الأدلة القليلة قد اسيء فهمها وتحليلها أيضًا. فالمرة الوحيدة التي وجدت فيها كلمة كنعان (KNʿN) مكتوبة بالفينيقية، كانت على عملات برونزية صكتها مدينة بيروت عام 168 قبل الميلاد، والتي أعطت اسم المدينة باسم أم لاوديكيا في كنعان (LʾDK ʾM BKNʿN).

تُؤخذ هذه العبارة أحيانًا كدليل بحد ذاتها على أن الفينيقيين قد سموا أنفسهم كنعانيين، لكن الواضح أن هذه العبارة تصف المدينة وليس سكانها، وسياقها السياسي يعني أنه لا ينبغي اعتبارها تسمية محايدة أطلقها الفينيقيون على أنفسهم فهي نسخة من اسم ” لاوديكيا في فينيقيا” الاسم الذي فرضه الملوك السلوقيون اليونانيون المقدونيون على بيروت، لتمييز المدينة عن لاوديكيا على البحر في أقصى الشمال.

لم يسموا أنفسهم فينيقيين ولا كنعانيين فكيف عرفوا عن نفسهم إذا؟ تجيب كوين عن هذا السؤال بالعودة إلى نصوص اللغة الفينيقية من المشرق نفسه، ما نسميهم اليوم فينيقيين قد عرفوا عن أنفسهم بالرجوع إلى مدنهم أو في كثير من الأحيان إلى عائلاتهم ومن الشائع بالنسبة للنقوش الفينيقية أن تسرد عدة أجيال من الأجداد والاسلاف كنوع من التعريف عن النفس.

موضة عالمية

عند الحديث عن الصناعات الحرفية الفينيقية لا يمكن تجاهل روعتها ودقة تصنيعها، اشتهر الفينيقيون بخزفياتهم وصناعاتهم العاجية المميزة التي صُدرت إلى معظم مناطق الشرق الأدنى والبحر المتوسط، وعادة ما تؤخذ هذه الصناعات كدليل قوي على ثقافة مشتركة لشعب واحد لكن المشكلة أن القليل من هذه القطع قد وجد على أرض فينيقيا الأم.

تقول كوين إن البشر ليسوا قطعا فخارية ودراستنا لمدى انتشار هذه القطع الأثرية لا يمكننا ان نقيس من خلاله حدود شعب ما. كان هنالك نمط دولي سائد في العصر البرونزي الحديث تم انتاج هذا النمط الموحد وشرائه عبر مناطق واسعة فهو ليس محدودا بفينيقيا، والانتاج الواسع لهذه القطع لا يعكس ثقافة شعب واحد بل يعكس موضة عالمية كانت سائدة في ذلك العصر.

عدة لهجات

عادة ما تؤخذ اللغة كدليل قوي على الهوية المشتركة وفي حالة الفينيقيين تقول كوين أنه لا يوجد أي دليل على أنهم تشاركوا لغة واحدة. الفينيقية العبرية المؤابية … كانوا يعتبرون جميعا لغات كنعانية وفي الفترة الحديدية كانت اللغة المستخدمة في المملكة الإسرائيلية قريبة جدا من اللهجة الفينيقية المحكية في المدن المجاورة لها، وفي الوقت نفسه كان هنالك لهجات مميزة داخل اللغة الفينيقية نفسها منها البونيقية المستخدمة في المستعمرات الغربية. على حد تعبير كوين لا يمكننا اعتبار أن الفينيقيين قد امتلكوا لغة مشتركة بل تكلموا عدة لهجات مختلفة كانت تشبه لهجات المحيطين بهم وقد تواصلوا فيما بينهم عبرها.

تفرقوا حتى لا تُحكموا

حتى الان كان النقاش عن الهوية الفينيقية بسلبية، هل كانوا شعبًا واحدا أم لا، لكن إذا نظرنا إلى الأمر بإيجابية فربما تعمد الفينيقيون كما درجت تسميتهم ألا يكونوا شعبا واحدا وألا تكون لديهم هوية مشتركة كشكل من أشكال المقاومة ومحاربة الاستعمار الأجنبي.

جادل《 جيمس سي سكوت – James C. Scott》 مؤخرًا في كتابه The Art of Not Being Governed (2009) بأن الأشخاص الذين يتمتعون بالحكم الذاتي والذين يعيشون على أطراف وحدود الدول التوسعية الكبرى يميلون عادة إلى تبني استراتيجيات لتجنب السيطرة المباشرة عليهم من قبل هذه الدول ولتقليل الضرائب والتجنيد الاجباري وعمل السخرة. (3) وقد ركز سكوت في بحثه على مرتفعات جنوب شرق آسيا، وهي منطقة تُعرف الآن أحيانًا باسم《 زوميا – Zomia》، وعلاقتها بدول المسيطرة على السهول الكبرى في المنطقة مثل الصين وبورما.

يصف سكوت في بحثه سلسلة من التكتيكات التي يستخدمها سكان هذه التلال لتجنب سلطة الدولة، بما في ذلك تشتتهم في التضاريس الوعرة، وتنقلهم، وممارساتهم الزراعية، وهوياتهم العرقية وهيكلهم الاجتماعي المرن. يقول سكوت في وصفه للوضع السياسي في تلك المنطقة أن التحالفات السياسية كانت محدودة وقصيرة العمر في زوميا. في الواقع، تبدو العديد من جوانب تحليل سكوت مألوفة في عالم البحر الأبيض المتوسط القديم، على أطراف الإمبراطوريات الزراعية العظيمة في بلاد ما بين النهرين وإيران وما هو مثير للاهتمام هنا هو الفائدة الكبيرة لمثل هذا الاسلوب في المنطقة الجبلية في شمال المشرق القديم.

بالعودة إلى بحث سكوت يمكن أن نرى بوضوح كيف استخدم سكان المشرق القديم مجموعة متنوعة من الاستراتيجيات للتهرب من سيطرة القوة الإمبريالية عليهم. التشتت في التضاريس الوعرة والانقسام إلى عدة مدن وعقد تحالفات قصيرة الأمد كلها استراتيجيات اعتُمدت في فينيقيا للتهرب من سيطرة الامبراطوريات العظمى عليها. تفرقوا حتى لا تُحكموا، على حد تعبير سكوت.

كان الخيار الآخر المتاح أمام هذه الجماعات هو الذهاب إلى البحر، وهي منطقة مألوفة للفينيقيين حيث يمكن لخبرة ومعرفة البحارة المشرقيين أن تجعلهم وأنشطتهم غير مرئيين وغير خاضعين للمساءلة أمام أسيادهم في الشرق. قدم البحر أيضًا طريقًا للهروب من المزيد من سيطرت الإمبراطوريات المحلية.

مفاهيمنا الحديثة تشوه الماضي

لقد شوهت مفاهيمنا الحديثة عن الهوية والانتماء تاريخنا. لم يرى الفينيقيون يوما أنفسهم كشعب واحد بل ربما قد تعمدوا ذلك، ان تصنيفنا لهم بهذه الطريقة يعد تصنيفًا تعسفيا، لقد اعتمدنا على مفاهيم مصطنعة لتنظيم العالم وأنفسنا ومهما كان اعتقادنا بان هذه المفاهيم صحيحة فهذا لا يجعلها حقيقة علمية أو طبيعية. الحقيقة هي أنه وعلى الرغم من أن المؤرخين يعتقلون الموتى باستمرار من التاريخ ويفحصون جيوبهم بحثًا عن هويتهم، فهم عاجزون عن معرفة كيف كان الناس يفكرون حقًا في أنفسهم في الماضي، وبسبب هذا التركيز الأكاديمي التقليدي على عدد صغير من المجتمعات المتطورة وغير العادية فقد تم تشويه منطقة البحر الأبيض المتوسط القديمة وأهملت حضارات صغيرة أخرى وتم تصنيفها تعسفيا مع حضارات أخرى.

ليس لدينا دليل جيد على أن الناس القدامى الذين نسميهم اليوم فينيقيين قد عرفوا أنفسهم كشعب واحد أو تصرفوا كمجموعة مستقرة. وبدلًا من أن نملأ هذا الفراغ بقصص من خيالنا يجب أن نقبل الفجوات في معرفتنا. بانتظار اكتشافات أثرية حديثة لتملأ هذا الفراغ.

المصادر

  1. Mark Cartwright. The Phoenicians – Master Mariners.: Ancient History Encyclopedia 2016.
  2. QUINN J. IN SEARCH OF THE PHOENICIANS.: PRINCETON UNIV Press; 2019.
  3. Scott J. The art of not being governed. New Haven, Conn.: Yale University Press; 2011.

التضحية بالأطفال .. قصة فينيقيو قرطاجة

المكان 《منطقة تانيت – The Precinct of Tanit》 في قرطاجة (تونس حاليًا) أما الزمان فبين القرنين السابع والثاني قبل الميلاد. يتقدم رجل بقدمه اليمنى إلى الأمام، مرتديًا زيه الكهنوتي، يحمل بيده اليسرى ما يبدو وكأنه طفل صغير بدون ملامح، يرفع يده ليطلب من الآلهة تقبل قربانه ويحرق الطفل. فما الدافع وراء التضحية بالأطفال حرقًا؟

توفيت قرطاجة

يقع توفيت قرطاجة خارج المدينة وما نسميه اليوم توفيت كان مدفن كبير لجثث الأطفال المحترقة. هذا ما توصل له 《لورنس ستاجر –LAWRENCE STAGER》 الذي كان مسؤول الحفريات في مدينة تونس من سنة 1975 إلى سنة 1980. (1) لقد استخدم الفينيقيون التوفيت كمدفن للجثث المحترقة من القرن الثامن قبل الميلاد حتى القرن الثاني ق.م. حيث تدمرت قرطاجة على يد الرومان. (2) وجد ستاجر في الموقع بقايا جثث محترقة لآلاف الأطفال الرضع مدفونة مع بقايا عظمية تعود لحيوانات كالخراف والماعز والطيور في جرار تعلوها علامات حجرية منحوتة (مسلات)، وغالبًا ما تحمل نقوشًا أيقونية فسرها بعض الباحثين على أنها تدل على التضحية بالأطفال.

تضحية أم بروباغاندا؟

بالعودة إلى الماضي، إلى الزمن الذي ازدهرت فيه قرطاجة، كان الإغريق والرومان في كتاباتهم الأدبية يتهمون الفينيقيين في قرطاجة بالتضحية بأطفالهم للإله 《كرونوس – kronos》 من أجل كسب المعارك، وجاءت الأدلة الأثرية المتمثلة بعظام الأطفال الكثيرة المحترقة في منطقة توفيت لتدعم كتاباتهم، لكن العداوة بين الرومان والفينيقيين في قرطاجة كانت معروفة، لذلك بقيت هذه الكتابات محط جدل كبير وغير موثوقة في الأوساط العلمية كونها يمكن أن تكون بروباغاندا مغرضة ضد القرطاجيين. سنة 2010 قام عالم الأحياء والأنثروبولوجيا 《جيفري إتش شوارتز – Jeffrey H. Schwartz》 من جامعة بيتسبرغ بأول دراسة على عينات من بقايا الهياكل العظمية البشرية المحترقة (348 جرة دفن، العدد = 540 فردًا) التي استخرجها من التوفيت القرطاجي(1)

جرى هذا البحث بناءًا على دراسة تكوين الأسنان وأنسجة المينا وعلى عظام من الجمجمة 《العظم الصدغي- Temporal bone》 مع الأخذ بالحسبان الآثار المحتملة لانكماش العظام الناجم عن الحرارة. الهدف الأساسي من الدراسة كان معرفة ما إذا كان البشر المدفونين في التوفيت أضحيات محروقة حية أم أحرقوا بعد الموت كما كان شائعًا في العالم القديم. لكن دراسة شوارتز وعلى عكس المتوقع أظهرت أن معظم العينات تعود لأجنة ماتت قبل فترة الولادة، أو ما بين 5-6 أشهر بعد الولادة، وبدلا من الحديث عن التضحية كسبب للوفاة يقول شوارتز أن هذه النسبة من الأعمار تتوافق مع البيانات الحديثة حول وفيات الفترة المحيطة بالولادة، أي أن هذه الوفيات طبيعية. وفي قرطاج تفاقمت نسبة الوفيات بسبب العديد من الأمراض التي كانت شائعة في العالم القديم كما في المدن الكبرى الأخرى، مثل روما وبومبي. إذن كان توفيت قرطاجة مدفن للأطفال أو الأجنة الذين ماتوا قبل الولادة أو بعدها بفترة وجيزة، بغض النظر عن سبب الوفاة. يبقى أن الأمر لم ينتهي هنا فكل فرضية علمية تحمل هامشها من الخطأ.

تأريخ الأعمار دليل على التضحية

إن إثبات التضحية بالبشر من عدمه عموما يعتمد بشكل كبير على القدرة على تحديد أعمار العظام المدروسة، والعمر ليس من السهل تحديده. في السنة التالية لنشر شوارتز لبحثه قامت 《باتريشيا سميث – Patricia Smith》 المتخصصة في البيولوجيا والأنثروبولوجيا وفريق من المتخصصين، بنشر ورقة بحثية اعتمدت فيها على مجموعة من التقنيات الجديدة لتأريخ الأعمار، وقد بينت الدراسة أن معظم الأطفال في قرطاجة قد ماتوا بين شهر وشهر ونصف بعد الولادة، لذلك اعتبرت سميث أن التضحية بالأطفال كانت محتملة جدا. (2)

إقرأ أيضًا: ما هو التحنيط الذاتي ؟

تقول سميث في دراستها أنه من أكثر القضايا المحورية في النقاش عن كيفية تقدير أعمار الرضع هو كيفية تأثير حرق الجثث على العظام المستخدمة في التأريخ. وتقول سميث أن هذه الدراسة اعتمدت على مجموعة من التقنيات منها 《القياس الحيوي- biometry》،《والمجهر الضوئي-light microscopy》 لتحديد عمر العظام للأطفال.

طول الأسنان يحدد عمر الميت

باستخدام طول الاسنان، وبعد تصحيح الانكماش، وجدت سميث وفريقها أن عمر الاطفال الرضع في توفيت بلغ ذروته بين الشهر والشهر والنصف مع بعض العينات التي وصل عمرها لأربع سنوات، وهذا التوزيع العمري يختلف عما هو موجود في مدافن الرضع في المواقع الأثرية الأخرى الذين ماتوا بشكل طبيعي. هذا التوزيع العمري، وكذلك المعاملة الجنائزية الخاصة للأطفال الرضع، يدعم الأدلة النصية والأيقونية التي تقول: إن الفينيقيين مارسوا التضحية بأطفالهم. وهذا ما عارض دراسة شوارتز الذي قال إن توفيت قرطاجة قد استخدم كمقبرة لدفن الرضع المجهضين أو الذين ماتوا قبل الولادة.

من ناحية أخرى حسب سميث فإن حرق الجثث على نار مكشوفة هو طقس أكثر تكلفة ويستغرق وقتًا طويلاً من الدفن وفي معظم المجتمعات عادة ما يتم هذا الطقس لكبار السن أو للنخبة في المجتمع. وقد توصلت سميث إلى قناعة بأن الفينيقيين أحرقوا الجثث في أماكن مفتوحة وليس في أفران مغلقة بعد أن وجدت اختلافات في نسبة الحرق على العينات التي درستها وأرجعت ذلك إلى تساقط بعض العظام وعدم تعرضها لنار كافية أثناء عملية الحرق. أمر أخر يدعم فرضية سميث، في مدينة قرطاجة بأكملها كان نمو الأشجار نادرًا إن لم يكن غائبًا. (3)

إذا فندرة الأشجار جعلت عملية الحرق مكلفة جدا، فلم قد يلجأ الفينيقيون إلى حرق جثث أطفالهم المتوفين وتحمل كل هذه التكلفة بدل دفنهم بطريقة اعتيادية؟ لذلك وكما تفترض سميث فقد ضحى الفينيقيون بأطفالهم كنوع من الطقوس الدينية التي تقربهم من الآلهة.

آلة الزمن هي الحل

بالنسبة للفريقين فكلاهما على حق، ومع أن الإثنين اعتمدوا على تقنيات علمية دقيقة في تحليل العظام إلا ان نتائجهم أتت مختلفة والسبب في ذلك يعود للتفسير العلمي للفرضيات المطروحة، وهذا ما يميز العلوم الإنسانية بشكل عام عن غيرها، فالتفسير والتحليل فيها لا ينتهي. بعد البحث الذي نشر سنة 2011 عن سميث وفريقها والذي ناقض بحث شوارتز عاد الأخير في السنة التالية إلى نشر ورقة بحثية ليرد على نقد سميث لبحثه. (4) وبناءًا على خبرة شوارتز الطويلة في دراسة العظام يؤكد أن معظم العينات من التوفيت التي درساها كانت تعود لأجنة قد ماتوا قبل الولادة. كما أن شوارتز قد اعترض على بحث سميث واعتبر أن الأخيرة قد أخطأت في حساب انكماش العظام بسبب الحرق ومن هنا فقد أخطأت بتأريخ عمر العظام وبسبب هذا الخطأ توصلت لنتيجة أن التضحية بالأطفال كانت محتملة. إن قضية التضحية بأطفال قرطاجة لم تحسم بعد، بانتظار اكتشافات أثرية جديدة في المستقبل لتحل المشكلة، أو ربما إذا حصلنا على ألة زمن سنعرف الحقيقة.

المصادر

  1. Schwartz J, Houghton F, Macchiarelli R, Bondioli L. Skeletal Remains from Punic Carthage Do Not Support Systematic Sacrifice of Infants. PLoS ONE. 2010;5(2):e9177.
  2. Smith P, Avishai G, Greene J, Stager L. Aging cremated infants: the problem of sacrifice at the Tophet of Carthage. Antiquity. 2011;85(329):859-874.
  3. Zeist W, Veen M, DIET AND VEGETATION AT ANCIENT CARTHAGE THE ARCHAEOBOTANICAL EVIDENCE. Groningen Institute of Archaeology University of Groningen. 2001
  4. Schwartz J, Houghton F, Bondioli L, Macchiarelli R. Bones, teeth, and estimating the age of perinates: Carthaginian infant sacrifice revisited. here.
Exit mobile version